سورة الأنفال | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 182 من المصحف
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 182 {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَآ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ * قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ ٱلاٌّوَّلِينِ * وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ * وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنْتُم بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي ٱلْمِيعَـٰدِ وَلَـٰكِن لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَىَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَـٰزَعْتُمْ فِى ٱلاٌّمْرِ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِىۤ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِىۤ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ * يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}
قوله تعالى:
{قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَ}.
قد بينا قبل هذا الآيات المصرحة بكذبهم، وتعجيز الله لهم عن الإتيان بمثله. فلا حاجة إلى إعادتها هنا، وقوله هنا في هذه الآية عنهم: {إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ} رد الله عليهم كذبهم وافتراءهم هذا في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَقَالُوۤاْ أَسَـٰطِيرُ ٱلاٌّوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاًقُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِى يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاٌّرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيم} وما أنزله عالم السر في السموات والأرض فهو بعيد جداً من أن يكون أساطير الأولين، وكقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ} إلى غير ذلك من الآيات:
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
ذكر هنا في هذه الآية الكريمة ما يدل على أن كفار مكة في غاية الجهل حيث قالوا: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَ}، ولم يقولوا فاهدنا إليه، وجاء في آيات أخر ما يدل على ذلك أيضاً كقوله عنهم: {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ} ، وقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ} ، وقوله: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} وذكر عن بعض الأمم السالفة شبه ذلك كقوله في قوم شعيب: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} ، وقوله عن قوم صالح: {يَاصَـٰحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ} ، وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح في سورة «سأل سائل».
قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ}.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بنفي ولاية الكفار على المسجد الحرام، وأثبتها لخصوص المتقين، وأوضح هذا المعنى في قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَـهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ وَفِى ٱلنَّارِ هُمْ خَـٰلِدُونَإِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاٌّخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَىٰ ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ} .
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً}.
المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق، قال بعض العلماء: والمقصود عندهم بالصفير والتصفيق التخليط حتى لا يسمع الناس القرآن من النَّبي صلى الله عليه وسلم، ويدل لهذا قوله تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} .
قوله تعالى: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ}.
ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل شيء حواه المسلمون من أموال الكفار فإنه يخمس حسبما نص عليه في الآية، سواء أوجفوا عليه الخيل والركاب أولاً، ولكنه تعالى في سورة «الحشر» أن ما أفاء الله على رسوله من غير إيجاف المسلمين عليه الخيل والركاب، أنه لا يخمس ومصارفه التي بين أنه يصرف فيها كمصارف خمس الغنيمة المذكورة هنا، وذلك في قوله تعالى: في فيء بني النضير {وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} ، ثم بين شمول الحكم لكل ما أفاء الله على رسوله من جميع القرى بقوله: {مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} .
اعلم أولاً أن أكثر العلماء: فرقوا بين الفيء والغنيمة فقالوا: الفيء: هو ما يسره الله للمسلمين من أموال الكفار من غير انزاعه منهم بالقهر، كفيء بني النضير الذين نزلوا على حكم النَّبي
صلى الله عليه وسلم ومكنوه من أنفسهم وأموالهم يفعل فيها ما يشاء لشدة الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم، ورضي لهم صلى الله عليه وسلم أن يرتحلوا بما يحملون على الإبل غير السلاح، وأما الغنيمة: فهي ما انتزعه المسلمون من الكفار بالغلبة والقهر، وهذا التفريق يفهم من قوله: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم} مع قوله: {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} فإن قوله تعالى: {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ}: ظاهر في أنه يراد به بيان الفرق بين ما أوجفوا عليه وما لم يوجفوا عليه كما ترى، والفرق المذكور بين الغنيمة والفيء عقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي بقوله:
في غزوة بني النضير وفيئهم والفيء في الأنفال ما لم يكن أخذ عن قتال
أما الغنيمة فعن زحاف والأخذ عنوة لدى الزحاف
لخير مرسل الخ.
وقوله: وفيئهم مبتدأ خبره لخير مرسل، وقوله: والفيء في الأنفال إلخ كلام اعتراضي بين المبتدأ والخبر بين به الفرق بين الغنيمة والفيء، وعلى هذا القول فلا إشكال في الآيات، لأن آية {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم} ذكر فيها حكم الغنيمة، وآية {مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ} ذكر فيها حكم الفيء وأشير لوجه الفرق بين المسألتين بقوله: {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَل} أي فكيف يكون غنيمة لكم، وأنتم لم تتعبوا فيه ولم تنتزعوه بالقوة من مالكيه.
وقال بعض العلماء: إن الغنيمة والفيء واحد، فجميع ما أخذ من الكفار على أي وجه كان غنيمة وفيء، وهذا قول قتادة رحمه الله وهو المعروف في اللغة، فالعرب تطلق اسم الفيء على الغنيمة، ومنه قول مهلهل بن ربيعة التغلبي:
فلا وأبي جليلة ما أفأنا من النعم المؤبل من بعير
ولكنا نهكنا القوم ضربا على الأثباج منهم والنحور
يعني أنهم لم يشتغلوا بسوق الغنائم ولكن بقتل الرجال فقوله:
أفأنا: يعني غنماً، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ} ، لأن ظاهر هذه الآية الكريمة شمول ذلك لجميع المسبيات ولو كن منتزعات قهراً، ولكن الاصطلاح المشهور عند العلماء هو ما قدمنا من الفرق بينهما، وتدل له آية الحشر المتقدمة. وعلى قول قتادة فآية الحشر مشكلة مع آية الأنفال هذه، ولأجل ذلك الإشكال قال قتادة، رحمه الله تعالى: إن آية {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم}، ناسخة لآية {وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ} ، وهذا القول الذي ذهب إليه ـ رحمه الله ـ باطل بلا شك، ولم يلجىء قتادة ـ رحمه الله ـ إلى هذا القول إلا دعواه اتحاد الفيء والغنيمة، فلو فرق بينهما كما فعل غيره لعلم أن آية الأنفال في الغنيمة، وآية الحشر في الفيء، ولا إشكال. ووجه بطلان القول المذكور: أن آية {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ} نزلت بعد وقعة بدر، قيل قسم غنيمة بدر بدليل حديث على الثابت في صحيح مسلم، الدال على أن غنائم بدر خمست، وآية التخميس التي شرعه الله بها هي هذه، وأما آية الحشر فهي نازلة في غزوة بني النضير بإطباق العلماء، وغزوة بني النضير بعد غزوة بدر بإجماع المسلمين، ولا منازعة فيه البتة، فظهر من هذا عدم صحة قتادة رحمه الله تعالى، وقد ظهر لك أنه على القول بالفرق بين الغنيمة والفيء لا إشكال في الآيات، وكذلك على قول من يرى أمر الغنائم والفيء راجعاً إلى نظر الإمام، فلا منافاة على قوله بين آية الحشر، وآية التخميس إذا رآه الإمام، والله أعلم. * * *
مسائل من أحكام هذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: اعلم أن جماهير علماء المسلمين على أن أربعة أخماس الغنيمة للغزاة الذين غنموها، وليس للإمام أن يجعل تلك الغنيمة لغيرهم، ويدل لهذا قوله تعالى: {غَنِمْتُمْ}، فهو يدل على أنها غنيمة لهم فلما قال: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} علمنا أن الأخماس الأربعة الباقية لهم لا لغيرهم، ونظير ذلك قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاٌّمِّهِ ٱلثُّلُثُ} أي ولأبيه الثلثان الباقيان إجماعاً، فكذلك قوله: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} أي وللغانمين ما بقي، وهذا القول هو
الحق الذي لا شك فيه، وحكى الإجماع عليه غير واحد من العلماء وممن حكى إجماع المسلمين عليه ابن المنذر وابن عبد البر، والداودي والمازري، والقاضي عياض وابن العربي، والأخبار بهذا المعنى متظاهرة، وخالف في ذلك بعض أهل العلم، وهو قول كثير من المالكية، ونقله عنهم المازري ـ رحمه الله ـ أيضاً قالوا: للإمام أن يصرف الغنيمة فيما يشاء من مصالح المسلمين، ويمنع منها الغزاة الغانمين.
واحتجوا لذلك بأدلة منها قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ} . قالوا: الأنفال: الغنائم كلها، والآية محكمة لا منسوخة، واحتجوا لذلك أيضاً بما وقع في فتح مكة. وقصة حنين قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم فتح مكة عنوة بعشرة آلاف مقاتل، ومن على أهلها فردها عليهم، ولم يجعلها غنيمة ولم يقسمها على الجيش، فلو كان قسم الأخماس الأربعة على الجيش واجباً: لفعله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة. قالوا: وكذلك غنائم هوازن في غزوة حنين، أعطى منها عطايا عظيمة جداً، ولم يعط الأنصار منها مع أنهم من خيار المجاهدين الغازين معه صلى الله عليه وسلم، وقد أشار لعطاياه من غنائم هوازن في وقعة حنين الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي في غزوة حنين بقوله:
أعطى عطايا شهدت بالكرم يومئذ له ولم تجمجم
أعطى عطايا أخجلت دلح الديم إذا ملأت رحب الغضا من النعم
زهاء ألفي ناقة منها وما ملأ بين جبلين غنما
لرجل وبله ما لحلقه منها ومن رقيقه وورقه
الخ قالوا: لو كان يجب قسم الأخماس الأربعة على الجيش الذي غنمها، لما أعطى صلى الله عليه وسلم ألفى ناقة من غنائم هوزان لغير الغزاة، ولما أعطى ما ملأ بين جبلين من الغنم لصفوان بن أمية، وفي ذلك اليوم أعطى الأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل، وكذلك عيينة بن حصن الفزاري حتى غار من ذلك العباس بن مرداس السلمي وقال في ذلك شعره المشهور: أتجعل نهبي ونهب العبيد بن عيينة والأقرع
فما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرىء منهما ومن تضع اليوم لا يرفع
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ فلم أعط شيئاً ولم أمنع
إلا أباعير أعطيتها عديد قوائمه الأربع
وكانت نهاباً تلافيتها بكرى على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم إن يرقدوا إذا هجع الناس لم أهجع
قالوا: فلو كان قسم الأخماس الأربعة على الجيش الغانمين واجباً، لما فضل الأقرع وعيينة في العطاء من الغنيمة على العباس بن مرداس في أول الأمر قبل أن يقول شعره المذكور. وأجيب من جهة الجمهور عن هذه الاحتجاجات: فالجواب عن آية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنفَالِ} هو ما قدمنا من أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ}، ونسبه القرطبي لجمهور العلماء، والجواب عما وقع في فتح مكة من أوجه: ـ.
الأول: أن بعض العلماء زعموا أن مكة لم تفتح عنوة، ولكن أهلها أخذوا الأمان منه صلى الله عليه وسلم. وممن قال بهذا الشافعي رحمه الله.
واستدل قائلوا هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» وهو ثابت في الصحيح، وهذا الخلاف في مكة هل أخذها النَّبي صلى الله عليه وسلم عنوة؟ وهو قول الجمهور، أو أخذ لها الأمان. والأمان شبه الصلح، عقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله: في غزوة الفتح يعني مكة. واختلفوا فيها فقيل أمنت وقيل عنوة وكرهاً أخذت
والحق أنها فتحت عنوة كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله. ومن أظهر الأجوبة عما وقع في فتح مكة، أن مكة ليست كغيرها من البلاد، لأنها حرام بحرمة الله من يوم خلق السماوات والأرض إلى يوم القيامة، وإنما أحلت له صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار، ولم تحل لأحد قبله ولا بعده، وما كان بهذه المثابة، فليس كغيره من البلاد التي ليست لها هذه الحرمة العظيمة.
وأما ما وقع في قصة حنين فالجواب عنه ظاهر، وهو أن النَّبي صلى الله عليه وسلم استطاب نفوس الغزاة عن الغنيمة ليؤلف بها قلوب المؤلفة قلوبهم لأجل المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، ويدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما سمع أن بعض الأنصال قال: يمنعنا ويعطي قريشاً، وسيوفنا تقطر من دمائهم، جمعهم النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكلمهم كلامه المشهور البالغ في الحسن، ومن جملته أنه قال لهم: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم» إلى آخر كلامه، فرضي القوم، وطابت نفوسهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظاً، وهذا ثابت في الصحيح، ونوه الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بحسن هذا الكلام الذي خاطبهم به صلى الله عليه وسلم بقوله: في غزوة حنين. ووكل الأنصار خير العالمين لدينهم إذا ألف المؤلفين
فوجدوا عليه أن منعهم فأرسل النَّبي من جمعهم
وقال قولاً كالفريد المؤنق عن نظمه ضعف سلك منطقي
فالحاصل أن أربعة أخماس الغنيمة التي أوجف الجيش عليها الخيل، والركاب للغزاة الغانمين على التحقيق، الذي لا شك فيه، وهو قول الجمهور.
وقد علمت الجواب عن حجج المخالفين في ذلك. ومن العلماء من يقول: لا يجوز للإمام أن ينفل أحداً شيئاً من هذه الأخماس الأربعة، لأنها ملك للغانمين، وهو قول مالك.
وذهب بعض العلماء إلى أن للإمام أن ينفل منها بعض الشيء باجتهاده، وهو أظهر دليلاً، وسيأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى. * * *
المسألة الثانية: هي تحقيق المقام في مصارف الخمس الذي يؤخذ من الغنيمة قبل القسمة. فظاهر الآية الكريمة أنه يجعل ستة أنصباء: نصيب لله جل وعلا، ونصيب للرسول صلى الله عليه وسلم، ونصيب لذي القربى، ونصيب لليتامى، ونصيب للمساكين، ونصيب لابن السبيل.
وبهذا قال بعض أهل العلم: قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية الرياحي، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة فيخمسها على خمسة تكون أربعة أخماس منها لمن شهدها، ثم يؤخذ الخمس فيضرب بيده فيه، فيأخذ الذي قبض كفه، فيجعله للكعبة وهو سهم الله، ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم، فيكون سهم للرسول صلى الله عليه وسلم وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.
وعلى هذا القول فنصيب الله جل وعلا يجعل للكعبة، ولا يخفى ضعف هذا القول لعدم الدليل عليه.
وقال بعض من قال بهذا القول: إن نصيب الله جل وعلا يرد على ذوي الحاجة.
والتحقيق أن نصيب الله جل وعلا، ونصيب الرسول صلى الله عليه وسلم واحد، وذكر اسمه جل وعلا استفتاح كلام للتعظيم، وممن قال بهذا القول ابن عباس، كما نقله عنه الضحاك. وهو قول إبراهيم النخعي، والحسن بن محمد بن الحنفية، والحسن البصري، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن بريدة، وقتادة، ومغيرة وغير واحد كما نقله عنهم ابن كثير.
والدليل على صحة هذا القول ما رواه البيهقي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن شقيق، عن رجل، قال: أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، وهو يعرض فرساً، فقلت: يا رسول الله ما تقول في الغنيمة؟
فقال: «لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش» قلت: فما أحد أولى به من أحد، قال: «لا ولا السهم تستخرجه من جيبك لست أحق به من أخيك المسلم» وهذا دليل واضح على ما ذكرنا. ويؤيده أيضاً ما رواه الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب الكندي، أنه جلس مع عبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، والحارث بن معاوية الكندي رضي الله عنهم، فتذاكروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء لعبادة: يا عبادة كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء لعبادة: يا عبادة كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس، فقال عبادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم. فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتناول وبرة بين أنملتيه، فقال: «إن هدى من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا فإن الغلول عار ونار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في السفر والحضر، وجاهدوا في الله، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله به من الهم والغم».
قال ابن كثير بعد أن ساق حديث أحمد. هذا عن عبادة بن الصامت، هذا حديث حسن عظيم، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه: ولكن روى الإمام أحمد أيضاً، وأبو داود، والنسائي من حديث عمرو بن شعيب. عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحوه في قصة الخمس، والنهي عن الغلول.
وعن عمرو بن عبسة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من هذا البعير. ثم قال: «ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذه إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» رواه أبو داود، والنسائي.
فإذا عرفت أن التحقيق أن الخمس في حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم. يقسم خمسة أسهم، لأن اسم الله ذكر للتعظيم، وافتتاح الكلام به، مع أن كل شيء مملوك له جل وعلا، فاعلم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يصرف نصيبه، الذي هو خمس الخمس، في مصالح المسلمين. بدليل قوله في الأحاديث التي ذكرناها آنفاً. «والخمس مردود عليكم»، وهو الحق.
ويدل له ما ثبت في الصحيح: من أنه كان يأخذ قوت سنته من فيء بني النضير، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأما بعد وفاته، وانتقاله إلى الرفيق الأعلى صلوات الله وسلامه عليه. فإن بعض العلماء يقول بسقوط نصيبه بوفاته.
وممن قال بذلك: أبو حنيفة رحمه الله، واختاره بن جرير.
وزاد أبو حنيفة سقوط سهم ذوي القربى أيضاً: بوفاته صلى الله عليه وسلم.
والصحيح أن نصيبه صلى الله عليه وسلم باق، وأن إمام المسلمين يصرفه فيما كان يصرفه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصالح المسلمين.
وقال بعض العلماء يكون نصيبه صلى الله عليه وسلم لمن يلي الأمر بعده، وروي عن أبي بكر، وعلي وقتادة، وجماعة، قال ابن كثير: وجاء فيه حديث مرفوع.
قالم مقيده: ـ عفا الله عنه ـ والظاهر أن هذا القول راجع في المعنى إلى ما ذكرنا أنه الصحيح، وأن معنى كونه لمن يلى الأمر بعده، أنه يصرفه فيما كان يصرفه فيه صلى الله عليه وسلم، والنَّبي قال: «الخمس مردود عليكم» وهو واضح كما ترى.
ولا يخفى أن كل الأقوال في نصيب النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. راجعة إلى شيء واحد. وهو صرفه في مصالح المسلمين.
وقد كان الخلفاء الراشدون المهديون ـ رضي الله عنهم ـ يصرفونه فيما كان يصرفه فيه صلى الله عليه وسلم.
وكان أبو بكر، وعمر ـ رضي الله عنهما ـ يصرفانه في الكراع والسلاح.
وجمهور العلماء على أن نصيب ذوي القربى باق، ولم يسقط بموته صلى الله عليه وسلم.
واختلف العلماء فيه من ثلاث جهات:
الأولى: هل يسقط بوفاته أو لا؟
وقد ذكرنا أن الصحيح عدم السقوط. خلافاً لأبي حنيفة.
الثانية: في المراد بذي القربى.
الثالثة: هل يفضل ذكرهم على أنثاهم أو لا؟
أما ذوا القربى: فهم بنو هاشم، وبنو المطلب. على أظهر الأقوال دليلاً، وإليه ذهب الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور، ومجاهد، وقتادة، وابن جريج، ومسلم بن خالد.
قال البخاري في صحيحه، في كتاب «فرض الخمس».
حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب. عن جبير بن مطعم. قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بنو المطلب، وبنو هاشم شيء واحد».
قال الليث: حدثني يونس وزاد قال جبير: ولم يقسم النَّبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل، اهـ.
وقال البخاري أيضاً في المغازي: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن جبير بن مطعم أخبره. قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر، وتركتنا، ونحن بمنزلة واحدة منك، فقال: «إنما بنو هاشم، وبنو المطلب شيء واحد»، قال جبير: لم يقسم النَّبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس، وبني نوفل شيئاً اهـ.
وإيضاح كونهم من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة واحدة: أن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وعثمان بن عفان بن أبي العاص بن عبد شمس بن عبد مناف.
فأولاد عبد مناف بن قصي أربعة:
هاشم، والمطلب، وعبد شمس.
وهم: أشقاء. أمهم: عاتكة، بنت مرة، بن هلال السلمية، إحدى عواتك سليم. اللاتي هن جدات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن ثلاث:
هذه: التي ذكرنا.
والثانية: عمتها. وهي: عاتكة، بنت هلال التي هي أم عبد مناف.
والثالثة: بنت أخي الأولى. وهي عاتكة، بنت الأوقص، بن مرة، بن هلال، وهي أم وهب، والد آمنة، أم النبي صلى الله عليه وسلم.
ورابع أولاد عبد مناف: نوفل. بن عبد مناف، وأمه: واقدة، بنت أبي عدي، واسمه نوفل، بن عبادة بن مازن، بن صعصعة.
قال الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه عمود النسب:
عبد مناف قمر البطحاء أربعة بنوه هؤلاء
مطلب، وهاشم، ونوفل، وعبد شمس، هاشم لا يجهل
وقال في بيان عواتك سليم اللآتي هن جدات له صلى الله عليه وسلم: عواتك النَّبي: أم وهب، وأم هاشم، وأم الندب
عبد مناف، وذه الأخيره عمة عمة الأولى الصغيره
وهن بالترتيب ذا لذي لرجال الأوقص بن مرة بن هلال
فبهذا الذي بينا يتضح أن الصحيح أن المراد بذي القربى في الآية: بنو هاشم، وبنو المطلب دون بني عبد شمس، وبني نوفل.
ووجهه أن بني عبد شمس، وبني نوفل عادوا الهاشميين، وظاهروا عليهم قريشاً، فصاروا كالأباعد منهم. للعداوة، وعدم النصرة.
ولذا قال فيهم أبو طالب. في لاميته المشهورة: جزى الله عنا عبد شمس، ونوفلا عقوبة شر، عاجل، غير آجل
بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه، غير عائل
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا بني خلف قيضا بنا، والغياطل
ونحن الصميم من ذؤابة هاشم وآل قصبي في الخطوب الأوائل
بهذا الحديث الصحيح الذي ذكرنا: يتضح عدم صحة قول من قال: بأنهم بنو هاشم فقط. وقول من قال: إنهم قريش كلهم.
وممن قال بأنهم بنو هاشم فقط: عمر بن عبد العزيز، وزيد بن أرقم، ومالك، والثوري، ومجاهد وعلي بن الحسين، والأوزاعي، وغيرهم.
وقد أخرج الشافعي، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، ومسلم، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه: عن ابن عباس: أن نجدة الحروري كتب إليه: يسأله عن ذوي القربى الذين ذكر الله، فكتب إليه: إنا كنا نرى أناهم، فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا: قريش كلها ذوو قربى.
وزيادة قوله: وقالوا: «قريش كلها» تفرد بها أبو معشر، وفيه ضعف.
وما قدمنا من قول النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفعله الثابت في الصحيح: يعين أنهم بنو هاشم، والمطلب، وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل، وكثير من أهل العلم.
فإذا عرفت أنه صلى الله عليه وسلم قضى بخمس الخمس من غنائم خيبر لبني هاشم والمطلب، وأنهم هم ذوو القربى المذكورون في الآية.
فاعلم أن العلماء اختلفوا: هل يفضل ذكرهم على أنثاهم، أو يقسم عليهم بالسوية؟
فذهب بعض العلماء إلى أنه كالميراث، للذكر مثل حظ الأنثيين. وهذا هو مذهب أحمد بن حنبل في أصح الروايتين.
قال صاحب الإنصاف: هذا المذهب جزم به الخرقي، وصاحب الهداية، والمذهب، ومسبوك الذهب، والعمدة، والوجيز، وغيرهم. وقدمه في الرعايتين، والحاويين، وغيرهم، وصححه في البلغة، والنظم، وغيرهما.
وعنه: الذكر والأنثى. سواء. قدمه ابن رزين في شرحه. وأطلقهما في المغني، والشرح، والمحرر، والفروع، اهـ من الإنصاف.
وتفضيل ذكرهم على أنثاهم الذي هو مذهب الإمام أحمد: هو مذهب الشافعي أيضاً.
وحجة من قال بهذا القول: أنه سهم استحق بقرابة الأب شرعاً. بدليل أن أولاد عماته صلى الله عليه وسلم، كالزبير بن العوام، وعبد الله بن أبي أمية. لم يقسم لهم في خمس الخمس، وكونه مستحقاً بقرابة الأب خاصة يجعله كالميراث. فيفضل فيه الذكر على الأنثى.
وقال بعض العلماء: ذكرهم وأنثاهم سواء.
وممن قال به المزني: وأبو ثور، وابن المنذر.
قال مقيده: ـ عفا الله عنه ـ وهذا القول أظهر عندي، لأن تفضيل الذكر على الأنثى يحتاج إلى دليل، ولم يقم عليه في هذه المسألة دليل، ولم ينقل أحد عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنه فضل ذكرهم على أنثاهم في خمس الخمس.
والدليل على أنه ليس كالميراث: أن الابن منهم يأخذ نصيبه مع وجود أبيه، وجده اهـ.
وصغيرهم، وكبيرهم سواء. وجمهور العلماء القائلين بنصب القرابة على أنه يقسم على جميعهم. ولم يترك منهم أحد خلافاً لقوم.
والظاهر شمول غنيهم. خلافاً لمن خصص به فقراءهم، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخصص به فقراءهم، بخلاف نصيب اليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
فالظاهر أنه يخصص به فقراؤهم، ولا شيء لأغنيائهم، فقد بان لك مما تقدم أن مذهب الشافعي، وأحمد ـ رحمهما الله ـ في هذه المسألة: أن سهم الله، وسهم رسوله صلى الله عليه وسلم واحد. وأنه بعد وفاته يصرف في مصالح المسلمين. وأن سهم القرابة لبني هاشم، وبني المطلب. للذكر مثل حظ الأنثيين، وأنه لجميعهم. غنيهم وفقيرهم، قاتلوا أم لم يقاتلوا، وأن للذكر منهم مثل حظ الأنثيين، وأن الأنصباء الثلاثة الباقية لخصوص الفقراء من اليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
ومذهب أبي حنيفة: سقوط سهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وسهم قرابته بموته، وأن الخمس يقسم على الثلاثة الباقية: التي هي اليتامى، والمساكين وابن السبيل.
قال: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة، والجند، وروي نحو هذا عن الشافعي أيضاً.
ومذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ أن أمر خمس الغنيمة موكول إلى نظر الإمام واجتهاده. فيما يراه مصلحة، فيأخذ منه من غير تقدير، ويعطي القرابة باجتهاده، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها: وبقول مالك هذا: قال الخلفاء الأربعة، وبه عملوا، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: «مالي مما أفاء الله عليكم إلا لخمس، والخمس مردود عليكم»، فإنه لم يقسمه أخماساً، ولا أثلاثاً، وإنما ذكر في الآية من ذكر على وجه التنبيه عليهم. لأنهم من أهم من يدفع إليه.
قال الزجاج: محتجاً لمالك، قال الله عز وجل: {يَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلاٌّقْرَبِينَ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينَ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ} .
وللرجل جائز بإجماع العلماء أن ينفق في غير هذه الأصناف، إذا رأى ذلك، وذكر النسائي عن عطاء، قال: «خمس الله، وخمس رسوله واحد، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل منه، ويعطى منه، ويضعه حيث شاء» اهـ من القرطبي.
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: «وقال آخرون: إن الخمس يتصرف فيه الإمام بالمصلحة للمسلمين، كما يتصرف في مال الفيء.
وقال شيخنا العلامة ابن تيمية: رحمه الله ـ وهذا قول مالك، وأكثر السلف، وهو أصح الأقوال اهـ من ابن كثير.
وهذا القول هو رأي البخاري بدليل قوله: باب قول الله تعالى: {فَأَنَّ للَّهِ خَمْسَةٍ وَلِلرَّسُولِ} يعني للرسول قسم ذلك.
وقال رسول الله: «إنما أنا قاسم، وخازن، والله يعطي» ثم ساق البخاري أحاديث الباب، في كونه صلى الله عليه وسلم قاسماً بأمر الله تعالى.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: وهذا القول قوي، وستأتي له أدلة إن شاء الله في المسألة التي بعد هذا، ولكن أقرب الأقوال للسلامة هو العمل بظاهر الآية، كما قال الشافعي، وأحمد ـ رحمهما الله ـ لأن الله أمرنا أن نعلم أن خمس ما غنمنا. لهذه المصارف المذكورة، ثم أتبع ذلك بقوله: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}، وهو واضح جداً، كما ترى.
وأما قول بعض أهل البيت. كعبد الله بن محمد بن علي، وعلي بن الحسين رضي الله عنهم: بأن الخمس كله لهم دون غيرهم، وأن المراد باليتامى، والمساكين: يتاماهم، ومساكينهم، وقول من زعم أنه بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم، يكون لقرابة الخليفة الذي يوليه المسلمون، فلا يخفي ضعفهما، والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: أجمع العلماء على أن الذهب، والفضة، وسائر الأمتعة. كل ذلك داخل في حكم الآية: يخمس، ويقسم الباقي على الغانمين، كما ذكرنا.
المسألة الرابعة: أما أرضهم المأخوذة عنوة. فقد اختلف العلماء فيها، فقال بعض العلماء: يخير الإمام بين قسمتها، كما يفعل بالذهب، والفضة. ولا خراج عليها. بل هي أرض عشر مملوكة، للغانمين، وبين وقفها للمسلمين بصيغة.
وقيل بغير صيغة، ويدخل في ذلك تركها للمسلمين بخراج مستمر يؤخذ ممن تقر بيده، وهذا التخيير: هو مذهب الإمام أحمد.
وعلى هذا القول: إذا قسمها الإمام، فقيل: تخمس، وهو أظهر، وقيل: لا، واختاره بعض أجلاء العلماء قائلاً: إن أرض خيبر لم يخمس ما قسم منها.
والظاهر أن أرض خيبر خمست، كما جزم به غير واحد، ورواه أبو داود بإسناد صحيح عن الزهري.
وهذا التخيير بين القسم، وإبقائها للمسلمين، الذي ذكرنا أنه مذهب الإمام أحمد: هو أيضاً مذهب الإمام أبي حنيفة، والثوري.
وأما مالك ـ رحمه الله ـ فذهب إلى أنها تصير وقفاً للمسلمين، بمجرد الإستيلاء عليها.
وأما الشافعي ـ رحمه الله ـ فذهب إلى أنها غنيمة يجب قسمها على المجاهدين، بعد إخراج الخمس، وسنذكر ـ إن شاء الله ـ حجج الجميع، وما يظهر لنا رجحانه بالدليل.
أما حجة الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ فهي بكتاب وسنة.
أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ} ، فهو يقتضي بعمومه شمول الأرض المغنومة.
وأما السنة: فما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم، قسم أرض قريظة، بعد أن خمسها، وبني النضير، ونصف أرض خيبر بين الغانمين.
قال: فلو جاز أن يدعي، إخراج الأرض، جاز أن يدعي إخراج غيرها، فيبطل حكم الآية.
قال مقيده ـ عفا الله عنه، الاستدلال بالآية: ظاهر، وبالسنة غير ظاهر؛ لأنه لا حجة فيه على من يقول بالتخيير، لأنه يقول: كان مخيراً فاختار القسم، فليس القسم واجباً، وهو واضح كما ترى.
وحجة من قال بالتخيير: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قسم نصف أرض خيبر، وترك نصفها، وقسم أرض قريظة، وترك قسمة مكة، فدل قسمه تارة، وتركه القسم أخرى، على التخيير.
ففي (السنن) و (المستدرك): «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، لما ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهماً، جمع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللمسلمين؛ النصف من ذلك، وعزل النصف الباقي لمن ينزل به من الوفود، والأمور، ونوائب الناس»، هذا لفظ أبي داود.
وفي لفظ: «عزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهماً، وهو الشطر ـ لنوائبه، وما ينزل به من أمر المسلمين، فكان ذلك: الوطيح، والكتيبة، والسلالم، وتوابعها».
وفي لفظ أيضاً: «عزل نصفها لنوائبه، وما ينزل به؛ الوطيحة، والكتيبة، وما أحيز معهما، وعزل النصف الآخر: فقسمه بين المسلمين، الشق، والنطاة، وما أحيز معهما، وكان سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أحيز معهما».
ورد المخالف هذا الاحتجاج، بأن النصف المقسوم من خيبر: مأخوذ عنوة، والنصف الذي لم يقسم منها: مأخوذ صلحاً، وجزم بهذا ابن حجر في (فتح الباري).
وقال النووي في (شرح مسلم) في الكلام على قول أنس عند مسلم: وأصبناها عنوة ما نصه «قال القاضي: قال المازري: ظاهر هذا أنها كلها فتحت عنوة، وقد روى مالك، عن ابن شهاب، أن بعضها فتح عنوة، وبعضها صلحاً، قال: وقد يشكل ما روي في سنن أبي داود، أنه قسمها نصفين: نصفاً لنوائبه، وحاجته، ونصفاً للمسلمين، قال: وجوابه، ما قال بعضهم: إنه كان حولها ضياع وقرى أجلى عنها أهلها، فكانت خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم، وما سواها للغانمين، فكان قدر الذي جلوا عنه النصف، فلهذا قسم نصفين اهـ منه بلفظه.
وقال أبو داود في (سننه): حدثنا حسين بن علي العجلي، ثنا يحيى ـ يعني ابن آدم ـ، ثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، وعبد الله بن أبي بكر، وبعض ولد محمد بن مسلمة، قالوا: بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يحقن دماءهم، ويسيرهم، ففعل، فسمع بذلك أهل فدك، فنزلوا على مثل ذلك، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، لأنها لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، ثنا عبد الله بن محمد، عن جويرية، عن مالك، عن الزهري: أن سعيد بن المسيب، أخبره: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، افتتح بعض خيبر عنوة».
قال أبو داود: وقرىء على الحارث بن مسكين، وأنا شاهد؛ أخبرهم ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب: أن خيبر كان بعضها عنوة، وبعضها صلحاً، والكتيبة أكثرها عنوة، وفيها صلح؛ قلت لمالك: وما الكتيبة؟ قال: أرض خيبر، وهي أربعون ألف عذق.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: وهذا الذي ذكرنا: يقدح في الاحتجاج لتخيير الإمام في القسم، والوقفية بقضية خيبر، كما ترى، وحجة قول مالك ـ رحمه الله ـ ومن وافقه في أن أرض العدو المفتوحة عنوة تكون وقفاً للمسلمين، بمجرد الاستيلاء عليها أمور.
منها: قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في (صحيح مسلم) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه: «منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم»، شهد على ذلك، لحم أبي هريرة ودمه.
ووجه الاستدلال عندهم بالحديث: أن: «منعت العراق... الخ» بمعنى ستمنع؛ وعبر بالماضي إيذاناً بتحقق الوقوع، كقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ} ، وقوله: {أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ} .
قالوا: فدل ذلك على أنها لا تكون للغانمين، لأن ما ملكه الغانمون لا يكون فيه قفيز، ولا درهم، ولحديث مسلم هذا؛ شاهد من حديث جابر عند مسلم أيضاً، ومن حديث أبي هريرة أيضاً عند البخاري.
وقال ابن حجر في (فتح الباري) في كتاب «فرض الخمس» ما نصه: وذكر ابن حزم: أن بعض المالكية احتج بقوله في حديث أبي هريرة: «منعت العراق درهمها» الحديث. على أن الأرض المغنومة: لا تباع، ولا تقسم، وأن المراد بالمنع: منع الخراج، ورده بأن الحديث: ورد في الإنذار بما يكون من سوء العاقبة، وأن المسلمين سيمنعون حقوقهم في آخر الأمر، وكذلك وقع.
واحتجوا أيضاً بما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها، كما قسم النَّبي صلى الله عليه وسلم خيبر».
وفي لفظ في الصحيح عن عمر: «أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس بياناً ليس لهم شيء؛ ما فتحت عليَّ قرية إلا قسمتها، كما قسم النَّبي صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها».
واحتج أهل هذا القول أيضاً. بأن الأرض المغنومة لو كانت تقسم، لم يبق لمن جاء بعد الغانمين شيء، والله أثبت لمن جاء بعدهم شركة بقوله: {وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَ} ، فإنه معطوف على قوله: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَـٰجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُو} وقوله: {وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَـٰنَ} ، وقول من قال. إن قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} مبتدأ خبره {يَقُولُونَ} غير صحيح.
لأنه يقتضي أنه تعالى. أخبر بأن كل من يأتي بعدهم يقول: {رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَٰنِنَ} . والواقع خلافه: لأن كثيراً ممن جاء بعدهم يسبون الصحابة ويلعنونهم، والحق أن قوله: {وَٱلَّذِينَ جَآءُو} معطوف على ما قبله، وجملة {يَقُولُونَ} حال كما تقدم في «آل عمران»، وهي قيد لعاملها وصف لصاحبها.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: هذه الأدلة التي استدل بها المالكية، لا تنهض فيما يظهر، لأن الأحاديث المذكورة لا يتعين وجه الدلالة فيها، لأنه يحتمل أن يكون الإمام مخيراً، فاختار إبقاءها للمسلمين، ولم يكن واجباً في أول الأمر، كما قدمنا.
والاستدلال بآية الحشر المذكورة: واضح السقوط، لأنها في الفيء، والكلام في الغنيمة، والفرق بينهما معلوم كما قدمنا.
قال مقيده: ـ عفا الله عنه ـ أظهر الأقوال دليلاً أن الإمام مخير، ويدل عليه كلام عمر في الأثر المار آنفاً، وبه تنتظم الأدلة، ولم يكن بينها تعارض، والجمع واجب متى ما أمكن.
وغاية ما في الباب: أن تكون السنة دلت على تخصيص واقع في عموم قوله تعالى: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ} .
وتخصيص الكتاب بالسنة كثير.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها، بعد أن ذكر القول بالتخيير: ما نصه: «قال شيخنا أبو العباس رضي الله عنه: وكأن هذا جمع بين الدليلين، ووسط بين المذهبين، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه قطعاً.
ولذلك قال: «لولا آخر الناس» فلم يخبر بنسخ فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ ولا بتخصيصه بهم.
فإن قيل: لا تعارض بين الأدلة على مذهب الشافعي: لأن ما وقع فيه القسم من خيبر مأخوذ عنوة، وما لم يقسم منها مأخوذ صلحاً، والنضير فيء، وقريظة قسمت.
ولو قال قائل: إنها فيء أيضاً؛ لنزولهم على حكم النَّبي صلى الله عليه وسلم، قبل أن يحكم فيهم سعداً، لكان غير بعيد؛ ولكن يرده: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم خمسها، كما قاله مالك، وغيره.
ومكة مأخوذة صلحاً؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن».
هذا ثابت في صحيح مسلم.
فالجواب: أن التحقيق أن مكة فتحت عنوة، ولذلك أدلة واضحة.
منها: أنه لم ينقل أحد أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صالح أهلها زمن الفتح، ولا جاءه أحد منهم؛ فصالحه على البلد؛ وإنما جاءه أبو سفيان؛ فأعطاه الأمان لمن دخل داره، أو أغلق بابه، أو دخل المسجد، أو ألقى سلاحه.
ولو كانت قد فتحت صلحاً لم يقل «من دخل داره، أو أغلق بابه، أو دخل المسجد فهو آمن» فإن الصلح يقتضي الأمان العام.
ومنها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه أذن لي فيها ساعة من نهار».
وفي لفظ: «إنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار».
وفي لفظ: «فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس»، وهذا صريح في أنها فتحت عنوة.
ومنها: أنه ثبت في الصحيح، «أنه يوم فتح مكة جعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على الحسر، فأخذوا بطن الوادي، ثم قال: يا أبا هريرة اهتف لي بالأنصار، فجاءوا يهرولون، فقال: يا معشر الأنصار، هل ترون إلى أوباش قريش؟ قالوا: نعم، قال: انظروا إذا لقيتوهم غداً أن تحصدوهم حصداً، وأحفى بيده، ووضع يمينه على شماله، وقال: موعدكم الصفا، وجاءت الأنصار، فأطافوا بالصفا، قال: فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا، وجاءت الأنصار، فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان، فقال: يا رسول الله أبيدت خضراء قريش؛ لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن».
أخرجه مسلم في (صحيحه) من حديث أبي هريرة.
وذكر أهل المغازي تفصيل ما أجمل في حديث مسلم هذا، فبينوا أنه قتل من الكفار اثنا عشر، وقيل: قتل من قريش أربعة وعشرون، ومن هذيل أربعة، وقتل يومئذ من المسلمين ثلاثة، وهم سلمة بن الميلاء الجهني، وكرز بن جابر المحاربي ـ نسبة إلى محارب بن فهر ـ وخنيس بن خالد الخزاعي. أخو أم معبد، وقال كرز قبل أن يقتل في دفاعه عن خنيس: قد علمت بيضاء من بني فهر نقية اللون نقية الصدر
• لأضربن اليوم عن أبي صخر * وفيه نقل الحركة في الوقف، ورجز حماس بن قيس المشهور يدل على القتال يوم الفتح، وذكره الشنقيطي في مغازيه بقوله:
• وزعم ابن قيس أن سيحفدا نساءهم خلته وأنشدا
• إن يقبلوا اليوم فمالي عله هذا سلاح كامل وأله
•
• وذو غرارين سريع السله وشهد المأزق فيه حطما رمزبب من قومه فانهزما
• وجاء فاستغلق بابها البتول فاستفهمته أينما كنت تقول
• فقال والفزع زعفر دمه إنك لو شهدت يوم الخندمه
• إذ فر صفوان وفر عكرمه وبو يزيد قائم كالمؤتمه
• واستقبلتنا بالسيوف المسلمه لهم نهيت خلفنا وهمهمه
• يقطعن كل ساعد وجمجمه ضربا فلا تسمع إلا غمغمه
•
• * لم تنطقي باللوم أدنى كلمه * وهذا الرجز صريح في وقوع القتال والقتل يوم فتح مكة.
• ومصداقه في الصحيح كما تقدم.
• ومنها: أيضاً؛ أن أم هانىء، بنت أبي طالب رضي الله عنها أجارت رجلاً، فأراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء»، وفي لفظ عنها: لما كان يوم فتح مكة، أجرت رجلين من أحمائي، فأدخلتهما بيتاً؛ وأغلقت عليهما باباً، فجاء ابن أمي عليَّ، فتفلت عليهما بالسيف» فذكرت حديث الأمان وقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء» وذلك ضحى ببطن مكة بعد الفتح. وقصتها ثابتة في الصحيح.
فإجارتها له، وإرادة علي رضي الله عنه قتله، وإمضاء النَّبي صلى الله عليه وسلم إجارتها: صريح في أنها فتحت عنوة.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم، أمر بقتل مقيس بن صبابة، وابن خطل، وجاريتين.
ولو كانت فتحت صلحاً، لم يؤمر بقتل أحد من أهلها، ولكان ذكر هؤلاء مستثنى من عقد الصلح.
وأمره صلى الله عليه وسلم بقتل من ذكر: ثابت عنه صلى الله عليه وسلم.
وفي السنن بإسناد صحيح: «أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما كان يوم فتح مكة، قال: أمنوا الناس إلا امرأتين وأربعة نفر؛ اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة» إلى غير ذلك من الأدلة.
فهذه أدلة واضحة على أن مكة ـ حرسها الله ـ فتحت عنوة.
وكونها فتحت عنوة: يقدح فيما ذهب إليه الشافعي من وجوب قسم الأرض المغنومة عنوة.
فالذي يتفق عليه جميع الأدلة، ولا يكون بينها أي تعارض: هو ما قدمنا من القول بالتخيير بين قسم الأرض، وإبقائها للمسلمين، مع ما قدمنا من الحجج، والعلم عند الله تعالى.
وإذا عرفت أن التحقيق أن مكة فتحت عنوة، فاعلم أن العلماء اختلفوا في رباع مكة: ـ هل يجوز تملكها، وبيعها، وإيجارها؟ ـ على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يجوز شيء من ذلك، وبه قال أبو حنيفة، والأوزاعي، والثوري، ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وإبراهيم، والحسن، وإسحاق. وغيرهم.
وكرهه مالك ـ رحمه الله ـ.
وأجاز جميع ذلك الشافعي، وأبو يوسف.
وبه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجماعة من الصحابة ومن بعدهم..
وتوسط الإمام أحمد، فقال: تملك، وتورث، ولا تؤجر، ولا تباع، على إحدى الروايتين، جمعاً بين الأدلة، والرواية الثانية كمذهب الشافعي.
وهذه المسألة: تناظر فيها الإمام الشافعي، وإسحاق بن راهويه في مسجد الخيف ـ والإمام أحمد بن حنبل حاضر ـ فأسكت الشافعي إسحاق بالأدلة، بعد أن قال له: ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك، فكنت آمر بفرك أذنيه، أنا أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: قال طاوس، والحسن، وإبراهيم، وهل لأحد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة؟ ـ في كلام طويل ـ.
ونحن نذكر إن شاء الله أدلة الجميع، وما يقتضي الدليل رجحانه منها.
فحجة الشافعي ـ رحمه الله ـ ومن وافقه بأمور.
الأول: حديث أسامة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما سأله. أين تنزل غداً؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟» وفي بعض الروايات «من منزل»، وفي بعضها «منزلاً» أخرج هذا الحديث البخاري في كتاب «الحج» في باب «توريث دور مكة، وشرائها» الخ وفي كتاب «المغازي» في غزوة الفتح في رمضان في باب أين ركز النَّبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح، وفي كتاب الجهاد في باب «إذا أسلم قوم في دار الحرب، ولهم مال وأرضون فهي لهم» وأخرجه مسلم في كتاب «الحج» في باب «النزول بمكة للحاج وتوريث دورها. بثلاث روايات هي مثل روايات البخاري.
فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المتفق عليه: «وهل ترك لنا عقيل من رباع» صريح في إمضائه صلى الله عليه وسلم بيع عقيل بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ تلك الرباع.
ولو كان بيعها، وتملكها لا يصح لما أقره النَّبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يقر على باطل بإجماع المسلمين.
الثاني: أن الله تبارك وتعالى أضاف المهاجرين من مكة ديارهم، وذلك يدل على أنها ملكهم في قوله: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَـٰجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ} .
قال النووي في (شرح المهذب): فإن قيل: قد تكون الإضافة لليد والسكنى، لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ} .
فالجواب: أن حقيقة الإضافة تقتضي الملك، ولذلك لو قال: هذه الدار لزيد حكم بملكها لزيد، ولو قال: أردت به السكنى واليد، لم يقبل.
ونظير الآية الكريمة: ما احتج به أيضاً.
من الإضافة في قوله: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» الحديث.
وقد قدمنا أنه في (صحيح مسلم).
الثالث: الأثر المشهور في سنن البيهقي وغيره. «أن نافع بن الحارث، اشترى من صفوان بن أمية، دار السجن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، بأربعمائة». وفي رواية «بأربعة آلاف»، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة.
وروى الزبير بن بكار والبيهقي: أن حكيم بن حزام رضي الله عنه، باع دار الندوة بمكة من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف، فقال له عبد الله بن الزبير: يا أبا خالد بعت مأثرة قريش وكريمتها، فقال: هيهات ذهبت المكارم فلا مكرمة اليوم إلا الإسلام، فقال: اشهدوا أنها في سبيل الله تعالى يعني الدراهم التي باعها بها.
وعقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه عمود النسب بقوله يعني قصياً: واتخذ الندوة لا يخترع في غيرها أمر ولا تدرع
جارية أو يعذر الغلام إلا بأمره بها يرام
وباعها بعد حكيم بن حزام وأنبوه وتصدق الهمام
سيد ناديه بكل الثمن إذ العلى بالدين لا بالدمن
الرابع: أنها فتحت صلحاً، فبقيت على ملك أهلها، وقد قدمنا ضعف هذا الوجه.
الخامس: القياس، لأن أرض مكة أرض حية ليست موقوفة، فيجوز بيعها قياساً على غيرها من الأرض.
واحتج من قال: بأن رباع مكة لا تملك ولا تباع. بأدلة:
منها قوله تعالى: {وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِى جَعَلْنَـٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَـٰكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ} قالوا: والمراد بالمسجد: جميع الحرم كله لكثرة إطلاقه عليه في النصوص، كقوله: {سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} ، وقوله: {إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} ، وقوله: {هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ} مع أن المنحر الأكبر من الحرم «منى».
ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ ٱلَّذِى حَرَّمَهَ} قالوا: والمحرم لا يجوز بيعه.
ومنها: ما أخرجه البيهقي من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مكة مناخ لا تباع رباعها، ولا تؤجر بيوتها».
ومنها: ما رواه أبو حنيفة، عن عبيد الله بن أبي زياد، عن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو، قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مكة حرام، وحرام بيع رباعها، وحرام أجر بيوتها».
ومنها ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله ألا نبني لك بيتاً أو بناء يظلك من الشمس؟ قال: «لا. إنما هو مناخ من سبق إليه» أخرجه أبو داود.
ومنها: ما رواه البيهقي، وابن ماجه، عن عثمان بن أبي سليمان، عن علقمة بن نضلة الكناني، قال: كانت بيوت مكة تدعى السوائب، لم تبع رباعها في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر ولا عمر، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن.
ومنها: ما روى عن عائشة رضي الله عنها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: «منى مناخ لمن سبق».
قال النووي في (شرح المهذب) في الجنائز، في «باب الدفن» في هذا الحديث، رواه أبو محمد الدارمي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم، بأسانيد جيدة من رواية عائشة رضي الله عنها.
قال الترمذي: هو حديث حسن.
وذكر في البيوع، في الكلام على بيع دور مكة، وغيرها من أرض الحرم: أن هذا الحديث صحيح.
ومنها: ما رواه عبد الرزاق بن مجاهدعن ابن جريج، قال: كان عطاء ينهي عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن عمر بن الخطاب، كان ينهي عن تبويب دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بوب داره، سهيل بن عمرو، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك، فقال. أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجراً، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري، فقال: ذلك لك إذن.
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن مجاهد: إن عمر بن الخطاب، قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبواباً لينزل البادي حيث يشاء. اهـ، قاله ابن كثير: إلى غير ذلك من الأدلة.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: أقوى الأقوال دليلاً فيما يظهر قول الشافعي ومن وافقه، لحديث أسامة بن زيد المتفق عليه، كما قدمنا، وللأدلة التي قدمنا غيره، ولأن جميع أهل مكة بقيت لهم ديارهم بعد الفتح يفعلون بها ما شاءوا من بيع، وإجارة، وغير ذلك.
وأجاب أهل هذا القول الصحيح عن أدلة المخالفين. فأجابوا عن قوله: {سَوَآءً ٱلْعَـٰكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ} بأن المراد خصوص المسجد دون غيره من أرض الحرم، بدليل التصريح بنفس المسجد في قوله: {وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِى جَعَلْنَـٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً} ، وعن قوله تعالى: {هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ ٱلَّذِى حَرَّمَهَ} بأن المراد: حرم صيدها، وشجرها، وخلاها، والقتال فيها، كما بينه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، ولم يذكر في شيء منها مع كثرتها النهي عن بيع دورها. وعن حديث إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه: بأنه ضعيف، قال النووي في (شرح المهذب): هو ضعيف باتفاق المحدثين، واتفقوا على تضعيف إسماعيل، وأبيه إبراهيم.اهـ.
وقال البيهقي في السنن الكبرى: إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ضعيف، وأبوه غير قوي، واختلف عليه فروي عنه هكذا، وروي عنه عن أبيه، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً ببعض معناه، وعن حديث عائشة رضي الله عنها. بأنه محمول على الموات من الحرم.
قال النووي: وهو ظاهر الحديث.
وعن حديث أبي حنيفة: بأنه ضعيف من وجهين:
أحدهما: تضعيف إسناده بابن أبي زياد المذكور فيه.
والثاني: أن الصواب فيه عند الحفاظ أنه موقوف على عبد الله بن عمر وقالوا: رفعه وهم قاله: الدارقطني، وأبو عبد الرحمن السلمي، والبيهقي.
وعن حديث عثمان بن أبي سليمان بجوابين:
أحدهما: أنه منقطع، كما قاله البيهقي.
الثاني: ما قال البيهقي أيضاً، وجماعة من الشافعية، وغيرهم: أن المراد في الحديث: الإخبار عن عادتهم الكريمة في إسكانهم ما استغنوا عنه من بيوتهم بالإعارة تبرعاً، وجوداً.
وقد أخبر من كان أعلم بشأن مكة منه عن جريان الإرث، والبيع فيها.
وعن حديث «منى مناخ من سبق» بأنه محمول على مواتها، ومواضع نزول الحجيج منها. قاله النووي اهـ.
واعلم أن تضعيف البيهقي لحديث إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، وحديث عثمان بن أبي سليمان، عن علقمة بن نضلة تعقبه عليه محشيه صاحب (الجواهر النقي)، بما نصه: «ذكر فيه حديثاً في سنده إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، فضعف إسماعيل، وقال عن أبيه غير قوي، ثم اسنده من وجه آخر، ثم قال: رفعه وهم، والصحيح موقوف قلت: أخرج الحاكم في (المستدرك) هذا الحديث من الوجهين اللذين ذكرهما البيهقي، ثم صحح الأول، وجعل الثاني شاهداً عليه، ثم ذكر البيهقي في آخره حديثاً عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة. ثم قال: هذا منقطع.
قلت: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه بسند على شرط مسلم، وأخرجه الدارقطني وغيره، وعلقمة هذا صحابي. كذا ذكره علماء هذا الشأن، وإذا قال الصحابي مثل هذا الكلام. كان مرفوعاً على ما عرف به، وفيه تصريح عثمان بالسماع عن علقمة، فمن أين الانقطاع؟ اهـ كلام صاحب (الجوهر النقي).
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ لا يخفى سقوط اعتراض ابن التركماني هذا على الحافظ البيهقي. في تضعيفه الحديثين المذكورين.
أما في الأول: فلأن تصحيح الحاكم ـ رحمه الله ـ لحديث ضعيف لا يصيره صحيحاً.
وكم من حديث ضعيف صححه الحاكم ـ رحمه الله ـ وتساهله ـ رحمه الله ـ في التصحيح معروف عند علماء الحديث، وإبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي قد يكون للمناقشة في تضعيف الحديث به وجه. لأن بعض العلماء بالرجال وثقه وهو من رجال مسلم.
وقال فيه ابن حجر، في (التقريب): «صدوق لين الحفظ»، أما ابنه إسماعيل فلم يختلف في أنه ضعيف. وتضعيف الحديث به ظاهر لا مطعن فيه.
وقال فيه ابن حجر في (التقريب). ضعيف، فتصحيح هذا الحديث لا وجه له.
وأما قوله في اعتراضه تضعيف البيهقي لحديث الثاني. فمن أين الانقطاع فجوابه: أن الانقطاع من حيث إن علقمة بن نضلة تابعي صغير، وزعم الشيخ ابن التركماني، أنه صحابي غير صحيح، وقد قال فيه ابن حجر في (التقريب). علقمة بن نضلة ـ بفتح النون وسكون المعجمة ـ المكي، كناني.
وقيل: كندي تابعي صغير مقبول، أخطأ من عده في الصحابة، وإذن فوجه انقطاعه ظاهر، فظهر أن الصواب مع الحافظ البيهقي، والنووي وغيرهما في تضعيف الحديثين المذكورين.
ولا شك أن من تورع عن بيع رباع مكة، وإيجارها خروجاً من الخلاف، أن ذلك خير له، لأن من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.
تنبيه
أجمع جميع المسلمين على أن مواضع النسك من الحرم كموضع السعي، وموضع رمي الجمار حكمها حكم المساجد، والمسلمون كلهم سواء فيها.
والظاهر أن ما يحتاج إليه الحجيج من منى، ومزدلفة كذلك، فلا يجوز لأحد أن يضيقهما بالبناء المملوك حتى تضيقا بالحجيج، ويبقى بعضهم لم يجد منزلاً، لأن المبيت بمزدلفة ليلة النحر، وبمنى ليالي أيام التشريق، من مناسك الحج.
فلا يجوز لأحد أن يضيق محل المناسك على المسلمين، حتى لا يبقى ما يسع الحجيج كله، ويدل له حديث: «منى مناخ لمن سبق» كما تقدم.
المسألة الخامسة: في تحقيق المقام فيما للإمام أن ينفله من الغنيمة، وسنذكر أقوال العلماء في ذلك، وأدلتهم، وما يقتضي الدليل رجحانه.
اعلم أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة، كما أشرنا له في أول هذه السورة الكريمة، ووعدنا بإيضاحه هنا فذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ إلى أن الإمام لا يجوز له أن ينفل أحداً شيئاً إلا من الخمس، وهو قول سعيد بن المسيب، لأن الأخماس الأربعة. ملك للغانمين الموجفين عليها بالخيل، والركاب. هذا مشهور مذهبه، وعنه قول آخر: أنها من خمس الخمس.
ووجه هذا القول: أن أخماس الخمس الأربعة، غير خمس الرسول صلى الله عليه وسلم لمصارف معينة في قوله: {وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ} وأربعة الأخماس الباقية ملك للغانمين.
وأصح الأقوال عن الشافعي: أن الإمام لا ينفل إلا من خمس الخمس، ودليله: ما ذكرنا آنفاً.
وعن عمرو بن شعيب أنه قال. لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن قدامة في (المغني): ولعله يحتج بقوله تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ} . وذهب الإمام أحمد في طائفة من أهل العلم: إلى أن للإمام أن ينفل الربع بعد الخمس في بدأته، والثلث بعد الخمس في رجعته.
ومذهب أبي حنيفة. أن للإمام قبل إحراز الغنيمة أن ينفل الربع، أو الثلث، أو أكثر، أو أقل بعد الخمس، وبعد إحراز الغنيمة لا يجوز له التنفيل إلا من الخمس.
وقد قدمنا جملة الخلاف في هذه المسألة في أول هذه السورة الكريمة، ونحن الآن نذكر إن شاء الله ما يقتضي الدليل رجحانه.
اعلم أولاً، أن التنفيل الذي اقتضى الدليل جوازه أقسام:
الأول: أن يقول الإمام لطائفة من الجيش. إن غنمتم من الكفار شيئاً، فلكم منه كذا بعد إخراج خمسه، فهذا جائز، وله أن ينفلهم في حالة إقبال جيش المسلمين إلى الكفار الربع، وفي حالة رجوع جيش المسلمين إلى أوطانهم الثلث بعد إخراج الخمس.
ومالك وأصحابه يقولون. إن هذا لا يجوز. لأنه تسبب في إفساد نيات المجاهدين، لأنهم يصيرون مقاتلين من أجل المال الذي وعدهم الإمام تنفيله.
والدليل على جواز ذلك. ما رواه حبيب بن مسلمة بن مالك القرشي الفهري «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع بعد الخمس في بدأته، ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته» أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، والحاكم، وابن الجارود.
واعلم أن التحقيق في حبيب المذكور. أنه صحابي، وقال فيه ابن حجر في (التقريب) مختلف في صحبته، والراجح ثبوتها لكنه كان صغيراً، وله ذكر في (الصحيح) في حديث ابن عمر مع معاوية اهـ.
وقد روى عنه أبو داود هذا الحديث من ثلاثة أوجه.
منها: عن مكحول بن عبد الله الشامي، قال: كنت عبداً بمصر لامرأة من بني هذيل، فأعتقتني فما خرجت من مصروبها علم إلا حويت عليه، فيما أرى، ثم أتيت الحجاز، فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت العراق فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها، كل ذلك: أسأل عن النفل فلم أجد أحداً يخبرني فيه بشيء، حتى لقيت شيخاً يقال له: زياد بن جارية التميمي. فقلت له: هل سمعت في النفل شيئاً؟ قال: نعم، سمعت حبيب بن مسلمة الفهري يقول: شهدت النَّبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة، والثلث في الرجعة ـ اهـ.
وقد علمت أن الصحيح أنه صحابي، وقد صرح في هذه الرواية بأنه شهد النَّبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع إلى آخر الحديث.
ومما يدل على ذلك أيضاً: ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البدأة الربع، وفي الرجعة الثلث» أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وصححه ابن حبان.
وفي رواية عند الإمام أحمد: كان إذا غاب في أرض العدو نفل الربع، وإذا أقبل راجعاً ـ وكل الناس ـ نفل الثلث، وكان يكره لأنفال، ويقول: ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم.
وهذه النصوص تدل على ثبوت التنفيل من غير الخمس.
ويدل لذلك أيضاً: ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود عن معن بن يزيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نفل إلا بعد الخمس، قال الشوكاني: في (نيل الأوطار): هذا الحديث صححه الطحاوي اهـ.
والفرق بين البدأة والرجعة. أن المسلمين في البدأة: متوجهون إلى بلاد العدو، والعدو في غفلة. وأما في الرجعة: فالمسلمون راجعون إلى أوطانهم من أرض العدو، والعدو في حذر ويقظة، وبين الأمرين فرق ظاهر.
والأحاديث المذكورة تدل على أن السرية من العسكر إذا خرجت، فغنمت، أن سائر الجيش شركاؤهم، ولا خلاف في ذلك بين العلماء، كما قاله القرطبي.
الثاني: من الأقسام التي اقتضى الدليل جوازها: تنفيل بعض الجيش، لشدة بأسه، وغنائه، وتحمله ما لم يتحمله غيره، والدليل على ذلك ما ثبتت في (صحيح مسلم)، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، في قصة إغارة عبد الرحمن الفزاري، على سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستنقاذه منه. قال سلمة: فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير فرساننا اليوم، أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة قال: ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين: سهم الفارس، وسهم الراجل فجمعهما لي جميعاً. الحديث. هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث طويل.
وقد قدمنا أن هذه غزوة «ذي قرد» في سورة «النساء»، ويدل لهذا أيضاً: حديث سعد بن أبي وقاص المتقدم في أول السورة، فإن فيه: أن سعداً رضي الله عنه قال: لعله يعطى هذا السيف لرجل لم يبل بلائي، ثم أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنه لحسن بلائه، وقتله صاحب السيف كما تقدم.
الثالث: من أقسام التنفيل التي اقتضى الدليل جوازها: أن يقول الإمام: «من قتل قتيلاً فله سلبه».
ومن الأدلة على ذلك: ما رواه الشيخان في صحيحيهما، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، قال: فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه. وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب، فقال: ما للناس؟ فقلت: أمر الله، ثم إن الناس رجعوا، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من قتل قتيلاً له عليه بيِّنة فله سلبه» قال: فقمت، ثم قلت: من يشهد لي؟، ثم جلست، ثم قال مثل ذلك، قال فقمت فقلت من يشهد لي؟، ثم جلست، ثم قال ذلك الثالثة، فقمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لك يا أبا قتادة؟» فقصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم، صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي. فأرضه من حقه، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لا ها الله إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله، فيعطيك سلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق فأعطه إياه» فأعطاني، قال: فبعت الدرع فابتعت بها مخرفاً في بني سلمة، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام. والأحاديث بذلك كثيرة.
وروى أبو داود، وأحمد، عن أنس. أن أبا طلحة يوم حنين قتل عشرين رجلاً، وأخذ أسلابهم، وفي رواية عنه عند أحمد، أحد وعشرين، وذكر أصحاب المغازي: أن أبا طلحة قال في قتله من ذكر: أنا أبو طلحة واسمي زيد وكل يوم في سلاحي صيد
والحق أنه لا يشترط في ذلك أن يكون في مبارزة، ولا أن يكون الكافر المقتول مقبلاً.
أما الدليل على عدم اشتراط المبارزة: فحديث أبي قتادة هذا المتفق عليه.
وأما الدليل على عدم اشتراط كونه قتله مقبلاً إليه: فحديث سلمة بن الأكوع، قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن، فبينا نحن نتضحَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه، ثم انتزع طلقاً من حقبه فقيد به الجمل، ثم تقدم يتغدى مع القوم، وجعل ينظر، وفينا ضعفة ورقة في الظهر، وبعضنا مُشاة إذ خرج يشتد فأتى جمله، فأطلق قيده ثم أناخه، وقعد عليه فأثاره فاشتد به الجمل، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء. قال سلمة: وخرجت أشتد فكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي، فضربت به رأس الرجل فندر، ثم جئت بالجمل أقوده وعليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس معه. فقال: «من قتل الرجل؟» قالوا: ابن الأكوع، قال: «له سلبه أجمع» متفق عليه، واللفظ المذكور لمسلم في «كتاب الجهاد والسير» في باب «استحقاق القاتل سلب القتيل»، وأخرجه البخاري بمعناه «في كتاب الجهاد» في باب «الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان» وهو صريح في عدم اشتراط المبارزة، وعدم اشتراط قتله مقبلاً لا مدبراً كما ترى.
ولا يستحق القاتل سلب المقتول، إلا أن يكون المقتول من المقاتلة الذين يجوز قتالهم.
فأما إن قتل امرأة، أو صبياً، أو شيخاً فانياً، أو ضعيفاً مهيناً، أو مثخناً بالجراح لم تبق فيه منفعة، فليس له سلبه.
ولا خلاف بين العلماء: في أن من قتل صبياً، أو امرأة، أو شيخاً فانياً، لا يستحق سلبهم، إلا قولاً ضعيفاً جداً يروى عن أبي ثور، وابن المنذر: في استحقاق سلب المرأة.
والدليل على أن من قتل مثخناً بالجراح لا يستحق سلبه، أن عبد الله بن مسعود، هو الذي ذفف على أبي جهل يوم بدر، وحز رأسه. وقد قضى النَّبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح الذي أثبته، ولم يعط ابن مسعود شيئاً.
وهذا هو الحق الذي جاء به الحديث المتفق عليه، فلا يعارض بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود عن ابن مسعود «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفله سيف أبي جهل يوم بدر». لأنه من رواية ابنه أبي عبيدة، ولم يسمع منه، وكذلك المقدم للقتل صبراً لا يستحق قاتله سلبه، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أمر بقتل النضر بن الحارث، العبدري، وعقبة بن أبي معيط الأموي صبراً يوم بدر ولم يعط من قتلهما شيئاً من سلبهما.
واختلفوا فيمن أسر أسيراً: هل يستحق سلبه إلحاقاً للأسر بالقتل أو لا؟ والظاهر أنه لا يستحقه، لعدم الدليل. فيجب استصحاب عموم {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم} حتى يرد مخصص من كتاب أو سنة صحيحة، وقد أسر النَّبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، أسارى بدر، وقتل بعضهم صبراً كما ذكرنا، ولم يعط أحداً من الذين أسروهم شيئاً من أسلابهم، ولا من فدائهم بل جعل فداءهم غنيمة.
أما إذا قاتلت المرأة أو الصبي المسلمين: فالظاهر أن لمن قتل أحدهما سلبه، لأنه حينئذ ممن يجوز قتله، فيدخل في عموم «من قتل قتيلاً» الحديث، وبهذا جزم غير واحد. والعلم عند الله تعالى.
واعلم أن العلماء اختلفوا في استحقاق القاتل السلب، هل يشترط فيه قول الإمام: «من قتل قتيلاً فله سلبه»ٰ أو يستحقه مطلقاً. قال الإمام ذلك أو لم يقله؟
وممن قال بهذا الأخير: الإمام أحمد، والشافعي، والأوزاعي، والليث، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، والطبري، وابن المنذر.
وممن قال بالأول: الذي هو أنه لا يستحقه إلا بقول الإمام: «من قتل قتيلاً» الخ الإمام أبو حنيفة، ومالك، والثوري.
وقد قدمنا عن مالك وأصحابه: أن قول الإمام ذلك: لا يجوز قبل القتال، لئلا يؤدي إلى فساد النية، ولكن بعد وقوع الواقع، يقول الإمام: من قتل قتيلاً... الخ.
واحتج من قال: باستحقاق القاتل سلب المقتول مطلقاً. بعموم الأدلة لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم. صرح بأن من قتل قتيلاً فله سلبه، ولم يخصص بشيء. والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، كما علم في الأصول.
واحتج مالك، وأبو حنيفة، ومن وافقهما بأدلة:
منها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سلمة بن الأكوع، المتفق عليه السابق ذكره، له سلبه أجمع. قالوا: فلو كان السلب مستحقاً له بمجرد قتله لما احتاج إلى تكرير هذا القول.
ومنها: حديث عبد الرحمن بن عوف، المتفق عليه في قصة قتل معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء الأنصاريين لأبي جهل يوم بدر. فإن فيه «ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ٰ، فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال هل مسحتماً سيفيكما؟ قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح اهـ.
قالوا: فتصريحه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، المتفق عليه، بأن كليهما قتله، ثم تخصيص أحدهما بسلبه، دون الآخر، صريح في أن القاتل لا يستحق السلب، إلا بقول الإمام: إنه له، إذ لو كان استحقاقه له بمجرد القتل لما كان لمنع معاذ بن عفراء وجه، مع أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صرح بأنه قتله مع معاذ بن عمرو، ولجعله بينهما.
ومنها: ما رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، عن عوف بن مالك قال: قتل رجل من حمير، رجلاً من العدو، فأراد سلبه، فمنعه خالد بن الوليد، وكان والياً عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلم عوف بن مالك فأخبره. فقال لخالد: «ما منعك أن تعطيه
سلبه؟» قال: استكثرته يا رسول الله، قال: «ادفعه إليه»، فمر خالد بعوف فجر بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فاستغضب فقال: لا تعطه يا خالد، لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركون لي أمرائي، إنما مثلكم ومثلهم، كمثل رجل استرعى إبلاً، أو غنماً فرعاها، ثم تحين سقيها فأوردها حوضاً فشرعت فيه، فشربت صفوه، وتركت كدره، فصفوة لكم وكدره عليهم.
وفي رواية عند مسلم أيضاً: عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة، في غزوة مؤتة، ورافقني مددي من اليمن، وساق الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، غير أنه قال في الحديث: قال عوف بن مالك: فقلت: يا خالد، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل، قال بلى، ولكني استكثرته، هذا لفظ مسلم في صحيحه.
وفي رواية عن عوف أيضاً، عند الإمام أحمد وأبي داود قال خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، ورافقني مددي من أهل اليمن، ومضينا فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس له، أشقر، عليه سرج مذهب. وسلاح مذهب. فجعل الرومي يفري في المسلمين. فقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه. فخر وعلاه فقتله. وحاز فرسه. وسلاحه. فلما فتح الله عز وجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد. فأخذ السلب. قال عوف: فأتيته. فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قضى بالسلب للقاتل. قال. بلى ولكن استكثرته. قلت: لتردنه إليه، أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يرد عليه، قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصصت عليه قصة المددي، وما فعل خالد، وذكر بقية الحديث بمعنى ما تقدم اهـ.
فقول النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: «لا تعطه يا خالد» دليل على أنه لم يستحق السلب بمجرد القتل، إذ لو استحقه به، لما منعه منه النَّبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: ما ذكره ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن الأسود بن قيس، عن شبر بن علقمة قال: بارزت رجلاً يوم القادسية، فقتلته، وأخذت سلبه، فأتيت سعداً، فخطب سعد أصحابه، ثم قال: هذا سلب بشر بن علقمة فهو خير من اثني عشر ألف درهم، وإنا قد نفلناه إياه.
فلو كان السلب للقاتل قضاء من النَّبي صلى الله عليه وسلم، لما أضاف الأمراء ذلك التنفيل إلى أنفسهم باجتهادهم، ولأخذه القاتل دون أمرهم، قاله القرطبي.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: أظهر القولين عندي دليلاً، أن القاتل لا يستحق السلب إلا بإعطاء الإمام. لهذه الأدلة الصحيحة، التي ذكرنا فإن قيل: هي شاهدة لقول إسحاق: إن كان السلب يسيراً فهو للقاتل، ومن كان كثيراً خمس.
فالجواب: أن ظاهرها العموم مع أن سلب أبي جهل لم يكن فيه كثرة زائدة، وقد منع منه النَّبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن عفراء.
تنبيه
جعل بعض العلماء منشأ الخلاف في سلب القاتل، هل يحتاج إلى تنفيذ الإمام أو لا، هو الإختلاف في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلاً» الحديث، هل هو حكم؟ وعليه فلا يعم بل يحتاج دائماً إلى تنفيذ الإمام، أو هو فتوى؟ فيكون حكماً عاماً غير محتاج إلى تنفيذ الإمام.
قال صاحب (نشر البنود) شرح (مراقي السعود) في شرح قوله: وسائر حكاية الفعل بما منه العموم ظاهراً قد علما
ما نصه: «تنبيه»،: حكى ابن رشيد خلافاً بين العلماء، في قوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلاً له عليه بينة، فله سلبه»، هل يحتاج سلب القتيل إلى تنفيذ الإمام، بناء على أن الحديث حكم فلا يعم، أو لا يحتاج إليه بناء على أنه فتوى، وكذا قوله الهند: «خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف» فيه خلاف. هل هو حكم فلا يعم، أو فتوى فيعم.
قال ميارة في التكميل: وفي حديث هند الخلاف هل حكم يخصها أو افتاء شمل
واعلم أن العلماء اختلفوا في السلب، هل يخمس أو لا؟ على ثلاثة أقوال:
الأول: لا يخمس.
الثاني: يخمس.
الثالث: إن كان كثيراً خمس، وإلا فلا.
وممن قال: إنه لا يخمس، الشافعي، وأحمد، وابن المنذر، وابن جرير، ويروى عن سعد بن أبي وقاص.
وممن روي عنه أنه يخمس: ابن عباس، والأوزاعي، ومكحول.
وممن فرق بين القليل والكثير: إسحاق، واحتج من قال: لا يخمس بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن حبان، والطبراني، عن عوف بن مالك، وخالد بن الوليد رضي الله عنهما. أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس السلب.
وقال القرطبي في تفسيره، بعد أن ساق حديث عوف بن مالك الذي قدمنا عند مسلم ما نصه. «وأخرجه أبو بكر البرقاني بإسناده، الذي أخرجه به مسلم، وزاد بياناً أن عوف بن مالك، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخمس السلب» اهـ.
وقال ابن حجر في (التلخيص) في حديث خالد وعوف المتقدم، ما لفظه: «وهو ثابت في (صحيح مسلم) في حديث طويل فيه قصة لعوف مع خالد بن الوليد، وتعقبه الشوكاني في (نيل الأوطار) بما نصه: وفيه نظر، فإن هذا اللفظ الذي هو محل الحجة لم يكن في صحيح مسلم، بل الذي فيه هو ما سيأتي قريباً، وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل بن عياش، وفيه كلام معروف قد تقدم ذكره مراراً»، اهـ.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: وقد قدمنا حديث عوف المذكور بلفظ مسلم في صحيحه، وليس فيه ما ذكره الحافظ بن حجر، فهو وهم منه، كما نبه عليه الشوكاني رحمهما الله تعالى.
والتحقيق في إسماعيل بن عياش أن روايته عن غير الشاميين ضعيفة. وهو قوي في الشاميين، دون غيرهم.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: وهذا الحديث من رواية إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك، وإسماعيل، وشيخه في هذا الحديث، الذي هو صفوان بن عمرو، كلاهما حمصي، فهو بلدي له:
وبه تعلم صحة الاحتجاج بالحديث المذكور، مع قوة شاهده، الذي قدمنا عن أبي بكر البرقاني، بسند على شرط مسلم.
واحتج من قال بأن السلب يخمس: بعموم قوله تعالى: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} .
واحتج من قال: يخمس الكثير دون اليسير: بما رواه أنس، عن البراء بن مالك «أنه قتل من المشركين مائة رجل، إلا رجلاً مبارزة، وأنهم لما غزوا الزاره، خرج دهقان الزاره، فقال: رجل ورجل، فبرز البراء فاختلفا بسيفيهما، ثم اعتنقا فتوركه البراء فقعد على كبده، ثم أخذ السيف فذبحه، وأخذ سلاحه ومنطقته، وأتى به عمر، فنفله السلاح، وقوم المنطقة بثلاثين ألفاً، فخمسها، وقال: إنها مال» اهـ بنقل القرطبي.
وقال قبل هذا: وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك، حين بارز «المرزبان» فقتله. فكانت قيمة منطقته، وسواريه ثلاثين ألفاً، فخمس ذلك اهـ.
وقال ابن قدامة في (المغني): وقال إسحاق: إن استكثر الإمام السلب، فذلك إليه، لما روى ابن سيرين أن البراء بن مالك بارز «مرزبان» الزاره بالبحرين فطعنه، فدق صلبه، وأخذ سواريه، وسلبه، فلما صلى عمر الظهر أتى أبا طلحة في داره، فقال: إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالاً، وأنا خامسه. فكان أول سلب خمس في الإسلام سلب البراء. رواه سعيد في السنن.
وفيها أن سلب البراء بلغ ثلاثين ألفاً.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: أظهر الأقوال دليلاً عندي أن السلب لا يخمس لحديث عوف وخالد المتقدم، ويجاب عن أخذ الخمس من سلب البراء بن مالك، بأن الذي تدل عليه القصة أن السلب لا يخمس: لأن قول عمر إنا كنا لا نخمس السلب، وقول الراوي كان أول سلب خمس في الإسلام: يدل على أن النَّبي صلى الله عليه وسلم. وأبا بكر، وعمر صدراً من خلافته لم يخمسوا سلباً، واتباع ذلك أولى.
قال الجوزجاني: لا أظنه يجوز لأحد في شيء سبق فيه من الرسول صلى الله عليه وسلم شيء إلا اتباعه. ولا حجة في قول أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن قدامة في (المغني)، والأدلة التي ذكرنا يخصص بها عموم قوله تعالى: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم} .
واختلف العلماء فيما إذا ادعى أنه قتله، ولم يقم على ذلك بينة، فقال الأوزاعي: يعطاه بمجرد دعواه، وجمهور العلماء على أنه لا بد من بينة على أنه قتله، قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: لا ينبغي أن يختلف في اشتراط البينة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «من قتل قتيلاً له عليه بينة» الحديث، فهو يدل بإيضاح على أنه لا بد من البينة، فإن قيل: فأين البينة التي أعطى بها النَّبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة سلب قتيله السابق ذكره.
فالجواب من وجهين: الأول: ما ذكره القرطبي في تفسيره: قال: سمعت شيخنا الحافظ المنذري الشافعي أبا محمد عبد العظيم يقول: إنما أعطاه النَّبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الأسود بن خزاعي. وعبد الله بن أنيس، وعلى هذا يندفع النزاع، ويزول الإشكال، ويطرد الحكم اهـ.
الثاني: أنه أعطاه إياه بشهادة الرجل الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق، سلب ذلك القتيل عندي»، الحديث، فإن قوله «صدق» شهادة صريحة لأبي قتادة أنه هو الذي قتله. والاكتفاء بواحد في باب الخبر، والأمور التي لم يقع فيها ترافع قال به كثير من العلماء، وعقده ابن عاصم المالكي في تحفته بقوله: وواحد يجزىء في باب الخبر واثنان أولى عند كل ذي نظر
وقال القرطبي في تفسيره:
إن أكثر العلماء على إجزاء شهادة واحد، وقيل: يثبت ذلك بشاهد ويمين، والله أعلم.
وأما على قول من قال: إن السلب موكول إلى نظر الإمام، فللإمام أن يعطيه إياه، ولو لم تقم بينة، وإن اشترطها فذلك له، قاله القرطبي، والظاهر عندي أنه لا بد من بينة لورود النص الصحيح بذلك.
واختلف العلماء في السلب ما هو؟
قال مقيده عفا الله عنه. لهذه المسألة طرفان، وواسطة.
طرف أجمع العلماء على أنه من السلب: وهو سلاحه، كسيفه، ودرعه، ونحو ذلك، وكذلك ثيابه.
وطرف أجمع العلماء على أنه ليس من السلب: وهو ما لو وجد في هميانه، أو منطقته دنانير. أو جواهر، أو نحو ذلك.
وواسطة اختلف العلماء فيها: منها فرسه الذي مات وهو يقاتل عليه، ففيه للعلماء قولان: وهما روايتان عن الإمام أحمد، أصحهما أنه منه، ومنها ما يتزين به للحرب، فقال الأوزاعي: ذلك كله من السلب، وقالت: فرقة ليس منه، وهذا مروي عن سحنون إلا المنطقة، فإنها عنده من السلب، وقال ابن حبيب في الواضحة، والسواران من السلب، والله أعلم.
واعلم أن حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد. وفيهم ابن عمر، وأن سهمناهم بلغت اثني عشر بعيراً، ونفلوا بعيراً بعيراً، دليل واضح على بطلان قول من قال: «لا تنفيل إلا من خمس الخمس» لأن الحديث صريح في أنه نفلهم نصف السدس.
ولا شك أن نصف السدس أكثر من خمس الخمس، فكيف يصح تنفيل الأكثر من الأقل، وهو واضح كما ترى، وأما غير ذلك من الأقوال، فالحديث محتمل له.
والذي يسبق إلى الذهن، أن ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر بلفظ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش، والخمس في ذلك واجب كله اهـ.
يدل على أن ذلك التنفيل من الغنيمة بعد إخراج الخمس، وهو ما دل عليه حديث حبيب بن سلمة المتقدمِّ، وهو الظاهر المتبادر خلافاً لما قاله ابن حجر في (الفتح) من أنه محتمل لكل الأقوال المذكورة، والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة: الحق الذي لا شك فيه أن الفارس يعطى من الغنيمة ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم لنفسه، وأن الراجل يعطى سهماً واحداً، والنصوص الصحيحة مصرحة بذلك، فمن ذلك حديث ابن عمر المتفق عليه، ولفظ البخاري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهماً».
ولفظ مسلم، حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل للفرس سهمين، وللرجل سهماً» اهـ.
وأكثر الروايات بلفظ «وللرجل»، فرواية الشيخين صريحة فيما ذكرنا، وبذلك فسره راوية نافع، قال البخاري في صحيحه في غزوة خيبر: قال: فسره نافع، فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن له فرس فله سهم اهـ. وذلك هو معناه الذي لا يحتمل غيره في رواية الصحيحين المذكورة.
ومنها ما رواه أبو داود، حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبيد الله. عن نافع، عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهماً له، وسهمين لفرسه».
حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا أبو معادية، ثنا عبد الله بن يزيد، حدثني المسعودي، حدثني أبو عمرة عن أبيه، قال: «أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة نفر، ومعنا فرس، فأعطى كل واحد منا سهماً، وأعطى الفرس سهمين».
وممن قال بهذا الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين،وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي والثوري.
والليث، وحسين بن ثابت، وأبي يوسف، ومحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وابن جرير، وأبي ثور.
وخالف أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ الجمهور فقال: للفارس سهمان، وللراجل سهم. محتجاً بما جاء في بعض الروايات «أنه صلى الله عليه وسلم، قسم يوم خيبر للفارس سهمين، وللراجل سهما» رواه أبو داود من حديث مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه، وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن، ويجاب عنه من وجهين:
الأول: أن المراد بسهمي الفارس خصوص السهمين الذين استحقهما بفرسه، كما يشعر به لفظ الفارس.
الثاني: أن النصوص المتقدمة أصح منه، وأولى بالتقديم، وقد قال أبو داود: حديث أبي معاوية أصح، والعمل عليه، وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال: ثلاثمائة فارس، وكانوا مائتي فارس اهـ.
وقال النووي في (شرح مسلم): لم يقل يقول أبي حنيفة هذا أحد، إلا ما روي عن علي، وأبي موسى اهـ.
وإن كان عند بعض الغزاة خيل فلا يسهم إلا لفرس واحد، وهذا مذهب الجمهور منهم مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، والحسن، ومحمد بن الحسن، وغيرهم.
واحتجوا بأنه لا يمكنه أن يقاتل إلا على فرس واحد، وقال الأوزاعي والثوري، والليث، وأبو يوسف: يسهم لفرسين دون ما زاد عليهما، وهو مذهب الإمام أحمد، ويروى عن الحسن. ومكحول، ويحيى الأنصاري، وابن وهب، وغيره من المالكيين.
واحتج أهل هذا القول بما روي عن الأوزاعي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم للخيل، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين وإن كان معه عشرة أفراس»، وبما روي عن أزهر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح، أن يسهم للفرس من سهمين، وللفرسين أربعة أسهم ولصاحبهما سهم، فذلك خمسة أسهم، وما كان فوق الفرسين فهي جنائب، رواهما سعيد بن منصور، قاله ابن قدامة في (المغني).
واحتجوا أيضاً بأنه محتاج إلى الفرس الثاني، لأن إدامة ركوب واحد تضعفه، وتمنع القتال عليه فيسهم للثاني، لأنه محتاج إليه كالأول، بخلاف الثالث فإنه مستغني عنه، ولم يقل أحد إنه يسهم لأكثر من فرسين، إلا شيئاً روي عن سليمان بن موسى، قاله النووي في (شرح مسلم)، وغيره.
واختلف العلماء في البراذين والهجن على أربعة أقوال:
الأول: أنها يسهم لها كسهم الخيل العراب، وممن قال به مالك، والشافعي، وعمر بن عبد العزيز، والثوري، ونسبه الزرقاني في (شرح الموطأ) للجمهور، واختاره الخلال، وقال: رواه ثلاثة متيقظون عن أحمد، وحجة هذا القول ما ذكره مالك في موطأه، قال: لا أرى البَرَاذِينَ وَالْهُجُنَ، إلا من الخيل، لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه: {وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} .
وقال عز وجل: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ، فأنا أرى البَرَاذِينَ وَالْهُجُنَ من الخيل إذا أجازها الوالي.
وقد قال سعيد بن المسيب، وسئل عن البراذين: هل فيها من صدقة؟ قال: وهل في الخيل من صدقة؟ اهـ.
وحاصل هذا الاستدلال أن اسم الخيل في الآيتين المذكورتين يشمل البراذين والهجن فيهما داخلان في عمومه، لأنهما ليسا في البغال ولا الحمير بل من الخيل.
القول الثاني: أنه يسهم للبرذون والهجين سهم واحد قدر نصف سهم الفرس، واحتج أهل هذا القول بما رواه الشافعي في (الأم) وسعيد بن منصور من طريق علي بن الأقمر الوادعي، قال: أغارت الخيل فأدركت العراب، وتأخرت البراذين، فقام ابن المنذر الوادعي، فقال: لا أجعل ما أدرك كما لم يدرك، فبلغ ذلك عمر فقال: هبلت الوادعي أمه لقد أذكرت به أمضوها على ما قال، فكان أول من أسهم للبراذين دون سهام العراب، وفي ذلك يقول شاعرهم: ومنا الذي قدسن في الخيل سنة وكانت سواء قبل ذاك سهامها
وهذا منقطع كما ترى:
واحتجوا أيضاً بما رواه أبو داود في المراسيل، وسعيد بن منصور عن مكحول: «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم هجن الهجين يوم خيبر، وعرب العرب فجعل للعربي سهمين، وللهجين سهماً»، وهو منقطع أيضاً كما ترى، وبه أخذ الإمام أحمد في أشهر الروايات عنه.
واحتجوا أيضاً بأن أثر الخيل العراب في الحرب أفضل من أثر البراذين وذلك يقتضي تفضيلها عليها في السهام.
القول الثالث: التفصيل بين ما يدرك من البراذين إدراك العراب، فيسهم له كسهامها، وبين ما لا يدرك إدراكها فلا يسهم له، وبه قال ابن أبي شيبة، وابن أبي خيثمة، وأبو أيوب. والجوزجاني.
ووجهه أنها من الخيل. وقد عملت عملها فوجب جعلها منها.
القول الرابع: لا يسهم لها مطلقاً. وهو قول مالك بن عبد الله الخثعمي ووجهه أنها حيوان لا يعمل عمل الخيل فأشبه البغال.
قال ابن قدامة في (المغني): ويحتمل أن تكون هذه الرواية فيما لا يقارب العتاق منها، لما روى الجوزجاني بإسناده عن أبي موسى، أنه كتب إلى عمر بن الخطاب: إنا وجدنا بالعراق خيلاً عراضاً دكنا، فما ترى يا أمير المؤمنين في سهمائها، فكتب إليه: تلك البراذين فما قارب العتاق منها، فاجعل له سهماً واحداً، وألغ ما سوى ذلك. اهـ.
والبراذين: جمع برذون، بكسر الموحدة وسكون الراء وفتح المعجمة، والمراد: الجفاة الخلقة من الخيل، وأكثر ما تجلب من بلاد الروم، ولها جلد على السير في الشعاب والجبال والوعر بخلاف الخيل العربية.
والهجين: هو ما أحد أبويه عربي، وقيل: هو الذي أبوه عربي. وأما الذي أمه عريبة فيسمى المقرف، وعن أحمد: الهجين البرذون. ويحتمل أنه أراد في الحكم.
ومن إطلاق الإقراف على كون الأم عربية قول هند بنت النعمان بن بشير: وما هند إلا مهرة عربية سليلة أفراس تحللها بغل
فإن ولدت مهراً كريماً فبالحرى وإن يك اقراف فما أنجب الفحل
وقول جرير: إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب
واختلف العلماء فيمن غزا على بعير، هل يسهم لبعيره؟ فذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يسهم للإبل. قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن من غزا على بعير فله سهم راجل، كذلك قال الحسن، ومكحول، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي: واختاره أبو الخطاب من الحنابلة.
قال ابن قدامة في (المغني): وهذا هو الصحيح إنشاء الله تعالى. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه أسهم لغير الخيل من البهائم وقد كان معه يوم «بدر» سبعون بعيراً، ولم تخل غزاة من غزواته من الإبل. هي كانت غالب دوابهم فلم ينقل عنه أنه أسهم لها، ولو أسهم لها لنقل، وكذلك من بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم من خلفائه وغيرهم مع كثرة غزواتهم لم ينقل عن أحد منهم فيما علمناه أنه أسهم لبعير، ولو أسهم لبعير لم يخف ذلك، ولأنه لا يتمكن صاحبه من الكر والفر، فلم يسهم له كالبغل والحمار، اهـ.
وقال الإمام أحمد: من غزا على بعير، وهو لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان، وظاهره أنه لا يسهم للبعير مع إمكان الغزو على فرس، وعن أحمد: أنه يسهم للبعير سهم، ولم يشترط عجز صاحبه عن غيره، وحكي نحو هذا عن الحسن، قاله ابن قدامة في (المغني).
واحتج أهل هذا القول بقوله تعالى: {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} قالوا: فذكر الركاب ـ وهي الإبل ـ مع الخيل، وبأنه حيوان تجوز المسابقة عليه بعوض فيسهم له كالفرس، لأن تجويز المسابقة بعوض إنما هو في ثلاثة أشياء، هي: النصل، والخف، والحافر. دون غيرها، لأنها آلات الجهاد، فأبيح أخذ الرهن في المسابقة بها. تحريضاً على رياضتها، وتعلم الإتقان فيها.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: الذي يظهر لي ـ والله أعلم ـ أنه لا يسهم للإبل لما قدمنا آنفاً، وأما غير الخيل والإبل. من البغال والحمير والفيلة ونحوها، فلا يسهم لشيء منه، وإن عظم غناؤها وقامت مقام الخيل.
قال ابن قدامة: ولا خلاف في ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقسم لشيء من ذلك، ولأنها مما لا تجوز المسابقة عليه بعوض فلم يسهم لها كالبقر.
المسألة الرابعة: اختلف العلماء في حرق رحل الغال من الغنيمة، والمراد بالغال من يكتم شيئاً من الغنيمة، فلا يطلع عليه الإمام، ولا يضعه مع الغنيمة.
قال بعض العلماء: يحرق رحله كله إلا المصحف وما فيه روح، وهو مذهب الإمام أحمد. وبه قال الحسن وفقهاء الشام، منهم مكحول، والأوزاعي، والوليد بن هشام، ويزيد بن يزيد بن جابر، وأتى سعيد بن عبد الملك بغال فجمع ماله وأحرقه، وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك فلم يعبه.
وقال يزيد بن يزيد بن جابر: السنة في الذي يغل أن يحرق رحله، رواهما سعيد في سنته، قاله ابن قدامة في (المغني).
ومن حجج أهل هذا القول: ما رواه أبو داود في سننه، عن صالح بن محمد بن زائدة قال أبو داود وصالح: هذا أبو واقد قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم، فأتي برجل قد غل، فسأل سالماً عنه فقال: سمعت أبي يحدث، عن عمر بن الخطاب، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه»، قال: فوجدنا في متاعه مصحفاً فسأل سالماً عنه، فقال: بعه وتصدق بثمنه. اهـ بلفظه من أبي داود.
وذكر ابن قدامة أنه رواه أيضاً الأثرم، وسعيد، وقال أبو داود أيضاً: حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى الأنطاكي، قال: أخبرنا أبو إسحاق عن صالح بن محمد، قال: غزونا مع الوليد بن هشام، ومعنا سالم بن عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز فغل رجل متاعاً، فأمر الوليد بمتاعه فأحرق وطيف به، ولم يعطه سهمه، قال أبو داود: وهذا أصح الحديثين رواه غير واحد، أن الوليد بن هشام أحرق رجل زياد بن سعد، وكان قد غل، وضربه.
حدثنا محمد بن عوف، قال: ثنا موسى بن أيوب، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه».
قال أبو داود: وزاد فيه علي بن بحر عن الوليد ـ ولم أسمعه منه ـ ومنعوه سهمه، قال أبو داود: وحدثنا به الوليد بن عتبة، وعبد الوهاب بن نجدة، قالا: ثنا الوليد عن زهير بن محمد، عن عمرو بن شعيب، قوله ولم يذكر عبد الوهاب بن نجدة الحوطي منع سهمه، اهـ من أبي داود بلفظه، وحديث صالح بن محمد الذي ذكرنا عند أبي داود أخرجه أيضاً الترمذي، والحاكم، والبيهقي.
قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال: سألت محمداً عن هذا الحديث، فقال: إنما روى هذا صالح بن محمد بن زائدة، الذي يقال له أبو واقد الليثي، وهو منكر الحديث.
قال المنذري: وصالح بن محمد بن زائدة: تكلم فيه غير واحد من الأئمة. وقد قيل: إنه تفرد به، وقال البخاري: عامة أصحابنا يحتجون بهذا في الغلول، وهو باطل ليس بشيء. وقال الدارقطني: أنكروا هذا الحديث على صالح بن محمد، قال: وهذا حديث لم يتابع عليه، ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمحفوظ أن سالماً أمر بذلك، وصحح أبو داود وقفه، فرواه موقوفاً من وجه آخر، وقال: هذا أصح كما قدمنا، وحديث عمرو بن شعيب الذي ذكرنا عند أبي داود أخرجه أيضاً الحاكم والبيهقي، وزهير بن محمد الذي ذكرنا في إسناده الظاهر أنه هو الخراساني. وقد قال فيه ابن حجر في (التقريب) رواية أهل الشام عنه غير مستقيمة، فضعف بسببها، وقال البخاري عن أحمد: كان زهير الذي يروى عنه الشاميون آخر، وقال أبو حاتم: حدث بالشام من حفظه فكثر غلطه. اهـ.
وقال البيهقي: ويقال إنه غير الخراساني، وأنه مجهول. اهـ. وقد علمت فيما قدمنا عن أبي داود، أنه رواه من وجه آخر موقوفاً على عمرو بن شعيبٰ وقال ابن حجر: إن وقفه هو الراجح.
وذهب الأئمة الثلاثة، مالك، والشافعي، وأبو حنيفة: إلى أنه لا يحرق رحله، واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحرق رحل غال، بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب غنيمة أمر بلالاً فنادى في الناس، فيجيئون بغنائمهم، فيخمسه، ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر، فقال: يا رسول الله هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة، فقال: «أسمعت بلالاً ينادي ثلاثاً»، قال: نعم، قال: «فما منعك أن تجيء به؟» فاعتذر إليه، فقال: كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك، هذا لفظ أبي داود، وهذا الحديث سكت عنه أبو داود، والمنذري، وأخرجه الحاكم وصححه.
وقال البخاري: قد روي في غير حديث عن الغال، ولم يأمر بحرق متاعه. فقد علمت أن أدلة القائلين بعدم حرق رحل الغال أقوى، وهم أكثر العلماء.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: الذي يظهر لي رجحانه في هذه المسألة: هو ما اختاره ابن القيم، قال في (زاد المعاد) بعد أن ذكر الخلاف المذكور في المسألة: والصواب أن هذا من باب التعزير والعقوبات المالية الراجعة إلى اجتهاد الأئمة، فإنه حرق وترك، وكذلك خلفاؤه من بعده، ونظير هذا قتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة، فليس بحد. ولا منسوخ. وإنما هو تعزير يتعلق باجتهاد الإمام. اهـ.
وإنما قلنا: إن هذا القول أرجح عندنا. لأن الجمع واجب إذا أمكن، وهو مقدم على الترجيح بين الأدلة، كما علم في الأصول، والعلم عند الله تعالى.
أما لو سرق واحد من الغانمين من الغنيمة قبل القسم، أو وطىء جارية منها قبل القسم، فقال مالك وجل أصحابه: يحد حد الزنى والسرقة في ذلك، لأن تقرر الملك لا يكون بإحراز الغنيمة. بل بالقسم.
وذهب الجمهور ـ منهم الأئمة الثلاثة ـ إلى أنه لا يحد للزنى ولا للسرقة لأن استحقاقه بعض الغنيمة شبهة تدرأ عنه الحد. وبعض من قال بهذا يقول: إن ولدت فالولد حر يلحق نسبه به، وهو قول أحمد. والشافعي، خلافاً لأبي حنيفة. وفرق بعض المالكية بين السرقة والزنى، فقال: لا يحد للزنى، ويقطع إن سرق أكثر من نصيبه بثلاثة دراهم.
وبهذا قال عبد الملك من المالكية، كما نقله عنه ابن المواز.
واختلف العلماء فيما إذا مات أحد المجاهدين قبل قسم الغنيمة، هل يورث عنه نصيبه؟ فقال مالك في أشهر الأقوال: والشافعي: إن حضر القتال: ورث عنه نصيبه وإن مات قبل إحراز الغنيمة، وإن لم يحضر القتال فلا سهم له.
وقال أبو حنيفة: إن مات قبل إحراز الغنيمة في دار الإسلام خاصة. أو قسمها في دار الحرب فلا شيء له. لأن ملك المسلمين لا يتم عليها عنده إلا بذلك.
وقال الأوزاعي:
إن مات بعد ما يدرب قاصداً في سبيل الله ـ قبل أو بعد ـ أسهم له، وقال الإمام أحمد: إن مات قبل حيازة الغنيمة فلا سهم له، لأنه مات قبل ثبوت ملك المسلمين عليها، وسواء مات حال القتال أو قبله، وإن مات بعد إحراز الغنيمة فسهمه لورثته.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: وهذا أظهر الأقوال عندي، والله تعالى أعلم.
ولا يخفى أن مذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ في هذه المسألة مشكل، لأن حكمه بحد الزاني والسارق: يدل على أنه لا شبهة للغانمين في الغنيمة قبل القسم، وحكمه بإرث نصيب من مات قبل إحراز الغنيمة إن حضر القتال. يدل على تقرر الملك بمجرد حضور القتال، وهو كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثامنة: أصح الأقوال دليلاً: أنه لا يقسم للنساء والصبيان الذين لا قدرة لهم على القتال، وما جرى مجراهم، ولكن يرضخ لهم من الغنيمة باجتهاد الإمام، ودليل ذلك ما رواه مسلم في صحيحه: عن ابن عباس، لما سأله نجدة عن خمس خلال.
منها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهم بسهم؟ فيكتب إليه ابن عباس: كتبت تسألي: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء، وقد كان يغزو بهن، فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن. الحديث.
وهو صريح فيما ذكرنا، فيجب حمل ما ورد في غيره من أن النساء يسهم لهن على الرضخ المذكور في هذا الحديث المعبر عنه بقوله: «يحذين من الغنيمة». قال النووي: قوله «يحذين» هو بضم الياء وإسكان الحاء المهملة، وفتح الذال المعجمة، أي يعطين تلك العطية، وتسمى الرضخ، وفي هذا أن المرأة تستحق الرضخ، ولا تستحق السهم، وبهذا قال أبو حنيفة، والثوري، والليث، والشافعي، وجماهير العلماء.
وقال الأوزاعي: تستحق السهم إن كانت تقاتل، أو تداوي الجرحى، وقال مالك: لا رضخ لها، وهذان المذهبان مردودان بهذا الحديث الصحيح الصريح اهـ. * * *
المسألة التاسعة: اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير، لا من المغانم.
ودليل ذلك: حديث مالك بن أوس بن الحدثان المتفق عليه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: دخلت على عمر، فأتاه حاجبه يرفأ، فقال: هل لك في عثمان، وعبد الرحمن، والزبير، وسعد؟ قال: نعم، فأذن لهم، ثم قال: هل لك في علي، وعباس؟ قال: نعم، قال عباس: يا أمير المؤمنين أقض بيني وبين هذا، قال: أنشدكم بالله، الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة» يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه؟ فقال: الرهط، قد قال ذلك، فأقبل على عليِّ، وعباس، فقال: هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك؟ قالا: قد قال ذلك، قال عمر: فإني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره، فقال عز وجل: {وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ} إلى قوله: {ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} ، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما احتازها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، لقد أعطاكموه، وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان النَّبي صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله، فعمل بذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته. أنشدكم بالله، هل تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، ثم قال لعلي، وعباس: أنشدكما بالله، هل تعلمان ذلك؟ قالا: نعم، قال عمر: فتوفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها فعمل بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم توفى الله أبا بكر فقلت: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضتها سنتين أعمل فيها ما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، ثم جئتماني، وكلمتكما واحدة، وأمركما جميع: جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك، وأتاني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها، فقلت: إن شئتما دفعتها إليكما بذلك فتلتمسان مني قضاء غير ذلك: فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما فادفعاها إلى اهـ.
هذا لفظ البخاري في (الصحيح) في بعض رواياته، ومحل الشاهد من الحديث تصريح عمر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ينفق على أهله نفقة سنته من فيء بني النضير، وتصديق الجماعة المذكورة له في ذلك، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة بألفاظ متقاربة المعنى. وهو نص في أن نفقة أهله صلى الله عليه وسلم كانت في الفيء، لا من الغنيمة.
ويدل له أيضاً الحديث المتقدم «مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» فإن قيل ما وجه الجمع بين ما ذكرتم، وبين ما أخرجه أبو داود من طريق أسامة بن زيد عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا: «بنو النضير، وخيبر، وفدك. فأما بنو النضير فكانت حبساً لنوائبه، وأما فدك فكانت حبساً لأبناء السبيل. وأما خيبر فجزأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزئين بين المسلمين، وجزءاً نفقة لأهله، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين».
فالجواب ـ والله تعالى أعلم ـ أنه لا تعارض بين الروايتين، لأن «فدك» ونصيبه صلى الله عليه وسلم من «خيبر» كلاهما فيء كما قدمنا عليه الأدلة الواضحة، وكذلك «النضير»، فالجميع فيء كما تقدم إيضاحه، فحكم الكل واحد.
وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت: وكانت فاطمة رضي الله عنها تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ.
فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي، وعباس، وأما خيبر، وفدك فأمسكهما عمر، وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى من ولي الأمر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم.
هذا لفظ البخاري في صحيحه.
وقال ابن حجر في (الفتح): وقد ظهر بهذا أن صدقة النَّبي صلى الله عليه وسلم تختص بما كان من بني النضير. وأما سهمه من خيبر، وفدك فكان حكمه إلى من يقوم بالأمر بعده، وكان أبو بكر يقدم نفقة نساء النَّبي صلى الله عليه وسلم مما كان يصرفه فيصرفه من خيبر، وفدك، وما فضل من ذلك جعله في المصالح، وعمل عمر بعده بذلك، فلما كان عثمان تصرف في فدك بحسب ما رآه، فروى أبو داود من طريق مغيرة بن مقسم، قال: جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان، فقال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفق من فدك على بني هاشم، ويزوج أيمهم، وإن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، وكانت كذلك في حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر، ثم أقطعها مروان»، يعني في أيام عثمان.
قال الخطابي: إنما أقطع عثمان «فدك» لمروان، لأنه تأول أن الذي يختص بالنَّبي صلى الله عليه وسلم يكون للخليفة بعده، فاستغنى عثمان عنها بأمواله، فوصل بها بعض قرابته، ويشهد لصنيع أبي بكر حديث أبي هريرة المرفوع الثابت في الصحيح بلفظ: «ما تركت بَعْدَ نَفَقَةِ نسائي، وَمَؤُونَةِ عاملي فهو صدقة».
فقد عمل أبو بكر وعمر بتفصيل ذلك بالدليل الذي قام لهما، اهـ.
واعلم أن فيء «بني النضير» تدخل فيه أموال «مخيريق» رضي الله عنه، وكان يهودياً من «بني قينقاع» مقيماً في بني النضير، فلما خرج النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، قال لليهود: ألا تنصرون محمداً صلى الله عليه وسلم، والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم، فقالوا: اليوم يوم السبت، فقال: لا سبت، وأخذ سيفه ومضى إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقاتل حتى أثبتته الجراحة، فلما حضره الموت قال: أموالي إلى محمد صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء، وكان له سبع حوائط ببني النضير وهي «المثيب»، «والصائفة»، «والدلال»، «وحسنى»، «وبرقة»، «والأعواف»، «ومشربة أم إبراهيم».
وفي رواية الزبير بن بكار «الميثر» بدل «الميثب»، «والمعوان» عوض «الأعواف» وزاد «مشربة أم إبراهيم» الذي يقال له «مهروز».
وسميت «مشربة أم إبراهيم» لأنها كانت تسكنها «مارية» قاله بعض أصحاب المغازي، وعد الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي «مخيريق» المذكور من شهداء أحد، حيث قال في سردهم:
وذو الوصايا الجم للبشير وهو مخيريق بني النضير
ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام التي لها تعلق بهذه الآية الكريمة، خوف الإطالة المملة.
قوله تعالى: {يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة بالثبات عند لقاء العدو، وذكر الله كثيراً مشيراً إلى أن ذلك سبب للفلاح. والأمر بالشيء نهى عن ضده، أو مستلزم للنهي عن ضده، كما علم في الأصول، فتدل الآية الكريمة على النهي عن عدم الثبات. أمام الكفار، وقد صرح تعالى بهذا المدلول في قوله: {يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ} إلى قوله: {وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ} ، وفي الأمر بالإكثار من ذكر الله تعالى في أضيق الأوقات. وهو وقت التحام القتال دليل واضح على أن المسلم ينبغي له الإكثار من ذكر الله على كل حال. ولا سيما في وقت الضيق، والمحب الصادق في حبه لا ينسى محبوبه عند نزول الشدائد.
قال عنترة في معلقته: ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تفطر من دمي
وقال الآخر:
ذكرتك والخطى يخطر بيننا وقد نهلت فينا المثقفة السمر
تنبيه
قال بعض العلماء: كل «لعل» في القرآن فهي للتعليل إلا التي في سورة الشعراء: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} فهي بمعنى «كأنكم تخلدون».
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: لفظة «لعل» قد ترد في كلام العرب مراداً بها التعليل، ومنه قوله: فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كشبه سراب بالملا متألق
فقوله «لعلنا نكف» يعني «لأجل أن نكف»،
وكونها للتعليل لا ينافي «معنى الترجي»، لأن وجود المعلول يرجى عند وجود علته.
قوله تعالى: {وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.
نهى الله جل وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن التنازع، مبيناً أنه سبب الفشل، وذهاب القوة، ونهى عن الفرقة أيضاً في مواضع أخر، كقوله: {وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُو} ، ونحوها من الآيات، وقوله في هذه الآية: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي قوتكم.
وقال بعض العلماء: نصركم. كما تقول العرب الريح لفلان إذا كان غالباً، ومنه قوله: إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل عاصفة سكون
واسم «إن» ضمير الشأن.
وقال صاحب الكشاف: الريح: الدولة، شبهت في نفوذ أمرها، وتمشيه بالريح في هبوبها، فقيل: هبت رياح فلان، إذا دالت له الدولة، ونفذ أمره، ومنه قوله:
يا صاحبي ألا لا حي بالوادي إلا عبيد قعود بني أذوادي
أتنظران قليلا ريث غفلتهم أم تعدوان فإن الريح للعادي
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 182 {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَآ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ * قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ ٱلاٌّوَّلِينِ * وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ * وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنْتُم بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي ٱلْمِيعَـٰدِ وَلَـٰكِن لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَىَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَـٰزَعْتُمْ فِى ٱلاٌّمْرِ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِىۤ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِىۤ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ * يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}
قوله تعالى:
{قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَ}.
قد بينا قبل هذا الآيات المصرحة بكذبهم، وتعجيز الله لهم عن الإتيان بمثله. فلا حاجة إلى إعادتها هنا، وقوله هنا في هذه الآية عنهم: {إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ} رد الله عليهم كذبهم وافتراءهم هذا في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَقَالُوۤاْ أَسَـٰطِيرُ ٱلاٌّوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاًقُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِى يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاٌّرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيم} وما أنزله عالم السر في السموات والأرض فهو بعيد جداً من أن يكون أساطير الأولين، وكقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ} إلى غير ذلك من الآيات:
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
ذكر هنا في هذه الآية الكريمة ما يدل على أن كفار مكة في غاية الجهل حيث قالوا: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَ}، ولم يقولوا فاهدنا إليه، وجاء في آيات أخر ما يدل على ذلك أيضاً كقوله عنهم: {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ} ، وقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ} ، وقوله: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} وذكر عن بعض الأمم السالفة شبه ذلك كقوله في قوم شعيب: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} ، وقوله عن قوم صالح: {يَاصَـٰحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ} ، وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح في سورة «سأل سائل».
قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ}.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بنفي ولاية الكفار على المسجد الحرام، وأثبتها لخصوص المتقين، وأوضح هذا المعنى في قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَـهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ وَفِى ٱلنَّارِ هُمْ خَـٰلِدُونَإِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاٌّخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَىٰ ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ} .
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً}.
المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق، قال بعض العلماء: والمقصود عندهم بالصفير والتصفيق التخليط حتى لا يسمع الناس القرآن من النَّبي صلى الله عليه وسلم، ويدل لهذا قوله تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} .
قوله تعالى: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ}.
ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل شيء حواه المسلمون من أموال الكفار فإنه يخمس حسبما نص عليه في الآية، سواء أوجفوا عليه الخيل والركاب أولاً، ولكنه تعالى في سورة «الحشر» أن ما أفاء الله على رسوله من غير إيجاف المسلمين عليه الخيل والركاب، أنه لا يخمس ومصارفه التي بين أنه يصرف فيها كمصارف خمس الغنيمة المذكورة هنا، وذلك في قوله تعالى: في فيء بني النضير {وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} ، ثم بين شمول الحكم لكل ما أفاء الله على رسوله من جميع القرى بقوله: {مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} .
اعلم أولاً أن أكثر العلماء: فرقوا بين الفيء والغنيمة فقالوا: الفيء: هو ما يسره الله للمسلمين من أموال الكفار من غير انزاعه منهم بالقهر، كفيء بني النضير الذين نزلوا على حكم النَّبي
صلى الله عليه وسلم ومكنوه من أنفسهم وأموالهم يفعل فيها ما يشاء لشدة الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم، ورضي لهم صلى الله عليه وسلم أن يرتحلوا بما يحملون على الإبل غير السلاح، وأما الغنيمة: فهي ما انتزعه المسلمون من الكفار بالغلبة والقهر، وهذا التفريق يفهم من قوله: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم} مع قوله: {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} فإن قوله تعالى: {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ}: ظاهر في أنه يراد به بيان الفرق بين ما أوجفوا عليه وما لم يوجفوا عليه كما ترى، والفرق المذكور بين الغنيمة والفيء عقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي بقوله:
في غزوة بني النضير وفيئهم والفيء في الأنفال ما لم يكن أخذ عن قتال
أما الغنيمة فعن زحاف والأخذ عنوة لدى الزحاف
لخير مرسل الخ.
وقوله: وفيئهم مبتدأ خبره لخير مرسل، وقوله: والفيء في الأنفال إلخ كلام اعتراضي بين المبتدأ والخبر بين به الفرق بين الغنيمة والفيء، وعلى هذا القول فلا إشكال في الآيات، لأن آية {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم} ذكر فيها حكم الغنيمة، وآية {مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ} ذكر فيها حكم الفيء وأشير لوجه الفرق بين المسألتين بقوله: {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَل} أي فكيف يكون غنيمة لكم، وأنتم لم تتعبوا فيه ولم تنتزعوه بالقوة من مالكيه.
وقال بعض العلماء: إن الغنيمة والفيء واحد، فجميع ما أخذ من الكفار على أي وجه كان غنيمة وفيء، وهذا قول قتادة رحمه الله وهو المعروف في اللغة، فالعرب تطلق اسم الفيء على الغنيمة، ومنه قول مهلهل بن ربيعة التغلبي:
فلا وأبي جليلة ما أفأنا من النعم المؤبل من بعير
ولكنا نهكنا القوم ضربا على الأثباج منهم والنحور
يعني أنهم لم يشتغلوا بسوق الغنائم ولكن بقتل الرجال فقوله:
أفأنا: يعني غنماً، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ} ، لأن ظاهر هذه الآية الكريمة شمول ذلك لجميع المسبيات ولو كن منتزعات قهراً، ولكن الاصطلاح المشهور عند العلماء هو ما قدمنا من الفرق بينهما، وتدل له آية الحشر المتقدمة. وعلى قول قتادة فآية الحشر مشكلة مع آية الأنفال هذه، ولأجل ذلك الإشكال قال قتادة، رحمه الله تعالى: إن آية {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم}، ناسخة لآية {وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ} ، وهذا القول الذي ذهب إليه ـ رحمه الله ـ باطل بلا شك، ولم يلجىء قتادة ـ رحمه الله ـ إلى هذا القول إلا دعواه اتحاد الفيء والغنيمة، فلو فرق بينهما كما فعل غيره لعلم أن آية الأنفال في الغنيمة، وآية الحشر في الفيء، ولا إشكال. ووجه بطلان القول المذكور: أن آية {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ} نزلت بعد وقعة بدر، قيل قسم غنيمة بدر بدليل حديث على الثابت في صحيح مسلم، الدال على أن غنائم بدر خمست، وآية التخميس التي شرعه الله بها هي هذه، وأما آية الحشر فهي نازلة في غزوة بني النضير بإطباق العلماء، وغزوة بني النضير بعد غزوة بدر بإجماع المسلمين، ولا منازعة فيه البتة، فظهر من هذا عدم صحة قتادة رحمه الله تعالى، وقد ظهر لك أنه على القول بالفرق بين الغنيمة والفيء لا إشكال في الآيات، وكذلك على قول من يرى أمر الغنائم والفيء راجعاً إلى نظر الإمام، فلا منافاة على قوله بين آية الحشر، وآية التخميس إذا رآه الإمام، والله أعلم. * * *
مسائل من أحكام هذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: اعلم أن جماهير علماء المسلمين على أن أربعة أخماس الغنيمة للغزاة الذين غنموها، وليس للإمام أن يجعل تلك الغنيمة لغيرهم، ويدل لهذا قوله تعالى: {غَنِمْتُمْ}، فهو يدل على أنها غنيمة لهم فلما قال: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} علمنا أن الأخماس الأربعة الباقية لهم لا لغيرهم، ونظير ذلك قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاٌّمِّهِ ٱلثُّلُثُ} أي ولأبيه الثلثان الباقيان إجماعاً، فكذلك قوله: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} أي وللغانمين ما بقي، وهذا القول هو
الحق الذي لا شك فيه، وحكى الإجماع عليه غير واحد من العلماء وممن حكى إجماع المسلمين عليه ابن المنذر وابن عبد البر، والداودي والمازري، والقاضي عياض وابن العربي، والأخبار بهذا المعنى متظاهرة، وخالف في ذلك بعض أهل العلم، وهو قول كثير من المالكية، ونقله عنهم المازري ـ رحمه الله ـ أيضاً قالوا: للإمام أن يصرف الغنيمة فيما يشاء من مصالح المسلمين، ويمنع منها الغزاة الغانمين.
واحتجوا لذلك بأدلة منها قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ} . قالوا: الأنفال: الغنائم كلها، والآية محكمة لا منسوخة، واحتجوا لذلك أيضاً بما وقع في فتح مكة. وقصة حنين قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم فتح مكة عنوة بعشرة آلاف مقاتل، ومن على أهلها فردها عليهم، ولم يجعلها غنيمة ولم يقسمها على الجيش، فلو كان قسم الأخماس الأربعة على الجيش واجباً: لفعله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة. قالوا: وكذلك غنائم هوازن في غزوة حنين، أعطى منها عطايا عظيمة جداً، ولم يعط الأنصار منها مع أنهم من خيار المجاهدين الغازين معه صلى الله عليه وسلم، وقد أشار لعطاياه من غنائم هوازن في وقعة حنين الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي في غزوة حنين بقوله:
أعطى عطايا شهدت بالكرم يومئذ له ولم تجمجم
أعطى عطايا أخجلت دلح الديم إذا ملأت رحب الغضا من النعم
زهاء ألفي ناقة منها وما ملأ بين جبلين غنما
لرجل وبله ما لحلقه منها ومن رقيقه وورقه
الخ قالوا: لو كان يجب قسم الأخماس الأربعة على الجيش الذي غنمها، لما أعطى صلى الله عليه وسلم ألفى ناقة من غنائم هوزان لغير الغزاة، ولما أعطى ما ملأ بين جبلين من الغنم لصفوان بن أمية، وفي ذلك اليوم أعطى الأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل، وكذلك عيينة بن حصن الفزاري حتى غار من ذلك العباس بن مرداس السلمي وقال في ذلك شعره المشهور: أتجعل نهبي ونهب العبيد بن عيينة والأقرع
فما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرىء منهما ومن تضع اليوم لا يرفع
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ فلم أعط شيئاً ولم أمنع
إلا أباعير أعطيتها عديد قوائمه الأربع
وكانت نهاباً تلافيتها بكرى على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم إن يرقدوا إذا هجع الناس لم أهجع
قالوا: فلو كان قسم الأخماس الأربعة على الجيش الغانمين واجباً، لما فضل الأقرع وعيينة في العطاء من الغنيمة على العباس بن مرداس في أول الأمر قبل أن يقول شعره المذكور. وأجيب من جهة الجمهور عن هذه الاحتجاجات: فالجواب عن آية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنفَالِ} هو ما قدمنا من أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ}، ونسبه القرطبي لجمهور العلماء، والجواب عما وقع في فتح مكة من أوجه: ـ.
الأول: أن بعض العلماء زعموا أن مكة لم تفتح عنوة، ولكن أهلها أخذوا الأمان منه صلى الله عليه وسلم. وممن قال بهذا الشافعي رحمه الله.
واستدل قائلوا هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» وهو ثابت في الصحيح، وهذا الخلاف في مكة هل أخذها النَّبي صلى الله عليه وسلم عنوة؟ وهو قول الجمهور، أو أخذ لها الأمان. والأمان شبه الصلح، عقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله: في غزوة الفتح يعني مكة. واختلفوا فيها فقيل أمنت وقيل عنوة وكرهاً أخذت
والحق أنها فتحت عنوة كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله. ومن أظهر الأجوبة عما وقع في فتح مكة، أن مكة ليست كغيرها من البلاد، لأنها حرام بحرمة الله من يوم خلق السماوات والأرض إلى يوم القيامة، وإنما أحلت له صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار، ولم تحل لأحد قبله ولا بعده، وما كان بهذه المثابة، فليس كغيره من البلاد التي ليست لها هذه الحرمة العظيمة.
وأما ما وقع في قصة حنين فالجواب عنه ظاهر، وهو أن النَّبي صلى الله عليه وسلم استطاب نفوس الغزاة عن الغنيمة ليؤلف بها قلوب المؤلفة قلوبهم لأجل المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، ويدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما سمع أن بعض الأنصال قال: يمنعنا ويعطي قريشاً، وسيوفنا تقطر من دمائهم، جمعهم النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكلمهم كلامه المشهور البالغ في الحسن، ومن جملته أنه قال لهم: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم» إلى آخر كلامه، فرضي القوم، وطابت نفوسهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظاً، وهذا ثابت في الصحيح، ونوه الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بحسن هذا الكلام الذي خاطبهم به صلى الله عليه وسلم بقوله: في غزوة حنين. ووكل الأنصار خير العالمين لدينهم إذا ألف المؤلفين
فوجدوا عليه أن منعهم فأرسل النَّبي من جمعهم
وقال قولاً كالفريد المؤنق عن نظمه ضعف سلك منطقي
فالحاصل أن أربعة أخماس الغنيمة التي أوجف الجيش عليها الخيل، والركاب للغزاة الغانمين على التحقيق، الذي لا شك فيه، وهو قول الجمهور.
وقد علمت الجواب عن حجج المخالفين في ذلك. ومن العلماء من يقول: لا يجوز للإمام أن ينفل أحداً شيئاً من هذه الأخماس الأربعة، لأنها ملك للغانمين، وهو قول مالك.
وذهب بعض العلماء إلى أن للإمام أن ينفل منها بعض الشيء باجتهاده، وهو أظهر دليلاً، وسيأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى. * * *
المسألة الثانية: هي تحقيق المقام في مصارف الخمس الذي يؤخذ من الغنيمة قبل القسمة. فظاهر الآية الكريمة أنه يجعل ستة أنصباء: نصيب لله جل وعلا، ونصيب للرسول صلى الله عليه وسلم، ونصيب لذي القربى، ونصيب لليتامى، ونصيب للمساكين، ونصيب لابن السبيل.
وبهذا قال بعض أهل العلم: قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية الرياحي، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة فيخمسها على خمسة تكون أربعة أخماس منها لمن شهدها، ثم يؤخذ الخمس فيضرب بيده فيه، فيأخذ الذي قبض كفه، فيجعله للكعبة وهو سهم الله، ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم، فيكون سهم للرسول صلى الله عليه وسلم وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.
وعلى هذا القول فنصيب الله جل وعلا يجعل للكعبة، ولا يخفى ضعف هذا القول لعدم الدليل عليه.
وقال بعض من قال بهذا القول: إن نصيب الله جل وعلا يرد على ذوي الحاجة.
والتحقيق أن نصيب الله جل وعلا، ونصيب الرسول صلى الله عليه وسلم واحد، وذكر اسمه جل وعلا استفتاح كلام للتعظيم، وممن قال بهذا القول ابن عباس، كما نقله عنه الضحاك. وهو قول إبراهيم النخعي، والحسن بن محمد بن الحنفية، والحسن البصري، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن بريدة، وقتادة، ومغيرة وغير واحد كما نقله عنهم ابن كثير.
والدليل على صحة هذا القول ما رواه البيهقي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن شقيق، عن رجل، قال: أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، وهو يعرض فرساً، فقلت: يا رسول الله ما تقول في الغنيمة؟
فقال: «لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش» قلت: فما أحد أولى به من أحد، قال: «لا ولا السهم تستخرجه من جيبك لست أحق به من أخيك المسلم» وهذا دليل واضح على ما ذكرنا. ويؤيده أيضاً ما رواه الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب الكندي، أنه جلس مع عبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، والحارث بن معاوية الكندي رضي الله عنهم، فتذاكروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء لعبادة: يا عبادة كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء لعبادة: يا عبادة كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس، فقال عبادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم. فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتناول وبرة بين أنملتيه، فقال: «إن هدى من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا فإن الغلول عار ونار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في السفر والحضر، وجاهدوا في الله، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله به من الهم والغم».
قال ابن كثير بعد أن ساق حديث أحمد. هذا عن عبادة بن الصامت، هذا حديث حسن عظيم، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه: ولكن روى الإمام أحمد أيضاً، وأبو داود، والنسائي من حديث عمرو بن شعيب. عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحوه في قصة الخمس، والنهي عن الغلول.
وعن عمرو بن عبسة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من هذا البعير. ثم قال: «ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذه إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» رواه أبو داود، والنسائي.
فإذا عرفت أن التحقيق أن الخمس في حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم. يقسم خمسة أسهم، لأن اسم الله ذكر للتعظيم، وافتتاح الكلام به، مع أن كل شيء مملوك له جل وعلا، فاعلم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يصرف نصيبه، الذي هو خمس الخمس، في مصالح المسلمين. بدليل قوله في الأحاديث التي ذكرناها آنفاً. «والخمس مردود عليكم»، وهو الحق.
ويدل له ما ثبت في الصحيح: من أنه كان يأخذ قوت سنته من فيء بني النضير، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأما بعد وفاته، وانتقاله إلى الرفيق الأعلى صلوات الله وسلامه عليه. فإن بعض العلماء يقول بسقوط نصيبه بوفاته.
وممن قال بذلك: أبو حنيفة رحمه الله، واختاره بن جرير.
وزاد أبو حنيفة سقوط سهم ذوي القربى أيضاً: بوفاته صلى الله عليه وسلم.
والصحيح أن نصيبه صلى الله عليه وسلم باق، وأن إمام المسلمين يصرفه فيما كان يصرفه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصالح المسلمين.
وقال بعض العلماء يكون نصيبه صلى الله عليه وسلم لمن يلي الأمر بعده، وروي عن أبي بكر، وعلي وقتادة، وجماعة، قال ابن كثير: وجاء فيه حديث مرفوع.
قالم مقيده: ـ عفا الله عنه ـ والظاهر أن هذا القول راجع في المعنى إلى ما ذكرنا أنه الصحيح، وأن معنى كونه لمن يلى الأمر بعده، أنه يصرفه فيما كان يصرفه فيه صلى الله عليه وسلم، والنَّبي قال: «الخمس مردود عليكم» وهو واضح كما ترى.
ولا يخفى أن كل الأقوال في نصيب النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. راجعة إلى شيء واحد. وهو صرفه في مصالح المسلمين.
وقد كان الخلفاء الراشدون المهديون ـ رضي الله عنهم ـ يصرفونه فيما كان يصرفه فيه صلى الله عليه وسلم.
وكان أبو بكر، وعمر ـ رضي الله عنهما ـ يصرفانه في الكراع والسلاح.
وجمهور العلماء على أن نصيب ذوي القربى باق، ولم يسقط بموته صلى الله عليه وسلم.
واختلف العلماء فيه من ثلاث جهات:
الأولى: هل يسقط بوفاته أو لا؟
وقد ذكرنا أن الصحيح عدم السقوط. خلافاً لأبي حنيفة.
الثانية: في المراد بذي القربى.
الثالثة: هل يفضل ذكرهم على أنثاهم أو لا؟
أما ذوا القربى: فهم بنو هاشم، وبنو المطلب. على أظهر الأقوال دليلاً، وإليه ذهب الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور، ومجاهد، وقتادة، وابن جريج، ومسلم بن خالد.
قال البخاري في صحيحه، في كتاب «فرض الخمس».
حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب. عن جبير بن مطعم. قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بنو المطلب، وبنو هاشم شيء واحد».
قال الليث: حدثني يونس وزاد قال جبير: ولم يقسم النَّبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل، اهـ.
وقال البخاري أيضاً في المغازي: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن جبير بن مطعم أخبره. قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر، وتركتنا، ونحن بمنزلة واحدة منك، فقال: «إنما بنو هاشم، وبنو المطلب شيء واحد»، قال جبير: لم يقسم النَّبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس، وبني نوفل شيئاً اهـ.
وإيضاح كونهم من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة واحدة: أن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وعثمان بن عفان بن أبي العاص بن عبد شمس بن عبد مناف.
فأولاد عبد مناف بن قصي أربعة:
هاشم، والمطلب، وعبد شمس.
وهم: أشقاء. أمهم: عاتكة، بنت مرة، بن هلال السلمية، إحدى عواتك سليم. اللاتي هن جدات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن ثلاث:
هذه: التي ذكرنا.
والثانية: عمتها. وهي: عاتكة، بنت هلال التي هي أم عبد مناف.
والثالثة: بنت أخي الأولى. وهي عاتكة، بنت الأوقص، بن مرة، بن هلال، وهي أم وهب، والد آمنة، أم النبي صلى الله عليه وسلم.
ورابع أولاد عبد مناف: نوفل. بن عبد مناف، وأمه: واقدة، بنت أبي عدي، واسمه نوفل، بن عبادة بن مازن، بن صعصعة.
قال الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه عمود النسب:
عبد مناف قمر البطحاء أربعة بنوه هؤلاء
مطلب، وهاشم، ونوفل، وعبد شمس، هاشم لا يجهل
وقال في بيان عواتك سليم اللآتي هن جدات له صلى الله عليه وسلم: عواتك النَّبي: أم وهب، وأم هاشم، وأم الندب
عبد مناف، وذه الأخيره عمة عمة الأولى الصغيره
وهن بالترتيب ذا لذي لرجال الأوقص بن مرة بن هلال
فبهذا الذي بينا يتضح أن الصحيح أن المراد بذي القربى في الآية: بنو هاشم، وبنو المطلب دون بني عبد شمس، وبني نوفل.
ووجهه أن بني عبد شمس، وبني نوفل عادوا الهاشميين، وظاهروا عليهم قريشاً، فصاروا كالأباعد منهم. للعداوة، وعدم النصرة.
ولذا قال فيهم أبو طالب. في لاميته المشهورة: جزى الله عنا عبد شمس، ونوفلا عقوبة شر، عاجل، غير آجل
بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه، غير عائل
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا بني خلف قيضا بنا، والغياطل
ونحن الصميم من ذؤابة هاشم وآل قصبي في الخطوب الأوائل
بهذا الحديث الصحيح الذي ذكرنا: يتضح عدم صحة قول من قال: بأنهم بنو هاشم فقط. وقول من قال: إنهم قريش كلهم.
وممن قال بأنهم بنو هاشم فقط: عمر بن عبد العزيز، وزيد بن أرقم، ومالك، والثوري، ومجاهد وعلي بن الحسين، والأوزاعي، وغيرهم.
وقد أخرج الشافعي، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، ومسلم، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه: عن ابن عباس: أن نجدة الحروري كتب إليه: يسأله عن ذوي القربى الذين ذكر الله، فكتب إليه: إنا كنا نرى أناهم، فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا: قريش كلها ذوو قربى.
وزيادة قوله: وقالوا: «قريش كلها» تفرد بها أبو معشر، وفيه ضعف.
وما قدمنا من قول النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفعله الثابت في الصحيح: يعين أنهم بنو هاشم، والمطلب، وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل، وكثير من أهل العلم.
فإذا عرفت أنه صلى الله عليه وسلم قضى بخمس الخمس من غنائم خيبر لبني هاشم والمطلب، وأنهم هم ذوو القربى المذكورون في الآية.
فاعلم أن العلماء اختلفوا: هل يفضل ذكرهم على أنثاهم، أو يقسم عليهم بالسوية؟
فذهب بعض العلماء إلى أنه كالميراث، للذكر مثل حظ الأنثيين. وهذا هو مذهب أحمد بن حنبل في أصح الروايتين.
قال صاحب الإنصاف: هذا المذهب جزم به الخرقي، وصاحب الهداية، والمذهب، ومسبوك الذهب، والعمدة، والوجيز، وغيرهم. وقدمه في الرعايتين، والحاويين، وغيرهم، وصححه في البلغة، والنظم، وغيرهما.
وعنه: الذكر والأنثى. سواء. قدمه ابن رزين في شرحه. وأطلقهما في المغني، والشرح، والمحرر، والفروع، اهـ من الإنصاف.
وتفضيل ذكرهم على أنثاهم الذي هو مذهب الإمام أحمد: هو مذهب الشافعي أيضاً.
وحجة من قال بهذا القول: أنه سهم استحق بقرابة الأب شرعاً. بدليل أن أولاد عماته صلى الله عليه وسلم، كالزبير بن العوام، وعبد الله بن أبي أمية. لم يقسم لهم في خمس الخمس، وكونه مستحقاً بقرابة الأب خاصة يجعله كالميراث. فيفضل فيه الذكر على الأنثى.
وقال بعض العلماء: ذكرهم وأنثاهم سواء.
وممن قال به المزني: وأبو ثور، وابن المنذر.
قال مقيده: ـ عفا الله عنه ـ وهذا القول أظهر عندي، لأن تفضيل الذكر على الأنثى يحتاج إلى دليل، ولم يقم عليه في هذه المسألة دليل، ولم ينقل أحد عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنه فضل ذكرهم على أنثاهم في خمس الخمس.
والدليل على أنه ليس كالميراث: أن الابن منهم يأخذ نصيبه مع وجود أبيه، وجده اهـ.
وصغيرهم، وكبيرهم سواء. وجمهور العلماء القائلين بنصب القرابة على أنه يقسم على جميعهم. ولم يترك منهم أحد خلافاً لقوم.
والظاهر شمول غنيهم. خلافاً لمن خصص به فقراءهم، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخصص به فقراءهم، بخلاف نصيب اليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
فالظاهر أنه يخصص به فقراؤهم، ولا شيء لأغنيائهم، فقد بان لك مما تقدم أن مذهب الشافعي، وأحمد ـ رحمهما الله ـ في هذه المسألة: أن سهم الله، وسهم رسوله صلى الله عليه وسلم واحد. وأنه بعد وفاته يصرف في مصالح المسلمين. وأن سهم القرابة لبني هاشم، وبني المطلب. للذكر مثل حظ الأنثيين، وأنه لجميعهم. غنيهم وفقيرهم، قاتلوا أم لم يقاتلوا، وأن للذكر منهم مثل حظ الأنثيين، وأن الأنصباء الثلاثة الباقية لخصوص الفقراء من اليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
ومذهب أبي حنيفة: سقوط سهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وسهم قرابته بموته، وأن الخمس يقسم على الثلاثة الباقية: التي هي اليتامى، والمساكين وابن السبيل.
قال: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة، والجند، وروي نحو هذا عن الشافعي أيضاً.
ومذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ أن أمر خمس الغنيمة موكول إلى نظر الإمام واجتهاده. فيما يراه مصلحة، فيأخذ منه من غير تقدير، ويعطي القرابة باجتهاده، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها: وبقول مالك هذا: قال الخلفاء الأربعة، وبه عملوا، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: «مالي مما أفاء الله عليكم إلا لخمس، والخمس مردود عليكم»، فإنه لم يقسمه أخماساً، ولا أثلاثاً، وإنما ذكر في الآية من ذكر على وجه التنبيه عليهم. لأنهم من أهم من يدفع إليه.
قال الزجاج: محتجاً لمالك، قال الله عز وجل: {يَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلاٌّقْرَبِينَ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينَ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ} .
وللرجل جائز بإجماع العلماء أن ينفق في غير هذه الأصناف، إذا رأى ذلك، وذكر النسائي عن عطاء، قال: «خمس الله، وخمس رسوله واحد، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل منه، ويعطى منه، ويضعه حيث شاء» اهـ من القرطبي.
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: «وقال آخرون: إن الخمس يتصرف فيه الإمام بالمصلحة للمسلمين، كما يتصرف في مال الفيء.
وقال شيخنا العلامة ابن تيمية: رحمه الله ـ وهذا قول مالك، وأكثر السلف، وهو أصح الأقوال اهـ من ابن كثير.
وهذا القول هو رأي البخاري بدليل قوله: باب قول الله تعالى: {فَأَنَّ للَّهِ خَمْسَةٍ وَلِلرَّسُولِ} يعني للرسول قسم ذلك.
وقال رسول الله: «إنما أنا قاسم، وخازن، والله يعطي» ثم ساق البخاري أحاديث الباب، في كونه صلى الله عليه وسلم قاسماً بأمر الله تعالى.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: وهذا القول قوي، وستأتي له أدلة إن شاء الله في المسألة التي بعد هذا، ولكن أقرب الأقوال للسلامة هو العمل بظاهر الآية، كما قال الشافعي، وأحمد ـ رحمهما الله ـ لأن الله أمرنا أن نعلم أن خمس ما غنمنا. لهذه المصارف المذكورة، ثم أتبع ذلك بقوله: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}، وهو واضح جداً، كما ترى.
وأما قول بعض أهل البيت. كعبد الله بن محمد بن علي، وعلي بن الحسين رضي الله عنهم: بأن الخمس كله لهم دون غيرهم، وأن المراد باليتامى، والمساكين: يتاماهم، ومساكينهم، وقول من زعم أنه بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم، يكون لقرابة الخليفة الذي يوليه المسلمون، فلا يخفي ضعفهما، والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: أجمع العلماء على أن الذهب، والفضة، وسائر الأمتعة. كل ذلك داخل في حكم الآية: يخمس، ويقسم الباقي على الغانمين، كما ذكرنا.
المسألة الرابعة: أما أرضهم المأخوذة عنوة. فقد اختلف العلماء فيها، فقال بعض العلماء: يخير الإمام بين قسمتها، كما يفعل بالذهب، والفضة. ولا خراج عليها. بل هي أرض عشر مملوكة، للغانمين، وبين وقفها للمسلمين بصيغة.
وقيل بغير صيغة، ويدخل في ذلك تركها للمسلمين بخراج مستمر يؤخذ ممن تقر بيده، وهذا التخيير: هو مذهب الإمام أحمد.
وعلى هذا القول: إذا قسمها الإمام، فقيل: تخمس، وهو أظهر، وقيل: لا، واختاره بعض أجلاء العلماء قائلاً: إن أرض خيبر لم يخمس ما قسم منها.
والظاهر أن أرض خيبر خمست، كما جزم به غير واحد، ورواه أبو داود بإسناد صحيح عن الزهري.
وهذا التخيير بين القسم، وإبقائها للمسلمين، الذي ذكرنا أنه مذهب الإمام أحمد: هو أيضاً مذهب الإمام أبي حنيفة، والثوري.
وأما مالك ـ رحمه الله ـ فذهب إلى أنها تصير وقفاً للمسلمين، بمجرد الإستيلاء عليها.
وأما الشافعي ـ رحمه الله ـ فذهب إلى أنها غنيمة يجب قسمها على المجاهدين، بعد إخراج الخمس، وسنذكر ـ إن شاء الله ـ حجج الجميع، وما يظهر لنا رجحانه بالدليل.
أما حجة الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ فهي بكتاب وسنة.
أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ} ، فهو يقتضي بعمومه شمول الأرض المغنومة.
وأما السنة: فما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم، قسم أرض قريظة، بعد أن خمسها، وبني النضير، ونصف أرض خيبر بين الغانمين.
قال: فلو جاز أن يدعي، إخراج الأرض، جاز أن يدعي إخراج غيرها، فيبطل حكم الآية.
قال مقيده ـ عفا الله عنه، الاستدلال بالآية: ظاهر، وبالسنة غير ظاهر؛ لأنه لا حجة فيه على من يقول بالتخيير، لأنه يقول: كان مخيراً فاختار القسم، فليس القسم واجباً، وهو واضح كما ترى.
وحجة من قال بالتخيير: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قسم نصف أرض خيبر، وترك نصفها، وقسم أرض قريظة، وترك قسمة مكة، فدل قسمه تارة، وتركه القسم أخرى، على التخيير.
ففي (السنن) و (المستدرك): «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، لما ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهماً، جمع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللمسلمين؛ النصف من ذلك، وعزل النصف الباقي لمن ينزل به من الوفود، والأمور، ونوائب الناس»، هذا لفظ أبي داود.
وفي لفظ: «عزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهماً، وهو الشطر ـ لنوائبه، وما ينزل به من أمر المسلمين، فكان ذلك: الوطيح، والكتيبة، والسلالم، وتوابعها».
وفي لفظ أيضاً: «عزل نصفها لنوائبه، وما ينزل به؛ الوطيحة، والكتيبة، وما أحيز معهما، وعزل النصف الآخر: فقسمه بين المسلمين، الشق، والنطاة، وما أحيز معهما، وكان سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أحيز معهما».
ورد المخالف هذا الاحتجاج، بأن النصف المقسوم من خيبر: مأخوذ عنوة، والنصف الذي لم يقسم منها: مأخوذ صلحاً، وجزم بهذا ابن حجر في (فتح الباري).
وقال النووي في (شرح مسلم) في الكلام على قول أنس عند مسلم: وأصبناها عنوة ما نصه «قال القاضي: قال المازري: ظاهر هذا أنها كلها فتحت عنوة، وقد روى مالك، عن ابن شهاب، أن بعضها فتح عنوة، وبعضها صلحاً، قال: وقد يشكل ما روي في سنن أبي داود، أنه قسمها نصفين: نصفاً لنوائبه، وحاجته، ونصفاً للمسلمين، قال: وجوابه، ما قال بعضهم: إنه كان حولها ضياع وقرى أجلى عنها أهلها، فكانت خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم، وما سواها للغانمين، فكان قدر الذي جلوا عنه النصف، فلهذا قسم نصفين اهـ منه بلفظه.
وقال أبو داود في (سننه): حدثنا حسين بن علي العجلي، ثنا يحيى ـ يعني ابن آدم ـ، ثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، وعبد الله بن أبي بكر، وبعض ولد محمد بن مسلمة، قالوا: بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يحقن دماءهم، ويسيرهم، ففعل، فسمع بذلك أهل فدك، فنزلوا على مثل ذلك، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، لأنها لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، ثنا عبد الله بن محمد، عن جويرية، عن مالك، عن الزهري: أن سعيد بن المسيب، أخبره: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، افتتح بعض خيبر عنوة».
قال أبو داود: وقرىء على الحارث بن مسكين، وأنا شاهد؛ أخبرهم ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب: أن خيبر كان بعضها عنوة، وبعضها صلحاً، والكتيبة أكثرها عنوة، وفيها صلح؛ قلت لمالك: وما الكتيبة؟ قال: أرض خيبر، وهي أربعون ألف عذق.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: وهذا الذي ذكرنا: يقدح في الاحتجاج لتخيير الإمام في القسم، والوقفية بقضية خيبر، كما ترى، وحجة قول مالك ـ رحمه الله ـ ومن وافقه في أن أرض العدو المفتوحة عنوة تكون وقفاً للمسلمين، بمجرد الاستيلاء عليها أمور.
منها: قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في (صحيح مسلم) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه: «منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم»، شهد على ذلك، لحم أبي هريرة ودمه.
ووجه الاستدلال عندهم بالحديث: أن: «منعت العراق... الخ» بمعنى ستمنع؛ وعبر بالماضي إيذاناً بتحقق الوقوع، كقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ} ، وقوله: {أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ} .
قالوا: فدل ذلك على أنها لا تكون للغانمين، لأن ما ملكه الغانمون لا يكون فيه قفيز، ولا درهم، ولحديث مسلم هذا؛ شاهد من حديث جابر عند مسلم أيضاً، ومن حديث أبي هريرة أيضاً عند البخاري.
وقال ابن حجر في (فتح الباري) في كتاب «فرض الخمس» ما نصه: وذكر ابن حزم: أن بعض المالكية احتج بقوله في حديث أبي هريرة: «منعت العراق درهمها» الحديث. على أن الأرض المغنومة: لا تباع، ولا تقسم، وأن المراد بالمنع: منع الخراج، ورده بأن الحديث: ورد في الإنذار بما يكون من سوء العاقبة، وأن المسلمين سيمنعون حقوقهم في آخر الأمر، وكذلك وقع.
واحتجوا أيضاً بما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها، كما قسم النَّبي صلى الله عليه وسلم خيبر».
وفي لفظ في الصحيح عن عمر: «أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس بياناً ليس لهم شيء؛ ما فتحت عليَّ قرية إلا قسمتها، كما قسم النَّبي صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها».
واحتج أهل هذا القول أيضاً. بأن الأرض المغنومة لو كانت تقسم، لم يبق لمن جاء بعد الغانمين شيء، والله أثبت لمن جاء بعدهم شركة بقوله: {وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَ} ، فإنه معطوف على قوله: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَـٰجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُو} وقوله: {وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَـٰنَ} ، وقول من قال. إن قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} مبتدأ خبره {يَقُولُونَ} غير صحيح.
لأنه يقتضي أنه تعالى. أخبر بأن كل من يأتي بعدهم يقول: {رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَٰنِنَ} . والواقع خلافه: لأن كثيراً ممن جاء بعدهم يسبون الصحابة ويلعنونهم، والحق أن قوله: {وَٱلَّذِينَ جَآءُو} معطوف على ما قبله، وجملة {يَقُولُونَ} حال كما تقدم في «آل عمران»، وهي قيد لعاملها وصف لصاحبها.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: هذه الأدلة التي استدل بها المالكية، لا تنهض فيما يظهر، لأن الأحاديث المذكورة لا يتعين وجه الدلالة فيها، لأنه يحتمل أن يكون الإمام مخيراً، فاختار إبقاءها للمسلمين، ولم يكن واجباً في أول الأمر، كما قدمنا.
والاستدلال بآية الحشر المذكورة: واضح السقوط، لأنها في الفيء، والكلام في الغنيمة، والفرق بينهما معلوم كما قدمنا.
قال مقيده: ـ عفا الله عنه ـ أظهر الأقوال دليلاً أن الإمام مخير، ويدل عليه كلام عمر في الأثر المار آنفاً، وبه تنتظم الأدلة، ولم يكن بينها تعارض، والجمع واجب متى ما أمكن.
وغاية ما في الباب: أن تكون السنة دلت على تخصيص واقع في عموم قوله تعالى: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ} .
وتخصيص الكتاب بالسنة كثير.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها، بعد أن ذكر القول بالتخيير: ما نصه: «قال شيخنا أبو العباس رضي الله عنه: وكأن هذا جمع بين الدليلين، ووسط بين المذهبين، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه قطعاً.
ولذلك قال: «لولا آخر الناس» فلم يخبر بنسخ فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ ولا بتخصيصه بهم.
فإن قيل: لا تعارض بين الأدلة على مذهب الشافعي: لأن ما وقع فيه القسم من خيبر مأخوذ عنوة، وما لم يقسم منها مأخوذ صلحاً، والنضير فيء، وقريظة قسمت.
ولو قال قائل: إنها فيء أيضاً؛ لنزولهم على حكم النَّبي صلى الله عليه وسلم، قبل أن يحكم فيهم سعداً، لكان غير بعيد؛ ولكن يرده: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم خمسها، كما قاله مالك، وغيره.
ومكة مأخوذة صلحاً؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن».
هذا ثابت في صحيح مسلم.
فالجواب: أن التحقيق أن مكة فتحت عنوة، ولذلك أدلة واضحة.
منها: أنه لم ينقل أحد أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صالح أهلها زمن الفتح، ولا جاءه أحد منهم؛ فصالحه على البلد؛ وإنما جاءه أبو سفيان؛ فأعطاه الأمان لمن دخل داره، أو أغلق بابه، أو دخل المسجد، أو ألقى سلاحه.
ولو كانت قد فتحت صلحاً لم يقل «من دخل داره، أو أغلق بابه، أو دخل المسجد فهو آمن» فإن الصلح يقتضي الأمان العام.
ومنها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه أذن لي فيها ساعة من نهار».
وفي لفظ: «إنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار».
وفي لفظ: «فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس»، وهذا صريح في أنها فتحت عنوة.
ومنها: أنه ثبت في الصحيح، «أنه يوم فتح مكة جعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على الحسر، فأخذوا بطن الوادي، ثم قال: يا أبا هريرة اهتف لي بالأنصار، فجاءوا يهرولون، فقال: يا معشر الأنصار، هل ترون إلى أوباش قريش؟ قالوا: نعم، قال: انظروا إذا لقيتوهم غداً أن تحصدوهم حصداً، وأحفى بيده، ووضع يمينه على شماله، وقال: موعدكم الصفا، وجاءت الأنصار، فأطافوا بالصفا، قال: فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا، وجاءت الأنصار، فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان، فقال: يا رسول الله أبيدت خضراء قريش؛ لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن».
أخرجه مسلم في (صحيحه) من حديث أبي هريرة.
وذكر أهل المغازي تفصيل ما أجمل في حديث مسلم هذا، فبينوا أنه قتل من الكفار اثنا عشر، وقيل: قتل من قريش أربعة وعشرون، ومن هذيل أربعة، وقتل يومئذ من المسلمين ثلاثة، وهم سلمة بن الميلاء الجهني، وكرز بن جابر المحاربي ـ نسبة إلى محارب بن فهر ـ وخنيس بن خالد الخزاعي. أخو أم معبد، وقال كرز قبل أن يقتل في دفاعه عن خنيس: قد علمت بيضاء من بني فهر نقية اللون نقية الصدر
• لأضربن اليوم عن أبي صخر * وفيه نقل الحركة في الوقف، ورجز حماس بن قيس المشهور يدل على القتال يوم الفتح، وذكره الشنقيطي في مغازيه بقوله:
• وزعم ابن قيس أن سيحفدا نساءهم خلته وأنشدا
• إن يقبلوا اليوم فمالي عله هذا سلاح كامل وأله
•
• وذو غرارين سريع السله وشهد المأزق فيه حطما رمزبب من قومه فانهزما
• وجاء فاستغلق بابها البتول فاستفهمته أينما كنت تقول
• فقال والفزع زعفر دمه إنك لو شهدت يوم الخندمه
• إذ فر صفوان وفر عكرمه وبو يزيد قائم كالمؤتمه
• واستقبلتنا بالسيوف المسلمه لهم نهيت خلفنا وهمهمه
• يقطعن كل ساعد وجمجمه ضربا فلا تسمع إلا غمغمه
•
• * لم تنطقي باللوم أدنى كلمه * وهذا الرجز صريح في وقوع القتال والقتل يوم فتح مكة.
• ومصداقه في الصحيح كما تقدم.
• ومنها: أيضاً؛ أن أم هانىء، بنت أبي طالب رضي الله عنها أجارت رجلاً، فأراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء»، وفي لفظ عنها: لما كان يوم فتح مكة، أجرت رجلين من أحمائي، فأدخلتهما بيتاً؛ وأغلقت عليهما باباً، فجاء ابن أمي عليَّ، فتفلت عليهما بالسيف» فذكرت حديث الأمان وقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء» وذلك ضحى ببطن مكة بعد الفتح. وقصتها ثابتة في الصحيح.
فإجارتها له، وإرادة علي رضي الله عنه قتله، وإمضاء النَّبي صلى الله عليه وسلم إجارتها: صريح في أنها فتحت عنوة.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم، أمر بقتل مقيس بن صبابة، وابن خطل، وجاريتين.
ولو كانت فتحت صلحاً، لم يؤمر بقتل أحد من أهلها، ولكان ذكر هؤلاء مستثنى من عقد الصلح.
وأمره صلى الله عليه وسلم بقتل من ذكر: ثابت عنه صلى الله عليه وسلم.
وفي السنن بإسناد صحيح: «أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما كان يوم فتح مكة، قال: أمنوا الناس إلا امرأتين وأربعة نفر؛ اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة» إلى غير ذلك من الأدلة.
فهذه أدلة واضحة على أن مكة ـ حرسها الله ـ فتحت عنوة.
وكونها فتحت عنوة: يقدح فيما ذهب إليه الشافعي من وجوب قسم الأرض المغنومة عنوة.
فالذي يتفق عليه جميع الأدلة، ولا يكون بينها أي تعارض: هو ما قدمنا من القول بالتخيير بين قسم الأرض، وإبقائها للمسلمين، مع ما قدمنا من الحجج، والعلم عند الله تعالى.
وإذا عرفت أن التحقيق أن مكة فتحت عنوة، فاعلم أن العلماء اختلفوا في رباع مكة: ـ هل يجوز تملكها، وبيعها، وإيجارها؟ ـ على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يجوز شيء من ذلك، وبه قال أبو حنيفة، والأوزاعي، والثوري، ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وإبراهيم، والحسن، وإسحاق. وغيرهم.
وكرهه مالك ـ رحمه الله ـ.
وأجاز جميع ذلك الشافعي، وأبو يوسف.
وبه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجماعة من الصحابة ومن بعدهم..
وتوسط الإمام أحمد، فقال: تملك، وتورث، ولا تؤجر، ولا تباع، على إحدى الروايتين، جمعاً بين الأدلة، والرواية الثانية كمذهب الشافعي.
وهذه المسألة: تناظر فيها الإمام الشافعي، وإسحاق بن راهويه في مسجد الخيف ـ والإمام أحمد بن حنبل حاضر ـ فأسكت الشافعي إسحاق بالأدلة، بعد أن قال له: ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك، فكنت آمر بفرك أذنيه، أنا أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: قال طاوس، والحسن، وإبراهيم، وهل لأحد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة؟ ـ في كلام طويل ـ.
ونحن نذكر إن شاء الله أدلة الجميع، وما يقتضي الدليل رجحانه منها.
فحجة الشافعي ـ رحمه الله ـ ومن وافقه بأمور.
الأول: حديث أسامة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما سأله. أين تنزل غداً؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟» وفي بعض الروايات «من منزل»، وفي بعضها «منزلاً» أخرج هذا الحديث البخاري في كتاب «الحج» في باب «توريث دور مكة، وشرائها» الخ وفي كتاب «المغازي» في غزوة الفتح في رمضان في باب أين ركز النَّبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح، وفي كتاب الجهاد في باب «إذا أسلم قوم في دار الحرب، ولهم مال وأرضون فهي لهم» وأخرجه مسلم في كتاب «الحج» في باب «النزول بمكة للحاج وتوريث دورها. بثلاث روايات هي مثل روايات البخاري.
فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المتفق عليه: «وهل ترك لنا عقيل من رباع» صريح في إمضائه صلى الله عليه وسلم بيع عقيل بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ تلك الرباع.
ولو كان بيعها، وتملكها لا يصح لما أقره النَّبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يقر على باطل بإجماع المسلمين.
الثاني: أن الله تبارك وتعالى أضاف المهاجرين من مكة ديارهم، وذلك يدل على أنها ملكهم في قوله: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَـٰجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ} .
قال النووي في (شرح المهذب): فإن قيل: قد تكون الإضافة لليد والسكنى، لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ} .
فالجواب: أن حقيقة الإضافة تقتضي الملك، ولذلك لو قال: هذه الدار لزيد حكم بملكها لزيد، ولو قال: أردت به السكنى واليد، لم يقبل.
ونظير الآية الكريمة: ما احتج به أيضاً.
من الإضافة في قوله: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» الحديث.
وقد قدمنا أنه في (صحيح مسلم).
الثالث: الأثر المشهور في سنن البيهقي وغيره. «أن نافع بن الحارث، اشترى من صفوان بن أمية، دار السجن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، بأربعمائة». وفي رواية «بأربعة آلاف»، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة.
وروى الزبير بن بكار والبيهقي: أن حكيم بن حزام رضي الله عنه، باع دار الندوة بمكة من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف، فقال له عبد الله بن الزبير: يا أبا خالد بعت مأثرة قريش وكريمتها، فقال: هيهات ذهبت المكارم فلا مكرمة اليوم إلا الإسلام، فقال: اشهدوا أنها في سبيل الله تعالى يعني الدراهم التي باعها بها.
وعقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه عمود النسب بقوله يعني قصياً: واتخذ الندوة لا يخترع في غيرها أمر ولا تدرع
جارية أو يعذر الغلام إلا بأمره بها يرام
وباعها بعد حكيم بن حزام وأنبوه وتصدق الهمام
سيد ناديه بكل الثمن إذ العلى بالدين لا بالدمن
الرابع: أنها فتحت صلحاً، فبقيت على ملك أهلها، وقد قدمنا ضعف هذا الوجه.
الخامس: القياس، لأن أرض مكة أرض حية ليست موقوفة، فيجوز بيعها قياساً على غيرها من الأرض.
واحتج من قال: بأن رباع مكة لا تملك ولا تباع. بأدلة:
منها قوله تعالى: {وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِى جَعَلْنَـٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَـٰكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ} قالوا: والمراد بالمسجد: جميع الحرم كله لكثرة إطلاقه عليه في النصوص، كقوله: {سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} ، وقوله: {إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} ، وقوله: {هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ} مع أن المنحر الأكبر من الحرم «منى».
ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ ٱلَّذِى حَرَّمَهَ} قالوا: والمحرم لا يجوز بيعه.
ومنها: ما أخرجه البيهقي من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مكة مناخ لا تباع رباعها، ولا تؤجر بيوتها».
ومنها: ما رواه أبو حنيفة، عن عبيد الله بن أبي زياد، عن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو، قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مكة حرام، وحرام بيع رباعها، وحرام أجر بيوتها».
ومنها ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله ألا نبني لك بيتاً أو بناء يظلك من الشمس؟ قال: «لا. إنما هو مناخ من سبق إليه» أخرجه أبو داود.
ومنها: ما رواه البيهقي، وابن ماجه، عن عثمان بن أبي سليمان، عن علقمة بن نضلة الكناني، قال: كانت بيوت مكة تدعى السوائب، لم تبع رباعها في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر ولا عمر، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن.
ومنها: ما روى عن عائشة رضي الله عنها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: «منى مناخ لمن سبق».
قال النووي في (شرح المهذب) في الجنائز، في «باب الدفن» في هذا الحديث، رواه أبو محمد الدارمي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم، بأسانيد جيدة من رواية عائشة رضي الله عنها.
قال الترمذي: هو حديث حسن.
وذكر في البيوع، في الكلام على بيع دور مكة، وغيرها من أرض الحرم: أن هذا الحديث صحيح.
ومنها: ما رواه عبد الرزاق بن مجاهدعن ابن جريج، قال: كان عطاء ينهي عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن عمر بن الخطاب، كان ينهي عن تبويب دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بوب داره، سهيل بن عمرو، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك، فقال. أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجراً، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري، فقال: ذلك لك إذن.
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن مجاهد: إن عمر بن الخطاب، قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبواباً لينزل البادي حيث يشاء. اهـ، قاله ابن كثير: إلى غير ذلك من الأدلة.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: أقوى الأقوال دليلاً فيما يظهر قول الشافعي ومن وافقه، لحديث أسامة بن زيد المتفق عليه، كما قدمنا، وللأدلة التي قدمنا غيره، ولأن جميع أهل مكة بقيت لهم ديارهم بعد الفتح يفعلون بها ما شاءوا من بيع، وإجارة، وغير ذلك.
وأجاب أهل هذا القول الصحيح عن أدلة المخالفين. فأجابوا عن قوله: {سَوَآءً ٱلْعَـٰكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ} بأن المراد خصوص المسجد دون غيره من أرض الحرم، بدليل التصريح بنفس المسجد في قوله: {وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِى جَعَلْنَـٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً} ، وعن قوله تعالى: {هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ ٱلَّذِى حَرَّمَهَ} بأن المراد: حرم صيدها، وشجرها، وخلاها، والقتال فيها، كما بينه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، ولم يذكر في شيء منها مع كثرتها النهي عن بيع دورها. وعن حديث إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه: بأنه ضعيف، قال النووي في (شرح المهذب): هو ضعيف باتفاق المحدثين، واتفقوا على تضعيف إسماعيل، وأبيه إبراهيم.اهـ.
وقال البيهقي في السنن الكبرى: إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ضعيف، وأبوه غير قوي، واختلف عليه فروي عنه هكذا، وروي عنه عن أبيه، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً ببعض معناه، وعن حديث عائشة رضي الله عنها. بأنه محمول على الموات من الحرم.
قال النووي: وهو ظاهر الحديث.
وعن حديث أبي حنيفة: بأنه ضعيف من وجهين:
أحدهما: تضعيف إسناده بابن أبي زياد المذكور فيه.
والثاني: أن الصواب فيه عند الحفاظ أنه موقوف على عبد الله بن عمر وقالوا: رفعه وهم قاله: الدارقطني، وأبو عبد الرحمن السلمي، والبيهقي.
وعن حديث عثمان بن أبي سليمان بجوابين:
أحدهما: أنه منقطع، كما قاله البيهقي.
الثاني: ما قال البيهقي أيضاً، وجماعة من الشافعية، وغيرهم: أن المراد في الحديث: الإخبار عن عادتهم الكريمة في إسكانهم ما استغنوا عنه من بيوتهم بالإعارة تبرعاً، وجوداً.
وقد أخبر من كان أعلم بشأن مكة منه عن جريان الإرث، والبيع فيها.
وعن حديث «منى مناخ من سبق» بأنه محمول على مواتها، ومواضع نزول الحجيج منها. قاله النووي اهـ.
واعلم أن تضعيف البيهقي لحديث إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، وحديث عثمان بن أبي سليمان، عن علقمة بن نضلة تعقبه عليه محشيه صاحب (الجواهر النقي)، بما نصه: «ذكر فيه حديثاً في سنده إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، فضعف إسماعيل، وقال عن أبيه غير قوي، ثم اسنده من وجه آخر، ثم قال: رفعه وهم، والصحيح موقوف قلت: أخرج الحاكم في (المستدرك) هذا الحديث من الوجهين اللذين ذكرهما البيهقي، ثم صحح الأول، وجعل الثاني شاهداً عليه، ثم ذكر البيهقي في آخره حديثاً عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة. ثم قال: هذا منقطع.
قلت: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه بسند على شرط مسلم، وأخرجه الدارقطني وغيره، وعلقمة هذا صحابي. كذا ذكره علماء هذا الشأن، وإذا قال الصحابي مثل هذا الكلام. كان مرفوعاً على ما عرف به، وفيه تصريح عثمان بالسماع عن علقمة، فمن أين الانقطاع؟ اهـ كلام صاحب (الجوهر النقي).
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ لا يخفى سقوط اعتراض ابن التركماني هذا على الحافظ البيهقي. في تضعيفه الحديثين المذكورين.
أما في الأول: فلأن تصحيح الحاكم ـ رحمه الله ـ لحديث ضعيف لا يصيره صحيحاً.
وكم من حديث ضعيف صححه الحاكم ـ رحمه الله ـ وتساهله ـ رحمه الله ـ في التصحيح معروف عند علماء الحديث، وإبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي قد يكون للمناقشة في تضعيف الحديث به وجه. لأن بعض العلماء بالرجال وثقه وهو من رجال مسلم.
وقال فيه ابن حجر، في (التقريب): «صدوق لين الحفظ»، أما ابنه إسماعيل فلم يختلف في أنه ضعيف. وتضعيف الحديث به ظاهر لا مطعن فيه.
وقال فيه ابن حجر في (التقريب). ضعيف، فتصحيح هذا الحديث لا وجه له.
وأما قوله في اعتراضه تضعيف البيهقي لحديث الثاني. فمن أين الانقطاع فجوابه: أن الانقطاع من حيث إن علقمة بن نضلة تابعي صغير، وزعم الشيخ ابن التركماني، أنه صحابي غير صحيح، وقد قال فيه ابن حجر في (التقريب). علقمة بن نضلة ـ بفتح النون وسكون المعجمة ـ المكي، كناني.
وقيل: كندي تابعي صغير مقبول، أخطأ من عده في الصحابة، وإذن فوجه انقطاعه ظاهر، فظهر أن الصواب مع الحافظ البيهقي، والنووي وغيرهما في تضعيف الحديثين المذكورين.
ولا شك أن من تورع عن بيع رباع مكة، وإيجارها خروجاً من الخلاف، أن ذلك خير له، لأن من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.
تنبيه
أجمع جميع المسلمين على أن مواضع النسك من الحرم كموضع السعي، وموضع رمي الجمار حكمها حكم المساجد، والمسلمون كلهم سواء فيها.
والظاهر أن ما يحتاج إليه الحجيج من منى، ومزدلفة كذلك، فلا يجوز لأحد أن يضيقهما بالبناء المملوك حتى تضيقا بالحجيج، ويبقى بعضهم لم يجد منزلاً، لأن المبيت بمزدلفة ليلة النحر، وبمنى ليالي أيام التشريق، من مناسك الحج.
فلا يجوز لأحد أن يضيق محل المناسك على المسلمين، حتى لا يبقى ما يسع الحجيج كله، ويدل له حديث: «منى مناخ لمن سبق» كما تقدم.
المسألة الخامسة: في تحقيق المقام فيما للإمام أن ينفله من الغنيمة، وسنذكر أقوال العلماء في ذلك، وأدلتهم، وما يقتضي الدليل رجحانه.
اعلم أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة، كما أشرنا له في أول هذه السورة الكريمة، ووعدنا بإيضاحه هنا فذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ إلى أن الإمام لا يجوز له أن ينفل أحداً شيئاً إلا من الخمس، وهو قول سعيد بن المسيب، لأن الأخماس الأربعة. ملك للغانمين الموجفين عليها بالخيل، والركاب. هذا مشهور مذهبه، وعنه قول آخر: أنها من خمس الخمس.
ووجه هذا القول: أن أخماس الخمس الأربعة، غير خمس الرسول صلى الله عليه وسلم لمصارف معينة في قوله: {وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ} وأربعة الأخماس الباقية ملك للغانمين.
وأصح الأقوال عن الشافعي: أن الإمام لا ينفل إلا من خمس الخمس، ودليله: ما ذكرنا آنفاً.
وعن عمرو بن شعيب أنه قال. لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن قدامة في (المغني): ولعله يحتج بقوله تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ} . وذهب الإمام أحمد في طائفة من أهل العلم: إلى أن للإمام أن ينفل الربع بعد الخمس في بدأته، والثلث بعد الخمس في رجعته.
ومذهب أبي حنيفة. أن للإمام قبل إحراز الغنيمة أن ينفل الربع، أو الثلث، أو أكثر، أو أقل بعد الخمس، وبعد إحراز الغنيمة لا يجوز له التنفيل إلا من الخمس.
وقد قدمنا جملة الخلاف في هذه المسألة في أول هذه السورة الكريمة، ونحن الآن نذكر إن شاء الله ما يقتضي الدليل رجحانه.
اعلم أولاً، أن التنفيل الذي اقتضى الدليل جوازه أقسام:
الأول: أن يقول الإمام لطائفة من الجيش. إن غنمتم من الكفار شيئاً، فلكم منه كذا بعد إخراج خمسه، فهذا جائز، وله أن ينفلهم في حالة إقبال جيش المسلمين إلى الكفار الربع، وفي حالة رجوع جيش المسلمين إلى أوطانهم الثلث بعد إخراج الخمس.
ومالك وأصحابه يقولون. إن هذا لا يجوز. لأنه تسبب في إفساد نيات المجاهدين، لأنهم يصيرون مقاتلين من أجل المال الذي وعدهم الإمام تنفيله.
والدليل على جواز ذلك. ما رواه حبيب بن مسلمة بن مالك القرشي الفهري «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع بعد الخمس في بدأته، ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته» أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، والحاكم، وابن الجارود.
واعلم أن التحقيق في حبيب المذكور. أنه صحابي، وقال فيه ابن حجر في (التقريب) مختلف في صحبته، والراجح ثبوتها لكنه كان صغيراً، وله ذكر في (الصحيح) في حديث ابن عمر مع معاوية اهـ.
وقد روى عنه أبو داود هذا الحديث من ثلاثة أوجه.
منها: عن مكحول بن عبد الله الشامي، قال: كنت عبداً بمصر لامرأة من بني هذيل، فأعتقتني فما خرجت من مصروبها علم إلا حويت عليه، فيما أرى، ثم أتيت الحجاز، فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت العراق فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها، كل ذلك: أسأل عن النفل فلم أجد أحداً يخبرني فيه بشيء، حتى لقيت شيخاً يقال له: زياد بن جارية التميمي. فقلت له: هل سمعت في النفل شيئاً؟ قال: نعم، سمعت حبيب بن مسلمة الفهري يقول: شهدت النَّبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة، والثلث في الرجعة ـ اهـ.
وقد علمت أن الصحيح أنه صحابي، وقد صرح في هذه الرواية بأنه شهد النَّبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع إلى آخر الحديث.
ومما يدل على ذلك أيضاً: ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البدأة الربع، وفي الرجعة الثلث» أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وصححه ابن حبان.
وفي رواية عند الإمام أحمد: كان إذا غاب في أرض العدو نفل الربع، وإذا أقبل راجعاً ـ وكل الناس ـ نفل الثلث، وكان يكره لأنفال، ويقول: ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم.
وهذه النصوص تدل على ثبوت التنفيل من غير الخمس.
ويدل لذلك أيضاً: ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود عن معن بن يزيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نفل إلا بعد الخمس، قال الشوكاني: في (نيل الأوطار): هذا الحديث صححه الطحاوي اهـ.
والفرق بين البدأة والرجعة. أن المسلمين في البدأة: متوجهون إلى بلاد العدو، والعدو في غفلة. وأما في الرجعة: فالمسلمون راجعون إلى أوطانهم من أرض العدو، والعدو في حذر ويقظة، وبين الأمرين فرق ظاهر.
والأحاديث المذكورة تدل على أن السرية من العسكر إذا خرجت، فغنمت، أن سائر الجيش شركاؤهم، ولا خلاف في ذلك بين العلماء، كما قاله القرطبي.
الثاني: من الأقسام التي اقتضى الدليل جوازها: تنفيل بعض الجيش، لشدة بأسه، وغنائه، وتحمله ما لم يتحمله غيره، والدليل على ذلك ما ثبتت في (صحيح مسلم)، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، في قصة إغارة عبد الرحمن الفزاري، على سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستنقاذه منه. قال سلمة: فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير فرساننا اليوم، أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة قال: ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين: سهم الفارس، وسهم الراجل فجمعهما لي جميعاً. الحديث. هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث طويل.
وقد قدمنا أن هذه غزوة «ذي قرد» في سورة «النساء»، ويدل لهذا أيضاً: حديث سعد بن أبي وقاص المتقدم في أول السورة، فإن فيه: أن سعداً رضي الله عنه قال: لعله يعطى هذا السيف لرجل لم يبل بلائي، ثم أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنه لحسن بلائه، وقتله صاحب السيف كما تقدم.
الثالث: من أقسام التنفيل التي اقتضى الدليل جوازها: أن يقول الإمام: «من قتل قتيلاً فله سلبه».
ومن الأدلة على ذلك: ما رواه الشيخان في صحيحيهما، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، قال: فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه. وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب، فقال: ما للناس؟ فقلت: أمر الله، ثم إن الناس رجعوا، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من قتل قتيلاً له عليه بيِّنة فله سلبه» قال: فقمت، ثم قلت: من يشهد لي؟، ثم جلست، ثم قال مثل ذلك، قال فقمت فقلت من يشهد لي؟، ثم جلست، ثم قال ذلك الثالثة، فقمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لك يا أبا قتادة؟» فقصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم، صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي. فأرضه من حقه، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لا ها الله إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله، فيعطيك سلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق فأعطه إياه» فأعطاني، قال: فبعت الدرع فابتعت بها مخرفاً في بني سلمة، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام. والأحاديث بذلك كثيرة.
وروى أبو داود، وأحمد، عن أنس. أن أبا طلحة يوم حنين قتل عشرين رجلاً، وأخذ أسلابهم، وفي رواية عنه عند أحمد، أحد وعشرين، وذكر أصحاب المغازي: أن أبا طلحة قال في قتله من ذكر: أنا أبو طلحة واسمي زيد وكل يوم في سلاحي صيد
والحق أنه لا يشترط في ذلك أن يكون في مبارزة، ولا أن يكون الكافر المقتول مقبلاً.
أما الدليل على عدم اشتراط المبارزة: فحديث أبي قتادة هذا المتفق عليه.
وأما الدليل على عدم اشتراط كونه قتله مقبلاً إليه: فحديث سلمة بن الأكوع، قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن، فبينا نحن نتضحَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه، ثم انتزع طلقاً من حقبه فقيد به الجمل، ثم تقدم يتغدى مع القوم، وجعل ينظر، وفينا ضعفة ورقة في الظهر، وبعضنا مُشاة إذ خرج يشتد فأتى جمله، فأطلق قيده ثم أناخه، وقعد عليه فأثاره فاشتد به الجمل، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء. قال سلمة: وخرجت أشتد فكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي، فضربت به رأس الرجل فندر، ثم جئت بالجمل أقوده وعليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس معه. فقال: «من قتل الرجل؟» قالوا: ابن الأكوع، قال: «له سلبه أجمع» متفق عليه، واللفظ المذكور لمسلم في «كتاب الجهاد والسير» في باب «استحقاق القاتل سلب القتيل»، وأخرجه البخاري بمعناه «في كتاب الجهاد» في باب «الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان» وهو صريح في عدم اشتراط المبارزة، وعدم اشتراط قتله مقبلاً لا مدبراً كما ترى.
ولا يستحق القاتل سلب المقتول، إلا أن يكون المقتول من المقاتلة الذين يجوز قتالهم.
فأما إن قتل امرأة، أو صبياً، أو شيخاً فانياً، أو ضعيفاً مهيناً، أو مثخناً بالجراح لم تبق فيه منفعة، فليس له سلبه.
ولا خلاف بين العلماء: في أن من قتل صبياً، أو امرأة، أو شيخاً فانياً، لا يستحق سلبهم، إلا قولاً ضعيفاً جداً يروى عن أبي ثور، وابن المنذر: في استحقاق سلب المرأة.
والدليل على أن من قتل مثخناً بالجراح لا يستحق سلبه، أن عبد الله بن مسعود، هو الذي ذفف على أبي جهل يوم بدر، وحز رأسه. وقد قضى النَّبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح الذي أثبته، ولم يعط ابن مسعود شيئاً.
وهذا هو الحق الذي جاء به الحديث المتفق عليه، فلا يعارض بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود عن ابن مسعود «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفله سيف أبي جهل يوم بدر». لأنه من رواية ابنه أبي عبيدة، ولم يسمع منه، وكذلك المقدم للقتل صبراً لا يستحق قاتله سلبه، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أمر بقتل النضر بن الحارث، العبدري، وعقبة بن أبي معيط الأموي صبراً يوم بدر ولم يعط من قتلهما شيئاً من سلبهما.
واختلفوا فيمن أسر أسيراً: هل يستحق سلبه إلحاقاً للأسر بالقتل أو لا؟ والظاهر أنه لا يستحقه، لعدم الدليل. فيجب استصحاب عموم {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم} حتى يرد مخصص من كتاب أو سنة صحيحة، وقد أسر النَّبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، أسارى بدر، وقتل بعضهم صبراً كما ذكرنا، ولم يعط أحداً من الذين أسروهم شيئاً من أسلابهم، ولا من فدائهم بل جعل فداءهم غنيمة.
أما إذا قاتلت المرأة أو الصبي المسلمين: فالظاهر أن لمن قتل أحدهما سلبه، لأنه حينئذ ممن يجوز قتله، فيدخل في عموم «من قتل قتيلاً» الحديث، وبهذا جزم غير واحد. والعلم عند الله تعالى.
واعلم أن العلماء اختلفوا في استحقاق القاتل السلب، هل يشترط فيه قول الإمام: «من قتل قتيلاً فله سلبه»ٰ أو يستحقه مطلقاً. قال الإمام ذلك أو لم يقله؟
وممن قال بهذا الأخير: الإمام أحمد، والشافعي، والأوزاعي، والليث، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، والطبري، وابن المنذر.
وممن قال بالأول: الذي هو أنه لا يستحقه إلا بقول الإمام: «من قتل قتيلاً» الخ الإمام أبو حنيفة، ومالك، والثوري.
وقد قدمنا عن مالك وأصحابه: أن قول الإمام ذلك: لا يجوز قبل القتال، لئلا يؤدي إلى فساد النية، ولكن بعد وقوع الواقع، يقول الإمام: من قتل قتيلاً... الخ.
واحتج من قال: باستحقاق القاتل سلب المقتول مطلقاً. بعموم الأدلة لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم. صرح بأن من قتل قتيلاً فله سلبه، ولم يخصص بشيء. والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، كما علم في الأصول.
واحتج مالك، وأبو حنيفة، ومن وافقهما بأدلة:
منها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سلمة بن الأكوع، المتفق عليه السابق ذكره، له سلبه أجمع. قالوا: فلو كان السلب مستحقاً له بمجرد قتله لما احتاج إلى تكرير هذا القول.
ومنها: حديث عبد الرحمن بن عوف، المتفق عليه في قصة قتل معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء الأنصاريين لأبي جهل يوم بدر. فإن فيه «ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ٰ، فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال هل مسحتماً سيفيكما؟ قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح اهـ.
قالوا: فتصريحه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، المتفق عليه، بأن كليهما قتله، ثم تخصيص أحدهما بسلبه، دون الآخر، صريح في أن القاتل لا يستحق السلب، إلا بقول الإمام: إنه له، إذ لو كان استحقاقه له بمجرد القتل لما كان لمنع معاذ بن عفراء وجه، مع أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صرح بأنه قتله مع معاذ بن عمرو، ولجعله بينهما.
ومنها: ما رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، عن عوف بن مالك قال: قتل رجل من حمير، رجلاً من العدو، فأراد سلبه، فمنعه خالد بن الوليد، وكان والياً عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلم عوف بن مالك فأخبره. فقال لخالد: «ما منعك أن تعطيه
سلبه؟» قال: استكثرته يا رسول الله، قال: «ادفعه إليه»، فمر خالد بعوف فجر بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فاستغضب فقال: لا تعطه يا خالد، لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركون لي أمرائي، إنما مثلكم ومثلهم، كمثل رجل استرعى إبلاً، أو غنماً فرعاها، ثم تحين سقيها فأوردها حوضاً فشرعت فيه، فشربت صفوه، وتركت كدره، فصفوة لكم وكدره عليهم.
وفي رواية عند مسلم أيضاً: عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة، في غزوة مؤتة، ورافقني مددي من اليمن، وساق الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، غير أنه قال في الحديث: قال عوف بن مالك: فقلت: يا خالد، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل، قال بلى، ولكني استكثرته، هذا لفظ مسلم في صحيحه.
وفي رواية عن عوف أيضاً، عند الإمام أحمد وأبي داود قال خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، ورافقني مددي من أهل اليمن، ومضينا فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس له، أشقر، عليه سرج مذهب. وسلاح مذهب. فجعل الرومي يفري في المسلمين. فقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه. فخر وعلاه فقتله. وحاز فرسه. وسلاحه. فلما فتح الله عز وجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد. فأخذ السلب. قال عوف: فأتيته. فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قضى بالسلب للقاتل. قال. بلى ولكن استكثرته. قلت: لتردنه إليه، أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يرد عليه، قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصصت عليه قصة المددي، وما فعل خالد، وذكر بقية الحديث بمعنى ما تقدم اهـ.
فقول النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: «لا تعطه يا خالد» دليل على أنه لم يستحق السلب بمجرد القتل، إذ لو استحقه به، لما منعه منه النَّبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: ما ذكره ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن الأسود بن قيس، عن شبر بن علقمة قال: بارزت رجلاً يوم القادسية، فقتلته، وأخذت سلبه، فأتيت سعداً، فخطب سعد أصحابه، ثم قال: هذا سلب بشر بن علقمة فهو خير من اثني عشر ألف درهم، وإنا قد نفلناه إياه.
فلو كان السلب للقاتل قضاء من النَّبي صلى الله عليه وسلم، لما أضاف الأمراء ذلك التنفيل إلى أنفسهم باجتهادهم، ولأخذه القاتل دون أمرهم، قاله القرطبي.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: أظهر القولين عندي دليلاً، أن القاتل لا يستحق السلب إلا بإعطاء الإمام. لهذه الأدلة الصحيحة، التي ذكرنا فإن قيل: هي شاهدة لقول إسحاق: إن كان السلب يسيراً فهو للقاتل، ومن كان كثيراً خمس.
فالجواب: أن ظاهرها العموم مع أن سلب أبي جهل لم يكن فيه كثرة زائدة، وقد منع منه النَّبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن عفراء.
تنبيه
جعل بعض العلماء منشأ الخلاف في سلب القاتل، هل يحتاج إلى تنفيذ الإمام أو لا، هو الإختلاف في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلاً» الحديث، هل هو حكم؟ وعليه فلا يعم بل يحتاج دائماً إلى تنفيذ الإمام، أو هو فتوى؟ فيكون حكماً عاماً غير محتاج إلى تنفيذ الإمام.
قال صاحب (نشر البنود) شرح (مراقي السعود) في شرح قوله: وسائر حكاية الفعل بما منه العموم ظاهراً قد علما
ما نصه: «تنبيه»،: حكى ابن رشيد خلافاً بين العلماء، في قوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلاً له عليه بينة، فله سلبه»، هل يحتاج سلب القتيل إلى تنفيذ الإمام، بناء على أن الحديث حكم فلا يعم، أو لا يحتاج إليه بناء على أنه فتوى، وكذا قوله الهند: «خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف» فيه خلاف. هل هو حكم فلا يعم، أو فتوى فيعم.
قال ميارة في التكميل: وفي حديث هند الخلاف هل حكم يخصها أو افتاء شمل
واعلم أن العلماء اختلفوا في السلب، هل يخمس أو لا؟ على ثلاثة أقوال:
الأول: لا يخمس.
الثاني: يخمس.
الثالث: إن كان كثيراً خمس، وإلا فلا.
وممن قال: إنه لا يخمس، الشافعي، وأحمد، وابن المنذر، وابن جرير، ويروى عن سعد بن أبي وقاص.
وممن روي عنه أنه يخمس: ابن عباس، والأوزاعي، ومكحول.
وممن فرق بين القليل والكثير: إسحاق، واحتج من قال: لا يخمس بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن حبان، والطبراني، عن عوف بن مالك، وخالد بن الوليد رضي الله عنهما. أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس السلب.
وقال القرطبي في تفسيره، بعد أن ساق حديث عوف بن مالك الذي قدمنا عند مسلم ما نصه. «وأخرجه أبو بكر البرقاني بإسناده، الذي أخرجه به مسلم، وزاد بياناً أن عوف بن مالك، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخمس السلب» اهـ.
وقال ابن حجر في (التلخيص) في حديث خالد وعوف المتقدم، ما لفظه: «وهو ثابت في (صحيح مسلم) في حديث طويل فيه قصة لعوف مع خالد بن الوليد، وتعقبه الشوكاني في (نيل الأوطار) بما نصه: وفيه نظر، فإن هذا اللفظ الذي هو محل الحجة لم يكن في صحيح مسلم، بل الذي فيه هو ما سيأتي قريباً، وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل بن عياش، وفيه كلام معروف قد تقدم ذكره مراراً»، اهـ.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: وقد قدمنا حديث عوف المذكور بلفظ مسلم في صحيحه، وليس فيه ما ذكره الحافظ بن حجر، فهو وهم منه، كما نبه عليه الشوكاني رحمهما الله تعالى.
والتحقيق في إسماعيل بن عياش أن روايته عن غير الشاميين ضعيفة. وهو قوي في الشاميين، دون غيرهم.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: وهذا الحديث من رواية إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك، وإسماعيل، وشيخه في هذا الحديث، الذي هو صفوان بن عمرو، كلاهما حمصي، فهو بلدي له:
وبه تعلم صحة الاحتجاج بالحديث المذكور، مع قوة شاهده، الذي قدمنا عن أبي بكر البرقاني، بسند على شرط مسلم.
واحتج من قال بأن السلب يخمس: بعموم قوله تعالى: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} .
واحتج من قال: يخمس الكثير دون اليسير: بما رواه أنس، عن البراء بن مالك «أنه قتل من المشركين مائة رجل، إلا رجلاً مبارزة، وأنهم لما غزوا الزاره، خرج دهقان الزاره، فقال: رجل ورجل، فبرز البراء فاختلفا بسيفيهما، ثم اعتنقا فتوركه البراء فقعد على كبده، ثم أخذ السيف فذبحه، وأخذ سلاحه ومنطقته، وأتى به عمر، فنفله السلاح، وقوم المنطقة بثلاثين ألفاً، فخمسها، وقال: إنها مال» اهـ بنقل القرطبي.
وقال قبل هذا: وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك، حين بارز «المرزبان» فقتله. فكانت قيمة منطقته، وسواريه ثلاثين ألفاً، فخمس ذلك اهـ.
وقال ابن قدامة في (المغني): وقال إسحاق: إن استكثر الإمام السلب، فذلك إليه، لما روى ابن سيرين أن البراء بن مالك بارز «مرزبان» الزاره بالبحرين فطعنه، فدق صلبه، وأخذ سواريه، وسلبه، فلما صلى عمر الظهر أتى أبا طلحة في داره، فقال: إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالاً، وأنا خامسه. فكان أول سلب خمس في الإسلام سلب البراء. رواه سعيد في السنن.
وفيها أن سلب البراء بلغ ثلاثين ألفاً.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: أظهر الأقوال دليلاً عندي أن السلب لا يخمس لحديث عوف وخالد المتقدم، ويجاب عن أخذ الخمس من سلب البراء بن مالك، بأن الذي تدل عليه القصة أن السلب لا يخمس: لأن قول عمر إنا كنا لا نخمس السلب، وقول الراوي كان أول سلب خمس في الإسلام: يدل على أن النَّبي صلى الله عليه وسلم. وأبا بكر، وعمر صدراً من خلافته لم يخمسوا سلباً، واتباع ذلك أولى.
قال الجوزجاني: لا أظنه يجوز لأحد في شيء سبق فيه من الرسول صلى الله عليه وسلم شيء إلا اتباعه. ولا حجة في قول أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن قدامة في (المغني)، والأدلة التي ذكرنا يخصص بها عموم قوله تعالى: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم} .
واختلف العلماء فيما إذا ادعى أنه قتله، ولم يقم على ذلك بينة، فقال الأوزاعي: يعطاه بمجرد دعواه، وجمهور العلماء على أنه لا بد من بينة على أنه قتله، قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: لا ينبغي أن يختلف في اشتراط البينة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «من قتل قتيلاً له عليه بينة» الحديث، فهو يدل بإيضاح على أنه لا بد من البينة، فإن قيل: فأين البينة التي أعطى بها النَّبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة سلب قتيله السابق ذكره.
فالجواب من وجهين: الأول: ما ذكره القرطبي في تفسيره: قال: سمعت شيخنا الحافظ المنذري الشافعي أبا محمد عبد العظيم يقول: إنما أعطاه النَّبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الأسود بن خزاعي. وعبد الله بن أنيس، وعلى هذا يندفع النزاع، ويزول الإشكال، ويطرد الحكم اهـ.
الثاني: أنه أعطاه إياه بشهادة الرجل الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق، سلب ذلك القتيل عندي»، الحديث، فإن قوله «صدق» شهادة صريحة لأبي قتادة أنه هو الذي قتله. والاكتفاء بواحد في باب الخبر، والأمور التي لم يقع فيها ترافع قال به كثير من العلماء، وعقده ابن عاصم المالكي في تحفته بقوله: وواحد يجزىء في باب الخبر واثنان أولى عند كل ذي نظر
وقال القرطبي في تفسيره:
إن أكثر العلماء على إجزاء شهادة واحد، وقيل: يثبت ذلك بشاهد ويمين، والله أعلم.
وأما على قول من قال: إن السلب موكول إلى نظر الإمام، فللإمام أن يعطيه إياه، ولو لم تقم بينة، وإن اشترطها فذلك له، قاله القرطبي، والظاهر عندي أنه لا بد من بينة لورود النص الصحيح بذلك.
واختلف العلماء في السلب ما هو؟
قال مقيده عفا الله عنه. لهذه المسألة طرفان، وواسطة.
طرف أجمع العلماء على أنه من السلب: وهو سلاحه، كسيفه، ودرعه، ونحو ذلك، وكذلك ثيابه.
وطرف أجمع العلماء على أنه ليس من السلب: وهو ما لو وجد في هميانه، أو منطقته دنانير. أو جواهر، أو نحو ذلك.
وواسطة اختلف العلماء فيها: منها فرسه الذي مات وهو يقاتل عليه، ففيه للعلماء قولان: وهما روايتان عن الإمام أحمد، أصحهما أنه منه، ومنها ما يتزين به للحرب، فقال الأوزاعي: ذلك كله من السلب، وقالت: فرقة ليس منه، وهذا مروي عن سحنون إلا المنطقة، فإنها عنده من السلب، وقال ابن حبيب في الواضحة، والسواران من السلب، والله أعلم.
واعلم أن حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد. وفيهم ابن عمر، وأن سهمناهم بلغت اثني عشر بعيراً، ونفلوا بعيراً بعيراً، دليل واضح على بطلان قول من قال: «لا تنفيل إلا من خمس الخمس» لأن الحديث صريح في أنه نفلهم نصف السدس.
ولا شك أن نصف السدس أكثر من خمس الخمس، فكيف يصح تنفيل الأكثر من الأقل، وهو واضح كما ترى، وأما غير ذلك من الأقوال، فالحديث محتمل له.
والذي يسبق إلى الذهن، أن ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر بلفظ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش، والخمس في ذلك واجب كله اهـ.
يدل على أن ذلك التنفيل من الغنيمة بعد إخراج الخمس، وهو ما دل عليه حديث حبيب بن سلمة المتقدمِّ، وهو الظاهر المتبادر خلافاً لما قاله ابن حجر في (الفتح) من أنه محتمل لكل الأقوال المذكورة، والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة: الحق الذي لا شك فيه أن الفارس يعطى من الغنيمة ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم لنفسه، وأن الراجل يعطى سهماً واحداً، والنصوص الصحيحة مصرحة بذلك، فمن ذلك حديث ابن عمر المتفق عليه، ولفظ البخاري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهماً».
ولفظ مسلم، حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل للفرس سهمين، وللرجل سهماً» اهـ.
وأكثر الروايات بلفظ «وللرجل»، فرواية الشيخين صريحة فيما ذكرنا، وبذلك فسره راوية نافع، قال البخاري في صحيحه في غزوة خيبر: قال: فسره نافع، فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن له فرس فله سهم اهـ. وذلك هو معناه الذي لا يحتمل غيره في رواية الصحيحين المذكورة.
ومنها ما رواه أبو داود، حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبيد الله. عن نافع، عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهماً له، وسهمين لفرسه».
حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا أبو معادية، ثنا عبد الله بن يزيد، حدثني المسعودي، حدثني أبو عمرة عن أبيه، قال: «أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة نفر، ومعنا فرس، فأعطى كل واحد منا سهماً، وأعطى الفرس سهمين».
وممن قال بهذا الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين،وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي والثوري.
والليث، وحسين بن ثابت، وأبي يوسف، ومحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وابن جرير، وأبي ثور.
وخالف أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ الجمهور فقال: للفارس سهمان، وللراجل سهم. محتجاً بما جاء في بعض الروايات «أنه صلى الله عليه وسلم، قسم يوم خيبر للفارس سهمين، وللراجل سهما» رواه أبو داود من حديث مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه، وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن، ويجاب عنه من وجهين:
الأول: أن المراد بسهمي الفارس خصوص السهمين الذين استحقهما بفرسه، كما يشعر به لفظ الفارس.
الثاني: أن النصوص المتقدمة أصح منه، وأولى بالتقديم، وقد قال أبو داود: حديث أبي معاوية أصح، والعمل عليه، وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال: ثلاثمائة فارس، وكانوا مائتي فارس اهـ.
وقال النووي في (شرح مسلم): لم يقل يقول أبي حنيفة هذا أحد، إلا ما روي عن علي، وأبي موسى اهـ.
وإن كان عند بعض الغزاة خيل فلا يسهم إلا لفرس واحد، وهذا مذهب الجمهور منهم مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، والحسن، ومحمد بن الحسن، وغيرهم.
واحتجوا بأنه لا يمكنه أن يقاتل إلا على فرس واحد، وقال الأوزاعي والثوري، والليث، وأبو يوسف: يسهم لفرسين دون ما زاد عليهما، وهو مذهب الإمام أحمد، ويروى عن الحسن. ومكحول، ويحيى الأنصاري، وابن وهب، وغيره من المالكيين.
واحتج أهل هذا القول بما روي عن الأوزاعي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم للخيل، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين وإن كان معه عشرة أفراس»، وبما روي عن أزهر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح، أن يسهم للفرس من سهمين، وللفرسين أربعة أسهم ولصاحبهما سهم، فذلك خمسة أسهم، وما كان فوق الفرسين فهي جنائب، رواهما سعيد بن منصور، قاله ابن قدامة في (المغني).
واحتجوا أيضاً بأنه محتاج إلى الفرس الثاني، لأن إدامة ركوب واحد تضعفه، وتمنع القتال عليه فيسهم للثاني، لأنه محتاج إليه كالأول، بخلاف الثالث فإنه مستغني عنه، ولم يقل أحد إنه يسهم لأكثر من فرسين، إلا شيئاً روي عن سليمان بن موسى، قاله النووي في (شرح مسلم)، وغيره.
واختلف العلماء في البراذين والهجن على أربعة أقوال:
الأول: أنها يسهم لها كسهم الخيل العراب، وممن قال به مالك، والشافعي، وعمر بن عبد العزيز، والثوري، ونسبه الزرقاني في (شرح الموطأ) للجمهور، واختاره الخلال، وقال: رواه ثلاثة متيقظون عن أحمد، وحجة هذا القول ما ذكره مالك في موطأه، قال: لا أرى البَرَاذِينَ وَالْهُجُنَ، إلا من الخيل، لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه: {وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} .
وقال عز وجل: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ، فأنا أرى البَرَاذِينَ وَالْهُجُنَ من الخيل إذا أجازها الوالي.
وقد قال سعيد بن المسيب، وسئل عن البراذين: هل فيها من صدقة؟ قال: وهل في الخيل من صدقة؟ اهـ.
وحاصل هذا الاستدلال أن اسم الخيل في الآيتين المذكورتين يشمل البراذين والهجن فيهما داخلان في عمومه، لأنهما ليسا في البغال ولا الحمير بل من الخيل.
القول الثاني: أنه يسهم للبرذون والهجين سهم واحد قدر نصف سهم الفرس، واحتج أهل هذا القول بما رواه الشافعي في (الأم) وسعيد بن منصور من طريق علي بن الأقمر الوادعي، قال: أغارت الخيل فأدركت العراب، وتأخرت البراذين، فقام ابن المنذر الوادعي، فقال: لا أجعل ما أدرك كما لم يدرك، فبلغ ذلك عمر فقال: هبلت الوادعي أمه لقد أذكرت به أمضوها على ما قال، فكان أول من أسهم للبراذين دون سهام العراب، وفي ذلك يقول شاعرهم: ومنا الذي قدسن في الخيل سنة وكانت سواء قبل ذاك سهامها
وهذا منقطع كما ترى:
واحتجوا أيضاً بما رواه أبو داود في المراسيل، وسعيد بن منصور عن مكحول: «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم هجن الهجين يوم خيبر، وعرب العرب فجعل للعربي سهمين، وللهجين سهماً»، وهو منقطع أيضاً كما ترى، وبه أخذ الإمام أحمد في أشهر الروايات عنه.
واحتجوا أيضاً بأن أثر الخيل العراب في الحرب أفضل من أثر البراذين وذلك يقتضي تفضيلها عليها في السهام.
القول الثالث: التفصيل بين ما يدرك من البراذين إدراك العراب، فيسهم له كسهامها، وبين ما لا يدرك إدراكها فلا يسهم له، وبه قال ابن أبي شيبة، وابن أبي خيثمة، وأبو أيوب. والجوزجاني.
ووجهه أنها من الخيل. وقد عملت عملها فوجب جعلها منها.
القول الرابع: لا يسهم لها مطلقاً. وهو قول مالك بن عبد الله الخثعمي ووجهه أنها حيوان لا يعمل عمل الخيل فأشبه البغال.
قال ابن قدامة في (المغني): ويحتمل أن تكون هذه الرواية فيما لا يقارب العتاق منها، لما روى الجوزجاني بإسناده عن أبي موسى، أنه كتب إلى عمر بن الخطاب: إنا وجدنا بالعراق خيلاً عراضاً دكنا، فما ترى يا أمير المؤمنين في سهمائها، فكتب إليه: تلك البراذين فما قارب العتاق منها، فاجعل له سهماً واحداً، وألغ ما سوى ذلك. اهـ.
والبراذين: جمع برذون، بكسر الموحدة وسكون الراء وفتح المعجمة، والمراد: الجفاة الخلقة من الخيل، وأكثر ما تجلب من بلاد الروم، ولها جلد على السير في الشعاب والجبال والوعر بخلاف الخيل العربية.
والهجين: هو ما أحد أبويه عربي، وقيل: هو الذي أبوه عربي. وأما الذي أمه عريبة فيسمى المقرف، وعن أحمد: الهجين البرذون. ويحتمل أنه أراد في الحكم.
ومن إطلاق الإقراف على كون الأم عربية قول هند بنت النعمان بن بشير: وما هند إلا مهرة عربية سليلة أفراس تحللها بغل
فإن ولدت مهراً كريماً فبالحرى وإن يك اقراف فما أنجب الفحل
وقول جرير: إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب
واختلف العلماء فيمن غزا على بعير، هل يسهم لبعيره؟ فذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يسهم للإبل. قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن من غزا على بعير فله سهم راجل، كذلك قال الحسن، ومكحول، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي: واختاره أبو الخطاب من الحنابلة.
قال ابن قدامة في (المغني): وهذا هو الصحيح إنشاء الله تعالى. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه أسهم لغير الخيل من البهائم وقد كان معه يوم «بدر» سبعون بعيراً، ولم تخل غزاة من غزواته من الإبل. هي كانت غالب دوابهم فلم ينقل عنه أنه أسهم لها، ولو أسهم لها لنقل، وكذلك من بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم من خلفائه وغيرهم مع كثرة غزواتهم لم ينقل عن أحد منهم فيما علمناه أنه أسهم لبعير، ولو أسهم لبعير لم يخف ذلك، ولأنه لا يتمكن صاحبه من الكر والفر، فلم يسهم له كالبغل والحمار، اهـ.
وقال الإمام أحمد: من غزا على بعير، وهو لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان، وظاهره أنه لا يسهم للبعير مع إمكان الغزو على فرس، وعن أحمد: أنه يسهم للبعير سهم، ولم يشترط عجز صاحبه عن غيره، وحكي نحو هذا عن الحسن، قاله ابن قدامة في (المغني).
واحتج أهل هذا القول بقوله تعالى: {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} قالوا: فذكر الركاب ـ وهي الإبل ـ مع الخيل، وبأنه حيوان تجوز المسابقة عليه بعوض فيسهم له كالفرس، لأن تجويز المسابقة بعوض إنما هو في ثلاثة أشياء، هي: النصل، والخف، والحافر. دون غيرها، لأنها آلات الجهاد، فأبيح أخذ الرهن في المسابقة بها. تحريضاً على رياضتها، وتعلم الإتقان فيها.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: الذي يظهر لي ـ والله أعلم ـ أنه لا يسهم للإبل لما قدمنا آنفاً، وأما غير الخيل والإبل. من البغال والحمير والفيلة ونحوها، فلا يسهم لشيء منه، وإن عظم غناؤها وقامت مقام الخيل.
قال ابن قدامة: ولا خلاف في ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقسم لشيء من ذلك، ولأنها مما لا تجوز المسابقة عليه بعوض فلم يسهم لها كالبقر.
المسألة الرابعة: اختلف العلماء في حرق رحل الغال من الغنيمة، والمراد بالغال من يكتم شيئاً من الغنيمة، فلا يطلع عليه الإمام، ولا يضعه مع الغنيمة.
قال بعض العلماء: يحرق رحله كله إلا المصحف وما فيه روح، وهو مذهب الإمام أحمد. وبه قال الحسن وفقهاء الشام، منهم مكحول، والأوزاعي، والوليد بن هشام، ويزيد بن يزيد بن جابر، وأتى سعيد بن عبد الملك بغال فجمع ماله وأحرقه، وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك فلم يعبه.
وقال يزيد بن يزيد بن جابر: السنة في الذي يغل أن يحرق رحله، رواهما سعيد في سنته، قاله ابن قدامة في (المغني).
ومن حجج أهل هذا القول: ما رواه أبو داود في سننه، عن صالح بن محمد بن زائدة قال أبو داود وصالح: هذا أبو واقد قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم، فأتي برجل قد غل، فسأل سالماً عنه فقال: سمعت أبي يحدث، عن عمر بن الخطاب، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه»، قال: فوجدنا في متاعه مصحفاً فسأل سالماً عنه، فقال: بعه وتصدق بثمنه. اهـ بلفظه من أبي داود.
وذكر ابن قدامة أنه رواه أيضاً الأثرم، وسعيد، وقال أبو داود أيضاً: حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى الأنطاكي، قال: أخبرنا أبو إسحاق عن صالح بن محمد، قال: غزونا مع الوليد بن هشام، ومعنا سالم بن عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز فغل رجل متاعاً، فأمر الوليد بمتاعه فأحرق وطيف به، ولم يعطه سهمه، قال أبو داود: وهذا أصح الحديثين رواه غير واحد، أن الوليد بن هشام أحرق رجل زياد بن سعد، وكان قد غل، وضربه.
حدثنا محمد بن عوف، قال: ثنا موسى بن أيوب، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه».
قال أبو داود: وزاد فيه علي بن بحر عن الوليد ـ ولم أسمعه منه ـ ومنعوه سهمه، قال أبو داود: وحدثنا به الوليد بن عتبة، وعبد الوهاب بن نجدة، قالا: ثنا الوليد عن زهير بن محمد، عن عمرو بن شعيب، قوله ولم يذكر عبد الوهاب بن نجدة الحوطي منع سهمه، اهـ من أبي داود بلفظه، وحديث صالح بن محمد الذي ذكرنا عند أبي داود أخرجه أيضاً الترمذي، والحاكم، والبيهقي.
قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال: سألت محمداً عن هذا الحديث، فقال: إنما روى هذا صالح بن محمد بن زائدة، الذي يقال له أبو واقد الليثي، وهو منكر الحديث.
قال المنذري: وصالح بن محمد بن زائدة: تكلم فيه غير واحد من الأئمة. وقد قيل: إنه تفرد به، وقال البخاري: عامة أصحابنا يحتجون بهذا في الغلول، وهو باطل ليس بشيء. وقال الدارقطني: أنكروا هذا الحديث على صالح بن محمد، قال: وهذا حديث لم يتابع عليه، ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمحفوظ أن سالماً أمر بذلك، وصحح أبو داود وقفه، فرواه موقوفاً من وجه آخر، وقال: هذا أصح كما قدمنا، وحديث عمرو بن شعيب الذي ذكرنا عند أبي داود أخرجه أيضاً الحاكم والبيهقي، وزهير بن محمد الذي ذكرنا في إسناده الظاهر أنه هو الخراساني. وقد قال فيه ابن حجر في (التقريب) رواية أهل الشام عنه غير مستقيمة، فضعف بسببها، وقال البخاري عن أحمد: كان زهير الذي يروى عنه الشاميون آخر، وقال أبو حاتم: حدث بالشام من حفظه فكثر غلطه. اهـ.
وقال البيهقي: ويقال إنه غير الخراساني، وأنه مجهول. اهـ. وقد علمت فيما قدمنا عن أبي داود، أنه رواه من وجه آخر موقوفاً على عمرو بن شعيبٰ وقال ابن حجر: إن وقفه هو الراجح.
وذهب الأئمة الثلاثة، مالك، والشافعي، وأبو حنيفة: إلى أنه لا يحرق رحله، واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحرق رحل غال، بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب غنيمة أمر بلالاً فنادى في الناس، فيجيئون بغنائمهم، فيخمسه، ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر، فقال: يا رسول الله هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة، فقال: «أسمعت بلالاً ينادي ثلاثاً»، قال: نعم، قال: «فما منعك أن تجيء به؟» فاعتذر إليه، فقال: كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك، هذا لفظ أبي داود، وهذا الحديث سكت عنه أبو داود، والمنذري، وأخرجه الحاكم وصححه.
وقال البخاري: قد روي في غير حديث عن الغال، ولم يأمر بحرق متاعه. فقد علمت أن أدلة القائلين بعدم حرق رحل الغال أقوى، وهم أكثر العلماء.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: الذي يظهر لي رجحانه في هذه المسألة: هو ما اختاره ابن القيم، قال في (زاد المعاد) بعد أن ذكر الخلاف المذكور في المسألة: والصواب أن هذا من باب التعزير والعقوبات المالية الراجعة إلى اجتهاد الأئمة، فإنه حرق وترك، وكذلك خلفاؤه من بعده، ونظير هذا قتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة، فليس بحد. ولا منسوخ. وإنما هو تعزير يتعلق باجتهاد الإمام. اهـ.
وإنما قلنا: إن هذا القول أرجح عندنا. لأن الجمع واجب إذا أمكن، وهو مقدم على الترجيح بين الأدلة، كما علم في الأصول، والعلم عند الله تعالى.
أما لو سرق واحد من الغانمين من الغنيمة قبل القسم، أو وطىء جارية منها قبل القسم، فقال مالك وجل أصحابه: يحد حد الزنى والسرقة في ذلك، لأن تقرر الملك لا يكون بإحراز الغنيمة. بل بالقسم.
وذهب الجمهور ـ منهم الأئمة الثلاثة ـ إلى أنه لا يحد للزنى ولا للسرقة لأن استحقاقه بعض الغنيمة شبهة تدرأ عنه الحد. وبعض من قال بهذا يقول: إن ولدت فالولد حر يلحق نسبه به، وهو قول أحمد. والشافعي، خلافاً لأبي حنيفة. وفرق بعض المالكية بين السرقة والزنى، فقال: لا يحد للزنى، ويقطع إن سرق أكثر من نصيبه بثلاثة دراهم.
وبهذا قال عبد الملك من المالكية، كما نقله عنه ابن المواز.
واختلف العلماء فيما إذا مات أحد المجاهدين قبل قسم الغنيمة، هل يورث عنه نصيبه؟ فقال مالك في أشهر الأقوال: والشافعي: إن حضر القتال: ورث عنه نصيبه وإن مات قبل إحراز الغنيمة، وإن لم يحضر القتال فلا سهم له.
وقال أبو حنيفة: إن مات قبل إحراز الغنيمة في دار الإسلام خاصة. أو قسمها في دار الحرب فلا شيء له. لأن ملك المسلمين لا يتم عليها عنده إلا بذلك.
وقال الأوزاعي:
إن مات بعد ما يدرب قاصداً في سبيل الله ـ قبل أو بعد ـ أسهم له، وقال الإمام أحمد: إن مات قبل حيازة الغنيمة فلا سهم له، لأنه مات قبل ثبوت ملك المسلمين عليها، وسواء مات حال القتال أو قبله، وإن مات بعد إحراز الغنيمة فسهمه لورثته.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: وهذا أظهر الأقوال عندي، والله تعالى أعلم.
ولا يخفى أن مذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ في هذه المسألة مشكل، لأن حكمه بحد الزاني والسارق: يدل على أنه لا شبهة للغانمين في الغنيمة قبل القسم، وحكمه بإرث نصيب من مات قبل إحراز الغنيمة إن حضر القتال. يدل على تقرر الملك بمجرد حضور القتال، وهو كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثامنة: أصح الأقوال دليلاً: أنه لا يقسم للنساء والصبيان الذين لا قدرة لهم على القتال، وما جرى مجراهم، ولكن يرضخ لهم من الغنيمة باجتهاد الإمام، ودليل ذلك ما رواه مسلم في صحيحه: عن ابن عباس، لما سأله نجدة عن خمس خلال.
منها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهم بسهم؟ فيكتب إليه ابن عباس: كتبت تسألي: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء، وقد كان يغزو بهن، فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن. الحديث.
وهو صريح فيما ذكرنا، فيجب حمل ما ورد في غيره من أن النساء يسهم لهن على الرضخ المذكور في هذا الحديث المعبر عنه بقوله: «يحذين من الغنيمة». قال النووي: قوله «يحذين» هو بضم الياء وإسكان الحاء المهملة، وفتح الذال المعجمة، أي يعطين تلك العطية، وتسمى الرضخ، وفي هذا أن المرأة تستحق الرضخ، ولا تستحق السهم، وبهذا قال أبو حنيفة، والثوري، والليث، والشافعي، وجماهير العلماء.
وقال الأوزاعي: تستحق السهم إن كانت تقاتل، أو تداوي الجرحى، وقال مالك: لا رضخ لها، وهذان المذهبان مردودان بهذا الحديث الصحيح الصريح اهـ. * * *
المسألة التاسعة: اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير، لا من المغانم.
ودليل ذلك: حديث مالك بن أوس بن الحدثان المتفق عليه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: دخلت على عمر، فأتاه حاجبه يرفأ، فقال: هل لك في عثمان، وعبد الرحمن، والزبير، وسعد؟ قال: نعم، فأذن لهم، ثم قال: هل لك في علي، وعباس؟ قال: نعم، قال عباس: يا أمير المؤمنين أقض بيني وبين هذا، قال: أنشدكم بالله، الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة» يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه؟ فقال: الرهط، قد قال ذلك، فأقبل على عليِّ، وعباس، فقال: هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك؟ قالا: قد قال ذلك، قال عمر: فإني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره، فقال عز وجل: {وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ} إلى قوله: {ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} ، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما احتازها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، لقد أعطاكموه، وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان النَّبي صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله، فعمل بذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته. أنشدكم بالله، هل تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، ثم قال لعلي، وعباس: أنشدكما بالله، هل تعلمان ذلك؟ قالا: نعم، قال عمر: فتوفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها فعمل بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم توفى الله أبا بكر فقلت: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضتها سنتين أعمل فيها ما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، ثم جئتماني، وكلمتكما واحدة، وأمركما جميع: جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك، وأتاني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها، فقلت: إن شئتما دفعتها إليكما بذلك فتلتمسان مني قضاء غير ذلك: فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما فادفعاها إلى اهـ.
هذا لفظ البخاري في (الصحيح) في بعض رواياته، ومحل الشاهد من الحديث تصريح عمر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ينفق على أهله نفقة سنته من فيء بني النضير، وتصديق الجماعة المذكورة له في ذلك، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة بألفاظ متقاربة المعنى. وهو نص في أن نفقة أهله صلى الله عليه وسلم كانت في الفيء، لا من الغنيمة.
ويدل له أيضاً الحديث المتقدم «مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» فإن قيل ما وجه الجمع بين ما ذكرتم، وبين ما أخرجه أبو داود من طريق أسامة بن زيد عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا: «بنو النضير، وخيبر، وفدك. فأما بنو النضير فكانت حبساً لنوائبه، وأما فدك فكانت حبساً لأبناء السبيل. وأما خيبر فجزأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزئين بين المسلمين، وجزءاً نفقة لأهله، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين».
فالجواب ـ والله تعالى أعلم ـ أنه لا تعارض بين الروايتين، لأن «فدك» ونصيبه صلى الله عليه وسلم من «خيبر» كلاهما فيء كما قدمنا عليه الأدلة الواضحة، وكذلك «النضير»، فالجميع فيء كما تقدم إيضاحه، فحكم الكل واحد.
وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت: وكانت فاطمة رضي الله عنها تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ.
فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي، وعباس، وأما خيبر، وفدك فأمسكهما عمر، وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى من ولي الأمر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم.
هذا لفظ البخاري في صحيحه.
وقال ابن حجر في (الفتح): وقد ظهر بهذا أن صدقة النَّبي صلى الله عليه وسلم تختص بما كان من بني النضير. وأما سهمه من خيبر، وفدك فكان حكمه إلى من يقوم بالأمر بعده، وكان أبو بكر يقدم نفقة نساء النَّبي صلى الله عليه وسلم مما كان يصرفه فيصرفه من خيبر، وفدك، وما فضل من ذلك جعله في المصالح، وعمل عمر بعده بذلك، فلما كان عثمان تصرف في فدك بحسب ما رآه، فروى أبو داود من طريق مغيرة بن مقسم، قال: جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان، فقال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفق من فدك على بني هاشم، ويزوج أيمهم، وإن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، وكانت كذلك في حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر، ثم أقطعها مروان»، يعني في أيام عثمان.
قال الخطابي: إنما أقطع عثمان «فدك» لمروان، لأنه تأول أن الذي يختص بالنَّبي صلى الله عليه وسلم يكون للخليفة بعده، فاستغنى عثمان عنها بأمواله، فوصل بها بعض قرابته، ويشهد لصنيع أبي بكر حديث أبي هريرة المرفوع الثابت في الصحيح بلفظ: «ما تركت بَعْدَ نَفَقَةِ نسائي، وَمَؤُونَةِ عاملي فهو صدقة».
فقد عمل أبو بكر وعمر بتفصيل ذلك بالدليل الذي قام لهما، اهـ.
واعلم أن فيء «بني النضير» تدخل فيه أموال «مخيريق» رضي الله عنه، وكان يهودياً من «بني قينقاع» مقيماً في بني النضير، فلما خرج النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، قال لليهود: ألا تنصرون محمداً صلى الله عليه وسلم، والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم، فقالوا: اليوم يوم السبت، فقال: لا سبت، وأخذ سيفه ومضى إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقاتل حتى أثبتته الجراحة، فلما حضره الموت قال: أموالي إلى محمد صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء، وكان له سبع حوائط ببني النضير وهي «المثيب»، «والصائفة»، «والدلال»، «وحسنى»، «وبرقة»، «والأعواف»، «ومشربة أم إبراهيم».
وفي رواية الزبير بن بكار «الميثر» بدل «الميثب»، «والمعوان» عوض «الأعواف» وزاد «مشربة أم إبراهيم» الذي يقال له «مهروز».
وسميت «مشربة أم إبراهيم» لأنها كانت تسكنها «مارية» قاله بعض أصحاب المغازي، وعد الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي «مخيريق» المذكور من شهداء أحد، حيث قال في سردهم:
وذو الوصايا الجم للبشير وهو مخيريق بني النضير
ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام التي لها تعلق بهذه الآية الكريمة، خوف الإطالة المملة.
قوله تعالى: {يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة بالثبات عند لقاء العدو، وذكر الله كثيراً مشيراً إلى أن ذلك سبب للفلاح. والأمر بالشيء نهى عن ضده، أو مستلزم للنهي عن ضده، كما علم في الأصول، فتدل الآية الكريمة على النهي عن عدم الثبات. أمام الكفار، وقد صرح تعالى بهذا المدلول في قوله: {يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ} إلى قوله: {وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ} ، وفي الأمر بالإكثار من ذكر الله تعالى في أضيق الأوقات. وهو وقت التحام القتال دليل واضح على أن المسلم ينبغي له الإكثار من ذكر الله على كل حال. ولا سيما في وقت الضيق، والمحب الصادق في حبه لا ينسى محبوبه عند نزول الشدائد.
قال عنترة في معلقته: ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تفطر من دمي
وقال الآخر:
ذكرتك والخطى يخطر بيننا وقد نهلت فينا المثقفة السمر
تنبيه
قال بعض العلماء: كل «لعل» في القرآن فهي للتعليل إلا التي في سورة الشعراء: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} فهي بمعنى «كأنكم تخلدون».
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: لفظة «لعل» قد ترد في كلام العرب مراداً بها التعليل، ومنه قوله: فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كشبه سراب بالملا متألق
فقوله «لعلنا نكف» يعني «لأجل أن نكف»،
وكونها للتعليل لا ينافي «معنى الترجي»، لأن وجود المعلول يرجى عند وجود علته.
قوله تعالى: {وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.
نهى الله جل وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن التنازع، مبيناً أنه سبب الفشل، وذهاب القوة، ونهى عن الفرقة أيضاً في مواضع أخر، كقوله: {وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُو} ، ونحوها من الآيات، وقوله في هذه الآية: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي قوتكم.
وقال بعض العلماء: نصركم. كما تقول العرب الريح لفلان إذا كان غالباً، ومنه قوله: إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل عاصفة سكون
واسم «إن» ضمير الشأن.
وقال صاحب الكشاف: الريح: الدولة، شبهت في نفوذ أمرها، وتمشيه بالريح في هبوبها، فقيل: هبت رياح فلان، إذا دالت له الدولة، ونفذ أمره، ومنه قوله:
يا صاحبي ألا لا حي بالوادي إلا عبيد قعود بني أذوادي
أتنظران قليلا ريث غفلتهم أم تعدوان فإن الريح للعادي
الصفحة رقم 182 من المصحف تحميل و استماع mp3