تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 133 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 133

132

قوله: 45- "فقطع دابر القوم الذين ظلموا" الدابر الآخر، يقال: دبر القوم يدبرهم دبراً: إذا كان آخرهم في المجيء، والمعنى: أنه قطع آخرهم: أي استؤصلوا جميعا حتى آخرهم. قال قطرب: يعني أنهم استؤصلوا وأهلكوا. قال أمية بن أبي الصلت: فأهلكوا بعذاب حص دابرهم فما استطاعوا له صرفاً ولا انتصروا ومنه التدبير لأنه أحكام عواقب الأمور. قوله: "والحمد لله رب العالمين" أي على هلاكهم، وفيه تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه سبحانه عند نزول النعم التي من أجلها هلاك الظلمة الذين يفسدون في الأرض لا يصلحون فإنهم أشد على عباد الله من كل شديد. اللهم أرح عبادك المؤمنين من ظلم الظالمين واقطع دابرهم وأبدلهم بالعدل الشامل لهم. وقد أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: "فأخذناهم بالبأساء والضراء" قال: خوف السلطان وغلاء السعر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فلما نسوا ما ذكروا به" قال: يعني تركوا ما ذكروا به. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج "فلما نسوا ما ذكروا به" قال: ما دعاهم الله إليه ورسله أبوه وردوه عليهم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "فتحنا عليهم أبواب كل شيء" قال: رخاء الدنيا ويسرها. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "حتى إذا فرحوا بما أوتوا" قال: من الرزق "أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون" قال: مهلكون متغير حالهم "فقطع دابر القوم الذين ظلموا" يقول: فقطع أصل الذين ظلموا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن النضر الحارثي في قوله: "أخذناهم بغتة" قال: أمهلوا عشرين سنة، ولا يخفى أن هذا مخالف لمعنى البغتة لغة ومحتاج إلى نقل عن الشارع وإلا فهو كلام لا طائل تحته. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: المبلس المجهود المكروب الذي قد نزل به الشر الذي لا يدفعه، والمبلس أشد من المستكين، وفي قوله: "فقطع دابر القوم الذين ظلموا" قال: استؤصلوا.
هذا تكرير للتوبيخ لقصد تأكيد الحجة عليهم، ووحد السمع لأنه مصدر يدل على الجمع بخلاف البصر ولهذا جمعه، والختم: الطبع، وقد تقدم تحقيقه في البقرة، والمراد: أخذ المعاني القائمة بهذه الجوارح أو أخذ الجوارح نفسها، والاستفهام في "من إله غير الله يأتيكم به" للتوبيخ، و من مبتدأ، و إله خبره، و غير الله صفة للخبر، ووحد الضمير في به مع أن المرجع متعدد على معنى: فمن يأتيكم بذلك المأخوذ أو المذكور. وقيل الضمير راجع إلى أحد هذه المذكورات، وقيل إن الضمير بمنزلة اسم الإشارة: أي يأتيكم بذلك المذكور، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنظر في تصريف الآيات وعدم قبولها لها تعجيباً له من ذلك، والتصريف المجيء بها على جهات مختلفة، تارة إنذار وتارة إعذار وتارة ترغيب وتارة ترهيب، وقوله: 46- "ثم هم يصدفون" عطف على نصرف، ومعنى يصدفون: يعرضون، يقال: صدف عن الشيء: إذا أعرض عنه صدفاً وصدوفاً.
قوله: 47- "قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله" أي أخبروني عن ذلك، وقد تقدم تفسير البغتة قريباً أنها الفجأة. قال الكسائي: بغتهم يبغتهم بغتاً وبغتة: إذا أتاهم فجأة: أي من دون تقديم مقدمات تدل على العذاب، والجهرة أن يأتي العذاب بعد ظهور مقدمات تدل عليه، وقيل البغتة: إتيان العذاب ليلاً، والجهرة: إتيان العذاب نهاراً كما في قوله تعالى: "بياتاً أو نهاراً". "هل يهلك إلا القوم الظالمون" الاستفهام للتقرير: أي ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا القوم الظالمون. وقرئ يهلك على البناء للفاعل. قال الزجاج: معناه هل يهلك إلا أنتم ومن أشبهكم؟ انتهى.
قوله: 48- "وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين" كلام مبتدأ لبيان الغرض من إرسال الرسل: أي مبشرين لمن أطاعهم بما أعد الله له من الجزاء العظيم، ومنذرين لمن عصاهم بما له عند الله من العذاب الوبيل: وقيل مبشرين في الدنيا بسعة الرزق وفي الآخرة بالثواب، ومنذرين مخوفين بالعقاب، وهما حالان مقدرتان: أي ما نرسلهم إلا مقدرين تبشيرهم وإنذارهم "فمن آمن وأصلح" أي آمن بما جاءت به الرسل "وأصلح" حال نفسه بفعل ما يدعونه إليه "فلا خوف عليهم" بوجه من الوجوه "ولا هم يحزنون" بحال من الأحوال، هذا حال من آمن وأصلح.
49- "والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون" وأما حال المكذبين فهو أن يمسهم العذاب بسبب فسقهم: أي خروجهم عن التصديق والطاعة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "يصدفون" قال: يعدلون. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "يصدفون" قال: يعرضون، وقال في قوله: "قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة" قال: فجأة آمنين، أو جهرة، قال: وهم ينظرون. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كل فسق في القرآن فمعناه الكذب.
أمره الله سبحانه بأن يخبرهم لما كثر اقتراحهم عليه وتعنتهم بإنزال الآيات التي تضطرهم إلى الإيمان أنه لم يكن عنده خزائن الله حتى يأتيهم بما اقترحوه من الآيات، والمراد خزائن قدرته التي تشتمل على كل شيء من الأشياء، ويقول لهم: إنه لا يعلم الغيب حتى يخبرهم به ويعرفهم بما سيكون في مستقبل الدهر "ولا أقول لكم إني ملك" حتى تكلفوني من الأفعال الخارقة للعادة ما لا يطيقه البشر، وليس في هذا ما يدل على أن الملائكة أفضل من الأنبياء، وقد اشتغل بهذه المفاضلة قوم من أهل العلم ولا يترتب على ذلك فائدة دينية ولا دنيوية. بل الكلام في مثل هذا من الاشتغال بما لا يعني، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "إن أتبع إلا ما يوحى إلي" أي ما أتبع إلا ما يوحيه الله إلي، وقد تمسك بذلك من لم يثبت اجتهاد الأنبياء عملاً بما يفيده القصر في هذه الآية، والمسألة مدونة في الأصول والأدلة عليها معروفة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أوتيت القرآن ومثله معه". "قل هل يستوي الأعمى والبصير" هذا الاستفهام للإنكار، والمراد أنه لا يستوي الضال والمهتدي، أو المسلم والكافر أو من اتبع ما أوحي إليه ومن لم يتبعه، والكلام تمثيل "أفلا تتفكرون" في ذلك حتى تعرفوا عدم الاستواء بينهما، فإنه بين لا يلتبس على من له أدنى عقل وأقل تفكر.
قوله: 51- "وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم" الإنذار: الإعلام. والضمير في به راجع إلى ما يوحى، وقيل إلى الله، وقيل إلى اليوم الآخر. وخص الذين يخافون أن يحشروا، لأن الإنذار يؤثر فيهم لما حل بهم من الخوف، بخلاف من لا يخاف الحشر من طوائف الكفر لجحوده به وإنكاره له، فإنه لا يؤثر فيه ذلك. قيل ومعنى يخافون: يعلمون ويتيقنون أنهم محشورون، فيشمل كل من آمن بالبعث من المسلمين وأهل الذمة وبعض المشركين، وقيل معنى الخوف على حقيقته، والمعنى: أنه ينذر به من يظهر عليه الخوف من الحشر عند أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكره وإن لم يكن مصدقاً به في الأصل، لكنه يخاف أن يصح ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من كان كذلك تكون الموعظة فيه أنجع والتذكير له أنفع. قوله: "ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع" الجملة في محل نصب على الحال: أي أنذر به هؤلاء الذين يخافون الحشر حال كونهم لا ولي لهم يواليهم ولا نصير يناصرهم ولا شفيع يشفع لهم من دون الله، وفيه رد على من زعم من الكفار المعترفين بالحشر أن آباءهم يشفعون لهم، وهم أهل الكتاب، أو أن أصنامهم تشفع لهم، وهم المشركون.
قوله: 52- "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه" الدعاء: العبادة مطلقاً، وقيل المحافظة على صلاة الجماعة، وقيل الذكر وقراءة القرآن، وقيل المراد الدعاء لله يجلب النفع ودفع الضرر. قيل: والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام على ذلك والاستمرار، وقيل هو على ظاهره، و "يريدون وجهه" في محل نصب على الحال. والمعنى: أنهم مخلصون في عبادتهم لا يريدون بذلك إلا وجه الله تعالى: أي يتوجهون بذلك إليه لا إلى غيره. قوله: "ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء" هذا كلام معترض بين النهي وجوابه متضمن لنفي الحامل على الطرد: أي حساب هؤلاء الذين أردت أن تطردهم موافقة لمن طلب ذلك منك هو على انفسهم ما عليك منه شيء، وحسابك على نفسك ما عليهم منه شيء فعلام تطردهم؟ هذا على فرض صحة وصف من وصفهم بقوله: "ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا" وطعن عندك في دينهم وحسبهم، فكيف وقد زكاهم الله عز وجل بالعبادة والإخلاص، وهذا هو مثل قوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" وقوله: "ما عليك من حسابهم من شيء" وهو من تمام الاعتراض: أي إذا كان الأمر كذلك فأقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين والفضل، ومن في "ما عليك من حسابهم من شيء" للتبعيض، والثانية للتوكيد، وكذا في "ما من حسابك عليهم من شيء". قوله: "فتكون من الظالمين" جواب للنهي أعني "ولا تطرد الذين يدعون ربهم" أي فإن فعلت ذلك كنت من الظالمين، وحاشاه عن وقوع ذلك، وإنما هو من باب التعريض لئلا يفعل ذلك غيره صلى الله عليه وسلم من أهل الإسلام كقوله تعالى: "لئن أشركت ليحبطن عملك"، وقيل إن "فتكون من الظالمين" معطوف على فتطردهم على طريق التسبب، والأول أولى.