تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 97 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 97

97 : تفسير الصفحة رقم 97 من القرآن الكريم

** لاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً * وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَىَ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّىَ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً
يقول تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم} يعني كلام الناس {إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} أي إلا نجوى من قال ذلك, كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم, حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث, حدثنا محمد بن يزيد بن حنيس, قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده, فدخل علينا سعيد بن حسان المخزومي , فقال له سفيان الثوري: الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح, ردّده علي, فقال: حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله عز وجل, أو أمر بمعروف, أو نهي عن منكر» فقال سفيان: أو ما سمعت الله في كتابه يقول: {لاخير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} ؟ فهو هذا بعينه, أو ما سمعت الله يقول: {يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواب} فهو هذا بعينه, أو ما سمعت الله يقول في كتابه: {والعصر إن الإنسان لفي خسر} الخ ؟ فهو هذا بعينه, وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خُنَيس عن سعيد بن حسان به, ولم يذكر أقوال الثوري إلى آخرها, ثم قال الترمذي: حديث غريب, لا يعرف إلا من حديث ابن خُنَيس.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب, حدثنا أبي, حدثنا صالح بن كيسان, حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً, أو يقول خيراً», وقالت لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب والإصلاح بين الناس, وحديث الرجل امرأته, وحديث المرأة زوجها, قال: وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد رواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن الزهري به نحوه. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش, عن عمرو بن مُرة, عن سالم بن أبي الجعد, عن أم الدرداء, عن أبي الدرداء, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام, والصلاة, والصدقة ؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إصلاح ذات البين», قال: «وفساد ذات البين هي الحالقة». ورواه أبو داود والترمذي من حديث أبي معاوية, وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عبد الرحيم, حدثنا سريج بن يونس, حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر حدثنا أبي عن حميد, عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب «ألا أدلك على تجارة ؟» قال: بلى يا رسول الله. قال «تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا, وتقارب بينهم إذا تباعدوا» ثم قال البزار وعبد الرحمن بن عبد الله العمري: لين, وقد حدث بأحاديث لم يتابع عليها, ولهذا قال: {ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله} أي مخلصاً في ذلك محتسباً ثواب ذلك عند الله عز وجل, {فسوف نؤتيه أجراً عظيم} أي ثواباً جزيلاً كثيراً واسعاً.) وقوله: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى} أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم, فصار في شق, والشرع في شق, وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح له.
وقوله: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} هذا ملازم للصفة الأولى, ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع, وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقاً, فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفاً لهم وتعظيماً لنبيهم, وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك, قد ذكرنا منها طرفاً صالحاً في كتاب أحاديث الأصول, ومن العلماء من ادعى تواتر معناها, والذي عول عليه الشافعي رحمه الله في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الاَية الكريمة بعد التروي والفكر الطويل, وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها, وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك, ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله: {نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصير} أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجاً له, كما قال تعالى: {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}, وقال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}, وقوله: {ونذرهم في طغيانهم يعمهون} وجعل النار مصيره في الاَخرة, لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة, كما قال تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} الاَية, وقال تعالى: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرف}.

** إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً * إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطَاناً مّرِيداً * لّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لأتّخِذَنّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مّفْرُوضاً * وَلاُضِلّنّهُمْ وَلاُمَنّيَنّهُمْ وَلأمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلأَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتّخِذِ الشّيْطَانَ وَلِيّاً مّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مّبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً * أُوْلَـَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً * وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً
قد تقدم الكلام على هذه الاَية الكريمة, وهي قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك} الاَية, وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة, وقد روى الترمذي: حديث ثوير بن أبي فاختة سعيد بن علاقة عن أبيه, عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الاَية {إن الله لا يغفر أن يشرك به} الاَية, ثم قال: هذا حسن غريب. وقوله: {ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيد} أي فقد سلك غير الطريق الحق, وضل عن الهدى وبعد عن الصواب, وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والاَخرة, وفاتته سعادة الدنيا والاَخرة.
وقوله: {إن يدعون من دونه إلا إناث} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمود بن غيلان, أنبأنا الفضل بن موسى, أخبرنا الحسن بن واقد عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية, عن أبي بن كعب قال: مع كل صنم جنية, وحدثنا أبي, حدثنا محمد بن سلمة الباهلي عن عبد العزيز بن محمد, عن هشام يعني ابن عروة, عن أبيه, عن عائشة {إن يدعون من دونه إلا إناث} قالت: أوثاناً. وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير ومجاهد وأبي مالك والسدي ومقاتل بن حيان, نحو ذلك. وقال جويبر عن الضحاك في الاَية, قال المشركون إن الملائكة بنات الله, وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى, قال: فاتخذوهن أرباباً, وصوروهن جواري فحكموا وقلدوا, وقالوا: هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده, يعنون الملائكة, وهذا التفسير شبيه بقول الله تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى} الاَيات, وقال تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناث} الاَية, وقال: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسب} الاَيتين وقال علي بن أبي طلحة والضحاك عن ابن عباس {إن يدعون من دونه إلا إناث} قال: يعني موتى. وقال مبارك, يعني ابن فضالة, عن الحسن: إن يدعون من دونه إلا إناثاً. قال الحسن: الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح, إما خشبة يابسة وإما حجر يابس. ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وهو غريب.
وقوله: {وإن يدعون إلا شيطاناً مريد} أي هو الذي أمرهم بذلك وحسنه وزينه لهم, وهم إنما يعبدون إبليس في نفس الأمر, كما قال تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان} الاَية. وقال تعالى إخباراً عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركين الذين ادعوا عبادتهم في الدنيا {بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون}.
وقوله: {لعنه الله} أي طرده وأبعده من رحمته, وأخرجه من جواره, وقال: {لأتخذن من عبادك نصيباً مفروض} أي معيناً مقدراً معلوماً. قال مقاتل بن حيان: من كل ألف, تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار, وواحد إلى الجنة, {ولأضلنهم} أي عن الحق, {ولأمنينهم} أي أزين لهم ترك التوبة, وأعدهم الأماني, وآمرهم بالتسويف والتأخير, وأغرهم من أنفسهم, وقوله: {ولاَمرنهم فليبتكن آذان الأنعام}. قال قتادة والسدي وغيرهما: يعني تشقيقها وجعلها سمة وعلامة للبحيرة والسائبة والوصيلة, {ولاَمرنهم فليغيرن خلق الله}, قال ابن عباس: يعني بذلك خصي الدواب, وقد روي عن ابن عمر وأنس وسعيد بن المسيب وعكرمة وأبي عياض وقتادة وأبي صالح والثوري, وقد ورد في حديث النهي عن ذلك, وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: يعني بذلك الوشم, وفي صحيح مسلم, النهي عن الوشم في الوجه, وفي لفظ: لعن الله من فعل ذلك, وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات, والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل, ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل, يعني قوله: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهو}. وقال ابن عباس في رواية عنه ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والحكم والسدي والضحاك وعطاء الخراساني في قوله: {ولاَمرنهم فليغيرن خلق الله} يعني دين الله عز وجل, هذا كقوله: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} على قول من جعل ذلك أمراً, أي لا تبدلوا فطرة الله ودعوا الناس على فطرتهم, كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه, أو ينصرانه, أو يمجسانه, كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء» وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء, فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم, وحرمت عليهم ما أحللت لهم».
ثم قال تعالى: {ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبين} أي فقد خسر الدنيا والاَخرة, وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك لفائتها. وقوله تعالى: {يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرور} وهذا إخبار عن الواقع, فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدينا والاَخرة, وقد كذب وافترى في ذلك, ولهذا قال الله تعالى: {وما يعدهم الشيطان إلا غرور}, كما قال تعالى مخبراً عن إبليس يوم المعاد {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان ـ إلى قوله ـ وإن الظالمين لهم عذاب أليم}.
وقوله: {أولئك} أي المستحسنون له فيما وعدهم ومناهم {مأواهم جهنم} أي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة {ولا يجدون عنها محيص} أي ليس لهم عنها مندوحة ولا مصرف, ولا خلاص, ولا مناص, ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء ومالهم في مآلهم من الكرامة التامة, فقال تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصاحات} أي صدقت قلوبهم وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات, وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات {سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار} أي يصرفونها حيث شاؤوا وأين شاؤوا {خالدين فيها أبد} أي بلا زوال ولا انتقال {وعد الله حق} أي هذا وعد من الله, ووعد الله معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة, ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر, وهو قوله حقاً, ثم قال تعالى: {ومن أصدق من الله قيل} أي لا أحد أصدق منه قولاً, أي خبراً لا إله هو ولا رب سواه, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: «إن أصدق الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار».