تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 76 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 76

075

قوله 195- "فاستجاب" الاستجابة بمعنى الإجابة، وقيل: الإجابة عامة، والاستجابة خاصة بإعطاء المسؤول، وهذا الفعل يتعدى بنفسه وباللام، يقال: استجابه، واستجاب له، والفاء للعطف، وقيل على مقدر: أي دعوا بهذه الأدعية فاستجاب لهم، وقيل على قوله: "ويتفكرون" وإنما ذكر سبحانه الاستجابة وما بعدها في جملة ما لهم من الأوصاف الحسنة لأنها منه، إذ من أجيبت دعوته فقد رفعت درجته. قوله "أني لا أضيع عمل عامل منكم" أي بأني، وقرأ عيسى بن عمرو بكسر الهمزة على تقدير القول، وقرأ أبي بثبوت الباء وهي للسببية: أي فاستجاب لهم ربهم بسبب أنه لا يضيع عمل عامل منهم. والمراد بالإضاعة ترك الإثابة. قوله "من ذكر أو أنثى" من بيانية ومؤكدة لما تقتضيه النكرة الواقعة في سياق النفي من العموم. قوله "بعضكم من بعض" أي: رجالكم مثل نسائكم في الطاعة ونساؤكم مثل رجالكم فيها، والجملة معترضة لبيان كون كل منهما من الآخر باعتبار تشعبهما من أصل واحد. قوله "فالذين هاجروا" الآية، هذه الجملة تتضمن تفصيل ما أجمل في قوله "أني لا أضيع عمل عامل" أي: فالذين هاجروا من أوطانهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأخرجوا من ديارهم" في طاعة الله عز وجل "وقاتلوا" أعداء الله "وقتلوا" في سبيل الله، وقرأ ابن كثير وابن عامر "وقتلوا" على التكثير وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي " وقاتلوا وقتلوا " وهو مثل قول الشاعر: تصابى وأمسى علاه الكبر أي: قد علاه الكبر، وأصل الواو المطلق الجمع بلا ترتيب كما قال به الجمهور. والمراد هنا: أنهم قاتلوا وقتل بعضهم، كما قال امرؤ القيس: فإن تقتلونا نقتلكمو وقرأ عمر بن عبد العزيز وقتلوا وقتلوا. ومعنى قوله "وأوذوا في سبيلي" أي بسببه والسبيل: الدين الحق والمراد هنا: ما نالهم من الأذية من المشركين بسبب إيمانهم بالله وعملهم بما شرعه الله لعباده. وقوله "لأكفرن" جواب قسم محذوف. وقوله "ثواباً من عند الله" مصدر مؤكد عند البصريين، لأن معنى قوله "لأدخلنهم جنات" لأثيبنهم ثواباً: أي إثابة أو تثويباً كائناً من عند الله. وقال الكسائي: إنه منتصب على الحال. وقال الفراء: على التفسير "والله عنده حسن الثواب" أي حسن الجزاء، وهو ما يرجع على العامل من جزاء عمله من ثاب يثوب: إذا رجع. وقد أخرج سعيد بن منصور وعبد الرزاق والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن أم سلمة قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله "فاستجاب لهم" إلى آخر الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال: ما من عبد يقول يا رب يا رب يا رب ثلاث مرات إلا نظر الله إليه فذكر للحسن فقال: أما تقرأ القرآن؟ "ربنا إننا سمعنا منادياً" إلى قوله "فاستجاب لهم ربهم". وأخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت: آخر آية نزلت هذه الآية "فاستجاب لهم ربهم" إلى آخرها. وقد ورد في فضل الهجرة أحاديث كثيرة.
قوله 196- "لا يغرنك" خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. والمراد تثبيته على ما هو عليه كقوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا آمنوا" وخطاب لكل أحد، وهذه الآية متضمنة لقبح حال الكفار بعد ذكر حسن حال المؤمنين، والمعنى: لا يغرنك ما هم فيه من تقلبهم في البلاد بالأسفار للتجارة التي يتوسعون بها في معاشهم.
فهو متاع قليل يتمتعون به في هذه الدار ثم مصيرهم إلى جهنم، فقوله 197- "متاع" خبر مبتدأ محذوف: أي هو متاع قليل لا اعتداد به بالنسبة إلى ثواب الله سبحانه "ومأواهم" أي: ما يأوون إليه. والتقلب في البلاد: الاضطراب في الأسفار إلى الأمكنة، ومثله قوله تعالى "فلا يغررك تقلبهم في البلاد" والمتاع ما يعجل الانتفاع به، وسماه قليلاً لانه فان، وكل فان وإن كان كثيراً فهو قليل. وقوله "وبئس المصير" ما مهدوا لأنفسهم في جهنم بكفرهم، أو ما مهد الله لهم من النار، فالمخصوص بالذم محذوف: وهو هذا المقدر.
قوله 198- "لكن الذين اتقوا ربهم" هو استدراك مما تقدمه، لأن معناه معنى النفي كأنه قال: ليس لهم في تقلبهم في البلاد كثير انتفاع "لكن الذين اتقوا" لهم الانتفاع الكثير والخلد الدائم. وقرأ يزيد بن القعقاع لكن بتشديد النون. قوله "نزلاً" مصدر مؤكد عند البصريين كما تقدم في ثواباً وعند الكسائي والفراء مثل ما قالا في ثوابا، والنزل ما يهيأ للنزيل، والجمع أنزال، قال الهروي "نزلاً من عند الله" أي: ثواباً من عند الله "وما عند الله" مما أعده لمن أطاعه "خير للأبرار" مما يحصل للكفار من الربح في الأسفار فإنه متاع قليل عن قريب يزول.
قوله 199- "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله" هذه الجملة سيقت لبيان أن بعض أهل الكتاب لهم حظ من الدين، وليسوا كسائرهم في فضائحم التي حكاها الله عنهم فيما سبق وفيما سيأتي، فإن هذا البعض يجمعون بين الإيمان بالله وبما أنزل الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزله على أنبيائهم حال كونهم "خاشعين لله لا يشترون" أي: يستبدون "بآيات الله ثمناً قليلاً" بالتحريف والتبديل كما يفعله سائرهم بل يحكون كتب الله سبحانه كما هي، والإشارة بقوله "أولئك" إلى هذه الطائفة الصالحة من أهل الكتاب من حيث اتصافهم بهذه الصفات الحميدة "لهم أجرهم" الذي وعد الله سبحانه به بقوله "أولئك يؤتون أجرهم مرتين" وتقديم الخبر يفيد اختصاص ذلك الأجر بهم. وقوله "عند ربهم" في محل نصب على الحال.
قوله 200- "يا أيها الذين آمنوا اصبروا" إلخ. هذه الآية العاشرة من قوله سبحانه "إن في خلق السموات" ختم بها هذه السورة لما اشتملت عليه من الوصايا التي جمعت خير الدنيا والآخرة، فحض على الصبر على الطاعات والشهوات، والصبر: الحبس، وقد تقدم تحقيق معناه. والمصابرة مصابرة الأعداء، قاله الجمهور: أي غالبوهم في الصبر على الشدائد الحرب، وخص المصابرة بالذكر بعد أن ذكر الصبر لكونها أشد منه وأشق. وقيل: المعنى صابروا على الصلوات، وقيل: صابروا الأنفس عن شهواتها، وقيل: صابروا الوعد الذي وعدتم ولا تيأسوا، والقول الأول هو المعنى العربي، ومنه قول عنترة: فلم أر حياً صابروا مثل صبرنا ولا كافحوا مثل الذين نكافح أي: صابروا العدو في الحرب. قوله "ورابطوا" أي: أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها كما يربطها أعداؤكم وهذا قول جمهور المفسرين. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، وسيأتي ذكر من خرج عنه هذا، والرباط اللغوي هو الأول، ولا ينافيه تسميته صلى الله عليه وسلم لغيره رباطاً كما سيأتي. ويمكن إطلاق الرباط على المعنى الأول، وعلى انتظار الصلاة. قال الخليل: الرباط ملازمة الثغور ومواظبة الصلاة هكذا قال، وهو من أئمة اللغة. وحكى ابن فارس عن الشيباني أنه قال: يقال: ماء مترابط دائم لا يبرح، وهو يقتضي تعدية الرباط إلى غير ارتباط الخيل في الثغور. قوله "واتقوا الله" فلا تخالفوا ما شرعه لكم "لعلكم تفلحون" أي: تكونون من جملة الفائزين بكل مطلوب، وهم المفلحون. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله "لا يغرنك تقلب الذين كفروا" تقلب ليلهم ونهارهم وما يجري عليهم من النعم، قال عكرمة: قال ابن عباس وبئس المهاد: أي بئس المنزل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله "تقلبهم في البلاد" قال: ضربهم في البلاد. وأخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب المفرد وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله "وما عند الله خير للأبرار" قال: إنما سماهم الله أبراراً لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حقاً. وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً، والأول أصح قاله السيوطي. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد "خير للأبرار" لمن يطيع الله. وأخرج النسائي والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس قال: لما مات النجاشي قال صلى الله عليه وسلم: صلوا عليه قالوا: يا رسول الله نصلي على عبد حبشي؟ فأنزل الله "وإن من أهل الكتاب" الآية. وأخرج ابن جرير عن جابر مرفوعاً أن المنافقين قالوا: انظروا إلى هذا يعني النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على علج نصراني، فنزلت. وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في النجاشي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: هم مسلمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد والذين اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن المبارك وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ما قدمنا ذكره. وأخرج ابن مردويه عنه عن أبي هريرة قال: أما إنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلوات في مواقيتها ثم يذكرون الله فيها. وقد ثبت في الصحيح وغيره من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: اصبروا على دينكم وصابروا، الوعد الذي وعدتكم ورابطوا عدوي وعدوكم. وقد روي من تفاسير السلف غير هذا في سر الصبر على نوع من أنواع الطاعات والمصابرة على نوع آخر، ولا تقوم بذلك حجة، فالواجب الرجوع إلى المدلول اللغوي وقد قدمناه. وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الرباط وفيها التصريح بأنه الرباط في سبيل الله، وهو يرد ما قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ندب إلى الرباط في سبيل الله وهو الجهاد فيحمل ما في الآية عليه، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه سمي حراسة جيش المسلمين رباطاً، فأخرج الطبراني في الأوسط بسند جيد عن أنس قال:" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر المرابط فقال: من رابط ليلة حارساً من وراء المسلمين كان له أجر من خلفه ممن صام وصلى". وقد ورد في فضل هذه العشر الآيات التي في آخر هذه السورة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجه ابن السني وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة". وفي إسناده مظاهر بن أسلم، وهو ضعيف. وقد تقدم من حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه العشر الآيات لما استيقظ. وكذلك تقدم في غير الصحيحين من رواية صفوان بن المعطل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج الدارمي عن عثمان بن عفان قال: "من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة".