تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 147 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 147

 {وَهُوَ ٱلَّذِىۤ أَنشَأَ جَنَّـٰتٍ مَّعْرُوشَـٰتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَـٰتٍ وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَـٰبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَـٰبِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ * وَمِنَ ٱلأَنْعَـٰمِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ مِّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ * وَمِنَ ٱلإِبِلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنْثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّـٰكُمُ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ * قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ ٱلْحَوَايَآ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذٰلِكَ جَزَيْنَـٰهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ * فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَٰسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ}
قوله تعالى: {وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} .
اختلف العلماء في المراد بهذا الحق المذكور هنا، وهل هو منسوخ أو لا؟ فقال جماعة من العلماء: هذا الحق هو الزكاة المفروضة، وممن قال بهذا أنس بن مالك، وابن عباس وطاوس، والحسن وابن زيد وابن الحنفية، والضحاك وسعيد بن المسيب، ومالك، ونقله عنهم القرطبي، نقله ابن كثير عن أنس وسعيد وغيرهما، ونقله ابن جرير عن ابن عباس وأنس والحسن وجابر بن زيد، وسعيد بن المسيب وقتادة وطاوس ومحمد بن الحنفية، والضحاك وابن زيد.
وقال قوم: ليس المراد به الزكاة، وإنما المراد به أنه يعطي من حضر من المساكين يوم الحصاد القبضة والضغث ونحو ذلك، وحمله بعضهم على الوجوب، وحمله بعضهم على الندب قال القرطبي: وقال علي بن الحسين، وعطاء والحكم، وحماد وسعيد بن جبير، ومجاهد: هو حق في المال سوى الزكاة أمر الله به ندباً، وروي عن ابن عمر ومحمد بن الحنفية أيضاً، ورواه أبو سعيد الخدري عنه صلى الله عليه وسلم، قال مجاهد: إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل، وإذا جذذت فألق لهم في الشماريخ، وإذا درسته وذريته فاطرح لهم منه، وإذا عرفت كيله فأخرج منه زكاته.
وقال قوم: هو حق واجب غير الزكاة، وهو غير محدد بقدر معين، وممن قال به عطاء كما نقله عنه ابن جرير.
وقال قوم: هي منسوخة بالزكاة، واختاره ابن جرير، وعزاه الشوكاني في تفسيره لجمهور العلماء، وأيده بأن هذه السورة مكية، وآية الزكاة نزلت بالمدينة في السنة الثانية بعد الهجرة.
وقال ابن كثير في القول بالنسخ نظر، لأنه قد كان شيئاً واجباً في الأصل، ثم إنه فصل بيانه، وبين مقدار المخرج وكميته، قالوا: وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة. والله أعلم. انتهى من ابن كثير.
ومراده أن شرع الزكاة بيان لهذا الحق لا نسخ له، وممن روى عنه القول بالنسخ ابن عباس ومحمد ابن الحنفية، والحسن والنخعي وطاوس، وأبو الشعثاء وقتادة والضحاك وابن جريج، نقله عنهم الشوكاني والقرطبي أيضاً، ونقله عن السدي وعطية، ونقله ابن جرير أيضاً عن ابن عباس وابن الحنفية، وسعيد بن جبير وإبراهيم والحسن، والسدي وعطية، واستدل ابن جرير للنسخ بالإجماع على أن زكاة الحرث لا تؤخذ إلا بعد التذرية والتنقية، وزكاة التمر لا تؤخذ إلا بعد الجذاذ، فدل على عدم الأخذ يوم الحصاد فعلم أن الآية منسوخة، أو أنها على سبيل الندب، فالأمر واضح.
وعلى أن المراد بها الزكاة، فقد أشير إلى أن هذا الحق المذكور هو جزء المال الواجب في النصاب في آيات الزكاة، وهو المذكور في قوله: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا
كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلاٌّرْضِ
} ، وبينته السنة، فإذا علمت ذلك، فاعلم أنه يحتاج هنا إلى بيان ثلاثة أشياء:
الأول: تعيين ما تجب فيه الزكاة مما تنبته الأرض.
الثاني: تعيين القدر الذي تجب فيه الزكاة منه.
الثالث: تعيين القدر الواجب فيه وسنبينها إن شاء الله مفصلة.
اعلم أولاً أنه لا خلاف بين العلماء في وجوب الزكاة في الحنطة، والشعير والتمر والزبيب.
واختلف فيما سواها مما تنبته الأرض فقال قوم: لا زكاة في غيرها من جميع ما تنبته الأرض، وروي ذلك عن الحسن، وابن سيرين والشعبي.
وقال به من الكوفيين ابن أبي ليلى، والثوري، والحسن بن صالح، وابن المبارك، ويحيى بن آدم، وإليه ذهب أبو عبيد.
وروي ذلك عن أبي موسى عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب أبي موسى، فإنه كان لا يأخذ الزكاة إلا من الحنطة، والشعير والتمر والزبيب. ذكره وكيع عن طلحة بن يحيى، عن أبي بردة، عن أبيه، كما نقله عنهم القرطبي.
واستدل أهل هذا القول بما رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، أنه قال: إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، وفي رواية عن أبيه عن جده عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «والعشر في التمر والزبيب والحنطة والشعير»، وعن موسى بن طلحة عن عمر أنه قال: «إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب». وعن أبي بردة عن أبي موسى، ومعاذ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم، فأمرهم ألا يأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة، الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب» رواها كلها الدارقطني، قاله ابن قدامة في المغني.
قال مقيده عفا الله عنه: أما ما رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده من أنه صلى الله عليه وسلم إنما سن الزكاة في الأربعة المذكورة، فإسناده واه لأنه من رواية محمد بن عبيد الله العزرمي، وهو متروك، قاله ابن حجر في (التلخيص)، وما رواه الدارقطني من حديث موسى بن طلحة، عن عمر أنه صلى الله عليه وسلم إنما سن الزكاة في الأربعة المذكورة، قال فيه أبو زرعة: موسى عن عمر: مرسل، قاله ابن حجر أيضاً، وما عزاه للدارقطني عن أبي بردة عن أبي موسى، ومعاذ رواه الحاكم والبيهقي عن أبي بردة عنهما.
وقال البيهقي: رواته ثقات، وهو متصل، قاله ابن حجر أيضاً، وقال مالك وأصحابه: تجب الزكاة في كل مقتات مدخر، وذلك عنده في ثمار الأشجار، إنما هو التمر والزبيب فقط، ومشهور مذهبه وجوب الزكاة في الزيتون إذا بلغ حبه خمسة أوسق. ولكنها تخرج من زيته بعد العصر، فيخرج عشره أو نصف عشره على ما سيأتي، فإن لم يبلغ حبه خمسة أوسق فلا زكاة عنده في زيته: وحكم السمسم وبزر الفجل الأحمر والقرطم حكم الزيتون في مشهور مذهبه يخرج من زيتها إن بلغ حبها النصاب.
وقال اللخمي: لا يضم زيت بعضها إلى بعض لاختلاف أجناسها، ومشهور مذهبه عدم وجوبها في التين، وأوجبها فيه جماعة من أصحابه بمقتضى أصوله وقال ابن عبد البر: أظن مالكاً ما كان يعلم أن التين ييبس ويقتات ويدخر. ولو كان يعلم ذلك لجعله كالزبيب، ولما عده مع الفواكه التي لا تيبس، ولا تدخر كالرمان والفرسك، والذي تجب فيه من الحبوب عنده هو ما يقتات ويدخر، وذلك الحنطة والشعير والسلت والعلس والدخن والذرة والأرز والعدس والجلبان واللوبيا والجلجلان والترمس والفول والحمص والبسيلة.
ومشهور مذهبه أن الكرسنة لا زكاة فيها، لأنها علف، وعن أشهب وجوب الزكاة فيها، وهي من القطاني على مشهور مذهبه في باب الربا، دون باب الزكاة.
وقيل هي البسيلة، وجميع أنواع القطاني عند مالك جنس واحد في الزكاة، فلو حصد وسقا من فول ووسقاً من حمص، وآخر من عدس وآخر من جلبان، وآخر من لوبيا وجب عليه أن يضم بعضها إلى بعض، ويخرج الزكاة منها كل واحد بحسبه، وكذلك يضم عنده القمح والشعير والسلت بعضها إلى بعض كالصنف الواحد، وتخرج الزكاة منها كل بحسبه، ولا يضم عنده تمر إلى زبيب ولا حنطة إلى قطنية، ولا تمر إلى حنطة ولا أي جنس إلى جنس آخر غير ما ذكرنا عنه ضمه لتقارب المنفعة فيه عنده، والنوع الواحد كالتمر والزبيب، والحنطة يضم بعض أنواعه إلى بعض كصيحاني وبرني وسمراء ومحمولة وزبيب أسود وزبيب أحمر ونحو ذلك.
ولا زكاة عند مالك رحمه الله في شيء من الفواكه غير ما ذكرنا، كالرمان والتفاح والخوخ والإجاص، والكمثري، واللوز، والجوز، والجلوز، ونحو ذلك كما لا زكاة عنده في شيء من الخضراوات. قال في الموطأ: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي سمعت من أهل العلم أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة، الرمان والفرسك والتين، وما أشبه ذلك، وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه.
قال: ولا في القضب، ولا في البقول كلها صدقة، ولا في أثمانها إذا بيعت صدقة حتى يحول على أثمانها الحول من يوم بيعها، ويقبض صاحبها ثمنها وهو نصاب اهـ.
والفرسك ـ بكسر الفاء والسين بينها راء ساكنة آخره كاف ـ الخوخ، وهي لغة يمانية، وقيل: نوع مثله في القدر، وهو أجرد أملس أحمر وأصفر جيد، وقيل: ما ليس ينفلق عن نواة من الخوخ، وإذا كان الزرع أو الثمر مشتركاً بين اثنين فأكثر، فقد قال فيه مالك في الموطأ: في النخيل يكون بين الرجلين فيجذان منه ثمانية أوسق من التمر أنه لا صدقة عليهما فيها، وأنه إن كان لأحدهما منها ما يجذ منه خمسة أوسق، وللآخر ما يجذ أربعة أوسق أو أقل من ذلك في أرض واحدة، كانت الصدقة على صاحب الخمسة الأوسق، وليس على الذي جذ أربعة أوسق أو أقل منها صدقة، وكذلك العمل في الشركاء كلهم في كل زرع من الحبوب كلها يحصد، أو النخل يجذ أو الكرم يقطف، فإنه إذا كان كل رجل منهم يجذ من التمر، أو يقطف من الزبيب خمسة أوسق، أو يحصد من الحنطة خمسة أوسق، فعليه الزكاة، ومن كان حقه أقل من خمسة أوسق فلا صدقة عليه.
وإنما تجب الصدقة على من بلغ جذاذه أو قطافه أو حصاده خمسة أوسق، انتهى من موطأ مالك رحمه الله.
وإذا أمسك ذلك الحب أو التمر الذي أخرج زكاته سنين، ثم باعه فحكمه عند مالك ما ذكره في موطئه حيث قال: السنة عندنا أن كل ما أخرجت زكاته من هذه الأصناف كلها الحنطة والتمر والزبيب والحبوب كلها، ثم أمسكه صاحبه بعد أن أدى صدقته سنين ثم باعه، أنه ليس عليه في ثمنه زكاة حتى يحول على ثمنه الحول من يوم باعه، إذا كان أصل تلك الأصناف من فائدة أو غيرها، وأنه لم يكن للتجارة.
وإنما ذلك بمنزلة الطعام والحبوب والعروض يفيدها الرجل، ثم يمسكها سنين، ثم يبيعها بذهب أو ورق فلا يكون عليه في ثمنها زكاة حتّى يحول عليها الحول من يوم باعها، فإن كان أصل تلك العروض للتجارة فعلى صاحبها فيها الزكاة حين يبيعها، إذا كان حبسها سنة من يوم زكى المال الذي ابتاعها به، انتهى في الموطأ، وهذا في المحتكر، أما المدير فإنه يقومها بعد حول من زكاته، كما في المدونة عن ابن القاسم.
هذا هو حاصل مذهب مالك رحمه الله فيما تجب فيه الزكاة من الثمار والحبوب، ومذهب الشافعي رحمه الله، أنه لا تجب الزكاة في شيء من ثمار الأشجار أيضاً، إلا فيما كان قوتاً يدخر، وذلك عنده التمر والزبيب فقط، كما تقدم عن مالك، ولا تجب عنده في سواهما من الثمار كالتين والتفاح والسفرجل والرمان، ونحو ذلك، لأنه ليس من الأقوات ولا من الأموال المدخرة، ولا تجب عنده في طلع الفحال، لأنه لا يجيء منه الثمار.
واختلف قوله في الزيتون، فقال في القديم، تجب فيه الزكاة لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه جعل في الزيت العشر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: في الزيتون الزكاة، وقال في الجديد: لا زكاة في الزيتون. لأنه ليس بقوت فهو كالخضراوات.
واختلف قول الشافعي رحمه الله أيضاً في الورس، فقال في القديم: تجب فيه الزكاة، لما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب إلى بني خفاش، أن أدوا زكاة الذرة والورس، وقال في الجديد: لا زكاة فيه، لأنه نبت لا يقتات، فأشبه الخضراوات، وقال الشافعي رحمه الله من قال: لا عشر في الورس لم يوجب في الزعفران، ومن قال: يجب في الورس، فيحتمل أن يوجب في الزعفران، لأنهما طيبان، ويحتمل ألاّ يوجب في الزعفران ويفرق بينهما بأن الورس شجر له ساق والزعفران نبات، واختلف قوله أيضاً في العسل فقال في القديم: يحتمل أن تجب فيه، ووجهه ما روي أن بني شَبابة بطن من فَهْم، كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحل كان عندهم العُشر من عشر قرب قربة، وقال في الجديد: لا تجب لأنه ليس بقوت فلا يجب فيه العشر كالبيض.
واختلف قوله أيضاً في القرطم، وهو حب العصفر، فقال في القديم: تجب إن صح فيه حديث أبي بكر رضي الله عنه، وقال في الجديد: لا تجب لأنه ليس بقوت، فأشبه الخضراوات، قاله كله صاحب (المهذب)، وقال النووي في شرح المهذب: الأثر المروي عن عمر «أنه جعل في الزيت العشر» ضعيف، رواه البيهقي، وقال: إسناده منقطع، وراويه ليس بقوي، قال: وأصحّ ما روي في الزيتون قول الزهري مضت السنة في زكاة الزيتون، أن يؤخذ ممن عصر زيتونه حين يعصره، فيما سقت السماء أو كان بعلا العشر، وفيما سقي برش الناضح نصف العشر، وهذا موقوف لا يعلم اشتهاره، ولا يحتج به على الصحيح.
وقال البيهقي: وحديث معاذ بن جبل، وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما أعلى، وأولى أن يؤخذ به، يعني روايتهما «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لهما، لما بعثهما إلى اليمن: لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير، والحنطة، والتمر، والزبيب».
وأما الأثر المذكور عن ابن عباس فضعيف أيضاً، والأثر المذكور عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ضعيف أيضاً، ذكره الشافعي وضعفه هو وغيره، واتفق الحفاظ على ضعفه، واتفق أصحابنا في كتب المذهب على ضعفه، قال البيهقي: ولم يثبت في هذا إسناد تقوم به حجة، قال: والأصل عدم الوجوب فلا زكاة فيما لم يرد فيه حديث صحيح، أو كان في معنى ما ورد به حديث صحيح، وأما حديث بني شبابة في العسل فرواه أبو داود، والبيهقي، وغيرهما من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده بإسناد ضعيف، قال الترمذي في جامعه: لا يصح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا كبير شيء، قال البيهقي: قال الترمذي في كتاب العلل: قال البخاري: ليس في زكاة العسل شيء يصح.
فالحاصل أن جميع الآثار، والأحاديث التي في هذا الفصل ضعيفة، انتهى كلام النووي.
وقال ابن حجر في (التلخيص) في أثر عمر المذكور في الزيتون: رواه البيهقي بإسناد منقطع، والراوي له عثمان بن عطاء ضعيف. قال: وأصح ما في الباب قول ابن شهاب: «مضت السنة في زكاة الزيتون» الخ.
وقال في (التلخيص) أيضاً في أثر ابن عباس المذكور في الزيتون: ذكره صاحب (المهذب)، عن ابن عباس، وضعفه النووي، وقد أخرجه ابن أبي شيبة، وفي إسناده ليث بن أبي سليم.
وقال ابن حجر أيضاً: روى الحاكم في تاريخ «نيسابور» من طريق عروة، عن عائشة مرفوعاً «الزكاة في خمس: في البر، والشعير. والأعناب والنخيل، والزيتون»، وفي إسناده عثمان بن عبد الرحمن، وهو الوقاصي: متروك الحديث.
وقال ابن حجر في الأثر المذكور عن أبي بكر: أنه كان يأخذ الزكاة من حب العصفر، وهو القرطم، لم أجد له أصلاً، وقال في (التلخيص) أيضاً في خبر أخذه صلى الله عليه وسلم زكاة العسل، أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في العسل في كل عشرة أزقاق زق»، وقال في إسناده مقال، ولا يصح، وفي إسناده صدقة السمين، وهو ضعيف الحفظ.
وقد خولف، وقال النسائي: هذا حديث منكر، ورواه البيهقي، وقال: تفرد به صدقة، وهو ضعيف، وقد تابعه طلحة بن زيد عن موسى بن يسار، ذكره المروزي، ونقل عن أحمد تضعيفه، وذكر الترمذي أنه سأل البخاري عنه فقال: هو عن نافع، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مرسل، ونقل الحاكم في تاريخ «نيسابور»، عن أبي حاتم، عن أبيه، قال: حدث محمد بن يحيى الذهلي بحديث كاد أن يهلك، حدث عن عارم، عن ابن المبارك، عن أسامة بن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعاً «أخذ من العسل العشر». قال أبو حاتم: وإنما هو عن أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده كذلك: حدثناه عارم، وغيره قال: ولعله سقط من كتابه عمرو بن شعيب، فدخله هذا الوهم.
قال الترمذي: وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، قلت: رواه أبو داود والنسائي من رواية عمرو بن الحارث المصري، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: «جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له، وسأله أن يحمي وادياً له يقال له «سلبة» فحماه له، فلما ولى عمر كتب إلى سفيان بن وهب، إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عشور نحله فاحم له سلبة، وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء.
قال الدارقطني: يروى عن عبد الرحمن بن الحارث، وابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب مسنداً، ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرو بن شعيب مرسلاً، عن عمر مرسلاً قلت: فهذه علته، وعبد الرحمن، وابن لهيعة ليسا من أهل الاتقان، ولكن تابعهما عمرو بن الحارث أحد الثقات، وتابعهما أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب عند ابن ماجه، وغيره كما مضى.
قال الترمذي: وفيه عن أبي سيارة، قلت: هو المتعي، قال: «قلت يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن لي نحلاً، قال: «أد العشور، قال: قلت يا رسول الله أحم لي جبلها»، رواه أبو داود، وابن ماجه، والبيهقي من رواية سليمان بن موسى، عن أبي سيارة، وهو منقطع.
قال البخاري: لم يدرك سليمان أحداً من الصحابة، وليس في زكاة العسل شيء يصح، وقال أبو عمر: لا تقوم بهذا حجة. قال وعن أبي هريرة قلت: رواه البيهقي، وفي إسناده عبد الله بن محرر، وهو متروك، ورواه أيضاً من حديث سعد بن أبي ذباب: «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم استعمله على قومه، وأنه قال لهم: أدّوا العشر في العسل، وأتى به عمر، فقبضه، فباعه، ثم جعله في صدقات المسلمين»، وفي إسناده منير بن عبد الله ضعفه البخاري، والأزدي، وغيرهما.
قال الشافعي: وسعد بن أبي ذباب، يحكي ما يدل على أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر فيه بشيء. وأنه شيء رآه هو فتطوع له به قومه، وقال الزعفراني عن الشافعي: الحديث في أن في العسل العشر ضعيف، واختياري أنه لا يؤخذ منه، وقال البخاري: لا يصح فيه شيء.
وقال ابن المنذر: ليس فيه شيء ثابت، وفي (الموطأ) عن عبد الله بن أبي بكر قال: «جَاء كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي، وهو بمنى ألا تأخذ من الخيل، ولا من العسل صدقة»، انتهى كلام ابن حجر بلفظه.
وقال في (التلخيص) أيضاً: إن حديث معاذ، أنه لم يأخذ زكاة العسل، وأنه قال: «لم يأمرني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء»، أخرجه أبو داود في (المراسيل)، والحميدي في (مسنده)، وابن أبي شيبة، والبيهقي من طريق طاوس عنه، وفيه انقطاع بين طاوس ومعاذ، لكن قال البيهقي: هو قوي. لأن طاوساً كان عارفاً بقضايا معاذ.
قال مقيده، عفا الله عنه: ولا شك أن إخراج زكاته أحوط، وهو مذهب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ ونقله صاحب (المغني) عن مكحول، والزهري، وسليمان بن موسى، والأوزاعي، وإسحاق.
وحجتهم الأحاديث التي رأيت، ولا شيء فيه عند مالك، والشافعي في (الجديد)، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وابن المنذر، وغيرهم.
وحجتهم عدم صحة ما ورد فيه، وأن الأصل براءة الذمة، وأنه مائع خارج من حيوان فأشبه اللبن.
وقال أبو حنيفة: إن كان في أرض للعشر ففيه الزكاة، وإلا فلا زكاة فيه، ونصاب العسل، قيل: خمسة أفراق، وهو قول الزهري، وقيل: خمسة أوسق، وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: تجب في قليله وكثيره. والفرق ستة عشر رطلاً بالعراقي، وقيل: ستون رطلاً، وقيل: مائة وعشرون رطلاً، وقيل: ثلاثة آصع، وقيل: غير ذلك. قاله في (المغني).
وأما الحبوب: فلا تجب الزكاة عند الشافعي إلا فيما يقتات، ويدخر منها، ولا زكاة عنده في شيء من الفواكه التي لا تقتات، ولا تدخر، ولا في شيء من الخضراوات، فمذهبه يوافق مذهب مالك، كما قدمنا، إلا أن الشافعي لا يضم بعض الأنواع إلى بعض، ومالك يضم القطاني بعضها إلى بعض في الزكاة، وكذلك القمح، والشعير، والسلت، كما تقدم.
وأما مذهب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ فهو وجوب الزكاة فيما تنبته الأرض، مما ييبس، ويبقى. مما يكال. فأوصاف المزكي عنده مما تنبته الأرض ثلاثة: وهي الكيل، والبقاء، واليبس. فما كان كذلك من الحبوب والثمار وجبت فيه عنده، سواء كان قوتاً أم لا، وما لم يكن كذلك لم تجب فيه. فتجب عنده في الحنطة، والشعير، والسلت، والأرز، والذرة، والدخن، والقطاني، كالباقلا، والعدس، والحمص، والأبازير. كالكمون، والكراويا، والبزر كبزر، الكتان، والقثاء، والخيار. وحب البقول، كالرشاد، وحب الفجل، والقرطم، والسمسم، ونحو ذلك من سائر الحبوب. كما تجب عنده أيضاً فيما جمع الأوصاف المذكورة من الثمار، كالتمر والزبيب واللوز، والفستق والبندق. ولا زكاة عنده في شيء من الفواكه: كالخوخ والإجاص والكمثري والتفاح والتين والجوز، ولا في شيء من الخضر:
كالقثاء، والخيار، والباذنجان، واللفت، والجزر، ونحو ذلك.
ويروى نحو ما ذكرنا عن أحمد في الحبوب، عن عطاء، وأبي يوسف ومحمد، وقال أبو عبد الله بن حامد: لا شيء في الأبازير، ولا البزر. ولا حب البقول.
قال صاحب (المغني): ولعله لا يوجب الزكاة إلا فيما كان قوتاً، أو أدماً. لأن ما عداه لا نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص فيبقى على النفي الأصلي، ولا زكاة في مشهور مذهب أحمد ـ رحمه الله ـ فيما ينبت من المباح الذي لا يملك، إلا بأخذه: كالبطم، وشعير الجبل، وبزر قطوناً، وبزر البقلة، وحب النمام، وبزر الأشنان، ونحو ذلك، وعن القاضي أنه تجب فيه الزكاة، إذا نبت بأرضه.
والصحيح الأول: فإن تساقط في أرضه حب كحنطة مثلاً فنبت ففيه الزكاة. لأنه يملكه، ولا تجب الزكاة فيما ليس بحب، ولا ثمر سواء وجد فيه الكيل، والإدخار، أو لم يوجدا، فلا تجب في ورق مثل ورق السدر، والخطمي، والأشنان، والصعتر، والآس، ونحوه. لأنه ليس بمنصوص عليه، ولا في معنى المنصوص، ولا زكاة عنده في الأزهار: كالزعفران، والعصفر، والقطن. لأنها ليست بحب، ولا ثمر، ولا هي بمكيل، فلم تجب فيها زكاة. كالخضراوات.
قال الإمام أحمد: رحمه الله ليس في القطن شيء، وقال: ليس في الزعفران زكاة، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي بكر. قاله ابن قدامة في (المغني).
واختلفت عن أحمد ـ رحمه الله ـ الرواية في الزيتون: فروى عنه ابنه صالح أن فيه الزكاة وروي عنه أنه لا زكاة فيه وهو اختيار أبي بكر وظاهر كلام الخرقي يقتضيه. قاله أيضاً صاحب المغني، وأما أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ فإنه قائل بوجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض طعاماً كان أو غيره، وقال أبو يوسف عنه إلا الحطب والحشيش، والقصب والتبن، والسعف وقصب الذريرة، وقصب السكر اهـ. والذريرة: قصب يجاء به من الهند، كقصب النشاب، أحمر يتداوى به، وممن قال مثل قول أبي حنيفة النخعي، وروي نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وهو قول حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة ونصره ابن العربي المالكي في أحكامه. قال: وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق. هذا هو حاصل مذاهب الأئمة الأربعة رضي الله عنهم. في تعيين ما تجب فيه الزكاة مما تنبته الأرض، وسنشير إن شاء الله إلى دليل كل واحد منهم فيما ذهب إليه.
أما أبو حنيفة: فقد احتج على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض من قليل وكثير بعموم هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها. لأن الله قال فيها {وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وبعموم قوم تعالى {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلاٌّرْضِ} . وبعموم قوله صلى الله عليه وسلم «فيما سقت السماء العُشْر» الحديث ولم يقبل تخصيصه بحديث «ليس فيما دون خمسة أوسق السماء العشر» الحديث ولم يقبل تخصيصه بحديث «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» لأن القاعدة المقررة في أصوله رحمه الله أن العام قطعي الشمول، والتناول لجميع أفراده كما أشار له في «مراقي السعود» بقوله: وهو على فرد يدل حتما وفهم الاستغراق ليس جزما
بل هو عند الجل بالرجحان والقطع فيه مذهب النعمان

فما كان أقل من خمسة أوسق يدخل عنده دخولاً مجزوماً به في عموم الآيات المذكورة، والحديث. فلا يلزم عنده تخصيص العام بالخاص، بل يتعارضان. وتقديم ما دل على الوجوب أولى من تقديم ما دل على غيره للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب.
وأما مالك والشافعي ـ رحمهما الله تعالى ـ فحجتهما في قولهما: إنه لا زكاة غير النخل والعنب من الأشجار، ولا في شيء من الحبوب إلا فيما يقتات ويدخر. ولا زكاة في الفواكه ولا الخضراوات، لأن النص والإجماع دلا على وجوب الزكاة في الحنطة والشعير، والتمر والزبيب. وكل واحد منها مقتات مدخر فألحقوا بها كل ما كان في معناها لكونه مقتاتاً ومدخراً. ولم يريا أن في الأشجار مقتاتاً ولا مدخراً غير التمر والزبيب، فلم يشاركهما في العلة غيرهما من الثمار، ولذا قال جماعة من أصحاب مالك بوجوبها في التين على أصول مذهب مالك لأنه كالزبيب في الاقتيات والإدخار.
وقال ابن عبد البر: الظاهر أن مالكاً ما كان يعلم أن التين كذلك وأما الحبوب فيوجد فيها الاقتيات والإدخار فألحقا بالحنطة والشعير كل ما كان مقتاتاً مدخراً كالأرز والذرة والدخن والقطاني ونحو ذلك. ـ فهو إلحاق منهما ـ رحمهما الله ـ للمسكوت بالمنطوق بجامع العلة التي هي عندهما الاقتيات والإدخار. لأن كونه مقتاتاً مدخراً مناسب لوجوب الصدقة فيه. لاحتياج المساكين إلى قوت يأكلون منه ويدخرون.
وأما أحمد ـ رحمه الله ـ فحجته في قوله إن الزكاة تجب فيما يبقى وييبس ويكال: أن ما لا ييبس ولا يبقى كالفواكه والخضراوات لم تكن تؤخذ منه الزكاة في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولا زمن الخلفاء الراشدين.
ودليله في اشتراطه الكيل قوله صلى الله عليه وسلم «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» قال: فبين النَّبي صلى الله عليه وسلم أن محل الواجب في الوسق، وهو خاص بالمكيل كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
أما دليل الجمهور منهم مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله على أن الفواكة والخضراوات. لا زكاة فيها فظاهر. لأن الخضراوات كانت كثيرة بالمدينة جداً والفواكه كانت كثيرة بالطائف، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه أخذ الزكاة من شيء من ذلك.
قال القرطبي: في تفسير هذه الآية. وقد كان بالطائف الرمان والفرسك والأترج، فما اعترضه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ذكره، ولا أحد من خلفائه، قلت: وهذا وإن لم يذكره في الأحكام هو الصحيح في المسألة، وأن الخضراوات ليس فيها شيء، وأما الآية فقد اختلف فيها: هل هي محكمة أو منسوخة، أو محمولة على الندب؟ ولا قاطع يبين أحد محاملها، بل القاطع المعلوم ما ذكره ابن بكير في أحكامه أن الكوفة افتتحت بعد موت النَّبي صلى الله عليه وسلم، وبعد استقرار الأحكام بالمدينة. أفيجوز أن يتوهم متوهم، أو من له أدنى بصيرة أن تكون شريعة مثل هذه عطلت فلم يعمل بها في دار الهجرة ومستقر الوحي، ولا خلافة أبي بكر حتى عمل بذلك الكوفيون؟ إن هذه لمصيبة فيمن ظن هذا، أو قال به. قلت: ومما يدل على هذا من معنى التنزيل قوله تعالى: {يَـأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أتراه يكتم شيئاً أمر بتبليغه أو بيانه ـ حاشاه من ذلك ـ وقال تعالى: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، ومن كمال الدين كونه لم يأخذ من الخضراوات شيئاً. وقال جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ فيما رواه الدارقطني: إن المقاثىء كانت تكون عندنا تخرج عشرة آلاف فلا يكون فيها شيء. وقال الزهري والحسن: تزكى أثمان الخضر إذا أينعت وبلغ الثمن مائتي درهم، وقاله الأوزاعي في ثمن الفواكه، ولا حجة في قولهما لما ذكرنا.
وقد روى الترمذي عن معاذ: أنه كتب إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضراوات وهي البقول فقال: ليس فيها شيء وقد روي هذا المعنى عن جابر وأنس وعلي ومحمد بن عبد الله بن جحش وأبي موسى وعائشة: ذكر أحاديثهم الدارقطني ـ رحمه الله ـ وقال الترمذي ليس يصح في هذا الباب عن النَّبي صلى الله عليه وسلم شيء، واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ بحديث صالح بن موسى عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة» قال أبو عمر: وهذا حديث لم يروه من ثقات أصحاب منصور أحد هكذا، وإنما هو من قول إبراهيم قلت وإذا سقط الإستدلال من جهة السنة لضعف أسانيدها لم يبق إلا ما ذكرناه من تخصيص عموم الآية، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم «فيما سقت السماء العشر» بما ذكرنا اهـ. كلام القرطبي.
وحجة من قال: بأنه لا زكاة في غير الأربعة المجمع عليها التي هي الحنطة والشعير والتمر والزبيب هي الأحاديث التي قدمنا في أول هذا المبحث، وفيها حديث معاذ وأبي موسى الذي تقدم عن البيهقي أنه قوي متصل. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس في شيء من الخضر زكاة إلا ما كانت له ثمرة باقية، سوى الزعفران ونحوه مما يوزن ففيه الزكاة وكان محمد يعتبرفي العصفر، والكتان البزر. فإذا بلغ بزرهما من القرطم والكتاب خمسة أوسق. كان العصفر والكتان تبعاً للبزر وأخذ منه العشر أو نصف العشر، وأما القطن فليس عنده فيما دون خمسة أحمال شيء، والحمل ثلاثمائة من بالعراقي، والورس والزعفران ليس فيما دون خمسة أمنان منهما شيء. فإذا بلغ أحدهما خمسة أمنان كانت فيه الصدقة، وقال أبو يوسف وكذلك قصب السكر الذي يكون منه السكر، ويكون في أرض العشر دون أرض الخراج فيه ما في الزعفران، وأوجب عبد الملك بن الماجشون الزكاة في أصول الثمار دون البقول، وهو مخالف لما عليه أهل مذهبه مالك وأصحابه. قاله القرطبي.
تنبيه
من قال لا زكاة في الرمان وهم جمهور العلماء، ومن قال لا زكاة في الزيتون يلزم على قول كل منهم، أن تكون الآية التي نحن بصددها التي هي قوله تعالى: {وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} منسوخة أو مراداً بها غير الزكاة لأنها على تقدير أنها محكمة، وأنها في الزكاة المفروضة لا يمكن معها القول بعدم الزكاة الزيتون والرمان، لأنها على ذلك صريحة فيها.
لأن المذكورات في قوله تعالى: {وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَـٰبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَـٰبِهٍ} يرجع إلى كلها الضمير في قوله: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} ، وقوله: {وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} كما هو واضح لا لبس فيه. فيدخل فيه الزيتون والرمان دخولاً أو ليالاً شك فيه، فقول أكثر أهل العلم بعدم الزكاة في الرمان يقوي القول بنسخ الآية، أو أنها في غير الزكاة المفروضة ـ والله تعالى أعلم ـ وعن أبي يوسف أنه أوجب الزكاة في الحناء، واعلم أن مذهب داود بن علي الظاهري في هذه المسألة قوي جداً من جهة النظر. لأنه قال ما أنبتته الأرض ضربان موسق وغير موسق فما كان موسقاً وجبت الزكاة فيما بلغ منه خمسة أوسق لقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا زكاة فيما دونها منه» وما كان غير موسق ففي قليله وكثيره الزكاة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العشر» ولا يخصص بحديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة لأنه غير موسق أصلاً. قال مقيده ـ: عفا الله عنه ـ وهذا القول هو أسعد الأقوال بظاهر النصوص وفيه نوع من الجمع بينها إلا أنه يرد عليه ما قدمنا من أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للخضراوات مع كثرتها في المدينة ولا الفواكه مع كثرتها بالطائف، ولو كان العموم شاملاً لذلك لبينه صلى الله عليه وسلم، وإذا عرفت كلام العلماء في تعيين ما تجب فيه الزكاة وأدلة أقوالهم مما ذكرنا.
فاعلم أن جمهور العلماء قالوا لا تجب الزكاة إلا في خمسة أوسق فصاعداً لقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» الحديث. أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ ومسلم من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ.
وممن قال بهذا الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد ـ رحمهم الله ـ وأصحابهم، وهو قول ابن عمر، وجابر وأبي أمامة بن سهل، وعمر بن عبد العزيز وجابر بن زيد، والحسن وعطاء ومكحول والحكم والنخعي، وأهل المدينة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى، وأبي يوسف ومحمد وسائر أهل العلم، كما نقله عنهم ابن قدامة وغيره.
وقال ابن قدامة في المغني: لا نعلم أحداً خالف فيه إلا أبا حنيفة، ومن تابعه، ومجاهداً، وقد أجمع جميع العلماء على أن الوسق ستون صاعاً. وهو بفتح الواو وكسرها والفتح أشهر وأفصح. وقيل: هو بالكسر اسم وبالفتح مصدر، ويجمع على أوسق في القلة وأوساق وعلى وسوق في الكثرة. واعلم أن الصاع أربعة أمداد بمده صلى الله عليه وسلم. والمد بالتقريب: ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وتحديده بالضبط وزن رطل وثلث بالبغدادي فمبلغ الخمسة الأوسق من الأمداد ألف مد ومائتا مد، ومن الصيعان ثلاثمائة، وهي
بالوزن ألف رطل وستمائة رطل. والرطل: وزن مائة وثمانية وعشرين درهماً مكياً. وزاد بعض أهل العلم: أربعة أسباع درهم، كل درهم وزن خمسين وخمسي حبة من مطلق الشعير كما حرره علماء المالكية ومالك ـ رحمه الله ـ من أدرى الناس بحقيقة المد والصاع كما هو معلوم، وقيل فيه: غير ما ذكرنا.
وأما الحكم الثالث من أحكام هذه المسألة الثلاثة المذكورة في أول هذا المبحث وهو تعيين القدر الواجب إخراجه. فلا خلاف فيه بين العلماء وهو العشر فيما ليس في سقيه مشقة. كالذي يسقيه المطر أو النهر أو عروقه في الأرض، وأما ما يسقى بالآلة كالذي يسقى بالنواضح ففيه نصف العشر، وهذا ثابت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث جابر وابن عمر، فإن سقى تارة بمطر السماء مثلا وتارة بالسانية فإن استويا فثلاثة أرباع العشر بلا خلاف بين العلماء وإن كان أحد الأمرين أغلب. فقيل: يغلب الأكثر ويكون الأقل تبعاً له، وبه قال أحمد وأبو حنيفة والثوري وعطاء، وهو أحد قولي الشافعي، وقيل: يؤخذ بالتقسيط، وهذان القولان كل منهما شهره بعض المالكية، وحكى بعضهم رواية عن مالك: أن المعتبر ما حيى به الزرع وتم، وممن قال بالتقسيط من الحنابلة: ابن حامد، فإن جهل المقدار وجب العشر احتياطاً، كما نص عليه الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ في رواية عبد الله. قاله في المغني. وعلله بأن الأصل وجوب العشر وإنما يسقط نصفه يتحقق الكلفة. وإذا لم يتحقق المسقط وجب البقاء على الأصل وهو ظاهر جداً. وإن اختلف الساعي ورب المال في أيهما سقى به أكثر؟ فالقول: قول رب المال بغير يمين، لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم، ولا وقص في الحبوب والثمار، بل كل ما زاد على النصاب أخرج منه بحسبه. * * *
مسائل تتعلق بهذا المبحث
المسألة الأولى: قد قدمنا إجماع العلماء على وجوب الزكاة في التمر والزبيب. وجمهورهم على أنهما يخرصان إذا بدا صلاحهما، لأن المالكين يحتاجون إلى أكل الرطب والعنب. فبسبب ذلك شرع خرص التمر والعنب، ويخرص كل واحد منهما شجرة شجرة ـ حتى يعلم قدر ما في الجميع الآن من الأوساق، ثم يسقط منه قدر ما ينقصه الجفاف. فلو كان فيه خمسة أوسق من العنب أو الرطب وإذا جف كانت أربعة أوسق مثلاً. فلا زكاة فيه، لأن النصاب معتبر من التمر والزبيب اليابسين، لا من الرطب والعنب وإذا خرص على الوجه الذي ذكرنا خلى بين مالكيه، وبينه، وبعد الجذاذ يأتون بقدر الزكاة على الخرص المذكور تمراً أو زبيباً، وبذلك يحصل الجمع بين الاحتياط للفقراء والرفق بأرباب الثمار، فإن أصابته بعد الخرص جائحة اعتبرت وسقطت زكاة ما اجتاحته الجائحة، فإن بقي بعدها خمسة أوسق فصاعداً أخرج الزكاة وإلا فلا، ولا خلاف في اعتبار الجائحة بعد الخرص بين العلماء.
وممن قال بخرص النخيل والأعناب: الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد ـ رحمهم الله تعالى ـ وعمر بن الخطاب وسهل بن أبي حثمة، ومروان والقاسم بن محمد، والحسن وعطاء والزهري، وعمرو بن دينار وعبد الكريم بن أبي المخارق، وأبو عبيد، وأبو ثور: وأكثر أهل العلم كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني، وحكي عن الشعبي، أن الخرص بدعة، ومنعه الثوري، وقال أبو حنيفة وأصحابه: الخرص ظن وتخمين لا يلزم به حكم، وإنما كان الخرص تخويفاً للقائمين على الثمار لئلا يخونوا، فأما أن يلزم به حكم فلا. قال مقيده عفا الله عنه: لا يخفى أن هذا القول تبطله نصوص السنة الصحيحة الصريحة، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة «تبوك» فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخرصوها، فخرصناها، وخرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق» وقال: أحصيها حتى نرجع إليك، إن شاء الله، وانطلقنا حتى قدمنا تبوك، فذكر الحديث.
قال: «ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة عن حديقتها كم بلغ ثمرها؟ قالت: بلغ عشرة أوسق» فهذا الحديث المتفق عليه دليل واضح على مشروعية الخرص، كما ترى.
وعن عتاب بن أسيد رضي الله عنه: «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم» أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه وابن حبان.
وعن عتاب رضي الله عنه أيضاً قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب، كما يخرص النخل فتؤخذ زكاته زبيباً كما تؤخذ صدقة النَّخل تمراً» أخرجه أيضاً أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والدارقطني.
والتحقيق في حديث عتاب هذا، أنه من مراسيل سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، لأنه لم يدرك عتاباً، لأن مولد سعيد في خلافة عمر، وعتاب مات يوم مات أبو بكر رضي الله عنهما، وقد أثبت الحجة بمراسيل سعيد كثير ممن يقولون بعدم الاحتجاج بالمرسل، وقال النووي في شرح المهذب: إن من أصحابنا: من قال يحتج بمراسيل ابن المسيب مطلقاً، والأصح أنه إنما يحتج بمراسيله، إذا اعتضدت بأحد أربعة أمور: أن يسند أو يرسل من جهة أخرى، أو يقول به بعض الصحابة، أو أكثر العلماء، وقد وجد ذلك هنا. فقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على وجوب الزكاة في التمر، والزبيب. قال مقيده عفا الله عنه: وبما ذكره النووي تعلم اتفاق الشافعية على الاحتجاج بهذا المرسل، والأئمة الثلاثة يحتجون بالمرسل مطلقاً فظهر إجماع المذاهب الأربعة على الاحتجاج بمثل هذا المرسل، وروى هذا الحديث الدارقطني بسند فيه الواقدي متصلاً، فقال عن سعيد بن المسيب، عن المسور بن مخرمة عن عتاب بن أسيد.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يوكل منه، ثم يخير يهود يأخذونه بذلك الخرص، أو يدفعونه إليهم بذلك الخرص، لكي يحصي الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق» أخرجه أحمد وأبو داود، وقد أعل بأن فيه واسطة بين ابن جريج والزهري، ولم يعرف، وقد رواه عبد الرزاق والدارقطني بدون الواسطة المذكورة، وابن جريج مدلس فلعله تركها تدليساً قاله ابن حجر، وقال ذكر الدارقطني الاختلاف فيه قال: فرواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة، وأرسله معمر ومالك، وعقيل: فلم يذكروا أبا هريرة، وأخرج أبو داود من طريق ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق.
وقال ابن حجر في التلخيص: أيضاً روى أحمد من حديث ابن عمر «أنه صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر يخرص عليهم» الحديث:
وروى أبو داود والدارقطني من حديث جابر «لما فتح الله على رسوله خيبر أقرهم، وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم» الحديث ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس.
وروى الدارقطني عن سهل بن أبي خيثمة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أباه خارصاً فجاء رجل، فقال: يا رسول الله إن أبا خيثمة قد زاد علي» الحديث، ثم ذكر ابن حجر حديث عتاب، وحديث عائشة اللذين قدمناهما، ثم قال وفي الصحابة، لأبي نعيم من طريق الصلت بن زبيد بن الصلت عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الخرص، فقال: أثبت لنا النصف، وأبق لهم النصف، فإنهم يسرقون، ولا نصل إليهم».
فبهذا الذي ذكرنا كله تعلم أن الخرص حكم ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ظن وتخمين باطل، بل هو اجتهاد ورد به الشرع في معرفة قدر الثمر وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير والمعايير، فهو كتقويم المتلفات ووقت الخرص حتى يبدو صلاح الثمر، كما قدمنا لما قدمنا، من الرواية «بأنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث الخارص فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل»، ولا خلاف في ذلك بين العلماء.
والجمهور القائلون بالخرص اختلفوا في حكمه، فقيل: هو سنة، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم، كان يأمر به، وقيل: واجب لما تقدم في حديث عتاب من قوله «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب» الحديث المتقدم، قالوا: الأمر للوجوب، ولأنه إن ترك الخرص قد يضيع شيء من حق الفقراء، والأظهر عدم الوجوب، لأن الحكم بأن هذا الأمر واجب يستوجب تركه العقاب يحتاج إلى دليل ظاهر قوي، والله تعالى أعلم.
واختلف العلماء القائلون بالخرص هل على الخارص أن يترك شيئاً، فقال بعض العلماء: عليه أن يترك الثلث أو الربع، لما رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن إلا ابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححاه عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا خرصتم فخذوا، ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع» فإن قيل في إسناده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار الراري عن سهل بن أبي حثمة.
وقد قال البزار: إنه انفرد به، وقال ابن القطان لا يعرف حاله، فالجواب أن له شاهداً بإسناد متفق عليه على صحته «أن عمر بن الخطاب أمر به، قاله الحاكم، ومن شواهده ما رواه ابن عبد البر عن جابر مرفوعاً «خففوا، في الخرص» الحديث، وفي إسناده ابن لهيعة.
وممن قال بهذا القول الإمام أحمد، وإسحاق، والليث، وأبو عبيد وغيرهم، ومشهور مذهب مالك. والصحيح في مذهب الشافعي أن الخارص لا يترك شيئاً.
قال مقيده عفا الله عنه: والقول بأنه يترك الثلث أو الربع هو الصواب لثبوت الحديث الذي صححه ابن حبان، والحاكم بذلك، ولم يثبت ما يعارضه، ولأن الناس يحتاجون إلى أن يأكلوا ويطعموا جيرانهم وضيوفهم، وأصدقاءهم، وسؤالهم، ولأن بعض الثمر يتساقط وتنتابه الطير وتأكل منه المارة، فإن لم يترك لهم الخارص شيئاً. فالظاهر أن لهم الأكل بقدر ما كان يلزم إسقاطه، ولا يحسب عليهم.
وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وهو مقتضى ما دل عليه الحديث المذكور، فإن زاد الثمر أو نقص عما خرصه به الخارص، فقال بعض العلماء: لا زكاة عليه فيما زاد، وتلزمه فيما نقص، لأنه حكم مضى.
وقال بعضهم: يندب الإخراج في الزائد، ولا تسقط عنه زكاة ما نقص.
قال مقيده عفا الله عنه، أما فيما بينه وبين الله، فلا شك أنه لا تجب عليه زكاة شيء لم يوجد، وأما فيما بينه وبين الناس، فإنها قد تجب عليه قال خليل بن إسحاق المالكي في مختصره، وإن زادت على تخريص عارف فالأحب الإخراج، وهل على ظاهره أو الوجوب تأويلان.
قال شارحه المواق من المدونة: قال مالك: من خرص عليه أربعة أوسق فرفع خمسة أوسق أحببت له أن يزكي ابن يونس، قال بعض شيوخنا: لفظة أحببت ها هنا على الإيجاب، وهو صواب كالحاكم يحكم بحكم، ثم يظهر أنه خطأ صراح ابن عرفة، على هذا حملها الأكثر، وحملها ابن رشيد، وعياض على الاستحباب.
قال مقيده عفا الله عنه: ووجوب الزكاة في الزائد هو الأظهر، وعليه أكثر المالكية، وهو الصحيح عند الشافعية، وأما النقص، فإذا ثبت ببينة أنها نقصت عما خرصت به، فالظاهر أنه تسقط عنه زكاة ما نقصت به، وإن ادعى غلط الخارص.
فقد قال بعض أهل العلم: لم تقبل دعواه لأن الخارص أمين، وقال بعض العلماء: تقبل دعواه غلط الخارص، إذا كانت مشبهة، أما إذا كانت بعيدة، كدعواه زيادة النصف، أو الثلثين فلا يقبل قوله في الجميع، وهذا التفصيل هو مذهب الشافعي، وأحمد إلا أن بعض الشافعية قال، يسقط عنه من الكثير الذي ادعى قدر النقص الذي تقبل دعواه فيه، وأما إن ادعى أن الخارص جار عليه عمداً، فلا تقبل دعواه عليه بلا خلاف، كما لو ادعى جور الحاكم، أو كذب الشاهد، وكذا إذا ادعى أنه غلط في الخرص، ولم يبين قدر ما زاد لم يقبل منه نص عليه علماء الشافعية، وإن ادعى رب الثمر أنه أصابته جائة أذهبت بعضه، فالظاهر تصديقه فيما يشبه قوله، كما لو ادعى أن بعضه سرق بالليل مثلاً قيل بيمين.
وقيل: لا وإن أضاف هلاك الثمرة إلى سبب يكذبه الحس، كأن يقول هلكت بحريق وقع في الجرين في وقت كذا، وعلمنا أنه لم يحترق في ذلك الوقت لم يلتفت إلى كلامه، فإن علم وقوع السبب الذي ذكر، وعموم أثره صدق بلا يمين، وإن اتهم حلف، قيل: وجوباً، وقيل: استحباباً، وإن لم يعرف عدم السبب المذكور ولا وجوده، فالصحيح أنه يكلف بالبينة على وجود أصل السبب، ثم القول قوله في الهلاك به، وهذا التفصيل الأخير للشافعية ذكره النووي في شرح المهذب، ووجهه ظاهر، والله تعالى أعلم .
وجمهور العلماء على أنه لا يخرص غير التمر، والزبيب، فلا يخرص الزيتون والزرع ولا غيرهما، وأجازه بعض العلماء في الزيتون، وأجازه بعضهم في سائر الحبوب. والصحيح أنه لا يجوز إلا في التمر والعنب لثلاثة أمور:
الأول: أن النص الدال على الخرص لم يرد إلا فيهما كما تقدم في حديث عتاب بن أسيد وغيره من الأحاديث.
الثاني: أن غيرهما ليس في معناهما، لأن الحاجة تدعوا غالباً إلى أكل الرطب قبل أن يكون تمراً، والعنب قبل أن يكون زبيباً، وليس غيرهما كذلك الثالث: أن ثمرة النخل ظاهرة مجتمعة في عذوقها، والعنب ظاهر أيضاً مجتمع في عناقيده، فحزرهما ممكن بخلاف غيرهما من الحبوب، فإنه متفرق في شجره والزرع مستتر في سنبله.
والظاهر أن ما جرت العادة بالحاجة إلى أكله لا يحسب، لما قدمنا، وقال المالكية يحسب عليهم كلما أكلوه من الحب، ولا يحسب ما تأكله الدواب في درسها. * * *
المسألة الثانية: لا يجوز إخراج زكاة الثمار إلا من التمر اليابس والزبيب اليابس، وكذلك زكاة الحبوب لا يجوز إخراجها، إلا من الحب اليابس بعد التصفية، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وأجرة القيام على الثمار والحبوب حتى تيبس وتصفى من خالص مال رب الثمرة والزرع، فإن دفع زكاة التمر بسراً أو رطباً أو دفع زكاة الزبيب عنباً لم يجزه ذلك، لأنه دفع غير الواجب، لأن الواجب تمر وزبيب يابسان إجماعاً.
وقد قال ابن قدامة في المغني: فإن كان المخرج للرطب رب المال لم يجزه ولزمه إخراج الفضل بعد التجفيف، لأنه أخرج غير الفرض فلم يجزه، كما لو أخرج الصغير عن الماشية الكبار، وهو نص صريح منه في أن الرطب غير الواجب، وأن منزلته من التمر الذي هو الواجب كمنزلة صغار الماشية من الكبار التي هي الواجبة في زكاة الماشية.
وقال النووي في شرح المهذب ما نصه فلو أخرج الرطب والعنب في الحال لم يجزئه بلا خلاف، ولو أخذه الساعي غرمه بلا خلاف، لأنه قبضه بغير حق، وكيف يغرمه فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف في آخر الباب:الصحيح: الذي قطع به الجمهور، ونص عليه الشافعي رضي الله عنه، أنه يلزمه قيمته.
والثاني: يلزمه مثله وهما مبنيان على أن الرطب والعنب مثليان أم لا، والصحيح المشهور أنهما ليسا مثليين ولو جف عند الساعي، فإن كان قدر الزكاة أجزأ، وإلا رد التفاوت أو أخذه كذا قاله العراقيون وغيرهم، وحكى ابن كج وجهاً أنه لا يجزىء بحال لفساد القبض، قال الرافعي: وهذا الوجه أولى والمختار ما سبق انتهى كلام النووي بلفظه، وهو صريح في عدم إجزاء الرطب والعنب بلا خلاف عند الشافعية.
وقال صاحب المهذب ما نصه: فإن أخذ الرطب وجب رده، وإن فات وجب رد قيمته، ومن أصحابنا من قال: يجب رد مثله، والمذهب الأول لأنه لا مثل له، لأنه يتفاوت، ولهذا لا يجوز بيع بعضه ببعض اهـ. منه بلفظه، وهو صريح في عدم إجزاء الرطب في زكاة التمر، وهذا الذي ذكرنا عن عامة العلماء من أن الزكاة لا تؤخذ إلا من التمر والزبيب اليابسين، هو مذهب مالك وعامة أصحابه وفي الموطأ ما نصه.
قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا أن النخل تخرص على أهلها وثمرها في رؤوسها إذا طاب وحل بيعه، ويؤخذ منه صدقته تمراً عند الجذاذ إلى أن قال: وكذلك العمل في الكرم انتهى محل الفرض منه بلفظه، وفيه تصريح مالك رحمه الله بأن الأمر المجتمع عليه من علماء زمنه، أن الزكاة تخرج تمراً، وهو يدل دلالة واضحة على أن من ادعى جواز إخراجها من الرطب أو البسر، فدعواه مخالفة للأمر المجتمع عليه عند مالك وعلماء زمنه.
ومن أوضح الأدلة على ذلك، أن البلح الذي لا يتتمر والعنب الذي لا يتزبب كبلح مصر وعنبها، لا يجوز الإخراج منه مع تعذر الواجب الذي هو التمر والزبيب اليابسان، بل تدفع الزكاة من ثمنه أو قيمته عند مالك وأصحابه، فلم يجعلوا العنب والرطب أصلاً، ولم يقبلوهما بدلاً عن الأصل، وقالوا: بوجوب الثمن إن بيع، والقيمة إن أكل.
قال خليل في مختصره: وثمن غير ذي الزيت وما لا يجف ومراده بقوله: وما لا يجف أن الرطب والعنب اللذين لا ييبسان يجب الإخراج من ثمنهما لا من نفس الرطب والعنب، وفي المواق في شرح قول خليل، وإن لم يجف ما نصه.
قال مالك: إن كان رطب هذا النخل لا يكون تمراً، ولا هذا العنب زبيباً فليخرص أن لو كان ذلك فيه ممكناً، فإن صح في التقدير خمسة أوسق أخذ من ثمنه انتهى محل الفرض منه بلفظه، وهو نص صريح عن مالك أنه لا يرى إخراج الرطب، والعنب في الزكاة لعدوله عنهما إلى الثمن في حال تعذر التمر والزبيب اليابسين، فكيف بالحالة التي لم يتعذرا فيها.
والحاصل أن إخراج الرطب والعنب عما يبس من رطب وعنب، لم يقل به أحد من العلماء، ولا دل عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا قياس وأما الذي لا ييبس كبلح مصر وعنبها ففيه قول مرجوح عند المالكية بإجزاء الرطب والعنب، ونقل هذا القول عن ابن رشد، وسترى إن شاء الله في آخر هذا المبحث كلام الشافعية والحنابلة فيه، فإن قيل: فما الدليل على أنه لا يجزىء إلا التمر والزبيب اليابسان دون الرطب والعنب؟
فالجواب: أن ذلك دلت عليه عدة أدلة الأول: هو ما قدمنا من حديث عتاب بن أسيد رضي الله عنه قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل فتؤخذ زكاته زبيباً كما تؤخذ صدقة النخل تمراً» وقد قدمنا أن هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والدارقطني، وقد قدمنا أنه من مراسيل سعيد بن المسيب، وقدمنا أيضاً أن الاحتجاج بمثل هذا المرسل من مراسيل سعيد صحيح عند الأئمة الأربعة، فإذا علمت صحة الاحتجاج بحديث سعيد بن المسيب هذا. فاعلم أنه نص صريح في «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر بخرص العنب والنخل، وأن تؤخذ زكاة العنب زبيباً، وصدقة النخيل تمراً، فمن ادعى جواز أخذ زكاة النخل رطباً أو بسراً» فدعواه مخالفة لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه أمر بأخذها في حال كونها تمراً في النخل وزبيباً في العنب، ومعلوم أن الحال وصف لصاحبها قيد لعاملها. فكون زكاة النخل تمراً وصف لها أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بإخراجها في حال كونها متصفة به. وكذلك كونها تمراً قيد لأخذها، فهو تقييد من النَّبي صلى الله عليه وسلم لأخذها بأن يكون في حال كونها تمراً، فيفهم منه أنها لا تؤخذ على غير تلك الحال ككونها رطباً مثلاً وإذا اتضح لك أن أخذها رطباً ـ مثلاً ـ مخالف لما أمر به صلى الله عليه وسلم، فاعلم أنه قال في الحديث المتفق عليه «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد»، وفي رواية في الصحيح «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وفي الكتاب العزيز {فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} .
ومما يوضح لك أن إخراج الرطب مثلاً في الزكاة مخالف لما سنه وشرعه صلى الله عليه وسلم من أخذها تمراً، وزبيباً يابسين ما ذكره البيهقي في السنن الكبرى في باب «كيف تؤخذ زكاة النخل والعنب» فإنه قال فيه وأخبرنا أبو الحسن بن أبي المعروف الفقيه المهرجاني. أنبأ بشر بن أحمد. أنبأ أحمد بن الحسين بن نصر الحذاء. ثنا علي بن عبد الله ـ ثنا يزيد بن زريع، ثنا عبد الرحمن بن إسحاق، أخبرني الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمر عتاب بن أسيد أن يخرص العنب كما يخرص النخل» ثم تؤدى زكاته زبيباً كما تؤدى زكاة النخل تمراً» قال: فتلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في النخل والعنب ـ اهـ. منه بلفظه، وفيه التصريح بأن إخراج التمر والزبيب: هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمخرج الرطب والعنب مخالف لسنته صلى الله عليه وسلم كما ترى.
الدليل الثاني: إجماع المسلمين على أن زكاة الثمار والحبوب من نوع ما تجب الزكاة في عينه، والعين الواجبة فيها الزكاة هي: التمر والزبيب اليابسان. لا الرطب والعنب بدليل إجماع القائلين بالنصاب في الثمار. على أن خمسة الأوسق التي هي النصاب لا تعتبر من الرطب، ولا من العنب، فمن كان عنده خمسة أوسق من الرطب أو العنب، ولكنها إذا جفت نقصت عن خمسة أوسق فلا زكاة عليه. لأن النصاب معتبر من التمر والزبيب اليابسين، فلو أخرج الزكاة من الرطب أو العنب لكان مخرجاً من غير ما تجب في عينه الزكاة كما ترى، ويدل له ما ذكره الزرقاني في شرح الموطأ، فإنه قال فيه في شرح قول مالك. ثم يؤدون الزكاة على ما خرص عليهم ما نصه، ومبنى التخريص أن يحزر ما في النخل أو العنب من التمر اليابس إذا جذ على حسب جنسه، وما علم من حاله أنه يصير إليه عند الإتمار. لأن الزكاة إنما تؤخذ منه تمراً. انتهى محل الفرض منه بلفظه.
وقد تقرر عند جماهير العلماء أن لفظة إنما للحصر وهو الحق. فقول الزرقاني لأن الزكاة إنما تؤخذ منه تمراً معناه حصر أخذ زكاة النخل في خصوص التمر دون غيره من رطب ونحوه، معللاً بذلك اعتبار النصاب من التمر اليابس. لأن الإخراج مما تجب في عينه الزكاة من الثمار والحبوب وهو واضح، ولا يرد على ما ذكرناه أن وقت وجوب الزكاة: هو وقت طيب الثمر قبل أن يكون يابساً، لإجماع العلماء على أنه لا يجب إخراجها بالفعل إلا بعد أن يصير تمراً يابساً ولإجماعهم أيضاً على أنه إن أصابته جائحة اعتبرت، فتسقط زكاة ما أجيح، كما تسقط زكاة الكل إن لم يبق منه نصاب. وسيأتي له زيادة إيضاح.
الدليل الثالث: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذها تمراً بعد الجذاذ لا بلحاً ولا رطباً، والله جل وعلا يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، ويقول: {وَمَآ ءَاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ، ويقول: {مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ} ، ويقول: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى} ، إلى غير ذلك من الآيات.
قال البخاري في صحيحه: «باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل وهل يترك الصبي فيمس الصدقة» حدثنا عمر بن محمد بن الحسن الأسدي. حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالتمر عند صرام النخل فيجيء هذا بتمره وهذا من تمره حتى يصير عنده كوماً من تمر، فجعل الحسن والحسين رضي الله عنهما يلعبان بذلك التمر، فأخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجها من فيه. فقال: «أما علمت أن آل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يأكلون الصَّدقة» اهـ.
فهذا الحديث الصحيح نص صريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ صدقة النخل تمراً بعد الجذاذ، وقد تقرر في الأصول أن صيغة المضارع بعد لفظة كان في نحو كان يفعل كذا: تدل على كثرة التكرار والمداومة على ذلك الفعل، فقول أبي هريرة في هذا الحديث المرفوع الصحيح: كان صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالتمر عند صرام النخل».
الحديث يدل دلالة واضحة على أن إخراج التمر عند الجذاذ هو الذي كان يفعل دائماً في زمنه صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يأخذ في الزكاة ذلك التمر اليابس، فمن ادعى جواز إخراج زكاة النخل رطباً أو بلحاً فهو مخالف لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن حجر في «فتح الباري» في شرح هذا الحديث المذكور آنفاً ما نصه «قال الإسماعيلي: قوله عند صرام النخل. أي بعد أن يصير تمراً، لأن النخل قد يصرم وهو رطب، فيتمر في المربد، ولكن ذلك لا يتطاول فحسن أن ينسب إلى الصرام كما في قوله تعالى: {أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فإن المراد بعد أن يداس وينقى والله تعالى أعلم» اهـ. منه بلفظه وهو واضح فيما ذكرنا. وبما ذكرنا تعلم أن ما يدعيه بعض أهل العلم من المتأخرين من جواز إخراج زكاة النخل رطباً وبسراً غير صحيح، ولا وجه له، ولا دليل عليه، وأما إن كان التمر لا ييبس، كبلح مصر وعنبها فقد قدمنا عن مالك وأصحابه أن الزكاة تخرج من ثمنه إن بيع، أو قيمته إن أكل، لا من نفس الرطب أو العنب.
وقد قدمنا عن ابن رشد قولاً مرجوحاً بإجزاء الرطب والعنب في خصوص ما لا ييبس.
ومذهب الشافعي رحمه الله في زكاة ما لا ييبس: أنه على القول بأن القسمة تمييز حق لا بيع، فيجوز القسم ويجعل العشر أو نصفه متميزاً في نخلات، ثم ينظر المصدق: فإن رأى أن يفرق عليهم فعل، وإن رأى البيع وقسمة الثمن فعل، وأما على القول بأن القسمة بيع فلا يجوز في الرطب والعنب، ويقبض المصدق عشرها مشاعاً، بالتخلية بينه وبينها، ويستقر عليه ملك المساكين، ثم يبيعه ويأخذ ثمنه ويفرقه عليهم، وهكذا الحكم عنده فيما إذا احتيج إلى قطع الثمرة رطباً خوفاً عليها من العطش ونحوه.
وحكم هذه المسألة في المذهب الحنبلي فيه قولان.
أحدهما: أنه يخير الساعي بين أن يقاسم رب المال الثمرة قبل الجذاذ بالخرص، ويأخذ نصيبهم نخلة مفردة، ويأخذ ثمرتها. وبين أن يجذها ويقاسمه إياها بالكيل، ويقسم الثمرة في الفقراء، وبين أن بيعها من رب المال أو غيره قبل الجذاذ أو بعده، ويقسم ثمنها في الفقراء.
القول الثاني: أن عليه الزكاة من تمر وزبيب يابسين، قاله أبو بكر. وذكر أن أحمد ـ رحمه الله ـ نص عليه. قاله صاحب المغني، وهذا الذي ذكرنا هو حاصل مذهب أحمد ـ رحمه الله ـ في المسألتين. أعني الثمر الذي لا ييبس، والذي احتيج لقطعه قبل اليبس. * * *
المسألة الثالثة: اختلف في وقت وجوب الزكاة فيما تنبته الأرض من ثمر وحب. فقال جمهور العلماء: تحب في الحب إذا اشتد، وفي الثمر إذا بدا صلاحه فتعلق الوجوب عند طيب التمر. ووجوب الإخراج بعد الجذاذ.
وفائدة الخلاف أنه لو تصرف في الثمر والحب قبل الوجوب لم يكن عليه شيء، وإن تصرف في ذلك بعد وجوب الزكاة لم تسقط الزكاة عنه.
ومن فوائده أيضاً: أنه إذا مات بعد وقت الوجوب زكيت على ملكه، وإن مات قبل الوجوب زكيت على ملك الورثة، وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: واختلف العلماء في وقت الوجوب على ثلاثة أقوال.
الأول: أنه وقت الجذاذ. قاله محمد بن مسلمة: لقوله تعالى: {يَوْمَ حَصَادِهِ} .
الثاني: يوم الطيب. لأن ما قبل الطيب يكون علفاً لا قوتاً ولا طعاماً، فإذا طاب وحان الأكل الذي أنعم الله به، وجب الحق الذي أمر الله به، إذ بتمام النعمة يجب شكر النعمة، ويكون الإيتاء وقت الحصاد لما قد وجب يوم الطيب.
الثالث: أنه يكون بعد تمام الخرص. لأنه حينئذ يتحقق الواجب فيه من الزكاة فيكون شرطاً لوجوبها كمجيء الساعي في الغنم، وبه قال المغيرة، والصحيح الأول لنص التنزيل، والمشهور في المذهب الثاني، وبه قال الشافعي. اهـ منه.
وقد قدمنا أن مالكاً ـ رحمه الله ـ يقول: بأن كل ما أكله المالك أو تصدق به يحسب عليه، وجمهور العلماء يخالفونه ـ رحمه الله ـ في ذلك. واحتجوا لأن ما يأكله لا يحسب عليه بقوله تعالى {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} . وبالحديث المتقدم. أن على الخارص أن يدع الثلث أو الربع. وقوله تعالى {يَوْمَ حَصَادِهِ} قرأه ابن عامر وأبو عمرو وعاصم بفتح الحاء، والباقون بكسرها، وهما لغتان مشهورتان كالصرام والصرام والجذاذ والجذاذ والقطاف والقطاف.
فائدة: ينبغي لصاحب الحائط إذا أراد الجذاذ ألا يمنع المساكين من الدخول، وأن يتصدق عليهم لقوله تعالى في ذم أصحاب أهل الجنة المذكورة في سورة القلم {إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} ، والعلم عند الله تعالى قوله تعالى: {قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحً} . هذه الآية الكريمة صريحة في أنه لم يحرم من المطعومات إلا هذه الأربعة المذكورة فيها، التي هي: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، ولكنه تعالى بين في بعض المواضع تحريم غير المذكورات كتصريحه بتحريم الخمر في سورة المائدة بقوله تعالى {يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلاٌّنصَابُ وَٱلاٌّزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
وقال بعض العلماء لا يحرم مطعوم إلا هذه الأربعة المذكورة، وهو قول يروى عن ابن عمر وابن عباس وعائشة قال القرطبي: ويروى عنهم أيضاً خلافه، وقال البخاري في صحيحه: حدثنا علي بن عبد الله. حدثنا سفيان. قال عمرو: قلت لجابر بن زيد: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية فقال: «قد كان يقول ذلك الحُكم ابن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس، وقرأ {قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمً} اهـ. وقال ابن خويز منداد من المالكية: تضمنت هذه الآية تحليل كل شيء من الحيوان وغيره إلا ما استثنى في الآية من الميتة، والدم، ولحم الخنزير.
ولهذا قلنا: إن لحوم السباع وسائر الحيوان ما سوى الإنسان، والخنزير مباحة.
وقال القرطبي: روي عن عائشة وابن عباس وابن عمر إباحة أكل لحوم السباع، والحمر، والبغال، وذكر حديث البخاري الذي قدمنا آنفاً.
ثم قال: وروي عن ابن عمر أنه سئل عن لحوم السباع فقال: لا بأس بها. فقيل له حديث أبي ثعلبة الخشني. فقال: لا ندع كتاب ربنا لحديث أعرابي يبول على ساقيه.
وسئل الشعبي عن لحم الفيل، والأسد. فتلا هذه الآية.
وقال القاسم: كانت عائشة تقول: لما سمعت الناس يقولون حرم كل ذي ناب من السباع. ذلك حلال. وتتلو هذه الآية:
{قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ} .
قال مقيده: ـ عفا الله عنه ـ اعلم أنا نريد في هذا المبحث أن نبين حجة من قال بعدم تحريم لحوم السباع والحمير ونحوها، وحجة من قال بمنعها، ثم نذكر الراجح بدليله.
واعلم أولاً: أن دعوى أنه لا يحرم مطعوم غير الأربعة المذكورة في هذه الآية باطلة. بإجماع المسلمين لإجماع جميع المسلمين، ودلالة الكتاب والسنة على تحريم الخمر فهو دليل قاطع على تحريم غير الأربعة.
ومن زعم أن الخمر حلال لهذه الآية. فهو كافر بلا نزاع بين العلماء، وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الذين استدلوا بهذه الآية على عدم تحريم ما ذكر قالوا: إن الله حصر المحرمات فيها في الأربعة المذكورة، وحصرها أيضاً في النحل فيها في قوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلْدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ} لأن إنما أداة حصر عند الجمهور، والنحل بعد الأنعام، بدليل قوله في النحل {وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} . والمقصوص المحال عليه هو المذكور في الأنعام في قوله {وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} ، ولأنه تعالى قال في الأنعام: {سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَ} . ثم صرح في النحل بأنهم قالوا ذلك بالفعل في قوله: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ نَّحْنُ وَلاۤ ءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ} . فدل ذلك على أن النحل بعد الأنعام، وحصر التحريم أيضاً في الأربعة المذكورة في سورة البقرة في قوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ} فقالوا: هذا الحصر السماوي الذي ينزل به الملك مرة بعد مرة في مكة في الأنعام، والنحل، وفي المدينة عند تشريع الأحكام في البقرة لا يمكننا معارضته، ولا إخراج شيء منه إلا بدليل قطعي المتن. متواتر كتواتر القرآن العظيم.
فالخمر مثلاً دل القرآن على أنها محرمة فحرمناها، لأن دليلها قطعي. أما غيرها، كالسباع والحمر والبغال: فأدلة تحريمها أخبار آحاد يقدم عليها القاطع وهو الآيات المذكورة آنفاً.
تنبيه
اعلم أن ما ذكره القرطبي وغيره من أن زيادة تحريم السباع والحمر مثلاً بالسنة على الأربعة المذكورة في الآيات ـ كزيادة التغريب بالسنة على جلد الزاني مائة الثابت بالقرآن ـ وزيادة الحكم بالشاهد واليمين في الأموال الثابت بالسنة على الشاهدين، أو الشاهد والمرأتين المذكور في قوله تعالى: {لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن} . غير ظاهر عندي. لوضوح الفرق بين الأمرين، لأن زيادة التغريب والحكم بالشاهد واليمين على آية: {ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَ} . في الأول، وآية: {لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن}. في الثاني زيادة شيء لم يتعرض له القرآن بنفي ولا إثبات، ومثل هذه الزيادة لا مانع منه عند جمهور العلماء، لأن الزيادة على النص ليست نسخاً له عند الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة ـ رحمه الله.
وبناء على ذلك منع التغريب والحكم بالشاهد واليمين، لأن الزيادة عنده نسخ، والقرآن لا ينسخ بأخبار الآحاد، لأنه قطعي المتن وليست كذلك، أما زيادة محرم آخر على قوله: {وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى} . فليست زيادة شيء سكت عنه القرآن كالأول، وإنما هي زيادة شيء نفاه القرآن لدلالة الحصر القرآني على نفي التحريم عن غير الأربعة المذكورة، وبين الأمرين فرق واضح، وبه تعلم أن مالكاً ـ رحمه الله ـ ليس ممن يقول: بأن الزيادة على النص نسخ، اللهم إلا إذا كانت الزيادة أثبتت ما كان منفياً بالنص قبلها، فكونها إذن ناسخة واضح، وهناك نظر آخر، قال به بعض العلماء: وهو أن إباحة غير الأربعة المذكورة من الإباحة العقلية المعروفة عند أهل الأصول بالبراءة الأصلية، وهي استصحاب العدم الأصلي، لأن الأصل عدم تحريم شيء إلا بدليل، كما قاله جمع من أهل الأصول.
وإذا كانت إباحته عقلية: فرفعها ليس بنسخ حتّى يشترط في ناسخها التواتر، وعن ابن كثير في تفسيره هذا القول بعدم النسخ للأكثرين من المتأخرين.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ وكونه نسخاً أظهر عندي، لأن الحصر في الآية يفهم منه إباحة ما سوى الأربعة شرعاً فتكون إباحة شرعية لدلالة القرآن عليها، ورفع الإباحة الشرعية نسخ بلا خلاف، وأشار في (مراقي السعود) إلى أن الزيادة التي لا تناقض الحكم الأول ليست نسخاً بقوله: وليس نسخاً كل ما أفادا فيما رسا بالنص الازديادا

وهذا قول جمهور العلماء، ووجهوه بعدم منافاة الزيادة للمزيد وما لا ينافي لا يكون ناسخاً، وهو ظاهر.
واعلم أن مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ اختلفت عنه الرواية في لحوم السباع، فروي عنه أنها حرام، وهذا القول هو الذي اقتصر عليه في الموطأ: لأنه ترجم فيه بتحريم أكل كل ذي ناب من السباع، ثم ساق حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه بإسناده عن النَّبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع» ثم ساق بإسناده حديث أبي هريرة مرفوعاً:
«أكل كل ذي ناب من السباع حرام» ثم قال: وهو الأمر عندنا وهذا صريح في أن الصحيح عنده تحريمها، وجزم القرطبي بأن هذا هو الصحيح من مذهبه، وروي عنه أيضاً أنها مكروهة وهو ظاهر المدونة وهو المشهور عند أهل مذهبه، ودليل هذا القول هو الآيات التي ذكرنا، ومن جملتها الآية التي نحن بصددها.
وما روى عن ابن عباس وابن عمر وعائشة من إباحتها، وهو قول الأوزاعي. قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ الذي يظهر رجحانه بالدليل هو ما ذهب إليه الجمهور من أن كل ما ثبت تحريمه بطريق صحيحة من كتاب أو سنة فهو حرام، ويزاد على الأربعة المذكورة في الآيات، ولا يكون في ذلك أي مناقضة للقرآن لأن المحرمات المزيدة عليها حرمت بعدها.
وقد قرر العلماء أنه لا تناقض يثبت بين القضيتين إذا اختلف زمنهما لاحتمال صدق كل منهما في وقتها، وقد اشترط عامة النظار في التناقض: اتحاد الزمان، لأنه إن اختلف جاز صدق كل منهما في وقتها، كما لو قلت: لم يستقبل بيت المقدس قد استقبل بيت المقدس، وعنيت بالأولى ما بعد النسخ، وبالثانية ما قبله، فكلتاهما تكون صادقة، وقد أشرت في أرجوزتي في فن المنطق إلى أنه يشترط في تناقض القضيتين اتحادهما فيما سوى الكيف. أعني الإيجاب والسلب، من زمان ومكان، وشرط وإضافة، وقوة وفعل، وتحصيل وعدول، وموضوع ومحمول، وجزء وكل، بقولي:
والاتحاد لازم بينهما فيما سوى الكيف كشرط علما
والجزء والكل مع المكان والفعل والقوة والزمان
إضافة تحصيل أو عدول ووحدة الموضوع والمحمول

فوقت نزول الآيات المذكورة لم يكن حراماً غير الأربعة المذكورة، فحصرها صادق قبل تحريم غيرها بلا شك، فإذا طرأ تحريم شيء آخر بأمر جديد. فذلك لا ينافي الحصر الأول لتجدده بعده، وهذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى، وبه يتضح أن الحق جواز نسخ المتواتر بالسنة الصحيحة الثابت تأخرها عنه، وإن منعه أكثر أهل الأصول.
وإذا عرفت ذلك: فسنفصل لك إن شاء الله تعالى المحرمات التي حرمت بعد هذا، وأقوال العلماء فيها.
فمن ذلك كل ذي ناب من السباع، فالتحقيق تحريمه لما قدمنا من حديث أبي هريرة، وأبي ثعلبة الخشني من النهي عنها، وتحريمها، أما حديث أبي ثعلبة، فمتفق عليه، وأما حديث أبي هريرة، فقد أخرجه مسلم في صحيحه عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: بلفظ «كل ذي ناب من السباع، فأكله حرام».
والأحاديث في الباب كثيرة، وبه تعلم أن التحقيق هو تحريم أكل كل ذي ناب من السباع.
والتحقيق أن أكل كل ذي مخلب من الطير منهي عنه، ولا عبرة بقول من قال من المالكية وغيرهم: أنه لم يثبت النهي عنه، عنه صلى الله عليه وسلم، لما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم: «نهى عن كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير» اهـ.
فقرن في الصحيح بما صرح بأنه حرام مع أن كلاً منهما ذو عداء وافتراس، فدل كل ذلك على أنه منهي عنه.
والأصل في النهي التحريم، وبتحريم ذي الناب من السباع، وذي المخلب من الطير. قال جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة وداود.
وقد قدمنا أنه الصحيح عن مالك في السباع، وأن مشهور مذهبه الكراهة، وعنه قول بالجواز وهو أضعفها، والحق التحريم لما ذكرنا.
ومن ذلك الحمر الأهلية، فالتحقيق أيضاً أنها حرام، وتحريمها لا ينبغي أن يشك فيه منصف: لكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة بتحريمها، وقد روى البخاري ومسلم تحريمها من حديث علي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، وسلمة بن الأكوع، وعبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، وعبد الله بن أبي أوفى، وأنس، وأبي ثعلبة الخشني رضي الله عنهم، وأحاديثهم دالة دلالة صريحة على التحريم، فلفظ حديث أبي ثعلبة عند البخاري، ومسلم: «حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية» وهذا صريح صراحة تامة في التحريم، ولفظ حديث أنس عندهما أيضاً «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس»، وفي رواية لمسلم «فإنها رجس من عمل الشيطان» وفي رواية له أيضاً «فإنها رجس أو نجس».
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ حديث أنس هذا المتفق عليه الذي صرح فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لحوم الحمر الأهلية رجس. صريح في تحريم أكلها، ونجاسة لحمها، وأن علة تحريمها ليست لأنها لم يخرج خمسها، ولا أنها حمولة كما زعمه بعض أهل العلم. والله تعالى أعلم ـ.
ولا تعارض هذه الأحاديث الصحيحة المتفق عليها بما رواه أبو داود من حديث غالب بن أبجر المزني رضي الله عنه قال: أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله: أصابتنا السنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، وإنك حرمت الحمر الأهلية فقال: «أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية» اهـ.
والجوال: جمع جالة، وهي التي تأكل الجلة، وهي في الأصل البعر، والمراد به هنا أكل النجاسات كالعذرة.
قال النووي في شرح المهذب: اتفق الحفاظ على تضعيف هذا الحديث.
قال الخطابي: والبيهقي: هو حديث يختلف في إسناده. يعنون مضطرباً، وما كان كذلك لا تعارض به الأحاديث المتفق عليها.
وأما البغال فلا يجوز أكلها أيضاً. لما رواه أحمد والترمذي من حديث جابر قال: «حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ـ يعني يوم خيبر ـ لحوم الحمر الإنسية، ولحوم البغال، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطَّير» أصل حديث جابر هذا في الصحيحين كما تقدم. وهو بهذا اللفظ: بسند لا بأس به. قاله ابن حجر والشوكاني.
وقال ابن كثير في تفسيره: وروى الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين كل منهما على شرط مسلم عن جابر قال: «ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل»، وهو دليل واضح على تحريم البغال، ويؤيده أنها متولدة عن الحمير وهي حرام قطعاً. لصحة النصوص بتحريمها.
وأما الخيل فقد اختلف في جواز أكلها العلماء.
فمنعها مالك ـ رحمه الله ـ في أحد القولين، وعنه أنها مكروهة، وكل من القولين صححه بعض المالكية، والتحريم أشهر عندهم.
وقال أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ أكره لحم الخيل، وحمله أبو بكر الرازي على التنزيه. وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيها التحريم، وليست عنده كالحمار الأهلي.
وصحح عنه صاحب المحيط، وصاحب الهداية، وصاحب الذخيرة: التحريم، وهو قول أكثر الحنفية.
وممن رويت عنه كراهة لحوم الخيل الأوزاعي، وأبو عبيد وخالد بن الوليد رضي الله عنه، وابن عباس والحكم.
ومذهب الشافعي وأحمد ـ رحمهما الله تعالى ـ جواز أكل الخيل، وبه قال أكثر أهل العلم.
وممن قال به عبد الله بن الزبير، وفضالة بن عبيد، وأنس بن مالك، وأسماء بنت أبي بكر، وسويد بن غفلة، وعلقمة، والأسود، وعطاء، وشريح، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان، وإسحاق وأبو يوسف، ومحمد، وداود، وغيرهم.
كما نقله عنهم النووي، في «شرح المهذب» وسنبين ـ إن شاء الله ـ حجج الجميع وما يقتضي الدليل رجحانه.
اعلم أن من منع أكل لحم الخيل احتج بآية وحديث: أما الآية فقوله تعالى: {وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} . فقال: قد قال تعالى {وَٱلاٌّنْعَـٰمَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَـٰفِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} فهذه للأكل. وقال: {وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَ} فهذه للركوب لا للأكل، وهذا تفصيل من خلقها وامتن بها، وأكد ذلك بأمور:
أحدها: أن اللام للتعليل، أي خلقها لكم لعلة الركوب والزينة، لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر، فإباحة أكلها يقتضي خلاف ظاهر الآية.
ثانيها: عطف البغال والحمير عليها، فدل على اشتراكها معهما في حكم التحريم.
ثالثها: أن الآية الكريمة سيقت للامتنان، وسورة النحل تسمى سورة الامتنان. والحكيم لا يمتن بأدنى النعم، ويترك أعلاها، لاسيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها.
رابعها: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة.
وأما الحديث: فهو ما رواه الإمام أحمد وأبو داود، والنسائي وابن ماجه، عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: «نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لُحُوم الخيل والبغال والحَمِير».
ورد الجمهور الاستدلال بالآية الكريمة. بأن آية النحل نزلت في مكة اتفاقاً، والإذن في أكل الخيل يوم خيبر كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، فلو فهم النَّبي صلى الله عليه وسلم المنع من الآية لما أذن في الأكل، وأيضاً آية النحل ليست صريحة في منع أكل الخيل، بل فهم من التعليل، وحديث جابر، وحديث أسماء بنت أبي بكر المتفق عليهما. كلاهما صريح في جواز أكل الخيل. والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول.
وأيضاً فالآية على تسليم صحة دلالتها المذكورة، فهي إنما تدل على ترك الأكل، والترك أعم من أن يكون للتحريم أو للتنزيه، أو خلاف الأولى، وإذا لم يتعين واحد منها بقي التمسك بالأدلة المصرحة بالجواز.
وأيضاً فلو سلمنا أن اللام للتعليل، لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة. فإنه ينتفع بالخيل في غيرهما، وفي غير الأكل اتفاقاً، وإنما ذكر الركوب والزينة لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل.
ونظيره حديث البقرة المذكور في الصحيحين حين خاطبت راكبها فقالت: «إنا لَم نخلق لهذا. إنا خلقنا للحرث» فإنه مع كونه أصرح في الحصر لم يقصد به إلا الأغلب، وإلا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقاً. وأيضاً فلو سلم الاستدلال المذكور للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير للحصر المزعوم في الركوب والزينة. ولا قائل بذلك.
وأما الاستدلال بعطف الحمير والبغال عليها. فهو استدلال بدلالة الاقتران، وقد ضعفها أكثر العلماء من أهل الأصول. كما أشار له في (مراقي السعود) بقوله: أما قران اللفظ في المشهور فلا يساوي في سوي المذكور

وأما الاستدلال بأن الآية الكريمة سيقت للامتنان: فيجاب عنه بأنه قصد به ما كان الانتفاع به أغلب عند العرب. فخوطبوا بما عرفوا وألفوا، ولم يكونوا يألفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم، وشدة الحاجة إليها في القتال، بخلاف الأنعام: فأكثر انتفاعهم بها كان لحمل الأثقال، وللأكل. فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به فيه.
فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق للزم مثله في الشق الآخر كما قدمنا.
وأما الاستدلال بأن الإذن في أكلها. سبب لفنائها وانقراضها:
فيجاب عنه: بأنه أذن في أكل الأنعام لئلا تنقرض، ولو كان الخوف عن ذلك علة لمنع في الأنعام لئلا تنقرض، فيتعطل الانتفاع بها في غير الأكل.
قاله ابن حجر، وأما الاستدلال بحديث خالد بن الوليد رضي الله عنه: فهو مردود من وجهين:
الأول: أنه ضعفه علماء الحديث. فقد قال ابن حجر في (فتح الباري) في باب «لحوم الخيل» ما نصه: «وقد ضعف حديث خالد أحمد والبخاري وموسى بن هارون، والدارقطني، والخطابي، وابن عبد البر، وعبد الحق، وآخرون.
وقال النووي: في «شرح المهذب» واتفق العلماء من أئمة الحديث وغيرهم. على أن حديث خالد المذكور حديث ضعيف، وذكر أسانيد بعضهم بذلك. وحديث خالد المذكور مع أنه مضطرب. في إسناده صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب. ضعفه غير واحد، وقال فيه ابن حجر في «التقريب»: لين. وفيه أيضاً: والده يحيى المذكور الذي هو شيخه في هذا الحديث. قال فيه في «التقريب»: مستور.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا عدم ضعف حديث خالد. فإنه معارض بما هو أقوى منه كحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخص في لحوم الخيل»، وفي لفظ في الصحيح «وأذن في لحوم الخيل»، وكحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها قالت: «نحرنا فرساً علىٰ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه» متفق عليهما.
ولا شك في أنهما أقوى من حديث خالد، وبهذا كله تعلم أن الذي يقتضي الدليل الصريح رجحانه إباحة أكل لحم الخيل، والعلم عند الله تعالى، ولا يخفى أن الخروج من الخلاف أحوط، كما قال بعض أهل العلم. وإن الأورع الذي يخرج من خلافهم ولو ضعيفاً فاستبن

ومن ذلك الكلب: فإن أكله حرام عند عامة العلماء، وعن مالك قول ضعيف جداً بالكراهة.
ولتحريمه أدلة كثيرة. منها: ما تقدم في ذي الناب من السباع. لأن الكلب سبع ذو ناب، ومنها أنه لو جاز أكله لجاز بيعه، وقد ثبت النهي عن ثمنه في الصحيحين من حديث أبي مسعود الأنصاري، مقروناً بحلوان الكاهن، ومهر البغي، وأخرجه البخاري من حديث أبي جحيفة، وأخرجه مسلم من حديث رافع بن خديج، رضي الله عنه، بلفظ «ثمن الكلب خبيث» الحديث. وذلك نص في التحريم لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَـٰئِثَ} .
فإن قيل: ما كل خبيث يحرم لما ورد في الثوم أنه خبيث، وفي كسب الحجام أنه خبيث. مع أنه لم يحرم واحد منهما.
فالجواب: أن ما ثبت بنص أنه خبيث كان ذلك دليلاً على تحريمه، وما أخرجه دليل يخرج، ويبقى النص حجة فيما لم يقم دليل على إخراجه، كما هو الحكم في جل عمومات الكتاب، والسنة يخرج منها بعض الأفراد بمخصص، وتبقى حجة في الباقي. وهذا مذهب الجمهور، وإليه أشار في (مراقي السعود) بقوله: وهو حجة لدى الأكثر إن مخصص له معيناً يبن

فإن قيل: تحريم الخبائث لعلة الخبث، وإذا وجد خبيث غير محرم كان ذلك نقضاً في العلة لا تخصيصاً لها.
فالجواب: أن أكثر العلماء على أن النقض تخصيص للعلة، لا إبطال لها. قال في (مراقي السعود): منها وجود الوصف دون الحكم سماه بالنقض وعاة العلم
والأكثرون عندهم لا يقدح بل هو تخصيص وذا مصحح

إلخ... كما حررناه في غير هذا الموضع.
ومن الأدلة على تحريم الكلب: ما ثبت في الصحيحين من الأحاديث الصريحة في تحريم اقتنائه، وأن اقتناءه ينقص أجر مقتنيه كل يوم، فلو كان أكله مباحاً، لكان اقتناؤه مباحاً.
وإنما رخص صلى الله عليه وسلم، في كلب الصيد، والزرع، والماشية للضرورة. فمن ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ كلباً إلا كلب صيد، أو زرع، أو ماشية انتقص من أَجره كل يوم قيراط»، ومنه أيضاً ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث سفيان بن أبي زهير الشنائي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «من اقتنى كلباً لا يغنى عنه زرعاً، ولا ضرعاً نقص من عمله كل يوم قيراط»، ورواه البخاري عن ابن عمر بثلاث طرق بلفظ «نقص كل يوم من عمله قيراطان»، وأخرجه مسلم أيضاً عن ابن عمر من طرق: في بعضها قيراط، وفي بعضها قيراطان.
والأحاديث في الباب كثيرة وهذا أوضح دليل على أن الكلب لا يجوز أكله، إذ لو جاز أكله لجاز اقتناؤه للأكل وهو ظاهر، ومن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن المغفل، رضي الله عنهم. من أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ولو كانت مباحة الأكل لما أمر بقتلها، ولم يرخص صلى الله عليه وسلم فيها إلا لضرورة الصيد، أو الزرع، أو الماشية.
وإذا عرفت أن في كلب الصيد، وما ذكر معه بعض المنافع المباحة، كالانتفاع بصيده، أو حراسته الماشية، أو الزرع، فاعلم أن العلماء اختلفوا في بيعه.
فمنهم من قال: بيعه تابع للحمه، ولحمه حرام، فبيعه حرام، وهذا هو أظهر الأقوال دليلاً لما قدمنا من أن ثمن الكلب خبيث، وأن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه مقروناً بحلوان الكاهن، ومهر البغي، وهو نص صحيح صريح في منع بيعه.
ويؤيده ما رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب»، وقال: إن جاء يطلب ثمن الكلب، فاملأ كفه تراباً.
قال النووي في (شرح المهذب):، وابن حجر في (الفتح): إسناده صحيح، وروى أبو داود أيضاً من حديث أبي هريرة مرفوعاً: «لا يحل ثمن الكلب، ولا حلوان الكاهن، ولا مهر البغي». قال ابن حجر في (الفتح): إسناده حسن، وقال النووي في (شرح المهذب): إسناده حسن صحيح.
وإذا حققت ذلك، فاعلم أن القول بمنع بيع الكلب الذي ذكرنا أنه هو الحق. عام في المأذون في اتخاذه وغيره لعموم الأدلة، وممن قال بذلك: أبو هريرة، والحسن البصري، والأوزاعي، وربيعة، والحكم، وحماد، والشافعي، وأحمد، وداود، وابن المنذر وغيرهم، وهو المشهور الصحيح من مذهب مالك. خلافاً لما ذكره القرطبي في (المفهم) من أن مشهور مذهبه الكراهة، وروي عن مالك أيضاً جواز بيع كلب الصيد. ونحوه دون الذي لم يؤذن في اتخاذه، وهو قول سحنون. لأنه قال: أبيع كلب الصيد وأحج بثمنه.
وأجاز بيعه أبو حنيفة مطلقاً إن كانت فيه منفعة من صيد، أو حراسة لماشية مثلا، وحكي نحوه ابن المنذر عن جابر، وعطاء، والنخعي قاله النووي.
وإن قتل الكلب المأذون فيه ككلب الصيد، ففيه القيمة عند مالك، ولا شيء فيه عند أحمد والشافعي، وأوجبها فيه أبو حنيفة مطلقاً إن كانت فيه منفعة.
وحجة من قال لا قيمة فيه: أن القيمة ثمن والنص الصحيح نهى عن ثمن الكلب، وجاء فيه التصريح بأن طالبه تملأ كفه تراباً، وذلك أبلغ عبارة في المنع منه.
واحتج من أوجبها بأنه فوت منفعة جائزة فعليه غرمها.
واحتج من أجاز بيع الكلب، وألزم قيمته إن قتل بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيد»،وعن عمر رضي الله عنه أنه غرم رجلاً عن كلب قتله عشرين بعيراً وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهماً، وقضى في كلب ماشية بكبش.
واحتجوا أيضاً بأن الكلب المأذون فيه تجوز الوصية به والانتفاع به فأشبه الحمار.
وأجاب الجمهور بأن الأحاديث والآثار المروية في جواز بيع كلب الصيد ولزوم قيمته كلها ضعيفة:
قال النووي في «شرح المهذب» ما نصه «وأما الجواب عما احتجوا به من الأحاديث والآثار فكلها ضعيفة باتفاق المحدثين»، وهكذا أوضح الترمذي والدارقطني والبيهقي ضعفها، والاحتجاج بجواز الوصية به وشبهه بالحمار مردود بالنصوص الصحيحة المصرحة بعدم حلية ثمنه، وما ذكره ابن عاصم المالكي في «تحفته» من قوله: واتفقوا أن كلاب البادية يجوز بيعها ككلب الماشية

فقد رده عليه رحمه الله علماء المالكية، وقد قدمنا أنه قول سحنون.
واعلم أن ما روي عن جابر وابن عمر مرفوعاً مما يدل على جواز بيع كلب الصيد كله ضعيف كما بين تضعيفه ابن حجر في (فتح الباري) في باب «ثمن الكلب».
قال القرطبي: وقد زعم ناس أنه لم يكن في العرب من يأكل لحم الكلب إلا قوم من فقعس.
ومن ذلك القرد: فإنه لا يجوز أكله، قال القرطبي في تفسيره: قال أبو عمر يعني ابن عبد البر: أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أكل القرد لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله، ولا يجوز بيعه لأنه لا منفعة فيه.
قال: وما علمت أحداً رخص في أكله إلا ما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن أيوب سئل مجاهد عن أكل القرد فقال: ليس من بهيمة الأنعام. قلت: ذكر ابن المنذر أنه قال: روينا عن عطاء أنه سئل عن القرد يقتل في الحرم. قال: يحكم به ذوا عدل. قال: فعلى مذهب عطاء يجوز أكل لحمه لأن الجزاء لا يجب على من قتل غير الصيد، وفي «بحر المذهب» للروياني على مذهب الشافعي.
وقال الشافعي: يجوز بيع القرد لأنه يعلم وينتفع به لحفظ المتاع اهـ.
وقال النووي في «شرح المهذب»: القرد حرام عندنا، وبه قال عطاء وعكرمة ومجاهد، ومكحول والحسن وابن حبيب المالكي.
وقال ابن قدامة في (المغني): وقال ابن عبد البر: لا أعلم بين علماء المسلمين خلافاً أن القرد لا يؤكل ولا يجوز بيعه، وروي عن الشعبي: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن لحم القرد»، ولأنه سبع، فيدخل في عموم الخبر، ولأنه مسخ أيضاً فيكون من الخبائث المحرمة.
وقد قدمنا جزم ابن حبيب، وابن عبد البر من المالكية: بأنه حرام، وقال الباجي: الأظهر عندي من مذهب مالك وأصحابه. أنه ليس بحرام.
ومن ذلك الفيل: فالظاهر فيه أنه من ذوات الناب من السباع، وقد قدمنا أن التحقيق فيها التحريم لثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب الجمهور.
وممن صححه من المالكية: ابن عبد البر والقرطبي.
وقال بعض المالكية كراهته أخف من كراهة السبع، وأباحه أشهب، وعن مالك في المدونة كراهة الانتفاع بالعاج: وهو سن الفيل.
وقال ابن قدامة في (المغني): والفيل محرم. قال أحمد: ليس هو من أطعمة المسلمين، وقال الحسن: هو مسخ وكرهه أبو حنيفة، والشافعي، ورخص في أكله الشعبي، ولنا نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وهو من أعظمها ناباً، ولأنه مستخبث فيدخل في عموم الآية المحرمة للخبائث اهـ.
وقال النووي في شرح المهذب: الفيل حرام عندنا، وعند أبي حنيفة والكوفيين، والحسن. وأباحه الشعبي، وابن شهاب، ومالك في رواية.
وحجة الأولين أنه ذو ناب اهـ.
ومن ذلك الهر، والثعلب، والدب: فهي عند مالك من ذوات الناب من السباع. وعنه رواية أخرى أنها مكروهة كراهة تنزيه، ولا تحريم فيها قولاً واحداً. والهر الأهلي والوحشي عنده سواء.
وفرق بينهما غيره من الأئمة كالشافعي وأحمد وأبي حنيفة: فمنعوا الأهلي:
قال ابن قدامة في (المغني): فأما الأهلي فمحرم في قول إمامنا ومالك وأبي حنيفة والشافعي:
وقد روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أكل الهر، وقال ابن قدامة في (المغني) أيضاً:
واختلفت الرواية في الثعلب: فأكثر الروايات عن أحمد تحريمه. وهذا قول أبي هريرة ومالك وأبي حنيفة لأنه سبع، فيدخل في عموم النهي، ونقل عن أحمد إباحته، واختاره الشريف أبو جعفر، ورخص فيه عطاء وطاوس وقتادة والليث، وسفيان بن عيينة والشافعي، لأنه يفدى في الإحرام والحرم إلى أن قال: واختلفت الرواية عن أحمد في سنور البر، والقول فيه كالقول في الثعلب.
وحكى النووي: اتفاق الشافعية على إباحة الثعلب. وقال صاحب (المهذب): وفي سنور الوحش وجهان:
أحدهما: لا يحل. لأنه يصطاد بنابه فلم يحل كالأسد والفهد.
والثاني: يحل. لأنه حيوان يتنوع إلى حيوان وحشي وأهلي، فيحرم الأهلي منه، ويحل الوحشي كالحمار.
وأما الدب: فهو سبع ذو ناب عند مالك والشافعي، وأصحاب أبي حنيفة. وقال أحمد: إن كان الدب ذا ناب منع أكله، وإن لم يكن ذا ناب فلا بأس بأكله.
واختلف العلماء في جواز أكل الضبع: وهو عند مالك كالثعلب. وقد قدمنا عنه أنه سبع في رواية، وفي أخرى أنه مكروه، ولا قول فيه بالتحريم، والأحاديث التي قدمناها في سورة المائدة بأن الضبع صيد تدل على إباحة أكلها، وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يأكل الضباع. قاله القرطبي، ورخص في أكلها الشافعي وغيره، وقال البيهقي في السنن الكبرى: قال الشافعي: وما يباع لحم الضباع بمكة إلا بين الصفا والمروة.
وحجة مالك في مشهور مذهبه: أن الضبع من جملة السباع، فيدخل في عموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، ولم يخص سبعاً منها عن سبع، قال القرطبي: وليس حديث الضبع الذي خرجه النسائي في إباحة أكلها مما يعارض به حديث النهي: لأنه حديث انفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار، وليس مشهوراً بنقل العلم ولا ممن يحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه. قال أبو عمر: وقد روي النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من طرق متواترة، روى ذلك جماعة من الأئمة الثقات الأثبات، ومحال أن يعارضوا بمثل حديث ابن أبي عمار اهـ.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ للمخالف أن يقول أحاديث النهي عامة في كل ذي ناب من السباع، ودليل إباحة الضبع خاص، ولا يتعارض عام وخاص: لأن الخاص يقضي على العام فيخصص عمومه به كما هو مقرر في الأصول.
ومن ذلك القنفذ: فقد قال بعض العلماء بتحريمه، وهو مذهب الإمام أحمد، وأبي هريرة، وأجاز أكله الجمهور. منهم مالك والشافعي والليث وأبو ثور وغيرهم.
واحتج من منعه بما رواه أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة أنه قال: ذكر القنفذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: «هو خبيث من الخبائث».
واحتج من أباحه ـ وهم الجمهور ـ بأن الحديث لم يثبت، ولا تحريم إلا بدليل. قال البيهقي في السنن الكبرى: ـ بعد أن ساق حديث أبي هريرة المذكور في خبث القنفذ ـ هذا حديث لم يرو إلا بهذا الإسناد، وهو إسناد فيه ضعف.
وممن كره أكل القنفذ. أبو حنيفة وأصحابه. قاله القرطبي وغيره.
ومن ذلك حشرات الأرض، كالفأرة، والحيات، والأفاعي، والعقارب، والخنفساء: والعظاية، والضفادع، والجرذان، والوزغ، والصراصير، والعناكب، وسام أبرص، والجعلان، وبنات، وردان، والديدان، وحمار قبان، ونحو ذلك.
فجمهور العلماء على تحريم أكل هذه الأشياء لأنها مستخبثة طبعاً، والله تعالى يقول: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَـٰئِثَ} .
وممن قال بذلك الشافعي وأبو حنيفة، وأحمد وابن شهاب وعروة وغيرهم ـ رحمهم الله تعالى ـ.
ورخص في أكل ذلك: مالك، واشتراط في جواز أكل الحيات أن يؤمن سمها.
وممن روي عنه الترخيص في أكل الحشرات، الأوزاعي، وابن أبي ليلى، واحتجوا بما رواه أبو داود والبيهقي، من حديث ملقام بن تلب، عن أبيه تلبِّ بن ثعلبة بن ربيعة التميمي العنبري، رضي الله عنه قال: صحبت النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلم أسمع لحشرة الأرض تحريماً.
واحتجوا أيضاً بأن الله حرم أشياء، وأباح أشياء، فما حرم فهو حرام، وما أباح فهو مباح، وما سكت عنه فهو عفو.
وقالت عائشة، رضي الله عنها في الفأرة: ما هي بحرام، وقرأت قوله تعالى: {قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمً} .
ويجاب عن هذا بأن ملقام بن تلبّ مستور لا يعرف حاله، وبأن قول أبيه تلبّ بن ثعلبة، رضي الله عنه، لم أسمع لحشرة الأرض تحريماً لا يدل على عدم تحريمها، كما قاله الخطابي، والبيهقي. لأن عدم سماع صحابي لشيء لا يقتضي انتفاءه كما هو معلوم، وبأنه تعالى لم يسكت عن هذا. لأنه حرم الخبائث، وهذه خبائث لا يكاد طبع سليم يستسيغها، فضلاً عن أن يستطيبها، والذين يأكلون مثل هذه الحشرات من العرب، إنما يدعوهم لذلك شدة الجوع، كما قال أحد شعرائهم:
أكلنا الربى يا أم عمرو ومن يكن غريباً لديكم يأكل الحشرات

والربى جمع ربية، وهي الفأرة. قاله القرطبي، وفي اللسان أنها دويبة بين الفأرة وأم حبين، ولتلك الحاجة الشديدة لما سئل بعض العرب عما يأكلون. قال: كل ما دب ودرج، إلا أم حبين، فقال: لتهن أم حبين العافية.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أباح قتل الفأرة، وما ذكر معها من الفواسق، فدل ذلك على عدم إباحتها.
واعلم أن ما ذكره بعض أهل العلم كالشافعي. من أن كل ما يستخبثه الطبع السليم من العرب الذين نزل القرآن عليهم في غير حال ضرورة الجوع حرام. لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَـٰئِثَ} . استدلال ظاهر لا وجه لما رده به أهل الظاهر من أن ذلك أمر لا يمكن أن يناط به حكم. لأنه لا ينضبط. لأن معنى الخبث معروف عندهم، فما اتصف به فهو حرام، للآية.
ولا يقدح في ذلك النص على إباحة بعض المستخبثات، كالثوم. لأن ما أخرجه الدليل يخصص به عموم النص، ويبقى حجة فيما لم يخرجه دليل، كما قدمنا.
ويدخل فيه أيضاً كل ما نص الشرع على أنه خبيث، إلا لدليل يدل على إباحته، مع إطلاق اسم الخبث عليه.
واستثنى بعض أهل العلم من حشرات الأرض الوزغ، فقد ادعى بعضهم الإجماع على تحريمه، كما ذكره ابن قدامة في (المغني) عن ابن عبد البر.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: ويدل له حديث أم شريك المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأوزاغ، وكذلك روى الشيخان أيضاً عن حديث سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، موصولاً عند مسلم، ومحتملاً للإرسال عند البخاري، فإن قوله: وزعم سعد بن أبي وقاص أنه أمر بقتله، محتمل لأن يكون من قول عائشة، ومحتمل لأن يكون من قول عروة، وعليهما، فالحديث متصل، ويحتمل أن يكون من قول الزهري، فيكون منقطعاً، واختاره ابن حجر في (الفتح)، وقال: كأن الزهري وصله لمعمر، وأرسله ليونس. اهـ، ومن طريق يونس رواه البخاري، ومن طريق معمر رواه مسلم، وروى مسلم في (صحيحه) من حديث أبي هريرة مرفوعاً، الترغيب في قتل الوزغ، وكل ذلك يدل على تحريمه.
واختلف العلماء أيضاً في ابن آوى: وابن عرس: فقال بعض العلماء: بتحريم أكلهما، وهو مذهب الإمام أحمد، وأبي حنيفة ـ رحمهما الله تعالى ـ قال في (المغني): سئل أحمد عن ابن آوى، وابن عرس. فقال: كل شيء ينهش بأنيابه من السباع، وبهذا قال أبو حنيفة، وأصحابه اهـ.
ومذهب الشافعي ـ رحمه الله ـ الفرق بينهما، فابن عرس حلال عند الشافعية بلا خلاف، لأنه ليس له ناب قوي، فهو كالضب، واختلف الشافعية في ابن آوى.
فقال بعضهم: يحل أكله، لأنه لا يتقوى بنابه فهو كالأرنب.
والثاني: لا يحل. لأنه مستخبث كريه الرائحة، ولأنه من جنس الكلاب، قاله النووي، والظاهر من مذهب مالك كراهتهما.
وأما الوبر، واليربوع، فأكلهما جائز عند مالك وأصحابه. وهو مذهب الشافعي، وعليه عامة أصحابه، إلا أن في الوبر وجهاً عندهم بالتحريم.
وقد قدمنا أن عمر أوجب في اليربوع جفرة، فدل ذلك على أنه صيد، ومشهور مذهب الإمام أحمد أيضاً جواز أكل اليربوع، والوبر.
وممن قال بإباحة الوبر عطاء: وطاوس، ومجاهد، وعمرو بن دينار، وابن المنذر، وأبو يوسف.
وممن قال بإباحة اليربوع أيضاً: عروة، وعطاء الخراساني، وأبو ثور، وابن المنذر، كما نقله عنهم صاحب (المغني). وقال القاضي من الحنابلة بتحريم الوبر، قال: في (المغني)، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، إلا أبا يوسف، وقال أيضاً: إن أبا حنيفة. قال: في اليربوع أيضاً هو حرام، وروي ذلك عن أحمد أيضاً، وعن ابن سيرين والحكم، وحماده. لأنه يشبه الفأر، ونقل النووي في (شرح المهذب) عن صاحب البيان عن أبي حنيفة تحريم الوبر، واليربوع، والضب، والقنفذ، وابن عرس.
وممن قال بإباحة الخلد والضربوب مالك وأصحابه.
وأما الأرنب: فالتحقيق أن أكلها مباح لما ثبت في الصحيحين عن أنس، رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم «أهدي له عضو من أرنب فقبله»، وفي بعض الروايات «فأكل منه»، وقال ابن قدامة: في (المغني) أكل الأرنب سعد بن أبي وقاص، ورخص فيها أبو سعيد، وعطاء، وابن المسيب، والليث، ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر. ولا نعلم أحداً قائلاً بتحريمها، إلا شيئاً روي عن عمرو بن العاص. اهـ.
وأما الضب: فالتحقيق أيضاً جواز أكله لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا أو أطعموا فإنه حلال». وقال: «لا بأس به، ولكنه ليس من طعامي» يعني الضب، ولما ثبت أيضاً في الصحيحين من حديث خالد، رضي الله عنه: «أنه أكل ضباً في بيت ميمونة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه»، وقد قدمنا قول صاحب البيان عن أبي حنيفة بتحريم الضب.
ونقله في (المغني) عن أبي حنيفة أيضاً، والثوري تحريم الضب، ونقل عن علي النهي عنه، ولم نعلم لتحريمه مستنداً، إلا ما رواه مسلم في الصحيح من حديث جابر، رضي الله عنه، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «أتي بضب، فأبى أن يأكله» قال: «إني لا أدري لعله من القُرون الأُولى التي مسخت»، وأخرج مسلم نحوه أيضاً من حديث أبي سعيد مرفوعاً، فكأنه في هذا الحديث علل الامتناع منه باحتمال المسخ، أو لأنه ينهش، فأشبه ابن عرس، ولكن هذا لا يعارض الأدلة الصحيحة الصريحة التي قدمناها بإباحة أكله، وكان بعض العرب يزعمون أن الضب من الأمم التي مسخت، كما يدل له قول الزاجز:
قالت ـ وكنت رجلاً فطيناً ـ هذا ـ لعمر الله ـ إسرائينا

فإن هذه المرأة العربية أقسمت على أن الضب إسرائيلي مسخ.
وأما الجراد: فلا خلاف بين العلماء في جواز أكله، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى أنه قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد» اهـ.
وميتة الجراد من غير ذكاة حلال عند جماهير العلماء لحديث «أحلت لنا ميتتان ودَمان» الحديث.
وخالف مالك الجمهور، فاشترط في جواز أكله ذكاته، وذكاته عنده ما يموت به بقصد الزكاة، وهو معنى قول خليل بن إسحاق المالكي في مختصره، وافتقر نحو الجراد لها بما يموت به، ولو لم يعجل كقطع جناح.
واحتج له المالكية بعدم ثبوت حديث ابن عمر المذكور «أحلت لنا ميتتان» الحديث. لأن طرقه لا تخلو من ضعف في الإسناد، أو وقف، والأصل الاحتياج إلى الذكاة لعموم {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ} ، وقال ابن كثير في تفسير سورة المائدة. ما نصه وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أحل لنا ميتتان ودمان. فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال:» ، وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجه، والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف.
قال الحافظ البيهقي: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة، وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن ابن عمر مرفوعاً. قلت: وثلاثتهم كلهم ضعفاء، ولكن بعضهم أصلح من بعض، وقد رواه سليمان بن بلال أحد الأثبات، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر فوقفه بعضهم عليه. قال الحافظ أبو زرعة الرازي: وهو أصح. اهـ من ابن كثير، وهو دليل لما قاله المالكية، والله تعالى أعلم.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: لكن للمخالف أن يقول: إن الرواية الموقوفة على ابن عمر من طريق سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عنه صحيحة، ولها حكم الرفع. لأن قول الصحابي: أحل لنا، أو حرم علينا له حكم الرفع. لأنه من المعلوم أنهم لا يحل لهم، ولا يحرم عليهم، إلا النَّبي صلى الله عليه وسلم. كما تقرر في علوم الحديث، وأشار النووي في (شرح المهذب) إلى أن الرواية الصحيحة الموقوفة على ابن عمر لها حكم الرفع، كما ذكرنا وهو واضح، وهو دليل لا لبس فيه على إباحة ميتة الجراد من غير زكاة.
والمالكية قالوا: لم يصح الحديث مرفوعاً، وميتة الجراد داخلة في عموم قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ} ، وافتقار الجراد إلى الزكاة بما يموت به، كقطع رأسه بنية الذكاة أو صلقه أو قليه.
كذلك رواية أيضاً عن الإمام أحمد نقلها عنه النووي في (شرح مسلم) (وشرح المهذب)، والله تعالى أعلم.
وأما الطير: فجميع أنواعه مباحة الأكل إلا أشياء منها اختلف فيها العلماء.
فمن ذلك كل ذي مخلب من الطير يتقوى به ويصطاد: كالصقر والشاهين والبازي والعقاب والباشق، ونحو ذلك.
وجمهور العلماء على تحريم كل ذي مخلب من الطير كما قدمنا، ودليلهم ثبوت النهي عنه في صحيح مسلم وغيره، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة. ومذهب مالك ـ رحمه الله ـ إباحة أكل ذي المخلب من الطير لعموم قوله تعالى: {قُل لاَ أَجِدُ} . ولأنه لم يثبت عنده نص صريح في التحريم.
وممن قال كقول مالك: الليث والأوزاعي ويحيى بن سعيد، وقال مالك: لم أر أحداً من أهل العلم يكره سباع الطير، وقال ابن القاسم: لم يكره مالك أكل شيء من الطير كله الرخم والعقبان والنسور والحدأة والغربان، وجميع سباع الطير وغير سباعها، ما أكل الجيف منها، وما لم يأكلها.
ولا بأس بأكل الهدهد والخطاف، وروي على كراهة أكل الخطاف ابن رشد لقلة لحمها مع تحرمها بمن عششت عنده، انتهى من المواق في شرحه لقول خليل في مختصره وطير، ولو جلالة.
ومن ذلك الحدأة والغراب الأبقع: لما تقدم من أنهما من الفواسق التي يحل قتلها في الحل والحرم، وإباحة قتلها دليل على منع أكلها، وهو مذهب الجمهور خلافاً لمالك، ومن وافقه كما ذكرنا آنفاً.
وقالت عائشة رضي الله عنها: إني لأعجب ممن يأكل الغراب، وقد أذن صلى الله عليه وسلم في قتله، وقال صاحب «المهذب» بعد أن ذكر تحريم أكل الغراب الأبقع، ويحرم الغراب الأسود الكبير لأنه مستخبث يأكل الجيف فهو كالأبقع.
وفي الغداف، وغراب الزرع وجهان:
أحدهما: لا يحل: للخبر.
والثاني: يحل: لأنه مستطاب يلقط الحب فهو كالحمام والدجاج، وقال ابن قدامة في «المغني» ويحرم منها ما يأكل الجيف كالنسور والرخم وغراب البين وهو أكبر الغربان والأبقع. قال عروة: ومن يأكل الغراب، وقد سماه النَّبي صلى الله عليه وسلم فاسقاً؟ والله ما هو من الطيبات اهـ.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: الظاهر المتبادر أن كل شيء أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله بغير الذكاة الشرعية أنه محرم الأكل، إذ لو كان الانتفاع بأكله جائزاً لما أذن صلى الله عليه وسلم في إتلافه كما هو واضح.
وقال النووي: الغراب الأبقع حرام بلا خلاف للأحاديث الصحيحة، والأسود الكبير فيه طريقان:
إحداهما: أنه حرام.
والأخرى: أن فيه وجهين: أصحهما التحريم.
وغراب الزرع فيه وجهان مشهوران: أصحهما أنه حلال، وهو الزاغ، وهو أسود صغير، وقد يكون محمر المنقار والرجلين اهـ، منه بالمعنى في (شرح المهذب).
ومن ذلك الصرد. والهدهد. والخطاف. والخفاش: وهو الوطواط.
ومذهب الشافعي: تحريم أكل الهدهد والخطاف.
قال صاحب «المهذب»: ويحرم أكل الهدهد والخطاف. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلهما، وقال النووي في «شرح المهذب» أما حديث النهي عن قتل الهدهد فرواه عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنخلة، والهدهد والصرد» رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ذكره في آخر كتابه، ورواه ابن ماجه في كتاب الصيد بإسناد على شرط البخاري، وأما النهي عن قتل الخطاف فهو ضعيف ومرسل، رواه البيهقي بإسناده عن أي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية، وهو من تابعي التابعين، أو من التابعين عن النَّبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن قَتل الخطاطيف»، ثم قال: قال البيهقي: هذا منقطع. قال: وروى حمزة النصيبي فيه حديثاً مسنداً إلا أنه كان يرمى بالوضع أ هـ. ومما ذكره النووي تعلم أن الصرد والهدهد لا يجوز أكلهما في مذهب الشافعي لثبوت النهي عن قتلهما، وقال النووي أيضاً: وصح عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفاً عليه أنه قال: «لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح، ولا تقتلوا الخفاش فإنه لما خرب بيت المقدس قال: يا رب سلطني على البحر حتى أغرقهم، قال البيهقي إسناده صحيح.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: والظاهر في مثل هذا الذي صح عن عبد الله بن عمرو من النهي عن قتل الخفاش والضفدع أنه في حكم المرفوع لأنه لا مجال للرأي فيه. لأن علم تسبيح الضفدع وما قاله الخفاش لا يكون بالرأي، وعليه فهو يدل على منع أكل الخفاش والضفدع.
وقال ابن قدامة في «المغني»: ويحرم الخطاف والخشاف أو الخفاش وهو الوطواط، قال الشاعر: مثل النهار يزيد أبصار الوري وراً ويعمي أعين الخفاش

قال أحمد: ومن يأكل الخشاف؟ وسئل عن الخطاف فقال: لا أدري، وقال النخعي: أكل الطير حلال إلا الخفاش، وإنما حرمت هذه لأنها مستخبثة لا تأكلها العرب اهـ. من المغني. والخشاف هو الخفاش، وقد قدمنا عن مالك وأصحابه جواز أكل جميع أنواع الطير: واستثنى بعضهم من ذلك الوطواط.
وفي الببغا والطاوس وجهان للشافعية: قال البغوي وغيره وأصحهما التحريم.
وفي العندليب والحمرة لهم أيضاً وجهان: والصحيح إباحتهما، وقال أبو عاصم العبادي: يحرم ملاعب ظله وهو طائر يسبح في الجو مراراً كأنه ينصب على طائر، وقال أبو عاصم أيضاً: والبوم حرام كالرخم، قال: والضوع بضم الضاد المعجمة وفتح الواو وبالعين المهملة حرام على أصح القولين، قال الرافعي: هذا يقتضي أن الضوع غير البوم، قال: لكن في صحاح الجوهري أن الضوع طائر من طير الليل من جنس الهام، وقال المفضل: هو ذكر البوم، قال الرافعي: فعلى هذا إن كان في الضوع قول لزم إجراؤه في البوم لأن الذكر والأنثى من الجنس الواحد لا يفترقان، قاله النووي: ثم قال: قلت: الأشهر أن الضوع من جنس الهام فلا يلزم اشتراكهما في الحكم.
وأما حشرات الطير، كالنحل، والزنابير، والذباب، والبعوض، ونحو ذلك: فأكلها حرام عند الشافعي وأحمد، وأكثر العلماء لأنها مستخبثة طبعاً، والله تعالى يقول: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَـٰئِثَ} .
ومن ذلك الجلالة: وهي التي تأكل النجس، وأصلها التي تلتقط الجلة بتثليث الجيم: وهي البعر، والمراد بها عند العلماء: التي تأكل النجاسات من الطير والدواب.
ومشهور مذهب الإمام مالك جواز أكل لحم الجلالة مطلقاً، أما لبنها وبولها فنجسان في مشهور مذهبه ما دام النجس باقياً في جوفها، ويطهر لبنها وبولها عنده إن أمسكت عن أكل النجس، وعلفت علفاً طاهراً مدة يغلب على الظن فيها عدم بقاء شيء في جوفها من الفضلات النجسة، وكره كثير من العلماء لحم الجلالة ولبنها، وحجتهم حديث ابن عباس أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ألبان الجلالة: قال النووي في «شرح المهذب»: حديث ابن عباس صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة، قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح اهـ.
وقال النووي في حد الجلالة: والصحيح الذي عليه الجمهور أدنه لا اعتبار بالكثرة، وإنما الاعتبار بالرائحة والنتن، فإن وجد في عرقها وغيره ريح النجاسة فجلالة، وإلا فلا، وأكل لحم الجلالة وشرب لبنها مكروه عند الشافعية، والصحيح عندهم أنها كراهة تنزيه، وقيل: كراهة تحريم.
وقال ابن قدامة في «المغني»: قال أحمد: أكره لحوم الجلالة وألبانها. قال القاضي في المجرد: هي التي تأكل القذر، فإذا كان أكثر علفها النجاسة حرم لحمها ولبنها.
وفي بيضها روايتان: وإن كان أكثر علفها الطاهر لم يحرم أكلها ولا لبنها، وتحديد الجلالة بكون أكثر علفها النجاسة لم نسمعه عن أحمد، ولا هو ظاهر كلامه، لكن يمكن تحديده بما يكون كثيراً في مأكولها ويعفى عن اليسير، وقال الليث إنما كانوا يكرهون الجلالة التي لا طعام لها إلا الرجيع وما أشبهه، وقال ابن أبي موسى في الجلالة روايتان:
إحداهما: أنها محرمة.
والثانية: أنها مكروهة غير محرمة، وهذا قول الشافعي، وكره أبو حنيفة لحومها والعمل عليها حتّى تحبس، ورخص الحسن في لحومها وألبانها. لأن الحيوانات لا تتنجس بأكل النجاسات. بدليل أن شارب الخمر لا يحكم بتنجيس أعضائه، والكافر الذي يأكل الخنزير والمحرمات لا يكون ظاهره نجساً، ولو نجس لما طهر بالإسلام ولا الاغتسال، ولو نجست الجلالة لما طهرت بالحبس اهـ.
والظاهر كراهة ركوب الجلالة، وهو مكروه عند الشافعي، وأحمد وعمر وابنه عبد الله، وروي عن ابن عمر مرفوعاً كراهة ركوب الجلالة، أخرجه البيهقي وغيره.
والسخلة المرباة بلبن الكلبة حكمها حكم الجلالة فيما يظهر، فيجري فيها ما جرى فيها، والله تعالى أعلم.
ومن ذلك الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات أو سمدت بها فأكثر العلماء على أنها طاهرة، وأن ذلك لا ينجسها، وممن قال بذلك مالك والشافعي وأصحابهما خلافاً للإمام أحمد، وقال ابن قدامة في «المغني» وتحرم الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات، أو سمدت بها، وقال ابن عقيل يحتمل أن يكره ذلك ولا يحرم. ولا يحكم بتنجيسها، لأن النجاسة تستحيل في باطنها فتطهر بالاستحالة. كالدم يستحيل في أعضاء الحيوان لحماً، ويصير لبناً. وهذا قول أكثر الفقهاء. منهم أبو حنيفة والشافعي، وكان سعد بن أبي وقاص يدمل أرضه بالعرة ويقول: مكتل عرة مكتل بر، والعرة: عذرة الناس، ولنا ما روي عن ابن عباس: كنا نكري أراضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشترط عليهم ألا يدملوها بعذرة الناس، ولأنها تتغذى بالنجاسات، وتترقى فيها أجزاؤها والاستحالة لا تطهر، فعلى هذا تطهر إذا سقيت الطاهرات. كالجلالة إذا حبست وأطعمت الطاهرات». أ هـ من المغني بلفظه.