تفسير الطبري تفسير الصفحة 147 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 147
148
146
 الآية : 143
القول في تأويل قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الاُنثَيَيْنِ أَمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الاُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
وهذا تقريع من الله جلّ ثناؤه العادلين به الأوثان من عبدة الأصنام الذي بحّروا البحائر وسيّبوا السوائب ووصلوا الوصائل, وتعليم منه نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به, الحجة عليهم في تحريمهم ما حرّموا من ذلك, فقال للمؤمنين به وبرسوله: وَهُوَ الّذِي أنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وغيرَ مَعْرُوشاتٍ ومن الأنعام أنشأ حمولة وفرشا. ثم بين جلّ ثناؤه الحمولة والفرش, فقال: ثَمَانِيَةَ أزْوَاجٍ وإنما نصب الثمانية, لأنها ترجمة عن الحمولة والفرش وبدل منها كأن معنى الكلام: ومن الأنعام أنشأ ثمانية أزواج فلما قدّم قبل الثمانية الحمولة والفرش بين ذلك بعد, فقال: ثَمانِيَةَ أزْوَاجٍ على ذلك المعنى مِن الضّأْنِ اثْنَينِ وَمِنَ المعَزِ اثْنَيْنِ فذلك أربعة, لأن كلّ واحد من الاثنين من الضأن زوج, فالأنثى منه زوج الذكر, والذكر منه زوج الأنثى, وكذلك ذلك من المعز ومن سائر الحيوان فلذلك قال جلّ ثناؤه: ثَمانِيَةَ أزْوَاجٍ كما قال: وَمِنْ كلّ شيء خلقْنَا زَوْجينِ لأن الذكر زوج الأنثى والأنثى زوج الذكر, فهما وإن كانا اثنين فهما زوجان, كما قال جلّ ثناؤه: وَجعلَ مِنهَا زَوْجهَا لِيْسكُنَ إليهَا وكما قال: أمْسِكْ عليْكَ زَوْجكَ. وكما:
11011ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو معاوية, عن جويبر, عن الضحاك: مِنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ ذكر وأنثى, وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ذكر وأنثى, وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ ذكر وأنثى.
ويقال للاثنين: هما زوج كما قال لبيد:
مِنْ كُلّ مَحْفُوفٍ يُظِلّ عِصِيّهُزَوْجٌ عَلَيْهِ كِلّةٌ وَقِرَامُها
ثم قال لهم: كلوا مما رزقكم الله من هذه الثمار واللحوم, واركبوا هذه الحمولة أيها المؤمنون, فلا تتبعوا خطوات الشيطان في تحريم ما حرّم هؤلاء الجهلة بغير أمري إياهم بذلك. قل يا محمد لهؤلاء الذين حرّموا ما حرّموا من الحرث والأنعام, اتباعا للشيطان من عبدة الأوثان والأصنام الذين زعموا أن الله حرّم عليهم ما هم محرّمون من ذلك: آلذّكَرَيْنَ حَرّمَ ربكم أيها الكذبة على الله من الضأن والمعز, فإنهم إن ادّعوا ذلك وأقرّوا به, كذّبوا أنفسهم وأبانوا جهلهم, لأنهم إذا قالوا: يحرّم الذكرين من ذلك, أوجبوا تحريم كلّ ذكرين من ولد الضأن والمعز, وهم يستمتعون بلحوم الذكران منها وظهورها, وفي ذلك فساد دعواهم وتكذيب قولهم. أمِ الأُنْثَيَيْنِ فإنهم إن قالوا: حرّم ربنا الأنثيين, أوجبوا تحريم لحوم كل أنثى من ولد الضأن والمعز على أنفسهم وظهورها, وفي ذلك أيضا تكذيب لهم, ودحض دعواهم أن ربهم حرّم ذلك عليهم, إذ كانوا يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره. أمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أرْحامُ الأُنْثَيَيْنِ يقول: أم حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين, يعني أرحام أنثى الضأن وأنثى المعز فلذلك قال: أرحام الأنثيين. وفي ذلك أيضا لو أقرّوا به فقالوا: حرّم علينا ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين, بُطُول قولهم وبيان كذبهم, لأنهم كانوا يقرّون بإقرارهم بذلك أن الله حرّم عليهم ذكور الضأن والمعز وإناثها أن يأكلوا لحومها أو يركبوا ظهورها, وقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها, و«ما» التي في قوله: أمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أرْحامُ الأُنْثَيَيْنِ نصب عطفا بها على «الأنثيين». نَبّئُونِي بعِلْمٍ يقول: قل لهم: خبروني بعلم ذلك على صحته, أيّ ذلك حرّم ربكم عليكم وكيف حرّم, إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فيما تنحلونه ربكم من دعواكم وتضيفونه إليه من تحريمكم. وإنما هذا إعلام من الله جلّ ثناؤه نبيه أن كل ما قاله هؤلاء المشركون في ذلك وأضافوه إلى الله, فهو كذب على الله, وأنه لم يحرّم شيئا من ذلك, وأنهم إنما اتبعوا في ذلك خطوات الشيطان, وخالفوا أمره.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11012ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ثَمانِيَةَ أزْوَاجٍ مِنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ... الاَية, إن كلّ هذا لم أحرّم منه قليلاً ولا كثيرا ذكرا ولا أنثى.
11013ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: مِنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ ومِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ قال: سلهم آلّذكَرَيْنِ حَرّمَ أمِ الأُنْثَيْنِ أمّا اشْتَمَلْتْ عَلَيْهِ أرْحامُ الأُنْثَيَيْنِ: أي لم أحرّم من هذا شيئا. بِعلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فذكر من الإبل والبقر نحو ذلك.
11014ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ثَمانِيَةَ أزْوَاجٍ في شأن ما نهى اللهعنه من البحيرة.
11015ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: ثَمانِيَةَ أزْوَاج قال: هذا في شأن ما نهى الله عنه من البحائر والسيب. قال ابن جريج: يقول: من أين حرّمت هذا من قبل الذكرين أم من قِبَل الأنثيين, أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ وإنها لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى, فمن أين جاء التحريم؟ فأجابوا هم: وجدنا آباءنا كذلك يفعلون.
11016ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: ثَمانِيَةَ أزْوَاجٍ مِنَ الضّأْنِ اثْنَينِ وَمِنَ المَعْز اثْنَيْن وَمِنَ البَقَر اثْنَيْن وَمِنَ الإبِل اثْنَيْن, يقول: أنزلت لكم ثمانية أزواج من هذا الذي عددت ذكر وأنثى, فالذكرين حرّمت عليكم أم الأنثيين أمّا اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ يقول: أي ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ما تشتمل إلا على ذكر أو أنثى, فما حرّمت عليكم ذكرا ولا أنثى من الثمانية, إنما ذكر هذا من أجل ما حرّموا من الأنعام.
11017ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, عن أبي رجاء, عن الحسن: أمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أرْحامُ الأُنْثَيَيْن قال: ما حملت الرحم.
11018ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: قُلْ آلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أمِ الأُنْثَيَيْن قال: هذا لقولهم: ما فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورنا ومُحَرّمٌ على أزْوَاجِنا. قال: وقال ابن زيد في قوله: ثَمانِيَةَ أزْوَاجٍ مِنَ الضّأْن اثْنِينَ وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ قال: الأنعام: هي الإبل والضأن والمعز, هذه الأنعام التي قال الله ثمانية أزواج. قال: وقال في قوله: هَذِهِ أنْعامٌ وحَرْثٌ حِجْرٌ نحتجرها على من نريد وعمن نريد, وقوله: وأنْعامٌ حُرّمَتْ ظُهُورُها قال: لا يركبها أحد, وأنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ الله عَلَيْها فقال: آلذّكَرَيْن حَرّم أم الأُنْثَيَيْنِ أيّ هذين حرّم على هؤلاء, أي أن تكون لهؤلاء حلاّ وعلى هؤلاء حراما.
11019ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: ثَمانِيَةَ أزْوَاجٍ مِنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ المَعز اثْنَيْن قُلْ الذّكَريْن حَرّمَ أم الأُنْثَيَيْن أمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْه أرْحامُ الأُنْثَيَيْن يعني: هل تشتمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى, فهم يحرّمون بعضا ويحلون بعضا؟.
11020ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ثمانِيَةَ أزْوَاجٍ مِنَ الضّأْن اثْنَيْن وَمِنَ المَعْز اثْنَيْن فهذه أربعة أزواج, وَمِنَ الإبِل اثْنَيْنِ وَمِنَ البَقَر اثْنَيْنِ قُلْ الذّكَرَينِ حَرّمَ أمِ الأُنْثَيَيْنِ يقول: لم أحرّم شيئا من ذلك. نَبّئُونِي بعِلم إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ يقول: كله حلال.
والضأن: جمع لا واحد له من لفظه, وقد يجمع الضأن: الضّئين والضّئين, مثل الشّعير والشعّير, كما يجمع العبد على عَبِيد وعِبِيد. وأما الواحد من ذكوره فضائن, والأنثى ضائنة, وجمع الضائنة: ضوائن, وكذلك العز جمع على غير واحد, وكذلك المعزى وأما الماعز, فجمعه مواعز.
الآية : 144
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الاُنْثَيَيْنِ أَمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الاُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصّاكُمُ اللّهُ بِهَـَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلّ النّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ }.
وتأويل قوله: وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ البَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أمِ الأُنْثَيَيْنِ أمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أرْحامُ الأنْثَيَيْنِ نحو تأويل قوله: مِنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ وهذه أربعة أزواج, على نحو ما بينا من الأزواج الأربعة قبل من الضأن والمعز, فذلك ثمانية أزواج كما وصف جلّ ثناؤه.
وأما قوله: أمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءِ إذْ وَصّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى على الله كَذِبا لِيُضِلّ النّاسَ بغيرِ عِلْمٍ فإنه أمر من الله جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء الجهلة من المشركين الذين قصّ قصصهم في هذه الاَيات التي مضت, يقول له عزّ ذكره: قل لهم يا محمد, أيّ هذه سألتكم عن تحريمه حرّم ربكم عليكم من هذه الأزواج الثمانية؟ فإن أجابوك عن شيء مما سألتهم عنه من ذلك, فقل لهم: أخبرا قلتم إن الله حرّم هذا عليكم أخبركم به رسول عن ربكم, أم شهدتم ربكم فرأيتموه فوصاكم بهذا الذي تقول وتردّون على الله؟ فإن هذا الذي تقولون من إخباركم عن الله أنه حرام بما تزعمون على ما تزعمون, لا يُعلم إلا بوحي من عنده مع رسول يرسله إلى خلقه, أو بسماع منه, فبأيّ هذين الوجهين علمتم أن الله حرّم ذلك كذلك برسول أرسله إليكم؟ فأنبئوني بعلم إن كنتم صادقين أم شهدتم ربكم, فأوصاكم بذلك وقال لكم: حرّمت ذلك عليكم, فسمعتم تحريمه منه وعهده إليكم بذلك؟ فإنه لم يكن واحد من هذين الأمرين. يقول جلّ ثناؤه: فمنْ أظْلمُ مِمّنِ افترَى عَلى اللّهِ كِذبا يقول: فمن أشدّ ظلما لنفسه وأبعد عن الحقّ ممن تخرّص على الله قيل الكذب وأضاف إليه تحريم ما لم يحرّم وتحليل ما لم يحلل. لِيُضِلّ النّاسَ بغيرِ عِلْمٍ يقول: ليصدّهم عن سبيله: إنّ اللّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمينَ يقول: لا يوفق الله للرشد من افترى على الله وقال عليه الزور والكذب وأضاف إليه تحريم ما لم يحرّم كفرا بالله وجحودا لنبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. كالذي:
11021ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: أمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ وَصّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا الذي تقولون.
11022ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: كانوا يقولون يعني الذين كانوا يتخذون البحائر والسوائب: إن الله أمر بهذا. فقال الله: فَمَنْ أظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى على اللّهِ كَذِبا لِيُضِلّ النّاسَ بغيرِ عِلْمٍ. الآية : 145
القول في تأويل قوله تعالى: {قُل لاّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيّ مُحَرّماً عَلَىَ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنّ رَبّكَ غَفُورٌ رّحِيمٌ }.
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء الذين جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ولشركائهم من الاَلهة والأنداد مثله والقائلين هَذهِ أنعامٌ وحرْثٌ حِجْرٌ لا يطْعمُها إلاّ مَنْ نشاءُ بِزَعمِهمْ والمحرّمين من أنعام أُخَر ظهورها, والتاركين ذكر اسم الله على أُخَر منها, والمحرّمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم ومحلّية لذكورهم, المحرّمين ما رزقهم الله افتراء على الله, وإضافة منهم ما يحرّمون من ذلك إلى أن الله هو الذي حرّمه عليهم: أجاءكم من الله رسول بتحريمه ذلك عليكم, فأنبئونا به, أم وصاكم الله بتحريمه مشاهدة منكم له فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم فحرّمتموه؟ فإنكم كذبة إن ادّعيتم ذلك ولا يمكنكم دعواه, لأنكم إذا ادّعيتموه علم الناس كذبكم, فإني لا أجد فيما أوحي إليّ من كتابه وآي تنزيله شيئا محرّما على آكل يأكله مما تذكرون أنه حرّمه من هذه الأنعام التي تصفون تحريم ما حرّم عليكم منها بزعمكم, إلا أن يكون ميتة قد ماتت بغير تذكية أو دما مسفوحا وهو المنصبّ أو إلا أن يكون لحم خنزير. فإنّه رِجْسٌ أو فِسْقا يقول: أو إلا أن يكون فسقا, يعني بذلك: أو إلا أن يكون مذبوحا ذبحه ذابح من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته فذكر عليه اسم وثنه, فإن ذلك الذبح فسق نهى الله عنه وحرّمه, ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك, لأنه ميتة. وهذا إعلام من الله جلّ ثناؤه للمشركين الذين جادلوا نبيّ الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادلوهم به أن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرّمه الله, وأن الذي زعموا أن الله حرّمه حلال قد أحله الله, وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أِل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11023ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه, في قوله: قُلْ لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليّ مُحَرّما قال: كان أهل الجاهلية يحرّمون أشياء ويحلون أشياء, فقال: قل لا أجد مما كنتم تحرّمون وتستحلون إلا هذا إلاّ أنْ يكونَ مَيْتَةً أوْ دَما مَسْفُوحا أوْ لحمَ خِنزِيرٍ فإنّهُ رِجْسٌ أوْ فِسْقا أُهِلّ لِغيرِ اللّهِ بِهِ.
حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه, في قوله: قُلْ لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليّ مُحَرّما... الاَية, قال: كان أهل الجاهلية يستحلون أشياء ويحرّمون أشياء, فقال الله لنبيه: قُلْ لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليّ مُحَرّما مما كنتم تستحلون إلا هذا وكانت أشياء يحرّمونها فهي حرام الاَن.
11024ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن ابن طاوس, عن أبيه: قُلْ لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليّ مْحَرّما على طاعِمٍ يَطْعَمُهُ قال: ما يؤكل. قلت: في الجاهلية؟ قال: نعم وكذلك كان يقول: إلاّ أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أوْ دَما مَسْفُوحا. قال ابن جريج: وأخبرني إبراهيم بن أبي بكر, عن مجاهد: قُلْ لا أجدُ فيما أُوحِيَ إليّ مُحَرّما قال: مما كان في الجاهلية يأكلون, لا أجد محرّما من ذلك على طاعم يطعمه, إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا.
وأما قوله: أوْ دَما مَسْفُوحا فإن معناه: أو دما مسالاً مُهَراقا, يقال منه: سفحت دمه: إذا أرقته, أسفحه سَفْحا, فهو دم مسفوح, كما قال طرفة بن العبد:
إنّي وَجَدّكَ ما هَجَوْتُكَ والْأنْصَابِ يُسْفَحُ فَوْقَهُنّ دَمُ
وكما قال عبيد بن الأبرص:
()إذَا ما عادَهُ مِنّا نِساءٌ
سَفَحْنَ الدّمْعَ مِنَ بعدِ الرّنِينِ()
يعني: صببن, وأسلن الدمع. وفي اشتراطه جلّ ثناؤه في الدم عند إعلامه عباده تحريمه إياه المسفوح منه دون غيره, الدليل الواضح أن ما لم يكن منه مسفوحا فحلال غير نجس. وذلك كالذي:
11025ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عكرمة: أوْ دَما مَسْفُوحا قال: لولا هذه الاَية لتتبع المسلمون من العروق ما تتبعت اليهود.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة بنحوه, إلا أنه قال: لاتبع المسلمون.
حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة بنحوه.
11026ـ حدثنا أبو كريب, قال:أخبرنا وكيع, عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز, في القِدر يعلوها الحمرة من الدم, قال: إنما حرّم الله الدم المسفوح.
حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج بن المنهال, قال: حدثنا حماد, عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز, قال: سألته عن الدم, وما يتلطخ بالمذبح من الرأس, وعن القدر يرى فيها الحمرة, قال: إنما نهى الله عن الدم المسفوح.
11027ـ حدثنا محمدبن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: أوْ دَما مَسْفُوحا قال: حرّم الدم ما كان مسفوحا وأما لحم خالطه دم فلا بأس به.
11028ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس, قوله: قُلْ لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليّ مُحَرّما على طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاّ أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أوْ دَما مَسْفُوحا يعني مُهَراقا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, أخبرني ابن دينار, عن عكرمة: أوْ دَما مَسْفُوحا قال: لولا هذه الاَية لتتبع المسلمون عروق اللحم ما تتبعها اليهود.
11029ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج بن المنهال, قال: حدثنا حماد, عن يحيى بن سعيد, عن القاسم بن محمد, عن عائشة: أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأسا, والحمرة والدم يكونان على القدر بأسا. وقرأت هذه الاَية: قُلْ لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليّ مُحَرّما على طاعِمٍ يَطْعَمُهُ... الاَية.
11030ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن يحيى بن سعيد, ثني القاسم بن محمد, عن عائشة قالت, وذكرت هذه الاَية أوْ دَما مَسْفُوحا قلت: وإن البُرْمة ليرى في مائها الصفرة.
وقد بينا معنى الرجس فيما مضى من كتابنا هذا, وأنه النجس والنتن, وما يعصى الله به, بشواهده, فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. وكذلك القول في معنى الفسق, وفي قوله: أُهِلّ لغيرِ اللّهِ بِهِ قد مضى ذلك كله بشواهده الكافية من وفق لفهمه عن تكراره وإعادته.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: إلاّ أنْ يَكُونَ مَيْتَةً فقرأ ذلك بعض قرّاء أهل المدينة والكوفة والبصرة: إلاّ أنْ يَكُونَ بالياء مَيْتَةً مخففة الياء منصوبة على أن في يكون مجهولاً, والميتة فعل له فنصبت على أنها فعل يكون, وذكروا يكون لتذكير المضمر في «يكون». وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل مكة والكوفة: «إلاّ أنْ تَكُونَ» بالتاء «مَيْتَةً» بتخفيف الياء من الميتة ونصبها. وكأن معنى نصبهم الميتة معنى الأوّلين, وأنثوا تكون لتأنيث الميتة, كما يقال: إنها قائمة جاريتك, وإنه قائم جاريتك, فيذكر المجهول مرّة ويؤنث أخرى لتأنيث الاسم الذي بعده. وقرأ ذلك بعض المدنيين: «إلاّ أنْ تَكُونَ مَيّتَةٌ» بالتاء في «تكون», وتشديد الياء من «ميتة» ورفعها, فجعل «الميتة» اسم «تكون», وأنث «تكون» لتأنيث «الميتة», وجعل «تكون» مكتفية بالاسم دون الفعل, لأنه قوله: «إلاّ أنْ تَكُونَ مَيْتَةً» استثناء, والعرب تكتفي في الاستثناء بالأسماء عن الأفعال, فيقولون: قام الناس إلا أن يكون أخاك, وإلا أن يكون أخوك, فلا تأتي ليكون بفعل, وتجعلها مستغنية بالاسم, كما يقال: قام القوم إلا أخاك وإلا أخوك, فلا يعتد الاسم الذي بعد حرف الاستثناء نفلاً.
والصواب من القراءة في ذلك عندي: إلاّ أنْ يَكُونَ بالياء مَيْتَةً بتخفيف الياء ونصب الميتة, لأن الذي في «يكون» من المكنىّ من ذكر المذكر, وإنما هو: قُلْ لا أجد فيما أوحي إليّ محرّما على طاعم يطعمه, إلا أن يكون ذلك ميتة أو دما مسفوحا. فأما قراءة «ميتةٌ» بالرفع, فإنه وإن كان في العربية غير خطأ فإنه في القراءة في هذا الموضع غير صواب, لأن الله يقول: أوْ دَما مَسْفُوحا فلا خلاف بين الجميع في قراءة الدم بالنصب, وكذلك هو في مصاحب المسلمين, وهو عطف على «الميتة». فإذ كان ذلك كذلك, فمعلوم أن الميتة لو كانت مرفوعة لكان الدم وقوله «أو فسقا» مرفوعين, ولكنها منصوبة فيعطف بهما عليها بالنصب.
القول في تأويل قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرّ غيرَ باغٍ وعلا عادٍ فإنّ رَبّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله: فَمَنِ اضْطُرّ غيرَ باعٍ وَلا عادٍ. والصواب من القول فيه عندنا فيما مضى من كتابنا هذا في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع, وأن معناه: فمن اضطّر إلى أكل ما حرّم الله من أكل الميتة والدم المسفوح أو لحم الخنزير, أو ما أهلّ لغير الله به, غير باغ في أكله إياه تلذّذا, لا لضرورة حالة من الجوع, ولا عاد في أكله بتجاوزه ما حدّه الله وأباحه له من أكله, وذلك أن يأكل منه ما يدفع عنه الخوف على نفسه بترك أكله من الهلاك لم يتجاوز ذلك إلى أكثر منه, فلا حرج عليه في أكله ما أكل من ذلك. فإنّ اللّهَ غَفُورٌ فيما فعل من ذلك, فساتر عليه بتركه عقوبته عليه, ولو شاء عاقبه عليه. رَحِيمٌ باباحته إياه أكل ذلك عند حاجته إليه, ولوشاء حرمه عليه ومنعه منه.
الآية : 146
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا كُلّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنّا لَصَادِقُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وحرّمنا على اليهود كلّ ذي ظفر, وهو من البهائم والطير ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل والأنعام والأوز والبط.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11031ـ حدثني المثنى, وعليّ بن داود, قالا: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: وَعلى الّذِينَ هادُوا حَرّمْنا كُلّ ذِي ظُفُرٍ وهو البعير والنعامة.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: وَعلى الّذِينَ هادُوا حَرّمْنا كُلّ ذِي ظُفُرٍ قال: البعير والنعامة ونحو ذلك من الدوابّ.
11032ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن عطاء, عن سعيد: وَعلى الّذِينَ هادُوا حَرّمْنا كُلّ ذِي ظُفُرٍ قال: هو ليس الذي بمنفرج الأصابع.
حدثني عليّ بن الحسين الأزديّ, قال: حدثنا يحيى بن يمان, عن شريك, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, في قوله: وَعلى الّذِينَ هادُوا حَرّمْنا كُلّ ذِي ظُفُرٍ قال: كل شيء متفرّق الأصابع, ومنه الديك.
11033ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: كُلّ ذِي ظُفُرٍ: النعامة والبعير.
11034ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, مثله.
11035ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَعلى الّذِينَ هادُوا حَرّمْنا كُلّ ذِي ظُفُرٍ فكان يقال: البعير والنعامة وأشباهه من الطير والحيتان.
11036ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, قال: حدثنا معمر, عن قتادة: كُلّ ذِي ظُفُرٍ قال: الإبل والنعام, ظفر يد البعير ورجله, والنعام أيضا كذلك, وحرّم عليهم أيضا من الطير البط وشبهه, وكلّ شيء ليس بمشقوق الأصابع.
11037ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: أما كلّ ذي ظفر: فالإبل والنعام.
11038ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا شيخ, عن مجاهد, في قوله: وَعلى الّذِينَ هادُوا حَرّمْنا كُلّ ذِي ظُفُرٍ قل: النعامة والبعير شقّا شقّا, قال: قلت: «ما شقّا شقّا؟» قال, كل ما لم تفرّج قوائمه لم يأكله اليهود, البعير والنعامة والدجاج والعصافير تأكلها اليهود لأنها قد فرجت.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: كُلّ ذِي ظُفُرٍ قال: النعامة والبعير شقّا شقّا, قلت للقاسم بن أبي بزة وحدثنيه: «ما شقّا شقّا؟» قال: كل شيء لم يفرج من قوائم البهائم,قال: وما انفرج أكلته اليهود, قال: انفرجت قوائم الدجاج والعصافير, فيهود تأكلها. قال: ولم تنفرج قائمة البعير خفه ولا خفّ النعامة ولا قائمة الوزّين, فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعام ولا الوزين ولا كلّ شيء لم تنفرج قائمته, وكذلك لا تأكل حمار وحش. وكان ابن زيد يقول في ذلك بما:
11039ـ حدثني به يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَعلى الّذِينَ هادُوا حَرّمْنا كُلّ ذِي ظُفُرٍ الإبل فقط.
وأولى القولين في ذلك بالصواب, القول الذي ذكرنا عن ابن عباس ومن قال بمثل مقالته لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه حرّم على اليهود كلّ ذي ظُفُر, فغير جائز إخراج شيء من عموم هذا الخبر إلا ما أجمع أهل العلم أنه خارج منه. وإذا كان ذلك كذلك, وكان النعام وكلّ ما لم يكن من البهائم والطير مما له ظفر غير منفرج الأصابع داخلاً في ظاهر التنزيل, وجب أن يحكم له بأنه داخل في الخبر, إذ لم يأت بأن بعض ذلك غير داخل في الاَية خبر عن الله ولا عن رسوله, وكانت الأمة أكثرها مجمع على أنه فيه داخل.
القول في تأويل قوله تعالى: وَمِنَ البَقَرِ وَالغَنمِ حَرّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما.
اختلف أهل التأويل في الشحوم التي أخبر الله تعالى أنه حرّمها على اليهود من البقر والغنم, فقال بعضهم: هي شحوم الثروب خاصة. ذكر من قال ذلك:
11040ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَمِنَ البَقَرِ الغَنمِ حَرّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما الثروب. ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «قاتل الله اليهود حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ الثّرُوبَ ثُمّ أكَلُوا أثمَانَها».
وقال آخرون: بل ذلك كان كلّ شحم لم يكن مختلطا بعظم ولا على عظم. ذكر من قال ذلك:
11041ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, قال: قال ابن جريح, قوله: حَرّمنْا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما قال: إنما حرّم عليهم الثّرْب, وكلّ شحم كَدْن كذلك ليس في عظم.
وقال آخرون: بل ذلك شحم الثّرْب والكُلى. ذكر من قال ذلك:
11042ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: حَرّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما قال: الثرب وشحم الكليتين. وكانت اليهود تقول: إنما حرّمه إسرائيل فنحن نحرّمه.
11043ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: حَرّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما قال: إنما حرّم عليهم الثروب والكليتين. هكذا هو في كتابي عن يونس, وأنا أحسب أنه الكلى.
والصواب في ذلك من القول أن يقال: إن الله أخبر أنه كان حرّم على اليهود من البقر والغنم شحومهما إلا ما استثناه منها مما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم,فكلّ شحم سوى ما استثناه الله في كتابه من البقر والغنم, فإنه كان محرّما عليهم.
وبنحو ذلك من القول, تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك قوله: «قاتَلَ اللّهُ اليَهُودَ حُرّمَتْ عَلَيْهُمُ الشّحُومُ فجَمَلُوها ثُمّ باعُوها وأكَلُوا أثمَانها».
وأما قوله: إلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما فإنه يعني: إلا شحوم الجنب وما علق بالظهر, فإنها لم تحرّم عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11044ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس: إلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما يعني: ما علق بالظهر من الشحوم.
11045ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: أما ما حملت ظهورهما: فالأليات.
11046ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن إسماعيل, عن أبي صالح, قال: الألية مما حملت ظهورهما.
القول في تأويل قوله تعالى: أوِ الحَوَايا.
قال أبو جعفر: والحوايا جمع, واحدها حاوياء وحاوية وحَوِيّة: وهي ما تحوّى من البطن فاجتمع واستدار, وهي بنات اللبن, وهي المباعر, وتسمى المرابض, وفيها الأمعاء. ومعنى الكلام: ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو ما حملت الحوايا, فالحوايا رفع عطفا على الظهور, و«ما» التي بعد «إلاّ», نصب على الاستثناء من الشحوم.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11047ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: أوِ الحَوَايا وهي المبعر.
11048ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: أوِ الحَوَايا قال: المبعر.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: الحوايا: المبعر والمَرْبض.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: أو الحَوَايا قال: المبعر.
11049ـحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: أوِ الحَوَايا قال: المباعر.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: أوِ الحَوَايا قال: المباعر.
11050ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: أوِ الحَوَايا قال: المبعر.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: أوِ الحَوَايا قال: المبعر.
11051ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة والمحاربي, عن جويبر, عن الضحاك, قال: المبعر.
11052ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ,قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: أوِ الحَوَايا يعني: البطون غير الثروب.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: أوِ الحَوَايا هو المبعر.
11053ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: أوِ الحَوَايا قال: المباعر. وقال ابن زيد في ذلك, ما:
11054ـ حدثني به يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: أوِ الحَوَايا قال: الحوايا: المرابض التي تكون فيها الأمعاء تكون وسطها, وهي بنات اللبن, وهي في كلام العرب تُدعى المرابض.
القول في تأويل قوله تعالى: أوْ ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ.
يقول تعالى ذكره: ومن البقر والغنم حرّمنا على الذين هادوا شحومهما سوى ما حملت ظهورهما, أو ما حملت حواياهما, فإنا أحللنا ذلك لهم, وإلا ما اختلط بعظم فهو لهم أيضا حلال. فردّ قوله: أوْ ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ على قوله: إلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما ف«ما» التي في قوله: أوْ ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ في موضع نصب عطفا على «ما» التي في قوله: إلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما. وعنى بقوله: أوْ ما اخْتَلَطَ بِعَظْم شحم الألية والجنب وما أشبه ذلك. كما:
11055ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: أوْ ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ قال: شحم الألية بالعُصْعُص, فهو حلال, وكلّ شيء في القوائم والجنب والرأس والعين قد اختلط بعظم, فهو حلال.
11056ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: أوْ ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ مما كان من شحم على عظم.
القول في تأويل قوله تعالى: ذلكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيهِمْ وَإنّا لَصَادِقُونَ.
يقول تعالى ذكره: فهذا الذي حرّمنا على الذين هادوا من الأنعام والطير, ذوات الأظافير غير المنفرجة, ومن البقر والغنم, ما حرّمنا عليهم من شحومهما الذي ذكرنا في هذه الاَية, حرّمناه عليهم عقوبة منا لهم, وثوابا على أعمالهم السيئة وبغيهم على ربهم. كما:
11057ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ذلكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيهِمْ وَإنّا لَصَادِقُونَ.
يقول تعالى ذكره: فهذا الذي حرّمنا على الذين هادوا من الأنعام والطير, ذوات الأظافير غير المنفرجة, ومن البقر والغنم, ما حرّمنا عليهم من شحومهما الذي ذكرنا في هذه الاَية, حرّمناه عليهم عقوبة منا لهم, وثوابا على أعمالهم السيئة وبغيهم على ربهم. كما:
11058ـ حدثنا بشر,قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ذلكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإنّا لَصَادِقُونَ إنما حرّم ذلك عليهم عقوبة ببغيهم.
11059ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ذلكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ فعلنا ذلك بهم ببغيهم.
وقوله: وَإنّا لَصَادِقُونَ يقول: وإنا لصادقون في خبرنا هذا عن هؤلاء اليهود عما حرّمنا عليهم من الشحوم ولحوم الأنعام والطير التي ذكرنا أنا حرّمنا عليهم, وفي غير ذلك من أخبارنا, وهم الكاذبون في زعمهم أن ذلك إنما حرّمه إسرائيل على نفسه وأنهم إنما حرّموه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه