تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 97 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 97

096

115- "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى" المشاققة: المعاداة والمخالفة. وتبين الهدى ظهوره، بأن يعلم صحة الرسالة بالبراهين الدالة على ذلك ثم يفعل المشاققة "ويتبع غير سبيل المؤمنين" أي: غير طريقهم وهو ما هم عليه من دين الإسلام والتمسك بأحكامه "نوله ما تولى" أي: نجعله والياً لما توالاه من الضلال "ونصله جهنم" قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو "نوله" "ونصله" بسكون الهاء في الموضعين. وقرأ الباقون بكسرهما وهما لغتان، وقرئ ونصله بفتح النون من صلاة، وقد تقدم بيان ذلك. وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على حجية الإجماع لقوله "ويتبع غير سبيل المؤمنين" ولا حجة في ذلك عندي، لأن المراد بغير سبيل المؤمنين هنا هو الخروج من دين الإسلام إلى غيره كما يفيده اللفظ ويشهد به السبب، فلا تصدق على عالم من علماء هذه الملة الإسلامية اجتهد في بعض مسائل دين الإسلام فأداه اجتهاده إلى مخالفة من بعصره من المجتهدين، فإنه إنما رام السلوك في سبيل المؤمنين، وهو الدين القويم والملة الحنيفية ولم يتبع غير سبيلهم. وقد أخرج عبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو ذكراً لله عز وجل". قال سفيان الثوري هذا في كتاب الله "لا خير في كثير من نجواهم" الآية، وقوله "يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا"، وقوله " والعصر* إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ". وقد وردت أحاديث صحيحة في الصمت والتحذير من آفات اللسان والترغيب في حفظه، وفي الحث على الإصلاح بين الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله "ومن يفعل ذلك" تصدق أو أقرض أو أصلح بين الناس. وأخرج أبو نصر السجزي في الإبانة عن أنس قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أنزل علي القرآن يا أعرابي "لا خير في كثير من نجواهم" إلى قوله "فسوف نؤتيه أجراً عظيماً" يا أعرابي الأجر العظيم الجنة، قال الأعرابي: الحمد لله الذي هدانا للإسلام". وأخرج الترمذي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبداً، ويد الله على الجماعة، فمن شذ شذر في النار". وأخرجه الترمذي والبيهقي أيضاً عن ابن عباس مرفوعاً.
قوله 116- "إن الله لا يغفر أن يشرك به" قد تقدم تفسير هذه الآية وتكريرها بلفظها للتأكيد، وقيل: كررت هنا لأجل قصة بني أبيرق، وقيل: إنها نزلت هنا لسبب غير قصة بني أبيرق. وهو ما رواه الثعلبي والقرطبي في تفسيرهما على الضحاك: أن شيخاً من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلا أني لم أشرك بالله شيئاً مذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه ولياً ولم أوقع المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له، وإني لنادم وتائب ومستغفر فما حالي عند الله؟ فأنزل الله تعالى "إن الله لا يغفر أن يشرك به" الآية "ومن يشرك بالله فقد ضل" عن الحق "ضلالاً بعيداً" لأن الشرك أعظم أنواع الضلال وأبعدها من الصواب.
117- "إن يدعون من دونه إلا إناثاً" أي: ما يدعون من دون الله إلا أصناماً لها أسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة، وقيل: المراد بالإناث الموات التي لا روح لها كالخشبة والحجر، وقيل: المراد بالإناث الملائكة لقولهم: الملائكة بنات الله. وقرئ وثنا بضم الواو والثاء جمع وثن، روى هذه القراءة ابن الأنباري عن عائشة. وقرأ ابن عباس إلا أثنا جمع وثن أيضاً، وأصله وثن فأبدلت الواو همزة، وقرأ الحسن إلا أنثا بضم الهمزة والنون بعدها مثلثة، جمع أنيث كغدير وغدر. وحكى الطبري أنه جمع إناث كثمار وثمر. وحكى هذه القراءة أبو عمرو الداني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وقرأ بها ابن عباس والحسن وأبو حيوة. وعلى جميع هذه القراءات فهذا الكلام خارج مخرج التوبيخ للمشركين والإزراء عليهم والتضعيف لعقولهم، لكونهم عبدوا من دون الله نوعاً من ضعيفاً "وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً" أي: وما يدعون من دون الله إلا شيطاناً مريداً وهو إبليس لعنه الله، لأنهم إذا أطاعوه فيما سول لهم فقد عبدوه. وقد تقدم اشتقاق لفظ الشيطان. والمريد: المتمرد المعاتي، من مرد: إذا عتا. قال الأزهري: المريد الخارج عن الطاعة. وقد مرد الرجل مروداً: إذا عتا وخرج عن الطاعة، فهو مارد ومريد ومتمرد. وقال ابن عرفة: هو الذي ظهر شره، يقال شجرة مرداء: إذا تساقط ورقها وظهرت عيدانها، ومنه قيل للرجل أمرد: أي ظاهر مكان الشعر من عارضيه.
قوله 118- "لعنه الله" أصل اللعن الطرد والإبعاد. وقد تقدم، وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط. قوله: " وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا " معطوف على قوله "لعنه الله" والجملتان صفة لشيطان: أي شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله له وبين هذا القول الشنيع. والنصيب المفروض: هو المقطوع المقدر: أي لأجعلن قطعة مقدرة من عباد الله تحت غوايتي وفي جانب إضلالي حتى أخرجهم من عبادة الله إلى الكفر به.
قوله 119- "ولأضلنهم" اللام جواب قسم محذوف. والإضلال: الصرف عن طريق الهداية إلى طريق الغواية، وهكذا اللام في قوله: "ولأمنينهم ولآمرنهم" والمراد بالأماني التي يمنيهم بها الشيطان: هي الأماني الباطلة الناشئة عن تسويله ووسوسته. وقوله: "ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام" أي: ولآمرنهم بتبتك آذان الأنعام: أي تقطيعها فليبتكنها بموجب أمري. والبتك: القطع، ومنه سيف باتك، يقال: بتكه وبتكه مخففاً ومشدداً، ومنه قوله زهير: طارت وفي كفه من ريشها بتك أي: قطع. وقد فعل الكفار ذلك امتثالاً لأمر الشيطان واتباعاً لرسمه، فشقوا آذان البحائر والسوائب كما ذلك معروف. قوله "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله" أي: ولآمرنهم بتغيير خلق الله فليغيرنه بموجب أمري لهم. واختلف العلماء في هذا التغيير ما هو؟ فقالت طائفة: هو الخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان. وقال آخرون: إن المراد بهذا التغيير هو أن الله سبحانه خلق الشمس والقمر والأحجار والنار ونحوها من المخلوقات لما خلقها له، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، وبه قال الزجاج، وقيل: المراد بهذا التغيير تغيير الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور حملاً شمولياً أو بدلياً. وقد رخص طائفة من العلماء في خصاء البهائم إذا قصد بذلك زيادة الانتفاع به لسمن أو غيره، وكره ذلك آخرون، وأما خصاء بني آدم فحرام، وقد كره قوم شراء الخصي. قال القرطبي: ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز وأنه مثلة وتغيير لخلق الله وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود، قاله أبو عمر بن عبد البر "ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله" باتباعه وامتثال ما يأمر به من دون اتباع لما أمر الله به ولا امتثال له "فقد خسر خسراناً مبيناً" أي واضحاً ظاهراً.
120- "يعدهم" المواعيد الباطلة "ويمنيهم" الأماني العاطلة "وما يعدهم الشيطان إلا غروراً" أي: وما يعدهم الشيطان بما يوقعه في خواطرهم من الوساوس الفارغة "إلا غروراً" يغرهم به ويظهر لهم فيه النفع وهو ضرر محض، وانتصاب غروراً على أنه قد نعت لمصدر محذوف: أي وعداً غروراً أو على أنه مفعول ثان أو مصدر على غير لفظه. قال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهراً تحبه وله باطن مكروه، وهذه الجملة اعتراضية.
قوله 121- "أولئك" إشارة إلى أولياء الشيطان وهذا مبتدأ وخبره الجملة وهي قوله "مأواهم جهنم" قوله "محيصاً" أي: معدلاً، من حاص يحيص، وقيل: ملجأ ومخلصاً، والمحيص اسم مكان، وقيل: مصدر.