تفسير الطبري تفسير الصفحة 97 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 97
098
096
 الآية : 114
القول في تأويل قوله تعالى: {لاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ}: لا خير في كثير من نجوى الناس جميعا. {إلاّ مَنْ أمَرَ بصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ} والمعروف: هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البرّ والخير. {أوْ إصْلاحٍ بينَ النّاسِ} وهو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين بما أباح الله الإصلاح بينهما ليتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة على ما أذن الله وأمر به. ثم أخبر جلّ ثناؤه بما وعد من فعل ذلك, فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيم} يقول: ومن يأمر بصدقة أو معروف من الأمر, أو يصلح بين الناس ابتغاء مرضاة الله, يعني طلب رضا الله بفعله ذلك¹ {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيم} يقول: فسوف نعطيه جزاء لما فعل من ذلك عظيما, ولا حدّ لمبلغ ما سمى الله عظيما يعلمه سواه.
واختلف أهل العربية في معنى قوله: {لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاّ مَنْ أمَرَ بِصَدَقَةٍ} فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: لا خير في كثير من نجواهم إلا في نجوى من أمر بصدقة. كأنه عطف «من» على الهاء والميم التي في «نجواهم». وذلك خطأ عند أهل العربية لأن إلا لا تعطف على الهاء والميم في مثل هذا الموضع من أجل أنه لم ينله الجحد. وقال بعض نحويي الكوفة: قد تكون «مَن» في موضع خفض ونصب¹ وأما الخفض فعل قولك: {لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} إلا فيمن أمر بصدقة, فتكون النجوى على هذا التأويل هم الرجال المناجون, كما قال جلّ ثناؤه: {ما يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} وكما قال: {وَإذْ هُمْ نَجْوَى}. وأما النصب, فعلى أن تجعل النجوى فعلاً فيكون نصبا, لأنه حينئذ يكون استثناء منقطعا, لأنه من خلاف النجوى, فيكون ذلك نظير قول الشاعر:
................ وَما بالرّبْعِ مِنْ أحَدِ
إلاّ أُوَارِيّ لاَءْيا مَا أُبَيّنُها..........
وقد يحتمل «من» على هذا التأويل أن يكون رفعا, كما قال الشاعر:
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِها أنِيسُإلاّ اليَعافِيرُ وَإلاّ العِيسُ
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك, أن تجعل «من» في موضع خفض بالردّ على النجوى, وتكون النجوى بمعنى جمع المتناجين, خرج مخرج السكرى والجرحى والمرضى, وذلك أن ذلك أظهر معانيه, فيكون تأويل الكلام: لا خير في كثير من المتناجين يا محمد من الناس, إلا فيمن أمر بصدقة أو معروف, أو إصلاح بين الناس, فإن أولئك فيهم الخير.
الآية : 115
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَىَ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّىَ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ}: ومن يباين الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم معاديا له, فيفارقه على العداوة له¹ {مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى} يعني: من بعد ما تبين له أن رسول الله, وأن ما جاء به من عند الله يهدى إلى الحقّ, وإلى طريق مستقيم. {وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ} يقول: ويتبع طريقا غير طريق أهل التصديق, ويسلك منهاجا غير منهاجهم, وذلك هو الكفر بالله, لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم. {نُوَلّهِ ما تَوَلىّ} يقول: نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الأوثان والأصنام, وهي لا تغنيه ولا تدفع عنه من عذاب الله شيئا ولا تنفعه. كما:
8324ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {نُوَلّهِ ما تَوَلى} قال: من آلهة الباطل.
حدثني ابن المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. {وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ} يقوله: ونجعله صِلأ نار جهنم, يعني نحرقه بها, وقد بينا معنى الصّلَى فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. {وَساءَتْ مَصير} يقول: وساءت جهنم مصيرا: موضعا يصير إليه من صار إليه. ونزلت هذه الاَية في الخائنين الذين ذكرهم الله في قوله: {وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيم} لما أبى التوبة من أبى منهم, وهو طعمة بن الأبيرق, ولحق بالمشركين من عبدة الأوثان بمكة مرتدّا مفارقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه.
الآية : 116
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: إن الله لا يغفر لطعمة إذ أشرك ومات على شركه بالله ولا لغيره من خلقه بشركهم وكفرهم به¹ {وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} يقول: ويغفر ما دون الشرك بالله من الذنوب لمن يشاء, يعني بذلك جلّ ثناؤه: أن طعمة لولا أنه أشرك بالله ومات على شركه لكان في مشيئة الله على ما سلف من خيانته ومعصيته, وكان إلى الله أمره في عذابه والعفو عنه. وكذلك حكم كل من اجترم جرما, فإلى الله أمره, إلا أن يكون جرمه شركا بالله وكفرا, فإنه ممن حتم عليه أنه من أهل النار إذا مات على شركه, فإذا مات على شركه, فقد حرّم الله عليه الجنة, ومأواه النار.
وقال السديّ في ذلك بما:
8325ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {أنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشَرَكَ بِه وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لَمِنْ يَشاءُ} يقول: من يجتنب الكبائر من المسلمين.
وأما قوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ باللّهِ فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً بَعِيد} فإنه يعني: ومن يجعل لله في عبادته شريكا, فقد ذهب عن طريق الحقّ, وزال عن قصد السبيل ذهابا بعيدا وزوالاً شديدا. وذلك أنه باشراكه بالله في عبادته, فقد أطاع الشيطان وسلك طريقه وترك طاعة الله ومنهاج دينه, فذاك هو الضلال البعيد والخسران المبين.
الآية : 117
القول في تأويل قوله تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطَاناً مّرِيداً }..
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: إن يدعون من دونه إلا اللات والعزّى ومناة, فسماهنّ الله إناثا بتسمية المشركين إياهنّ بتسمية الإناث. ذكر من قال ذلك:
8326ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا حصين, عن أبي مالك في قوله: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناث} قال: اللات والعزّى ومناة, كلها مؤنث.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: حدثنا هشيم, عن حصين, عن أبي مالك بنحوه, إلا أنه قال: كلهنّ مؤنث.
8327ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط عن السديّ: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناث} يقول: يسمونهم إناثا: لات, ومناة, وعُزّى.
8328ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناث} قال: آلهتهم: اللات, والعُزّى, ويِساف, ونائلة, هم إناث يدعونهم من دون الله. وقرأ: {وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيد}.
وقال آُخرون: معنى ذلك: إن يدعون من دونه إلا مواتا لا روح فيه. ذكر من قال ذلك:
8329ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناث} يقول: مَيْتا.
8330ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناث}: أي إلا مَيْتا لا روح فيه.
8331ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج, قال: حدثنا مبارك بن فضالة, عن الحسن: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناث} قال: والإناث: كل شيء ميت ليس فيه روح خشبة يابسة, أو حجر يابس, قال الله تعالى: {وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيد}... إلى قوله: {فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ}.
وقال آخرون: عنى بذلك أن المشركين كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله. ذكر من قال ذلك:
8332ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناث} قال: الملائكة يزعمون أنهم بنات الله.
وقال آخرون: معنى ذلك: إن أهل الأوثان كانوا يسمون أوثانهم إناثا, فأنزل الله ذلك كذلك. ذكر من قال ذلك:
8333ـ حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن نوح بن قيس, عن أبي رجاء, عن الحسن قال: كان لكلّ حيّ من أحياء العرب صنم يسمونها أنثى بني فلان, فأنزل الله: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناث}.
حدثني المثنى, قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم, قال: حدثنا نوح بن قيس, قال: حدثنا محمد بن سيف أبو رجاء الحِدّاني, قال: سمعت الحسن يقول: كان لكل حيّ من العرب, فذكر نحوه.
وقال آخرون: الإناث في هذا الموضع: الأوثان. ذكر من قال ذلك:
8334ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهاد في قوله: {إناث} قال: أوثانا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
8335ـ حدثنا سفيان, قال: حدثنا أبو أسامة, عن هشام بن عروة, عن أبيه, قال: كان في مصحف عائشة: «إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا».
قال أبو جعفر: رُوي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: «أن يدعون من دونه إلا أُثُنا», بمعنى جمع وثن, فكأنه جمع وَثَنَا وُثُنا, ثم قلب الواو همزة مضمومة, كما قيل: ما أحسن هذه الأجوه, بمعنى الوجوه, وكما قيل: {وَإذَا الرّسُلُ أُقّتَتْ} بمعنى: وُقّتت. وذكر عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك: «إن يدعون من دونه إلا أُنُثا», كأنه أراد جمع الإناث, فجمعها أُنُثا, كما تُجمع الثمار ثُمُرا. والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها قراءة من قرأ: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناث} بمعنى جمع أنثى, لأنها كذلك في مصاحف المسلمين, ولإجماع الحجة على قراءة ذلك كذلك.
وأولى التأويلات التي ذكرت بتأويل ذلك إذ كان الصواب عندنا من القراءة ما وصفت, تأويل من قال: عنى بذلك الاَلهة التي كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله, ويسمونها بالإناث من الأسماء كاللات والعزّى ونائلة ومناة, وما أشبه ذلك.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الاَية, لأن الأظهر من معاني الإناث في كلام العرب ما عرف بالتأنيث دون غيره. فإذ كان ذلك كذلك, فالواجب توجيه تأويله إلى الأشهر من معانيه, وإذ كان ذلك كذلك فتأويل الاَية: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى, ويتبع غير سبيل المؤمنين, نولّه ما تولّى ونصله جهنم وساءت مصيرا, إن يدعون من دونه إلا إناثا, يقول: ما يدعو الذين يشاقون الرسول ويتبعون غير سبيل المؤمنين شيئا من دون الله بعد الله وسواه, إلاّ إناثا, يعني: إلا ما سموه بأسماء الإناث كاللات والعزّى وما أشبه ذلك. يقول جلّ ثناؤه: فحسب هؤلاء الذين أشركوا بالله وعبدوا ما عبدوا من دونه من الأوثان والأنداد, حجة عليهم في ضلالتهم وكفرهم وذهابهم عن قصد السبيل, أنهم يعبدون إناثا ويدعونها آلهة وأربابا. والإناث من كلّ شيء أخّسه¹ فهم يقرّون للخسيس من الأشياء بالعبودية على علم منهم بخساسته, ويمتنعون من إخلاص العبودية للذي له ملك كل شيء وبيده الخلق والأمر.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيد}.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيد}: وما يدعو هؤلاء الذين يدعون هذه الأوثان الإناث من دون الله بدعائهم إياها إلا شيطانا مريدا, يعني متمرّدا على الله في خلافه فيما أمره به وفيما نهاه عنه. كما:
8336ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيد} قال: تمرّد على معاصي الله.
الآية : 118
القول في تأويل قوله تعالى: {لّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لأتّخِذَنّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مّفْرُوضاً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {لَعَنَهُ اللّهُ}: أخزاه وأقصاه وأبعده. ومعنى الكلام: وإن يدعون إلا شيطانا مريدا قد لعنه الله وأبعده من كل خير. وقال: {لاَءَتّخِذَنّ} يعني بذلك أن الشيطان المريد قال لربه إذ لعنه: {لأَتّخِذَنّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيبا مَفْرُوض} يعني بالمفروض: المعلوم¹ كما:
8337ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو نعيم, قال: حدثنا سفيان, عن جويبر, عن الضحاك: {نَصِيبا مَفْرُوض} قال: معلوما.
فإن قال قائل: وكيف يتخذ الشيطان من عباد الله نصيبا مفروضا؟ قيل: يتخذ منهم ذلك النصيب باغوائه إياهم عن قصد السبيل, ودعائه إياهم إلى طاعته, وتزيينه لهم الضلال والكفر, حتى يزيلهم عن منهج الطريق¹ فمن أجاب دعاءه واتبع ما زينه له, فهو من نصيبه المعلوم وحظه المقسوم. وإنما أخبر جلّ ثناؤه في هذه الاَية بما أخبر به عن الشيطان من قيله: {لاَءَتّخِذَنّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيبا مَفْرُوض} ليعلم الذين شاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى أنهم من نصيب الشيطان الذي لعنه الله المفروض, وأنه ممن صدق عليهم ظنه. وقد دللنا على معنى اللعنة فيما مضى, فكرهنا إعادته.
الآية : 119-120
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاُضِلّنّهُمْ وَلاُمَنّيَنّهُمْ وَلأمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلأَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتّخِذِ الشّيْطَانَ وَلِيّاً مّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مّبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً }..
يعني بقوله جلّ ثناؤه مخبرا عن قيل الشيطان المَريد, الذي وصف صفته في هذه الاَية: ولأضلهم ولأصدنّ النصيب المفروض الذي أتخذه من عبادك عن محجة الهدى إلى الضلال, ومن الإسلام إلى الكفر. {ولأُمَنّيَنّهُمْ} يقول: لأزيغنهم بما أجعل في نفوسهم من الأماني عن طاعتك وتوحيدك إلى طاعتي, والشرك بك. {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ} يقول: ولاَمرنّ النصيب المفروض لي من عبادك بعبادة غيرك من الأوثان والأنداد, حتى يَنْسُكوا له, ويحّرموا, ويحللوا له, ويشرعوا غير الذي شرعته لهم فيتبعوني ويخالفونك. والبَتْك: القطع, وهو في هذا الموضع: قطع أذن البَحِيرة ليعلم أنها بحيرة. وإنما أراد بذلك الخبيث أنه يدعوهم إلى البَحيرة فيستجيبون له ويعملون بها طاعة له.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
8338ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: {فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ} قال: البَتْك في البَحيرة والسائبة, كانوا يُبَتّكون آذانها لطواغيتهم.
8339ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: {ولاَمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ} أما يبتكنّ آذان الأنعام: فيشقونها فيجعلونها بحيرة.
8340ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرني القاسم بن أبي بزّة, عن عكرمة: {فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ} قال: دين شرعه لهم إبليس كهيئة البحائر والسوائب.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ}.
اختلف أهل التأويل في معنى قوله: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} فقال بعضهم: معنى ذلك: ولاَمرنهم فليغيرنّ خلق الله من البهائم باخصائهم إياها. ذكر من قال ذلك:
8341ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن عمار بن أبي عمار, عن ابن عباس, أنه كره الإخصاء, وقال: فيه نزلت {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ}.
8342ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الله بن داود, قال: حدثنا أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أنس, أنه كره الإخصاء, وقال: فيه نزلت {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ}.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس, عن أنس بن مالك, قال: هو الإخصاء, يعني قول الله: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ}.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن فضيل, عن مطرف, قال: ثني رجل, عن ابن عباس, قال: إخصاء البهائم مُثْلَهةٌ, ثم قرأ: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ}.
8343ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, قال: من تغيير خلق الله الإخصاء.
8344ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا جعفر بن سليمان, قال: أخبرني شبل, أنه سمع شهر بن حوشب قرأ هذه الاَية: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: الخِصَاء, قال: فأمرت أبا التياح, فسأل الحسن عن خصاء الغنم, فقال: لا بأس به.
8345ـ حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: حدثنا عمي وهب بن نافع, عن القاسم بن أبي بزّة, قال: أمرني مجاهد أن أسأل عكرمة عن قوله: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} فسألته, فقال: هو الخصاء.
8346ـ حدثنا ابن وكيع, قال: ثني أبي, عن عبد الجبار بن ورد, عن القاسم بن أبي بزة, قال: قال لي مجاهد: سهل عنها عكرمة: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} فسألته, فقال: الإخصاء. قال مجاهد: ماله لعنه الله! فوالله لقد علم أنه غير الإخصاء. ثم قال: سله! فسألته, فقال عكرمة: ألم تسمع إلى قول الله تبارك وتعالى: {فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ}؟ قال: لدين الله. فحدثت به مجاهدا فقال: ما له أخزاه الله!
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حفص, عن ليث, قال: قال عكرمة:{فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: الإخصاء.
حدثني المثنى, قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم, قال: حدثنا هارون النحوي, قال: حدثنا مطر الورّاق, قال: سئل عكرمة, عن قوله: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: هو الإخصاء.
8347ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيـى بن يمان, عن سفيان, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح, قال: الإخصاء.
حدثنا عمرو بن عليّ, قال: حدثنا وكيع, قال: حدثنا أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, قال: سمعت أنس بن مالك يقول في قوله: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: منه الخصاء.
حدثنا عمرو, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن قتادة, عن عكرمة, عن ابن عباس مثله.
حدثنا ابن سلمة, عن عمار بن أبي عمار, عن ابن عباس, بمثله.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا معاذ بن هشام, قال: ثني أبي, عن قتادة, عن عكرمة أنه كره الإخصاء, قال: وفيه نزلت: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ}.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولاَمرنهم فليغيرنّ دين الله. ذكر من قال ذلك:
8348ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: دين الله.
8349ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن وأبو أحمد, قالا: حدثنا سفيان, عن قيس بن مسلم, عن إبراهيم: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: دين الله.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيـى بن سعيد, قال: حدثنا سفيان, قال: ثني قيس بن مسلم, عن إبراهيم مثله.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو نعيم, عن سفيان, عن قيس بن مسلم, عن إبراهيم, مثله.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم, مثله.
8350ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: حدثنا عمي, عن القاسم بن أبي بزة, قال: أخبرت مجاهدا بقوله عكرمة في قوله: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: دين الله.
8351ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم, قال: حدثنا هارون النحوي, قال: حدثنا الوراق, قال: ذكرت لمجاهد قول عكرمة في قوله: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ}, فقال: كذب العبد {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: دين الله.
8352ـ حدثنا ابن وكيع وعمرو بن عليّ, قالا: حدثنا أبو معاوية, عن ابن جريج, عن القاسم بن أبي بَزّة, عن مجاهد وعكرمة, قالا: دين الله.
8353ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا المحاربي وحفص, عن ليث, عن مجاهد, قال: دين الله, ثم قرأ: {ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ}.
حدثنا محمد بن عمرو وعمرو بن عليّ, قالا: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: الفطرة دين الله.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: الفطرة: الدين.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير, أنه سمع مجاهدا يقول: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: دين الله.
8354ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} أي دين الله, في قول الحسن وقتادة.
حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: دين الله.
8355ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الملك, عن عثمان بن الأسود, عن القاسم ابن بَزة في قوله: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: دين الله.
8356ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: أما خلق الله: فدين الله.
8357ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سلمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: دين الله, وهو قول الله: {فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ} يقول: لدين الله.
8358ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: دين الله, وقرأ: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ} قال: لدين الله.
حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا يحيـى بن سعيد, قال: حدثنا سفيان, قال: حدثنا قيس بن مسلم, عن إبراهيم: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: دين الله.
حدثنا عمرو بن عليّ, قال: حدثنا معاذ, قال: حدثنا عمران بن حُدَير, عن عيسى بن هلال, قال: كتب كثير مولى ابن سمرة إلى الضحاك بن مزاحم يسأله عن قوله: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} فكتب: إنه دين الله.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولاَمرنهم فليغيرُنّ خلق الله بالوشْم. ذكر من قال ذلك:
8359ـ حدثنا عمرو بن عليّ, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن يونس, عن الحسن في قوله: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: الوشم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يزيد بن نوح, عن قيس, عن خالد بن قيس, عن الحسن: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: الوشم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني هشيم, قال: أخبرنا يونس بن عبيد أو غيره, عن الحسن: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} قال: الوشم.
8360ـ حدثنا أحمد بن حازم, قال: حدثنا أبو نعيم, قال: حدثنا أبو هلال الراسبيّ, قال: سأل رجل الحسن: ما تقول في امرأة قشرت وجهها؟ قال: ما لها لعنها الله! غَيّرت خلق الله.
8361ـ حدثني أبو السائب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن إبراهيم, قال: قال عبد الله: لعن الله المتفلّجات والمتنمّصات والمستوشمات المغيّرات خلق الله.
حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله, قال: لعن الله الواشرات والمستوشمات والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن المغيّرات خلق الله.
حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن منصور, عن إبراهيم, عن علقمة عن عبد الله, قال: لعن الله المتنمّصات والمتفلّجات ـ قال شعبة: وأحسبه قال : المغيرات خلق الله.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: معناه: ولاَمرنهم فليغيرنّ خلق الله, قال: دين الله, وذلك لدلالة الاَية الأخرى على أن ذلك معناه, وهي قوله: {فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ}. وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ما لا يجوز خصاؤه, ووشم ما نهى عن وشمه ووَشْره, وغير ذلك من المعاصي, ودخل فيه ترك كلّ ما أمر الله به, لأن الشيطان لا شكّ أنه يدعو إلى جميع معاصي الله, وينهى عن جميع طاعته, فذلك معنى أمره نصيبه المفروض من عباد الله بتغيير ما خلق الله من دينه¹ ولا معنى لتوجيه من وجه قوله: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} إلى أنه وعد الأمر بتغيير بعض ما نهى الله عنه دون بعض, أو بعض ما أمر به دون بعض. فإذ كان الذي وجه معنى ذلك إلى الخصاء والوشم دون غيره, إنما فعل ذلك لأن معناه: كان عنده أنه عنى به تغيير الأجسام, فإنّ في قوله جلّ ثناؤه إخبارا عن قِيل الشيطان: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} ما ينبىء أن معنى ذلك غير غير ما ذهب إليه, لأن تَبْتيك آذان الأنعام من تغيير خلق الله, الذي هو أجسام. وقد مضى الخبر عنه أنه وعد الأمر بتغيير خلق الله من الأجسام مفسرا, فلا وجه لإعادة الخبر عنه به مجملاً, إذ كان الفصيح في كلام العرب أن يترجم عن المجمل من الكلام بالمفسر وبالخاصّ عن العامّ دون الترجمة عن المفسر بالمجمل, وبالعامّ عن الخاص, وتوجيه كتاب الله إلى الأفصح من الكلام وأولى من توجيه إلى غيره ما وجد إليه السبيل.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتّخِذِ الشّيْطانَ وَلِيّا مِنْ دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانا مُبِينا يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشّيْطانُ إلاّ غُرُور}.
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن حال نصيب الشيطان المفروض من الذين شاقّوا الله ورسوله من بعد ما تبين لهم الهدى, يقول الله: ومن يتبع الشيطان فيطيعه في معصية الله, وخلاف أمره, ويواليه فيتخذه وليّا لنفسه ونصيرا دون الله, {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانا مُبِين} يقول: فقد هلك هلاكا, وَبخَس نفسه حظها فأوبقها بَخْسا مبينا يبين عن عطبه وهلاكه, لأن الشيطان لا يملك له نصرا من الله إذا عاقبه على معصيته إياه في خلافه أمَره, بل يخذله عند حاجته إليه. وإنما حاله معه ما دام حيّا ممهلاً بالعقوبة, كما وصفه الله جلّ ثناؤه بقوله: {يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ ومَا يَعِدُهُمُ الشّيْطانُ إلاّ غُرُور} يعني بذلك جلّ ثناؤه: يَعِد الشيطان المَريدُ أولياءه, الذين هم نصيبه المفروض أن يكون لهم نصيرا ممن أرادهم بسوء, وظهيرا لهم عليه, يمنعهم منه ويدافع عنهم, ويمينهم الظفر على من حاول مكروههم والفلج عليهم. ثم قال: {وَما يَعِدُهُمُ الشّيْطانُ إلاّ غُرُور} يقول: وما يعد الشيطان أولياءه الذين أتخذوه وليا من دون الله إلا غرورا, يعني: إلا باطلاً. وإنما جعل عدّته إياهم جلّ ثناؤه ما وعدهم غرورا, لأنهم كانوا يحسبون أنهم في اتخاذهم إياه وليا على حقيقته من عدَاته الكاذبة وأمانيه الباطلة, حتى إذا حصحص الحقّ وصاروا إلى الحاجة إليه, قال لهم عدوّ الله: {إنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ وَوَعَدْتُكُمْ فأخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إلاّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فاسْتَجَبْتُمْ لي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أنْفُسَكمْ ما أنا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكُتُمُونِ مِنْ قَبْل}, وكما قال للمشركين ببدر, وقد زين لهم أعمالهم: {لا غالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النّاس وَإنّى جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَرَاءَتِ الفِئَتانِ} وحصحص الحق, وعاين حدّ الأمر, ونزول عذاب الله بحزبه {نَكَسَ عَلى عَقِبَيْهِ وقَالَ إنّى بَرِيءٌ مِنْكُمْ إنّى أرَى ما لا تَرَوْنَ إنّى أخافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ العِقابِ}, فصارت عداته عدوّ الله إياهم عند حاجتهم إليه غرورا {كَسَرَابٍ بِقِيَعةٍ يَحْسَبُهُ الظّمْآنُ مَاءً حَتّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا وَوَجَد اللّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ}.
الآية : 121
القول في تأويل قوله تعالى: {أُوْلَـَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {أُولَئِكَ}: هؤلاء الذين اتخذوا الشيطان وليا من دون الله, {مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ} يعني: مصيرهم الذي يصيرون إليه جهنم, {وَلا يَجِدُونَ عَنْها مْحيص} يقول: لا يجدون عن جهنم إذا صيرهم الله إليها يوم القيامة, معدلاً يعدلون إليه, يقال منه: حاص فلان عن هذا الأمر يَحِيص حَيْصا وحُيُوصا: إذا عدل عنه, ومنه خبر ابن عمر أنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيهم, فلقينا المشركين فحِصْنا حَيْصَةً¹ وقال بعضهم: فجاضوا جيضة, والحيص والجيض متقاربا المعنى