سورة الإسراء | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 285 من المصحف
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 285 {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا * وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـٰقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا * وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً * وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـٰناً فَلاَ يُسْرِف فِّى ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً * وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلاٌّرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلاٌّرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا * ذَٰلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتُلْقَىٰ فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا * أَفَأَصْفَـٰكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا * قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِى ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَـٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلاٌّرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا * وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاٌّخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورً}
قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورً}. الضمير في قوله {عَنْهُمُ} راجع إلى المذكورين قبله في قوله: {وَءَاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ}. ومعنى الآية: إن تعرض عن هؤلاء المذكورين فلم تعطهم شيئاً لأنه ليس عندك. وإعراضك المذكور عنهم {ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَ} أي رزق حلال. كالفيء يرزقكه الله فتعطيهم منه {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورً} أي ليناً لطيفاً طيباً. كالدعاء لهم بالغنى وسعة الرزق، ووعدهم بأن الله إذا يسر من فضله رزقاً أنك تعطيهم منه.
وهذا تعليم عظيم من الله لنبيه لمكارم الأخلاق، وأنه إن لم يقدر على الإعطاء الجميل فليتجمل في عدم الإعطاء.
لأن الرد الجميل خير من الإعطاء القبيح.
وهذا الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، صرح به الله جل وعلا في سورة «البقرة» في قوله: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى}، ولقد أجاد من قال: إلا تكن ورق يوماً أجود بها للسائلين فإني لين العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوالى وإما حسن مردودي
والآية الكريمة تشير إلى أنه صلى الله عليه وسلم لا يعرض عن الإعطاء إلا عند عدم ما يعطى منه، وأن الرزق المنتظر إذا يسره الله فإنه يعطيهم منه، ولا يعرض عنهم. وهذا هو غاية الجود وكرم الأخلاق. وقال القرطبي: قولاً {مَّيْسُورً} مفعول بمعنى الفاعل من لفظ اليسر كالميمون.
وقد علمت مما قررنا أن قوله: {ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ} متعلق بفعل الشرط الذي هو {تُعْرِضَنَّ} لا بجزاء الشرط.
وأجاز الزمخشري في الكشاف تعلقه بالجزاء وتقديمه عليه. ومعنى ذلك: فقل لهم قولاً ميسوراً {ٱبْتِغَاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ}. أي يسر عليهم والطف بهم. لابتغائك بذلك رحمة الله. ورد ذلك عليه أبو حيان في «البحر المحيط» بأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله. قال: لا يجوز في قولك إن يقم فاضرب خالداً ـ أن تقول: إن يقم خالداً فاضرب. وهذا منصوص عليه ـ انتهى.
وعن سعيد بن جبير رحمه الله: أن الضمير في قوله {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} راجع للكفار. أي إن تعرض عن الكفار ابتغاء رحمة من ربك، أي نصر لك عليهم، أو هداية من الله لهم. وعلى هذا فالقول الميسور: المداراة باللسان. قاله أبو سليمان الدمشقي، انتهى من البحر. ويسر بالتخفيف يكون لازماً ومتعدياً، وميسور من المتعدي. تقول: يسرت لك كذا إذا أعددته. قاله أبو حيان أيضاً. قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـٰناً فَلاَ يُسْرِف فِّى ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورً}. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من قتل مظلوماً فقد جعل الله لوليه سلطاناً، ونهاه عن الإسراف في القتل، ووعده بأنه منصور.
والنهي عن الإسراف في القتل هنا شامل ثلاث صور:
الأولى ـ أن يقتل اثنين أو أكثر بواحد، كما كانت العرب تفعله في الجاهلية. كقول مهلهل بن ربيعة لما قتل بجير بن الحارث بن عباد في حرب البسوس المشهورة: بؤبشسع نعل كليب. فغضب الحارث بن عباد، وقال قصيدته المشهورة: قربا مربط النعامة مني لقحت حرب وائل عن حيال
قربا مربط النعامة مني إن بيع الكرام بالشسع غالي ـ الخ
وقال مهلهل أيضاً: كل قتيل في كليب غره حتى ينال القتل آل مره
ومعلوم أن قتل جماعة بواحد لم يشتركوا في قتله: إسراف في القتل داخل في النهي المذكور في الآية الكريمة.
الثانية ـ أن يقتل بالقتيل واحداً فقط ولكنه غير القاتل. لأن قتل البريء بذنب غيره إسراف في القتل، منهي عنه في الآية أيضاً.
الثالثة ـ أن يقتل نفس القاتل ويمثل به. فإن زيادة المثلة إسراف في القتل أيضاً.
وهذا هو التحقيق في معنى الآية الكريمة ـ فما ذكره بعض أهل العلم، ومال إليه الرازي في تفسيره بعض الميل، من أن معنى الآية: فلا يسرف الظالم الجاني في القتل. تخويفاً له من السلطان. والنصر الذي جعله الله لولي المقتول لا يخفى ضعفه، وأنه لا يلتئم مع قوله بعده {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورً}.
وهذا السلطان الذي جعله الله لولي المقتول لم يبينه هنا بياناً مفصلاً، ولكنه أشار في موضعين إلى أن هذا السلطان: هو ما جعله الله من السلطة لولي المقتول على القاتل، من تمكينه من قتله إن أحب. ولا ينافي ذلك أنه إن شاء عفا على الدية أو مجاناً.
الأول ـ قوله هنا {فَلاَ يُسْرِف فِّى ٱلْقَتْلِ} بعد ذكر السلطان المذكور، لأن النهي عن الإسراف في القتل مقترناً بذكر السلطان المذكور يدل على أن السلطان المذكور هو ذلك القتل المنهي عن الإسراف فيه.
الموضع الثاني ـ قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى} إلى قوله {وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَـٰبِ}. فهو يدل على أن السلطان المذكور هو ما تضمنته آية القصاص هذه، وخير ما يبين به القرآن القرآن.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة.
المسألة الأولى ـ يفهم من قوله {مَظْلُومً} أن من قتل غير مظلوم ليس لوليه سلطان على قاتله، وهو كذلك، لأن من قتل بحق فدمه حلال، ولا سلطان لوليه في قتله. كما قدمنا بذلك حديث ابن مسعود المتفق عليه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» كما تقدم إيضاحه في سورة «المائدة».
وبينا هذا المفهوم في قوله {مَظْلُومً} يظهر به بيان المفهوم في قوله أيضاً: {وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ}.
واعلم ـ أنه قد ورد في بعض الأدلة أسباب أخر لإباحة قتل المسلم غير الثلاث المذكورة، على اختلاف في ذلك بين العلماء. من ذلك: المحاربون إذا لم يقتلوا أحداً. عند من يقول بأن الإمام مخير بين الأمور الأربعة المذكورة في قوله: {أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤ}. كما تقدم إيضاحه مستوفى في سورة «المائدة».
ومن ذلك: قتل الفاعل والمفعول به في فاحشة اللواط، وقد قدمنا الأقوال في ذلك وأدلتها بإيضاح في سورة «هود».
وأما قتل الساحر فلا يبعد دخوله في قتل الكافر المذكور في قوله «التارك لدينه المفارق للجماعة» لدلالة القرآن على كفر الساحر في قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ}، وقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}. وقوله: {وَيَتَعَلَّمُونَ}.
وأما قتل مانع الزكاة ـ فإنه إن أنكر وجوبها فهو كافر مرتد داخل في «التارك لدينه المفارق للجماعة». وأما إن منعها وهو مقر بوجوبها فالذي يجوز فيه: القتال لا القتل، وبين القتال والقتل فرق واضح معروف.
وأما ما ذكره بعض أهل العلم من: أن من أتى بهيمة يقتل هو وتقتل البهيمة معه لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» قال الهيثمي في «مجمع الزوائد»: رواه أبو يعلى، وفيه محمد بن عمرو بن علقمة، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات. ورواه ابن ماجه من طريق داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً.
وأكثر أهل العلم على أنه لا يقتل. لأن حصر ما يباح به دم المسلم في الثلاث المذكورة في حديث ابن مسعود المتفق عليه أولى بالتقديم من هذا الحديث، مع التشديد العظيم في الكتاب والسنة في قتل المسلم بغير حق، إلى غير ذلك من المسائل المذكورة في الفروع.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الحصر في الثلاث المذكورة في حديث ابن مسعود الثابت في الصحيح لا ينبغي أن يزاد عليه، إلا ما ثبت بوحي ثبوتاً لا مطعن فيه، لقوته. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثانية ـ قد جاءت آيات أخر تدل على أن المقتول خطأ لا يدخل في هذا الحكم. كقوله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}، وقوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَ}. لما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأها، قال الله نعم قد فعلت. وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئ} ثم بين ما يلزم القاتل خطأ بقوله: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُو}. وقد بين صلى الله عليه وسلم الدية قدراً وجنساً كما هو معلوم في كتب الحديث والفقه كما سيأتي إيضاحه.
المسألة الثالثة ـ يفهم من إطلاق قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومً} أن حكم الآية يستوي فيه القتل بمحدد كالسلاح، وبغير محدد كرضخ الرأس بحجر ونحو ذلك. لأن الجميع يصدق عليه اسم القتل ظلماً فيجب القصاص.
وهذا قول جمهور العلماء، منهم مالك، والشافعي، وأحمد في أصح الروايتين.
وقال النووي في «شرح مسلم»: هو مذهب جماهير العلماء.
وخالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقال: لا يجب القصاص إلا في القتل بالمحدد خاصة، سواء كان من حديد، أو حجر، أو خشب، أو فيما كان معروفاً بقتل الناس كالمنجنيق، والإلقاء في النار.
واحتج الجمهور على أن القاتل عمداً بغير المحدد يقتص منه بأدلة:
الأول ـ ما ذكرنا من إطلاق النصوص في ذلك. الثاني ـ حديث أنس بن مالك المشهور الذي أخرجه الشيخان، وباقي الجماعة: أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها، فرضخ رأسها بالحجارة، فاعترف بذلك فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين، رض رأسه بهما.
وهذا الحديث المتفق عليه نص صريح صحيح في محل النزاع، تقوم به الحجة على الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ولا سيما على قوله: باستواء دم المسلم والكافر المعصوم الدم كالذمي.
الثالث ـ ما أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهما، عن حمل بن مالك من القصاص في القتل بالمسطح. قال النسائي: أخبرنا يوسف بن سعيد، قال حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال أخبرني عمرو بن دينار: أنه سمع طاوساً يحدث عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه: أنه نشد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فقام حمل بن مالك فقال: كنت بين حجرتي امرأتين. فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها. فقضى النَّبي صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة، وأن تقتل بها. وقال أبو داود: حدثنا محمد بن مسعود المصيصي، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار: أنه سمع طاوساً عن ابن عباس، عن عمر: أنه سأل في قضية النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال:
كنت بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلها وجنينها. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة، وأن تقتل. قال أبو داود: قال النضر بن شميل: المسطح هو الصولج. قال أبو داود: وقال أبو عبيد: المسطح عود من أعواد الخباء. وقال ابن ماجه: حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي، ثنا أبو عاصم، أخبرني ابن جريج، حدثني عمرو بن دينار: أنه سمع طاوساً، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب أنه نَشَدَ الناس قضاء النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك (يعني في الجنين) فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين امرأتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وقتلت جنينها. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد، وأن تقتل بها. انتهى من السنن الثلاث بألفاظها.
ولا يخفى أن هذا الإسناد صحيح. فرواية أبي داود، عن محمد بن مسعود المصيصي وهو ابن مسعود بن يوسف النيسابوري، ويقال له المصيصي أبو جعفر العجمي نزيل طرسوس والمصيصة، وهو ثقة عارف. ورواية ابن ماجه عن أحمد بن سعيد الدارمي، وهو ابن سعيد
بن صخر الدارمي أبو جعفر وهو ثقة حافظ، وكلاهما (أعني محمد بن مسعود المذكور عند أبي داود، وأحمد بن سعيد المذكور عند ابن ماجه) روي هذا الحديث عن أبي عاصم وهو الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم الشيباني، وهو أبو عاصم النَّبيل، وهو ثقة ثبت. والضحاك رواه عن ابن جريج، وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وهو ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل. إلا أن هذا الحديث صرح فيه بالتحديث والاخبار عن عمرو بن دينار وهو ثقة ثبت، عن طاوس وهو ثقة فقيه فاضل، عن ابن عباس، عن حمل، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وأما رواية النسائي فهي عن يوسف بن سعيد، وهو ابن سعيد بن مسلم المصيصي ثقة حافظ، عن حجاج بن محمد، وهو ابن محمد المصيصي الأعور أبو محمد الترمذي الأصل نزيل بغداد ثم المصيصة ثقة ثبت. لكنه اختلط في آخر عمره لما قدم بغداد قبل موته، عن ابن جريج، إلى آخر السند المذكور عند أبي داود وابن ماجه. وهذا الحديث لم يخلط فيه حجاج
المذكور في روايته له عن ابن جريج. بدليل رواية أبي عاصم له عند أبي داود وابن ماجه، عن ابن جريج كرواية حجاج المذكور عند النسائي. وأبو عاصم ثقة ثبت.
رواه البيهقي عن عبد الرزاق، عن ابن جريج. وجزم بصحة هذا الإسناد ابن حجر في الإصابة في ترجمة حمل المذكور. وقال البيهقي في «السنن الكبرى» في هذا الحديث: وهذا إسناد صحيح وفيما ذكر أبو عيسى الترمذي في كتاب «العلل» قال: سألت محمداً (يعني البخاري) عن هذا الحديث فقال: هذا حديث صحيح، رواه ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس. وابن جريج حافظ اهـ.
فهذا الحديث نص قوي في القصاص في القتل بغير المحدد، لأن المسطح عمود. قال الجوهري في صحاحه: والمسطح أيضاً عمود الخباء. قال الشاعر وهو مالك بن عوف النصري: تعرض ضيطار وخزاعة دوننا وما خير ضيطار يقلب مسطحا
يقول: تعرض لنا هؤلاء القوم ليقاتلونا وليسوا بشيء. لأنهم لا سلاح معهم سوى المسطح والضيطار، هو الرجل الضخم الذي لا غناء عنده.
الرابع ـ ظواهر آيات من كتاب الله تدل على القصاص في القتل بغير المحدد. كقوله تعالى: {فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}، وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}، وقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَ}، وقوله: {ذٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ}،وقوله: {وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍإِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ}.
وفي الموطأ ما نصه: وحدثني يحيى عن مالك، عن عمر بن حسين مولى عائشة بنت قدامة: أن عبد الملك بن مروان أقاد ولي رجل من رجل قتله بعصاً. فقتله وليه بعصاً.
قال مالك: والأمر المجتمع عليه الذي لا اختلاف فيه عندنا: أن الرجل إذا ضرب الرجل بعصا أو رماه بحجر، أو ضربه عمداً فمات من ذلك. فإن هذا هو العمد وفيه القصاص.
قال مالك: فقتل العمد عندنا أن يعمد الرجل إلى الرجل فيضربه حتى تفيض نفسه اهـ محل الغرض عنه.
وقد قدمنا أن هذا القول بالقصاص في القتل بالمثقل هو الذي عليه جمهور العلماء. منهم الأئمة الثلاثة، والنخعي، والزهري، وابن سيرين، وحماد، وعمرو بن دينار، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد، نقله عنهم ابن قدامة في المغني.
وخالف في ذلك أبو حنيفة، والحسن، والشعبي، وابن المسيب، وعطاء، وطاوس رحمهم الله فقالوا: لا قصاص في القتل بالمثقل. واحتج لهم بأدلة:
منها ـ أن القصاص يشترط له العمد، والعمد من أفعال القلوب، ولا يعلم إلا بالقرائن الجازمة الدالة عليه. فإن كان القتل بآلة القتل كالمحدد، علم أنه عامد قتله. وإن كان بغير ذلك لم يعلم عمده للقتل. لاحتمال قصده أن يشجه أو يؤلمه من غير قصد قتله فيؤول إلى شبه العمد.
ومنها ـ ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة عبد أو أمة. ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها. وأن العقل على عصبتها».
وفي رواية «اقتتلت امرأتان من هذيل. فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها. فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها».
قالوا: فهذا حديث متفق، عليه يدل على عدم القصاص في القتل بغير المحدد. لأن روايات هذا الحديث تدل على القتل بغير محدد، لأن في بعضها أنها قتلتها بعمود، وفي بعضها أنها قتلتها بحجر.
ومنها ـ ما روي عن النعمان بن بشير، وأبي هريرة، وعلي، وأبي بكرة رضي الله عنهم مرفوعاً: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا قود إلا بحديدة». وفي بعض رواياته «كل شيء خطأ إلا السيف، ولكل خطإ أرش».
وقد حاول بعض من نصر هذا القول من الحنفية رد حجج مخالفيهم. فزعم أن رض النَّبي صلى الله عليه وسلم رأس اليهودي بين حجرين إنما وقع بمجرد دعوى الجارية التي قتلها. وأن ذلك دليل على أنه كان معروفاً بالإفساد في الأرض. ولذلك فعل به صلى الله عليه وسلم ما فعل.
ورد رواية ابن جريج عن طاوس عن ابن عباس المتقدمة ـ بأنها مخالفة للروايات الثابتة في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على عاقلة المرأة لا بالقصاص.
قال البيهقي في (السنن الكبرى) بعد أن ذكر صحة إسناد الحديث عن ابن عباس بالقصاص من المرأة التي قتلت الأخرى بمسطح كما تقدم ما نصه: إلا أن لفظ الحديث زيادة لم أجدها في شيء من طرق هذا الحديث، وهي قتل المرأة بالمرأة. وفي حديث عكرمة عن ابن عباس موصولاً، وحديث ابن طاوس عن أبيه مرسلاً، وحديث جابر وأبي هريرة موصولاً ثابتاً ـ أنه قضى بديتها على العاقلة. انتهى محل الغرض من كلام البيهقي بلفظه.
وذكر البيهقي أيضاً:
أن عمرو بن دينار روجع في هذا الحديث بأن ابن طاوس رواه عن أبيه على خلاف رواية عمرو، فقال للذي راجعه: شككتني.
وأجيب من قبل الجمهور عن هذه الاحتجاجات: بأن رضه رأسه اليهودي قصاص. ففي رواية ثابتة في الصحيحين وغيرهما: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله حتى اعترف بأنه قتل الجارية. فهو قتل قصاص باعتراف القاتل، وهو نص متفق عليه، صريح في محل النزاع، ولا سيما عند من يقول باستواء دم المسلم والكافر كالذمي ـ كأبي حنيفة رحمه الله.
وأجابوا عن كون العمد من أفعال القلوب، وأنه لا يعلم كونه عامداً إلا إذا ضرب بالآلة المعهودة للقتل ـ بأن المثقل كالعمود والصخرة الكبيرة من آلات القتل كالسيف. لأن المشدوخ رأسه بعمود أو صخرة كبيرة يموت من ذلك حالاً عادة كما يموت المضروب بالسيف. وذلك يكفي من القرينة على قصد القتل.
وأجابوا عما ثبت من قضاء النَّبي صلى الله عليه وسلم على عاقلة المرأة القاتلة بعمود أو حجر بالدية ـ من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه معارض بالرواية الصحيحة التي قدمناها عند أبي داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث حمل بن مالك وهو كصاحب القصة. لأن القاتلة والمقتولة زوجتاه ـ من كونه صلى الله عليه وسلم قضى فيها بالقصاص لا بالدية.
الثاني: ما ذكره النووي في شرح مسلم وغيره قال: وهذا محمول على حجر صغير وعمود صغير لا يقصد به القتل غالباً. فيكون شبه عمد تجب فيه الدية على العاقلة، ولا يجب فيه قصاص ولا دية على الجاني. وهذا مذهب الشافعي والجماهير اهـ كلام النووي رحمه الله.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا الجواب غير وجيه عندي: لأن في بعض الروايات الثابتة في الصحيح: أنها قتلت بعمود فسطاط، وحمله على الصغير الذي لا يقتل بعيد.
الثالث: هو ما ذكره ابن حجر في «فتح الباري» من أن مثل هذه المرأة لا تقصد غالباً قتل الأخرى. قال ما نصه:
وأجاب من قال به ـ يعني القصاص في القتل بالمثقل ـ بأن عمود الفسطاط يختلف بالكبر والصغر، بحيث يقتل بعضه غالباً ولا يقتل بعضه غالباً. وطرد المماثلة في القصاص إنما يشرع فيما إذا وقعت الجناية بما يقتل غالباً.
وفي هذا الجواب نظر، فإن الذي يظهر أنه إنما لم يجب فيه القود لأنها لم يقصد مثلها وشرط القود العمد، وهذا إنما هو شبه العمد، فلا حجة فيه للقتل بالمثقل ولا عكسه. انتهى كلام ابن حجر بلفظه.
قال مقيده عفا الله عنه: والدليل القاطع على أن قتل هذه المرأة لضرتها خطأ في القتل شبه عمد. لقصد الضرب دون القتل بما لا يقتل غالباً ـ تصريح الروايات المتفق عليها: بأنه صلى الله عليه وسلم جعل الدية على العاقلة، والعاقلة لا تحمل العمد بإجماع المسلمين.
وأجابوا عن حديث «لا قود إلا بحديدة» بأنه لم يثبت.
قال البيهقي في «السنن الكبرى» بعد أن ساق طرقه عن النعمان بن بشير، وأبي بكرة، وأبي هريرة، وعلي رضي الله عنهم ما نصه:
وهذا الحديث لم يثبت له إسناد معلى بن هلال الطحان متروك، وسليمان بن أرقم ضعيف، ومبارك بن فضالة لا يحتج به، وجابر بن يزيد الجعفي مطعون فيه اهـ.
وقال ابن حجر «في فتح الباري في باب إذا قتل بحجر أو عصا» ما نصه:
وخالف الكوفيون فاحتجوا بحديث «لا قود إلا بالسيف» وهو حديث ضعيف أخرجه البزار، وابن عدي من حديث أبي بكرة. وذكر البزار الاختلاف فيه مع ضعف إسناده: وقال ابن عدي: طرقه كلها ضعيفة. وعلى تقدير ثبوته فإنه على خلاف قاعدتهم في: أن السنة لا تنسخ الكتاب ولا تخصصه.
واحتجوا أيضاً بالنهي عن المثلة، وهو صحيح ولكنه محمول عند الجمهور على غير المثلة في القصاص جمعاً بين الدليلين ـ انتهى الغرض من كلام ابن حجر بلفظه.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في «نيل الأوطار» ما نصه:
وذهبت العترة والكوفيون، ومنهم أبو حنيفة وأصحابه ـ إلى أن الاقتصاص لا يكون إلا بالسيف. واستدلوا بحديث النعمان بن بشير عند ابن ماجه، والبزار، والطحاوي، والطبراني والبيهقي، بألفاظ مختلفة منها «لا قود إلا بالسيف». وأخرجه ابن ماجه أيضاً، والبزار، والبيهقي من حديث أبي بكرة. وأخرجه الدارقطني، والبيهقي، من حديث أبي هريرة. وأخرجه الدارقطني من حديث علي. وأخرجه البيهقي، والطبراني من حديث ابن مسعود. وأخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلاً.
وهذه الطرق كلها لا تخلو واحدة منها من ضعيف أو متروك. حتى قال أبو حاتم: حديث منكر. وقال عبد الحق وابن الجوزي: طرقه كلها ضعيفة. وقال البيهقي: لم يثبت له إسناد. انتهى محل الغرض من كلام الشوكاني رحمه الله تعالى.
ولا شك في ضعف هذا الحديث عند أهل العلم بالحديث. وقد حاول الشيخ ابن التركماني تقويته في «حاشيته على سنن البيهقي» بدعوى تقوية جابر بن يزيد الجعفي، ومبارك بن فضالة. مع أن جابراً ضعيف رافضي، ومبارك يدلس تدليس التسوية.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يقتضي الدليل رجحانه عندي: هو القصاص مطلقاً في القتل عمداً بمثقل كان أو بمحدد. لما ذكرنا من الأدلة، ولقوله جل وعلا: {وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ}. لأن القاتل بعمود أو صخرة كبيرة إذا علم أنه لا يقتص منه جرأه ذلك على القتل. فتنتفي بذلك الحكمة المذكورة في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ}. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة ـ جمهور العلماء على أن السلطان الذي جعله الله في هذه الآية لولي المقتول ظلماً يستلزم الخيار بين ثلاثة أشياء: وهي القصاص، والعفو على الدية جبراً على الجاني، والعفو مجاناً في غير مقابل ـ وهو أحد قولي الشافعي.
قال النووي في شرح مسلم: وبه قال سعيد بن المسيب، وابن سيرين وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وعزاه ابن حجر في الفتح إلى الجمهور.
وخالف في ذلك مالك، وأبو حنيفة، والثوري رحمهم الله فقالوا: ليس للولي إلا القصاص، أو العفو مجاناً. فلو عفا على الدية وقال الجاني: لا أرضى إلا القتل، أو العفو مجاناً، ولا أرضى الدية. فليس لولي المقتول إلزامه الدية جبراً.
واعلم أن الذين قالوا: إن الخيار للولي بين القصاص والدية اختلفوا في عين ما يوجبه القتل عمداً إلى قولين: أحدهما ـ أنه القود فقط. وعليه فالدية بدل منه. والثاني ـ أنه أحد شيئين: هما القصاص والدية.
وتظهر ثمرة هذا الخلاف فيما لو عفا عن الجاني عفواً مطلقاً، لم يصرح فيه بإرادة الدية ولا العفو عنها. فعلى أن الواجب عينا القصاص فإن الدية تسقط بالعفو المطلق. وعلى أن الواجب أحد الأمرين فإن الدية تلزم مع العفو المطلق. أما لو عفا على الدية فهي لازمة، ولو لم يرض الجاني عند أهل هذا القول. والخلاف المذكور روايتان عن الشافعي، وأحمد رحمهما الله.
واحتج من قال: بأن الخيار بين القصاص والدية لولي المقتول بقوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يفدى، وإما أن يقتل» أخرجه الشيخان، والإمام أحمد، وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. لكن لفظ الترمذي: «إما أن تعفو وإما أن يقتل». ومعنى «يفدى» في بعض الروايات، «ويودى» في بعضها: يأخذ الفداء بمعنى الدية. وقوله «يقتل» بالبناء للفاعل: أي يقتل قاتل وليه.
قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه نص في محل النزاع، مصرح بأن ولي المقتول مخير بين القصاص وأخذ الدية. وأن له إجبار الجاني على أي الأمرين شاء.
وهذا الدليل قوي دلالة ومتناً كما ترى.
واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـٰنٍ}. قالوا: إن الله جل وعلا رتب الاتباع بالدية بالفاء على العفو في قوله: {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ}. وذلك دليل واضح على أنه بمجرد العفو تلزم الدية، وهو دليل قرآني قوي أيضاً.
واحتج بعض العلماء للمخالفين في هذا. كمالك وأبي حنيفة رحمهما الله بأدلة. منها ما قاله الطحاوي: وهو أن الحجة لهم حديث أنس في قصة الربيع عمته فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «كتاب الله القصاص» فإنه حكم بالقصاص ولم يخير. ولو كان الخيار للولي لأعلمهم النَّبي صلى الله عليه وسلم. إذ لا يجوز للحاكم أن يتحكم لمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما من قبل أن يعلمه بأن الحق له في أحدهما. فلما حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله «فهو بخير النظرين» أي ولي المقتول مخير بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدية اهـ.
وتعقب ابن حجر في «فتح الباري» احتجاج الطحاوي هذا بما نصه: وتعقب بأنه قوله صلى الله عليه وسلم: «كتاب الله القصاص» إنما وقع عند طلب أولياء المجني عليه في العمد القود. فأعلم أن الكتاب الله نزل على أن المجني إذا طلب القود أجيب إليه. وليس فيما ادعاه من تأخير البيان.
الثاني ـ ما ذكره الطحاوي أيضاً: من أنهم أجمعوا على أن الولي لو قال للقائل: رضيت أن تعطيني كذا على ألا أقتلك ـ أن القاتل لا يجبر على ذلك. ولا يؤخذ منه كرهاً، وإن كان يجب عليه أن يحقن دم نفسه.
الثالث ـ أن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور «فهو بخير النظرين..» الحديث جار مجرى الغالب فلا مفهوم مخالفة له. وقد تقرر في الأصول: أن النص إذا جرى على الغالب لا يكون له مفهوم مخالفة لاحتمال قصد نفس الأغلبية دون قصد إخراج المفهوم عن حكم المنطوق. ولذا لم يعتبر جمهور العلماء مفهوم المخالفة في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ ٱللَّـٰتِى فِى حُجُورِكُمْ}. لجريه على الغالب، وقد ذكرنا هذه المسألة في هذا الكتاب المبارك مراراً.
وإيضاح ذلك في الحديث ـ أن مفهوم قوله «فهو بخير النظرين» أن الجاني لو امتنع من قبول الدية وقدم نفسه للقتل ممتنعاً من إعطاء الدية ـ أنه يجبر على إعطائها. لأن هذا أحد النظرين اللذين خير الشارع ولي المقتول بينهما. والغالب أن الإنسان يقدم نفسه على ماله فيفتدى بماله من القتل. وجريان الحديث على هذا الأمر الغالب يمنع من اعتبار مفهوم مخالفته كما ذكره أهل الأصول، وعقده في «مراقي السعود» بقوله في موانع اعتبار دليل الخطاب، أعني مفهوم المخالفة: أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جري على الذي غلب
ومحل الشاهد قوله «أو جري على الذي غلب» إلى غير ذلك من الأدلة التي احتجوا بها.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي رجحانه بالدليل في هذه المسألة: أو ولي المقتول هو المخير بين الأمرين، فلو أراد الدية وامتنع الجاني فله إجباره على دفعها. لدلالة الحديث المتفق عليه على ذلك، ودلالة الآية المتقدمة عليه، ولأن الله يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ}، ويقول: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ}.
ومن الأمر الواضح أنه إذا أراد إهلاك نفسه صوناً لماله للوارث ـ أن الشارع يمنعه من هذا التصرف الزائغ عن طريق الصواب، ويجبره على صون دمه بماله.
وما احتج به الطحاوي من الإجماع على أنه لو قال له: أعطني كذا على ألا أقتلك لا يجبر على ذلك ـ يجاب عنه بأنه لو قال: أعطني الدية المقررة في قتل العمد فإنه يجبر على ذلك. لنص الحديث، والآية المذكورين.
ولو قال له: أعطني كذا غير الدية لم يجبر. لأنه طلب غير الشيء الذي أوجبه الشارع، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الخامسة ـ جمهور العلماء على أن القتل له ثلاث حالات:
الأولى: العمد، وهو الذي فيه السلطان المذكور في الآية كما قدمنا.
والثانية: شبه العمد، والثالثة: الخطأ.
وممن قال بهذا: الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، وأحمد، والشافعي. ونقله في المغني عن عمر، وعلي رضي الله عنهما، والشعبي والنخعي، وقتادة، وحماد، وأهل العراق، والثوري، وغيرهم.
وخالف الجمهور مالك رحمه الله فقال: القتل له حالتان فقط. الأولى ـ العمد والثانية ـ الخطأ. وما يسميه غيره شبه العمد جعله من العمد. واستدل رحمه الله بأن الله لم يجعل في كتابه العزيز واسطة بين العمد والخطإ. بل ظاهر القرآن أنه لا واسطة بينهما. كقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ}، ثم قال في العمد: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ}، فلم يجعل بين الخطأ والعمد واسطة، وكقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}. فلم يجعل فيها بين الخطإ والعمد واسطة وإن كانت في غير القتل.
واحتج الجمهور على أن هناك واسطة بين الخطأ المحض، والعمد المحض، تسمى خطأ شبه عمد بأمرين:
الأول ـ أن هذا هو عين الواقع في نفس الأمر. لأن من ضرب بعصا صغيرة أو حجر صغير لا يحصل به القتل غالباً وهو قاصد للضرب معتقداً أن المضروب لا يقتله ذلك الضرب. ففعله هذا شبه العمد من جهة قصده أصل الضرب وهو خطأ في القتل. لأنه ما كان يقصد القتل، بل وقع القتل من غير قصده إياه.
والثاني ـ حديث دل على ذلك، وهو ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا سليمان بن حرب، ومسدد المعنى قالا: حدثنا حماد، عن خالد، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال مسدد: خطب يوم الفتح بمكة، فكبر ثلاثاً ثم قال: «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده (إلى ها هنا حفظته عن مسدد، ثم اتفقا): ألا أن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدميَّ، إلا ما كان من سقاية الحاج أو سدانة البيت ـ ثم قال ـ ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها، وحديث مسدد أتم.
حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب، عن خالد بهذا الإسناد نحو معناه.
حدثنا مسدد، ثنا عبد الوارث، عن علي بن زيد، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ـ أو فتح مكة ـ على درجة البيت أو الكعبة.
قال أبو داود: كذا رواه ابن عيينة أيضاً عن علي بن زيد، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
رواه أيوب السختياني، عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو مثل حديث خالد ورواه حماد بن سلمة، عن علي بن يزيد، عن يعقوب السَّدوسي، عن عبد الله بن عمرو، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم اهـ محل الغرض من سنن أبي داود.
وأخرج النسائي نحوه، وذكر الاختلاف على أيوب في حديث القاسم بن ربيعة فيه، وذكر الاختلاف على خالد الحذاء فيه وأطال الكلام في ذلك. وقد تركنا لفظ كلامه لطوله.
وقال ابن ماجه رحمه الله في سننه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة، عن أيوب: سمعت القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل: أربعون منها خلفة في بطونها أولادها».
حدثنا محمد بن يحيى، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن خالد الحذَّاء عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عند عبد الله بن عمرو، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
حدثنا عبد الله بن محمد الزهري، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن جدعان، سمعه من القاسم بن ربيعة عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم فتح مكة وهو على درج الكعبة، فحمد الله وأثنى عليه فقال: «الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. إلا أن قتيل الخطأ قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل: منها أربعون خلفة في بطونها أولادها». اهـ.
وساق البيهقي رحمه الله طرق هذا الحديث، وقال بعد أن ذكر الرواية عن ابن عمر التي في إسنادها علي بن زيد بن جدعان: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت محمد بن إسماعيل السكري يقول: سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: حضرت مجلس المزني يوماً وسأله سائل من العراقيين عن شبه العمد. فقال السائل: إن الله تبارك وتعالى وصف القتل في كتابه صفتين: عمداً وخطأ. فلم قلتم إنه على ثلاثة أصناف؟ ولم قلتم شبه العمد؟
فاحتج المزني بهذا الحديث فقال له مناظره: أتحتج بعلي بن زيد بن جدعان؟ فسكت المزني. فقلت لمناظره: قد روى هذا الخبر غير علي بن زيد. فقال: ومن رواه غير علي؟ قلت: رواه أيوب السختياني وخالد الحذَّاء. قال لي: فمن عقبة بن أوس؟ فقلت: عقبة بن أوس رجل من أهل البصرة، وقد رواه عنه محمد بن سيرين مع جلالته. فقال للمزني: أنت تناظرٰ أو هذا؟ فقال: إذا جاء الحديث فهو يناظر. لأنه أعلم بالحديث مني، ثم أتكلم أنا اهـ ثم شرع البيهقي يسوق طرق الحديث المذكور.
قال مقيده عفا الله عنه: لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأسانيد. أن الحديث ثابت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وأن الرواية عن ابن عمر وهم، وآفتها من علي بن زيد بن جدعان. لأنه ضعيف.
والمعروف في علوم الحديث: أن الحديث إذا جاء صحيحاً من وجه لا يعل بإتيانه من وجه آخر غير صحيح. والقصة التي ذكرها البيهقي في مناظرة محمد بن إسحاق بن حزيمة للعراقي الذي ناظر المزني، تدل على صحة الاحتجاج بالحديث المذكور عند ابن خزيمة.
قال مقيده عفا الله عنه: إذا عرفت الاختلاف بين العلماء في حالات القتل: هل هي ثلاث، أو اثنتان؟ وعرفت حجج الفريقين ـ فاعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه ما ذهب إليه الجمهور من أنها ثلاث حالات: عمد محض، وخطأ محض، وشبه عمد. لدلالة الحديث الذي ذكرنا على ذلك، ولأنه ذهب إليه الجمهور من علماء المسلمين. والحديث إنما أثبت شيئاً سكت عنه القرآن، فغاية ما في الباب زيادة أمر سكت عنه القرآن بالسنة، وذلك لا إشكال فيه على الجاري على أصول الأئمة إلا أبا حنيفة رحمه الله. لأن المقرر في أصوله أن الزيادة على النص نسخ، وأن المتواتر لا ينسخ بالآحاد. كما تقدم إيضاحه في سورة «الأنعام». ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله وافق الجمهور في هذه المسألة، خلافاً لمالك كما تقدم.
فإذا تقرر ما ذكرنا من أن حالات القتل ثلاث ـ فاعلم أن العمد المحض فيه القصاص. وقد قدمنا حكم العفو فيه. والخطأ شبه العمد. والخطأ المحض فيهما الدية على العاقلة.
واختلف العلماء في أسنان الدية فيهما. وسنبين إن شاء الله تعالى مقادير الدية في العمد المحض إذا وقع العفو على الدية، وفي شبه العمد. وفي الخطإ المحض.
اعلم أن الجمهور على أن الدية في العمد المحض وشبه العمد سواء. واختلفوا في أسنانها فيهما. فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها تكون أرباعاً: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة.
وهذا هو مذهب مالك وأبي حنيفة، والرواية المشهورة عن أحمد، وهو قول الزهري، وربيعة، وسليمان بن يسار، ويروى عن ابن مسعود. كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني.
وذهبت جماعة أخرى إلى أنها ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون في بطونها أولادها.
وهذا مذهب الشافعي، وبه قال عطاء، ومحمد بن الحسن، وروي عن عمر، وزيد، وأبي موسى، والمغيرة. ورواه جماعة عن الإمام أحمد.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول هو الذي يقتضي الدليل رجحانه. لما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أبي داود، والنسائي، وابن ماجه: من أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «منها أربعون خلفة في بطونها أولادها» وبعض طرقه صحيح كما تقدم.
وقال البيهقي في بيان الستين التي لم يتعرض لها هذا الحديث: (باب صفة الستين التي مع الأربعين) ثم ساق أسانيده عن عمر، وزيد بن ثابت، والمغيرة بن شعبة، وأبي موسى الأشعري، وعثمان بن عفان، وعلي في إحدى روايتيه عنه أنها ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة.
وقال ابن قدامة في المغني مستدلاً لهذا القول: ودليله هو ما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل مؤمناً متعمداً دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا فهو لهم» وذلك لتشديد القتل. رواه الترمذي وقال: هو حديث حسن غريب اهـ محل الغرض منه بلفظه، ثم ساق حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي قدمنا.
ثم قال مستدلاً للقول الأول: ووجه الأول ما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال: «كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعاً: خمساً وعشرين جذعة، وخمساً وعشرين حقة، وخمساً وعشرين بنت لبون، وخمساً وعشرين بنت مخاض» وهو قول ابن مسعود اهـ منه.
وفي الموطإ عن مالك: أن ابن شهاب كان يقول في دية العمد إذا قبلت: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة. وقد قدمنا: أن دية العمد، ودية شبه العمد سواء عند الجمهور.
وفي دية شبه العمد للعلماء أقوال غير ما ذكرنا. منها ما رواه البيهقي، وأبو داود عن علي رضي الله عنه أنه قال: في شبه العمد أثلاث: ثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة، وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل عامها، وكلها خلفة.
ومنها ما رواه البيهقي وغيره عن ابن مسعود أيضاً: أنها أرباع: ربع بنات لبون، وربع حقاق وربع جذاع» وربع ثنية إلى بازل عامها. هذا حاصل أقوال أهل العلم في دية العمد، وشبه العمد.
وأولى الأقوال وأرجحها: ما دلت عليه السنة، وهو ما قدمنا من كونها ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة في بطونها أولادها.
وقد قال البيهقي رحمه الله في السنن الكبرى بعد أن ساق الأقوال المذكورة ما نصه: قد اختلفوا هذا الاختلاف، وقول من يوافق سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم المذكورة في الباب قبله أولى بالاتباع، وبالله التوفيق.
تنبيه
اعلم أن الدية في العمد المحض إذا عفا أولياء المقتول: إنما هي في مال الجاني، ولا تحملها العاقلة إجماعاً. وأظهر القولين: أنها حالة غير منجمة في سنين. وهو قول جمهور أهل العلم. وقيل بتنجيمها.
وعند أبي حنيفة أن العمد ليس فيه دية مقررة أصلاً. بل الواجب فيه ما انفق عليه الجاني وأولياء المقتول، قليلاً كان أو كثيراً، وهو حال عنده.
أما الدية في شبه العمد فهي منجمة في ثلاث سنين، يدفع ثلثها في آخر كل سنة من السنين الثلاث، ويعتبر ابتداء السنة من حين وجوب الدية.
وقال بعض أهل العلم: ابتداؤها من حين حكم الحاكم بالدية، وهي على العاقلة لما قدمناه في حديث أبي هريرة المتفق عليه من كونها على العاقلة. وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد رحمهم الله. وبه قال الشعبي والنخعي، والحكم، والثوري، وابن المنذر وغيرهم. كما نقله عنهم صاحب المغني ـ وهذا القول هو الحق.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الدية في شبه العمد في مال الجاني لا على العاقلة. لقصده الضرب وإن لم يقصد القتل. وبهذا قال ابن سيرين، والزهري، والحارث العكلي، وابن شبرمة، وقتادة، وأبو ثور، واختارة أبو بكر عبد العزيز اهـ من «المغني» لابن قدامة. وقد علمت أن الصواب خلافه. لدلالة الحديث المتفق عليه على ذلك.
أما مالك رحمه الله فلا يقول بشبه العمد أصلاً. فهو عنده عمد محض كما تقدم.
وأما الدية في الخطأ المحض فهو أخماس في قول أكثر أهل العلم.
واتفق أكثرهم على السن والصنف في أربع منها، واختلفوا في الخامس. أما الأربع التي هي محل اتفاق الأكثر فهي عشرون جذعة، وعشرون حقة، وعشرون بنت لبون، وعشرون بنت مخاض. وأما الخامس الذي هو محل الخلاف فبعض أهل العلم يقول: هو عشرون ابن مخاض ذكراً. وهو مذهب أحمد، وأبي حنيفة، وبه قال ابن مسعود، والنخعي، وابن المنذر. واستدل أهل هذا القول بحديث ابن مسعود الوارد بذلك.
قال أبو داود في سننه: حدثنا مسدد، حدثنا عبد الواحد، ثنا الحجاج عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك الطائي، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض ذكرٌ». وهو قول عبد الله ـ انتهى منه بلفظه.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا علي بن سعيد بن مسروق قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن حجاج، عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك الطائي قال: سمعت ابن مسعود يقول: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين ابن مخاض ذكوراً، وعشرين بنت لبون، وعشرين جَذَعة، وعشرين حِقَّة.
وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا عبد السلام بن عاصم، ثنا الصبَّاح بن محارب، ثنا حجاج بن أرطاة، ثنا زيد بن جبير، عن خشف بن مالك الطائي، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني خاض ذكوراً» ونحو هذا أخرجه الترمذي أيضاً عن ابن مسعود.
وأخرج الدارقطني عنه نحوه. إلا أن فيه: وعشرون بني لبون بدل بني مخاض.
وقال الحافظ في «بلوغ المرام»: إن إسناده أقوى من إسناد الأربعة. قال: وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر موقوفاً، وهو أصح من المرفوع.
وأما القول الثاني في هذا الخامس المختلف فيه ـ فهو أنه عشرون ابن لبون ذكراً، مع عشرين جذعة، وعشرين حقة، وعشرين بنت لبون، وعشرين بنت مخاض. وهذا هو مذهب مالك والشافعي. وبه قال عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسار، والزهري، والليث، وربيعة. كما نقله عنهم ابن قدامة في «المغني» وقال: هكذا رواه سعيد في سننه عن النخعي، عن ابن مسعود.
وقال الخطابي: روي أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «ودي الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة» وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض.
وقال البيهقي في السنن الكبرى: وأخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الرفاء البغدادي، أنبأ أبو عمرو عثمان بن محمد بن بشر، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا إسماعيل بن أبي أويس وعيسى بن مينا قالا: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، أن أباه قال: كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهي إلى قولهم. منهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار، في مشيخة جلة سواهم من نظرائهم، وربما اختلفوا في الشيء فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأياً، وكانوا يقولون: العقل في الخطأ خمسة أخماس: فخمس جذاع، وخمس حقاق، وخمس بنات لبون، وخمس بنات مخاض، وخمس بنو لبون ذكور، والسن في كل جرح قل أو كثر خمسة أخماس على هذه الصفة ـ انتهى كلام البيهقي رحمه الله.
قال مقيده عفا الله عنه: جعل بعضهم أقرب القولين دليلاً قول من قال: إن الصنف الخامس من أبناء المخاض الذكور لا من أبناء اللبون. لحديث عبد الله بن مسعود المرفوع المصرح بقضاء النَّبي صلى الله عليه وسلم بذلك. قال: والحديث المذكور وإن كان فيه ما فيه أولى من الأخذ بغيره من الرأي.
وسند أبي داود، والنسائي رجاله كلهم صالحون للاحتجاج. إلا الحجاج بن أرطاة فإن فيه كلاماً كثيراً واختلافاً بين العلماء. فمنهم من يوثقه، ومنهم من يضعفه. وقد قدمنا في هذا الكتاب المبارك تضعيف بعض أهل العلم له.
وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق كثير الخطأ والتدليس.
قال مقيده عفا الله عنه: حجاج المذكور من رجال مسلم. وأعل أبو داود والبيهقي وغيرهما الحديث بالوقف على ابن مسعود، قالوا: رفعه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم خطأ، وقد أشرنا إلى ذلك قريباً.
أما وجه صلاحية بقية رجال السنن ـ فالطبقة الأولى من سنده عند أبي داود مسدد وهو ثقة حافظ. وعند النسائي سعيد بن علي بن سعيد بن مسروق الكندي الكوفي وهو صدوق.
والطبقة الثانية عند أبي داود عبد الواحد وهو ابن زياد العبدي مولاهم البصري ثقة، في حديثه عن الأعمش وحده مقال. وعند النسائي يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وهو ثقة متقن.
والطبقة الثالثة عندهما حجاج بن أرطاة المذكور.
والطبقة الرابعة عندهما زيد بن جبير وهو ثقة.
والطبقة الخامسة عندهما خشف بن مالك الطائي وثقه النسائي.
والطبقة السادسة عندهما عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
والطبقة الأولى عند ابن ماجه عبد السلام بن عاصم الجعفي الهسنجاني الرازي وهو مقبول.
والطبقة الثانية عنده الصباح بن محارب التيمي الكوفي نزيل الري وهو صدوق، ربما خالف.
والطبقة الثالثة عنده حجاج بن أرطاة إلى آخر السند المذكور.
والحاصل ـ أن الحديث متكلم فيه من جهتين: الأولى من قبل حجاج بن أرطاة، وقد ضعفه الأكثر، ووثقه بعضهم، وهو من رجال مسلم. والثانية إعلاله بالوقف، وما احتج به الخطابي من أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «ودى الذي قتل بخيبر من إبل الصدقة» وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض. يقال فيه: إن الذي قتل في خيبر قتل عمداً، وكلامنا في الخطأ. وحجة من قال يجعل أبناء اللبون بدل أبناء المخاض رواية الدارقطني المرفوعة التي قال ابن حجر: إن سندها أصح من رواية أبناء المخاض، وكثرة من قال بذلك من العلماء.
وفي دية الخطأ للعلماء أقوال أخر غير ما ذكرنا. واستدلوا لها بأحاديث أخرى انظرها في «سنن النسائي، وأبي داود، والبيهقي» وغيرهم.
واعلم أن الدية على أهل الذهب ألف دينار. وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم عند الجمهور.
وقال أبو حنيفة: عشرة آلاف درهم. وعلى أهل البقر مائتا بقرة. وعلى أهل الشاء ألفا شاة. وعلى أهل الحلل مائتا حلة.
قال أبو داود في سننه: حدثنا يحيى بن حكيم، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان، ثنا حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار، أو ثمانية آلاف درهم. ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين.
قال: فكان ذلك كذلك، حتى استخلف عمر رحمه الله تعالى فقام خطيباً فقال: ألا إن الإبل قد غلت، قال: ففرضها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفاً، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. وترك دية أهل الذِّمة لم يرفعها فيما رفع من الدية.
حدثنا موسى بن اسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن عطاء بن أبي رباح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قضى في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وعلى أهل القمح شيئاً لم يحفظه محمد».
قال أبو داود: قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني قال: ثنا أبو تميلة، ثنا محمد بن إسحاق قال: ذكر عطاء عن جابر بن عبد الله قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فذكر مثل حديث موسى ـ وقال: وعلى أهل الطعام شيئاً لم أحفظه اهـ. وقال النسائي في سننه: أخبرنا أحمد بن سليمان قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أنبأنا محمد بن راشد عن سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور».
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومها على أهل القرى أربعمائة دينار، أو عدلها من الورق. ويقومها على أهل الإبل إذا غلت رفع قيمتها وإذا هانت نقص من قيمتها ـ على نحو الزمان ما كان. فبلغ قيمتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الأربعمائة دينار، إلى ثمانمائة دينار أو عدلها من الورق.
قال: وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من كان عقله في البقر: على أهل البقر مائتي بقرة. ومن كان عقله في الشاء: ألفي شاة. وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم، فما فضل فللعصبة» وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن يعقل على المرأة عصبتها من كانوا ولا يرثون منه إلا ما فضل عن ورثتها. وإن قتلت فعقلها بين ورثتها وهم يقتلون قاتلها». وقال النسائي في سننه: أخبرنا محمد بن المثنى، عن معاذ بن هانىء قال: حدثني محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار (ح) وأخبرنا أبو داود قال: حدثنا معاذ بن هانىء قال: حدثنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قتل رجل رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجعل النَّبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً ـ وذكر قوله: {إِلاَ أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} في أخذهم الدية واللفظ لأبي داود: أخبرنا محمد بن ميمون قال: حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس:
أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «قضى باثني عشر ألفاً» يعني في الدية ـ انتهى كلام النسائي رحمه الله.
وقال أبو داود في سننه أيضاً: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري، ثنا زيد بن الحباب، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رجلاً من بني عدي قتل. فجعل النَّبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً. قال أبو داود: رواه ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر ابن عباس.
وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا العباس بن جعفر، ثنا محمد بن سنان، ثنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «جعل الدية اثني عشر ألفاً» قال: وذلك قوله: {وَمَا نَقَمُوۤاْ إِلاَ أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} قال: بأخذهم الدية.
وفي الموطأ عن مالك: أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. قال مالك: فأهل الذهب أهل الشام وأهل مصر، وأهل الورق أهل العراق.
وعن مالك في الموطأ أيضاً: أنه سمع أن الدية تقطع في ثلاث سنين أو أربع سنين. قال مالك: والثلاث أحب ما سمعت إلى في ذلك.
قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا يقبل من أهل القرى في الدية الإبل، ولا من أهل العمود الذهب ولا الورق، ولا من أهل الذهب الورق، ولا من أهل الورق الذهب.
فروع تتعلق بهذه المسألة.
الأول ـ جمهور أهل العلم على أن الدية في الخطأ وشبه العمد مؤجلة في ثلاث سنين، يدفع ثلثها في كل واحد من السنين الثلاث.
قال ابن قدامة في «المغني»: ولا خلاف بينهم في أنها مؤجلة في ثلاث سنين. فإن عمر وعلياً رضي الله عنهما جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين، ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفاً. فاتبعهم على ذلك أهل العلم اهـ.
قال مقيده عفا الله عنه: ومثل هذا يسمى إجماعاً سكوتياً، وهو حجة ظنية عند جماعة من أهل الأصول، وأشار إلى ذلك صاحب «مراقي السعود» مع بيان شرط الاحتجاج به عند من يقول بذلك بقوله:
وجعل من سكت مثل من أقر فيه خلاف بينهم قد اشتهر
فالاحتجاج بالسكوتي نما تفريعه عليه من تقدما
وهو بفقد السخط والضد حرى مع مضي مهلة للنظر
وتأجيلها في ثلاث سنين هو قول أكثر أهل العلم.
الفرع الثاني ـ اختلف العلماء في نفس الجاني. هل يلزمه قسط من دية الخطأ كواحد من العاقلة، أو لا.
فمذهب أبي حنيفة، ومشهور مذهب مالك: أن الجاني يلزمه قسط من الدية كواحد من العاقلة.
وذهب الإمام أحمد، والشافعي: إلى أنه لا يلزمه من الدية شيء، لظاهر حديث أبي هريرة المتفق عليه المتقدم: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «قضى بالدية على عاقلة المرأة» وظاهره قضاؤه بجميع الدية على العاقلة. وحجة القول الآخر: أن أصل الجناية عليه وهم معينون له. فيتحمل عن نفسه مثل ما يتحمل رجل من عاقلته.
الفرع الثالث ـ اختلف العلماء في تعيين العاقلة التي تحمل عن الجاني دية الخطأ.
فمذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أن العاقلة هم أهل ديوان القاتل إن كان القاتل من أهل ديوان، وأهل الديوان أهل الرايات، وهم الجيش الذين كتبت أسماؤهم في الديوان لمناصرة بعضهم بعضاً، تؤخذ الدية من عطاياهم في ثلاث سنين.
وإن لم يكن من أهل ديوان فعاقلته قبيلته، وتقسم عليهم في ثلاث سنين. فإن لم تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل نسباً على ترتيب العصبات.
ومذهب مالك رحمه الله ـ البداءة بأهل الديوان أيضاً. فتؤخذ الدية من عطاياهم في ثلاث سنين. فإن لم يكن عطاؤهم قائماً فعاقلته عصبته الأقرب فالأقرب. ولا يحمل النساء ولا الصبيان شيئاً من العقل.
وليس لأموال العاقلة حد إذا بلغته عقلوا، ولا لما يؤخذ منهم حد. ولا يكلف أغنياؤهم الأداء عن فقرائهم.
ومن لم تكن له عصبة فعقله في بيت مال المسلمين.
والموالي بمنزلة العصبة من القرابة. ويدخل في القرابة الابن والأب.
قال سحنون: إن كانت العاقلة ألفاً فهم قليل، يضم إليهم أقرب القبائل إليهم.
ومذهب أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يؤخذ من واحد من أفراد العصبة من الدية أكثر من درهم وثلث في كل سنة من السنين الثلاث. فالمجموع أربعة دراهم.
ومذهب أحمد والشافعي: أن أهل الديوان لا مدخل لهم في العقل إلا إذا كانوا عصبة. ومذهبهما رحمهما الله: أن العاقلة هي العصبة، إلا أنهم اختلفوا هل يدخل في ذلك الأبناء والآباء؟ فعن أحمد في إحدى الروايتين: أنهم داخلون في العصبة. لأنهم أقرب العصبة. وعن أحمد رواية أخرى والشافعي: أنهم لا يدخلون في العاقلة. لظاهر حديث أبي هريرة المتفق عليه المتقدم: «أن ميراث المرأة لولدها، والدية على عاقلتها» وظاهره عدم دخول أولادها. فقيس الآباء على الأولاد.
وقال ابن قدامة في «المغني»: واختلف أهل العلم فيما يحمله كل واحد منهم.
فقال أحمد. يحملون على قدر ما يطيقون. هذا لا يتقدر شرعاً. وإنما يرجح فيه إلى اجتهاد الحاكم. فيفرض على كل واحد قدراً يسهل ولا يؤذي، وهذا مذهب مالك. لأن التقدير لا يثبت إلا بتوقيف. ولا يثبت بالرأي والتحكم. ولا نص في هذه المسألة فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم كمقادير النفقات.
وعن أحمد رواية أخرى: أنه يفرض على الموسر نصف مثقال. لأنه أقل مال يتقدر في الزكاة فكان معبراً بها. ويجب على المتوسط ربع مثقال، لأن ما دون ذلك تافه لكون اليد لا تقطع فيه. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: لا تقطع اليد في الشيء التافه، وما دون ربع دينار لا تقطع فيه. وهذا اختيار أبي بكر، ومذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة: أكثر ما يحمل على الواحد أربعة دراهم، وليس لأقله حد اهـ كلام صاحب «المغني».
الفرع الرابع ـ لا تحمل العاقلة شيئاً من الكفارة المنصوص عليها في قوله {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً} بل هي في مال الجاني إجماعاً. وشذ من قال: هي في بيت المال.
والكفارة في قتل الخطأ واجبة إجماعاً بنص الآية الكريمة الصريحة في ذلك.
واختلفوا في العمد، واختلافهم فيه مشهور، وأجرى القولين على القياس عندي قول من قال: لا كفارة في العمد، لأن العمد في القتل أعظم من أن يكفره العتق. لقوله تعالى في القاتل عمداً: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيم} فهذا الأمر أعلى وأفخم من أن يكفر بعتق رقبة. والعلم عند الله تعالى.
والدية لا تحملها العاقلة إن كان القتل خطأ ثابتاً بإقرار الجاني ولم يصدقوه، بل إنما تحملها إن ثبت القتل بينة، كما ذهب إلى هذا عامة أهل العلم، منهم ابن عباس، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، والزهري، وسليمان بن موسى، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق. وبه قال الشافعي، وأحمد، ومالك، وأبو حنيفة وغيرهم. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس ـ جمهور العلماء على أن دية المرأة الحرة المسلمة نصف دية الرجل الحر المسلم على ما بينا.
قال ابن المنذر، وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل. وحكى غيرهما عن ابن علية والأصم أنهما قالا: ديتها كدية الرجل. وهذا قول شاذ، مخالف لإجماع الصحابة كما قاله صاحب المغني.
وجراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى ثلث الدية، فإن بلغت الثلث فعلى النصف. قال ابن قدامة في «المغني»: وروي هذا عن عمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت. وبه قال سعيد بن المسيب. وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير، والزهري وقتادة، والأعرج، وربيعة، ومالك.
قال ابن عبد البر: وهو قول فقهاء المدينة السبعة. وجمهور أهل المدينة وحكي عن الشافعي في القديم.
وقال الحسن: يستويان إلى النصف. وروي عن علي رضي الله عنه: أنها على النصف فيما قل أو أكثر. وروي ذلك عن ابن سيرين. وبه قال الثوري، والليث، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو حنيفة وأصحابه. وأبو ثور، والشافعي في ظاهر مذهبه، واختاره ابن المنذر. لأنهما شخصان تختلف دية نفسهما فاختلف أرش جراحهما اهـ وهذا القول أقيس.
قال مقيده عفا الله عنه: كلام ابن قدامة والخرقي صريح في أن ما بلغ ثلث الدية يستويان فيه، وأن تفضيله عليها بنصف الدية إنما هو فيما زاد على الثلث. فمقتضى كلامهما أن دية جائفة المرأة ومأمومتها كدية جائفة الرجل ومأمومته. لأن في كل من الجائفة والمأمومة ثلث الدية، وأن عقلها لا يكون على النصف من عقله إلا فيما زاد على الثلث، كدية أربعة أصابع من اليد، فإن فيها أربعين من الإبل، إذ في كل إصبع عشر، والأربعون أكثر من ثلث المائة. وكلام مالك في الموطإ وغيره صريح في أن ما بلغ الثلث كالجائفة والمأمومة تكون دية المرأة فيه على النصف من دية الرجل، وأن محل استوائها إنما هو فيما دون الثلث خاصة كالموضحة والمنقلة، والإصبع والإصبعين والثلاثة. وهما قولان معروفان لأهل العلم. وأصحهما هو ما ذكرناه عن مالك، ورجحه ابن قدامة في آخر كلامه بالحديث الآتي إن شاء الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول مشكل جداً لأنه يقتضي أن المرأة إن قطعت من يدها ثلاثة أصابع كانت ديتها ثلاثين من الإبل كأصابع الرجل لأنها دون الثلث. وإن قطعت من يدها أربعة أصابع كانت ديتها عشرين من الإبل، لأنها زادت على الثلث فصارت على النصف من دية الرجل. وكون دية الأصابع الثلاثة ثلاثين من الإبل، ودية الأصابع الأربعة في غاية الإشكال كما ترى.
وقد استشكل هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، على سعيد بن المسيب، فأجابه بأن هذا هو السنة. ففي موطإ مالك رحمه الله عن مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: سألت سعيد بن المسيب كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل. فقلت: كم في إصبعين؟ قال: عشرون من الإبل. فقلت كم في ثلاث؟ فقال: ثلاثون من الإبل. فقلت: كم في أربع؟ قال: عشرون من الإبل. فقلت: حين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها نقص عقلها؟ فقال سعيد: أعراقي أنت؟ فقلت. بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم. فقال سعيد: هي السنة يا بن أخيٰ
وظاهر كلام سعيد هذا: أن هذا من سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم. ولو قلنا: إن هذا له حكم الرفع فإنه مرسل، لأن سعيداً لم يدرك زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم. ومراسيل سعيد بن المسيب قد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة «الأنعام» مع أن بعض أهل العلم قال: إن مراده بالسنة هنا سنة أهل المدينة.
وقال النسائي رحمه الله في سننه: أخبرنا عيسى بن يونس قال: حدثنا حمزة، عن إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها» اهـ وهذا يعضد قول سعيد.
إن هذا هو السنة.
قال مقيده عفا الله عنه: إسناد النسائي هذا ضعيف فيما يظهر من جهتين.
إحداهما ـ أن اسماعيل بن عياش رواه عن ابن جريج، ورواية إسماعيل المذكور عن غير الشاميين ضعيفة كما قدمنا إيضاحه. وابن جريج ليس بشامي، بل هو حجازي مكي.
الثانية ـ أن ابن جريج عنعنه عن عمرو بن شعيب، وابن جريج رحمه الله مدلس، وعنعنة المدلس لا يحتج بها ما لم يثبت السماع من طريق أخرى كما تقرر في علوم الحديث. ويؤيد هذا الإعلال ما قاله الترمذي رحمه الله: من أن محمد بن إسماعيل يعني البخاري قال. إن ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب، كما نقله عنه ابن حجر في «تهذيب التهذيب» في ترجمة ابن جريج المذكور.
وبما ذكرنا تعلم أن تصحيح ابن خزيمة لهذا الحديث غير صحيح. وإن نقله عنه ابن حجر في «بلوغ المرام» وسكت عليه. والله أعلم. وهذا مع ما تقدم من كون ما تضمنه هذا الحديث يلزمه أن يكون في ثلاثة أصابع من أصابع المرأة ثلاثون، وفي أربعة أصابع عشرون. وهذا مخالف لما عهد من حكمة هذا الشرع الكريم كما ترى. اللهم إلا أن يقال: إن جعل المرأة على النصف من الرجل فيما بلغ الثالث فصاعداً أنه في الزائد فقط. فيكون في أربعة أصابع من أصابعها خمس وثلاثون، فيكون النقص في العشرة الرابعة فقط. وهذا معقول وظاهر، والحديث محتمل له، والله أعلم.
ومن الأدلة على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ـ ما رواه البيهقي في السنن الكبرى من وجهين عن عبادة بن نُسَي، عن ابن غنم، عن معاذ بن جبل قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دية المرأة على النصف من دية الرجل» ثم قال البيهقي رحمه الله: وروي من وجه آخر عن عبادة بن نسي وفيه ضعف. ومعلوم أن عبادة بن نُسَي ثقة فاضل. فالضعف الذي يعنيه البيهقي من غيره. وأخرج البيهقي أيضاً عن علي مرفوعاً «دية المرأة على النصف من دية الرجل في الكل» وهو من رواية إبراهيم النخعي عنه وفيه انقطاع. وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه، وأخرجه أيضاً من وجه آخر عنه وعن عمر ـ قاله الشوكاني رحمه الله.
الفرع السادس ـ اعلم أن أصح الأقوال وأظهرها دليلاً: أن دية الكافر الذمي على النصف من دية المسلم. كما قدمنا عن أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن دية أهل الكتاب كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف من دية المسلمين، وأن عمر لم يرفعها فيما رفع عند تقويمه الدية لما غلت الإبل.
وقال أبو داود أيضاً في سننه: حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي، ثنا عيسى بن يونس، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال «دية المعاهد نصف دية الحر» قال أبو داود: ورواه أسامة بن زيد الليثي، وعبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب مثله اهـ.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى.. ـ وذكر كلمة معناها ـ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين ـ وهم اليهود والنصارى» أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح قال: أنبأنا ابن وهب قال: أخبرني أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عقل الكافر نصف عقل المؤمن».
وقال ابن ماجه رحمه الله في سننه: حدثنا هشام بن عمار، ثنا حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن عياش، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين، وهم اليهود والنصارى». وأخرج نحوه الإمام أحمد، والترمذي، عن عمرو عن أبيه عن جده.
قال الشوكاني في «نيل الأوطار». وحديث عمرو بن شعيب هذا حسنه الترمذي، وصححه ابن الجارود. وبهذا تعلم أن هذا القول أولى من قول من قال: دية أهل الذمة كدية المسلمين. كأبي حنيفة ومن وافقه. ومن قال: إنها قدر ثلث دية المسلم. كالشافعي ومن وافقه. والعلم عند الله تعالى.
واعلم أن الروايات التي جاءت بأن دية الذمي والمعاهد كدية المسلم ضعيفة لا يحتج بها. وقد بين البيهقي رحمه الله تعالى ضعفها في «السنن الكبرى» وقد حاول ابن التركماني رحمه الله في حاشيته على سنن البيهقي أن يجعل تلك الروايات صالحة للاحتجاج، وهي ليس فيها شيء صحيح.
أما الاستدلال بظاهر قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ} فيقال فيه: هذه دلالة اقتران، وهي غير معتبرة عند الجمهور. وغاية ما في الباب: أن الآية لم تبين قدر دية المسلم ولا الكافر، والسنة بينت أن دية الكافر على النصف من دية المسلم. وهذا لا إشكال فيه.
أما استواؤهما في قدر الكفارة فلا دليل فيه على الدية. لأنها مسألة أخرى.
الأدلة التي ذكرنا دلالتها أنها على النصف من دية المسلم أقوى، ويؤيدها: أن في الكتاب الذي كتبه النَّبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: «وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل» فمفهوم قوله «المؤمنة» أن النفس الكافرة ليست كذلك. على أن المخالف في هذه الإمام أبو حنيفة رحمه الله، والمقرر في أصوله: أنه لا يعتبر دليل الخطاب أعني مفهوم المخالفة كما هو معلوم عنه. ولا يقول بحمل المطلق على المقيد. فيستدل بإطلاق النفس عن قيد الإيمان في الأدلة الأخرى على شمولها للكافر. والقول بالفرق بين الكافر المقتول عمداً فتكون ديتة كدية المسلم، وبين المقتول خطأ فتكون على النصف من دية المسلم ـ لا نعلم له مستنداً من كتاب ولا سنة. والعلم عند الله تعالى.
وأما دية المجوسي ـ فأكثر أهل العلم على أنها ثلث خمس دية المسلم. فهو ثمانمائة درهم. ونساؤهم على النصف من ذلك.
وهذا قول مالك، والشافعي، وأحمد، وأكثر أهل العلم. منهم عمر وعثمان، وابن مسعود رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وإسحاق.
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ديته نصف دية المسلم كدية الكتابي.
وقال النخعي، والشعبي: ديته كدية المسلم. وهذا هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
والاستدلال على أن دية المجوسي كدية الكتابي بحديث «سنُّوا بهم سنَّة أهل الكتاب» لا يتجه. لأنا لو فرضنا صلاحية الحديث للاحتجاج، فالمراد به أخذ الجزية منهم فقط. بدليل أن نساءهم لا تحل، وذبائحهم لا تؤكل اهـ.
وقال ابن قدامة في «المغني»: إن قول من ذكرنا من الصحابة: إن دية المجوسي ثلث خمس دية المسلم، لم يخالفهم فيه أحد من الصحابة فصار إجماعاً سكوتياً. وقد قدمنا قول من قال: إنه حجة.
وقال بعض أهل العلم: دية المرتد إن قتل قبل الاستتابة كدية المجوسي. وهو مذهب مالك. وأما الحربيون فلا دية لهم مطلقاً. والعلم عند الله تعالى.
الفرع السابع ـ اعلم أن العلماء اختلفوا في موجب التغليظ في الدية. وبم تغلظ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها تغلظ بثلاثة أشياء: وهي القتل في الحرم، وكون المقتول محرماً بحج أو عمرة، أو في الأشهر الحرم. فتغلظ الدية في كل واحد منها بزيادة ثلثها.
فمن قتل محرماً فعليه دية وثلث. ومن قتل محرماً في الحرم فدية وثلثان. ومن قتل محرماً في الحرم في الشهر الحرام فديتان.
وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله. وروي نحوه عن عمر، وعثمان، وابن عباس رضي الله عنهم. نقله عنهم البيهقي وغيره.
وممن روى عنه هذا القول: سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، والشعبي، ومجاهد، وسليمان بن يسار، وجابر بن زيد. وقتادة، والأوزاعي، وإسحاق، وغيرهم. كما نقله عنهم صاحب المغني.
وقال أصحاب الشافعي رحمه الله: تغلظ الدية بالحرم، والأشهر الحرم، وذي الرحم المحرم، وفي تغليظها بالإحرام عنهم وجهان.
وصفة التغليظ عند الشافعي: هي أن تجعل دية العمد في الخطأ. ولا تغلظ الدية عند مالك رحمه الله في قتل الوالد ولده قتلاً شبه عمد. كما فعل المدلجي بأبيه. والجد والأم عنده كالأب.
وتغليظها عنده: هو تثليثها بكونها ثلاثين حقه، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة في بطونها أولادها، لا يبالي من أي الأسنان كانت. ولا يرث الأب عنده في هذه الصورة من دية الولد ولا من ماله شيئاً.
وظاهر الأدلة أن القاتل لا يرث مطلقاً من دية ولا غيرها، سواء كان القتل عمداً أو خطأ.
وفرق المالكية في الخطأ بين الدية وغيرها. فمنعوا ميراثه من الدية دون غيرها من مال التركة. والإطلاق أظهر من هذا التفصيل، والله أعلم. وقصة المدلجي: هي ما رواه مالك في الموطإ، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن شعيب: أن رجلاً من بني مدلج يقال له «قتادة» حذف ابنه بالسيف. فأصاب ساقه فنزى في جرحه فمات. فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له. فقال له عمر: أعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك. فلما قدم إليه عمر بن الخطاب أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، وقال: أين أخو المقتول؟ قال: ها أنذا. قال: خذها. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس لقاتل شيء».
الفرع الثامن ـ اعلم أن دية المقتول ميراث بين ورثته. كسائر ما خلفه من تركته.
ومن الأدلة الدالة على ذلك، ما روي عن سعيد بن المسيب: أن عمر رضي الله عنه قال: الدية للعاقلة، لا ترث المرأة من دية زوجها. حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه. ورواه مالك في الموطإ من رواية ابن شهاب عن عمر وزاد: قال ابن شهاب: وكان قتلهم أشيم خطأ. وما روي عن الضحاك بن سفيان رضي الله عنه. روي نحوه عن المغيرة بن شعبة وزرارة بن جري. كما ذكره الزرقاني في شرح الموطإ.
ومنها ما رواه عمر بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «قضى أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. وقد قدمنا نص هذا الحديث عند النسائي في حديث طويل.
وهذا الحديث قواه ابن عبد البر، وأعله النسائي. قاله الشوكاني. وهو معتضد بما تقدم وبما يأتي، وبإجماع الحجة من أهل العلم على مقتضاه.
ومنها ما رواه البخاري في تاريخه عن قرة بن دعموص النميري قال: أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم أنا وعمي، فقلت: يا رسول الله، عند هذا دية أبي فمره يعطنيها وكان قتل في الجاهلية. فقال: «أعطه دية أبيه» فقلت: هل لأمي فيها حق؟ قال: «نعم» وكانت ديته مائة من الإبل.
وقد ساقه البخاري في التاريخ هكذا: قال قيس بن حفص: أنا الفضيل بن سليمان النميري قال: أنا عائذ بن ربيعة بن قيس النميري قال: حدثني قرة بن دعموص قال: أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم أنا وعمي ـ إلى آخر الحديث باللفظ الذي ذكرنا. وسكت عليه البخاري رحمه الله. ورجال إسناده صالحون للاحتجاج. إلا عائذ بن ربيعة بن قيس النميري فلم نر من جرحه ولا من عدله.
وذكر له البخاري في تاريخه، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ترجمة، وذكراً أنه سمع قرة بن دعموص ـ ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً.
وظاهر هذه الأدلة يقتضي أن دية المقتول تقسم كسائر تركته على فرائض الله، وهو الظاهر. سواء كان القتل عمداً أو خطأ. ولا يخلو ذلك من خلاف.
وروي عن علي رضي الله عنه أنها ميراث كقول الجمهور، وعنه رواية أخرى: أن الدية لا يرثها إلا العصبة الذين يعقلون عنه، وكان هذا هو رأي عمر، وقد رجع عنه لما أخبره الضحاك بأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم إياه: أن يورث زوجة أشيم المذكور من دية زوجها.
وقال أبو ثور: هي ميراث، ولكنها لا تقضي منها ديونه. ولا تنفذ منها وصاياه. وعن أحمد رواية بذلك.
قال ابن قدامة في «المغني»: وقد ذكر الخرقي فيمن أوصى بثلث ماله لرجل فقتل وأخذت ديته. فللموصى له بالثلث ثلث الدية ـ في إحدى الروايتين.
والأخرى: ليس لمن أوصى له بالثلث من الدية شيء.
ومبنى هذا: على أن الدية ملك للميت، أو على ملك الورثة ابتداء. وفيه روايتان: إحداهما أنها تحدث على ملك الميت. لأنها بدل نفسه، فيكون بدلها له كدية أطرافه المقطوعة منه في الحياة، ولأنه لو أسقطها عن القاتل بعد جرحه إياه كان صحيحاً وليس له إسقاط حق الورثة، ولأنها مال موروث فاشبهت سائر أمواله. والأخرى أنها تحدث على ملك الورثة ابتداء. لأنها إنما تستحق بعد الموت وبالموت تزول أملاك الميت الثابتة له، ويخرج عن أن يكون أهلاً لذلك، وإنما يثبت الملك لورثته ابتداء. ولا أعلم خلافاً في أن الميت يجهز منها اهـ محل الغرض من كلام ابن قدامة رحمه الله.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر القولين عندي: أنه يقرر ملك الميت لديته عند موته فتورث كسائر أملاكه. لتصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم للضحاك في الحديث المذكور بتوريث امرأة أشيم الضبابي من ديته. والميراث لا يطلق شرعاً إلا على ما كان مملوكاً للميت، والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة ـ اختلف العلماء في تعيين ولي المقتول الذي جعل الله له هذا السلطان المذكور في هذه الآية الكريمة في قوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـٰن}.
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المراد بالولي في الآية: الورثة من ذوي الأنساب والأسباب، والرجال والنساء، والصغار والكبائر. فإن عفا من له ذلك منهم صح عفوه وسقط به القصاص، وتعينت الدية لمن لم يعف.
وهذا مذهب الإمام أحمد بن حنبل، والإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي رحمهم الله تعالى.
وقال ابن قدامة في «المغني»: هذا قول أكثر أهل العلم. منهم عطاء، والنخعي، والحكم، وحماد والثوري، وأبو حنيفة، والشافعي. وروي معنى ذلك عن عمر، وطاوس، والشعبي. وقال الحسن، وقتادة، والزهري، وابن شبرمة، والليث، والأوزاعي: ليس للنساء عفو. أي فهن لا يدخلن عندهم في اسم الولي الذي له السلطان في الآية.
ثم قال ابن قدامة: والمشهور عن مالك أنه موروث للعصبات خاصة. وهو وجه لأصحاب الشافعي.
قال مقيده عفا الله عنه: مذهب مالك في هذه المسألة فيه تفصيل: فالولي الذي له السلطان المذكور في الآية الذي هو استيفاء القصاص أو العفو ـ عنده هو أقرب الورثة العصبة الذكور، والجد والإخوة في ذلك سواء. وهذا هو معنى قول خليل في مختصره والاستيفاء للعاصب كالولاء، إلا الجد والإخوة فسيان اهـ.
وليس للزوجين عنده حق في القصاص ولا العفو، وكذلك النساء غير الوارثات: كالعمات، وبنات الإخوة، وبنات العم.
أما النساء الوارثات: كالبنات. والأخوات، والأمهات فلهن القصاص. وهذا فيما إذا لم يوجد عاصب مساو لهن في الدرجة.
وهذا هو معنى قول خليل في مختصره: وللنساء إن ورثن ولم يساوهن عاصب.
فمفهوم قوله «إن ورثن» أن غير الوارثات لا حق لهن، وهو كذلك.
ومفهوم قوله: «ولم يساوهن عاصب» أنهن إن ساواهن عاصب: كبنين، وبنات، وإخوة وأخوات، فلا كلام للإناث مع الذكور. وأما إن كان معهن عاصب غير مساو لهن: كبنات، وإخوة. فثالث الأقوال هو مذهب المدونة: أن لكل منها القصاص ولا يصح العفو عنه إلا باجتماع الجميع. أعني ولو عفا بعض هؤلاء، وبعض هؤلاء. وهذا هو معنى قول خليل في مختصره: ولكل القتل ولا عفو إلا باجتماعهم. يعني ولو بعض هؤلاء وبعض هؤلاء.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يقتضي الدليل رجحانه عندي في هذه المسألة: أن الولي في هذه الآية هم الورثة ذكوراً كانوا أو إناثاً. ولا مانع من إطلاق الولي على الأنثى. لأن المراد جنس الولي الشامل لكل من انعقد بينه وبين غيره سبب يجعل كلاً منهما يوالي الآخر. كقوله تعالى: {وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}، وقوله: {وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ}.
والدليل على شمول الولي في الآية للوارثات من النساء ولو بالزوجية ـ الحديث الوارد بذلك، قال أبو داود في سننه: (باب عفو النساء عن الدم) حدثنا داود بن رشيد، ثنا الوليد عن الأزواعي: أنه سمع حصنا، أنه سمع أبا سلمة يخبر عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة».
قال أبو داود: بلغني أن عفو النساء في القتل جائز إذا كانت إحدى الأولياء. وبلغني عن أبي عبيدة في قوله «ينحجزوا» يكفوا عن القود.
وقال النسائي رحمه الله في سننه: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا الوليد بن الأوزاعي قال: حدثني حصين قال: حدثني أبو سلمة (ح) وأنبأنا الحسين بن حريث قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثني حصين: أنه سمع أبا سلمة يحدث عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة» اهـ.
وهذا الإسناد مقارب. لأن رجاله صالحون للاحتجاج، إلا حصناً المذكور فيه ففيه كلام.
فطبقته الأولى عند أبي داود: هي داود بن رشيد الهاشمي مولاهم الخوارزمي نزيل بغداد وهو ثقة. وعند النسائي حسين بن حريث، وإسحاق بن إبراهيم. وحسين بن حريث الخزاعي مولاه أبو عمار المروزي ثقة.
والطبقة الثانية عندهما: هي الوليد بن مسلم القرشي مولاهم أبو العباس الدمشقي ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية، وهو من رجال البخاري ومسلم وباقي الجماعة.
والطبقة الثالثة عندهما: هي الإمام الأوزاعي وهو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو أبو عمر الأوزاعي، وهو الإمام الفقيه المشهور، ثقة جليل.
والطبقة الرابعة عندهما: هي حصن المذكور وهو ابن عبد الرحمن، أو ابن محصن التراغمي أبو حذيفة الدمشقي، قال فيه ابن حجر في «التقريب»: مقبول. وقال فيه في «تهذيب التهذيب»: قال الدارقطني شيخ يعتبر به، له عند أبي داود والنسائي حديث واحد «على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة» (قلت): وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن القطان لا يعرفه حاله (ا هـ) وتوثيق ابن حبان له لم يعارضه شيء مانع من قبوله. لأن من اطلع على أنه ثقة حفظ ما لم يحفظه مدعي أنه مجهول لا يعرف حاله. وذكر ابن حجر في «تهذيب التهذيب» عن أبي حاتم ويعقوب بن سفيان أنهما قالا: لا نعلم أحداً روى عنه غير الأوزاعي.
والطبقة الخامسة عندهما: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وهو ثقة مشهور.
والطبقة السادسة عندهما: عائشة رضي الله عنها عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. فقد رأيت أن ابن حبان رحمه الله ذكر حصنا المذكور في الثقات. وأن بقية طبقات السند كلها صالح للاحتجاج. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
إذا كان بعض أولياء الدم صغيراً، أو مجنوناً، أو غائباً. فهل للبالغ الحاضر العاقل: القصاص قبل قدوم الغائب، وبلوغ الصغير، وإفاقة المجنون؟ أو يجب انتظار قدوم الغائب، وبلوغ الصغير..! الخ.
فإن عفا الغائب بعد قدومه، أو الصغير بعد بلوغه مثلاً سقط القصاص ووجبت الدية. في ذلك خلاف مشهور بين أهل العلم.
فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنه لا بد من انتظار بلوغ الصغير، وقدوم الغائب، وإفاقة المجنون.
وهذا هو ظاهر مذهب الإمام أحمد. قال ابن قدامة: وبهذا قال ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأبو يوسف، وإسحاق، ويروى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله. وعن أحمد رواية أخرى للكبار العقلاء استيفاؤه. وبه قال حماد، ومالك، والأوزاعي، والليث، وأبو حنيفة اهـ محل الغرض من كلام صاحب المغني.
وذكر صاحب المغني أيضاً: أنه لا يعلم خلافاً في وجوب انتظار قدوم الغائب. ومنه استبداد الحاضر دونه.
قال مقيده عفا الله عنه: إن كانت الغيبة قريبة فهو كما قال. وإن كانت بعيدة ففيه خلاف معروف عند المالكية. وظاهر المدونة الانتظار ولو بعدت غيبته.
وقال بعض علماء المالكية منهم سحنون: لا ينتظر بعيد الغيبة. وعليه درج خليل بن إسحاق في مختصره في مذهب مالك، الذي قال في ترجمته مبيناً لما به الفتوى بقوله: (وانتظر غائب لم تبعد غيبته. لا مطبق وصغير لم يتوقف الثبوت عليه).
وقال ابن قدامة في «المغني» ما نصه: والدليل على أن للصغير والمجنون فيه حقاً أربعة أمور: أحدها ـ أنه لو كان منفرداً لاستحقه. ولو نافاه الصغر مع غيره لنافاه منفرداً كولاية النكاح. والثاني ـ أنه لو بلغ لاستحق. ولو لم يكن مستحقاً عند الموت لم يكن مستحقاً بعده. كالرقيق إذا عتق بعد موت أبيه. والثالث ـ أنه لو صار الأمر إلى المال لاستحق، ولو لم يكن مستحقاً للقصاص لما استحق بدله كالأجنبي. والرابع ـ أنه لو مات الصغير لاستحقه ورثته، ولو لم يكن حقاً لم يرثه كسائر ما لم يستحقه.
واحتج من قال: إنه لا يلزم انتظار بلوغ الصبي ولا إفاقة المجنون المطبق بأمرين:
أحدهما ـ أن القصاص حق من حقوق القاصر، إلا أنه لما كان عاجزاً عن النظر لنفسه كان غيره يتولى النظر في ذلك كسائر حقوقه فإن النظر فيها لغيره، ولا ينتظر بلوغه في جميع التصرف بالمصلحة في جميع حقوقه. وأولى من ينوب عنه في القصاص الورثة المشاركون له فيه. وهذا لا يرد عليه شيء من الأمور الأربعة التي ذكرها صاحب المغني. لأنه يقال فيه بموجبها فيقال فيه: هو مستحق لكنه قاصر في الحال، فيعمل غيره بالمصلحة في حقه في القصاص كسائر حقوقه. ولا سيما شريكه الذي يتضرر بتعطيل حقه في القصاص إلى زمن بعيد.
الأمر الثاني ـ أن الحسن بن علي رضي الله عنه قتل عبد الرحمن بن ملجم المرادي قصاصاً بقتله علياً رضي الله عنه، وبعض أولاد علي إذ ذاك صغار، ولم ينتظر بقتله بلوغهم، ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة ولا غيرهم. وقد فعل ذلك بأمر علي رضي الله عنه كما هو مشهور في كتب التاريخ. ولو كان انتظار بلوغ الصغير واجباً لانتظره.
وأجيب عن هذا من قبل المخالفين بجوابين: أحدهما ـ أن ابن ملجم كافر. لأنه مستحل دم علي، ومن استحل دم مثل علي رضي الله عنه فهو كافر. وإذا كان كافراً فلا حجة في قتله. الثاني ـ أنه ساع في الأرض بالفساد، فهو محارب، والمحارب إذا قتل وجب قتله على كل حال ولو عفا أولياء الدم.
كما قدمناه في سورة «المائدة» وإذن فلا داعي للانتظار.
قال: البيهقي في السنن الكبرى ما نصه: قال بعض أصحابنا: إنما استبد الحسن بن علي رضي الله عنهما بقتله قبل بلوغ الصغار من ولد علي رضي الله عنه. لأنه قتله حداً لكفره لا قصاصاً.
وقال ابن قدامة في «المغني»: فأما ابن ملجم فقد قيل إنه قتله بكفره. لأنه قتل علياً مستحلاً لدمه، معتقداً كفره، متقرباً بذلك إلى الله تعالى. وقيل: قتله لسعيه في الأرض بالفساد وإظهار السلاح، فيكون كقاطع الطريق إذا قتل، وقتله متحتم، وهو إلى الإمام. والحسن هو الإمام، ولذلك لم ينتظر الغائبين من الورثة. ولا خلاف بيننا في وجوب انتظارهم. وإن قدر أنه قتله قصاصاً فقد اتفقنا على خلافه. فكيف يحتج به بعضنا على بعض. انتهى كلام صاحب المغني.
وقال ابن كثير في تاريخه ما نصه: قال العلماء: ولم ينتظر بقتله بلوغ العباس بن علي. فإنه كان صغيراً يوم قتل أبوه. قالوا: لأنه كان قتل محاربة لا قصاصاً. والله أعلم اهـ.
واستدل القائلون بأن ابن ملجم كافر بالحديث الذي رواه علي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أشقى الأولين»؟ قلت: عاقر الناقة. قال: «صدقت. فمن أشقى الآخرين»؟ قلت: لا علم لي يا رسول الله. قال: «الذي يضربك على هذا ـ وأشار بيده على يافوخه ـ فيخضب هذه من هذه ـ يعني لحيته ـ من دم رأسه» قال: فكان يقول: وددت أنه قد انبعث أشقاكم» وقد ساق طرق هذا الحديث ابن كثير رحمه الله في تاريخه، وابن عبد البر في «الاستيعاب» وغيرهما.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي عليه أهل التاريخ والأخبار ـ والله تعالى أعلم ـ أن قتل ابن ملجم كان قصاصاً لقتله علياً رضي الله عنه. لا لكفر ولا حرابة. وعلي رضي الله عنه لم يحكم بكفر الخوارج. ولما سئل عنهم قال: من الكفر فروا. فقد ذكر المؤرخون أن علياً رضي الله عنه أمرهم أن يحبسوا ابن ملجم ويحسنوا إساره، وأنه إن مات قتلوه به قصاصاً، وإن حي فهو ولي دمه. كما ذكره ابن جرير، وابن الأثير، وابن كثير وغيرهم في تواريخهم.
وذكره البيهقي في سننه، وهو المعروف عند الإخباريين. ولا شك أن ابن ملجم متأول ـ قبحه الله ـ ولكنه تأويل بعيد فاسد، مورد صاحبه النار، ولما ضرب علياً رضي الله عنه قال: الحكم لله يا علي، لا لك ولا لأصحابكٰ ومراده أن رضاه بتحكيم الحكمين: أبي موسى، وعمرو بن العاص ـ كفر بالله لأن الحكم لله وحده. لقوله: {إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ}.
ولما أراد أولاد علي رضي الله عنه أن يتشفوا منه فقطعت يداه ورجلاه لم يجزع، ولا فتر عن الذكر. ثم كحلت عيناه وهو في ذلك يذكر الله، وقرأ سورة {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ} إلى آخرها، وإن عينيه لتسيلان على خديه. ثم حاولوا لسانه ليقطعوه فجزع من ذلك جزعاً شديداً. فقيل له في ذلك؟ فقال: إني أخاف أن أمكث فواقاً لا أذكر الله (ا هـ) ذكره ابن كثير وغيره.
ولأجل هذا قال عمران بن حطان السدوسي يمدح ابن ملجم ـ قبحه الله ـ في قتله أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه: يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه أو في البرية عند الله ميزانا
وجزى الله خيراً الشاعر الذي يقول في الرد عليه: قل لابن ملجم والأقدار غالبة هدمت ويلك للإسلام أركانا
قتلت أفضل من يمشي على قدم وأول الناس إسلاماً وإيمانا
وأعلم الناس بالقرآن ثم بما سن الرسول لنا شرعاً وتبيانا
صهر النَّبي ومولاه وناصره أضحت مناقبه نوراً وبرهانا
وكان منه على رغم الحسود له مكان هارون من موسى بن عمرانا
ذكرت قاتله والدمع منحدر فقلت:
سبحان رب العرش سبحانا إني لأحسبه ما كان من بشر يخشى المعاد ولكن كان شيطانا
أشقى مراد إذا عدت قبائلها وأخسر الناس عند الله ميزانا
كعاقر الناقة الأولى التي جلبت على ثمود بأرض الحجر خسرانا
قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها قبل المنية أزمانا فأزمانا
فلا عفا الله عنه ما تحمله ولا سقى قبر عمران بن حطانا
لقوله في شقي ظل مجترما ونال ما ناله ظلماً وعدوانا
«يا ضربة من تقى ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا»
بل ضربة من غوى أوردته لظى فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
كأنه لم يرد قصداً بضربته إلا ليصلى عذاب الخلد نيرانا
وبما ذكرنا ـ تعلم أن قتل الحسن بن علي رضوان الله عنه لابن ملجم قبل بلوغ الصِّغار من أولاد علي يقوي حجة من قال بعدم انتظار بلوغ الصغير.
وحجة من قال أيضاً بكفره قوية. للحديث الدال على أنه أشقى الآخرين، مقروناً بقاتل ناقة صالح المذكور في قوله: {إِذِ ٱنبَعَثَ أَشْقَـٰهَ} وذلك يدل على كفره. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة ـاعلم أن هذا القتل ظلماً، الذي جعل الله بسببه هذا السلطان والنصر المذكورين في هذه الآية الكريمة، التي هي قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـٰن}، يثبت بواحد من ثلاثة أشياء: اثنان منها متفق عليهما، وواحد مختلف فيه.
أما الاثنان المتفق على ثبوته بهما: فهما الإقرار بالقتل، والبينة الشاهدة عليه.
وأما الثالث المختلف فيه: فهو أيمان القسامة مع وجود اللوث، وهذه أدلة ذلك كله.
أما الإقرار بالقتل ـ فقد دلت أدلة على لزوم السلطان المذكور في الآية الكريمة به. قال البخاري في صحيحه: «باب إذا أقر بالقتل مرة قتل به» حدثني إسحاق، أخبرنا حبان، حدثنا همام، حدثنا قتادة حدثنا أنس بن مالك: أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين. فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان؟ أفلان؟ حتى سمي اليهودي. فأومأت برأسها، فجيء باليهودي فاعترف، فأمر به النَّبي صلى الله عليه وسلم فرضَّ رأسه بالحجارة. وقد قال همام: بحجرين.
وقد قال البخاري أيضاً: (باب سؤال القاتل حتى يقر) ثم ساق حديث أنس هذا وقال فيه: فلم يزل به حتى أقر فرض رأسه بالحجارة. وهو دليل صحيح واضح على لزوم السلطان المذكور في الآية الكريمة بإقرار القاتل. وحديث أنس هذا أخرجه أيضاً مسلم، وأصحاب السنن، والإمام أحمد. ومن الأدلة الدالة على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه: حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا أبو يونس عن سماك بن حرب: أن علقمة بن وائل حدثه أن أباه حدثه قال: إني لقاعدٌ مع النَّبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة فقال: يا رسول الله، هذا قتل أخيٰ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقتلته»؟ فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة. قال نعم قتلته. قال: «كيف قتلته؟» قال كنت: أنا وهو نختبط من شجرة. فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته. فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك من شيء تؤديه عن نفسك»؟ قال: ما لي مال إلا كسائي وفأسي. قال: «فترى قومك يشترونك» قال: أنا أهون على قومي من ذاكٰ فرمى إليه بنسعته وقال: «دونك صاحبك..» الحديث. وفيه الدلالة الواضحة على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بالإقرار.
ومن الأدلة على ذلك إجماع المسلمين عليه. وسيأتي إن شاء الله إيضاح إلزام الإنسان ما أقربه على نفسه في سورة «القيامة».
وأما البينة الشاهدة بالقتل عمداً عدواناً ـ فقد دل الدليل أيضاً على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بها. قال أبو داود في سننه: حدثنا الحسن بن علي بن راشد، أخبرنا هشيم، عن أبي حيان التيمي، ثنا عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج قال: أصبح رجل من الأنصار مقتولاً بخيبر. فانطلق أولياؤه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: «لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم»؟ قالوا: يا رسول الله، لم يكن ثمَّ أحد من المسلمين، وإنما هم يهودٰ وقد يجترئون على أعظم من هذا، قال: «فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم فأبوا. فوداه النَّبي صلى الله عليه وسلم من عنده اهـ».
فقول النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «لكم شاهدان على قتل صاحبكم». فيه دليل واضح على ثبوت السلطان المذكور في الآية بشهادة شاهدين على القتل.
وهذا الحديث سكت عليه أبو داود، والمنذري. ومعلوم أن رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. إلا الحسن بن علي بن راشد وقد وثق. وقال فيه ابن حجر في «التقريب»: صدوق رمي بشيء من التدليس.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا محمد بن معمر قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا عبيد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن ابن محيصةَ الأصغر أصبح قتيلاً على أبواب خيبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته» قال: يا رسول الله، ومن أين أصيب شاهدين، وإنما أصبح قتيلاً على أبوابهم. قال: «فتحلف خمسين قسامة» قال: يا رسول الله، وكيف أحلف على ما لا أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فنستحلف منهم خمسين قسامةً» فقال: يا رسول الله، كيف نستحلفهم وهم اليهود فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عليهم وأعانهم بنصفها اهـ.
فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته» ـ دليل واضح على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بشهادة شاهدين. وأقل درجات هذا الحديث الحسن. وقال فيه ابن حجر في «الفتح»: هذا السند صحيح حسن.
ومن الأدلة الدالة على ذلك ـ إجماع المسلمين على ثبوت القصاص بشهادة عدلين على القتل عمداً عدواناً.
وقد قدمنا قول من قال من العلماء: إن أخبار الآحاد تعتضد بموافقة الإجماع لها حتى تصير قطعية كالمتواتر، لاعتضادها بالمعصوم وهو إجماع المسلمين.
وأكثر أهل الأصول يقولون: إن اعتضاد خبر الآحاد بالإجماع لا يصيره قطعياً. وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في مبحث أخبار الآحاد: ولا يفيد القطع ما يوافق الـ إجماع والبعض بقطع ينطق
وبعضهم يفيد حيث عولا عليه وانفه إذا ما قد خلا
مع دواعي رده من مبطل كما يدل لخلافة علي
وقوله:
وانفه إذا ما قد خلا.. الخ ـ مسألة أخرى غير التي نحن بصددها. وإنما ذكرناها لارتباط بعض الأبيات ببعض.
وأما أيمان القسامة مع وجود اللوث ـ فقد قال بعض أهل العلم بوجوب القصاص بها. وخالف في ذلك بعضهم.
فممن قال بوجوب القود بالقسامة: مالك وأصحابه، وأحمد، وهو أحد قولي الشافعي، وروي عن ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز. والظاهر أن عمر بن عبد العزيز رجع عنه.
وبه قال أبو ثور، وابن المنذر، وهو قول الزهري، وربيعة، وأبي الزناد، والليث، والأزواعي، وإسحاق، وداود.
وقضى بالقتل بالقسامة عبد الملك بن مروان، وأبوه مروان. وقال أبو الزناد: قلنا بها وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان.
وقال ابن حجر (في فتح الباري). إنما نقل ذلك أبو الزناد عن خارجة وروي بن زيد بن ثابت. كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرين من الصحابة فضلاً عن ألف.
وممن قال بأن القسامة تجب بها الدية ولا يجب بها القود: الشافعي في أصح قوليه، وهو مذهب أبي حنيفة، وروى عن أبي بكر وعمر وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم. وهو مروي عن الحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وعثمان البتي، والحسن بن صالح، وغيرهم. وعن معاوية: القتل بها أيضاً.
وذهبت جماعة أخرى إلى أن القسامة لا يثبت بها حكم من قصاص ولا دية. وهذا مذهب الحكم بن عتيبة، وأبي قلابة، وسالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، وقتادة، ومسلم بن خالد، وإبراهيم بن علية. وإليه بنحو البخاري، وروي عن عمر بن عبد العزيز باختلاف عنه.
وروي عن عبد الملك بن مروان أنه ندم على قتله رجلاً بالقسامة، ومحا أسماء الذين حلفوا أيمانهم من الديوان، وسيرهم إلى الشام. قاله البخاري في صحيحه.
فإذا عرفت أقوال لهم أهل العلم في القسامة فدونك أدلتهم على أقوالهم في هذه المسألة:
أما الذين قالوا بالقصاص بالقسامة فاستدلوا على ذلك بما ثبت في بعض روايات حديث سهل بن أبي حثمة في صحيح مسلم وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قتل عبد الله بن سهل الأنصاري بخيبر، مخاطباً لأولياء المقتول: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته..» الحديث. فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الثابت في صحيح مسلم وغيره «فيدفع برمته» معناه: أنه يسلم لهم ليقتلوه بصاحبهم. وهو نص صحيح صريح في القود بالقسامة.
ومن أدلتهم على ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي الذي قدمناه قريباً. وقد قدمنا عن ابن حجر أنه قال فيه: صحيح حسن. فقول النَّبي صلى الله عليه وسلم فيه: «أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته» صريح أيضاً في القود بالقسامة. وادعاء أن معنى دفعه إليهم برمته: أي ليأخذوا منه الدية ـ بعيد جداً كما ترى.
ومن أدلتهم ما ثبت في رواية متفق عليها في حديث سهل المذكور: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأولياء المقتول: «تحلفون خمسين يميناً وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم..» الحديث. قالوا: فعلى أن الرواية «قاتلكم» فهي صريح في القود بالقسامة. وعلى أنها «صاحبكم» فهي محتملة لذلك احتمالاً قوياً. وأجيب من جهة المخالف بأن هذه الرواية لا يصح الاحتجاج بها للشك في اللفظ الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو فرضنا أن لفظ الحديث في نفس الأمر «صاحبكم» لاحتمل أن يكون المراد به المقتول، وأن المعنى: تستحقون ديته. والاحتمال المساوي يبطل الاستدلال كما هو معروف في الأصول. لأن مساواة الاحتمالين يصير بها اللفظ مجملاً، والمجمل يجب التوقف عنه حتى يرد دليل مبين للمراد منه.
ومن أدلتهم ما جاء في رواية عند الإمام أحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يميناً ثم تسلمه».
ومن أدلتهم ما جاء في رواية عند مسلم وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم» قالوا: معنى «دم صاحبكم» قتل القاتل.
وأجيب من جهة المخالف باحتمال أن المراد «بدم صاحبكم» الدية، وهو احتمال قوي أيضاً. لأن العرب تطلق الدم على الدية. ومنه قوله: أكلت دماً إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
ومن أدلتهم ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا محمود بن خالد وكثير بن عبيد قالا: حدثنا الوليد (ح) وحدثنا محمد بن الصباح بن سفيان، أخبرنا الوليد عن أبي عمرو، عن عمرو بن شعيب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاة على شط لِيَّة البحرة قال القائل والمقتول منهم. وهذا لفظ محمود ببحرة أقامه محمود وحده على شط لية اهـ وانقطاع سند هذا الحديث واضح في قوله: «عن عمرو بن شعيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» كما ترى. وقد ساق البيهقي في السنن الكبرى حديث أبي داود هذا وقال: هذا منقطع، ثم قال: وروى أبو داود أيضاً في المراسيل عن موسى بن إسماعيل، عن حماد عن قتادة، وعامر الأحول عن أبي المغيرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أقاد بالقسامة الطائف» وهو أيضاً منقطع. وروى البيهقي في سننه عن أبي الزناد قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، أن رجلاً من الأنصار قتل وهو سكران رجلاً ضربه بشويق، ولم يكن على ذلك بينة قاطعة إلا لطخ أو شبيه ذلك، وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن فقهاء الناس ما لا يحصى، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيوا. فحلفوا خمسين يميناً وقتلوا، وكانوا يخبرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالقسامة، ويرونها للذي يأتي به من اللطخ أو الشبهة أقوى مما يأتي به خصمه، ورأوا ذلك في الصهيبي حين قتله الحاطبيون وفي غيره. ورواه ابن وهب عن أبي الزناد وزاد فيه: أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص: إن كان ما ذكرنا له حقاً أن يحلفنا على القاتل ثم يسلمه إلينا.
وقال البيهقي في سننه أيضاً: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس الأصم، ثنا بحر بن نصر، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد: أن هشام بن عروة أخبره: أن رجلاً من آل حاطب بن أبي بلتعة كانت بينه وبين رجل من آل صهيب منازعة.. فذكر الحديث في قتله قال: فركب يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك. فقضى بالقسامة على ستة نفر من آل حاطب، فثنى عليهم الأيمان، فطلب آل حاطب أن يحلفوا على اثنين ويقتلوهما. فأبى عبد الملك إلا أن يحلفوا على واحد فيقتلوه. فحلفوا على الصهيبي فقتلوه. قال هشام: فلم ينكر ذلك عروة، ورأى أن قد أصيب فيه الحق، وروينا فيه عن الزهري وربيعة.
ويذكر عن ابن أبي مليكة عن عمر بن عبد العزيز وابن الزبير: أنهما أقادا بالقسامة.
ويذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه رجع عن ذلك وقال: إن وجد أصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس. فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة ـ انتهى كلام البيهقي رحمه الله.
هذه هي أدلة من أوجب القود بالقسامة.
وأما حجج من قال: لا يجب بها إلا الدية ـ فمنها ما ثبت في بعض روايات حديث سهل المذكور عند مسلم وغيره:
أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب».
قال النووي في شرح مسلم: معناه إن ثبت القتل عليهم بقسامتكم فإما أن يدوا صاحبكم ـ أي يدفعوا إليكم ديته ـ وإما أن يعلمونا أنهم ممتنعون من التزام أحكامنا. فينتقض عهدهم، ويصيرون حرباً لنا.
وفيه دليل لمن يقول: الواجب بالقسامة الدية دون القصاص اهـ كلام النووي، رحمه الله.
ومنها ما ثبت في بعض روايات الحديث المذكور في صحيح البخاري وغيره: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفتسحقون الدية بأيمان خمسين منكم» قالوا: هذه الرواية الثابتة في صحيح البخاري صريحة في أن المستحق بأيمان القسامة إنما هو الدية لا القصاص.
ومن أدلتهم أيضاً ما ذكره الحافظ (في فتح الباري) قال: وتمسك من قال: لا يجب فيها إلا الدية بما أخرجه الثوري في جامعه، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور بسند صحيح إلى الشعبي قال: وجد قتيل بين حيين من العرب فقال عمر: قيسوا ما بينهما فأيهما وجدتموه إليه أقرب فأحلفوهم خمسين يميناً، وأغرموهم الدية. وأخرجه الشافعي عن سفيان بن عيينة، عن منصور، عن الشعبي: أن عمر كتب في قتيل وجد بين خيران وداعة أن يقاس ما بين القريتين. فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منها خمسون رجلاً حتى يوافوه في مكة، فأدخلهم الحجر فأحلفهم، ثم قضى عليهم الدية. فقال: «حقنتم بأيمانكم دماءكم، ولا يطل دم رجل مسلم».
قال الشافعي: إنما أخذه الشعبي عن الحارث الأعور، والحارث غير مقبول. انتهى. وله شاهد مرفوع من حديث أبي سعيد عند أحمد: أن قتيلاً وجد بين حيين فأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم «أن يقاس إلى أيهما أقرب فألقى ديته على الأقرب» ولكن سنده ضعيف.
وقال عبد الرزاق في مصنفه: عن معمر قال: قلت لعبد الله بن عمر العمري: أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت: فعمر؟ قال لا. قلت: فكيف تجترؤون عليها؟ فسكت... الحديث.
وأخرج البيهقي من طريق القاسم بن عبد الرحمن: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: في القسامة: توجب العقل ولا تسقط الدم. انتهى كلام ابن حجر رحمه الله.
وأما حجة من قال: إن القسامة لا يلزم بها حكم ـ فهي أن الذين يحلفون أيمان القسامة إنما يحلفون على شيء لم يحضروه، ولم يعلموا أحق هو أم باطل، وحلف الإنسان على شيء لم يره دليل على أنه كاذب.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، حدثنا الحجاج بن أبي عثمان، حدثنا أبو رجاء من آل أبي قلابة، حدثني أبو قلابة: أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوماً للناس، ثم أذن لهم فدخلوا، فقال: ما تقولون في القسامة؟ قال: نقول القسامة القود بها حق، وقد أقادت بها الخلفاء. قال لي: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس. فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك رؤوس الأجناد وأشراف العربٰ أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى لم يروه، أكنت ترجمه؟ قال لا. قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجلٍ بحمص أنه سرق، أكنت تقطعه ولم يروه؟ قال لا. قلت: فو الله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً قط إلا في إحدى ثلاث خصال: رجل قتل بجريرة نفسه فقتل أو رجل زنى بعد إحصان. أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام.. إلى آخر حديثه.
ومراد أبي قلابة واضح، وهو أنه كيف يقتل بأيمان قوم يحلفون على شيء لم يروه ولم يحضروهٰ
هذا هو حاصل كلام أهل العلم في القود بالقسامة، وهذه حججهم.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال عندي دليلاً ـ القود بالقسامة.
لأن الرواية الصحيحة التي قدمنا فيها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنهم إن حلفوا أيمان القسامة دفع القاتل برمته إليهم» وهذا معناه القتل بالقسامة كما لا يخفى. ولم يثبت ما يعارض هذا. والقسامة أصل وردت به السنة، فلا يصح قياسه على غيره من رجم أو قطع. كما ذهب إليه أبو قلابة في كلامه المار آنفاً. لأن القسامة أصل من أصول الشرع مستقل بنفسه. شرع لحياة الناس وردع المعتدين، ولم تمكن فيه أولياء المقتول من أيمان القسامة إلا مع حصول لوث يغلب على الظن به صدقهم في ذلك.
تنبيه
اعلم ـ أن رواية سعيد بن عبيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة التي فيها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «لما سأل أولياء المقتول هل لهم بينة» وأخبروه بأنهم ليس لهم بينة قال: «يحلفون» يعني اليهود المدعى عليهم، وليس فيها ذكر حلف أولياء المقتول أصلاً ـ لا دليل فيها لمن نفى القود بالقسامة. لأن سعيد بن عبيد وهم فيها، فأسقط من السياق تبدئة المدعين باليمين. لكونه لم يذكر في روايته رد اليمين. ورواه يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار فذكر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم عرض الأيمان أولاً على أولياء المقتول، فلما أبوأ عرض عليهم رد الأيمان على المدعى عليهم. فاشتملت رواية يحيى بن سعيد على زيادة من ثقة حافظ فوجب قبولها. وقد ذكر البخاري رحمه الله رواية سعيد بن عبيد (في باب القسامة)، وذكر رواية يحيى بن سعيد (في باب الموادعة والمصالحة مع المشركين... الخ) وفيها: «تحلفون وتستحقون قاتلكم» أو صاحبكم الحديث. والخطاب في قوله «تحلفون وتستحقون، لأولياء المقتول».
وجزم بما ذكرنا من تقديم رواية يحيى بن سعيد المذكورة على رواية سعيد بن عبيد ـ ابن حجر في الفتح وغير واحد. لأنها زيادة من ثقة حافظ لم يعارضها غيرها فيجب قبولها. كما هو مقرر في علم الحديث وعلم الأصول.
وقال القرطبي في تفسيره في الكلام على قوله تعالى: {فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَ}: وقد أسند حديث سهل أن النَّبي صلى الله عليه وسلم بدأ المدعين: يحيى بن سعيد، وابن عيينة، وحماد بن زيد، وعبد الوهاب الثقفي، وعيسى بن حماد، وبشر بن المفضل. فهؤلاء سبعة. وإن كان أرسله مالك فقد وصله جماعة الحفاظ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد.
وقال مالك رحمه الله (في الموطإ) بعد أن ساق رواية يحيى بن سعيد المذكورة: الأمر المجتمع عليه عندنا، والذي سمعته ممن أرضى في القسامة، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث: أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون اهـ محل الغرض منه.
واعلم أن العلماء أجمعوا على أن القسامة يشترط لها لوث، ولكنهم اختلفوا في تعيين اللوث الذي تحلف معه أيمان القسامة. فذهب مالك رحمه الله إلى أنه أحد أمرين:
الأول ـ أن يقول المقتول: دمي عند فلان. وهل يكفي شاهد واحد على قوله ذلك، أو لا بد من اثنين؟ خلاف عندهم.
والثاني ـ أن تشهد بذلك بينة لا يثبت بها القتل كاثنين غير عدلين.
قال مالك في الموطإ: الأمر المجتمع عليه عندنا والذي سمعته ممن أَرْضَى في القسامة والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث ـ أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون، وأن القسامة لا تجب إلا بأحد أمرين: إما أن يقول المقتول دمي عند فلان، أو يأتي ولاة الدم بلوث من بينة وإن لم تكن قاطعة على الذي يدعى عليه الدم. فهذا يوجب القسامة لمدعي الدم على من ادعوه عليه. ولا تجب القسامة عندنا إلا بأحد هذين الوجهين ـ اهـ محل الغرض منه، هكذا قال في الموطإ، وستأتي زيادة عليه إن شاء الله.
واعلم أن كثيراً من أهل العلم أنكروا على مالك رحمه الله إيجابه القسامة بقول المقتول قتلني فلان.
قالوا: هذا قتل مؤمن بالأيمان على دعوى مجردة.
واحتج مالك رحمه الله بأمرين:
الأول ـ أن المعروف من طبع الناس عند حضور الموت: الإنابة والتوبة والندم على ما سلف من العمل السيء. وقد دلت على ذلك آيات قرآنية. كقوله {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـٰكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِىۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ}، وقوله: {حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ ٱلاٌّنَ}، وقوله: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} إلى غير ذلك من الآيات.
فهذا معهود من طبع الإنسان، ولا يعلم من عادته أن يدع قاتله ويعدل إلى غيره، وما خرج عن هذا نادر في الناس لا حكم له.
الأمر الثاني ـأن قصة قتيل بني إسرائيل تدل على اعتبار قول المقتول دمي عند فلان. فقد استدل مالك بقصة القتيل المذكور على صحة القول بالقسامة بقوله قتلني فلان، أو دمي عند فلان ـ في رواية ابن وهب وابن القاسم.
ورد المخالفون هذا الاستدلال بأن إحياء معجزة لنبي الله موسى، وقد أخبر الله تعالى أنه يحييه، وذلك يتضمن الإخبار بقاتله خبراً جزماً لا يدخله احتمال ـ فافترقا.
ورد ابن العربي المالكي هذا الاعتراض بأن المعجزة إنما كانت في إحياء المقتول، فلما صار حياً كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد.
قال: وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه. فلعله أمرهم بالقسامة معه اهـ كلام ابن العربي. وهو غير ظاهر عندي. لأن سياق القرآن يقتضي أن القتيل إذا ضرب ببعض البقرة وحيي أخبرهم بقاتله، فانقطع بذلك النزاع المذكور في قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَٱدَٰرَأْتُمْ فِيهَ}. فالغرض الأساسي من ذبح البقرة قطع النزاع بمعرفة القاتل بإخبار المقتول إذا ضرب ببعضها فحيي والله تعالى أعلم. والشاهد العدل لوث عند مالك في رواية ابن القاسم. وروى أشهب عن مالك: أنه يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة وروى ابن وهب: أن شهادة النساء لوث. وذكر محمد عن ابن القاسم: أن شهادة المرأتين لوث. دون شهادة المرأة الواحدة.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: اختلف في اللوث اختلافاً كثيراً. ومشهور مذهب مالك: أنه الشاهد العدل. وقال محمد: هو أحب إلي، قال: وأخذ به ابن القاسم وابن عبد الحكم.
وممن أوجب القسامة بقوله دمي عند فلان: الليث بن سعد وروي عن عبد الملك بن مروان.
والذين قالوا بالقسامة بقول المقتول دمي عند فلان، منهم من يقول: يشترط في ذلك أن يكون به جراح. ومنهم من أطلق.
والذي به الحكم وعليه العمل عند المالكية: أنه لا بد في ذلك من أثر جرح أو ضرب بالمقتول، ولا يقبل قوله بدون وجود أثر الضرب.
واعلم أنه بقيت صورتان من صور القسامة عند مالك.
الأولى ـ أن يشهد عدلان بالضرب، ثم يعيش المضروب بعده أياماً ثم يموت منه من غير تخلل إفاقة. وبه قال الليث أيضاً.
وقال الشافعي: يجب في هذه الصورة القصاص بتلك الشهادة على الضرب. وهو مروي أيضاً عن أبي حنيفة.
الثانية ـ أن يوجد مقتول وعنده أو بالقرب منه من بيده آلة القتل، وعليه أثر الدم مثلاً، ولا يوجد غيره فتشرع القسامة عند مالك. وبه قال الشافعي. ويلحق بهذا أن تفترق جماعة من قتيل. وفي رواية عن مالك في القتيل يوجد بين طائفتين مقتتلتين: أن القسامة على الطائفة التي ليس منها القتيل إن كان من إحدى الطائفتين.
أما إن كان من غيرهما فالقسامة عليهما. والجمهور على أن القسامة عليهما معاً مطلقاً. قاله ابن حجر في الفتح.
وأما اللوث الذي تجب به القسامة عند الإمام أبي حنيفة فهو أن يوجد قتيل في محلة أو قبيلة لم يدر قاتله، فيحلف خمسون رجلاً من أهل تلك المحلة التي وجد بها القتيل يتخيرهم الولي ـ ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً. ثم إذا حلفوا غرم أهل المحلة الدية ولا يحلف الولي، وليس في مذهب أبي حنيفة رحمه الله قسامة إلا بهذه الصورة.
وممن قال بأن وجود القتيل بمحلة لوث يوجب القسامة: الثوري والأوزاعي. وشرط هذا عند القائلين به إلا الحنفية: أن يوجد بالقتل أثر. وجمهور أهل العلم على أن وجود القتيل بمحلة لا يوجب القسامة، بل يكون هدراً لأنه قد يقتل ويلقى في المحلة لتلصق بهم التهمة. وهذا ما لم يكونوا أعداء للمقتول ولم يخالطهم غيرهم وإلا وجبت القسامة. كقصة اليهود مع الأنصاري.
وأما الشافعي رحمه الله فإن القسامة تجب عنده بشهادة من لا يثبت القتل بشهادته. كالواحد أو جماعة غير عدول. وكذلك تجب عنده بوجود المقتول يتشحط في دمه، وعنده أو بالقرب منه من بيده آلة القتل وعليه أثر الدم مثلاً ولا يوجد غيره، ويلحق به افتراق الجماعة عن قتيل.
وقد قدمنا قول الجمهور في القتيل يوجد بين الطائفتين المقتتلتين. والذي يظهر لي أنه إن كان من إحدى الطائفتين المقتتلتين: أن القسامة فيه تكون على الطائفة الأخرى دون طائفته التي هو منها وكذلك تجب عنده فيما كقصة اليهودي مع الأنصاري.
واما الإمام أحمد فاللوث الذي تجب به القسامة عنده فيه روايتان.
الأولى ـ أن اللوث هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، كنحو ما بين الأنصار واليهود، وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب وما جرى مجرى ذلك. ولا يشترط عنده على الصحيح ألا يخالطهم غيرهم ـ نص على ذلك الإمام أحمد في رواية مهنأ. واشترط القاضي ألا يخالطهم غيرهم كمذهب الشافعي. قاله في المغني.
والرواية الثانية عن أحمد رحمه الله ـ أن اللوث هو ما يغلب به على الظن صدق المدعي، وذلك من وجوه.
أحدها: العداوة المذكورة.
والثاني: أن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثاً في حق كل واحد منهم. فإن ادعى الولي على واحد فأنكر كونه مع الجماعة فالقول قوله مع يمينه ـ ذكره القاضي، وهو مذهب الشافعي.
والثالث: أن يوجد المقتول ويوجد بقربه رجل معه سكين أو سيف ملطخ بالدم، ولا يوجد غيره.
الرابع: أن تقتتل فئتان فيفترقون عن قتيل من إحداهما، فاللوث على الأخرى. ذكره القاضي. فإن كانوا بحيث لا تصل سهام بعضهم بعضاً فاللوث على طائفة القتيل. وهذا قول الشافعي. وروي عن أحمد: أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه. وهذا قول مالك. وقال ابن أبي ليلى: على الفريقين جميعاً، لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه فاستوى الجميع فيه. وقد قدمنا عن ابن حجر أن هذا قول الجمهور.
الخامس: أن يشهد بالقتل عبيد ونساء. فعن أحمد هو لوث لأنه يغلب على الظن صدق المدعي. وعنه ليس بلوث، لأنها شهادة مردودة فلم يكن لها أثر.
فأما القتيل الذي يوجد في الزحام كالذي يموت من الزحام يوم الجمعة أو عند الجمرة ـ فظاهر كلام أحمد أن ذلك ليس بلوث، فإنه قال فيمن مات بالزحام يوم الجمعة: ديته في بيت المال. وهذا قول إسحاق، وروي عن عمر وعلي، فإن سعيداً روى في سننه عن إبراهيم قال: قتل رجل في زحام الناس بعرفة. فجاء أهله إلى عمر فقال بينتكم على من قتله؟ فقال علي: يا أمير المؤمنين، لا يطل دم امرىء مسلم إن علمت قاتله، وإلا فأعطهم ديته من بيت المال.
انتهى من المغني.
وقد قال ابن حجر في الفتح (في باب إذا مات في الزحام أو قتل) في الكلام على قتل المسلمين يوم أحد اليمان والد حذيفة رضي الله عنهما ما نصه: وحجته (يعني إعطاء ديته من بيت المال) ما ورد في بعض طرق قصة حذيفة، وهو ما أخرجه أبو العباس السراج في تاريخه من طريق عكرمة: أن والد حذيفة قتل يوم أحد بعض المسلمين وهو يظن أنه من المشركين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجاله ثقات مع إرساله. وقد تقدم له شاهد مرسل أيضاً (في باب العفو عن الخطأ) وروى مسدد في مسنده من طريق يزيد بن مذكور: أن رجلاً زحم يوم الجمعة فمات فوداه علي من بيت المال.
وفي المسألة مذاهب أخرى (منها) قول الحسن البصري: أن ديته تجب على جميع من حضر، وهو أخص من الذي قبله. وتوجيهه: أنه مات بفعلهم فلا يتعداهم إلى غيرهم. (ومنها) قول الشافعي ومن تبعه: أنه يقال لوليه ادَّعِ على من شئت واحلف. فإن حلفت استحققت الدية، وإن نكلت حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة. وتوجيهه: أن الدم لا يجب إلا بالطلب.
(ومنها) قول مالك: دمه هدر. وتوجيهه: أنه إذا لم يعلم قائله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد. وقد تقدمت الإشارة إلى الراجح من هذه المذاهب (في باب العفو عن الخطأ) ـ انتهى كلام ابن حجر رحمه الله.
والترجيح السابق الذي أشار له هو قوله في قول حذيفة رضي الله عنه مخاطباً للمسلمين الذين قتلوا أباه خطأ: «غفر الله لكم» استدل به من قال: إن ديته وجبت على من حضر. لأن معنى قوله «غفر الله لكم» عفوت عنكم، وهو لا يعفو إلا عن شيء استحق أن يطالب به. انتهى محل الغرض منه. فكأن ابن حجر يميل إلى ترجيح قول الحسن البصري رحمه الله.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال عندي في اللوث الذي تجب القسامة به: أنه كل ما يغلب به على الظن صدق أولياء المقتول في دعواهم. لأن جانبهم يترجح بذلك فيحلفون معه. وقد تقرر في الأصول «أن المعتبر في الروايات والشهادات ما تحصل به غلبة الظن» وعقده صاحب مراقي السعود بقوله في شروط الراوي: بغالب الظن يدور المعتبر فاعتبر الإسلام من غبر ـ الخ
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول ـ لا يحلف النساء ولا الصبيان في القسامة، وإنما يحلف فيها الرجال. وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد، والثوري والأوزاعي وربيعة والليث، ووافقهم مالك في قسامة العمد، وأجاز حلف النساء الوارثات في قسامة الخطإ خاصة. وأما الصبي فلا خلاف بين العلماء في أنه لا يحلف أيمان القسامة. وقال الشافعي: يحلف في القسامة كل وارث بالغ ذكراً كان أو أنثى، عمداً كان أو خطأ.
واحتج القائلون بأنه لا يحلف إلا الرجال بأن في بعض روايات الحديث في القسامة يقسم خمسون رجلاً منكم. قالوا: ويفهم منه أن غير الرجال لا يقسم.
واحتج الشافعي ومن وافقه بقوله صلى الله عليه وسلم «تحلفون خمسين يميناً فتستحقون دم صاحبكم» فجعل الحالف هو المستحق للدية والقصاص. ومعلوم أن غير الوارث لا يستحق شيئاً ـ فدل على أن المراد حلف من يستحق الدية.
وأجاب الشافعية عن حجة الأولين بما قاله النووي في شرح مسلم. فإنه قال في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم» ما نصه: هذا مما يجب تأويله. لأن اليمين إنما تكون على الوارث خاصة لا على غيره من القبيلة. وتأويله عند أصحابنا: أن معناه يؤخذ منكم خمسون يميناً والحالف هم الورثة، فلا يحلف أحد من الأقارب غير الورثة، يحلف كل الورثة ذكوراً كانوا أو إناثاً، سواء كان القتل عمداً أو خطأ ـ هذا مذهب الشافعي،
وبه قال أبو ثور وابن المنذر. ووافقنا مالك فيما إذا كان القتل خطأ، وأما في العمد فقال: يحلف الأقارب خمسين يميناً. ولا تحلف النساء ولا الصبيان. ووافقه ربيعة والليث، والأوزاعي وأحمد وداود وأهل الظاهر ـ انتهى الغرض من كلام النووي رحمه الله.
ومعلوم أن هذا التأويل الذي أولوا به الحديث بعيد من ظاهر اللفظ، ولا سيما على الرواية التي تصرح بتمييز الخمسين بالرجل عند أبي داود وغيره.
الفرع الثاني ـ قد علمت أن المبدأ بأيمان القسامة أولياء الدم على التحقيق كما تقدم إيضاحه. فإن حلفوا استحقوا القود أو الدية على الخلاف المتقدم. وإن نكلوا ردت الأيمان على المدعى عليهم. فإن حلفوها برؤوا عند الجمهور، وهو الظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» أي يبرؤون منكم بذلك. وهذا قول مالك والشافعي، والرواية المشهورة عن أحمد، وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة وأبو الزناد والليث وأبو ثور، كما نقله عنهم صاحب المغني.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنهم إن حلفوا لزم أهل المحلة التي وجد بها القتيل أن يغرموا الدية. وذكر نحوه أبو الخطاب. رواية عن أحمد. وقد قدمنا أن عمر ألزمهم الدية بعد أن حلفوا. ومعلوم أن المبدأ بالأيمان عند أبي حنيفة المدعى عليهم، ولا حلف على الأولياء عنده كما تقدم.
الفرع الثالث ـ إن امتنع المدعون من الحلف ولم يرضوا بأيمان المدعى عليهم ـ فالظاهر أن الإمام يعطي ديته من بيت المال. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك، والله تعالى يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
الفرع الرابع ـ إن ردت الأيمان على المدعى عليهم فقد قال بعض أهل العلم: لا يبرأ أحد منهم حتى يحلف بانفراده خمسين يميناً، ولا توزع الأيمان عليهم بقدر عددهم.
قال مالك في الموطإ: وهذا أحسن ما سمعت في ذلك. وهو مذهب الإمام أحمد.
وقال بعض علماء الحنابلة: تقسم الأيمان بينهم على عددهم بالسوية. لأن المدعى عليهم متساوون. وللشافعي قولان كالمذهبين اللذين ذكرنا. فإن امتنع المدعى عليهم من اليمين فقيل يحبسون حتى يحلفوا. وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وهو مذهب مالك أيضاً. إلا أن المالكية يقولون: إن طال حبسهم ولم يحلفوا تركوا، وعلى كل واحد منهم جلد مائة وحبس سنة. ولا أعلم لهذا دليلاً. وأظهر الأقوال عندي: أنهم تلزمهم الدية بنكولهم عن الأيمان، ورواه حرب بن إسماعيل عن أحمد، وهو اختيار أبي بكر. لأنه حكم ثبت بالنكول فثبت في حقهم ها هنا كسائر الدعاوى. قال في المغني: وهذا القول هو الصحيح، والله تعالى أعلم.
الفرع الخامس ـ اختلف العلماء في أقل العدد الذي يصح أن يحلف أيمان القسامة. فذهب مالك وأصحابه إلى أنه لا يصح أن يحلف أيمان القسامة في العمد أقل من رجلين من العصبة. فلو كان للمقتول ابن واحد مثلاً استعان برجل آخر من عصبة المقتول ولو غير وارث يحلف معه أيمانها. وأظهر الأقوال دليلاً هو صحة استعانة الوارث بالعصبة غير الوارثين في أيمان القسامة. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لحويصة ومحيصة: «يحلف خمسون منكم..» الحديث. وهما ابنا عم المقتول، ولا يرثان فيه لوجود أخيه. وقد قال لهم «يحلف خمسون منكم» وهو يعلم أنه لم يكن لعبد الله بن سهل المقتول عشرون رجلاً وارثون. لأنه لا يرثه إلا أخوه ومن هو في درجته أو أقرب منه نسباً.
وأجاب المخالفون: بأن الخطاب للمجموع مراداً به بعضهم، وهو الوارثون منهم دون غيرهم ولا يخفى بعده. فإن كانوا خمسين حلف كل واحد منهم يميناً. وإن كانوا أقل من ذلك وزعت عليهم بحسب استحقاقهم في الميراث.
فإن نكل بعضهم رد نصيبه على الباقين إن كان الناكل معيناً لا وارثاً. فإن كان وارثاً يصح عفوه عن الدم سقط القود بنكوله، وردت الأيمان على المدعى عليهم على نحو ما قدمنا. هذا مذهب مالك رحمه الله.
وأما القسامة في الخطإ عند مالك رحمه الله ـ فيحلف أيمانها الوارثون على قدر أنصبائهم. فإن لم يوجد إلا واحد ولو امرأة حلف الخمسين يميناً كلها واستحق نصيبه من الدية.
وأما الشافعي رحمه الله فقال: لا يجب الحق حتى يحلف الورثة خاصة خمسين يميناً سواء قلوا أم كثروا. فإن كان الورثة خمسين حلف كل واحد منهم يميناً وإن كانوا أقل أو نكل بعضهم ردت الأيمان على الباقين. فإن لم يكن إلا واحد حلف خمسين يميناً واستحق حتى لو كان من يرث بالفرص والتعصيب أو بالنسب والولاء حلف واستحق.
وقد قدمنا ـ أن الصحيح في مذهب الشافعي رحمه الله: أن القسامة إنما تستحق بها الدية لا القصاص.
وأما الإمام أحمد فعنه في هذه المسألة روايتان: الأولى ـ أنه يحلف خمسون رجلاً من العصبة خمسين يميناً، كل رجل يحلف يميناً واحدة. فإن وجدت الخمسون من ورثة المقتول فذلك، وإلا كملت الخمسون من العصبة الذين لا يرثون، الأقرب منهم فالأقرب حتى تتم الخمسون. وهذا قول لمالك أيضاً، وهذا هو ظاهر بعض روايات حديث سهل الثابتة في الصحيح.
والرواية الأخرى عن الإمام أحمد ـ أنه لا يحلف أيمان القسامة إلا الورثة خاصة، وتوزع عليهم على قدر ميراث كل واحد منهم. فإن لم يكن إلا واحد حلف الخمسين واستحق. إلا أن النساء لا يحلفن أيمان القسامة عند أحمد. فالمراد بالورثة عنده الذكور خاصة. وهذه الرواية هي ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي حامد.
وأما الإمام أبو حنيفة رحمه الله ـ فقد قدمنا أن أيمان القسامة عنده لا يحلفها إلا خمسون رجلاً من أهل المحلة التي وجد بها القتيل. فيقسمون أنهم ما قتلوه ولا علموا له قاتلاً.
تنبيه
قد علمت كلام العلماء فيمن يحلف أيمان القسامة. فإذا وزعت على عدد أقل من الخمسين ووقع فيها انكسار فإن تساووا جبر الكسر عليهم. كما لو خلف المقتول ثلاثة بنين. فإن على كل واحد منهم ثلث الخمسين يميناً وهو ست عشرة وثلثان، فيتمم الكسر على كل واحد منهم. فيحلف كل واحد منهم سبع عشرة يميناً.
فإن قيل: يلزم على ذلك خلاف الشرع في زيادة الأيمان على خمسين يميناً. لأنها تصير بذلك إحدى وخمسين يميناً.
فالجواب ـ أن نقص الأيمان عن خمسين لا يجوز، وتحميل بعض الورثة زيادة على الآخرين لا يجوز. فعلم استواؤهم في جبر الكسر. فإذا كانت اليمين المنكسرة لم يستوِ في قدر كسرها الحالفون، كأن كان على أحدهم نصفها، وعلى آخر ثلثها، وعلى آخر سدسها، حلفها من عليه نصفها تغليباً للأكثر، ولا تجبر على صاحب الثلث والسدس. وهذا هو مذهب مالك وجماعة من أهل العلم. وقال غيرهم: تجبر على الجميع. والله تعالى أعلم.
وقال بعض أهل العلم: يحلف كل واحد من المدعين خمسين يميناً، سواء تساووا في الميراث أو اختلفوا فيه. واحتج من قال بهذا بأن الواحد منهم لو انفرد لحلف الخمسين يميناً كلها. قال: وما يحلفه منفرداً يحلفه مع غيره كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول بعيد فيما يظهر. لأن الأحاديث الواردة في القسامة تصرح بأن عدد أيمانها خمسون فقط، وهذا القول قد تصير به مئات كما ترى. والعلم عند الله تعالى.
الفرع السادس ـ لا يقتل بالقسامة عند من يوجب القود بها إلا واحد. وهذا قول أكثر القائلين بالقود بها، منهم مالك وأحمد والزهري، وبعض أصحاب الشافعي وغيرهم.
وهذا القول هو الصواب، وتدل عليه الرواية الصحيحة التي قدمناها عند مسلم وغيره:
«يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته..» الحديث. فقوله صلى الله عليه وسلم في معرض بيان حكم الواقعة: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم» يدل على أنهم ليس لهم أن يقسموا على غير واحد. وقيل: يستحق بالقسامة قتل الجماعة. لأنها بينة موجبة للقود، فاستوى فيها الواحد والجماعة كالبينة. وممن قال بهذا أبو ثور: قاله ابن قدامة في المغني.
وهل تسمع الدعوى في القسامة على غير معين أو لا؟ وهل تسمع على أكثر من واحد أو لا. فقال بعض أهل العلم: تسمع على غير معين. وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله مستدلاً بقصة الأنصاري المقتول بخبير. لأن أولياءه ادعو على يهود خيبر. وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن الدعوى فيها لا تسمع إلا على معين، قالوا: ولا دليل في قصة اليهود والأنصاري. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال فيها «يقسم خمسون منكم على رجل منهم» فبين أن المدعي عليه لا بد أن يعين.
وقال بعض من اشترط كونها على معين: لا بد أن تكون على واحد، وهو قول أحمد ومالك.
وقال بعض من يشترط كونها على معين: يجوز الحلف على جماعة معينين، وقد قدمنا اختلافهم: هل يجوز قتل الجماعة أو لا يقتل إلا واحد، وهو ظاهر الحديث، وهو الحق إن شاء الله.
وقال أشهب صاحب مالك: لهم أن يحلفوا على جماعة ويختاروا واحداً للقتل، ويسجن الباقون عاماً، ويضربون مائة.
قال ابن حجر في الفتح. وهو قول لم يسبق إليه. والعلم عند الله تعالى.
الفرع السابع ـ اعلم أن أيمان القسامة تحلف على البت، ودعوى القتل أيضاً على البت. فإن قيل: كيف يحلف الغائب على أمر لم يحضره، وكيف يأذن الشارع في هذه اليمين التي هي من الأيمان على غير معلوم؟
فالجواب ـ أن غلبة الظن تكفي في مثل هذا، فإن غلب على ظنه غلبة قوية أنه قتله حلف على ذلك. وإن لم يغلب على ظنه غلبة قوية فلا يجوز له الإقدام على الحلف.
الفرع الثامن ـ إن مات مستحق الأيمان قبل أن يحلفها انتقل إلى وارثه ما كان عليه من الأيمان، وكانت بينهم على حسب مواريثهم، ويجبر الكسر فيها عليهم كما يجبر في حق ورثة القتيل على نحو ما تقدم. لأن من مات عن حق انتقل إلى وارثه.
ولنكتف بما ذكرنا من أحكام القسامة خوف الإطالة المملة، ولأن أحكامها كثيرة متشعبة جداً، وقد بسط العلماء عليها الكلام في كتب الفروع.
غريبة تتعلق بهذه الآية الكريمة
وهي أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما استنبط من هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها: أيام النزاع بين علي رضي الله عنه وبين معاوية رضي الله عنه ـ أن السلطنة والملك سيكونان لمعاوية، لأنه من أولياء عثمان رضي الله عنه وهو مقتول ظلماً، والله تعالى يقول: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـٰن}. وكان الأمر كما قال ابن عباس.
وهذا الاستنباط عنه ذكره ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة، وساق الحديث في ذلك بسنده عند الطبراني في معجمه. وهو استنباط غريب عجيب. ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام المتعلقة بهذه الآية الكريمة خوف الإطالة المملة. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُول}. نهى جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن اتباع الإنسان ما ليس له به علم. ويشمل ذلك قوله: رأيت ولم ير، وسمعت ولم يسمع، وعلمت ولم يعلم. ويدخل فيه كل قول بلا علم ـ وأن يعمل الإنسان بما لا يعلم. وقد أشار جل وعلا إلى هذا المعنى في آيات أخر. كقوله: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِٱلسُّوۤءِ وَٱلْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وقوله:
{إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْىَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَـٰناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، وقوله: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ}، وقوله: {قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ}، وقوله: {وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئ} وقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ}، والآيات بمثل هذا في ذم اتباع غير العلم المنهي عنه في هذه الآية الكريمة كثيرة جداً. وفي الحديث: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث».
تنبيه
أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة منع التقليد، قالوا: لأنه اتباع غير العلم.
قال مقيده عفا الله عنه: لا شك أن التقليد الأعمى الذي ذم الله به الكفار في آيات من كتابه تدل هذه الآية وغيرها من الآيات على منعه، وكفر متبعه. كقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}، وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}، وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ}، وقوله: {أَمْ ءَاتَيْنَـٰهُمْ كِتَـٰباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَبَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَـٰرِهِم مُّهْتَدُونَوَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَـٰرِهِم مُّقْتَدُونَقُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ}، وقوله: {قَالُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَ}، إلى غير ذلك من الآيات.
أما استدلال بعض الظاهرية كابن حزم ومن تبعه بهذه الآية التي نحن بصددها وأمثالها من الآيات ـ على منع الاجتهاد في الشرع مطلقاً، وتضليل القائل به، ومنع التقليد من أصله، فهو من وضع القرآن في غير موضعه، وتفسيره بغير معناه، كما هو كثير في الظاهرية، لأن مشروعية سؤال الجاهل للعالم وعمله بفتياه أمر معلوم من الدين بالضرورة. ومعلوم أنه كان العامي يسأل بعض أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم فيفتيه فيعمل بفتياه، ولم ينكر ذلك أحد من المسلمين. كما أنه من المعلوم أن المسألة إن لم يوجد فيها نص من كتاب الله أو سنة صلى الله عليه وسلم. فاجتهاد العالم حينئذ بقدر طاقته في تفهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ليعرف حكم المسكوت عنه من المنطوق به ـ لا وجه لمنعه، وكان جارياً بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكره أحد من المسلمين. وسنوضح غاية الإيضاح إن شاء الله تعالى «في سورة الأنبياء، والحشر» مسألة الاجتهاد في الشرع، واستنباط حكم المسكوت عنه من المنطوق به بإلحاقه به قياساً كان الإلحاق أو غيره. ونبين أدلة ذلك، ونوضح رد شبه المخالفين كالظاهرية والنظام، ومن قال بقولهم في احتجاجهم بأحاديث وآيات من كتاب الله على دعواهم، وبشبه عقلية حتى يتضح بطلان جميع ذلك.
وسنذكر هنا طرفاً قليلاً من ذلك يعرف به صحة القول بالاجتهاد والقياس فيما لا نص فيه، وأن إلحاق النظير بنظيره المنصوص عليه غير مخالف للشرع الكريم.
اعلم أولاً ـ أن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بنفي الفارق بينهما لا يكاد ينكره إلا مكابر، وهو نوع من القياس الجلي، ويسميه الشافعي رحمه الله «القياس في معنى الأصل» وأكثر أهل الأصول لا يطلقون عليه اسم القياس، مع أنه إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به لعدم الفرق بينهما. أعني الفرق المؤثر في الحكم.
ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} فإنه لا يشك عاقل في أن النهي عن التأفيف المنطوق به يدل على النهي عن الضرب المسكوت عنه.
وقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُوَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} فإنه لا شك أيضاً في أن التصريح بالمؤاخذة بمثال الذرة والإثابة عليه المنطوق به يدل على المؤاخذة والإناثة بمثقال الجبل المسكوت عنه.
وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ}، لا شك في أنه يدل على أن شهادة أربعة عدول مقبولة وإن كانت شهادة الأربعة مسكوتاً عنها.
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء يدل على النهي عن التضحية بالعمياء، مع أن ذلك مسكوت عنه.
وقوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ}. لا شك في أنه يدل على منع إحراق مال اليتيم وإغراقه. لأن الجميع إتلاف له بغير حق.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أعتق شركاً له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل، فأعطى شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق» يدل على أن من أعتق شركاً له في أمة فحكمه كذلك. لما عرف من استقراء الشرع أن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا تأثير لهما في أحكام العتق وإن كانا غير طرديين في غير العتق كالشهادة والميراث وغيرهما.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان» لا شك في أنه يدل على منع قضاء الحكم في كل حال يحصل بها التشويش المانع من استيفاء النظر. كالجوع والعطش المفرطين، والسرور والحزن المفرطين، والحقن والحقب المفرطين.
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد، لا شك في أنه يدل على النهي عن البول في قارورة مثلاً وصب البول من القارورة في الماء الراكد. إذ لا فرق يؤثر في الحكم بين البول فيه مباشرة وصبه فيه من قارورة ونحوها، وأمثال هذا كثيرة جداً، ولا يمكن أن يخالف فيها إلا مكابر. ولا شك أن في ذلك كله استدلالاً بمنطوق به على مسكوت عنه. وكذلك نوع الاجتهاد المعروف في اصطلاح أهل الأصول «بتحقيق المناط» لا يمكن أن ينكره إلا مكابر، ومسائلة التي لا يمكن الخلاف فيها من غير مكابر لا يحيط بها الحصر، وسنذكر أمثلة منها. فمن ذلك قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} فكون الصيد المقتول يماثله النوع المعين من النعم اجتهاد في تحقيق مناط هذا الحكم، نص عليه جل وعلا في محكم كتابه. وهو دليل قاطع على بطلان قول من يجعل الاجتهاد في الشرع مستحيلاً من أصله. والإنفاق على الزوجات واجب، وتحديد القدر اللازم لا بد فيه من نوع من الاجتهاد في تحقيق مناط ذلك الحكم. وقيم المتلفات واجبة على من أتلف، وتحديد القدر الواجب لا بد فيه من اجتهاد. والزكاة لا تصرف إلا في مصرفها، كالفقير ولا يعلم فقره إلا بأمارات ظنية يجتهد في الدلالة عليها بالقرائن. لأن حقيقة الباطن لا يعلمها إلا الله. ولا يحكم إلا بقول العدل، وعدالته إنما تعلم بأمارات ظنية يجتهد في معرفتها بقرائن الأخذ والإعطاء وطول المعاشرة. وكذلك الاجتهاد من المسافرين في جهة القبلة بالأمارات، إلى غير ذلك مما لا يحصى.
ومن النصوص الدالة على مشروعية الاجتهاد في مسائل الشرع ـ ما ثبت في الصحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن بسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».
وحدثني إسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن أبي عمر كلاهما عن عبد العزيز بن محمد بهذا الإسناد مثله، وزاد في عقب الحديث: قال يزيد: فحدثت هذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فقال: هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة، وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: أخبرنا مروان يعني ابن محمد الدمشقي، حدثنا الليث بن سعد، حدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي بهذا الحديث، مثل رواية عبد العزيز بن محمد بالإسنادين جميعاً ـ انتهى.
فهذا نص صحيح من النَّبي صلى الله عليه وسلم، صريح في جواز الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وحصول الأجر على ذلك وإن كان المجتهد مخطئاً في اجتهاده. وهذا يقطع دعوى الظاهرية: منع الاجتهاد من أصله، وتضليل فاعله والقائل به قطعاً باتاً كما ترى.
وقال النووي في شرح هذا الحديث: قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم. فإن أصاب فله أجران: أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده. وفي الحديث محذوف تقديره: إذا أراد الحاكم أن يحكم فاجتهد. قالوا: فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم. فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم. ولا ينعقد حكمه سواء وافق الحق أم لا. لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي، فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يعذر في شيء من ذلك. وقد جاء في الحديث في السنن: «القضاة ثلاثة: قاض في الجنة، واثنان في النار. قاض عرف الحق فقضى به في الجنة، وقاض عرف الحق فقضى بخلافه فهو في النار، وقاض قضى على جهل فهو في النار» انتهى الغرض من كلام النووي.
فإن قيل: الاجتهاد المذكور في الحديث هو الاجتهاد في تحقيق المناط دون غيره من أنواع الاجتهاد.
فالجواب ـ أن هذا صرف لكلامه صلى الله عليه وسلم عن ظاهره من غير دليل يجب الرجوع إليه، وذلك ممنوع.
وقال البخاري في صحيحه: باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ. حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، حدثني يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن بسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».
قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عمرو بن حزم فقال: هكذا حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. وقال عبد العزيز بن المطلب، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبي سلمة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مثله اهـ. فهذا الحديث المتفق عليه يدل على بطلان قول من منع الاجتهاد من أصله في الأحكام الشرعية. ومحاولة ابن حزم تضعيف هذا الحديث المتفق عليه، الذي رأيت أنه في أعلى درجات الصحيح لاتفاق الشيخين عليه لا تحتاج إلى إبطالها لظهور سقوطها كما ترى. لأنه حديث متفق عليه مروي بأسانيد صحيحة عن صحابيين جليلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة الدالة على ذلك ما روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال له: «فبم تحكم»؟ قال: بكتاب الله. قال: «فإن لم تجد»؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: «فإن لم تجد»؟ قال: أجتهد رأيي. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم».
قال ابن كثير رحمه الله في مقدمة تفسيره بعد أن ذكر هذا الحديث ما نصه: وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه.
وقال ابن قدامة (في روضة الناظر) بعد أن ساق هذا الحديث: قالوا هذا الحديث يرويه الحارث بن عمرو عن رجال من أهل حمص، والحارث والرجال مجهولون. قاله الترمذي. قلنا: قد رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ رضي الله عنه. انتهى.
ومراد ابن قدامه ظاهر. لأن رد الظاهرية لهذا الحديث بجهالة من رواه عن معاذ مردود بأنه رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عنه. وهذه الرواية ليست هي مراد ابن كثير بقوله: هذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد لأنها ليست في المسند ولا في السنن، ولعل مراده بجودة هذا الإسناد أن الحارث ابن أخي المغيرة بن شعبة وثقة ابن حبان، وأن أصحاب معاذ يراهم عدولاً ليس فيهم مجروح ولا منهم، وسيأتي استقضاء البحث في طرق هذا الحديث في سورة الأنبياء. ومعلوم أن عبادة بن نسي ثقة فاضل كما قدمنا. وعبد الرحمن بن غنم قيل صحابي، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين، قاله في التقريب. وحديث معاذ هذا تلقته الأمة قديماً وحديثاً بالقبول. وسيأتي إن شاء الله «في سورة الأنبياء»، و«سورة الحشر» ما استدل به أهل العلم على هذا من آيات القرآن العظيم.
ومن الأدلة الدالة على أن إلحاق النظير بنظيره في الشرع جائز: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: «أفرأيت لو كان على أمك دين فقضيته، أكان يؤدي ذلك عنها»؟ قالت: نعم. قال: «فصومي عن أمك» وفي رواية لهما عنه قال: جاء رجل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: «لو كان على أمك دين، أكنت قاضيه عنها»؟ قال: نعم. قال: «فدين الله أحق أن يقضى» انتهى.
واختلاف الرواية في هذا الحديث لا يعد اضطراباً، لأنها وقائع متعددة: سألته امرأة فأفتاها، وسأله رجل فأفتاه بمثل ما أفتى به المرأة، كما نبه عليه غير واحد.
وهذا نص صحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، صريح في مشروعية إلحاق النظير بنظيره المشارك له في علة الحكم. لأنه صلى الله عليه وسلم بين إلحاق دين الله تعالى بدين الآدمي،
بجامع أن الكل حق مطالب به تسقط المطالبة به بأدائه إلى مستحقه. وهو واضح في الدلالة على القياس كما ترى.
ومن الأدلة الدالة على ذلك أيضاً: ما رواه الشيخان في صحيحيهما أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلاماً أسودٰ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك إبل»؟ قال: نعم. قال: «فما ألوانها»؟ قال: حمر. قال: «فهل يكون فيها من أورق»؟ قال: إن فيها لورقاً. قال: «فأني أتاها ذلك»؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق. قال: «وهذا عسى أن يكون نزعه عرق» اهـ.
فهذا نص صحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم صريح في قياس النظير على نظيره. وقد ترتب على هذا القياس حكم شرعي، وهو كون سواد الولد مع بياض أبيه وأمه، ليس موجباً للعان. فلم يجعل سواده قرينة على أنها زنت بإنسان أسود، لإمكان أن يكون في أجداده من هو أسود فنزعه إلى السواد سواد ذلك الجد. كما أن تلك الإبل الحمر فيها جمال ورق يمكن أن لها أجداداً ورقاً نزعت ألوانها إلى الورقة. وبهذا اقتنع السائل.
ومن الأدلة الدالة على إلحاق النظير بنظيره: ما رواه أبو داود، والإمام أحمد، والنسائي، عن عمر رضي الله عنه قال: هششت يوماً فقبلت وأنا صائم. فأتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم فقلت: صنعت اليوم أمراً عظيماً! قبلت وأنا صائمٰ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم»؟ فقلت: لا بأس بذلك. فقال صلى الله عليه وسلم «فمه» اهـ.
فإن قيل: هذا الحديث قال فيه النسائي: منكر.
قلنا: صححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم. قاله الشوكاني في نيل الأوطار.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الحديث ثابت وإسناده صحيح. قال: أبو داود في سننه: حدثنا أحمد بن يونس ثنا الليث (ح) وثنا عيسى بن حماد، أخبرنا الليث بن سعد، عن بكير بن عبد الله، عن عبد الملك بن سعيد، عن جابر بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب: هششت فقبلت... إلى آخر الحديث بلفظه المذكور آنفاً. ولا يخفى أن هذا الإسناد صحيح، فإن طبقته الأولى أحمد بن يونس وعيسى بن حماد. أما أحمد فهو ابن عبد الله بن يونس الكوفي التميمي اليربوعي ثقة حافظ. وعيسى بن حماد التجيبي أبو موسى الأنصاري الملقب زغبة، ثقة. وطبقته الثانية الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري ثقة ثبت، فقيه إمام مشهور. وطبقته الثالثة بكير بن عبد الله بن الأشج مولى بني مخزوم أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدني نزيل مصر ثقة. وطبقته الرابعة عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري المدني ثقة. وطبقته الخامسة جابر بن عبد الله عن عمر بن الخطاب عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. فهذا إسناد صحيح رجاله ثقات كما ترى. فهو نص صحيح صريح في أنه صلى الله عليه وسلم قاس القبلة على المضمضة. لأن المضمضة مقدمة الشرب، والقبلة مقدمة الجماع. فالجامع بينهما أن كلاً منهما مقدمة المفطر، وهي لا تفطر بالنظر لذاتها.
فهذه الأدلة التي ذكرنا فيه الدليل الواضح على أن إلحاق النظير بنظيره من الشرع لا مخالف له. لأنه صلى الله عليه وسلم فعله، والله يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، وهو صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا لينبه الناس له.
فإن قيل: إنما فعله صلى الله عليه وسلم لأن الله أوحى إليه ذلك.
قلنا: فعله حجة في فعل مثل ذلك الذي فعل، ولو كان فعله بوحي كسائر أقواله وأفعاله وتقريراته، فكلها تثبت بها الحجة، وإن كان هو صلى الله عليه وسلم فعل ما فعل من ذلك بوحي من الله تعالى.
مسألة
قال ابن خويز منداد من علماء المالكية: تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة. لأنه لما قال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} دل على جواز ما لنا به علم. فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به. وبهذا احتججنا على إثبات القرعة والخرص. لأنه ضرب من غلبة الظن، وقد يسمى علماً اتساعاً. فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما، كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل عن طريق الشبه. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسروراً تبرق أسارير وجهه فقال: «ألم ترى أن مجززا المدلجي نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة، قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض» وفي حديث يونس بن يزيد: وكان مجزز قائفاً اهـ بواسطة نقل القرطبي في تفسيره.
قال مقيده عفا الله عنه: من المعلوم أن العلماء اختلفوا في اعتبار أقوال القافة. فذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها. واحتج من قال بعدم اعتبارها بقصة الأنصارية التي لاعنت زوجها وجاءت بولد شبيه جداً بمن رميت به ولم يعتبر هذا الشبه النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلم يحكم بأن الولد من زنى ولم يجلد المرأة.
قالوا: فلو كان الشبه تثبت به الأنساب لأثبت النَّبي صلى الله عليه وسلم به أن ذلك الولد من ذلك الرجل الذي رميت به. فيلزم على ذلك إقامة الحد عليها، والحكم بأن الولد ابن زنى، ولم يفعل النَّبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذلك كما يأتي إيضاحه (في سورة النور) إن شاء الله تعالى.
وهذا القول بعدم اعتبار أقوال القافة مروي عن أبي حنيفة وإسحاق والثوري وأصحابهم.
وذهب جمهور أهل العلم إلى اعتبار أقوال القافة عند التنازع في الولد، محتجين بما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم سر بقول مجزز بن الأعور المدلجي: إن بعض هذه الأقدام من بعض، حتى برقت أسارير وجهه من السرور.
قالوا: وما كان صلى الله عليه وسلم ليسر بالباطل ولا يعجبه، بل سروره بقول القائف دليل على أنه من الحق لا من الباطل، لأن تقديره وحده كاف في مشروعية ما قرر عليه، وأحرى من ذلك ما لو زاد السرور بالأمر على التقرير عليه، وهو واضح كما ترى.
واعلم أن الذين قالوا باعتبار أقوال القافة اختلفوا فمنهم من قال لا يقبل ذلك إلا في أولاد الإماء دون أولاد الحرائر. ومنهم من قال: يقبل ذلك في الجميع.
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق باعتبار ذلك في أولاد الحرائر والإماء لأن سرور النَّبي صلى الله عليه وسلم وقع في ولد حرة، وصورة سبب النزول قطعية الدخول كما تقرر في الأصول، وهو قول الجمهور وهو الحق، خلافاً للإمام مالك رحمه الله قائلاً: إن صورة السبب ظنية الدخول، وعقده صاحب مراقي السعود بقوله:
واجزم بإدخال ذوات السبب وارو عن الإمام ظناً تصب
تنبيهان
الأول ـلا تعتبر أقوال القافة في شبه مولود برجل إن كانت أمه فراشاً لرجل آخر. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم رأى شدة شبه الولد الذي اختصم فيه سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة بعتبة بن أبي وقاص ولم يؤثر عنده هذا الشبه في النسب لكون أم الولد فراشاً لزمعة. فقال صلى الله عليه وسلم «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ولكنه صلى الله عليه وسلم اعتبر هذا الشبه من جهة أخرى غير النسب. فقال لسودة بنت زمعة رضي الله عنها «احتجبي عنه» مع أنه ألحقه بأبيها فلم ير سودة قط. وهذه المسألة أصل عند المالكية في مراعاة الخلاف كما هو معلوم عندهم.
التنبيه الثاني: قال بعض علماء العربية: أصل القفو البهت والقذف بالباطل. ومنه الحديث الذي روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا» أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما من حديث الأشعث بن قيس. وساق طرق هذا الحديث ابن كثير في تاريخه. وقوله «لا نقفوا أمنا» أي لا نقذف أمنا ونسبها، ومنه قول الكميت: فلا أرمي البريء بغير ذنب ولا أقفوا الحواصن إن قفينا
وقول النابغة الجعدي: ومثل الدمى شم العرانين ساكن بهن الحياء لا يشعن التقافيا
والذي يظهر لنا أن أصل القفو في لغة العرب: الاتباع كما هو معلوم من اللغة. ويدخل فيه اتباع المساوي كما ذكره من قال: إن أصله القذف والبيت.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُول} فيه وجهان من التفسير: الأول ـ أن معنى الآية ـ أن الإنسان يسأل يوم القيامة عن أفعال جوارحه فيقال له: لم سمعت ما لا يحل لك سماعهٰ؟ ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليهٰ؟ ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليهٰ؟
ويدل لهذا المعنى آيات من كتاب الله تعالى، كقوله: {وَلَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقوله {فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَعَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، ونحو ذلك من الآيات.
والوجه الثاني ـ أن الجوارح هي التي تسأل عن أفعال صاحبها، فتشهد عليه جوارحه بما فعل.
قال القرطبي في تفسيره: وهذا المعنى أبلغ في الحجة. فإنه يقع تكذيبه من جوارحه، وتلك غاية الخزي كما قال: {ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَٰهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}، وقوله: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـٰرُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
قال مقيده عفا الله عنه: والقول الأول أظهر عندي، وهو قول الجمهور.
وفي الآية الكريمة نكتة نبه عليها في مواضع أخر. لأن قوله تعالى: {إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُول} يفيد تعليل النهي في قوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} بالسؤال عن الجوارح المذكورة، لما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه: أن «إن» المكسورة من حروف التعليل. وإيضاحه: أن المعنى انته عما لا يحل لك لأن الله أنعم عليك بالسمع والبصر والعقل لتشركه، وهو مختبرك بذلك وسائلك عنه، فلا تستعمل نعمه في معصيته.
ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلاٌّبْصَـٰرَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، ونحوها من الآيات. والإشارة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة بقوله: {أُولـٰئِكَ} راجعة إلى {ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ} وهو دليل على الإشارة «بأولئك» لغير العقلاء وهو الصحيح. ومن شواهده في العربية قول الشاعر وهو العرجي: يا ما أميلح غزلانا شدن لنا من هؤلياء كن الضال والسمر
وقول جرير:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
خلافاً لمن زعم أن بيت جرير لا شاهد فيه، وأن الرواية فيه «بعد أولئك الأقوام» والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلاٌّرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلاٌّرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُول}. نهى الله جل وعلا الناس في هذه الآية الكريمة عن التجبر والتبختر في المشية. وقوله {مَرَحً} مصدر منكر، وهو حال على حد قول ابن مالك في الخلاصة: ومصد منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع
وقرىء «مرحاً» بكسر الراء على أنه الوصف من مرح (بالكسر) يمرح (بالفتح) أي لا تمش في الأرض في حال كونك متبختراً متمايلاً مشي الجبارين.
وقد أوضح حل وعلا هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله عن لقمان مقرراً له {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلاٌّرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّوَٱقْصِدْ فِى مَشْيِكَ}، وقوله: {وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلاٌّرْضِ هَوْن}، إلى غير ذلك من الآيات.
وأصل المرح في اللغة: شدة الفرح والنشاط، وإطلاقه على مشي الإنسان متبختراً مشي المتكبرين، لأن ذلك من لوازم شدة الفرح والنشاط عادة.
وأظهر القولين عندي في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلاٌّرْضَ} أن معناه لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدة وطئك عليها، ويدل لهذا المعنى قوله بعده {وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُول} أي أنت أيها المتكبر المختال: ضعيف حقير عاجز محصور بين جمادينٰ أنت عاجز عن التأثير فيهما. فالأرض التي تحتك لا تقدر أن تؤثر فيها فنخرقها بشدة وطئك عليها، والجبال الشامخة فوقك لا يبلغ طولك طولها. فاعرف قدركٰ ولا تتكبر، ولا تمش في الأرض مرحاً. القول الثاني ـ أن معنى {لَن تَخْرِقَ ٱلاٌّرْضَ} لن تقطعها بمشيك. قاله ابن جرير، واستشهد له بقول رؤبة بن العجاج: وقاتم الأعماق خاوى المخترق مشتبه الأعلام لماع الخفق
لأن مراده بالمخترق: مكان الاختراق. أي المشي والمرور فيه. وأجود الأعاريب في قوله {طُول} أنه تمييز محول عن الفاعل، أي لن يبلغ طولك الجبال. خلافاً لمن أعربه حالاً ومن أعربه مفعولاً من أجله. وقد أجاد من قال: ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا فيكم تحتها قوم هم منك أرفع
وإن كنت في عز وحرز ومنعة فكم مات من قوم هم منك أمنع
واستدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلاٌّرْضِ مَرَحً} على منع الرقص وتعاطيه. لأن فاعله ممن يمشي مرحاً. قوله تعالى: {أَفَأَصْفَـٰكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمً}. الهمزة في قوله {أَفَأَصْفَـٰكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ} للانكار ومعنى الآية. أفخصكم ربكم على وجه الخصوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون،
لم يجعل فيهم نصيباً لنفسه، واتخذ لنفسه أدونهم وهي البناتٰ وهذا خلاف المعقول والعادة. فإن السادة لا يؤثرون عبيدهم بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب، ويتخذون لأنفسهم أردأها وأدونها. فلو كان جل وعلا متخذاً ولداً «سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً» لاتخذ أجود النصيبين ولم يتخذ أردأهماٰ ولم يصطفكم دون نفسه بأفضلهما.
وهذا الإنكار متوجه على الكفار في قولهم: الملائكة بنات الله. سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً. فقد جعلوا له الأولادٰ ومع ذلك جعلوا له أضعفها وأردأها وهو الإناثٰ وهم لا يرضونها لأنفسهم.
وقد بين الله هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله {أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلاٍّنثَىٰتِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ}، وقوله: {أَمْ لَهُ ٱلْبَنَـٰتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ}، وقوله: {لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} والآيات بمثل هذا كثيرة جداً. وقد بينا ذلك بإيضاح في «سورة النحل». وقوله في هذه الآية الكريمة {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمً} بين فيه أن ادعاء الأولاد لله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً ـ أمر عظيم جداً. وقد بين شدة عظمه بقوله تعالى: {وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداًلَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاًتَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلاٌّرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاًأَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداًوَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداًإِن كُلُّ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ إِلاَّ آتِى ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداًإِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْوَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَرْد} فالمشركون قبحهم الله جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، ثم ادعوا أنهم بنات الله، ثم عبدوهم. فاقترفوا الجريمة العظمى في المقامات الثلاث، والهمزة والفاء في نحو قوله: {أَفَأَصْفَـٰكُمْ} قد بينا حكمها بإيضاح في «سورة النحل» أيضاً. قوله تعالى: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِى ٱلْعَرْشِ سَبِيل}. قرأ جمهور القراء «كما تقولون» بتاء الخطاب. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم «كما يقولون» بياء الغيبة. وفي معنى هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير، كلاهما حق ويشهد له قرآن. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الآية قد يكون فيها وجهان كلاهما حق، وكلاهما يشهد له قرآن فنذكر الجميع لأنه كله حق.
الأول من الوجهين المذكورين ـ أن معنى الآية الكريمة: لو كان مع الله آلهة أخرى كما يزعم الكفار لابتغوا ـ أي الآلهة المزعومة ـ أي لطلبوا إلى ذي العرش ـ أي إلى الله سبيلاً ـ أي إلى مغالبته وإزالة ملكه، لأنهم إذاً يكونون شركاءه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض. سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً!
وهذا القول في معنى الآية هو الظاهر عندي، وهو المتبادر من معنى الآية الكريمة. ومن الآيات الشاهدة لهذا المعنى قوله تعالى: {مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَعَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ فَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}،وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} وهذا المعنى في الآية مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبي علي الفارسي، والنقاش، وأبي منصور، وغيره من المتكلمين.
الوجه الثاني في معنى الآية الكريمة: أن المعنى {لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِى ٱلْعَرْشِ سَبِيل} أي طريقاً ووسيلة تقربهم إليه لاعترافهم بفضله. ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَـٰفُونَ عَذَابَهُ}. ويروى هذا القول عن قتادة. واقتصر عليه ابن كثير في تفسيره.
ولا شك أن المعنى الظاهر المتبادر من الآية بحسب اللغة العربية هو القول الأول، لأن في الآية فرض المحال، والمحال المفروض الذي هو وجود آلهة مع الله مشاركة له لا يظهر معه أنها تتقرب إليه، بل تنازعه لو كانت وجودة، ولكنها معدومة مستحيلة الوجود. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاٌّخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورً} في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير:
الأول ـ أن المعنى: وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً. أي حائلاً وساتراً يمنعهم من تفهم القرآن وإدراكه لئلا يفقهوه فينتفعوا به. وعلى هذا القول ـ فالحجاب المستور هو ما حجب الله به قلوبهم عن الانتفاع بكتابه. والآيات الشاهدة لهذا المعنى كثيرة. كقوله: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِىۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَٱعْمَلْ إِنَّنَا عَـٰمِلُونَ}، وقوله: {خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ}، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ}. إلى غير ذلك من الآيات، وممن قال بهذا القول في معنى الآية: قتادة والزجاج وغيرهما.
الوجه الثاني في الآية ـ أن المراد بالحجاب المستور أن الله يستره عن أعين الكفار فلا يرونه. قال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية. أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وصححه. وابن مردويه، وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: لما نزلت {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول: مذمما أبينا... ودينه قلينا ... وأمره عصينا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وأبو بكر رضي الله عنه إلى جنبه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك؟ فقال: «إنها لن تراني» وقرأ قرآناً اعتصم به. كما قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاٌّخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورً}. فجاءت حتى قامت على أبي بكر رضي الله عنه فلم تر النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر، بلغني أن صاحبك هجانيٰ؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا ورب هذا البيت ما هجاك. فانصرفت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها. إلى غير ذلك من الروايات بهذا المعنى.
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية، بعد أن ساق بعض الروايات نحو ما ذكرنا في هذا الوجه الأخير ما نصه: ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا. وذلك أني هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شيء، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن، فعبرا علي ثم رجعا من حيث جاءا، وأحدهما يقول للآخر: هذا ديبله (يعنون شيطاناً) وأعمى الله عز وجل أيصارهم فلم يروني اهـ وقال القرطبي: إن هذا الوجه في معنى الآية هو الأظهر. والعلم عند الله تعالى.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {حِجَابًا مَّسْتُورً} قال بعض العلماء: هو من إطلاق اسم المفعول وإرادة اسم الفاعل. أي حجاباً ساتراً، وقد يقع عكسه كقوله تعالى: {مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} أي مدفوق {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} أي مرضية. فإطلاق كل من اسم الفاعل واسم المفعول وإرادة الآخر أسلوب من أساليب اللغة العربية. والبيانيون يسمون مثل ذلك الإطلاق «مجازاً عقلياً» ومن أمثلة إطلاق المفعول وإرادة الفاعل كالقول في الآية ـ قولهم: ميمون ومشؤوم، بمعنى يا من وشائم. وقال بعض أهل العلم: قوله {مَّسْتُورً} على معناه الظاهر من كونه اسم مفعول، لأن ذلك الحجاب مستور عن أعين الناس فلا يرونه. أو مستوراً به القارىء فلا يراه غيره. واختار هذا أبو حيان في البحر. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً
أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْرً}. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل على قلوب الكفار أكنة، (جمع كنان) وهو ما يستر الشيء ويغطيه ويكنه، لئلا يفقهوا القرآن. أو كراهة أن يفقهوه لحيلولة تلك الأكنة بين قلوبهم وبين فقه القرآن. أي فهم معانيه فهماً ينتفع به صاحبه. وأنه جعل في آذانهم وقرأ أي صمماً وثقلاً لئلا يسمعوه سماع قبول وانتفاع.
وبين في مواضع أخر سبب الحيلولة بين القلوب وبين الانتفاع به، وأنه هو كفرهم، فجازاهم الله على كفرهم بطمس البصائر، وإزاغة القلوب والطبع والختم والأكنة المانعة من وصول الخير إليها، كقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، وقوله: {بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}، وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وقوله: {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضً}، وقوله: {وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَـٰفِرُونَ}، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
في هذه الآية الكريمة ـ الرد الواضح على القدرية في قولهم: إن الشر لا يقع بمشيئة الله، بل بمشيئة العبد. سبحان الله وتعالى علواً كبيراً عن أن يقع في ملكه شيء ليس بمشيئته؟ {وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُو}، {وَلَوْ شِئْنَا لاّتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَ}، {وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ} إلى غير ذلك من الآيات.
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 285 {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا * وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـٰقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا * وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً * وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـٰناً فَلاَ يُسْرِف فِّى ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً * وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلاٌّرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلاٌّرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا * ذَٰلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتُلْقَىٰ فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا * أَفَأَصْفَـٰكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا * قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِى ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَـٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلاٌّرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا * وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاٌّخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورً}
قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورً}. الضمير في قوله {عَنْهُمُ} راجع إلى المذكورين قبله في قوله: {وَءَاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ}. ومعنى الآية: إن تعرض عن هؤلاء المذكورين فلم تعطهم شيئاً لأنه ليس عندك. وإعراضك المذكور عنهم {ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَ} أي رزق حلال. كالفيء يرزقكه الله فتعطيهم منه {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورً} أي ليناً لطيفاً طيباً. كالدعاء لهم بالغنى وسعة الرزق، ووعدهم بأن الله إذا يسر من فضله رزقاً أنك تعطيهم منه.
وهذا تعليم عظيم من الله لنبيه لمكارم الأخلاق، وأنه إن لم يقدر على الإعطاء الجميل فليتجمل في عدم الإعطاء.
لأن الرد الجميل خير من الإعطاء القبيح.
وهذا الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، صرح به الله جل وعلا في سورة «البقرة» في قوله: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى}، ولقد أجاد من قال: إلا تكن ورق يوماً أجود بها للسائلين فإني لين العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوالى وإما حسن مردودي
والآية الكريمة تشير إلى أنه صلى الله عليه وسلم لا يعرض عن الإعطاء إلا عند عدم ما يعطى منه، وأن الرزق المنتظر إذا يسره الله فإنه يعطيهم منه، ولا يعرض عنهم. وهذا هو غاية الجود وكرم الأخلاق. وقال القرطبي: قولاً {مَّيْسُورً} مفعول بمعنى الفاعل من لفظ اليسر كالميمون.
وقد علمت مما قررنا أن قوله: {ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ} متعلق بفعل الشرط الذي هو {تُعْرِضَنَّ} لا بجزاء الشرط.
وأجاز الزمخشري في الكشاف تعلقه بالجزاء وتقديمه عليه. ومعنى ذلك: فقل لهم قولاً ميسوراً {ٱبْتِغَاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ}. أي يسر عليهم والطف بهم. لابتغائك بذلك رحمة الله. ورد ذلك عليه أبو حيان في «البحر المحيط» بأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله. قال: لا يجوز في قولك إن يقم فاضرب خالداً ـ أن تقول: إن يقم خالداً فاضرب. وهذا منصوص عليه ـ انتهى.
وعن سعيد بن جبير رحمه الله: أن الضمير في قوله {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} راجع للكفار. أي إن تعرض عن الكفار ابتغاء رحمة من ربك، أي نصر لك عليهم، أو هداية من الله لهم. وعلى هذا فالقول الميسور: المداراة باللسان. قاله أبو سليمان الدمشقي، انتهى من البحر. ويسر بالتخفيف يكون لازماً ومتعدياً، وميسور من المتعدي. تقول: يسرت لك كذا إذا أعددته. قاله أبو حيان أيضاً. قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـٰناً فَلاَ يُسْرِف فِّى ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورً}. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من قتل مظلوماً فقد جعل الله لوليه سلطاناً، ونهاه عن الإسراف في القتل، ووعده بأنه منصور.
والنهي عن الإسراف في القتل هنا شامل ثلاث صور:
الأولى ـ أن يقتل اثنين أو أكثر بواحد، كما كانت العرب تفعله في الجاهلية. كقول مهلهل بن ربيعة لما قتل بجير بن الحارث بن عباد في حرب البسوس المشهورة: بؤبشسع نعل كليب. فغضب الحارث بن عباد، وقال قصيدته المشهورة: قربا مربط النعامة مني لقحت حرب وائل عن حيال
قربا مربط النعامة مني إن بيع الكرام بالشسع غالي ـ الخ
وقال مهلهل أيضاً: كل قتيل في كليب غره حتى ينال القتل آل مره
ومعلوم أن قتل جماعة بواحد لم يشتركوا في قتله: إسراف في القتل داخل في النهي المذكور في الآية الكريمة.
الثانية ـ أن يقتل بالقتيل واحداً فقط ولكنه غير القاتل. لأن قتل البريء بذنب غيره إسراف في القتل، منهي عنه في الآية أيضاً.
الثالثة ـ أن يقتل نفس القاتل ويمثل به. فإن زيادة المثلة إسراف في القتل أيضاً.
وهذا هو التحقيق في معنى الآية الكريمة ـ فما ذكره بعض أهل العلم، ومال إليه الرازي في تفسيره بعض الميل، من أن معنى الآية: فلا يسرف الظالم الجاني في القتل. تخويفاً له من السلطان. والنصر الذي جعله الله لولي المقتول لا يخفى ضعفه، وأنه لا يلتئم مع قوله بعده {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورً}.
وهذا السلطان الذي جعله الله لولي المقتول لم يبينه هنا بياناً مفصلاً، ولكنه أشار في موضعين إلى أن هذا السلطان: هو ما جعله الله من السلطة لولي المقتول على القاتل، من تمكينه من قتله إن أحب. ولا ينافي ذلك أنه إن شاء عفا على الدية أو مجاناً.
الأول ـ قوله هنا {فَلاَ يُسْرِف فِّى ٱلْقَتْلِ} بعد ذكر السلطان المذكور، لأن النهي عن الإسراف في القتل مقترناً بذكر السلطان المذكور يدل على أن السلطان المذكور هو ذلك القتل المنهي عن الإسراف فيه.
الموضع الثاني ـ قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى} إلى قوله {وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَـٰبِ}. فهو يدل على أن السلطان المذكور هو ما تضمنته آية القصاص هذه، وخير ما يبين به القرآن القرآن.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة.
المسألة الأولى ـ يفهم من قوله {مَظْلُومً} أن من قتل غير مظلوم ليس لوليه سلطان على قاتله، وهو كذلك، لأن من قتل بحق فدمه حلال، ولا سلطان لوليه في قتله. كما قدمنا بذلك حديث ابن مسعود المتفق عليه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» كما تقدم إيضاحه في سورة «المائدة».
وبينا هذا المفهوم في قوله {مَظْلُومً} يظهر به بيان المفهوم في قوله أيضاً: {وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ}.
واعلم ـ أنه قد ورد في بعض الأدلة أسباب أخر لإباحة قتل المسلم غير الثلاث المذكورة، على اختلاف في ذلك بين العلماء. من ذلك: المحاربون إذا لم يقتلوا أحداً. عند من يقول بأن الإمام مخير بين الأمور الأربعة المذكورة في قوله: {أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤ}. كما تقدم إيضاحه مستوفى في سورة «المائدة».
ومن ذلك: قتل الفاعل والمفعول به في فاحشة اللواط، وقد قدمنا الأقوال في ذلك وأدلتها بإيضاح في سورة «هود».
وأما قتل الساحر فلا يبعد دخوله في قتل الكافر المذكور في قوله «التارك لدينه المفارق للجماعة» لدلالة القرآن على كفر الساحر في قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ}، وقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}. وقوله: {وَيَتَعَلَّمُونَ}.
وأما قتل مانع الزكاة ـ فإنه إن أنكر وجوبها فهو كافر مرتد داخل في «التارك لدينه المفارق للجماعة». وأما إن منعها وهو مقر بوجوبها فالذي يجوز فيه: القتال لا القتل، وبين القتال والقتل فرق واضح معروف.
وأما ما ذكره بعض أهل العلم من: أن من أتى بهيمة يقتل هو وتقتل البهيمة معه لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» قال الهيثمي في «مجمع الزوائد»: رواه أبو يعلى، وفيه محمد بن عمرو بن علقمة، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات. ورواه ابن ماجه من طريق داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً.
وأكثر أهل العلم على أنه لا يقتل. لأن حصر ما يباح به دم المسلم في الثلاث المذكورة في حديث ابن مسعود المتفق عليه أولى بالتقديم من هذا الحديث، مع التشديد العظيم في الكتاب والسنة في قتل المسلم بغير حق، إلى غير ذلك من المسائل المذكورة في الفروع.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الحصر في الثلاث المذكورة في حديث ابن مسعود الثابت في الصحيح لا ينبغي أن يزاد عليه، إلا ما ثبت بوحي ثبوتاً لا مطعن فيه، لقوته. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثانية ـ قد جاءت آيات أخر تدل على أن المقتول خطأ لا يدخل في هذا الحكم. كقوله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}، وقوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَ}. لما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأها، قال الله نعم قد فعلت. وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئ} ثم بين ما يلزم القاتل خطأ بقوله: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُو}. وقد بين صلى الله عليه وسلم الدية قدراً وجنساً كما هو معلوم في كتب الحديث والفقه كما سيأتي إيضاحه.
المسألة الثالثة ـ يفهم من إطلاق قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومً} أن حكم الآية يستوي فيه القتل بمحدد كالسلاح، وبغير محدد كرضخ الرأس بحجر ونحو ذلك. لأن الجميع يصدق عليه اسم القتل ظلماً فيجب القصاص.
وهذا قول جمهور العلماء، منهم مالك، والشافعي، وأحمد في أصح الروايتين.
وقال النووي في «شرح مسلم»: هو مذهب جماهير العلماء.
وخالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقال: لا يجب القصاص إلا في القتل بالمحدد خاصة، سواء كان من حديد، أو حجر، أو خشب، أو فيما كان معروفاً بقتل الناس كالمنجنيق، والإلقاء في النار.
واحتج الجمهور على أن القاتل عمداً بغير المحدد يقتص منه بأدلة:
الأول ـ ما ذكرنا من إطلاق النصوص في ذلك. الثاني ـ حديث أنس بن مالك المشهور الذي أخرجه الشيخان، وباقي الجماعة: أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها، فرضخ رأسها بالحجارة، فاعترف بذلك فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين، رض رأسه بهما.
وهذا الحديث المتفق عليه نص صريح صحيح في محل النزاع، تقوم به الحجة على الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ولا سيما على قوله: باستواء دم المسلم والكافر المعصوم الدم كالذمي.
الثالث ـ ما أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهما، عن حمل بن مالك من القصاص في القتل بالمسطح. قال النسائي: أخبرنا يوسف بن سعيد، قال حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال أخبرني عمرو بن دينار: أنه سمع طاوساً يحدث عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه: أنه نشد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فقام حمل بن مالك فقال: كنت بين حجرتي امرأتين. فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها. فقضى النَّبي صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة، وأن تقتل بها. وقال أبو داود: حدثنا محمد بن مسعود المصيصي، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار: أنه سمع طاوساً عن ابن عباس، عن عمر: أنه سأل في قضية النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال:
كنت بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلها وجنينها. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة، وأن تقتل. قال أبو داود: قال النضر بن شميل: المسطح هو الصولج. قال أبو داود: وقال أبو عبيد: المسطح عود من أعواد الخباء. وقال ابن ماجه: حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي، ثنا أبو عاصم، أخبرني ابن جريج، حدثني عمرو بن دينار: أنه سمع طاوساً، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب أنه نَشَدَ الناس قضاء النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك (يعني في الجنين) فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين امرأتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وقتلت جنينها. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد، وأن تقتل بها. انتهى من السنن الثلاث بألفاظها.
ولا يخفى أن هذا الإسناد صحيح. فرواية أبي داود، عن محمد بن مسعود المصيصي وهو ابن مسعود بن يوسف النيسابوري، ويقال له المصيصي أبو جعفر العجمي نزيل طرسوس والمصيصة، وهو ثقة عارف. ورواية ابن ماجه عن أحمد بن سعيد الدارمي، وهو ابن سعيد
بن صخر الدارمي أبو جعفر وهو ثقة حافظ، وكلاهما (أعني محمد بن مسعود المذكور عند أبي داود، وأحمد بن سعيد المذكور عند ابن ماجه) روي هذا الحديث عن أبي عاصم وهو الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم الشيباني، وهو أبو عاصم النَّبيل، وهو ثقة ثبت. والضحاك رواه عن ابن جريج، وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وهو ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل. إلا أن هذا الحديث صرح فيه بالتحديث والاخبار عن عمرو بن دينار وهو ثقة ثبت، عن طاوس وهو ثقة فقيه فاضل، عن ابن عباس، عن حمل، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وأما رواية النسائي فهي عن يوسف بن سعيد، وهو ابن سعيد بن مسلم المصيصي ثقة حافظ، عن حجاج بن محمد، وهو ابن محمد المصيصي الأعور أبو محمد الترمذي الأصل نزيل بغداد ثم المصيصة ثقة ثبت. لكنه اختلط في آخر عمره لما قدم بغداد قبل موته، عن ابن جريج، إلى آخر السند المذكور عند أبي داود وابن ماجه. وهذا الحديث لم يخلط فيه حجاج
المذكور في روايته له عن ابن جريج. بدليل رواية أبي عاصم له عند أبي داود وابن ماجه، عن ابن جريج كرواية حجاج المذكور عند النسائي. وأبو عاصم ثقة ثبت.
رواه البيهقي عن عبد الرزاق، عن ابن جريج. وجزم بصحة هذا الإسناد ابن حجر في الإصابة في ترجمة حمل المذكور. وقال البيهقي في «السنن الكبرى» في هذا الحديث: وهذا إسناد صحيح وفيما ذكر أبو عيسى الترمذي في كتاب «العلل» قال: سألت محمداً (يعني البخاري) عن هذا الحديث فقال: هذا حديث صحيح، رواه ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس. وابن جريج حافظ اهـ.
فهذا الحديث نص قوي في القصاص في القتل بغير المحدد، لأن المسطح عمود. قال الجوهري في صحاحه: والمسطح أيضاً عمود الخباء. قال الشاعر وهو مالك بن عوف النصري: تعرض ضيطار وخزاعة دوننا وما خير ضيطار يقلب مسطحا
يقول: تعرض لنا هؤلاء القوم ليقاتلونا وليسوا بشيء. لأنهم لا سلاح معهم سوى المسطح والضيطار، هو الرجل الضخم الذي لا غناء عنده.
الرابع ـ ظواهر آيات من كتاب الله تدل على القصاص في القتل بغير المحدد. كقوله تعالى: {فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}، وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}، وقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَ}، وقوله: {ذٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ}،وقوله: {وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍإِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ}.
وفي الموطأ ما نصه: وحدثني يحيى عن مالك، عن عمر بن حسين مولى عائشة بنت قدامة: أن عبد الملك بن مروان أقاد ولي رجل من رجل قتله بعصاً. فقتله وليه بعصاً.
قال مالك: والأمر المجتمع عليه الذي لا اختلاف فيه عندنا: أن الرجل إذا ضرب الرجل بعصا أو رماه بحجر، أو ضربه عمداً فمات من ذلك. فإن هذا هو العمد وفيه القصاص.
قال مالك: فقتل العمد عندنا أن يعمد الرجل إلى الرجل فيضربه حتى تفيض نفسه اهـ محل الغرض عنه.
وقد قدمنا أن هذا القول بالقصاص في القتل بالمثقل هو الذي عليه جمهور العلماء. منهم الأئمة الثلاثة، والنخعي، والزهري، وابن سيرين، وحماد، وعمرو بن دينار، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد، نقله عنهم ابن قدامة في المغني.
وخالف في ذلك أبو حنيفة، والحسن، والشعبي، وابن المسيب، وعطاء، وطاوس رحمهم الله فقالوا: لا قصاص في القتل بالمثقل. واحتج لهم بأدلة:
منها ـ أن القصاص يشترط له العمد، والعمد من أفعال القلوب، ولا يعلم إلا بالقرائن الجازمة الدالة عليه. فإن كان القتل بآلة القتل كالمحدد، علم أنه عامد قتله. وإن كان بغير ذلك لم يعلم عمده للقتل. لاحتمال قصده أن يشجه أو يؤلمه من غير قصد قتله فيؤول إلى شبه العمد.
ومنها ـ ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة عبد أو أمة. ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها. وأن العقل على عصبتها».
وفي رواية «اقتتلت امرأتان من هذيل. فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها. فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها».
قالوا: فهذا حديث متفق، عليه يدل على عدم القصاص في القتل بغير المحدد. لأن روايات هذا الحديث تدل على القتل بغير محدد، لأن في بعضها أنها قتلتها بعمود، وفي بعضها أنها قتلتها بحجر.
ومنها ـ ما روي عن النعمان بن بشير، وأبي هريرة، وعلي، وأبي بكرة رضي الله عنهم مرفوعاً: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا قود إلا بحديدة». وفي بعض رواياته «كل شيء خطأ إلا السيف، ولكل خطإ أرش».
وقد حاول بعض من نصر هذا القول من الحنفية رد حجج مخالفيهم. فزعم أن رض النَّبي صلى الله عليه وسلم رأس اليهودي بين حجرين إنما وقع بمجرد دعوى الجارية التي قتلها. وأن ذلك دليل على أنه كان معروفاً بالإفساد في الأرض. ولذلك فعل به صلى الله عليه وسلم ما فعل.
ورد رواية ابن جريج عن طاوس عن ابن عباس المتقدمة ـ بأنها مخالفة للروايات الثابتة في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على عاقلة المرأة لا بالقصاص.
قال البيهقي في (السنن الكبرى) بعد أن ذكر صحة إسناد الحديث عن ابن عباس بالقصاص من المرأة التي قتلت الأخرى بمسطح كما تقدم ما نصه: إلا أن لفظ الحديث زيادة لم أجدها في شيء من طرق هذا الحديث، وهي قتل المرأة بالمرأة. وفي حديث عكرمة عن ابن عباس موصولاً، وحديث ابن طاوس عن أبيه مرسلاً، وحديث جابر وأبي هريرة موصولاً ثابتاً ـ أنه قضى بديتها على العاقلة. انتهى محل الغرض من كلام البيهقي بلفظه.
وذكر البيهقي أيضاً:
أن عمرو بن دينار روجع في هذا الحديث بأن ابن طاوس رواه عن أبيه على خلاف رواية عمرو، فقال للذي راجعه: شككتني.
وأجيب من قبل الجمهور عن هذه الاحتجاجات: بأن رضه رأسه اليهودي قصاص. ففي رواية ثابتة في الصحيحين وغيرهما: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله حتى اعترف بأنه قتل الجارية. فهو قتل قصاص باعتراف القاتل، وهو نص متفق عليه، صريح في محل النزاع، ولا سيما عند من يقول باستواء دم المسلم والكافر كالذمي ـ كأبي حنيفة رحمه الله.
وأجابوا عن كون العمد من أفعال القلوب، وأنه لا يعلم كونه عامداً إلا إذا ضرب بالآلة المعهودة للقتل ـ بأن المثقل كالعمود والصخرة الكبيرة من آلات القتل كالسيف. لأن المشدوخ رأسه بعمود أو صخرة كبيرة يموت من ذلك حالاً عادة كما يموت المضروب بالسيف. وذلك يكفي من القرينة على قصد القتل.
وأجابوا عما ثبت من قضاء النَّبي صلى الله عليه وسلم على عاقلة المرأة القاتلة بعمود أو حجر بالدية ـ من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه معارض بالرواية الصحيحة التي قدمناها عند أبي داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث حمل بن مالك وهو كصاحب القصة. لأن القاتلة والمقتولة زوجتاه ـ من كونه صلى الله عليه وسلم قضى فيها بالقصاص لا بالدية.
الثاني: ما ذكره النووي في شرح مسلم وغيره قال: وهذا محمول على حجر صغير وعمود صغير لا يقصد به القتل غالباً. فيكون شبه عمد تجب فيه الدية على العاقلة، ولا يجب فيه قصاص ولا دية على الجاني. وهذا مذهب الشافعي والجماهير اهـ كلام النووي رحمه الله.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا الجواب غير وجيه عندي: لأن في بعض الروايات الثابتة في الصحيح: أنها قتلت بعمود فسطاط، وحمله على الصغير الذي لا يقتل بعيد.
الثالث: هو ما ذكره ابن حجر في «فتح الباري» من أن مثل هذه المرأة لا تقصد غالباً قتل الأخرى. قال ما نصه:
وأجاب من قال به ـ يعني القصاص في القتل بالمثقل ـ بأن عمود الفسطاط يختلف بالكبر والصغر، بحيث يقتل بعضه غالباً ولا يقتل بعضه غالباً. وطرد المماثلة في القصاص إنما يشرع فيما إذا وقعت الجناية بما يقتل غالباً.
وفي هذا الجواب نظر، فإن الذي يظهر أنه إنما لم يجب فيه القود لأنها لم يقصد مثلها وشرط القود العمد، وهذا إنما هو شبه العمد، فلا حجة فيه للقتل بالمثقل ولا عكسه. انتهى كلام ابن حجر بلفظه.
قال مقيده عفا الله عنه: والدليل القاطع على أن قتل هذه المرأة لضرتها خطأ في القتل شبه عمد. لقصد الضرب دون القتل بما لا يقتل غالباً ـ تصريح الروايات المتفق عليها: بأنه صلى الله عليه وسلم جعل الدية على العاقلة، والعاقلة لا تحمل العمد بإجماع المسلمين.
وأجابوا عن حديث «لا قود إلا بحديدة» بأنه لم يثبت.
قال البيهقي في «السنن الكبرى» بعد أن ساق طرقه عن النعمان بن بشير، وأبي بكرة، وأبي هريرة، وعلي رضي الله عنهم ما نصه:
وهذا الحديث لم يثبت له إسناد معلى بن هلال الطحان متروك، وسليمان بن أرقم ضعيف، ومبارك بن فضالة لا يحتج به، وجابر بن يزيد الجعفي مطعون فيه اهـ.
وقال ابن حجر «في فتح الباري في باب إذا قتل بحجر أو عصا» ما نصه:
وخالف الكوفيون فاحتجوا بحديث «لا قود إلا بالسيف» وهو حديث ضعيف أخرجه البزار، وابن عدي من حديث أبي بكرة. وذكر البزار الاختلاف فيه مع ضعف إسناده: وقال ابن عدي: طرقه كلها ضعيفة. وعلى تقدير ثبوته فإنه على خلاف قاعدتهم في: أن السنة لا تنسخ الكتاب ولا تخصصه.
واحتجوا أيضاً بالنهي عن المثلة، وهو صحيح ولكنه محمول عند الجمهور على غير المثلة في القصاص جمعاً بين الدليلين ـ انتهى الغرض من كلام ابن حجر بلفظه.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في «نيل الأوطار» ما نصه:
وذهبت العترة والكوفيون، ومنهم أبو حنيفة وأصحابه ـ إلى أن الاقتصاص لا يكون إلا بالسيف. واستدلوا بحديث النعمان بن بشير عند ابن ماجه، والبزار، والطحاوي، والطبراني والبيهقي، بألفاظ مختلفة منها «لا قود إلا بالسيف». وأخرجه ابن ماجه أيضاً، والبزار، والبيهقي من حديث أبي بكرة. وأخرجه الدارقطني، والبيهقي، من حديث أبي هريرة. وأخرجه الدارقطني من حديث علي. وأخرجه البيهقي، والطبراني من حديث ابن مسعود. وأخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلاً.
وهذه الطرق كلها لا تخلو واحدة منها من ضعيف أو متروك. حتى قال أبو حاتم: حديث منكر. وقال عبد الحق وابن الجوزي: طرقه كلها ضعيفة. وقال البيهقي: لم يثبت له إسناد. انتهى محل الغرض من كلام الشوكاني رحمه الله تعالى.
ولا شك في ضعف هذا الحديث عند أهل العلم بالحديث. وقد حاول الشيخ ابن التركماني تقويته في «حاشيته على سنن البيهقي» بدعوى تقوية جابر بن يزيد الجعفي، ومبارك بن فضالة. مع أن جابراً ضعيف رافضي، ومبارك يدلس تدليس التسوية.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يقتضي الدليل رجحانه عندي: هو القصاص مطلقاً في القتل عمداً بمثقل كان أو بمحدد. لما ذكرنا من الأدلة، ولقوله جل وعلا: {وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ}. لأن القاتل بعمود أو صخرة كبيرة إذا علم أنه لا يقتص منه جرأه ذلك على القتل. فتنتفي بذلك الحكمة المذكورة في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ}. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة ـ جمهور العلماء على أن السلطان الذي جعله الله في هذه الآية لولي المقتول ظلماً يستلزم الخيار بين ثلاثة أشياء: وهي القصاص، والعفو على الدية جبراً على الجاني، والعفو مجاناً في غير مقابل ـ وهو أحد قولي الشافعي.
قال النووي في شرح مسلم: وبه قال سعيد بن المسيب، وابن سيرين وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وعزاه ابن حجر في الفتح إلى الجمهور.
وخالف في ذلك مالك، وأبو حنيفة، والثوري رحمهم الله فقالوا: ليس للولي إلا القصاص، أو العفو مجاناً. فلو عفا على الدية وقال الجاني: لا أرضى إلا القتل، أو العفو مجاناً، ولا أرضى الدية. فليس لولي المقتول إلزامه الدية جبراً.
واعلم أن الذين قالوا: إن الخيار للولي بين القصاص والدية اختلفوا في عين ما يوجبه القتل عمداً إلى قولين: أحدهما ـ أنه القود فقط. وعليه فالدية بدل منه. والثاني ـ أنه أحد شيئين: هما القصاص والدية.
وتظهر ثمرة هذا الخلاف فيما لو عفا عن الجاني عفواً مطلقاً، لم يصرح فيه بإرادة الدية ولا العفو عنها. فعلى أن الواجب عينا القصاص فإن الدية تسقط بالعفو المطلق. وعلى أن الواجب أحد الأمرين فإن الدية تلزم مع العفو المطلق. أما لو عفا على الدية فهي لازمة، ولو لم يرض الجاني عند أهل هذا القول. والخلاف المذكور روايتان عن الشافعي، وأحمد رحمهما الله.
واحتج من قال: بأن الخيار بين القصاص والدية لولي المقتول بقوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يفدى، وإما أن يقتل» أخرجه الشيخان، والإمام أحمد، وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. لكن لفظ الترمذي: «إما أن تعفو وإما أن يقتل». ومعنى «يفدى» في بعض الروايات، «ويودى» في بعضها: يأخذ الفداء بمعنى الدية. وقوله «يقتل» بالبناء للفاعل: أي يقتل قاتل وليه.
قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه نص في محل النزاع، مصرح بأن ولي المقتول مخير بين القصاص وأخذ الدية. وأن له إجبار الجاني على أي الأمرين شاء.
وهذا الدليل قوي دلالة ومتناً كما ترى.
واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـٰنٍ}. قالوا: إن الله جل وعلا رتب الاتباع بالدية بالفاء على العفو في قوله: {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ}. وذلك دليل واضح على أنه بمجرد العفو تلزم الدية، وهو دليل قرآني قوي أيضاً.
واحتج بعض العلماء للمخالفين في هذا. كمالك وأبي حنيفة رحمهما الله بأدلة. منها ما قاله الطحاوي: وهو أن الحجة لهم حديث أنس في قصة الربيع عمته فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «كتاب الله القصاص» فإنه حكم بالقصاص ولم يخير. ولو كان الخيار للولي لأعلمهم النَّبي صلى الله عليه وسلم. إذ لا يجوز للحاكم أن يتحكم لمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما من قبل أن يعلمه بأن الحق له في أحدهما. فلما حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله «فهو بخير النظرين» أي ولي المقتول مخير بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدية اهـ.
وتعقب ابن حجر في «فتح الباري» احتجاج الطحاوي هذا بما نصه: وتعقب بأنه قوله صلى الله عليه وسلم: «كتاب الله القصاص» إنما وقع عند طلب أولياء المجني عليه في العمد القود. فأعلم أن الكتاب الله نزل على أن المجني إذا طلب القود أجيب إليه. وليس فيما ادعاه من تأخير البيان.
الثاني ـ ما ذكره الطحاوي أيضاً: من أنهم أجمعوا على أن الولي لو قال للقائل: رضيت أن تعطيني كذا على ألا أقتلك ـ أن القاتل لا يجبر على ذلك. ولا يؤخذ منه كرهاً، وإن كان يجب عليه أن يحقن دم نفسه.
الثالث ـ أن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور «فهو بخير النظرين..» الحديث جار مجرى الغالب فلا مفهوم مخالفة له. وقد تقرر في الأصول: أن النص إذا جرى على الغالب لا يكون له مفهوم مخالفة لاحتمال قصد نفس الأغلبية دون قصد إخراج المفهوم عن حكم المنطوق. ولذا لم يعتبر جمهور العلماء مفهوم المخالفة في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ ٱللَّـٰتِى فِى حُجُورِكُمْ}. لجريه على الغالب، وقد ذكرنا هذه المسألة في هذا الكتاب المبارك مراراً.
وإيضاح ذلك في الحديث ـ أن مفهوم قوله «فهو بخير النظرين» أن الجاني لو امتنع من قبول الدية وقدم نفسه للقتل ممتنعاً من إعطاء الدية ـ أنه يجبر على إعطائها. لأن هذا أحد النظرين اللذين خير الشارع ولي المقتول بينهما. والغالب أن الإنسان يقدم نفسه على ماله فيفتدى بماله من القتل. وجريان الحديث على هذا الأمر الغالب يمنع من اعتبار مفهوم مخالفته كما ذكره أهل الأصول، وعقده في «مراقي السعود» بقوله في موانع اعتبار دليل الخطاب، أعني مفهوم المخالفة: أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جري على الذي غلب
ومحل الشاهد قوله «أو جري على الذي غلب» إلى غير ذلك من الأدلة التي احتجوا بها.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي رجحانه بالدليل في هذه المسألة: أو ولي المقتول هو المخير بين الأمرين، فلو أراد الدية وامتنع الجاني فله إجباره على دفعها. لدلالة الحديث المتفق عليه على ذلك، ودلالة الآية المتقدمة عليه، ولأن الله يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ}، ويقول: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ}.
ومن الأمر الواضح أنه إذا أراد إهلاك نفسه صوناً لماله للوارث ـ أن الشارع يمنعه من هذا التصرف الزائغ عن طريق الصواب، ويجبره على صون دمه بماله.
وما احتج به الطحاوي من الإجماع على أنه لو قال له: أعطني كذا على ألا أقتلك لا يجبر على ذلك ـ يجاب عنه بأنه لو قال: أعطني الدية المقررة في قتل العمد فإنه يجبر على ذلك. لنص الحديث، والآية المذكورين.
ولو قال له: أعطني كذا غير الدية لم يجبر. لأنه طلب غير الشيء الذي أوجبه الشارع، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الخامسة ـ جمهور العلماء على أن القتل له ثلاث حالات:
الأولى: العمد، وهو الذي فيه السلطان المذكور في الآية كما قدمنا.
والثانية: شبه العمد، والثالثة: الخطأ.
وممن قال بهذا: الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، وأحمد، والشافعي. ونقله في المغني عن عمر، وعلي رضي الله عنهما، والشعبي والنخعي، وقتادة، وحماد، وأهل العراق، والثوري، وغيرهم.
وخالف الجمهور مالك رحمه الله فقال: القتل له حالتان فقط. الأولى ـ العمد والثانية ـ الخطأ. وما يسميه غيره شبه العمد جعله من العمد. واستدل رحمه الله بأن الله لم يجعل في كتابه العزيز واسطة بين العمد والخطإ. بل ظاهر القرآن أنه لا واسطة بينهما. كقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ}، ثم قال في العمد: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ}، فلم يجعل بين الخطأ والعمد واسطة، وكقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}. فلم يجعل فيها بين الخطإ والعمد واسطة وإن كانت في غير القتل.
واحتج الجمهور على أن هناك واسطة بين الخطأ المحض، والعمد المحض، تسمى خطأ شبه عمد بأمرين:
الأول ـ أن هذا هو عين الواقع في نفس الأمر. لأن من ضرب بعصا صغيرة أو حجر صغير لا يحصل به القتل غالباً وهو قاصد للضرب معتقداً أن المضروب لا يقتله ذلك الضرب. ففعله هذا شبه العمد من جهة قصده أصل الضرب وهو خطأ في القتل. لأنه ما كان يقصد القتل، بل وقع القتل من غير قصده إياه.
والثاني ـ حديث دل على ذلك، وهو ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا سليمان بن حرب، ومسدد المعنى قالا: حدثنا حماد، عن خالد، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال مسدد: خطب يوم الفتح بمكة، فكبر ثلاثاً ثم قال: «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده (إلى ها هنا حفظته عن مسدد، ثم اتفقا): ألا أن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدميَّ، إلا ما كان من سقاية الحاج أو سدانة البيت ـ ثم قال ـ ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها، وحديث مسدد أتم.
حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب، عن خالد بهذا الإسناد نحو معناه.
حدثنا مسدد، ثنا عبد الوارث، عن علي بن زيد، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ـ أو فتح مكة ـ على درجة البيت أو الكعبة.
قال أبو داود: كذا رواه ابن عيينة أيضاً عن علي بن زيد، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
رواه أيوب السختياني، عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو مثل حديث خالد ورواه حماد بن سلمة، عن علي بن يزيد، عن يعقوب السَّدوسي، عن عبد الله بن عمرو، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم اهـ محل الغرض من سنن أبي داود.
وأخرج النسائي نحوه، وذكر الاختلاف على أيوب في حديث القاسم بن ربيعة فيه، وذكر الاختلاف على خالد الحذاء فيه وأطال الكلام في ذلك. وقد تركنا لفظ كلامه لطوله.
وقال ابن ماجه رحمه الله في سننه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة، عن أيوب: سمعت القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل: أربعون منها خلفة في بطونها أولادها».
حدثنا محمد بن يحيى، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن خالد الحذَّاء عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عند عبد الله بن عمرو، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
حدثنا عبد الله بن محمد الزهري، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن جدعان، سمعه من القاسم بن ربيعة عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم فتح مكة وهو على درج الكعبة، فحمد الله وأثنى عليه فقال: «الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. إلا أن قتيل الخطأ قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل: منها أربعون خلفة في بطونها أولادها». اهـ.
وساق البيهقي رحمه الله طرق هذا الحديث، وقال بعد أن ذكر الرواية عن ابن عمر التي في إسنادها علي بن زيد بن جدعان: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت محمد بن إسماعيل السكري يقول: سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: حضرت مجلس المزني يوماً وسأله سائل من العراقيين عن شبه العمد. فقال السائل: إن الله تبارك وتعالى وصف القتل في كتابه صفتين: عمداً وخطأ. فلم قلتم إنه على ثلاثة أصناف؟ ولم قلتم شبه العمد؟
فاحتج المزني بهذا الحديث فقال له مناظره: أتحتج بعلي بن زيد بن جدعان؟ فسكت المزني. فقلت لمناظره: قد روى هذا الخبر غير علي بن زيد. فقال: ومن رواه غير علي؟ قلت: رواه أيوب السختياني وخالد الحذَّاء. قال لي: فمن عقبة بن أوس؟ فقلت: عقبة بن أوس رجل من أهل البصرة، وقد رواه عنه محمد بن سيرين مع جلالته. فقال للمزني: أنت تناظرٰ أو هذا؟ فقال: إذا جاء الحديث فهو يناظر. لأنه أعلم بالحديث مني، ثم أتكلم أنا اهـ ثم شرع البيهقي يسوق طرق الحديث المذكور.
قال مقيده عفا الله عنه: لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأسانيد. أن الحديث ثابت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وأن الرواية عن ابن عمر وهم، وآفتها من علي بن زيد بن جدعان. لأنه ضعيف.
والمعروف في علوم الحديث: أن الحديث إذا جاء صحيحاً من وجه لا يعل بإتيانه من وجه آخر غير صحيح. والقصة التي ذكرها البيهقي في مناظرة محمد بن إسحاق بن حزيمة للعراقي الذي ناظر المزني، تدل على صحة الاحتجاج بالحديث المذكور عند ابن خزيمة.
قال مقيده عفا الله عنه: إذا عرفت الاختلاف بين العلماء في حالات القتل: هل هي ثلاث، أو اثنتان؟ وعرفت حجج الفريقين ـ فاعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه ما ذهب إليه الجمهور من أنها ثلاث حالات: عمد محض، وخطأ محض، وشبه عمد. لدلالة الحديث الذي ذكرنا على ذلك، ولأنه ذهب إليه الجمهور من علماء المسلمين. والحديث إنما أثبت شيئاً سكت عنه القرآن، فغاية ما في الباب زيادة أمر سكت عنه القرآن بالسنة، وذلك لا إشكال فيه على الجاري على أصول الأئمة إلا أبا حنيفة رحمه الله. لأن المقرر في أصوله أن الزيادة على النص نسخ، وأن المتواتر لا ينسخ بالآحاد. كما تقدم إيضاحه في سورة «الأنعام». ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله وافق الجمهور في هذه المسألة، خلافاً لمالك كما تقدم.
فإذا تقرر ما ذكرنا من أن حالات القتل ثلاث ـ فاعلم أن العمد المحض فيه القصاص. وقد قدمنا حكم العفو فيه. والخطأ شبه العمد. والخطأ المحض فيهما الدية على العاقلة.
واختلف العلماء في أسنان الدية فيهما. وسنبين إن شاء الله تعالى مقادير الدية في العمد المحض إذا وقع العفو على الدية، وفي شبه العمد. وفي الخطإ المحض.
اعلم أن الجمهور على أن الدية في العمد المحض وشبه العمد سواء. واختلفوا في أسنانها فيهما. فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها تكون أرباعاً: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة.
وهذا هو مذهب مالك وأبي حنيفة، والرواية المشهورة عن أحمد، وهو قول الزهري، وربيعة، وسليمان بن يسار، ويروى عن ابن مسعود. كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني.
وذهبت جماعة أخرى إلى أنها ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون في بطونها أولادها.
وهذا مذهب الشافعي، وبه قال عطاء، ومحمد بن الحسن، وروي عن عمر، وزيد، وأبي موسى، والمغيرة. ورواه جماعة عن الإمام أحمد.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول هو الذي يقتضي الدليل رجحانه. لما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أبي داود، والنسائي، وابن ماجه: من أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «منها أربعون خلفة في بطونها أولادها» وبعض طرقه صحيح كما تقدم.
وقال البيهقي في بيان الستين التي لم يتعرض لها هذا الحديث: (باب صفة الستين التي مع الأربعين) ثم ساق أسانيده عن عمر، وزيد بن ثابت، والمغيرة بن شعبة، وأبي موسى الأشعري، وعثمان بن عفان، وعلي في إحدى روايتيه عنه أنها ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة.
وقال ابن قدامة في المغني مستدلاً لهذا القول: ودليله هو ما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل مؤمناً متعمداً دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا فهو لهم» وذلك لتشديد القتل. رواه الترمذي وقال: هو حديث حسن غريب اهـ محل الغرض منه بلفظه، ثم ساق حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي قدمنا.
ثم قال مستدلاً للقول الأول: ووجه الأول ما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال: «كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعاً: خمساً وعشرين جذعة، وخمساً وعشرين حقة، وخمساً وعشرين بنت لبون، وخمساً وعشرين بنت مخاض» وهو قول ابن مسعود اهـ منه.
وفي الموطإ عن مالك: أن ابن شهاب كان يقول في دية العمد إذا قبلت: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة. وقد قدمنا: أن دية العمد، ودية شبه العمد سواء عند الجمهور.
وفي دية شبه العمد للعلماء أقوال غير ما ذكرنا. منها ما رواه البيهقي، وأبو داود عن علي رضي الله عنه أنه قال: في شبه العمد أثلاث: ثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة، وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل عامها، وكلها خلفة.
ومنها ما رواه البيهقي وغيره عن ابن مسعود أيضاً: أنها أرباع: ربع بنات لبون، وربع حقاق وربع جذاع» وربع ثنية إلى بازل عامها. هذا حاصل أقوال أهل العلم في دية العمد، وشبه العمد.
وأولى الأقوال وأرجحها: ما دلت عليه السنة، وهو ما قدمنا من كونها ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة في بطونها أولادها.
وقد قال البيهقي رحمه الله في السنن الكبرى بعد أن ساق الأقوال المذكورة ما نصه: قد اختلفوا هذا الاختلاف، وقول من يوافق سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم المذكورة في الباب قبله أولى بالاتباع، وبالله التوفيق.
تنبيه
اعلم أن الدية في العمد المحض إذا عفا أولياء المقتول: إنما هي في مال الجاني، ولا تحملها العاقلة إجماعاً. وأظهر القولين: أنها حالة غير منجمة في سنين. وهو قول جمهور أهل العلم. وقيل بتنجيمها.
وعند أبي حنيفة أن العمد ليس فيه دية مقررة أصلاً. بل الواجب فيه ما انفق عليه الجاني وأولياء المقتول، قليلاً كان أو كثيراً، وهو حال عنده.
أما الدية في شبه العمد فهي منجمة في ثلاث سنين، يدفع ثلثها في آخر كل سنة من السنين الثلاث، ويعتبر ابتداء السنة من حين وجوب الدية.
وقال بعض أهل العلم: ابتداؤها من حين حكم الحاكم بالدية، وهي على العاقلة لما قدمناه في حديث أبي هريرة المتفق عليه من كونها على العاقلة. وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد رحمهم الله. وبه قال الشعبي والنخعي، والحكم، والثوري، وابن المنذر وغيرهم. كما نقله عنهم صاحب المغني ـ وهذا القول هو الحق.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الدية في شبه العمد في مال الجاني لا على العاقلة. لقصده الضرب وإن لم يقصد القتل. وبهذا قال ابن سيرين، والزهري، والحارث العكلي، وابن شبرمة، وقتادة، وأبو ثور، واختارة أبو بكر عبد العزيز اهـ من «المغني» لابن قدامة. وقد علمت أن الصواب خلافه. لدلالة الحديث المتفق عليه على ذلك.
أما مالك رحمه الله فلا يقول بشبه العمد أصلاً. فهو عنده عمد محض كما تقدم.
وأما الدية في الخطأ المحض فهو أخماس في قول أكثر أهل العلم.
واتفق أكثرهم على السن والصنف في أربع منها، واختلفوا في الخامس. أما الأربع التي هي محل اتفاق الأكثر فهي عشرون جذعة، وعشرون حقة، وعشرون بنت لبون، وعشرون بنت مخاض. وأما الخامس الذي هو محل الخلاف فبعض أهل العلم يقول: هو عشرون ابن مخاض ذكراً. وهو مذهب أحمد، وأبي حنيفة، وبه قال ابن مسعود، والنخعي، وابن المنذر. واستدل أهل هذا القول بحديث ابن مسعود الوارد بذلك.
قال أبو داود في سننه: حدثنا مسدد، حدثنا عبد الواحد، ثنا الحجاج عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك الطائي، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض ذكرٌ». وهو قول عبد الله ـ انتهى منه بلفظه.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا علي بن سعيد بن مسروق قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن حجاج، عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك الطائي قال: سمعت ابن مسعود يقول: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين ابن مخاض ذكوراً، وعشرين بنت لبون، وعشرين جَذَعة، وعشرين حِقَّة.
وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا عبد السلام بن عاصم، ثنا الصبَّاح بن محارب، ثنا حجاج بن أرطاة، ثنا زيد بن جبير، عن خشف بن مالك الطائي، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني خاض ذكوراً» ونحو هذا أخرجه الترمذي أيضاً عن ابن مسعود.
وأخرج الدارقطني عنه نحوه. إلا أن فيه: وعشرون بني لبون بدل بني مخاض.
وقال الحافظ في «بلوغ المرام»: إن إسناده أقوى من إسناد الأربعة. قال: وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر موقوفاً، وهو أصح من المرفوع.
وأما القول الثاني في هذا الخامس المختلف فيه ـ فهو أنه عشرون ابن لبون ذكراً، مع عشرين جذعة، وعشرين حقة، وعشرين بنت لبون، وعشرين بنت مخاض. وهذا هو مذهب مالك والشافعي. وبه قال عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسار، والزهري، والليث، وربيعة. كما نقله عنهم ابن قدامة في «المغني» وقال: هكذا رواه سعيد في سننه عن النخعي، عن ابن مسعود.
وقال الخطابي: روي أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «ودي الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة» وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض.
وقال البيهقي في السنن الكبرى: وأخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الرفاء البغدادي، أنبأ أبو عمرو عثمان بن محمد بن بشر، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا إسماعيل بن أبي أويس وعيسى بن مينا قالا: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، أن أباه قال: كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهي إلى قولهم. منهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار، في مشيخة جلة سواهم من نظرائهم، وربما اختلفوا في الشيء فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأياً، وكانوا يقولون: العقل في الخطأ خمسة أخماس: فخمس جذاع، وخمس حقاق، وخمس بنات لبون، وخمس بنات مخاض، وخمس بنو لبون ذكور، والسن في كل جرح قل أو كثر خمسة أخماس على هذه الصفة ـ انتهى كلام البيهقي رحمه الله.
قال مقيده عفا الله عنه: جعل بعضهم أقرب القولين دليلاً قول من قال: إن الصنف الخامس من أبناء المخاض الذكور لا من أبناء اللبون. لحديث عبد الله بن مسعود المرفوع المصرح بقضاء النَّبي صلى الله عليه وسلم بذلك. قال: والحديث المذكور وإن كان فيه ما فيه أولى من الأخذ بغيره من الرأي.
وسند أبي داود، والنسائي رجاله كلهم صالحون للاحتجاج. إلا الحجاج بن أرطاة فإن فيه كلاماً كثيراً واختلافاً بين العلماء. فمنهم من يوثقه، ومنهم من يضعفه. وقد قدمنا في هذا الكتاب المبارك تضعيف بعض أهل العلم له.
وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق كثير الخطأ والتدليس.
قال مقيده عفا الله عنه: حجاج المذكور من رجال مسلم. وأعل أبو داود والبيهقي وغيرهما الحديث بالوقف على ابن مسعود، قالوا: رفعه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم خطأ، وقد أشرنا إلى ذلك قريباً.
أما وجه صلاحية بقية رجال السنن ـ فالطبقة الأولى من سنده عند أبي داود مسدد وهو ثقة حافظ. وعند النسائي سعيد بن علي بن سعيد بن مسروق الكندي الكوفي وهو صدوق.
والطبقة الثانية عند أبي داود عبد الواحد وهو ابن زياد العبدي مولاهم البصري ثقة، في حديثه عن الأعمش وحده مقال. وعند النسائي يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وهو ثقة متقن.
والطبقة الثالثة عندهما حجاج بن أرطاة المذكور.
والطبقة الرابعة عندهما زيد بن جبير وهو ثقة.
والطبقة الخامسة عندهما خشف بن مالك الطائي وثقه النسائي.
والطبقة السادسة عندهما عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
والطبقة الأولى عند ابن ماجه عبد السلام بن عاصم الجعفي الهسنجاني الرازي وهو مقبول.
والطبقة الثانية عنده الصباح بن محارب التيمي الكوفي نزيل الري وهو صدوق، ربما خالف.
والطبقة الثالثة عنده حجاج بن أرطاة إلى آخر السند المذكور.
والحاصل ـ أن الحديث متكلم فيه من جهتين: الأولى من قبل حجاج بن أرطاة، وقد ضعفه الأكثر، ووثقه بعضهم، وهو من رجال مسلم. والثانية إعلاله بالوقف، وما احتج به الخطابي من أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «ودى الذي قتل بخيبر من إبل الصدقة» وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض. يقال فيه: إن الذي قتل في خيبر قتل عمداً، وكلامنا في الخطأ. وحجة من قال يجعل أبناء اللبون بدل أبناء المخاض رواية الدارقطني المرفوعة التي قال ابن حجر: إن سندها أصح من رواية أبناء المخاض، وكثرة من قال بذلك من العلماء.
وفي دية الخطأ للعلماء أقوال أخر غير ما ذكرنا. واستدلوا لها بأحاديث أخرى انظرها في «سنن النسائي، وأبي داود، والبيهقي» وغيرهم.
واعلم أن الدية على أهل الذهب ألف دينار. وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم عند الجمهور.
وقال أبو حنيفة: عشرة آلاف درهم. وعلى أهل البقر مائتا بقرة. وعلى أهل الشاء ألفا شاة. وعلى أهل الحلل مائتا حلة.
قال أبو داود في سننه: حدثنا يحيى بن حكيم، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان، ثنا حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار، أو ثمانية آلاف درهم. ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين.
قال: فكان ذلك كذلك، حتى استخلف عمر رحمه الله تعالى فقام خطيباً فقال: ألا إن الإبل قد غلت، قال: ففرضها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفاً، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. وترك دية أهل الذِّمة لم يرفعها فيما رفع من الدية.
حدثنا موسى بن اسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن عطاء بن أبي رباح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قضى في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وعلى أهل القمح شيئاً لم يحفظه محمد».
قال أبو داود: قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني قال: ثنا أبو تميلة، ثنا محمد بن إسحاق قال: ذكر عطاء عن جابر بن عبد الله قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فذكر مثل حديث موسى ـ وقال: وعلى أهل الطعام شيئاً لم أحفظه اهـ. وقال النسائي في سننه: أخبرنا أحمد بن سليمان قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أنبأنا محمد بن راشد عن سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور».
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومها على أهل القرى أربعمائة دينار، أو عدلها من الورق. ويقومها على أهل الإبل إذا غلت رفع قيمتها وإذا هانت نقص من قيمتها ـ على نحو الزمان ما كان. فبلغ قيمتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الأربعمائة دينار، إلى ثمانمائة دينار أو عدلها من الورق.
قال: وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من كان عقله في البقر: على أهل البقر مائتي بقرة. ومن كان عقله في الشاء: ألفي شاة. وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم، فما فضل فللعصبة» وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن يعقل على المرأة عصبتها من كانوا ولا يرثون منه إلا ما فضل عن ورثتها. وإن قتلت فعقلها بين ورثتها وهم يقتلون قاتلها». وقال النسائي في سننه: أخبرنا محمد بن المثنى، عن معاذ بن هانىء قال: حدثني محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار (ح) وأخبرنا أبو داود قال: حدثنا معاذ بن هانىء قال: حدثنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قتل رجل رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجعل النَّبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً ـ وذكر قوله: {إِلاَ أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} في أخذهم الدية واللفظ لأبي داود: أخبرنا محمد بن ميمون قال: حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس:
أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «قضى باثني عشر ألفاً» يعني في الدية ـ انتهى كلام النسائي رحمه الله.
وقال أبو داود في سننه أيضاً: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري، ثنا زيد بن الحباب، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رجلاً من بني عدي قتل. فجعل النَّبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً. قال أبو داود: رواه ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر ابن عباس.
وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا العباس بن جعفر، ثنا محمد بن سنان، ثنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «جعل الدية اثني عشر ألفاً» قال: وذلك قوله: {وَمَا نَقَمُوۤاْ إِلاَ أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} قال: بأخذهم الدية.
وفي الموطأ عن مالك: أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. قال مالك: فأهل الذهب أهل الشام وأهل مصر، وأهل الورق أهل العراق.
وعن مالك في الموطأ أيضاً: أنه سمع أن الدية تقطع في ثلاث سنين أو أربع سنين. قال مالك: والثلاث أحب ما سمعت إلى في ذلك.
قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا يقبل من أهل القرى في الدية الإبل، ولا من أهل العمود الذهب ولا الورق، ولا من أهل الذهب الورق، ولا من أهل الورق الذهب.
فروع تتعلق بهذه المسألة.
الأول ـ جمهور أهل العلم على أن الدية في الخطأ وشبه العمد مؤجلة في ثلاث سنين، يدفع ثلثها في كل واحد من السنين الثلاث.
قال ابن قدامة في «المغني»: ولا خلاف بينهم في أنها مؤجلة في ثلاث سنين. فإن عمر وعلياً رضي الله عنهما جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين، ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفاً. فاتبعهم على ذلك أهل العلم اهـ.
قال مقيده عفا الله عنه: ومثل هذا يسمى إجماعاً سكوتياً، وهو حجة ظنية عند جماعة من أهل الأصول، وأشار إلى ذلك صاحب «مراقي السعود» مع بيان شرط الاحتجاج به عند من يقول بذلك بقوله:
وجعل من سكت مثل من أقر فيه خلاف بينهم قد اشتهر
فالاحتجاج بالسكوتي نما تفريعه عليه من تقدما
وهو بفقد السخط والضد حرى مع مضي مهلة للنظر
وتأجيلها في ثلاث سنين هو قول أكثر أهل العلم.
الفرع الثاني ـ اختلف العلماء في نفس الجاني. هل يلزمه قسط من دية الخطأ كواحد من العاقلة، أو لا.
فمذهب أبي حنيفة، ومشهور مذهب مالك: أن الجاني يلزمه قسط من الدية كواحد من العاقلة.
وذهب الإمام أحمد، والشافعي: إلى أنه لا يلزمه من الدية شيء، لظاهر حديث أبي هريرة المتفق عليه المتقدم: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «قضى بالدية على عاقلة المرأة» وظاهره قضاؤه بجميع الدية على العاقلة. وحجة القول الآخر: أن أصل الجناية عليه وهم معينون له. فيتحمل عن نفسه مثل ما يتحمل رجل من عاقلته.
الفرع الثالث ـ اختلف العلماء في تعيين العاقلة التي تحمل عن الجاني دية الخطأ.
فمذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أن العاقلة هم أهل ديوان القاتل إن كان القاتل من أهل ديوان، وأهل الديوان أهل الرايات، وهم الجيش الذين كتبت أسماؤهم في الديوان لمناصرة بعضهم بعضاً، تؤخذ الدية من عطاياهم في ثلاث سنين.
وإن لم يكن من أهل ديوان فعاقلته قبيلته، وتقسم عليهم في ثلاث سنين. فإن لم تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل نسباً على ترتيب العصبات.
ومذهب مالك رحمه الله ـ البداءة بأهل الديوان أيضاً. فتؤخذ الدية من عطاياهم في ثلاث سنين. فإن لم يكن عطاؤهم قائماً فعاقلته عصبته الأقرب فالأقرب. ولا يحمل النساء ولا الصبيان شيئاً من العقل.
وليس لأموال العاقلة حد إذا بلغته عقلوا، ولا لما يؤخذ منهم حد. ولا يكلف أغنياؤهم الأداء عن فقرائهم.
ومن لم تكن له عصبة فعقله في بيت مال المسلمين.
والموالي بمنزلة العصبة من القرابة. ويدخل في القرابة الابن والأب.
قال سحنون: إن كانت العاقلة ألفاً فهم قليل، يضم إليهم أقرب القبائل إليهم.
ومذهب أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يؤخذ من واحد من أفراد العصبة من الدية أكثر من درهم وثلث في كل سنة من السنين الثلاث. فالمجموع أربعة دراهم.
ومذهب أحمد والشافعي: أن أهل الديوان لا مدخل لهم في العقل إلا إذا كانوا عصبة. ومذهبهما رحمهما الله: أن العاقلة هي العصبة، إلا أنهم اختلفوا هل يدخل في ذلك الأبناء والآباء؟ فعن أحمد في إحدى الروايتين: أنهم داخلون في العصبة. لأنهم أقرب العصبة. وعن أحمد رواية أخرى والشافعي: أنهم لا يدخلون في العاقلة. لظاهر حديث أبي هريرة المتفق عليه المتقدم: «أن ميراث المرأة لولدها، والدية على عاقلتها» وظاهره عدم دخول أولادها. فقيس الآباء على الأولاد.
وقال ابن قدامة في «المغني»: واختلف أهل العلم فيما يحمله كل واحد منهم.
فقال أحمد. يحملون على قدر ما يطيقون. هذا لا يتقدر شرعاً. وإنما يرجح فيه إلى اجتهاد الحاكم. فيفرض على كل واحد قدراً يسهل ولا يؤذي، وهذا مذهب مالك. لأن التقدير لا يثبت إلا بتوقيف. ولا يثبت بالرأي والتحكم. ولا نص في هذه المسألة فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم كمقادير النفقات.
وعن أحمد رواية أخرى: أنه يفرض على الموسر نصف مثقال. لأنه أقل مال يتقدر في الزكاة فكان معبراً بها. ويجب على المتوسط ربع مثقال، لأن ما دون ذلك تافه لكون اليد لا تقطع فيه. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: لا تقطع اليد في الشيء التافه، وما دون ربع دينار لا تقطع فيه. وهذا اختيار أبي بكر، ومذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة: أكثر ما يحمل على الواحد أربعة دراهم، وليس لأقله حد اهـ كلام صاحب «المغني».
الفرع الرابع ـ لا تحمل العاقلة شيئاً من الكفارة المنصوص عليها في قوله {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً} بل هي في مال الجاني إجماعاً. وشذ من قال: هي في بيت المال.
والكفارة في قتل الخطأ واجبة إجماعاً بنص الآية الكريمة الصريحة في ذلك.
واختلفوا في العمد، واختلافهم فيه مشهور، وأجرى القولين على القياس عندي قول من قال: لا كفارة في العمد، لأن العمد في القتل أعظم من أن يكفره العتق. لقوله تعالى في القاتل عمداً: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيم} فهذا الأمر أعلى وأفخم من أن يكفر بعتق رقبة. والعلم عند الله تعالى.
والدية لا تحملها العاقلة إن كان القتل خطأ ثابتاً بإقرار الجاني ولم يصدقوه، بل إنما تحملها إن ثبت القتل بينة، كما ذهب إلى هذا عامة أهل العلم، منهم ابن عباس، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، والزهري، وسليمان بن موسى، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق. وبه قال الشافعي، وأحمد، ومالك، وأبو حنيفة وغيرهم. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس ـ جمهور العلماء على أن دية المرأة الحرة المسلمة نصف دية الرجل الحر المسلم على ما بينا.
قال ابن المنذر، وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل. وحكى غيرهما عن ابن علية والأصم أنهما قالا: ديتها كدية الرجل. وهذا قول شاذ، مخالف لإجماع الصحابة كما قاله صاحب المغني.
وجراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى ثلث الدية، فإن بلغت الثلث فعلى النصف. قال ابن قدامة في «المغني»: وروي هذا عن عمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت. وبه قال سعيد بن المسيب. وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير، والزهري وقتادة، والأعرج، وربيعة، ومالك.
قال ابن عبد البر: وهو قول فقهاء المدينة السبعة. وجمهور أهل المدينة وحكي عن الشافعي في القديم.
وقال الحسن: يستويان إلى النصف. وروي عن علي رضي الله عنه: أنها على النصف فيما قل أو أكثر. وروي ذلك عن ابن سيرين. وبه قال الثوري، والليث، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو حنيفة وأصحابه. وأبو ثور، والشافعي في ظاهر مذهبه، واختاره ابن المنذر. لأنهما شخصان تختلف دية نفسهما فاختلف أرش جراحهما اهـ وهذا القول أقيس.
قال مقيده عفا الله عنه: كلام ابن قدامة والخرقي صريح في أن ما بلغ ثلث الدية يستويان فيه، وأن تفضيله عليها بنصف الدية إنما هو فيما زاد على الثلث. فمقتضى كلامهما أن دية جائفة المرأة ومأمومتها كدية جائفة الرجل ومأمومته. لأن في كل من الجائفة والمأمومة ثلث الدية، وأن عقلها لا يكون على النصف من عقله إلا فيما زاد على الثلث، كدية أربعة أصابع من اليد، فإن فيها أربعين من الإبل، إذ في كل إصبع عشر، والأربعون أكثر من ثلث المائة. وكلام مالك في الموطإ وغيره صريح في أن ما بلغ الثلث كالجائفة والمأمومة تكون دية المرأة فيه على النصف من دية الرجل، وأن محل استوائها إنما هو فيما دون الثلث خاصة كالموضحة والمنقلة، والإصبع والإصبعين والثلاثة. وهما قولان معروفان لأهل العلم. وأصحهما هو ما ذكرناه عن مالك، ورجحه ابن قدامة في آخر كلامه بالحديث الآتي إن شاء الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول مشكل جداً لأنه يقتضي أن المرأة إن قطعت من يدها ثلاثة أصابع كانت ديتها ثلاثين من الإبل كأصابع الرجل لأنها دون الثلث. وإن قطعت من يدها أربعة أصابع كانت ديتها عشرين من الإبل، لأنها زادت على الثلث فصارت على النصف من دية الرجل. وكون دية الأصابع الثلاثة ثلاثين من الإبل، ودية الأصابع الأربعة في غاية الإشكال كما ترى.
وقد استشكل هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، على سعيد بن المسيب، فأجابه بأن هذا هو السنة. ففي موطإ مالك رحمه الله عن مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: سألت سعيد بن المسيب كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل. فقلت: كم في إصبعين؟ قال: عشرون من الإبل. فقلت كم في ثلاث؟ فقال: ثلاثون من الإبل. فقلت: كم في أربع؟ قال: عشرون من الإبل. فقلت: حين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها نقص عقلها؟ فقال سعيد: أعراقي أنت؟ فقلت. بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم. فقال سعيد: هي السنة يا بن أخيٰ
وظاهر كلام سعيد هذا: أن هذا من سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم. ولو قلنا: إن هذا له حكم الرفع فإنه مرسل، لأن سعيداً لم يدرك زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم. ومراسيل سعيد بن المسيب قد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة «الأنعام» مع أن بعض أهل العلم قال: إن مراده بالسنة هنا سنة أهل المدينة.
وقال النسائي رحمه الله في سننه: أخبرنا عيسى بن يونس قال: حدثنا حمزة، عن إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها» اهـ وهذا يعضد قول سعيد.
إن هذا هو السنة.
قال مقيده عفا الله عنه: إسناد النسائي هذا ضعيف فيما يظهر من جهتين.
إحداهما ـ أن اسماعيل بن عياش رواه عن ابن جريج، ورواية إسماعيل المذكور عن غير الشاميين ضعيفة كما قدمنا إيضاحه. وابن جريج ليس بشامي، بل هو حجازي مكي.
الثانية ـ أن ابن جريج عنعنه عن عمرو بن شعيب، وابن جريج رحمه الله مدلس، وعنعنة المدلس لا يحتج بها ما لم يثبت السماع من طريق أخرى كما تقرر في علوم الحديث. ويؤيد هذا الإعلال ما قاله الترمذي رحمه الله: من أن محمد بن إسماعيل يعني البخاري قال. إن ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب، كما نقله عنه ابن حجر في «تهذيب التهذيب» في ترجمة ابن جريج المذكور.
وبما ذكرنا تعلم أن تصحيح ابن خزيمة لهذا الحديث غير صحيح. وإن نقله عنه ابن حجر في «بلوغ المرام» وسكت عليه. والله أعلم. وهذا مع ما تقدم من كون ما تضمنه هذا الحديث يلزمه أن يكون في ثلاثة أصابع من أصابع المرأة ثلاثون، وفي أربعة أصابع عشرون. وهذا مخالف لما عهد من حكمة هذا الشرع الكريم كما ترى. اللهم إلا أن يقال: إن جعل المرأة على النصف من الرجل فيما بلغ الثالث فصاعداً أنه في الزائد فقط. فيكون في أربعة أصابع من أصابعها خمس وثلاثون، فيكون النقص في العشرة الرابعة فقط. وهذا معقول وظاهر، والحديث محتمل له، والله أعلم.
ومن الأدلة على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ـ ما رواه البيهقي في السنن الكبرى من وجهين عن عبادة بن نُسَي، عن ابن غنم، عن معاذ بن جبل قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دية المرأة على النصف من دية الرجل» ثم قال البيهقي رحمه الله: وروي من وجه آخر عن عبادة بن نسي وفيه ضعف. ومعلوم أن عبادة بن نُسَي ثقة فاضل. فالضعف الذي يعنيه البيهقي من غيره. وأخرج البيهقي أيضاً عن علي مرفوعاً «دية المرأة على النصف من دية الرجل في الكل» وهو من رواية إبراهيم النخعي عنه وفيه انقطاع. وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه، وأخرجه أيضاً من وجه آخر عنه وعن عمر ـ قاله الشوكاني رحمه الله.
الفرع السادس ـ اعلم أن أصح الأقوال وأظهرها دليلاً: أن دية الكافر الذمي على النصف من دية المسلم. كما قدمنا عن أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن دية أهل الكتاب كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف من دية المسلمين، وأن عمر لم يرفعها فيما رفع عند تقويمه الدية لما غلت الإبل.
وقال أبو داود أيضاً في سننه: حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي، ثنا عيسى بن يونس، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال «دية المعاهد نصف دية الحر» قال أبو داود: ورواه أسامة بن زيد الليثي، وعبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب مثله اهـ.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى.. ـ وذكر كلمة معناها ـ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين ـ وهم اليهود والنصارى» أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح قال: أنبأنا ابن وهب قال: أخبرني أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عقل الكافر نصف عقل المؤمن».
وقال ابن ماجه رحمه الله في سننه: حدثنا هشام بن عمار، ثنا حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن عياش، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين، وهم اليهود والنصارى». وأخرج نحوه الإمام أحمد، والترمذي، عن عمرو عن أبيه عن جده.
قال الشوكاني في «نيل الأوطار». وحديث عمرو بن شعيب هذا حسنه الترمذي، وصححه ابن الجارود. وبهذا تعلم أن هذا القول أولى من قول من قال: دية أهل الذمة كدية المسلمين. كأبي حنيفة ومن وافقه. ومن قال: إنها قدر ثلث دية المسلم. كالشافعي ومن وافقه. والعلم عند الله تعالى.
واعلم أن الروايات التي جاءت بأن دية الذمي والمعاهد كدية المسلم ضعيفة لا يحتج بها. وقد بين البيهقي رحمه الله تعالى ضعفها في «السنن الكبرى» وقد حاول ابن التركماني رحمه الله في حاشيته على سنن البيهقي أن يجعل تلك الروايات صالحة للاحتجاج، وهي ليس فيها شيء صحيح.
أما الاستدلال بظاهر قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ} فيقال فيه: هذه دلالة اقتران، وهي غير معتبرة عند الجمهور. وغاية ما في الباب: أن الآية لم تبين قدر دية المسلم ولا الكافر، والسنة بينت أن دية الكافر على النصف من دية المسلم. وهذا لا إشكال فيه.
أما استواؤهما في قدر الكفارة فلا دليل فيه على الدية. لأنها مسألة أخرى.
الأدلة التي ذكرنا دلالتها أنها على النصف من دية المسلم أقوى، ويؤيدها: أن في الكتاب الذي كتبه النَّبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: «وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل» فمفهوم قوله «المؤمنة» أن النفس الكافرة ليست كذلك. على أن المخالف في هذه الإمام أبو حنيفة رحمه الله، والمقرر في أصوله: أنه لا يعتبر دليل الخطاب أعني مفهوم المخالفة كما هو معلوم عنه. ولا يقول بحمل المطلق على المقيد. فيستدل بإطلاق النفس عن قيد الإيمان في الأدلة الأخرى على شمولها للكافر. والقول بالفرق بين الكافر المقتول عمداً فتكون ديتة كدية المسلم، وبين المقتول خطأ فتكون على النصف من دية المسلم ـ لا نعلم له مستنداً من كتاب ولا سنة. والعلم عند الله تعالى.
وأما دية المجوسي ـ فأكثر أهل العلم على أنها ثلث خمس دية المسلم. فهو ثمانمائة درهم. ونساؤهم على النصف من ذلك.
وهذا قول مالك، والشافعي، وأحمد، وأكثر أهل العلم. منهم عمر وعثمان، وابن مسعود رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وإسحاق.
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ديته نصف دية المسلم كدية الكتابي.
وقال النخعي، والشعبي: ديته كدية المسلم. وهذا هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
والاستدلال على أن دية المجوسي كدية الكتابي بحديث «سنُّوا بهم سنَّة أهل الكتاب» لا يتجه. لأنا لو فرضنا صلاحية الحديث للاحتجاج، فالمراد به أخذ الجزية منهم فقط. بدليل أن نساءهم لا تحل، وذبائحهم لا تؤكل اهـ.
وقال ابن قدامة في «المغني»: إن قول من ذكرنا من الصحابة: إن دية المجوسي ثلث خمس دية المسلم، لم يخالفهم فيه أحد من الصحابة فصار إجماعاً سكوتياً. وقد قدمنا قول من قال: إنه حجة.
وقال بعض أهل العلم: دية المرتد إن قتل قبل الاستتابة كدية المجوسي. وهو مذهب مالك. وأما الحربيون فلا دية لهم مطلقاً. والعلم عند الله تعالى.
الفرع السابع ـ اعلم أن العلماء اختلفوا في موجب التغليظ في الدية. وبم تغلظ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها تغلظ بثلاثة أشياء: وهي القتل في الحرم، وكون المقتول محرماً بحج أو عمرة، أو في الأشهر الحرم. فتغلظ الدية في كل واحد منها بزيادة ثلثها.
فمن قتل محرماً فعليه دية وثلث. ومن قتل محرماً في الحرم فدية وثلثان. ومن قتل محرماً في الحرم في الشهر الحرام فديتان.
وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله. وروي نحوه عن عمر، وعثمان، وابن عباس رضي الله عنهم. نقله عنهم البيهقي وغيره.
وممن روى عنه هذا القول: سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، والشعبي، ومجاهد، وسليمان بن يسار، وجابر بن زيد. وقتادة، والأوزاعي، وإسحاق، وغيرهم. كما نقله عنهم صاحب المغني.
وقال أصحاب الشافعي رحمه الله: تغلظ الدية بالحرم، والأشهر الحرم، وذي الرحم المحرم، وفي تغليظها بالإحرام عنهم وجهان.
وصفة التغليظ عند الشافعي: هي أن تجعل دية العمد في الخطأ. ولا تغلظ الدية عند مالك رحمه الله في قتل الوالد ولده قتلاً شبه عمد. كما فعل المدلجي بأبيه. والجد والأم عنده كالأب.
وتغليظها عنده: هو تثليثها بكونها ثلاثين حقه، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة في بطونها أولادها، لا يبالي من أي الأسنان كانت. ولا يرث الأب عنده في هذه الصورة من دية الولد ولا من ماله شيئاً.
وظاهر الأدلة أن القاتل لا يرث مطلقاً من دية ولا غيرها، سواء كان القتل عمداً أو خطأ.
وفرق المالكية في الخطأ بين الدية وغيرها. فمنعوا ميراثه من الدية دون غيرها من مال التركة. والإطلاق أظهر من هذا التفصيل، والله أعلم. وقصة المدلجي: هي ما رواه مالك في الموطإ، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن شعيب: أن رجلاً من بني مدلج يقال له «قتادة» حذف ابنه بالسيف. فأصاب ساقه فنزى في جرحه فمات. فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له. فقال له عمر: أعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك. فلما قدم إليه عمر بن الخطاب أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، وقال: أين أخو المقتول؟ قال: ها أنذا. قال: خذها. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس لقاتل شيء».
الفرع الثامن ـ اعلم أن دية المقتول ميراث بين ورثته. كسائر ما خلفه من تركته.
ومن الأدلة الدالة على ذلك، ما روي عن سعيد بن المسيب: أن عمر رضي الله عنه قال: الدية للعاقلة، لا ترث المرأة من دية زوجها. حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه. ورواه مالك في الموطإ من رواية ابن شهاب عن عمر وزاد: قال ابن شهاب: وكان قتلهم أشيم خطأ. وما روي عن الضحاك بن سفيان رضي الله عنه. روي نحوه عن المغيرة بن شعبة وزرارة بن جري. كما ذكره الزرقاني في شرح الموطإ.
ومنها ما رواه عمر بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «قضى أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. وقد قدمنا نص هذا الحديث عند النسائي في حديث طويل.
وهذا الحديث قواه ابن عبد البر، وأعله النسائي. قاله الشوكاني. وهو معتضد بما تقدم وبما يأتي، وبإجماع الحجة من أهل العلم على مقتضاه.
ومنها ما رواه البخاري في تاريخه عن قرة بن دعموص النميري قال: أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم أنا وعمي، فقلت: يا رسول الله، عند هذا دية أبي فمره يعطنيها وكان قتل في الجاهلية. فقال: «أعطه دية أبيه» فقلت: هل لأمي فيها حق؟ قال: «نعم» وكانت ديته مائة من الإبل.
وقد ساقه البخاري في التاريخ هكذا: قال قيس بن حفص: أنا الفضيل بن سليمان النميري قال: أنا عائذ بن ربيعة بن قيس النميري قال: حدثني قرة بن دعموص قال: أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم أنا وعمي ـ إلى آخر الحديث باللفظ الذي ذكرنا. وسكت عليه البخاري رحمه الله. ورجال إسناده صالحون للاحتجاج. إلا عائذ بن ربيعة بن قيس النميري فلم نر من جرحه ولا من عدله.
وذكر له البخاري في تاريخه، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ترجمة، وذكراً أنه سمع قرة بن دعموص ـ ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً.
وظاهر هذه الأدلة يقتضي أن دية المقتول تقسم كسائر تركته على فرائض الله، وهو الظاهر. سواء كان القتل عمداً أو خطأ. ولا يخلو ذلك من خلاف.
وروي عن علي رضي الله عنه أنها ميراث كقول الجمهور، وعنه رواية أخرى: أن الدية لا يرثها إلا العصبة الذين يعقلون عنه، وكان هذا هو رأي عمر، وقد رجع عنه لما أخبره الضحاك بأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم إياه: أن يورث زوجة أشيم المذكور من دية زوجها.
وقال أبو ثور: هي ميراث، ولكنها لا تقضي منها ديونه. ولا تنفذ منها وصاياه. وعن أحمد رواية بذلك.
قال ابن قدامة في «المغني»: وقد ذكر الخرقي فيمن أوصى بثلث ماله لرجل فقتل وأخذت ديته. فللموصى له بالثلث ثلث الدية ـ في إحدى الروايتين.
والأخرى: ليس لمن أوصى له بالثلث من الدية شيء.
ومبنى هذا: على أن الدية ملك للميت، أو على ملك الورثة ابتداء. وفيه روايتان: إحداهما أنها تحدث على ملك الميت. لأنها بدل نفسه، فيكون بدلها له كدية أطرافه المقطوعة منه في الحياة، ولأنه لو أسقطها عن القاتل بعد جرحه إياه كان صحيحاً وليس له إسقاط حق الورثة، ولأنها مال موروث فاشبهت سائر أمواله. والأخرى أنها تحدث على ملك الورثة ابتداء. لأنها إنما تستحق بعد الموت وبالموت تزول أملاك الميت الثابتة له، ويخرج عن أن يكون أهلاً لذلك، وإنما يثبت الملك لورثته ابتداء. ولا أعلم خلافاً في أن الميت يجهز منها اهـ محل الغرض من كلام ابن قدامة رحمه الله.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر القولين عندي: أنه يقرر ملك الميت لديته عند موته فتورث كسائر أملاكه. لتصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم للضحاك في الحديث المذكور بتوريث امرأة أشيم الضبابي من ديته. والميراث لا يطلق شرعاً إلا على ما كان مملوكاً للميت، والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة ـ اختلف العلماء في تعيين ولي المقتول الذي جعل الله له هذا السلطان المذكور في هذه الآية الكريمة في قوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـٰن}.
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المراد بالولي في الآية: الورثة من ذوي الأنساب والأسباب، والرجال والنساء، والصغار والكبائر. فإن عفا من له ذلك منهم صح عفوه وسقط به القصاص، وتعينت الدية لمن لم يعف.
وهذا مذهب الإمام أحمد بن حنبل، والإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي رحمهم الله تعالى.
وقال ابن قدامة في «المغني»: هذا قول أكثر أهل العلم. منهم عطاء، والنخعي، والحكم، وحماد والثوري، وأبو حنيفة، والشافعي. وروي معنى ذلك عن عمر، وطاوس، والشعبي. وقال الحسن، وقتادة، والزهري، وابن شبرمة، والليث، والأوزاعي: ليس للنساء عفو. أي فهن لا يدخلن عندهم في اسم الولي الذي له السلطان في الآية.
ثم قال ابن قدامة: والمشهور عن مالك أنه موروث للعصبات خاصة. وهو وجه لأصحاب الشافعي.
قال مقيده عفا الله عنه: مذهب مالك في هذه المسألة فيه تفصيل: فالولي الذي له السلطان المذكور في الآية الذي هو استيفاء القصاص أو العفو ـ عنده هو أقرب الورثة العصبة الذكور، والجد والإخوة في ذلك سواء. وهذا هو معنى قول خليل في مختصره والاستيفاء للعاصب كالولاء، إلا الجد والإخوة فسيان اهـ.
وليس للزوجين عنده حق في القصاص ولا العفو، وكذلك النساء غير الوارثات: كالعمات، وبنات الإخوة، وبنات العم.
أما النساء الوارثات: كالبنات. والأخوات، والأمهات فلهن القصاص. وهذا فيما إذا لم يوجد عاصب مساو لهن في الدرجة.
وهذا هو معنى قول خليل في مختصره: وللنساء إن ورثن ولم يساوهن عاصب.
فمفهوم قوله «إن ورثن» أن غير الوارثات لا حق لهن، وهو كذلك.
ومفهوم قوله: «ولم يساوهن عاصب» أنهن إن ساواهن عاصب: كبنين، وبنات، وإخوة وأخوات، فلا كلام للإناث مع الذكور. وأما إن كان معهن عاصب غير مساو لهن: كبنات، وإخوة. فثالث الأقوال هو مذهب المدونة: أن لكل منها القصاص ولا يصح العفو عنه إلا باجتماع الجميع. أعني ولو عفا بعض هؤلاء، وبعض هؤلاء. وهذا هو معنى قول خليل في مختصره: ولكل القتل ولا عفو إلا باجتماعهم. يعني ولو بعض هؤلاء وبعض هؤلاء.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يقتضي الدليل رجحانه عندي في هذه المسألة: أن الولي في هذه الآية هم الورثة ذكوراً كانوا أو إناثاً. ولا مانع من إطلاق الولي على الأنثى. لأن المراد جنس الولي الشامل لكل من انعقد بينه وبين غيره سبب يجعل كلاً منهما يوالي الآخر. كقوله تعالى: {وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}، وقوله: {وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ}.
والدليل على شمول الولي في الآية للوارثات من النساء ولو بالزوجية ـ الحديث الوارد بذلك، قال أبو داود في سننه: (باب عفو النساء عن الدم) حدثنا داود بن رشيد، ثنا الوليد عن الأزواعي: أنه سمع حصنا، أنه سمع أبا سلمة يخبر عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة».
قال أبو داود: بلغني أن عفو النساء في القتل جائز إذا كانت إحدى الأولياء. وبلغني عن أبي عبيدة في قوله «ينحجزوا» يكفوا عن القود.
وقال النسائي رحمه الله في سننه: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا الوليد بن الأوزاعي قال: حدثني حصين قال: حدثني أبو سلمة (ح) وأنبأنا الحسين بن حريث قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثني حصين: أنه سمع أبا سلمة يحدث عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة» اهـ.
وهذا الإسناد مقارب. لأن رجاله صالحون للاحتجاج، إلا حصناً المذكور فيه ففيه كلام.
فطبقته الأولى عند أبي داود: هي داود بن رشيد الهاشمي مولاهم الخوارزمي نزيل بغداد وهو ثقة. وعند النسائي حسين بن حريث، وإسحاق بن إبراهيم. وحسين بن حريث الخزاعي مولاه أبو عمار المروزي ثقة.
والطبقة الثانية عندهما: هي الوليد بن مسلم القرشي مولاهم أبو العباس الدمشقي ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية، وهو من رجال البخاري ومسلم وباقي الجماعة.
والطبقة الثالثة عندهما: هي الإمام الأوزاعي وهو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو أبو عمر الأوزاعي، وهو الإمام الفقيه المشهور، ثقة جليل.
والطبقة الرابعة عندهما: هي حصن المذكور وهو ابن عبد الرحمن، أو ابن محصن التراغمي أبو حذيفة الدمشقي، قال فيه ابن حجر في «التقريب»: مقبول. وقال فيه في «تهذيب التهذيب»: قال الدارقطني شيخ يعتبر به، له عند أبي داود والنسائي حديث واحد «على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة» (قلت): وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن القطان لا يعرفه حاله (ا هـ) وتوثيق ابن حبان له لم يعارضه شيء مانع من قبوله. لأن من اطلع على أنه ثقة حفظ ما لم يحفظه مدعي أنه مجهول لا يعرف حاله. وذكر ابن حجر في «تهذيب التهذيب» عن أبي حاتم ويعقوب بن سفيان أنهما قالا: لا نعلم أحداً روى عنه غير الأوزاعي.
والطبقة الخامسة عندهما: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وهو ثقة مشهور.
والطبقة السادسة عندهما: عائشة رضي الله عنها عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. فقد رأيت أن ابن حبان رحمه الله ذكر حصنا المذكور في الثقات. وأن بقية طبقات السند كلها صالح للاحتجاج. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
إذا كان بعض أولياء الدم صغيراً، أو مجنوناً، أو غائباً. فهل للبالغ الحاضر العاقل: القصاص قبل قدوم الغائب، وبلوغ الصغير، وإفاقة المجنون؟ أو يجب انتظار قدوم الغائب، وبلوغ الصغير..! الخ.
فإن عفا الغائب بعد قدومه، أو الصغير بعد بلوغه مثلاً سقط القصاص ووجبت الدية. في ذلك خلاف مشهور بين أهل العلم.
فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنه لا بد من انتظار بلوغ الصغير، وقدوم الغائب، وإفاقة المجنون.
وهذا هو ظاهر مذهب الإمام أحمد. قال ابن قدامة: وبهذا قال ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأبو يوسف، وإسحاق، ويروى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله. وعن أحمد رواية أخرى للكبار العقلاء استيفاؤه. وبه قال حماد، ومالك، والأوزاعي، والليث، وأبو حنيفة اهـ محل الغرض من كلام صاحب المغني.
وذكر صاحب المغني أيضاً: أنه لا يعلم خلافاً في وجوب انتظار قدوم الغائب. ومنه استبداد الحاضر دونه.
قال مقيده عفا الله عنه: إن كانت الغيبة قريبة فهو كما قال. وإن كانت بعيدة ففيه خلاف معروف عند المالكية. وظاهر المدونة الانتظار ولو بعدت غيبته.
وقال بعض علماء المالكية منهم سحنون: لا ينتظر بعيد الغيبة. وعليه درج خليل بن إسحاق في مختصره في مذهب مالك، الذي قال في ترجمته مبيناً لما به الفتوى بقوله: (وانتظر غائب لم تبعد غيبته. لا مطبق وصغير لم يتوقف الثبوت عليه).
وقال ابن قدامة في «المغني» ما نصه: والدليل على أن للصغير والمجنون فيه حقاً أربعة أمور: أحدها ـ أنه لو كان منفرداً لاستحقه. ولو نافاه الصغر مع غيره لنافاه منفرداً كولاية النكاح. والثاني ـ أنه لو بلغ لاستحق. ولو لم يكن مستحقاً عند الموت لم يكن مستحقاً بعده. كالرقيق إذا عتق بعد موت أبيه. والثالث ـ أنه لو صار الأمر إلى المال لاستحق، ولو لم يكن مستحقاً للقصاص لما استحق بدله كالأجنبي. والرابع ـ أنه لو مات الصغير لاستحقه ورثته، ولو لم يكن حقاً لم يرثه كسائر ما لم يستحقه.
واحتج من قال: إنه لا يلزم انتظار بلوغ الصبي ولا إفاقة المجنون المطبق بأمرين:
أحدهما ـ أن القصاص حق من حقوق القاصر، إلا أنه لما كان عاجزاً عن النظر لنفسه كان غيره يتولى النظر في ذلك كسائر حقوقه فإن النظر فيها لغيره، ولا ينتظر بلوغه في جميع التصرف بالمصلحة في جميع حقوقه. وأولى من ينوب عنه في القصاص الورثة المشاركون له فيه. وهذا لا يرد عليه شيء من الأمور الأربعة التي ذكرها صاحب المغني. لأنه يقال فيه بموجبها فيقال فيه: هو مستحق لكنه قاصر في الحال، فيعمل غيره بالمصلحة في حقه في القصاص كسائر حقوقه. ولا سيما شريكه الذي يتضرر بتعطيل حقه في القصاص إلى زمن بعيد.
الأمر الثاني ـ أن الحسن بن علي رضي الله عنه قتل عبد الرحمن بن ملجم المرادي قصاصاً بقتله علياً رضي الله عنه، وبعض أولاد علي إذ ذاك صغار، ولم ينتظر بقتله بلوغهم، ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة ولا غيرهم. وقد فعل ذلك بأمر علي رضي الله عنه كما هو مشهور في كتب التاريخ. ولو كان انتظار بلوغ الصغير واجباً لانتظره.
وأجيب عن هذا من قبل المخالفين بجوابين: أحدهما ـ أن ابن ملجم كافر. لأنه مستحل دم علي، ومن استحل دم مثل علي رضي الله عنه فهو كافر. وإذا كان كافراً فلا حجة في قتله. الثاني ـ أنه ساع في الأرض بالفساد، فهو محارب، والمحارب إذا قتل وجب قتله على كل حال ولو عفا أولياء الدم.
كما قدمناه في سورة «المائدة» وإذن فلا داعي للانتظار.
قال: البيهقي في السنن الكبرى ما نصه: قال بعض أصحابنا: إنما استبد الحسن بن علي رضي الله عنهما بقتله قبل بلوغ الصغار من ولد علي رضي الله عنه. لأنه قتله حداً لكفره لا قصاصاً.
وقال ابن قدامة في «المغني»: فأما ابن ملجم فقد قيل إنه قتله بكفره. لأنه قتل علياً مستحلاً لدمه، معتقداً كفره، متقرباً بذلك إلى الله تعالى. وقيل: قتله لسعيه في الأرض بالفساد وإظهار السلاح، فيكون كقاطع الطريق إذا قتل، وقتله متحتم، وهو إلى الإمام. والحسن هو الإمام، ولذلك لم ينتظر الغائبين من الورثة. ولا خلاف بيننا في وجوب انتظارهم. وإن قدر أنه قتله قصاصاً فقد اتفقنا على خلافه. فكيف يحتج به بعضنا على بعض. انتهى كلام صاحب المغني.
وقال ابن كثير في تاريخه ما نصه: قال العلماء: ولم ينتظر بقتله بلوغ العباس بن علي. فإنه كان صغيراً يوم قتل أبوه. قالوا: لأنه كان قتل محاربة لا قصاصاً. والله أعلم اهـ.
واستدل القائلون بأن ابن ملجم كافر بالحديث الذي رواه علي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أشقى الأولين»؟ قلت: عاقر الناقة. قال: «صدقت. فمن أشقى الآخرين»؟ قلت: لا علم لي يا رسول الله. قال: «الذي يضربك على هذا ـ وأشار بيده على يافوخه ـ فيخضب هذه من هذه ـ يعني لحيته ـ من دم رأسه» قال: فكان يقول: وددت أنه قد انبعث أشقاكم» وقد ساق طرق هذا الحديث ابن كثير رحمه الله في تاريخه، وابن عبد البر في «الاستيعاب» وغيرهما.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي عليه أهل التاريخ والأخبار ـ والله تعالى أعلم ـ أن قتل ابن ملجم كان قصاصاً لقتله علياً رضي الله عنه. لا لكفر ولا حرابة. وعلي رضي الله عنه لم يحكم بكفر الخوارج. ولما سئل عنهم قال: من الكفر فروا. فقد ذكر المؤرخون أن علياً رضي الله عنه أمرهم أن يحبسوا ابن ملجم ويحسنوا إساره، وأنه إن مات قتلوه به قصاصاً، وإن حي فهو ولي دمه. كما ذكره ابن جرير، وابن الأثير، وابن كثير وغيرهم في تواريخهم.
وذكره البيهقي في سننه، وهو المعروف عند الإخباريين. ولا شك أن ابن ملجم متأول ـ قبحه الله ـ ولكنه تأويل بعيد فاسد، مورد صاحبه النار، ولما ضرب علياً رضي الله عنه قال: الحكم لله يا علي، لا لك ولا لأصحابكٰ ومراده أن رضاه بتحكيم الحكمين: أبي موسى، وعمرو بن العاص ـ كفر بالله لأن الحكم لله وحده. لقوله: {إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ}.
ولما أراد أولاد علي رضي الله عنه أن يتشفوا منه فقطعت يداه ورجلاه لم يجزع، ولا فتر عن الذكر. ثم كحلت عيناه وهو في ذلك يذكر الله، وقرأ سورة {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ} إلى آخرها، وإن عينيه لتسيلان على خديه. ثم حاولوا لسانه ليقطعوه فجزع من ذلك جزعاً شديداً. فقيل له في ذلك؟ فقال: إني أخاف أن أمكث فواقاً لا أذكر الله (ا هـ) ذكره ابن كثير وغيره.
ولأجل هذا قال عمران بن حطان السدوسي يمدح ابن ملجم ـ قبحه الله ـ في قتله أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه: يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه أو في البرية عند الله ميزانا
وجزى الله خيراً الشاعر الذي يقول في الرد عليه: قل لابن ملجم والأقدار غالبة هدمت ويلك للإسلام أركانا
قتلت أفضل من يمشي على قدم وأول الناس إسلاماً وإيمانا
وأعلم الناس بالقرآن ثم بما سن الرسول لنا شرعاً وتبيانا
صهر النَّبي ومولاه وناصره أضحت مناقبه نوراً وبرهانا
وكان منه على رغم الحسود له مكان هارون من موسى بن عمرانا
ذكرت قاتله والدمع منحدر فقلت:
سبحان رب العرش سبحانا إني لأحسبه ما كان من بشر يخشى المعاد ولكن كان شيطانا
أشقى مراد إذا عدت قبائلها وأخسر الناس عند الله ميزانا
كعاقر الناقة الأولى التي جلبت على ثمود بأرض الحجر خسرانا
قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها قبل المنية أزمانا فأزمانا
فلا عفا الله عنه ما تحمله ولا سقى قبر عمران بن حطانا
لقوله في شقي ظل مجترما ونال ما ناله ظلماً وعدوانا
«يا ضربة من تقى ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا»
بل ضربة من غوى أوردته لظى فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
كأنه لم يرد قصداً بضربته إلا ليصلى عذاب الخلد نيرانا
وبما ذكرنا ـ تعلم أن قتل الحسن بن علي رضوان الله عنه لابن ملجم قبل بلوغ الصِّغار من أولاد علي يقوي حجة من قال بعدم انتظار بلوغ الصغير.
وحجة من قال أيضاً بكفره قوية. للحديث الدال على أنه أشقى الآخرين، مقروناً بقاتل ناقة صالح المذكور في قوله: {إِذِ ٱنبَعَثَ أَشْقَـٰهَ} وذلك يدل على كفره. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة ـاعلم أن هذا القتل ظلماً، الذي جعل الله بسببه هذا السلطان والنصر المذكورين في هذه الآية الكريمة، التي هي قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـٰن}، يثبت بواحد من ثلاثة أشياء: اثنان منها متفق عليهما، وواحد مختلف فيه.
أما الاثنان المتفق على ثبوته بهما: فهما الإقرار بالقتل، والبينة الشاهدة عليه.
وأما الثالث المختلف فيه: فهو أيمان القسامة مع وجود اللوث، وهذه أدلة ذلك كله.
أما الإقرار بالقتل ـ فقد دلت أدلة على لزوم السلطان المذكور في الآية الكريمة به. قال البخاري في صحيحه: «باب إذا أقر بالقتل مرة قتل به» حدثني إسحاق، أخبرنا حبان، حدثنا همام، حدثنا قتادة حدثنا أنس بن مالك: أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين. فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان؟ أفلان؟ حتى سمي اليهودي. فأومأت برأسها، فجيء باليهودي فاعترف، فأمر به النَّبي صلى الله عليه وسلم فرضَّ رأسه بالحجارة. وقد قال همام: بحجرين.
وقد قال البخاري أيضاً: (باب سؤال القاتل حتى يقر) ثم ساق حديث أنس هذا وقال فيه: فلم يزل به حتى أقر فرض رأسه بالحجارة. وهو دليل صحيح واضح على لزوم السلطان المذكور في الآية الكريمة بإقرار القاتل. وحديث أنس هذا أخرجه أيضاً مسلم، وأصحاب السنن، والإمام أحمد. ومن الأدلة الدالة على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه: حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا أبو يونس عن سماك بن حرب: أن علقمة بن وائل حدثه أن أباه حدثه قال: إني لقاعدٌ مع النَّبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة فقال: يا رسول الله، هذا قتل أخيٰ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقتلته»؟ فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة. قال نعم قتلته. قال: «كيف قتلته؟» قال كنت: أنا وهو نختبط من شجرة. فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته. فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك من شيء تؤديه عن نفسك»؟ قال: ما لي مال إلا كسائي وفأسي. قال: «فترى قومك يشترونك» قال: أنا أهون على قومي من ذاكٰ فرمى إليه بنسعته وقال: «دونك صاحبك..» الحديث. وفيه الدلالة الواضحة على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بالإقرار.
ومن الأدلة على ذلك إجماع المسلمين عليه. وسيأتي إن شاء الله إيضاح إلزام الإنسان ما أقربه على نفسه في سورة «القيامة».
وأما البينة الشاهدة بالقتل عمداً عدواناً ـ فقد دل الدليل أيضاً على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بها. قال أبو داود في سننه: حدثنا الحسن بن علي بن راشد، أخبرنا هشيم، عن أبي حيان التيمي، ثنا عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج قال: أصبح رجل من الأنصار مقتولاً بخيبر. فانطلق أولياؤه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: «لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم»؟ قالوا: يا رسول الله، لم يكن ثمَّ أحد من المسلمين، وإنما هم يهودٰ وقد يجترئون على أعظم من هذا، قال: «فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم فأبوا. فوداه النَّبي صلى الله عليه وسلم من عنده اهـ».
فقول النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «لكم شاهدان على قتل صاحبكم». فيه دليل واضح على ثبوت السلطان المذكور في الآية بشهادة شاهدين على القتل.
وهذا الحديث سكت عليه أبو داود، والمنذري. ومعلوم أن رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. إلا الحسن بن علي بن راشد وقد وثق. وقال فيه ابن حجر في «التقريب»: صدوق رمي بشيء من التدليس.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا محمد بن معمر قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا عبيد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن ابن محيصةَ الأصغر أصبح قتيلاً على أبواب خيبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته» قال: يا رسول الله، ومن أين أصيب شاهدين، وإنما أصبح قتيلاً على أبوابهم. قال: «فتحلف خمسين قسامة» قال: يا رسول الله، وكيف أحلف على ما لا أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فنستحلف منهم خمسين قسامةً» فقال: يا رسول الله، كيف نستحلفهم وهم اليهود فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عليهم وأعانهم بنصفها اهـ.
فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته» ـ دليل واضح على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بشهادة شاهدين. وأقل درجات هذا الحديث الحسن. وقال فيه ابن حجر في «الفتح»: هذا السند صحيح حسن.
ومن الأدلة الدالة على ذلك ـ إجماع المسلمين على ثبوت القصاص بشهادة عدلين على القتل عمداً عدواناً.
وقد قدمنا قول من قال من العلماء: إن أخبار الآحاد تعتضد بموافقة الإجماع لها حتى تصير قطعية كالمتواتر، لاعتضادها بالمعصوم وهو إجماع المسلمين.
وأكثر أهل الأصول يقولون: إن اعتضاد خبر الآحاد بالإجماع لا يصيره قطعياً. وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في مبحث أخبار الآحاد: ولا يفيد القطع ما يوافق الـ إجماع والبعض بقطع ينطق
وبعضهم يفيد حيث عولا عليه وانفه إذا ما قد خلا
مع دواعي رده من مبطل كما يدل لخلافة علي
وقوله:
وانفه إذا ما قد خلا.. الخ ـ مسألة أخرى غير التي نحن بصددها. وإنما ذكرناها لارتباط بعض الأبيات ببعض.
وأما أيمان القسامة مع وجود اللوث ـ فقد قال بعض أهل العلم بوجوب القصاص بها. وخالف في ذلك بعضهم.
فممن قال بوجوب القود بالقسامة: مالك وأصحابه، وأحمد، وهو أحد قولي الشافعي، وروي عن ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز. والظاهر أن عمر بن عبد العزيز رجع عنه.
وبه قال أبو ثور، وابن المنذر، وهو قول الزهري، وربيعة، وأبي الزناد، والليث، والأزواعي، وإسحاق، وداود.
وقضى بالقتل بالقسامة عبد الملك بن مروان، وأبوه مروان. وقال أبو الزناد: قلنا بها وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان.
وقال ابن حجر (في فتح الباري). إنما نقل ذلك أبو الزناد عن خارجة وروي بن زيد بن ثابت. كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرين من الصحابة فضلاً عن ألف.
وممن قال بأن القسامة تجب بها الدية ولا يجب بها القود: الشافعي في أصح قوليه، وهو مذهب أبي حنيفة، وروى عن أبي بكر وعمر وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم. وهو مروي عن الحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وعثمان البتي، والحسن بن صالح، وغيرهم. وعن معاوية: القتل بها أيضاً.
وذهبت جماعة أخرى إلى أن القسامة لا يثبت بها حكم من قصاص ولا دية. وهذا مذهب الحكم بن عتيبة، وأبي قلابة، وسالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، وقتادة، ومسلم بن خالد، وإبراهيم بن علية. وإليه بنحو البخاري، وروي عن عمر بن عبد العزيز باختلاف عنه.
وروي عن عبد الملك بن مروان أنه ندم على قتله رجلاً بالقسامة، ومحا أسماء الذين حلفوا أيمانهم من الديوان، وسيرهم إلى الشام. قاله البخاري في صحيحه.
فإذا عرفت أقوال لهم أهل العلم في القسامة فدونك أدلتهم على أقوالهم في هذه المسألة:
أما الذين قالوا بالقصاص بالقسامة فاستدلوا على ذلك بما ثبت في بعض روايات حديث سهل بن أبي حثمة في صحيح مسلم وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قتل عبد الله بن سهل الأنصاري بخيبر، مخاطباً لأولياء المقتول: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته..» الحديث. فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الثابت في صحيح مسلم وغيره «فيدفع برمته» معناه: أنه يسلم لهم ليقتلوه بصاحبهم. وهو نص صحيح صريح في القود بالقسامة.
ومن أدلتهم على ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي الذي قدمناه قريباً. وقد قدمنا عن ابن حجر أنه قال فيه: صحيح حسن. فقول النَّبي صلى الله عليه وسلم فيه: «أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته» صريح أيضاً في القود بالقسامة. وادعاء أن معنى دفعه إليهم برمته: أي ليأخذوا منه الدية ـ بعيد جداً كما ترى.
ومن أدلتهم ما ثبت في رواية متفق عليها في حديث سهل المذكور: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأولياء المقتول: «تحلفون خمسين يميناً وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم..» الحديث. قالوا: فعلى أن الرواية «قاتلكم» فهي صريح في القود بالقسامة. وعلى أنها «صاحبكم» فهي محتملة لذلك احتمالاً قوياً. وأجيب من جهة المخالف بأن هذه الرواية لا يصح الاحتجاج بها للشك في اللفظ الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو فرضنا أن لفظ الحديث في نفس الأمر «صاحبكم» لاحتمل أن يكون المراد به المقتول، وأن المعنى: تستحقون ديته. والاحتمال المساوي يبطل الاستدلال كما هو معروف في الأصول. لأن مساواة الاحتمالين يصير بها اللفظ مجملاً، والمجمل يجب التوقف عنه حتى يرد دليل مبين للمراد منه.
ومن أدلتهم ما جاء في رواية عند الإمام أحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يميناً ثم تسلمه».
ومن أدلتهم ما جاء في رواية عند مسلم وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم» قالوا: معنى «دم صاحبكم» قتل القاتل.
وأجيب من جهة المخالف باحتمال أن المراد «بدم صاحبكم» الدية، وهو احتمال قوي أيضاً. لأن العرب تطلق الدم على الدية. ومنه قوله: أكلت دماً إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
ومن أدلتهم ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا محمود بن خالد وكثير بن عبيد قالا: حدثنا الوليد (ح) وحدثنا محمد بن الصباح بن سفيان، أخبرنا الوليد عن أبي عمرو، عن عمرو بن شعيب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاة على شط لِيَّة البحرة قال القائل والمقتول منهم. وهذا لفظ محمود ببحرة أقامه محمود وحده على شط لية اهـ وانقطاع سند هذا الحديث واضح في قوله: «عن عمرو بن شعيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» كما ترى. وقد ساق البيهقي في السنن الكبرى حديث أبي داود هذا وقال: هذا منقطع، ثم قال: وروى أبو داود أيضاً في المراسيل عن موسى بن إسماعيل، عن حماد عن قتادة، وعامر الأحول عن أبي المغيرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أقاد بالقسامة الطائف» وهو أيضاً منقطع. وروى البيهقي في سننه عن أبي الزناد قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، أن رجلاً من الأنصار قتل وهو سكران رجلاً ضربه بشويق، ولم يكن على ذلك بينة قاطعة إلا لطخ أو شبيه ذلك، وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن فقهاء الناس ما لا يحصى، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيوا. فحلفوا خمسين يميناً وقتلوا، وكانوا يخبرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالقسامة، ويرونها للذي يأتي به من اللطخ أو الشبهة أقوى مما يأتي به خصمه، ورأوا ذلك في الصهيبي حين قتله الحاطبيون وفي غيره. ورواه ابن وهب عن أبي الزناد وزاد فيه: أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص: إن كان ما ذكرنا له حقاً أن يحلفنا على القاتل ثم يسلمه إلينا.
وقال البيهقي في سننه أيضاً: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس الأصم، ثنا بحر بن نصر، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد: أن هشام بن عروة أخبره: أن رجلاً من آل حاطب بن أبي بلتعة كانت بينه وبين رجل من آل صهيب منازعة.. فذكر الحديث في قتله قال: فركب يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك. فقضى بالقسامة على ستة نفر من آل حاطب، فثنى عليهم الأيمان، فطلب آل حاطب أن يحلفوا على اثنين ويقتلوهما. فأبى عبد الملك إلا أن يحلفوا على واحد فيقتلوه. فحلفوا على الصهيبي فقتلوه. قال هشام: فلم ينكر ذلك عروة، ورأى أن قد أصيب فيه الحق، وروينا فيه عن الزهري وربيعة.
ويذكر عن ابن أبي مليكة عن عمر بن عبد العزيز وابن الزبير: أنهما أقادا بالقسامة.
ويذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه رجع عن ذلك وقال: إن وجد أصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس. فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة ـ انتهى كلام البيهقي رحمه الله.
هذه هي أدلة من أوجب القود بالقسامة.
وأما حجج من قال: لا يجب بها إلا الدية ـ فمنها ما ثبت في بعض روايات حديث سهل المذكور عند مسلم وغيره:
أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب».
قال النووي في شرح مسلم: معناه إن ثبت القتل عليهم بقسامتكم فإما أن يدوا صاحبكم ـ أي يدفعوا إليكم ديته ـ وإما أن يعلمونا أنهم ممتنعون من التزام أحكامنا. فينتقض عهدهم، ويصيرون حرباً لنا.
وفيه دليل لمن يقول: الواجب بالقسامة الدية دون القصاص اهـ كلام النووي، رحمه الله.
ومنها ما ثبت في بعض روايات الحديث المذكور في صحيح البخاري وغيره: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفتسحقون الدية بأيمان خمسين منكم» قالوا: هذه الرواية الثابتة في صحيح البخاري صريحة في أن المستحق بأيمان القسامة إنما هو الدية لا القصاص.
ومن أدلتهم أيضاً ما ذكره الحافظ (في فتح الباري) قال: وتمسك من قال: لا يجب فيها إلا الدية بما أخرجه الثوري في جامعه، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور بسند صحيح إلى الشعبي قال: وجد قتيل بين حيين من العرب فقال عمر: قيسوا ما بينهما فأيهما وجدتموه إليه أقرب فأحلفوهم خمسين يميناً، وأغرموهم الدية. وأخرجه الشافعي عن سفيان بن عيينة، عن منصور، عن الشعبي: أن عمر كتب في قتيل وجد بين خيران وداعة أن يقاس ما بين القريتين. فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منها خمسون رجلاً حتى يوافوه في مكة، فأدخلهم الحجر فأحلفهم، ثم قضى عليهم الدية. فقال: «حقنتم بأيمانكم دماءكم، ولا يطل دم رجل مسلم».
قال الشافعي: إنما أخذه الشعبي عن الحارث الأعور، والحارث غير مقبول. انتهى. وله شاهد مرفوع من حديث أبي سعيد عند أحمد: أن قتيلاً وجد بين حيين فأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم «أن يقاس إلى أيهما أقرب فألقى ديته على الأقرب» ولكن سنده ضعيف.
وقال عبد الرزاق في مصنفه: عن معمر قال: قلت لعبد الله بن عمر العمري: أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت: فعمر؟ قال لا. قلت: فكيف تجترؤون عليها؟ فسكت... الحديث.
وأخرج البيهقي من طريق القاسم بن عبد الرحمن: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: في القسامة: توجب العقل ولا تسقط الدم. انتهى كلام ابن حجر رحمه الله.
وأما حجة من قال: إن القسامة لا يلزم بها حكم ـ فهي أن الذين يحلفون أيمان القسامة إنما يحلفون على شيء لم يحضروه، ولم يعلموا أحق هو أم باطل، وحلف الإنسان على شيء لم يره دليل على أنه كاذب.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، حدثنا الحجاج بن أبي عثمان، حدثنا أبو رجاء من آل أبي قلابة، حدثني أبو قلابة: أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوماً للناس، ثم أذن لهم فدخلوا، فقال: ما تقولون في القسامة؟ قال: نقول القسامة القود بها حق، وقد أقادت بها الخلفاء. قال لي: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس. فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك رؤوس الأجناد وأشراف العربٰ أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى لم يروه، أكنت ترجمه؟ قال لا. قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجلٍ بحمص أنه سرق، أكنت تقطعه ولم يروه؟ قال لا. قلت: فو الله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً قط إلا في إحدى ثلاث خصال: رجل قتل بجريرة نفسه فقتل أو رجل زنى بعد إحصان. أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام.. إلى آخر حديثه.
ومراد أبي قلابة واضح، وهو أنه كيف يقتل بأيمان قوم يحلفون على شيء لم يروه ولم يحضروهٰ
هذا هو حاصل كلام أهل العلم في القود بالقسامة، وهذه حججهم.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال عندي دليلاً ـ القود بالقسامة.
لأن الرواية الصحيحة التي قدمنا فيها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنهم إن حلفوا أيمان القسامة دفع القاتل برمته إليهم» وهذا معناه القتل بالقسامة كما لا يخفى. ولم يثبت ما يعارض هذا. والقسامة أصل وردت به السنة، فلا يصح قياسه على غيره من رجم أو قطع. كما ذهب إليه أبو قلابة في كلامه المار آنفاً. لأن القسامة أصل من أصول الشرع مستقل بنفسه. شرع لحياة الناس وردع المعتدين، ولم تمكن فيه أولياء المقتول من أيمان القسامة إلا مع حصول لوث يغلب على الظن به صدقهم في ذلك.
تنبيه
اعلم ـ أن رواية سعيد بن عبيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة التي فيها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «لما سأل أولياء المقتول هل لهم بينة» وأخبروه بأنهم ليس لهم بينة قال: «يحلفون» يعني اليهود المدعى عليهم، وليس فيها ذكر حلف أولياء المقتول أصلاً ـ لا دليل فيها لمن نفى القود بالقسامة. لأن سعيد بن عبيد وهم فيها، فأسقط من السياق تبدئة المدعين باليمين. لكونه لم يذكر في روايته رد اليمين. ورواه يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار فذكر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم عرض الأيمان أولاً على أولياء المقتول، فلما أبوأ عرض عليهم رد الأيمان على المدعى عليهم. فاشتملت رواية يحيى بن سعيد على زيادة من ثقة حافظ فوجب قبولها. وقد ذكر البخاري رحمه الله رواية سعيد بن عبيد (في باب القسامة)، وذكر رواية يحيى بن سعيد (في باب الموادعة والمصالحة مع المشركين... الخ) وفيها: «تحلفون وتستحقون قاتلكم» أو صاحبكم الحديث. والخطاب في قوله «تحلفون وتستحقون، لأولياء المقتول».
وجزم بما ذكرنا من تقديم رواية يحيى بن سعيد المذكورة على رواية سعيد بن عبيد ـ ابن حجر في الفتح وغير واحد. لأنها زيادة من ثقة حافظ لم يعارضها غيرها فيجب قبولها. كما هو مقرر في علم الحديث وعلم الأصول.
وقال القرطبي في تفسيره في الكلام على قوله تعالى: {فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَ}: وقد أسند حديث سهل أن النَّبي صلى الله عليه وسلم بدأ المدعين: يحيى بن سعيد، وابن عيينة، وحماد بن زيد، وعبد الوهاب الثقفي، وعيسى بن حماد، وبشر بن المفضل. فهؤلاء سبعة. وإن كان أرسله مالك فقد وصله جماعة الحفاظ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد.
وقال مالك رحمه الله (في الموطإ) بعد أن ساق رواية يحيى بن سعيد المذكورة: الأمر المجتمع عليه عندنا، والذي سمعته ممن أرضى في القسامة، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث: أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون اهـ محل الغرض منه.
واعلم أن العلماء أجمعوا على أن القسامة يشترط لها لوث، ولكنهم اختلفوا في تعيين اللوث الذي تحلف معه أيمان القسامة. فذهب مالك رحمه الله إلى أنه أحد أمرين:
الأول ـ أن يقول المقتول: دمي عند فلان. وهل يكفي شاهد واحد على قوله ذلك، أو لا بد من اثنين؟ خلاف عندهم.
والثاني ـ أن تشهد بذلك بينة لا يثبت بها القتل كاثنين غير عدلين.
قال مالك في الموطإ: الأمر المجتمع عليه عندنا والذي سمعته ممن أَرْضَى في القسامة والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث ـ أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون، وأن القسامة لا تجب إلا بأحد أمرين: إما أن يقول المقتول دمي عند فلان، أو يأتي ولاة الدم بلوث من بينة وإن لم تكن قاطعة على الذي يدعى عليه الدم. فهذا يوجب القسامة لمدعي الدم على من ادعوه عليه. ولا تجب القسامة عندنا إلا بأحد هذين الوجهين ـ اهـ محل الغرض منه، هكذا قال في الموطإ، وستأتي زيادة عليه إن شاء الله.
واعلم أن كثيراً من أهل العلم أنكروا على مالك رحمه الله إيجابه القسامة بقول المقتول قتلني فلان.
قالوا: هذا قتل مؤمن بالأيمان على دعوى مجردة.
واحتج مالك رحمه الله بأمرين:
الأول ـ أن المعروف من طبع الناس عند حضور الموت: الإنابة والتوبة والندم على ما سلف من العمل السيء. وقد دلت على ذلك آيات قرآنية. كقوله {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـٰكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِىۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ}، وقوله: {حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ ٱلاٌّنَ}، وقوله: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} إلى غير ذلك من الآيات.
فهذا معهود من طبع الإنسان، ولا يعلم من عادته أن يدع قاتله ويعدل إلى غيره، وما خرج عن هذا نادر في الناس لا حكم له.
الأمر الثاني ـأن قصة قتيل بني إسرائيل تدل على اعتبار قول المقتول دمي عند فلان. فقد استدل مالك بقصة القتيل المذكور على صحة القول بالقسامة بقوله قتلني فلان، أو دمي عند فلان ـ في رواية ابن وهب وابن القاسم.
ورد المخالفون هذا الاستدلال بأن إحياء معجزة لنبي الله موسى، وقد أخبر الله تعالى أنه يحييه، وذلك يتضمن الإخبار بقاتله خبراً جزماً لا يدخله احتمال ـ فافترقا.
ورد ابن العربي المالكي هذا الاعتراض بأن المعجزة إنما كانت في إحياء المقتول، فلما صار حياً كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد.
قال: وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه. فلعله أمرهم بالقسامة معه اهـ كلام ابن العربي. وهو غير ظاهر عندي. لأن سياق القرآن يقتضي أن القتيل إذا ضرب ببعض البقرة وحيي أخبرهم بقاتله، فانقطع بذلك النزاع المذكور في قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَٱدَٰرَأْتُمْ فِيهَ}. فالغرض الأساسي من ذبح البقرة قطع النزاع بمعرفة القاتل بإخبار المقتول إذا ضرب ببعضها فحيي والله تعالى أعلم. والشاهد العدل لوث عند مالك في رواية ابن القاسم. وروى أشهب عن مالك: أنه يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة وروى ابن وهب: أن شهادة النساء لوث. وذكر محمد عن ابن القاسم: أن شهادة المرأتين لوث. دون شهادة المرأة الواحدة.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: اختلف في اللوث اختلافاً كثيراً. ومشهور مذهب مالك: أنه الشاهد العدل. وقال محمد: هو أحب إلي، قال: وأخذ به ابن القاسم وابن عبد الحكم.
وممن أوجب القسامة بقوله دمي عند فلان: الليث بن سعد وروي عن عبد الملك بن مروان.
والذين قالوا بالقسامة بقول المقتول دمي عند فلان، منهم من يقول: يشترط في ذلك أن يكون به جراح. ومنهم من أطلق.
والذي به الحكم وعليه العمل عند المالكية: أنه لا بد في ذلك من أثر جرح أو ضرب بالمقتول، ولا يقبل قوله بدون وجود أثر الضرب.
واعلم أنه بقيت صورتان من صور القسامة عند مالك.
الأولى ـ أن يشهد عدلان بالضرب، ثم يعيش المضروب بعده أياماً ثم يموت منه من غير تخلل إفاقة. وبه قال الليث أيضاً.
وقال الشافعي: يجب في هذه الصورة القصاص بتلك الشهادة على الضرب. وهو مروي أيضاً عن أبي حنيفة.
الثانية ـ أن يوجد مقتول وعنده أو بالقرب منه من بيده آلة القتل، وعليه أثر الدم مثلاً، ولا يوجد غيره فتشرع القسامة عند مالك. وبه قال الشافعي. ويلحق بهذا أن تفترق جماعة من قتيل. وفي رواية عن مالك في القتيل يوجد بين طائفتين مقتتلتين: أن القسامة على الطائفة التي ليس منها القتيل إن كان من إحدى الطائفتين.
أما إن كان من غيرهما فالقسامة عليهما. والجمهور على أن القسامة عليهما معاً مطلقاً. قاله ابن حجر في الفتح.
وأما اللوث الذي تجب به القسامة عند الإمام أبي حنيفة فهو أن يوجد قتيل في محلة أو قبيلة لم يدر قاتله، فيحلف خمسون رجلاً من أهل تلك المحلة التي وجد بها القتيل يتخيرهم الولي ـ ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً. ثم إذا حلفوا غرم أهل المحلة الدية ولا يحلف الولي، وليس في مذهب أبي حنيفة رحمه الله قسامة إلا بهذه الصورة.
وممن قال بأن وجود القتيل بمحلة لوث يوجب القسامة: الثوري والأوزاعي. وشرط هذا عند القائلين به إلا الحنفية: أن يوجد بالقتل أثر. وجمهور أهل العلم على أن وجود القتيل بمحلة لا يوجب القسامة، بل يكون هدراً لأنه قد يقتل ويلقى في المحلة لتلصق بهم التهمة. وهذا ما لم يكونوا أعداء للمقتول ولم يخالطهم غيرهم وإلا وجبت القسامة. كقصة اليهود مع الأنصاري.
وأما الشافعي رحمه الله فإن القسامة تجب عنده بشهادة من لا يثبت القتل بشهادته. كالواحد أو جماعة غير عدول. وكذلك تجب عنده بوجود المقتول يتشحط في دمه، وعنده أو بالقرب منه من بيده آلة القتل وعليه أثر الدم مثلاً ولا يوجد غيره، ويلحق به افتراق الجماعة عن قتيل.
وقد قدمنا قول الجمهور في القتيل يوجد بين الطائفتين المقتتلتين. والذي يظهر لي أنه إن كان من إحدى الطائفتين المقتتلتين: أن القسامة فيه تكون على الطائفة الأخرى دون طائفته التي هو منها وكذلك تجب عنده فيما كقصة اليهودي مع الأنصاري.
واما الإمام أحمد فاللوث الذي تجب به القسامة عنده فيه روايتان.
الأولى ـ أن اللوث هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، كنحو ما بين الأنصار واليهود، وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب وما جرى مجرى ذلك. ولا يشترط عنده على الصحيح ألا يخالطهم غيرهم ـ نص على ذلك الإمام أحمد في رواية مهنأ. واشترط القاضي ألا يخالطهم غيرهم كمذهب الشافعي. قاله في المغني.
والرواية الثانية عن أحمد رحمه الله ـ أن اللوث هو ما يغلب به على الظن صدق المدعي، وذلك من وجوه.
أحدها: العداوة المذكورة.
والثاني: أن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثاً في حق كل واحد منهم. فإن ادعى الولي على واحد فأنكر كونه مع الجماعة فالقول قوله مع يمينه ـ ذكره القاضي، وهو مذهب الشافعي.
والثالث: أن يوجد المقتول ويوجد بقربه رجل معه سكين أو سيف ملطخ بالدم، ولا يوجد غيره.
الرابع: أن تقتتل فئتان فيفترقون عن قتيل من إحداهما، فاللوث على الأخرى. ذكره القاضي. فإن كانوا بحيث لا تصل سهام بعضهم بعضاً فاللوث على طائفة القتيل. وهذا قول الشافعي. وروي عن أحمد: أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه. وهذا قول مالك. وقال ابن أبي ليلى: على الفريقين جميعاً، لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه فاستوى الجميع فيه. وقد قدمنا عن ابن حجر أن هذا قول الجمهور.
الخامس: أن يشهد بالقتل عبيد ونساء. فعن أحمد هو لوث لأنه يغلب على الظن صدق المدعي. وعنه ليس بلوث، لأنها شهادة مردودة فلم يكن لها أثر.
فأما القتيل الذي يوجد في الزحام كالذي يموت من الزحام يوم الجمعة أو عند الجمرة ـ فظاهر كلام أحمد أن ذلك ليس بلوث، فإنه قال فيمن مات بالزحام يوم الجمعة: ديته في بيت المال. وهذا قول إسحاق، وروي عن عمر وعلي، فإن سعيداً روى في سننه عن إبراهيم قال: قتل رجل في زحام الناس بعرفة. فجاء أهله إلى عمر فقال بينتكم على من قتله؟ فقال علي: يا أمير المؤمنين، لا يطل دم امرىء مسلم إن علمت قاتله، وإلا فأعطهم ديته من بيت المال.
انتهى من المغني.
وقد قال ابن حجر في الفتح (في باب إذا مات في الزحام أو قتل) في الكلام على قتل المسلمين يوم أحد اليمان والد حذيفة رضي الله عنهما ما نصه: وحجته (يعني إعطاء ديته من بيت المال) ما ورد في بعض طرق قصة حذيفة، وهو ما أخرجه أبو العباس السراج في تاريخه من طريق عكرمة: أن والد حذيفة قتل يوم أحد بعض المسلمين وهو يظن أنه من المشركين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجاله ثقات مع إرساله. وقد تقدم له شاهد مرسل أيضاً (في باب العفو عن الخطأ) وروى مسدد في مسنده من طريق يزيد بن مذكور: أن رجلاً زحم يوم الجمعة فمات فوداه علي من بيت المال.
وفي المسألة مذاهب أخرى (منها) قول الحسن البصري: أن ديته تجب على جميع من حضر، وهو أخص من الذي قبله. وتوجيهه: أنه مات بفعلهم فلا يتعداهم إلى غيرهم. (ومنها) قول الشافعي ومن تبعه: أنه يقال لوليه ادَّعِ على من شئت واحلف. فإن حلفت استحققت الدية، وإن نكلت حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة. وتوجيهه: أن الدم لا يجب إلا بالطلب.
(ومنها) قول مالك: دمه هدر. وتوجيهه: أنه إذا لم يعلم قائله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد. وقد تقدمت الإشارة إلى الراجح من هذه المذاهب (في باب العفو عن الخطأ) ـ انتهى كلام ابن حجر رحمه الله.
والترجيح السابق الذي أشار له هو قوله في قول حذيفة رضي الله عنه مخاطباً للمسلمين الذين قتلوا أباه خطأ: «غفر الله لكم» استدل به من قال: إن ديته وجبت على من حضر. لأن معنى قوله «غفر الله لكم» عفوت عنكم، وهو لا يعفو إلا عن شيء استحق أن يطالب به. انتهى محل الغرض منه. فكأن ابن حجر يميل إلى ترجيح قول الحسن البصري رحمه الله.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال عندي في اللوث الذي تجب القسامة به: أنه كل ما يغلب به على الظن صدق أولياء المقتول في دعواهم. لأن جانبهم يترجح بذلك فيحلفون معه. وقد تقرر في الأصول «أن المعتبر في الروايات والشهادات ما تحصل به غلبة الظن» وعقده صاحب مراقي السعود بقوله في شروط الراوي: بغالب الظن يدور المعتبر فاعتبر الإسلام من غبر ـ الخ
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول ـ لا يحلف النساء ولا الصبيان في القسامة، وإنما يحلف فيها الرجال. وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد، والثوري والأوزاعي وربيعة والليث، ووافقهم مالك في قسامة العمد، وأجاز حلف النساء الوارثات في قسامة الخطإ خاصة. وأما الصبي فلا خلاف بين العلماء في أنه لا يحلف أيمان القسامة. وقال الشافعي: يحلف في القسامة كل وارث بالغ ذكراً كان أو أنثى، عمداً كان أو خطأ.
واحتج القائلون بأنه لا يحلف إلا الرجال بأن في بعض روايات الحديث في القسامة يقسم خمسون رجلاً منكم. قالوا: ويفهم منه أن غير الرجال لا يقسم.
واحتج الشافعي ومن وافقه بقوله صلى الله عليه وسلم «تحلفون خمسين يميناً فتستحقون دم صاحبكم» فجعل الحالف هو المستحق للدية والقصاص. ومعلوم أن غير الوارث لا يستحق شيئاً ـ فدل على أن المراد حلف من يستحق الدية.
وأجاب الشافعية عن حجة الأولين بما قاله النووي في شرح مسلم. فإنه قال في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم» ما نصه: هذا مما يجب تأويله. لأن اليمين إنما تكون على الوارث خاصة لا على غيره من القبيلة. وتأويله عند أصحابنا: أن معناه يؤخذ منكم خمسون يميناً والحالف هم الورثة، فلا يحلف أحد من الأقارب غير الورثة، يحلف كل الورثة ذكوراً كانوا أو إناثاً، سواء كان القتل عمداً أو خطأ ـ هذا مذهب الشافعي،
وبه قال أبو ثور وابن المنذر. ووافقنا مالك فيما إذا كان القتل خطأ، وأما في العمد فقال: يحلف الأقارب خمسين يميناً. ولا تحلف النساء ولا الصبيان. ووافقه ربيعة والليث، والأوزاعي وأحمد وداود وأهل الظاهر ـ انتهى الغرض من كلام النووي رحمه الله.
ومعلوم أن هذا التأويل الذي أولوا به الحديث بعيد من ظاهر اللفظ، ولا سيما على الرواية التي تصرح بتمييز الخمسين بالرجل عند أبي داود وغيره.
الفرع الثاني ـ قد علمت أن المبدأ بأيمان القسامة أولياء الدم على التحقيق كما تقدم إيضاحه. فإن حلفوا استحقوا القود أو الدية على الخلاف المتقدم. وإن نكلوا ردت الأيمان على المدعى عليهم. فإن حلفوها برؤوا عند الجمهور، وهو الظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» أي يبرؤون منكم بذلك. وهذا قول مالك والشافعي، والرواية المشهورة عن أحمد، وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة وأبو الزناد والليث وأبو ثور، كما نقله عنهم صاحب المغني.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنهم إن حلفوا لزم أهل المحلة التي وجد بها القتيل أن يغرموا الدية. وذكر نحوه أبو الخطاب. رواية عن أحمد. وقد قدمنا أن عمر ألزمهم الدية بعد أن حلفوا. ومعلوم أن المبدأ بالأيمان عند أبي حنيفة المدعى عليهم، ولا حلف على الأولياء عنده كما تقدم.
الفرع الثالث ـ إن امتنع المدعون من الحلف ولم يرضوا بأيمان المدعى عليهم ـ فالظاهر أن الإمام يعطي ديته من بيت المال. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك، والله تعالى يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
الفرع الرابع ـ إن ردت الأيمان على المدعى عليهم فقد قال بعض أهل العلم: لا يبرأ أحد منهم حتى يحلف بانفراده خمسين يميناً، ولا توزع الأيمان عليهم بقدر عددهم.
قال مالك في الموطإ: وهذا أحسن ما سمعت في ذلك. وهو مذهب الإمام أحمد.
وقال بعض علماء الحنابلة: تقسم الأيمان بينهم على عددهم بالسوية. لأن المدعى عليهم متساوون. وللشافعي قولان كالمذهبين اللذين ذكرنا. فإن امتنع المدعى عليهم من اليمين فقيل يحبسون حتى يحلفوا. وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وهو مذهب مالك أيضاً. إلا أن المالكية يقولون: إن طال حبسهم ولم يحلفوا تركوا، وعلى كل واحد منهم جلد مائة وحبس سنة. ولا أعلم لهذا دليلاً. وأظهر الأقوال عندي: أنهم تلزمهم الدية بنكولهم عن الأيمان، ورواه حرب بن إسماعيل عن أحمد، وهو اختيار أبي بكر. لأنه حكم ثبت بالنكول فثبت في حقهم ها هنا كسائر الدعاوى. قال في المغني: وهذا القول هو الصحيح، والله تعالى أعلم.
الفرع الخامس ـ اختلف العلماء في أقل العدد الذي يصح أن يحلف أيمان القسامة. فذهب مالك وأصحابه إلى أنه لا يصح أن يحلف أيمان القسامة في العمد أقل من رجلين من العصبة. فلو كان للمقتول ابن واحد مثلاً استعان برجل آخر من عصبة المقتول ولو غير وارث يحلف معه أيمانها. وأظهر الأقوال دليلاً هو صحة استعانة الوارث بالعصبة غير الوارثين في أيمان القسامة. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لحويصة ومحيصة: «يحلف خمسون منكم..» الحديث. وهما ابنا عم المقتول، ولا يرثان فيه لوجود أخيه. وقد قال لهم «يحلف خمسون منكم» وهو يعلم أنه لم يكن لعبد الله بن سهل المقتول عشرون رجلاً وارثون. لأنه لا يرثه إلا أخوه ومن هو في درجته أو أقرب منه نسباً.
وأجاب المخالفون: بأن الخطاب للمجموع مراداً به بعضهم، وهو الوارثون منهم دون غيرهم ولا يخفى بعده. فإن كانوا خمسين حلف كل واحد منهم يميناً. وإن كانوا أقل من ذلك وزعت عليهم بحسب استحقاقهم في الميراث.
فإن نكل بعضهم رد نصيبه على الباقين إن كان الناكل معيناً لا وارثاً. فإن كان وارثاً يصح عفوه عن الدم سقط القود بنكوله، وردت الأيمان على المدعى عليهم على نحو ما قدمنا. هذا مذهب مالك رحمه الله.
وأما القسامة في الخطإ عند مالك رحمه الله ـ فيحلف أيمانها الوارثون على قدر أنصبائهم. فإن لم يوجد إلا واحد ولو امرأة حلف الخمسين يميناً كلها واستحق نصيبه من الدية.
وأما الشافعي رحمه الله فقال: لا يجب الحق حتى يحلف الورثة خاصة خمسين يميناً سواء قلوا أم كثروا. فإن كان الورثة خمسين حلف كل واحد منهم يميناً وإن كانوا أقل أو نكل بعضهم ردت الأيمان على الباقين. فإن لم يكن إلا واحد حلف خمسين يميناً واستحق حتى لو كان من يرث بالفرص والتعصيب أو بالنسب والولاء حلف واستحق.
وقد قدمنا ـ أن الصحيح في مذهب الشافعي رحمه الله: أن القسامة إنما تستحق بها الدية لا القصاص.
وأما الإمام أحمد فعنه في هذه المسألة روايتان: الأولى ـ أنه يحلف خمسون رجلاً من العصبة خمسين يميناً، كل رجل يحلف يميناً واحدة. فإن وجدت الخمسون من ورثة المقتول فذلك، وإلا كملت الخمسون من العصبة الذين لا يرثون، الأقرب منهم فالأقرب حتى تتم الخمسون. وهذا قول لمالك أيضاً، وهذا هو ظاهر بعض روايات حديث سهل الثابتة في الصحيح.
والرواية الأخرى عن الإمام أحمد ـ أنه لا يحلف أيمان القسامة إلا الورثة خاصة، وتوزع عليهم على قدر ميراث كل واحد منهم. فإن لم يكن إلا واحد حلف الخمسين واستحق. إلا أن النساء لا يحلفن أيمان القسامة عند أحمد. فالمراد بالورثة عنده الذكور خاصة. وهذه الرواية هي ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي حامد.
وأما الإمام أبو حنيفة رحمه الله ـ فقد قدمنا أن أيمان القسامة عنده لا يحلفها إلا خمسون رجلاً من أهل المحلة التي وجد بها القتيل. فيقسمون أنهم ما قتلوه ولا علموا له قاتلاً.
تنبيه
قد علمت كلام العلماء فيمن يحلف أيمان القسامة. فإذا وزعت على عدد أقل من الخمسين ووقع فيها انكسار فإن تساووا جبر الكسر عليهم. كما لو خلف المقتول ثلاثة بنين. فإن على كل واحد منهم ثلث الخمسين يميناً وهو ست عشرة وثلثان، فيتمم الكسر على كل واحد منهم. فيحلف كل واحد منهم سبع عشرة يميناً.
فإن قيل: يلزم على ذلك خلاف الشرع في زيادة الأيمان على خمسين يميناً. لأنها تصير بذلك إحدى وخمسين يميناً.
فالجواب ـ أن نقص الأيمان عن خمسين لا يجوز، وتحميل بعض الورثة زيادة على الآخرين لا يجوز. فعلم استواؤهم في جبر الكسر. فإذا كانت اليمين المنكسرة لم يستوِ في قدر كسرها الحالفون، كأن كان على أحدهم نصفها، وعلى آخر ثلثها، وعلى آخر سدسها، حلفها من عليه نصفها تغليباً للأكثر، ولا تجبر على صاحب الثلث والسدس. وهذا هو مذهب مالك وجماعة من أهل العلم. وقال غيرهم: تجبر على الجميع. والله تعالى أعلم.
وقال بعض أهل العلم: يحلف كل واحد من المدعين خمسين يميناً، سواء تساووا في الميراث أو اختلفوا فيه. واحتج من قال بهذا بأن الواحد منهم لو انفرد لحلف الخمسين يميناً كلها. قال: وما يحلفه منفرداً يحلفه مع غيره كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول بعيد فيما يظهر. لأن الأحاديث الواردة في القسامة تصرح بأن عدد أيمانها خمسون فقط، وهذا القول قد تصير به مئات كما ترى. والعلم عند الله تعالى.
الفرع السادس ـ لا يقتل بالقسامة عند من يوجب القود بها إلا واحد. وهذا قول أكثر القائلين بالقود بها، منهم مالك وأحمد والزهري، وبعض أصحاب الشافعي وغيرهم.
وهذا القول هو الصواب، وتدل عليه الرواية الصحيحة التي قدمناها عند مسلم وغيره:
«يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته..» الحديث. فقوله صلى الله عليه وسلم في معرض بيان حكم الواقعة: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم» يدل على أنهم ليس لهم أن يقسموا على غير واحد. وقيل: يستحق بالقسامة قتل الجماعة. لأنها بينة موجبة للقود، فاستوى فيها الواحد والجماعة كالبينة. وممن قال بهذا أبو ثور: قاله ابن قدامة في المغني.
وهل تسمع الدعوى في القسامة على غير معين أو لا؟ وهل تسمع على أكثر من واحد أو لا. فقال بعض أهل العلم: تسمع على غير معين. وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله مستدلاً بقصة الأنصاري المقتول بخبير. لأن أولياءه ادعو على يهود خيبر. وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن الدعوى فيها لا تسمع إلا على معين، قالوا: ولا دليل في قصة اليهود والأنصاري. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال فيها «يقسم خمسون منكم على رجل منهم» فبين أن المدعي عليه لا بد أن يعين.
وقال بعض من اشترط كونها على معين: لا بد أن تكون على واحد، وهو قول أحمد ومالك.
وقال بعض من يشترط كونها على معين: يجوز الحلف على جماعة معينين، وقد قدمنا اختلافهم: هل يجوز قتل الجماعة أو لا يقتل إلا واحد، وهو ظاهر الحديث، وهو الحق إن شاء الله.
وقال أشهب صاحب مالك: لهم أن يحلفوا على جماعة ويختاروا واحداً للقتل، ويسجن الباقون عاماً، ويضربون مائة.
قال ابن حجر في الفتح. وهو قول لم يسبق إليه. والعلم عند الله تعالى.
الفرع السابع ـ اعلم أن أيمان القسامة تحلف على البت، ودعوى القتل أيضاً على البت. فإن قيل: كيف يحلف الغائب على أمر لم يحضره، وكيف يأذن الشارع في هذه اليمين التي هي من الأيمان على غير معلوم؟
فالجواب ـ أن غلبة الظن تكفي في مثل هذا، فإن غلب على ظنه غلبة قوية أنه قتله حلف على ذلك. وإن لم يغلب على ظنه غلبة قوية فلا يجوز له الإقدام على الحلف.
الفرع الثامن ـ إن مات مستحق الأيمان قبل أن يحلفها انتقل إلى وارثه ما كان عليه من الأيمان، وكانت بينهم على حسب مواريثهم، ويجبر الكسر فيها عليهم كما يجبر في حق ورثة القتيل على نحو ما تقدم. لأن من مات عن حق انتقل إلى وارثه.
ولنكتف بما ذكرنا من أحكام القسامة خوف الإطالة المملة، ولأن أحكامها كثيرة متشعبة جداً، وقد بسط العلماء عليها الكلام في كتب الفروع.
غريبة تتعلق بهذه الآية الكريمة
وهي أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما استنبط من هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها: أيام النزاع بين علي رضي الله عنه وبين معاوية رضي الله عنه ـ أن السلطنة والملك سيكونان لمعاوية، لأنه من أولياء عثمان رضي الله عنه وهو مقتول ظلماً، والله تعالى يقول: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـٰن}. وكان الأمر كما قال ابن عباس.
وهذا الاستنباط عنه ذكره ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة، وساق الحديث في ذلك بسنده عند الطبراني في معجمه. وهو استنباط غريب عجيب. ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام المتعلقة بهذه الآية الكريمة خوف الإطالة المملة. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُول}. نهى جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن اتباع الإنسان ما ليس له به علم. ويشمل ذلك قوله: رأيت ولم ير، وسمعت ولم يسمع، وعلمت ولم يعلم. ويدخل فيه كل قول بلا علم ـ وأن يعمل الإنسان بما لا يعلم. وقد أشار جل وعلا إلى هذا المعنى في آيات أخر. كقوله: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِٱلسُّوۤءِ وَٱلْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وقوله:
{إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْىَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَـٰناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، وقوله: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ}، وقوله: {قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ}، وقوله: {وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئ} وقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ}، والآيات بمثل هذا في ذم اتباع غير العلم المنهي عنه في هذه الآية الكريمة كثيرة جداً. وفي الحديث: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث».
تنبيه
أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة منع التقليد، قالوا: لأنه اتباع غير العلم.
قال مقيده عفا الله عنه: لا شك أن التقليد الأعمى الذي ذم الله به الكفار في آيات من كتابه تدل هذه الآية وغيرها من الآيات على منعه، وكفر متبعه. كقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}، وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}، وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ}، وقوله: {أَمْ ءَاتَيْنَـٰهُمْ كِتَـٰباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَبَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَـٰرِهِم مُّهْتَدُونَوَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَـٰرِهِم مُّقْتَدُونَقُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ}، وقوله: {قَالُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَ}، إلى غير ذلك من الآيات.
أما استدلال بعض الظاهرية كابن حزم ومن تبعه بهذه الآية التي نحن بصددها وأمثالها من الآيات ـ على منع الاجتهاد في الشرع مطلقاً، وتضليل القائل به، ومنع التقليد من أصله، فهو من وضع القرآن في غير موضعه، وتفسيره بغير معناه، كما هو كثير في الظاهرية، لأن مشروعية سؤال الجاهل للعالم وعمله بفتياه أمر معلوم من الدين بالضرورة. ومعلوم أنه كان العامي يسأل بعض أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم فيفتيه فيعمل بفتياه، ولم ينكر ذلك أحد من المسلمين. كما أنه من المعلوم أن المسألة إن لم يوجد فيها نص من كتاب الله أو سنة صلى الله عليه وسلم. فاجتهاد العالم حينئذ بقدر طاقته في تفهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ليعرف حكم المسكوت عنه من المنطوق به ـ لا وجه لمنعه، وكان جارياً بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكره أحد من المسلمين. وسنوضح غاية الإيضاح إن شاء الله تعالى «في سورة الأنبياء، والحشر» مسألة الاجتهاد في الشرع، واستنباط حكم المسكوت عنه من المنطوق به بإلحاقه به قياساً كان الإلحاق أو غيره. ونبين أدلة ذلك، ونوضح رد شبه المخالفين كالظاهرية والنظام، ومن قال بقولهم في احتجاجهم بأحاديث وآيات من كتاب الله على دعواهم، وبشبه عقلية حتى يتضح بطلان جميع ذلك.
وسنذكر هنا طرفاً قليلاً من ذلك يعرف به صحة القول بالاجتهاد والقياس فيما لا نص فيه، وأن إلحاق النظير بنظيره المنصوص عليه غير مخالف للشرع الكريم.
اعلم أولاً ـ أن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بنفي الفارق بينهما لا يكاد ينكره إلا مكابر، وهو نوع من القياس الجلي، ويسميه الشافعي رحمه الله «القياس في معنى الأصل» وأكثر أهل الأصول لا يطلقون عليه اسم القياس، مع أنه إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به لعدم الفرق بينهما. أعني الفرق المؤثر في الحكم.
ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} فإنه لا يشك عاقل في أن النهي عن التأفيف المنطوق به يدل على النهي عن الضرب المسكوت عنه.
وقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُوَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} فإنه لا شك أيضاً في أن التصريح بالمؤاخذة بمثال الذرة والإثابة عليه المنطوق به يدل على المؤاخذة والإناثة بمثقال الجبل المسكوت عنه.
وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ}، لا شك في أنه يدل على أن شهادة أربعة عدول مقبولة وإن كانت شهادة الأربعة مسكوتاً عنها.
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء يدل على النهي عن التضحية بالعمياء، مع أن ذلك مسكوت عنه.
وقوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ}. لا شك في أنه يدل على منع إحراق مال اليتيم وإغراقه. لأن الجميع إتلاف له بغير حق.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أعتق شركاً له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل، فأعطى شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق» يدل على أن من أعتق شركاً له في أمة فحكمه كذلك. لما عرف من استقراء الشرع أن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا تأثير لهما في أحكام العتق وإن كانا غير طرديين في غير العتق كالشهادة والميراث وغيرهما.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان» لا شك في أنه يدل على منع قضاء الحكم في كل حال يحصل بها التشويش المانع من استيفاء النظر. كالجوع والعطش المفرطين، والسرور والحزن المفرطين، والحقن والحقب المفرطين.
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد، لا شك في أنه يدل على النهي عن البول في قارورة مثلاً وصب البول من القارورة في الماء الراكد. إذ لا فرق يؤثر في الحكم بين البول فيه مباشرة وصبه فيه من قارورة ونحوها، وأمثال هذا كثيرة جداً، ولا يمكن أن يخالف فيها إلا مكابر. ولا شك أن في ذلك كله استدلالاً بمنطوق به على مسكوت عنه. وكذلك نوع الاجتهاد المعروف في اصطلاح أهل الأصول «بتحقيق المناط» لا يمكن أن ينكره إلا مكابر، ومسائلة التي لا يمكن الخلاف فيها من غير مكابر لا يحيط بها الحصر، وسنذكر أمثلة منها. فمن ذلك قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} فكون الصيد المقتول يماثله النوع المعين من النعم اجتهاد في تحقيق مناط هذا الحكم، نص عليه جل وعلا في محكم كتابه. وهو دليل قاطع على بطلان قول من يجعل الاجتهاد في الشرع مستحيلاً من أصله. والإنفاق على الزوجات واجب، وتحديد القدر اللازم لا بد فيه من نوع من الاجتهاد في تحقيق مناط ذلك الحكم. وقيم المتلفات واجبة على من أتلف، وتحديد القدر الواجب لا بد فيه من اجتهاد. والزكاة لا تصرف إلا في مصرفها، كالفقير ولا يعلم فقره إلا بأمارات ظنية يجتهد في الدلالة عليها بالقرائن. لأن حقيقة الباطن لا يعلمها إلا الله. ولا يحكم إلا بقول العدل، وعدالته إنما تعلم بأمارات ظنية يجتهد في معرفتها بقرائن الأخذ والإعطاء وطول المعاشرة. وكذلك الاجتهاد من المسافرين في جهة القبلة بالأمارات، إلى غير ذلك مما لا يحصى.
ومن النصوص الدالة على مشروعية الاجتهاد في مسائل الشرع ـ ما ثبت في الصحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن بسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».
وحدثني إسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن أبي عمر كلاهما عن عبد العزيز بن محمد بهذا الإسناد مثله، وزاد في عقب الحديث: قال يزيد: فحدثت هذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فقال: هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة، وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: أخبرنا مروان يعني ابن محمد الدمشقي، حدثنا الليث بن سعد، حدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي بهذا الحديث، مثل رواية عبد العزيز بن محمد بالإسنادين جميعاً ـ انتهى.
فهذا نص صحيح من النَّبي صلى الله عليه وسلم، صريح في جواز الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وحصول الأجر على ذلك وإن كان المجتهد مخطئاً في اجتهاده. وهذا يقطع دعوى الظاهرية: منع الاجتهاد من أصله، وتضليل فاعله والقائل به قطعاً باتاً كما ترى.
وقال النووي في شرح هذا الحديث: قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم. فإن أصاب فله أجران: أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده. وفي الحديث محذوف تقديره: إذا أراد الحاكم أن يحكم فاجتهد. قالوا: فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم. فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم. ولا ينعقد حكمه سواء وافق الحق أم لا. لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي، فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يعذر في شيء من ذلك. وقد جاء في الحديث في السنن: «القضاة ثلاثة: قاض في الجنة، واثنان في النار. قاض عرف الحق فقضى به في الجنة، وقاض عرف الحق فقضى بخلافه فهو في النار، وقاض قضى على جهل فهو في النار» انتهى الغرض من كلام النووي.
فإن قيل: الاجتهاد المذكور في الحديث هو الاجتهاد في تحقيق المناط دون غيره من أنواع الاجتهاد.
فالجواب ـ أن هذا صرف لكلامه صلى الله عليه وسلم عن ظاهره من غير دليل يجب الرجوع إليه، وذلك ممنوع.
وقال البخاري في صحيحه: باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ. حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، حدثني يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن بسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».
قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عمرو بن حزم فقال: هكذا حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. وقال عبد العزيز بن المطلب، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبي سلمة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مثله اهـ. فهذا الحديث المتفق عليه يدل على بطلان قول من منع الاجتهاد من أصله في الأحكام الشرعية. ومحاولة ابن حزم تضعيف هذا الحديث المتفق عليه، الذي رأيت أنه في أعلى درجات الصحيح لاتفاق الشيخين عليه لا تحتاج إلى إبطالها لظهور سقوطها كما ترى. لأنه حديث متفق عليه مروي بأسانيد صحيحة عن صحابيين جليلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة الدالة على ذلك ما روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال له: «فبم تحكم»؟ قال: بكتاب الله. قال: «فإن لم تجد»؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: «فإن لم تجد»؟ قال: أجتهد رأيي. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم».
قال ابن كثير رحمه الله في مقدمة تفسيره بعد أن ذكر هذا الحديث ما نصه: وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه.
وقال ابن قدامة (في روضة الناظر) بعد أن ساق هذا الحديث: قالوا هذا الحديث يرويه الحارث بن عمرو عن رجال من أهل حمص، والحارث والرجال مجهولون. قاله الترمذي. قلنا: قد رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ رضي الله عنه. انتهى.
ومراد ابن قدامه ظاهر. لأن رد الظاهرية لهذا الحديث بجهالة من رواه عن معاذ مردود بأنه رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عنه. وهذه الرواية ليست هي مراد ابن كثير بقوله: هذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد لأنها ليست في المسند ولا في السنن، ولعل مراده بجودة هذا الإسناد أن الحارث ابن أخي المغيرة بن شعبة وثقة ابن حبان، وأن أصحاب معاذ يراهم عدولاً ليس فيهم مجروح ولا منهم، وسيأتي استقضاء البحث في طرق هذا الحديث في سورة الأنبياء. ومعلوم أن عبادة بن نسي ثقة فاضل كما قدمنا. وعبد الرحمن بن غنم قيل صحابي، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين، قاله في التقريب. وحديث معاذ هذا تلقته الأمة قديماً وحديثاً بالقبول. وسيأتي إن شاء الله «في سورة الأنبياء»، و«سورة الحشر» ما استدل به أهل العلم على هذا من آيات القرآن العظيم.
ومن الأدلة الدالة على أن إلحاق النظير بنظيره في الشرع جائز: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: «أفرأيت لو كان على أمك دين فقضيته، أكان يؤدي ذلك عنها»؟ قالت: نعم. قال: «فصومي عن أمك» وفي رواية لهما عنه قال: جاء رجل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: «لو كان على أمك دين، أكنت قاضيه عنها»؟ قال: نعم. قال: «فدين الله أحق أن يقضى» انتهى.
واختلاف الرواية في هذا الحديث لا يعد اضطراباً، لأنها وقائع متعددة: سألته امرأة فأفتاها، وسأله رجل فأفتاه بمثل ما أفتى به المرأة، كما نبه عليه غير واحد.
وهذا نص صحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، صريح في مشروعية إلحاق النظير بنظيره المشارك له في علة الحكم. لأنه صلى الله عليه وسلم بين إلحاق دين الله تعالى بدين الآدمي،
بجامع أن الكل حق مطالب به تسقط المطالبة به بأدائه إلى مستحقه. وهو واضح في الدلالة على القياس كما ترى.
ومن الأدلة الدالة على ذلك أيضاً: ما رواه الشيخان في صحيحيهما أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلاماً أسودٰ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك إبل»؟ قال: نعم. قال: «فما ألوانها»؟ قال: حمر. قال: «فهل يكون فيها من أورق»؟ قال: إن فيها لورقاً. قال: «فأني أتاها ذلك»؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق. قال: «وهذا عسى أن يكون نزعه عرق» اهـ.
فهذا نص صحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم صريح في قياس النظير على نظيره. وقد ترتب على هذا القياس حكم شرعي، وهو كون سواد الولد مع بياض أبيه وأمه، ليس موجباً للعان. فلم يجعل سواده قرينة على أنها زنت بإنسان أسود، لإمكان أن يكون في أجداده من هو أسود فنزعه إلى السواد سواد ذلك الجد. كما أن تلك الإبل الحمر فيها جمال ورق يمكن أن لها أجداداً ورقاً نزعت ألوانها إلى الورقة. وبهذا اقتنع السائل.
ومن الأدلة الدالة على إلحاق النظير بنظيره: ما رواه أبو داود، والإمام أحمد، والنسائي، عن عمر رضي الله عنه قال: هششت يوماً فقبلت وأنا صائم. فأتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم فقلت: صنعت اليوم أمراً عظيماً! قبلت وأنا صائمٰ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم»؟ فقلت: لا بأس بذلك. فقال صلى الله عليه وسلم «فمه» اهـ.
فإن قيل: هذا الحديث قال فيه النسائي: منكر.
قلنا: صححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم. قاله الشوكاني في نيل الأوطار.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الحديث ثابت وإسناده صحيح. قال: أبو داود في سننه: حدثنا أحمد بن يونس ثنا الليث (ح) وثنا عيسى بن حماد، أخبرنا الليث بن سعد، عن بكير بن عبد الله، عن عبد الملك بن سعيد، عن جابر بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب: هششت فقبلت... إلى آخر الحديث بلفظه المذكور آنفاً. ولا يخفى أن هذا الإسناد صحيح، فإن طبقته الأولى أحمد بن يونس وعيسى بن حماد. أما أحمد فهو ابن عبد الله بن يونس الكوفي التميمي اليربوعي ثقة حافظ. وعيسى بن حماد التجيبي أبو موسى الأنصاري الملقب زغبة، ثقة. وطبقته الثانية الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري ثقة ثبت، فقيه إمام مشهور. وطبقته الثالثة بكير بن عبد الله بن الأشج مولى بني مخزوم أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدني نزيل مصر ثقة. وطبقته الرابعة عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري المدني ثقة. وطبقته الخامسة جابر بن عبد الله عن عمر بن الخطاب عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. فهذا إسناد صحيح رجاله ثقات كما ترى. فهو نص صحيح صريح في أنه صلى الله عليه وسلم قاس القبلة على المضمضة. لأن المضمضة مقدمة الشرب، والقبلة مقدمة الجماع. فالجامع بينهما أن كلاً منهما مقدمة المفطر، وهي لا تفطر بالنظر لذاتها.
فهذه الأدلة التي ذكرنا فيه الدليل الواضح على أن إلحاق النظير بنظيره من الشرع لا مخالف له. لأنه صلى الله عليه وسلم فعله، والله يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، وهو صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا لينبه الناس له.
فإن قيل: إنما فعله صلى الله عليه وسلم لأن الله أوحى إليه ذلك.
قلنا: فعله حجة في فعل مثل ذلك الذي فعل، ولو كان فعله بوحي كسائر أقواله وأفعاله وتقريراته، فكلها تثبت بها الحجة، وإن كان هو صلى الله عليه وسلم فعل ما فعل من ذلك بوحي من الله تعالى.
مسألة
قال ابن خويز منداد من علماء المالكية: تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة. لأنه لما قال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} دل على جواز ما لنا به علم. فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به. وبهذا احتججنا على إثبات القرعة والخرص. لأنه ضرب من غلبة الظن، وقد يسمى علماً اتساعاً. فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما، كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل عن طريق الشبه. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسروراً تبرق أسارير وجهه فقال: «ألم ترى أن مجززا المدلجي نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة، قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض» وفي حديث يونس بن يزيد: وكان مجزز قائفاً اهـ بواسطة نقل القرطبي في تفسيره.
قال مقيده عفا الله عنه: من المعلوم أن العلماء اختلفوا في اعتبار أقوال القافة. فذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها. واحتج من قال بعدم اعتبارها بقصة الأنصارية التي لاعنت زوجها وجاءت بولد شبيه جداً بمن رميت به ولم يعتبر هذا الشبه النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلم يحكم بأن الولد من زنى ولم يجلد المرأة.
قالوا: فلو كان الشبه تثبت به الأنساب لأثبت النَّبي صلى الله عليه وسلم به أن ذلك الولد من ذلك الرجل الذي رميت به. فيلزم على ذلك إقامة الحد عليها، والحكم بأن الولد ابن زنى، ولم يفعل النَّبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذلك كما يأتي إيضاحه (في سورة النور) إن شاء الله تعالى.
وهذا القول بعدم اعتبار أقوال القافة مروي عن أبي حنيفة وإسحاق والثوري وأصحابهم.
وذهب جمهور أهل العلم إلى اعتبار أقوال القافة عند التنازع في الولد، محتجين بما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم سر بقول مجزز بن الأعور المدلجي: إن بعض هذه الأقدام من بعض، حتى برقت أسارير وجهه من السرور.
قالوا: وما كان صلى الله عليه وسلم ليسر بالباطل ولا يعجبه، بل سروره بقول القائف دليل على أنه من الحق لا من الباطل، لأن تقديره وحده كاف في مشروعية ما قرر عليه، وأحرى من ذلك ما لو زاد السرور بالأمر على التقرير عليه، وهو واضح كما ترى.
واعلم أن الذين قالوا باعتبار أقوال القافة اختلفوا فمنهم من قال لا يقبل ذلك إلا في أولاد الإماء دون أولاد الحرائر. ومنهم من قال: يقبل ذلك في الجميع.
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق باعتبار ذلك في أولاد الحرائر والإماء لأن سرور النَّبي صلى الله عليه وسلم وقع في ولد حرة، وصورة سبب النزول قطعية الدخول كما تقرر في الأصول، وهو قول الجمهور وهو الحق، خلافاً للإمام مالك رحمه الله قائلاً: إن صورة السبب ظنية الدخول، وعقده صاحب مراقي السعود بقوله:
واجزم بإدخال ذوات السبب وارو عن الإمام ظناً تصب
تنبيهان
الأول ـلا تعتبر أقوال القافة في شبه مولود برجل إن كانت أمه فراشاً لرجل آخر. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم رأى شدة شبه الولد الذي اختصم فيه سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة بعتبة بن أبي وقاص ولم يؤثر عنده هذا الشبه في النسب لكون أم الولد فراشاً لزمعة. فقال صلى الله عليه وسلم «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ولكنه صلى الله عليه وسلم اعتبر هذا الشبه من جهة أخرى غير النسب. فقال لسودة بنت زمعة رضي الله عنها «احتجبي عنه» مع أنه ألحقه بأبيها فلم ير سودة قط. وهذه المسألة أصل عند المالكية في مراعاة الخلاف كما هو معلوم عندهم.
التنبيه الثاني: قال بعض علماء العربية: أصل القفو البهت والقذف بالباطل. ومنه الحديث الذي روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا» أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما من حديث الأشعث بن قيس. وساق طرق هذا الحديث ابن كثير في تاريخه. وقوله «لا نقفوا أمنا» أي لا نقذف أمنا ونسبها، ومنه قول الكميت: فلا أرمي البريء بغير ذنب ولا أقفوا الحواصن إن قفينا
وقول النابغة الجعدي: ومثل الدمى شم العرانين ساكن بهن الحياء لا يشعن التقافيا
والذي يظهر لنا أن أصل القفو في لغة العرب: الاتباع كما هو معلوم من اللغة. ويدخل فيه اتباع المساوي كما ذكره من قال: إن أصله القذف والبيت.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُول} فيه وجهان من التفسير: الأول ـ أن معنى الآية ـ أن الإنسان يسأل يوم القيامة عن أفعال جوارحه فيقال له: لم سمعت ما لا يحل لك سماعهٰ؟ ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليهٰ؟ ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليهٰ؟
ويدل لهذا المعنى آيات من كتاب الله تعالى، كقوله: {وَلَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقوله {فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَعَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، ونحو ذلك من الآيات.
والوجه الثاني ـ أن الجوارح هي التي تسأل عن أفعال صاحبها، فتشهد عليه جوارحه بما فعل.
قال القرطبي في تفسيره: وهذا المعنى أبلغ في الحجة. فإنه يقع تكذيبه من جوارحه، وتلك غاية الخزي كما قال: {ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَٰهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}، وقوله: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـٰرُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
قال مقيده عفا الله عنه: والقول الأول أظهر عندي، وهو قول الجمهور.
وفي الآية الكريمة نكتة نبه عليها في مواضع أخر. لأن قوله تعالى: {إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُول} يفيد تعليل النهي في قوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} بالسؤال عن الجوارح المذكورة، لما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه: أن «إن» المكسورة من حروف التعليل. وإيضاحه: أن المعنى انته عما لا يحل لك لأن الله أنعم عليك بالسمع والبصر والعقل لتشركه، وهو مختبرك بذلك وسائلك عنه، فلا تستعمل نعمه في معصيته.
ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلاٌّبْصَـٰرَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، ونحوها من الآيات. والإشارة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة بقوله: {أُولـٰئِكَ} راجعة إلى {ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ} وهو دليل على الإشارة «بأولئك» لغير العقلاء وهو الصحيح. ومن شواهده في العربية قول الشاعر وهو العرجي: يا ما أميلح غزلانا شدن لنا من هؤلياء كن الضال والسمر
وقول جرير:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
خلافاً لمن زعم أن بيت جرير لا شاهد فيه، وأن الرواية فيه «بعد أولئك الأقوام» والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلاٌّرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلاٌّرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُول}. نهى الله جل وعلا الناس في هذه الآية الكريمة عن التجبر والتبختر في المشية. وقوله {مَرَحً} مصدر منكر، وهو حال على حد قول ابن مالك في الخلاصة: ومصد منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع
وقرىء «مرحاً» بكسر الراء على أنه الوصف من مرح (بالكسر) يمرح (بالفتح) أي لا تمش في الأرض في حال كونك متبختراً متمايلاً مشي الجبارين.
وقد أوضح حل وعلا هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله عن لقمان مقرراً له {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلاٌّرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّوَٱقْصِدْ فِى مَشْيِكَ}، وقوله: {وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلاٌّرْضِ هَوْن}، إلى غير ذلك من الآيات.
وأصل المرح في اللغة: شدة الفرح والنشاط، وإطلاقه على مشي الإنسان متبختراً مشي المتكبرين، لأن ذلك من لوازم شدة الفرح والنشاط عادة.
وأظهر القولين عندي في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلاٌّرْضَ} أن معناه لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدة وطئك عليها، ويدل لهذا المعنى قوله بعده {وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُول} أي أنت أيها المتكبر المختال: ضعيف حقير عاجز محصور بين جمادينٰ أنت عاجز عن التأثير فيهما. فالأرض التي تحتك لا تقدر أن تؤثر فيها فنخرقها بشدة وطئك عليها، والجبال الشامخة فوقك لا يبلغ طولك طولها. فاعرف قدركٰ ولا تتكبر، ولا تمش في الأرض مرحاً. القول الثاني ـ أن معنى {لَن تَخْرِقَ ٱلاٌّرْضَ} لن تقطعها بمشيك. قاله ابن جرير، واستشهد له بقول رؤبة بن العجاج: وقاتم الأعماق خاوى المخترق مشتبه الأعلام لماع الخفق
لأن مراده بالمخترق: مكان الاختراق. أي المشي والمرور فيه. وأجود الأعاريب في قوله {طُول} أنه تمييز محول عن الفاعل، أي لن يبلغ طولك الجبال. خلافاً لمن أعربه حالاً ومن أعربه مفعولاً من أجله. وقد أجاد من قال: ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا فيكم تحتها قوم هم منك أرفع
وإن كنت في عز وحرز ومنعة فكم مات من قوم هم منك أمنع
واستدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلاٌّرْضِ مَرَحً} على منع الرقص وتعاطيه. لأن فاعله ممن يمشي مرحاً. قوله تعالى: {أَفَأَصْفَـٰكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمً}. الهمزة في قوله {أَفَأَصْفَـٰكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ} للانكار ومعنى الآية. أفخصكم ربكم على وجه الخصوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون،
لم يجعل فيهم نصيباً لنفسه، واتخذ لنفسه أدونهم وهي البناتٰ وهذا خلاف المعقول والعادة. فإن السادة لا يؤثرون عبيدهم بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب، ويتخذون لأنفسهم أردأها وأدونها. فلو كان جل وعلا متخذاً ولداً «سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً» لاتخذ أجود النصيبين ولم يتخذ أردأهماٰ ولم يصطفكم دون نفسه بأفضلهما.
وهذا الإنكار متوجه على الكفار في قولهم: الملائكة بنات الله. سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً. فقد جعلوا له الأولادٰ ومع ذلك جعلوا له أضعفها وأردأها وهو الإناثٰ وهم لا يرضونها لأنفسهم.
وقد بين الله هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله {أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلاٍّنثَىٰتِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ}، وقوله: {أَمْ لَهُ ٱلْبَنَـٰتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ}، وقوله: {لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} والآيات بمثل هذا كثيرة جداً. وقد بينا ذلك بإيضاح في «سورة النحل». وقوله في هذه الآية الكريمة {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمً} بين فيه أن ادعاء الأولاد لله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً ـ أمر عظيم جداً. وقد بين شدة عظمه بقوله تعالى: {وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداًلَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاًتَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلاٌّرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاًأَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداًوَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداًإِن كُلُّ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ إِلاَّ آتِى ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداًإِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْوَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَرْد} فالمشركون قبحهم الله جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، ثم ادعوا أنهم بنات الله، ثم عبدوهم. فاقترفوا الجريمة العظمى في المقامات الثلاث، والهمزة والفاء في نحو قوله: {أَفَأَصْفَـٰكُمْ} قد بينا حكمها بإيضاح في «سورة النحل» أيضاً. قوله تعالى: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِى ٱلْعَرْشِ سَبِيل}. قرأ جمهور القراء «كما تقولون» بتاء الخطاب. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم «كما يقولون» بياء الغيبة. وفي معنى هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير، كلاهما حق ويشهد له قرآن. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الآية قد يكون فيها وجهان كلاهما حق، وكلاهما يشهد له قرآن فنذكر الجميع لأنه كله حق.
الأول من الوجهين المذكورين ـ أن معنى الآية الكريمة: لو كان مع الله آلهة أخرى كما يزعم الكفار لابتغوا ـ أي الآلهة المزعومة ـ أي لطلبوا إلى ذي العرش ـ أي إلى الله سبيلاً ـ أي إلى مغالبته وإزالة ملكه، لأنهم إذاً يكونون شركاءه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض. سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً!
وهذا القول في معنى الآية هو الظاهر عندي، وهو المتبادر من معنى الآية الكريمة. ومن الآيات الشاهدة لهذا المعنى قوله تعالى: {مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَعَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ فَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}،وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} وهذا المعنى في الآية مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبي علي الفارسي، والنقاش، وأبي منصور، وغيره من المتكلمين.
الوجه الثاني في معنى الآية الكريمة: أن المعنى {لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِى ٱلْعَرْشِ سَبِيل} أي طريقاً ووسيلة تقربهم إليه لاعترافهم بفضله. ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَـٰفُونَ عَذَابَهُ}. ويروى هذا القول عن قتادة. واقتصر عليه ابن كثير في تفسيره.
ولا شك أن المعنى الظاهر المتبادر من الآية بحسب اللغة العربية هو القول الأول، لأن في الآية فرض المحال، والمحال المفروض الذي هو وجود آلهة مع الله مشاركة له لا يظهر معه أنها تتقرب إليه، بل تنازعه لو كانت وجودة، ولكنها معدومة مستحيلة الوجود. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاٌّخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورً} في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير:
الأول ـ أن المعنى: وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً. أي حائلاً وساتراً يمنعهم من تفهم القرآن وإدراكه لئلا يفقهوه فينتفعوا به. وعلى هذا القول ـ فالحجاب المستور هو ما حجب الله به قلوبهم عن الانتفاع بكتابه. والآيات الشاهدة لهذا المعنى كثيرة. كقوله: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِىۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَٱعْمَلْ إِنَّنَا عَـٰمِلُونَ}، وقوله: {خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ}، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ}. إلى غير ذلك من الآيات، وممن قال بهذا القول في معنى الآية: قتادة والزجاج وغيرهما.
الوجه الثاني في الآية ـ أن المراد بالحجاب المستور أن الله يستره عن أعين الكفار فلا يرونه. قال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية. أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وصححه. وابن مردويه، وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: لما نزلت {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول: مذمما أبينا... ودينه قلينا ... وأمره عصينا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وأبو بكر رضي الله عنه إلى جنبه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك؟ فقال: «إنها لن تراني» وقرأ قرآناً اعتصم به. كما قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاٌّخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورً}. فجاءت حتى قامت على أبي بكر رضي الله عنه فلم تر النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر، بلغني أن صاحبك هجانيٰ؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا ورب هذا البيت ما هجاك. فانصرفت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها. إلى غير ذلك من الروايات بهذا المعنى.
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية، بعد أن ساق بعض الروايات نحو ما ذكرنا في هذا الوجه الأخير ما نصه: ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا. وذلك أني هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شيء، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن، فعبرا علي ثم رجعا من حيث جاءا، وأحدهما يقول للآخر: هذا ديبله (يعنون شيطاناً) وأعمى الله عز وجل أيصارهم فلم يروني اهـ وقال القرطبي: إن هذا الوجه في معنى الآية هو الأظهر. والعلم عند الله تعالى.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {حِجَابًا مَّسْتُورً} قال بعض العلماء: هو من إطلاق اسم المفعول وإرادة اسم الفاعل. أي حجاباً ساتراً، وقد يقع عكسه كقوله تعالى: {مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} أي مدفوق {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} أي مرضية. فإطلاق كل من اسم الفاعل واسم المفعول وإرادة الآخر أسلوب من أساليب اللغة العربية. والبيانيون يسمون مثل ذلك الإطلاق «مجازاً عقلياً» ومن أمثلة إطلاق المفعول وإرادة الفاعل كالقول في الآية ـ قولهم: ميمون ومشؤوم، بمعنى يا من وشائم. وقال بعض أهل العلم: قوله {مَّسْتُورً} على معناه الظاهر من كونه اسم مفعول، لأن ذلك الحجاب مستور عن أعين الناس فلا يرونه. أو مستوراً به القارىء فلا يراه غيره. واختار هذا أبو حيان في البحر. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً
أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْرً}. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل على قلوب الكفار أكنة، (جمع كنان) وهو ما يستر الشيء ويغطيه ويكنه، لئلا يفقهوا القرآن. أو كراهة أن يفقهوه لحيلولة تلك الأكنة بين قلوبهم وبين فقه القرآن. أي فهم معانيه فهماً ينتفع به صاحبه. وأنه جعل في آذانهم وقرأ أي صمماً وثقلاً لئلا يسمعوه سماع قبول وانتفاع.
وبين في مواضع أخر سبب الحيلولة بين القلوب وبين الانتفاع به، وأنه هو كفرهم، فجازاهم الله على كفرهم بطمس البصائر، وإزاغة القلوب والطبع والختم والأكنة المانعة من وصول الخير إليها، كقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، وقوله: {بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}، وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وقوله: {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضً}، وقوله: {وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَـٰفِرُونَ}، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
في هذه الآية الكريمة ـ الرد الواضح على القدرية في قولهم: إن الشر لا يقع بمشيئة الله، بل بمشيئة العبد. سبحان الله وتعالى علواً كبيراً عن أن يقع في ملكه شيء ليس بمشيئته؟ {وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُو}، {وَلَوْ شِئْنَا لاّتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَ}، {وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ} إلى غير ذلك من الآيات.
الصفحة رقم 285 من المصحف تحميل و استماع mp3