تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 265 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 265  {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـٰمٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَىٰ أَن مَّسَّنِىَ ٱلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَـٰكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ ٱلْقَـٰنِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ * قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * إِلاَ ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ * فَلَمَّا جَآءَ ءَالَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * قَالُواْ بَلْ جِئْنَـٰكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَآتَيْنَـٰكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيْلِ وَٱتَّبِعْ أَدْبَـٰرَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلاٌّمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَـٰؤُلآْءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ }
قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ}. لم يبين تعالى في هذه الآية الكريمة هل رد إبراهيم السلام على الملائكة أو لا لأنه لم يذكر هنا رده السلام عليهم وإنما قال عنه إنه قال لهم إنا منكم وجلون وبين في هود والذاريات أنه رد عليهم السلام بقوله في هود {قَالَ سَلَـٰمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} وقوله في الذاريات: {قَالَ سَلَـٰمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَفَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ}وبين أن الوجل المذكور هنا هو الخوف لقوله في القصة بعينها في هود: {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ} وقوله في الذاريات: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ}. وقد قدمنا أن من أنواع البيان في هذا الكتاب بيان اللفظ بمرادف له أشهر منه كما هنا لأن الخوف يرادف الوجل وهو أشهر منه، وبين أن سبب خوفه هو عدم أكلهم بقوله: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}. قوله تعالى: {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـٰمٍ عَلِيمٍ}. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أولئك الضيف الكرام الذين هم ملائكة بشروا إبراهيم بغلاف موصوف بالعلم ونظير ذلك قوله تعالى أيضاً في الذاريات: {قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَـٰمٍ عَلَيمٍ} وهذا الغلام بين تعالى أنه هو إسحاق كما يوضح ذلك قوله في الذاريات {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَـٰمٍ عَلَيم ٍفَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ} لأن كونها أقبلت في صرة أي صيحة وضجة وصكت وجهها أي لطمته قائلة إنها عجوز عقيم يدل على أن الولد المذكور هي أمه كما لا يخفى ويزيده إيضاحاً تصريحه تعالى ببشارتها هي بأنها تلده مصرحاً باسمه واسم ولده يعقوب وذلك في قوله تعالى في هود في القصة بعينها: {وَٱمْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَـٰهَا بِإِسْحَـٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَـٰقَ يَعْقُوب َقَالَتْ يٰوَيْلَتَا ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَـٰذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ} وأما الغلام الذي بشر به إبراهيم الموصوف بالحلم المذكور في الصافات في قوله تعالى:
{وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّى سَيَهْدِين ِرَبِّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّـٰلِحِين ِفَبَشَّرْنَـٰهُ بِغُلَـٰمٍ حَلِيم ٍفَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْىَ قَالَ يٰبُنَىَّ إِنِّىۤ أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ} فهو إسماعيل وسترى إن شاء الله تعالى في سورة الصافات دلالة الآيات القرآنية على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق على وجه قاطع للنزاع، والغلام يطلق في لغة العرب على العبد وعلى الصغير الذي لم يبلغ وعلى الرجل البالغ ومن إطلاقه على البالغ قول علي رضي الله يوم النهروان: أنا الغلام القرشي المؤتمن أبو حسين فاعلمن والحسن

وقول صفوان بن المعطل السلمي لحسان رضي الله عنهما: تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر

وقول ليلى الأخيلية تمدح الحجاج بن يوسف: إذا نزل الحجاج أرضا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها

وربما قالوا للأنثى غلامة ومنه قول أوس بن غلفاء الهجيمي يصف فرساً: ومركضة صريحي أبوها يهان لها الغلامة والغلام
قوله تعالى: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَىٰ أَن مَّسَّنِىَ ٱلْكِبَرُ}. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال: إنه وقت البشرى بإسحاق مسه الكبر. وصرح في هود بأن امرأته أيضاً قالت إنه شيخ كبير في قوله عنها: {وَهَـٰذَا بَعْلِى شَيْخً} كما صرح عنها هي أنها وقت البشرى عجوز كبيرة السن وذلك كقوله في هود: {قَالَتْ يٰوَيْلَتَا ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ}، وقوله في موضع آخر: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ}. وبين في موضع آخر عن نبيه إبراهيم أنه وقت هبة الله له ولده إسماعيل أنه كبير السن أيضاً وذلك قوله تعالى: {ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ}. قوله تعالى: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}. الظاهر أن استفهام نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام للملائكة بقوله {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى ويدل لذلك أنه تعالى ذكر أن ما وقع له وقع نظيره لامرأته حيث قالت {وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَ} وقد بين تعالى أن ذلك الاستفهام لعجبها من ذلك الأمر الخارق للعادة في قوله: {قَالُوۤاْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ} ويدل له أيضاً وقوع مثله من نبي الله زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لأنه لما قال: {رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} {فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ} عجب من كمال قدرة الله تعالى فقال: {رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَـٰمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِى عَاقِرٌ} وقوله {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} قرأه ابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بفتح النون مخففة وهي نون الرفع وقرأه نافع بكسر النون مخففة وهي نون الوقاية مع حذف ياء المتكلم لدلالة الكسرة عليها وقرأه ابن كثير بالنون المكسورة المشددة مع المد فعلى قراءة ابن كثير لم يحذف نون الرفع ولا المفعول به بل نون الرفع مدغمة في نون الوقاية وياء المتكلم هي المفعول به وعلى قراءة الجمهور فنون الرفع ثابتة والمفعول به محذوف على حد قول ابن مالك.
وحذف فضلة أجز إن لم يضر كحذف ما سيق جوابا أو حصر

وعلى قراءة نافع فنون الرفع محذوفة لاستثقال اجتماعها مع نون الوقاية.
تنبيه
حذف نون الرفع له خمس حالات ثلاث منها يجب فيها حذفها وواحدة يجوز فيها حذفها وإثباتها وواحدة يقصر فيها حذفها على السماع، أما الثلاث التي يجب فيها الحذف فالأولى منها إذا دخل على الفعل عامل جزم والثانية إذا دخل عليه عامل نصب والثالثة إذا أكد الفعل بنون التوكيد الثقيلة نحو لتبلون وأما الحالة التي يجوز فيها الإثبات والحذف فهي ما إذا اجتمعت مع نون الرفع نون الوقاية لكون المفعول ياء المتكلم فيجوز الحذف والإثبات ومن الحذف قراءة نافع في هذه الآية {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} بالكسر وكذلك قوله تعالى: {قَالَ أَتُحَاجُّوۤنِّى فِى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى وَلاَ أَخَافُ مَ}. وقوله تعالى: {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تُشَـٰقُّونَ فِيهِمْ} بكسر النون مع التخفيف في الجميع أيضاً وقوله {قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّىۤ أَعْبُدُ} بالكسر مع التخفيف أيضاً وكلها قرأها بعض القراء بالتشديد لإثبات نون الرفع وإدغامها في نون الوقاية وأما الحالة الخامسة المقصورة على السماع فهي حذفها لغير واحد من الأسباب الأربعة المذكورة كقول الراجز: أبيت أسري وتبيت تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي

أما بقاء نون الرفع مع الجازم في قوله:
لولا فوارس من نعم وأسرتهم يوم الصليفاء لم يوفون بالجار
فهو نادر حملاً للم على أختها لا النافية أو ما النافية وقيل هو لغة قوم كما صرح به في التسهيل وكذلك بقاء النون مع حرف النصب في قوله: أن تقرأن على أسماء ويحكما مني السلام وألا تشعرا أحدا

فهو لغة قوم حملوا أن المصدرية على أختها ما المصدرية في عدم النصب بها كما أشار له في الخلاصة بقوله: وبعضهم أهمل أن حملا على ما أختها حيث استحقت عملا

ولا ينافي كون استفهام إبراهيم للتعجب من كمال قدرة الله قول الملائكة له فيما ذكر الله عنهم: {قَالُواْ بَشَّرْنَـٰكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ ٱلْقَـٰنِطِينَ} بدليل قوله: {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ} لأنه دليل على أن استفهامه ليس استفهام منكر ولا قانط والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ}. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال للملائكة إنه لا يقنط من رحمة الله جل وعلا إلا الضالون عن طريق الحق وبين أن هذا المعنى قاله أيضاً يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم لبنيه في قوله: {يٰبَنِىَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تيأسوا مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ ييأس مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ} قال أبو حيان في البحر المحيط في تفسير قوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يَايْأسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ} وروح الله رحمته وفرجه وتنفيسه.
قوله تعالى: {قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلاَ ءَالَ لُوطٍ}. أشار في هذه الآية الكريمة إلى أن المراد بهؤلاء القوم المجرمين قوم لوط الذين أرسل إليهم فكذبوه ووجه إشارته تعالى لذلك استثناء لوط وأهله غير امرأته في قوله: {إِلاَ ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِين َإِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ} وصرح بأنهم قوم لوط بقوله في هود في القصة بعينها: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ} وصرح في الذاريات بأنهم أرسلوا إلى هؤلاء القوم المجرمين ليرسلوا عليهم حجارة من طين في قوله: {قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِين َلِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ} وصرح في العنكبوت أنهم قالوا إنهم مهلكوهم بسبب ظلمهم ومنزلون عليهم رجزاً من السماء بسبب فسقهم وذلك في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَٰهِيمَ بِٱلْبُشْرَىٰ قَالُوۤاْ إِنَّا مُهْلِكُوۤ أَهْلِ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَـٰلِمِين َقَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَ}، وقوله: {وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَـٰبِرين َإِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} وقوله: {إِلاَ ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} بين في هذه الآية الكريمة أنه استثنى آل لوط من ذلك العذاب النازل بقومه وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كما تقدم في هود في قوله: {قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ} وقوله في في العنكبوت: {وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ} وقوله {فَأَنجَيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ} وقوله: {فَنَجَّيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِين َإِلاَّ عَجُوزاً فِى ٱلْغَـٰبِرِينَ} وقوله: {فَأَنجَيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَـٰهَا مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ} إلى غير ذلك من الآيات. وما ذكر في هذه الآية الكريمة من استثناء امرأته من أهله الناجين في قوله: {إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ}، أوضحه في هذه الآيات التي ذكرنا آنفاً ونحوها من الآيات، وبين في الذاريات أنه أنجى من كان في قوم لوط من المؤمنين وأنهم لم يكن فيهم من المسلمين إلا بيت واحد وهم آل لوط وذلك في قوله {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِين َفَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ}.
تنبيه
في هذه الآية الكريمة دليل واضح لما حققه علماء الأصول من جواز الاستثناء من الاستثناء لأنه تعالى استثنى آل لوط من إهلاك المجرمين بقوله: {إِلاَ ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} ثم استثنى من هذا الاستثناء امرأة لوط بقوله: {إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ} وبهذا تعلم أن قول ابن مالك في الخلاصة:
* وحكمها في القصد حكم الأول *
ليس صحيحاً على إطلاقه. وأوضح مسألة تعدد الاستثناء بأقسامها صاحب مراقي السعود في مبحث المخصص المتصل بقوله: وذا تعدد بعطف حصل بالاتفاق مسجلاً للأول
إلا فكل للذي به اتصل وكلها مع التساوي قد بطل
إن كان غير الأول المستغرقا فالكل للمخرج منه حققا
وحيثما استغرق الأول قط فألغ واعتبر بخلف في النمط
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ ءَالَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُون َقَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ}. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن لوطاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاءه الملائكة المرسلون لإهلاك قومه قال لهم إنكم قوم منكرون. وصرح في مواضع أخر أنه حصلت له مساءة بمجيئهم وأنه ضاق ذرعاً بذلك كقوله في هود: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} وقوله في العنكبوت: {وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْع}، وذكر تعالى في الذاريات أن نبيه إبراهيم قال لهم أيضاً قوم منكرون كما ذكر عن لوط هنا وذلك في قوله: {قَالَ سَلَـٰمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} وقوله {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} قيل معناه أنهم غير معروفين والنكرة ضد المعرفة وقيل إنه رآهم في صفة شباب حسان الوجوه فخاف أن يفعل بهم قومه فاحشة اللواط فقال: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} وقال الزمخشري في الكشاف: منكرون أي تنكركم نفسي وتفر منكم فأخاف أن تطرقوني بشر بدليل قوله: {بَلْ جِئْنَـٰكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُون َوَآتَيْنَـٰكَ بِٱلْحَقِّ} ويدل لهذا الوجه أنه بين في هود أن سبب إنكار إبراهيم لهم عدم أكلهم من لحم العجل الذي قدمه إليهم وذلك في قوله: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} لأن من استضاف وامتنع من الأكل خيف منه الشر. وقوله تعالى في هذه الآيات: {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ} قرأه حمزة والكسائي بإسكان النون بعد الميم المضمومة مخففاً اسم فاعل أنجى على وزن أفعل وقرأه غيرهما من القراء بفتح النون وتشديد الجيم اسم فاعل نجي على وزن فعل بالتضعيف والإنجاء والتنجية معناهما واحد وقوله: {قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ} قرأه أبو بكر عن عاصم بتخفيف الدال وقرأه غيره بتشديدها وهما لغتان معناهما واحد وقوله: {جَآءَ ءَالَ لُوطٍ} قرأه قالون والبنري وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى وتحقيق الثانية مع القصر والمد وقرأه ورش بتحقيق الأولى وإبدال الثانية ألفاً مع القصر والمد وعن ورش أيضاً تحقيق الأولى وتسهيل الثانية مع القصر والتوسط والمد وقرأه قنبل مثل قراءة ورش إلا أنه ليس له مع التسهيل إلا القصر وقرأ الباقون بتحقيق الهمزتين وكل على أصله من المد وما ذكر من قراءة ورش وقنبل هو التحقيق عنهما وإن قيل غيره والعلم عند الله تعالى.