تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 288 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 288

287

59- "وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون" قال المفسرون: إن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي عنهم جبال مكة، فأتاه جبريل فقال: إن شئت كان ما سأل قومك، ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا وإن شئت استأنيت بهم، فأنزل الله هذه الآية. والمعنى: وما منعنا من إرسال الآيات التي سألوها إلا تكذيب الأولين، فإن أرسلناها وكذب بها هؤلاء عوجلوا ولم يمهلوا كما هو سنة الله سبحانه في عباده، فالمنع مستعار للترك، والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء: أي ما تركنا إرسالها لشيء من الأشياء إلا تكذيب الأولين، فإن كذب بها هؤلاء كما كذب بها أولئك لاشتراكهم في الكفر والعناد حل بهم ما حل بهم، و أن الأولى في محل نصب بإيقاع المنع عليها، وأن الثانية في محل رفع، والباء في "بالآيات" زائدة. والحاصل أن المانع من إرسال الآيات التي اقترحوها هو أن الاقتراح مع التكذيب موجب للهلاك الكلي وهو الاستئصال، وقد عزمنا على أن نؤخر أمر من بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وقيل معنى الآية: إن هؤلاء الكفار من قريش ونحوهم مقلدون لآبائهم فلا يؤمنون ألبتة كما لم يؤمن أولئك، فيكون إرسال الآيات ضائعاً، ثم إنه سبحانه استشهد على ما ذكر بقصة صالح وناقته، فإنهم لما اقترحوا عليه ما اقترحوا من الناقة وصفتها التي قد بينت في محل آخر وأعطاهم الله ما اقترحوا فلم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب، وإنما خص قوم صالح بالاستشهاد، لأن آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من قريش وأمثالهم يبصرها صادرهم وواردهم فقال: "وآتينا ثمود الناقة مبصرة" أي ذات إبصار يدركها الناس بأبصارهم كقوله: "وجعلنا آية النهار مبصرة" أو أسند إليها حال من يشاهدها مجازاً، أو أنها جعلتهم ذوي إبصار، ومن أبصره جعله بصيراً. وقرئ على صيغة المفعول. وقرئ بفتح الميم والصاد وانتصابها على الحال. وقرئ برفعها على أنها خبر مبتدأ محذوف، والجملة معطوفة على محذوف يقتضيه سياق الكلام: أي فكذبوها وآتينا ثمود الناقة، ومعنى "فظلموا بها" فظلموا بتكذيبها أو على تضمين ظلموا معنى جحدوا أو كفروا: أي فجحدوا بها أو كفروا بها ظالمين ولم يكتفوا بمجرد الكفر أو الجحد "وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً" اختلف في تفسير الآيات على وجوه: الأول أن المراد بها العبر والمعجزات التي جعلها الله على أيدي الرسل من دلائل الإنذار تخويفاً للمكذبين، الثاني أنها آيات الانتقام تخويفاً من المعاصي، الثالث تقلب الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهل ثم إلى شيب ليعتبر الإنسان بتقلب أحواله فيخاف عاقبة أمره، الرابع آيات القرآن، الخامس الموت الذريع والمناسب للمقام أن تفسر الآيات المذكورة بالآيات المقترحة: أي لا نرسل الآيات المقترحة إلا تخويفاً من نزول العذاب، فإن لم يخافوا وقع عليهم. والجملة مستأنفة لا محل لها، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير ظلموا بها: أي فظلموا بها ولم يخافوا، والحال أن ما نرسل بالآيات التي هي من جملتها إلا تخويفاً. قال ابن قتيبة: وما نرسل بالآيات المقترحة إلا تخويفاً من نزول العذاب العاجل.
ولما ذكر سبحانه الامتناع من إرسال الآيات المقترحة على رسوله للصارف المذكور قوى قلبه بوعد النصر والغلبة فقال: 60- "وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس" الظرف متعلق بمحذوف: أي اذكر إذ قلنا لك: أي أنهم في قبضته وتحت قدرته، فلا سبيل لهم إلى الخروج مما يريده بهم لإحاطته لهم بعلمه وقدرته، وقيل المراد بالناس أهل مكة، وإحاطته بهم إهلاكه إياهم: أي إن الله سيهلكهم، وعبر بالماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه، وذلك كما وقع يوم بدر ويوم الفتح، وقيل المراد أنه سبحانه عصمه من الناس أن يقتلوه حتى يبلغ رسالة ربه "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس" لما بين سبحانه أن إنزال الآيات يتضمن التخويف ضم إليه ذكر آية الإسراء، وهي المذكورة في صدر السورة، وسماها رؤيا لأنها وقعت بالليل، أو لأن الكفرة قالوا لعلها رؤيا، وقد قدمنا في صدر السورة وجهاً آخر في تفسير هذه الرؤيا، وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسري به، وقيل كانت رؤيا نوم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنه يدخل مكة فافتتن المسلمون لذلك، فلما فتح الله مكة نزل قوله تعالى: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق" وقد تعقب هذا بأن هذه الآية مكية، والرؤيا المذكورة كانت بالمدينة، وقيل إن هذه الرؤيا المذكورة في هذه الآية هي أنه رأى بني مروان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك، فقيل إنما هي الدنيا أعطوها فسري عنه، وفيه ضعف، فإنه لا فتنة للناس في هذه الرؤيا إلا أن يراد بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، ويراد بالفتنة ما حصل من المساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يحمل على أنه قد كان أخبر الناس بها فافتتنوا. وقيل إن الله سبحانه أراه في المنام مصارع قريش حتى قال: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الأرض ويقول: هذا مصرع فلان، هذا مصرع فلان، فلما سمع قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية "والشجرة الملعونة في القرآن" عطف على الرؤيا، قيل وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. قال جمهور المفسرين وهي شجرة الزقوم، والمراد بلعنها لعن آكلها كما قال سبحانه: " إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم ". وقال الزجاج: إن العرب تقول لكل طعام مكروه ملعون، ومعنى الفتنة فيها أن أبا جهل وغيره قالوا: زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر، ثم يقول ينبت فيها الشجر، فأنزل الله هذه الآية. وروي أن أبا جهل أمر جارية فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه: تزقموا. وقال ابن الزبعري: كثر الله من الزقوم في داركم فإنه التمر بالزبد بلغة اليمن، وقيل إن الشجرة الملعونة هي الشجرة التي تلتوي على الشجر فتقتلها، وهي شجرة الكشوث، وقيل هي الشيطان، وقيل اليهود، وقيل بنو أمية "ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً" أي نخوفهم بالآيات فما يزيدهم التخويف إلا طغياناً متجاوزاً للحد متمادياً غاية التمادي فما يفيدهم إرسال الآيات إلا الزيادة في الكفر، فعند ذلك نفعل بهم ما فعلناه بمن قبلهم من الكفار، وهو عذاب الاستئصال ولكنا قد قضينا بتأخير العقوبة. وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود في قوله: "قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا" قال: كان نفر من الإنس يعبدون نفراً من الجن فأسلم النفر من الجن وتمسك الإنسيون بعبادتهم، فأنزل الله: "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة" كلاهما، يعني الفعلين بالياء التحتية، وروي نحو هذا عن ابن مسعود من طرق أخرى. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: كان أهل الشرك يعبدون الملائكة والمسيح وعزيراً. وروي عنه من وجه آخر بلفظ عيسى وأمه وعزير. وروي عنه أيضاً من وجه آخر بلفظ: هم عيسى وعزير، والشمس والقمر.وأخرج الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله لي الوسيلة، قالوا وما الوسيلة؟ قال القرب من الله، ثم قرأ "يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب"". وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم التيمي في قوله: "كان ذلك في الكتاب مسطوراً" قال: في اللوح المحفوظ. وأخرج أحمد والنسائي والبزار وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا، فقيل له إن شئت أن تستأني بهم وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم، قال: لا بل أستأني بهم، فأنزل الله "وما منعنا أن نرسل بالآيات" الآية. وأخرج أحمد والبيهقي من طريق أخرى عنه نحوه. وأخرج البيهقي في الدلائل عن الربيع بن أنس قال: "قال الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو جئتنا بآية كما جاء بها صالح والنبيون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتم دعوت الله فأنزلها عليكم، فإن عصيتم هلكتم، فقالوا لا نريدها". واخرج ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس "وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً" قال: الموت. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن قال: هو الموت الذريع. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس" قال: عصمك من الناس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: فهم في قبضته. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "وما جعلنا الرؤيا" الآية قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس، وليست برؤيا منام "والشجرة الملعونة في القرآن" قال: هي شجرة الزقوم. وأخرج أبو سعيد وأبو يعلى وابن عساكر عن أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسرى به أصبح يحدث نفراً من قريش وهم يستهزئون به، فطلبوا منه آية فوصف لهم بيت المقدس، وذكر لهم قصة العير، فقال الوليد بن المغيرة: هذا ساحر، فأنزل الله إليه "وما جعلنا الرؤيا" الآية. وأخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكاً حتى مات، فأنزل الله "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس". قال ابن كثير بعد أن ساق إسناده: وهذا السند ضعيف جداً، وذكر من جملة رجال السند محمد بن الحسن بن زبان وهو متروك وشيخه عبد المهيمن بن عباس ابن سهل بن سعد ضعيف جداً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة، فأنزل الله "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس، والشجرة الملعونة""، يعني الحكم وولده. وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء"، واهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي نحوه مرفوعاً وهو مرسل. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن سعيد بن المسيب نحوه وهو مرسل. وأخرج ابن مردويه عن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبيك وجدك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن" وفي هذا نكارة لقولها يقول لأبيك وجدك ولعل جد مروان لم يدرك زمن النبوة. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أنه دخل مكة هو وأصحابه، وهو يومئذ بالمدينة فسار إلى مكة قبل الأجل فرده المشركون، فقال ناس: قد رد، وقد كان حدثنا أنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم وقد تعارضت هذه الأسباب ولم يمكن الجمع بينها فالواجب المصير إلى الترجيح والراجح كثرة وصحة هو كون سبب نزول هذه الآية قصة الإسراء فيتعين ذلك. وقد حكى ابن كثير إجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك في الرؤيا، وفي تفسير الشجرة وأنها شجرة الزقوم، فلا اعتبار بغيرهم معهم. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: قال أبو جهل لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم شجرة الزقوم تخويفاً لهم: يا معشر قريش هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟ قالوا لا قال: عجوة يثرب بالزبد. والله لئن استمكنا منها لنزقمنها تزقماً قال الله سبحانه " إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم "، وأنزل "والشجرة الملعونة في القرآن" الآية. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: "والشجرة الملعونة" قال: ملعونة لأنه قال: "طلعها كأنه رؤوس الشياطين" والشياطين ملعونون.
لما ذكر سبحانه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في بلية عظيمة من قومه ومنحة شديدة أراد أن يبين أن جميع الأنبياء كانوا كذلك، حتى أن هذه عادة قديمة سنها إبليس اللعين، وأيضاً لما ذكر أن الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ذكر ها هنا ما يحقق ذلك فقال: 61- "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" هذه القصة قد ذكرها الله سبحانه في سبعة مواضع: في البقرة، والأعراف، والحجر، وهذه السورة، والكهف، وطه، وص، وقد تقدم تفسيرها مبسوطاً فلنقتصر ها هنا على تفسير ما لم يتقدم ذكره من الألفاظ، فقوله: "طيناً" منتصب بنزع الخافض: أي من طين، أو على الحال. قال الزجاج المعنى لمن خلقته طيناً، وهو منصوب على الحال.
62- "أرأيتك" أي أخبرني عن هذا الذي فضلته علي لم فضلته؟ وقد "خلقتني من نار وخلقته من طين" فحذف هذا للعلم به "لأحتنكن ذريته" أي لأستولين عليهم بالإغواء والإضلال قال الواحدي: أصله من احتناك الجراد الزرع، وهو أن تستأصله بأحناكها وتفسده، هذا هو الأصل، ثم سمي الاستيلاء على الشيء، وأخذه كله احتناكاً، وقيل معناه: لأسوقنهم حيث شئت وأقودنهم حيث أردت، من قولهم حنكت الفرس أحنكه حنكاً: إذا جعلت في فيه الرسن، والمعنى الأول أنسب بمعنى هذه الآية، ومنه قول الشاعر: أشكو إليك سنة قد أجحفت جهداً إلى جهد بنا وأصعقت واحتنكت أموالنا واختلفت أي استأصلت أموالنا، واللام في "لئن أخرتن" هي الموطئة، وإنما أقسم اللعين هذا القسم على أنه سيفعل بذرية آدم ما ذكره لعلم قد سبق إليه من سمع استرقه، أو قاله لما ظنه من قوة نفوذ كيده في بني آدم، وأنه يجري منهم في مجاري الدم، وأنهم بحيث يروج عندهم كيده وتنفق لديهم وسوسته إلا من عصم الله، وهم المرادون بقوله: "إلا قليلاً" وفي معنى هذا الاستثناء قوله سبحانه: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: "ولقد صدق عليهم إبليس ظنه" فإنه يفيد أنه قال ما قاله هنا اعتماداً على الظن، وقيل إنه استنبط ذلك من قول الملائكة "أتجعل فيها من يفسد فيها"، وقيل علم ذلك من طبع البشر لما ركب فيهم من الشهوات، أو ظن ذلك لأنه وسوس لآدم، فقبل منه ذلك ولم يجد له عزماً، كما روي عن الحسن.
63- "قال اذهب فمن تبعك منهم" أي أطاعك "فإن جهنم جزاؤكم" أي إبليس ومن أطاعه "جزاءً موفوراً" أي وافراً مكملاً، يقال: وفرته أفره وفراً، ووفر المال بنفسه يفر وفوراً، فهو وافر، فهو مصدر، ومنه قول زهير: ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتقي الشتم يشتم
ثم كرر سبحانه الإمهال لإبليس اللعين فقال: 64- "واستفزز من استطعت منهم بصوتك" أي استزعج واستخف من استطعت من بني آدم، يقال أفزه واستفزه: أي أزعجه واستخفه، والمعنى: استخفهم بصوتك داعياً لهم إلى معصية الله، وقيل هو الغناء واللهو واللعب والمزامير "وأجلب عليهم بخيلك ورجلك" قال الفراء وأبو عبيدة: أجلب من الجلبة والصياح: أي صح عليهم. وقال الزجاج: أي اجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك. فالإجلاب الجمع، والباء في "بخيلك" زائدة. وقال ابن السكيت: الإجلاب الإعانة، والخيل تقع على الفرسان كقوله صلى الله عليه وسلم: "يا خيل الله اركبي" وتقع على الأفراس، والرجل بسكون الجيم، جمع رجل كتاجر وتجر، وصاحب وصحب، وقرأ حفص بكسر الجيم على أنه صفة. قال أبو زيد: يقال رجل ورجل، بمعنى راجل، فالخيل والرجل كناية عن جميع مكايد الشيطان، أو المراد كل راكب وراجل في معصية الله "وشاركهم في الأموال والأولاد" أما المشاركة في الأموال، فهي كل تصرف فيها يخالف وجه الشرع سواء كان أخذا من غير حق، أو وضعاً في غير حق كالغصب والسرقة والربا، ومن ذلك تبتيك آذان الأنعام وجعلها بحيرة وسائبة، والمشاركة في الأولاد دعوى الولد بغير سبب شرعي، وتحصيله بالزنا وتسميتهم بعبد اللات وعبد العزى، والإساءة في تربيتهم على وجه يألفون فيه خصال الشر وأفعال السوء ويدخل فيه ما قتلوا من أولادهم خشية إملاق، ووأد البنات وتصيير أولادهم على الملة الكفرية التي هم عليها، ومن ذلك مشاركة الشيطان للمجامع إذا لم يسم، ثم قال: "وعدهم" قال الفراء: قل لهم لا جنة ولا نار. وقال الزجاج: وعدهم بأنهم لا يبعثون "وما يعدهم الشيطان إلا غروراً" أي باطلاً، وأصل الغرور تزيين الخطأ بما يوهم الصواب، وقيل معناه: وعدهم النصرة على من خالفهم، وهذه الأوامر للشيطان من باب التهديد والوعيد الشديد، وقيل هي على طريقة الاستخفاف به وبمن تبعه.
65- "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" يعني عباده المؤمنين كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز من أن إضافة العباد إليه يراد بها المؤمنون لما في الإضافة من التشريف، وقيل المراد جميع العباد بدليل الاستثناء بقوله في غير هذا الموضع "إلا من اتبعك من الغاوين"، والمراد بالسلطان التسلط "وكفى بربك وكيلاً" يتوكلون عليه، فهو الذي يدفع عنهم كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال إبليس إن آدم خلق من تراب من طين خلق ضعيفاً وإني خلقت من نار، والنار تحرق كل شيء "لأحتنكن ذريته إلا قليلاً" فصدق ظنه عليهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "لأحتنكن ذريته" قال: لأستولين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد "لأحتنكن ذريته" قال: لأحتوينهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: لأضلنهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "موفوراً" قال: وافراً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "واستفزز من استطعت منهم بصوتك" قال: صوته كل داع دعا إلى معصية الله "وأجلب عليهم بخيلك" قال: كل راكب في معصية الله "ورجلك" قال كل راجل في معصية الله " وشاركهم في الأموال " قال: كل مال في معصية الله "والأولاد" قال: كل ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم الحرام. وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية قال: كل خيل تسير في معصية الله، وكل مال أخذ بغير حقه، وكل ولد زنا. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: "الأموال" ما كانوا يحرمون من أنعامهم "والأولاد" أولاد الزنا. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: " الأموال " البحيرة والسائبة والوصيلة لغير الله "والأولاد" سموا عبد الحارث وعبد شمس.
قوله: 66- "ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر" الإزجاء: السوق والإجراء والتسيير، ومنه قوله سبحانه: "ألم تر أن الله يزجي سحاباً" وقول الشاعر: يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصور وقول الآخر: عوذا تزجي خلفها أطفالها والمعنى: أن الله سبحانه يسير الفلك في البحر بالريح والفلك ها هنا جمع. وقد تقدم، والبحر هو الماء الكثير عذباً كان أو مالحاً، وقد غلب هذا الاسم على المشهور "لتبتغوا من فضله" أي من رزقه الذي تفضل به على عباده أو من الربح بالتجارة، ومن زائدة أو للتبعيض، وفي هذه الآية تذكير لهم بنعم الله سبحانه عليهم حتى لا يعبدوا غيره ولا يشركوا به أحداً، وجملة "إنه كان بكم رحيماً" تعليل لما تقدم: أي كان بكم رحيماً فهداكم إلى مصالح دنياكم.