تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 306 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 306


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

  يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَـٰبَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً * وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَٰلِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً * وَسَلَـٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً}

تقدم شرحها في الصفحة التي قبلها

{وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً * فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّىۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلَـٰماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً * فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ قَالَتْ يٰلَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَـٰقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِى وَٱشْرَبِى وَقَرِّى عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِىۤ إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً}
قوله تعالى: {وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياَ}. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يذكر في الكتاب وهو القرآن «مريم» حين انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً. وقوله «انتبذت» أي تنحَّت عنهم واعتزلتهم منفردة عنهم. وقوله {مَكَاناً شَرْقِي} أي مما يلي شرقي بيت المقدس. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة «إذ» «مريم» بدل اشتمال، لأن الأحيان مشتملة على ما فيها اشتمال الظرف على مظروفه. قاله الزمخشري في الكشاف واعترضه عليه أبو البقاء وأبو حيان: والظاهر سقوط اعتراضهما، وأن الصواب معه، والله تعالى أعلم. ولم يذكر هنا شيئاً عن نسب «مريم» ولا عن قصة ولادتها. وبين في غير هذا الموضع أنها ابنة عمران، وأن أمها نذرت ما في بطنها محرراً، تعني لخدمة بيت المقدس، تظن أنها ستلد ذكراً «فولدت مريم». قال في بيان كونها ابنة عمران: {وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ ٱلَّتِىۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَ} . وذكر قصة ولادتها في «آل عمران» في قوله: {إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلاٍّنثَىٰ وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيم ِفَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . وقوله «مكاناً» منصوب لأنه ظرف. قوله تعالى: {فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَ}. أظهر الأقوال أن المراد بقوله «روحنا» جبريل.
ويدل لذلك قوله: {نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلاٌّمِينُ} ، وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ} ، وإضافته إلى الله إضافة تشريف وتكريم. قوله تعالى: {لَهَا بَشَراً سَوِيّ}.
تمثله لها بشراً سوياً المذكور في الآية يدل على أنه ملك وليس بآدمي. وهذا المدلول صرح به تعالى في قوله: {إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ} . وهذا الذي بشرها به هو الذي قال لها هنا {إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلَـٰماً زَكِيّ} . وقوله {بَشَراً سَوِيّ} حالان من ضمير الفاعل في قوله «تمثل لها». قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلَـٰماً زَكِيّ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن ذلك الروح الذي هو جبريل قال لها إنه رسول ربها ليهب لها، أي ليعطيها غلاماً أي ولداً زكياً، أي طاهراً من الذنوب والمعاصي، كثير البركات. وبين في غير هذا الموضع كثيراً من صفات هذا الغلام الموهوب لها، وهو عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كقوله: {إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلاٌّخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِين َوَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِى ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} وقوله: {وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيل َوَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِىۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُبْرِىءُ ٱلاٌّكْمَهَ وٱلاٌّبْرَصَ وَأُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ} ، إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على صفات هذا الغلام. وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وورش عن نافع وقالون عنه أيضاً بخلف عنه «ليهب» بالياء المفتوحة بعد اللام أي ليهب لك هو، أي ربك غلاماً زكياً. وقرأ الباقون «لأهب» بهمزة المتكلم أي لأهب لك هو أنا أيها الرسول من ربك غلاماً زكياً. وفي معنى إسناده الهبة إلى نفسه على قراءة الجمهور خلاف معروف بين العلماء. وأظهر الأقوال في ذلك عندي ـ: أن المراد بقول جبريل لها {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلَـٰماً زَكِيّ} أي لأكون سبباً في هبة الغلام بالنفخ في الدرع الذي وصل إلى الفرج، فصار بسببه حملها عيسى. وبين تعالى في سورة «التحريم» أن هذا النفخ في فرجها في قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ ٱلَّتِىۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَ} . والضمير في قوله «فيه» راجع إلى فرجها ولا ينافي ذلك قوله تعالى في «الأنبياء»: {وَٱلَّتِىۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَ} لأن النفخ وصل إلى الفرج فكان منه حمل عيسى، وبهذا فسر الزمخشري في الكشاف الآية.
وقال بعض العلماء: قول جبريل {رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ} حكاية منه لقول الله جل وعلا. وعليه فالمعنى: إنما أنا رسول ربك، وقد قال لي أرسلتك لأهب غلاماً.
والأول أظهر. وفي الثاني بعد عن ظاهر اللفظ. وقال بعض العلماء: جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله. وبهذا صدر القرطبي في تفسيره. وأظهرها الأول: والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن مريم لما بشرها جبريل بالغلام الزكي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قالت: {أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ} أي كيف ألد غلاماً والحال أني لم يمسسني بشر. تعني لم يجامعني زوج بنكاح، {وَلَمْ أَكُ بَغِيّ}، أي لم أك زانية. وإذا انتفى عنها مسيس الرجال حلالاً وحراماً فكيف تحمل. والظاهر أن استفهامها استخبار واستعلام عن الكيفية التي يكون فيها حمل الغلام المذكور، لأنها مع عدم مسيس الرجال لم تتضح لها الكيفية. ويحتمل أن يكون استفهامها تعجب من كمال قدرة الله تعالى، وهذا الذي ذكر الله جل وعلا عنها: أنها قالته هنا ذكره عنها أيضاً في سورة «آل عمران» في قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلاٌّخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِى ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} . واقتصارها في آية «آل عمران» على قولها {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} يدل على أن مسيس البشر المنفي عنها شامل للمسيس بنكاح والمسيس بزنى. كما هو الظاهر. وعليه فقولها في سورة «مريم»: {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّ} يظهر فيه أن قولها «ولم أك بغياً»: تخصيص بعد تعميم. لأن مسيس البشر يشمل الحلال والحرام. وقال الزمخشري في الكشاف في تفسير قوله تعالى هنا {إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّ}: جعل المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه. كقوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} . {أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ} والزنى ليس كذلك، إنما يقال فيه: فجر بها، وخبث بها وما أشبه ذلك. وليس بقمن أن تراعي فيه الكنايات والآداب ا هـ.
والأظهر الأول. وآية آل عمران تدل عليه. ويؤيده أن لفظة «بشر» نكرة في سياق النفي فهي تعم كل بشر: فينتفي مسيس كل بشر كائناً من كان، والبغي: المجاهرة المشتهر بالزنى. ووزنه فعول عند المبرد، اجتمعت فيه واو وياء سبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لأجل الياء كما كسرت في عصى ودلى جمع عصا ودلو. كما قدمنا هذا مراراً. والقائل بأن أصلي البغي فعول، يقول: لو كان أصله فعيلاً للحقته هام التأنيث، لأنها لازمة في فعيل بمعنى فاعل. وقال ابن جني في كتاب التمام: أصل البغي على وزن فعيل، ولو كان فعولاً لقيل بغو. كما قيل: فلان نهو عن المنكر. وعلى هذا القول فقد يجاب عن عدم لحوق تاء التأنيث: بأن البغي وصف مختص بالإناث. والرجل يقال فيه باغ لا بغي. كما قاله أبو حيان في البحر. والأوصاف المختصة بالإناث لا تحتاج إلى تاء الفرق بين الذكر والأنثى كحائض. كما عقده ابن مالك في الكافية بقوله:
وما من الصفات بالأنثى يخص عن تاء استغنى لأن اللفظ نص

قوله تعالى: {قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ}.
قد قدمنا تفسير هذه الآية مستوفى في قصة زكريا، فأغنى عن إعادته هنا. وقول جبريل لمريم في هذه الآية: {كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ} أي وستلدين ذلك الغلام المبشر به من غير أن يمسك بشر، وقد أشار تعالى إلى معنى هذه الآية في سورة «آل عمران» في قوله: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} . قوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من حكم خلقه عيسى من امرأة بغير زوج ليجعل ذلك آية للناس. أي علامة دالة على كمال قدرته. وأنه تعالى يخلق ما يشاء كيف يشاء: إن شاء خلقه من أنثى بدون ذكر كما فعل بعيسى. وإن شاء خلقه من ذكر بدون أنثى كما فعل بحواء. كما نص على ذلك في قوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَ} أي خلق من تلك النفس التي هي آدم زوجها حواء. وإن شاء خلقه بدون الذكر والأنثى معاً كما فعل بآدم. وإن شاء خلقه من ذكر وأنثى كما فعل بسائر بني آدم. فسبحان الله العظيم القادر على كل شيء؟ وما ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من كونه جعل عيسى آية حيث ولدته أمه من غير زوج أشار له أيضاً في «الأنبياء» بقوله: {وَجَعَلْنَـٰهَا وَٱبْنَهَآ ءَايَةً لِّلْعَـٰلَمِينَ} ، وفي «الفلاح» بقوله: {وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً وَءَاوَيْنَـٰهُمَ} .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِّلْنَّاسِ} فيه حذف دل المقام عليه. قال الزمخشري في الكشاف: {وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِّلْنَّاسِ} تعليل معلله محذوف. أي ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك. أو هو معطوف على تعليل مضمر، أي لنبيِّن به قدرتنا ولنجعله آية. ونحوه {وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ بِٱلْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} ، وقوله: {وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى ٱلاٌّرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ} ا هـ.
وقوله في هذه الآية {وَرَحْمَةً مّنَّ} أي لمن آمن به. ومن كفر به فلم يبتغ الرحمة لنفسه، كما قال تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم: {وَمَآ أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَـٰلَمِينَ} ، وقوله تعالى: {نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذٰلِكَ} أي وكان وجود ذلك الغلام منك أمراً مقضياً، أي مقدراً في الأزل، مسطوراً في اللوح المحفوظ لا بد من وقوعه، فهو واقع لا محالة. قوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ قَالَتْ يٰلَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن مريم حملت عيسى. فقوله {حَمَلَتْهُ} أي عيسى {فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ}: أي تنحت به وبعدت معتزلة عن قومها {مَكَاناً قَصِيّ} أي في مكانها بعيد: والجمهور على أن المكان المذكور بيت لحم. وفيه أقوال أخر غير ذلك. وقوله: {فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ} أي ألجأها الطلق إلى جذع النخلة، أي جذع نخلة في ذلك المكان. والعرب تقول: جاء فلان، وأجاءه غيره: إذا حمله على المجيء، ومنه قول زهير: وجار سار معتمداً إلينا أجاءته المخافة والرجاء

وقول حسان رضي الله عنه: إذ شددنا شدة صادقة فأجأناكم إلى سفح الجبل

والمخاض: الطلق، وهو وجع الولادة، وسمي مخاضاً من المخض، وهو الحركة الشديدة لشدة تحرك الجنين في بطنها إذا أراد الخروج.
وقوله: {قَالَتْ يٰلَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّا} تمنت أن تكون قد ماتت قبل ذلك ولم تكن شيئاً يذكر. فإذا عرفت معنى هاتين الآيتين ـ فاعلم أنه هنا لم يبين كيفية حملها به، ولم يبين هل هذا الذي تنحت عنهم من أجله، وتمنت من أجله أن تكون ماتت قبل ذلك، وكانت نسياً منسياً: وهو خوفها من أن يتهموها بالزنى، وأنها جاءت بذلك الغلام من زنى وقعت فيه أو سلمت منه. ولكنه تعالى بين كل ذلك في غير هذا الموضع، فأشار إلى أن كيفية حملها أنه نفح فيها فوصل النفخ إلى فرجها فوقع الحمل بسبب ذلك، كما قال: {وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ ٱلَّتِىۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَ} وقال {وَٱلَّتِىۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} . والذي عليه الجمهور من العلماء: أن المراد بذلك النفخ نفخ جبريل فيها بإذن الله فحملت، كما تدل لذلك قراءة الجمهور في قوله: {إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلَـٰماً زَكِيّ} كما تقدم. ولا ينافي ذلك إسناد الله جل وعلا النفخ المذكور لنفسه في قوله {فَنَفَخْنَ} لأن جبريل إنما أوقعه بإذنه وأمره ومشيئته، وهو تعالى الذي خلق الحمل من ذلك النفخ. فجبريل لا قدرة له على أن يخلق الحمل من ذلك النفخ ومن أجل كونه بإذنه ومشيئته وأمر تعالى، ولا يمكن أن يقع النفخ المذكور ولا وجود الحمل منه إلا منه إلا بمشيئته جل وعلا ـ أسنده إلى نفسه ـوالله تعالى أعلم.
وقول من قال: إن فرجها الذي نفخ فيه الملك هو جيب درعها ظاهر السقوط، بل النفخ الواقع في جيب الدرع وصل إلى الفرج المعروف فوقع الحمل.
وقد بين تعالى في مواضع أخر، أن ذلك الذي خافت منه وهو قذفهم لها بالفاحشة ـ قد وقعت فيه، ولكن الله برأها، وذلك كقوله عنهم: {قَالُواْ يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّا} يعنون الفاحشة، وقوله عنهم، {يٰأُخْتَ هَـٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّا} يعنون فكيف فجرت أنت وجئت بهذا الولد؟ وكقوله تعالى {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَـٰناً عَظِيم} .
وقوله: {مَكَاناً قَصِيّ} القصي، البعيد، ومنه قول الراجز:
لتقعدن مقعد القصي مني ذي القاذورة المقلي
أو تحلفي بربك العلي أني أبو ذيالك الصبي

وهذا المكان القصي قد وصفه الله تعالى في غير هذا الموضع بقوله: {وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً وَءَاوَيْنَـٰهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} . وقوله في هذه الآية الكريمة: {فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ} أي انتبذت وهو في بطنها. والإشارة في قوله هذا إلى الحمل والمخاض الذي أصابها للوضع.
وقوله في هذه الآية الكريمة عنها: {وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّا} النسي والنِّسي ـ بالكسر وبالفتح ـ: هو ما من حقه أن يطرح وينسى لحقارته، كخرق الحيض، وكالوتد والعصا، ونحو ذلك. ومن كلام العرب إذا ارتحلوا عن الدار قولهم: انظروا أنساءكم جمع نسي؟ أي الأشياء الحقيرة التي من شأنها أن تترك وتنسى كالعصا والوتد. ونحو ذلك. فقولها «وكنت نسياً» أي شيئاً تافهاً حقيراً من حقه أن يترك وينسى عادة. وقولها «منسياً» تعني أن ذلك الشيء التافه الذي من عادته أن يترك وينسى قد نسي وطرح بالفعل فوجد فيه النسيان الذي هو حقه. وأقوال المفسرين في الآية راجعة إلى ما ذكرنا، ومن إطلاق النسي على ما ذكرنا قول الكميت: اتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ولست بنسي في معد ولا دخل

فقوله «بنسي» أي شيء تافه منسي، وقول الشنفرى: كان لها في الأرض نسياً تقصه على أمها وإن تحدثك تبلت

فقوله «نسياً» أي شيء تركته ونسيته. وقوله «تبلت» بفتح التاء وسكون الباء الموحدة وفتح اللام بعدها تاء التأنيث ـ أي تقطع كلامها من الحياء. والبلت في اللغة: القطع. وقرأ نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي «يا ليتني مت» بكسر الميم. وقرأ الباقون «مت» بضم الميم. وقرأ حفص عن عاصم وحمزة، «وكنت نسياً» بفتح النون. والباقون بكسرها، وهما لغتان فصيحتان، وقراءتان صحيحتان.
تنبيه
قراءة «مت» بكسر الميم كثيراً ما يخفى على طلبة العلم وجهها. لأن لغة مات يموت» لا يصح منها «مت» بكسر الميم. ووجه القراءة بكسر الميم أنه من مات يمات، كخاف يخاف. لا من مات يموت. كقال يقول: فلفظ «مات» فيها لغتان عربيتان فصيحتان. الأولى منهما موت بفتح الواو فأبدلت الواو ألفاً على القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة: من ياء أو واو بتحريك أصل ألفا إبدل بعد فتح متصل

إن حرك الثاني.. الخ ومضارع هذه المفتوحة «يموت» بالضم على القياس وفي هذه ونحوها إن أسند الفعل إلى تاء الفاعل أو نونه سقطت العين بالاعتلال وحركت الفاء بحركة تناسب العين، والحركة المناسبة للواو هي الضمة، فتقول «مت» بضم الميم، ولا يجوز غير ذلك.
الثانية أنها «موت» بكسر الواو، أبدلت الواو ألفاً للقاعدة المذكورة آنفاً. ومضارع هذه «يمات» بالفتح، لأن فعل بكسر العين ينقاس في مضارعها بفعل بفتح العين، كما قال ابن مالك في اللامية: * وافتح موضع الكسر في المبنى من فعلا *
ويستثنى من هذه القاعدة كلمات معروفة سماعية تحفظ ولا يقاس عليها. والمقرر في فن الصرف: أن كل فعل ثلاثي أجوف أعني معتل العين إذا كان على وزن فعل بكسر العين، أو فعل بضمها فإنه إذا أسند إلى تاء الفاعل أو نونه تسقط عينه بالاعتلال وتنقل حركة عينه الساقطة بالاعتلال إلى الفاء فتكسر فاؤه إن كان من فعل بكسر العين، وتضم إن كان من فعل بضمها. مثال الأول ـ «مت» من مات يمات، لأن أصلها «موت» بالكسر وكذلك خاف يخاف، ونام ينام، فإنك تقول فيها «مت» بكسر الميم، و«نمت» بكسر للنون، «وخفت» بكسر الخاء. لأن حركة العين نقلت إلى الفاء وهي الكسرة. ومثاله في الضم «طال» فأوصلها «طول» بضم الواو فتقول فيها «طلت» بالضم لنقل حركة العين إلى الفاء. أما إذا كان الثلاثي من فعل بفتح العين كمات يموت، وقال يقول، فإن العين تسقط بالاعتدال وتحرك الفاء بحركة مناسبة للعين الساقطة فيضم الفاء إن كانت العين الساقطة واواً كمات يموت، وقال يقول: فتقول مت وقلت. ـ بالضم ـ وتكسر الفاء إن كانت العين الساقطة ياء، كباع وسار، فتقول: بعت وسرت بالكسر فيهما. وإلى هذا أشار ابن مالك في اللامية بقوله: وانقل لفاء الثلاثي في شكل عين إذا اعتلت وكان بنا الإضمار متصلاً
أو نونه وإذا فتحا يكون منه اعتض مجانس تلك العين منتفلا

واعلم أن مات يمات، من فعل بالكسر يفعل بالفتح لغة فصيحة، ومنها قول الراجز: بنيتي سيدة البنات عيشي ولا نأمن أن تما

وأما مات يميت فهي لغة ضعيفة. وقد أشار إلى اللغات الثلاث الفصيحتين والردية بعض أدباء قطر شنقيط في بيت رجز هو قوله: من منعت زوجته منه بالمبيت مات يموت ويمات ويميت

وأقوال العلماء في قدر المدة التي حملت فيها مريم بعيسى قبل الوضع لم نذكرها، لعدم دليل على شيء منها. وأظهرها: أنه حمل كعادة حمل النساء وإن كان منشؤه خارقاً للعادة، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا}. اعلم أولاً: أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين: قرأه نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَ} بكسر الميم على أن «من» حرف جر، وخفض تاء تحتها، لأن الظرف مجرور بـ«من» على أنه اسم موصول هو فاعل نادى، أن ناداها الذي تحتها. وفتح «تحتها» فعلى القراءة ففاعل النداء ضمير محذوف. وعلى الثانية فالفاعل الاسم الموصول الذي هو «من». وإذا عرفت هذا فاعلم أن العلماء مختلفون في هذا المنادي الذي ناداها المعبر عنه في إحدى القراءتين بالضمير، وفي الثانية بالاسم الموصول من هو؟ فقال بعض العلماء: هو عيسى. وقال بعض العلماء: هو جبريل. وممن قال: إن الذي نادى مريم هو جبريل ـ ابن عباس، وعمرو بن ميمون الأودي، والضحاك، وقتادة، والسدي، وسعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه. وأهل هذا القول قالوا: لم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها.
وممن قال إن الذي ناداها هو عسيى عندما وضعته ـ أبي، ومجاهد، والحسن، ووهب بن منبه، وسعيد بن جبير في الرواية الأخرى عنه وابن زيد.
فإذا علمت ذلك فاعلم أن من قال إنه الملك يقول: فناداها جبريل من مكان تحتها، لأنها على ربوة مرتفعة، وقد ناداها من مكان منخفض عنها، وبعض أهل هذا القول يقول: كان جبريل تحتها يقبل الولد كما تقبله القابلة. والظاهر الأول على هذا القول. وعلى قراءة «فناداها من تحتها» بفتح الميم وتاء «تحتها» عند أهل هذا القول. فالمعنى فناداها الذي هو تحتها أي في مكان أسفل من مكانها، أو تحتها يقبل الولد كما تقبل القابلة مع ضعف الاحتمال الأخير كما قدمنا، أي وهو جبريل فعلى القراءة الأولى على هذا القول «فناداها» هو أي جبريل من تحتها. وعلى القراءة الثانية «فنادها من تحتها» أي الذي تحتها وهو جبريل. وأما على القول بأن المنادى هو عيسى، فالمعنى على القراءة الأولى: فناداها هو أي المولود الذي وضعته من تحتها. لأنه كان تحتها عند الوضع. وعلى القراءة الثانية: «فناداها من تحتها» أي الذي تحتها وهو المولود المذكور الكائن تحتها عند الوضع. وممن اختار أن الذي ناداها هو عيسى: ابن جرير الطبري في تفسيره، واستظهره أبو حيان في البحر، واستظهر القرطبي أنه جبريل.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له:
أظهر القولين عندي أن الذي ناداها هو ابنها عيسى، وتدل على ذلك قرينتان: الأولى ـ أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور إلا بدليل صارف عن ذلك يجب الرجوع إليه، وأقرب مذكور في الآية هو عيسى لا جبريل. لأن الله قال {فَحَمَلَتْهُ} يعني عيسى {فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ} أي بعيسى.
ثم قال بعده «فناداها» فالذي يظهر ويتبادر من السياق أنه عيسى. والقرينة الثانية ـ أنها لما جاءت به قومها تحمله، وقالوا لها ما قالوا أشارت إلى عيسى ليكلموه. كما قال تعالى عنها: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى ٱلْمَهْدِ صَبِيّا} وإشارتها إليه ليكلموه قرينة على أنها عرفت قبل ذلك أنه يتكلم على سبيل خرق العادة لندائه لها عندما وضعته. وبهذه القرينة الأخيرة استدل سعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه على أنه عيسى. كما نقله عنه غير واحد. و«أن» في قوله «ألا تحزني» هي المفسرة، فهي بمعنى أي. وضابط «أن» المفسرة أن يتقدمها معنى القول دون حروفه كما هنا. فالنداء فيه بمعنى القول دون حروفه ومعنى كونها مفسرة: أن الكلام الذي بعدها هو معنى ما قبلها. فالنداء المذكور قبلها هو: لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا.
واختلف العلماء في المراد بالسري هنا. فقال بعض العلماء: هو الجدول وهو النهر الصغير. لأن الله أجرى لها تحتها نهراً. وعليه فقوله تعالى: {فَكُلِى} أي من الرطب المذكور في قوله {تُسَـٰقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً وَٱشْرَبِى} أي من النهر المذكور في قوله {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا} وإطلاق السري على الجدول مشهور في كلام العرب. ومنه قول لبيد في معلقته:
فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورة متجاوراً نلامها
وقول لبيد أيضاً يصف نخلاً نابتاً على ماء النهر: سحق يمتعها الصفا وسريه عم نواعم بينهن كروم

وقول الآخر: سهل الخليفة ما جد ذو فائل مثل السري تمده الأنهار

فقوله «سريه». وقولهما «السري» بمعنى الجدول. وكذلك قول الراجز: سلم ترى الدالي منه أزورا إذا يعب في السري هرهرا

وقال بعض أهل العلم: السري هو عيسى. والسري هو الرجل الذي له شرف ومروءة. يقال في فعله سرو بالضم. وسرا ـ بالفتح ـ يسرو سروا فيهما. وسري ـ بالكسر ـ يسري سري وسراء وسروا إذا شرف. ويجمع السري هذا على أسرياء على القياس، وسرواء وسراة بالفتح. وعن سيبويه أن السراة ـ بالفتح ـ اسم جمع لا جمع. ومنه قول الأفوه الأودي: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا

ويجمع السراة على سروات. ومنه قول قيس بن الحطيم: وعمرة من سروات النساء تنفح بالمسك أردانها

ومن إطلاق السري بمعنى الشريف قول الشاعر: تلقى السري من الرجال بنفسه وابن السري إذا سرى أسراهما

وقوله «أسراهما» أي أشرفهما. قاله في اللسان.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي أن السري في الآية النهر الصغير، والدليل على ذلك أمران:
أحدهما ـ القرينة من القرآن، فقوله تعالى: {فَكُلِى وَٱشْرَبِى} قرينة على أن ذلك المأكول والمشروب هو ما تقدم الامتنان به في قوله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّ}، وقوله {مِئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعً} ، وكذلك قوله تعالى: {إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} لأن المعين: الماء الجاري. والظاهر أن الجدول المعبر عنه بالسري في هذه الآية. والله تعالى أعلم.
الأمر الثاني ـ حديث جاء بذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: وقد جاء بذلك حديث مرفوع، قال الطبراني: حدثنا أبو شعيب الحراني، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلي، حدثنا أيوب بن نهيك، سمعت عكرمة مولى ابن عباس، سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن السري الذي قال الله لمريم: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّ}، نهر أخرجه الله لها لتشرب منه» وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه. وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلى، قال فيه أبو حاتم الرازي: ضعيف. وقال أبو زرعة: منكر الحديث. وقال أبو الفتح الأزدي: متروك الحديث ـ انتهى كلام ابن كثير. وقال ابن حجر رحمه الله في «الكافي الشاف، في تخريج أحاديث الكشاف» في الحديث المذكور: أخرجه الطبراني في الصغير، وابن عدي من رواية أبي سنان سعيد بن سنان، عن أبي إسحاق، عن البراء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّ} قال: «السري النهر». قال الطبراني: لم يرفعه عن أبي إسحاق إلا أبو سنان، رواه عنه يحيى بن معاوية وهو ضعيف. وأخرجه عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي إسحاق عن البراء موقوفاً. وكذا ذكره البخاري تعليقاً عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق. ورواه ابن مردويه من طريق آدم، عن إسرائيل كذلك وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن أبي إسحاق موقوفاً. وفي الباب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «إن السري الذي قاله لمريم نهر أخرجه الله لتشرب منه». أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية في ترجمة عكرمة عن ابن عمر، ورواية عن عكرمة أيوب بن نهيك ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة ـ انتهى.
فهذا الحديث المرفوع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت طرقه لا يخلو شيء منها من ضعف ـ أقرب إلى الصواب من دعوى أن السري عيسى بغير دليل يجب الرجوع إليه. وممن اختار أن السري المذكور في الآية النهر ـ: ابن جرير في تفسيره، وبه قال البراء بن عازب، وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وعمرو بن ميمون، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والسدي، ووهب بن منبه وغيرهم. وممن قال إنه عيسى: الحسن، والربيع بن أنس، ومحمد بن عباد بن جعفر. وهو إحدى الروايتين عن قتادة. وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قاله ابن كثير وغيره. قوله تعالى: {وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَـٰقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِى وَٱشْرَبِى وَقَرِّى عَيْن}. لم يصرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة ببيان الشيء الذي أمرها أن تأكل منه، والشيء الذي أمرها أن تشرب منه. ولكنه أشار إلى أن الذي أمرها أن تأكل منه هو «الرطب الجني» المذكور. والذي أمرها أن تشرب منه هو النهر المذكور المعبر عنه «بالسري» كما تقدم ـ هذا هو الظاهر.
وقال بعض العلماء:
إن جذع النخلة الذي أمرها أن تهز به كان جزعاً يابساً؛ فلما هزته جعله الله نخلة ذات رطب جني. وقال بعض العلماء: كان الجذع جذع نخلة نابتة إلا أنها غير مثمرة، فلما هزته أنبت الله فيه الثمر وجعله رطباً جنياً. وقال بعض العلماء: كانت النخلة مثمرة، وقد أمرها الله بهزها ليتساقط لها الرطب الذي كان موجوداً. والذي يفهم من سياق القرآن: أن الله أنبت لها ذلك الرطب على سبيل خرق العادة، وأجرى لها ذلك النهر على سبيل خرق العادة. ولم يكن الرطب والنهر موجودين قبل ذلك، سواء قلنا إن الجذع كان يابساً أو نخلة غير مثمرة، إلا أن الله أنبت فيه الثمر وجعله رطباً جنياً. ووجه دلالة السياق على ذلك أن قوله تعالى: {فَكُلِى وَٱشْرَبِى وَقَرِّى عَيْن} يدل على أن عينها إنما تقر في ذلك الوقت بالأمور الخارقة للعادة؛ لأنها هي التي تبين براءتها مما اتهموها به. فوجود هذه الخوارق من تفجير النهر، وإنبات الرطب، وكلام المولود تطمئن إليه نفسها وتزول به عنها الربية، وبذلك يكون قرة عين لها؛ لأن مجرد الأكل والشرب مع بقاء التهمة التي تمنت بسببها أن تكون قد ماتت من قبل وكانت نسياً منسياً لم يكن قرة لعينها في ذلك الوقت كما هو ظاهر. وخرق الله لها العادة بتفجير الماء، وإنبات الرطب، وكلام المولود لا غرابة فيه. وقد نص الله جل وعلا في «آل عمران» على خرقه لها العادة في قوله {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . قال العلماء: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. وإجراء النهر وإنبات الرطب ليس أغرب من هذا المذكور في سورة «آل عمران».
مسألة
أخذ بعض العلماء من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ} ـ أن السعي والتسبب في تحصيل الرزق أمر مأمور به شرعا وأنه لا ينافي التوكل على الله جل وعلا. وهذا أمر كالمعلوم من الدين بالضرورة. أن الأخذ بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا أمر مأمور به شرعا لا ينافي التوكل على الله بحال؛ لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالاً لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه. فهو متوكل على الله، عالم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له من خير أو شر. ولو شاء الله تخلف تأثير الأسباب عن مسبباتها لتخلف.
ومن أصرح الأدلة في ذلك ـ قوله تعالى: {قُلْنَا يٰنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ} . فطبيعة الإحراق في النار معنى واحد لا يتجَّزأ إلى معان مختلفة، ومع هذا أحرقت الحطب فصار رماداً من حرها في الوقت الذي هي كائنة برداً وسلاماً على إبراهيم. فدل ذلك دلالة قاطعة على أن التأثير حقيقة إنما هو بمشيئة خالق السموات والأرض، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب، وأنه لا تأثير لشيء من ذلك إلا بمشيئته جل وعلا.
ومن أوضح الأدلة في ذلك ـ أنه ربما جعل الشيء سبباً لشيء آخر مع أنه مناف له: كجعله ضرب ميت بني إسرائيل ببعض من بقرة مذبوحة سبباً لحياته، وضربه بقطعة ميتة من بقرة ميتة مناف لحياته. إذ لا تكسب الحياة من ضرب بميت؟ وذلك يوضح أنه جل وعلا يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب، ولا يقع تأثير البتة إلا بمشيئته جل وعلا.
ومما يوضح أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل على الله ـ قوله تعالى عن يعقوب: {وَقَالَ يٰبَنِىَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَٱدْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} أمرهم في هذا الكلام بتعاطي السبب،
وتسبب في ذلك بالأمر به، لأنه يخاف عليهم أن تصيبهم الناس بالعين لأنهم أحد عشر رجلاً أبناء رجل واحد، وهم أهل جمال وكمال وبسطة في الأجسام. فدخولهم من باب واحد مظنة لأن تصيبهم العين فأمرهم بالتفرق والدخول من أبواب متفرقة تعاطياً للسبب في السلامة من إصابة العين؛ كما قال غير واحد من علماء السلف. ومع هذا التسبب فقد قال الله عنه: {وَقَالَ يٰبَنِىَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَٱدْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِى عَنكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَىْءٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ} . فٱنظر كيف جمع بين التسبب في قوله: {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ} وبين التوكل على الله في قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ} وهذا أمر معلوم لا يخفى إلا على من طمس الله بصيرته. والله جل وعلا قادر على أن يسقط لها الرطب من غير هز الجذع، ولكنه أمرها بالتسبب في إسقاطه بهز الجذع. وقد قال بعضهم في ذلك: ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزه جنته ولكن كل شيء له سبب

وقد أخذ بعض العلماء من هذه الآية ـ أن خير ما تطعمه النفساء الرطب، قالوا: لو كان شيء أحسن للنفساء من الرطب لأطعمه الله مريم وقت نفاسها بعيسى، قاله الربيع بن خيثم وغيره. والباء في قوله {وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ} مزيدة للتوكيد، لأن فعل الهز يتعدى بنفسه، وزيادة حرف الباء للتوكيد قبل مفعول الفعل المتعدي بنفسه كثيرة في القرآن وفي كلام العرب، فمنه في القرآن قوله هنا {وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ} لأن المتبادر من اللغة أن الأصل: وهزي إليك جذع النخلة، وقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ} ، وقوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} . وقوله: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ} ، وقوله: {تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ} على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بضم التاء وكسر الباء مضارع أنبت الرباعي، لأن الرباعي الذي هو أنبت ينبت بضم الياء المثناة وكسر الباء الموحدة يتعدى بنفسه دون الحرف، فالباء مزيدة للتوكيد كما رأيت في الآيات المذكورة. ونظير ذلك من كلام العرب قول أمية بن أبي الصلت الثقفي: إذ يسقون بالدقيق وكانوا قبل لا يأكلون خبزا فطيرا

لأن الأصل يسقون الدقيق فزيدت الباء للتوكيد. وقول الراعي: هن الحرائر لا ربات أخمرة سود المعاجر لا يقرأن بالسور

فالأصل: لا يقرأن السور، فزيدت الباء لما ذكر. وقول يعلى الأحول اليشكري أو غيره: بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهان

فالأصل: وأسفله المارح؛ أي وينبت أسفله المرخ، فزيدت الباء لما ذكر وقول الأعشى: ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ملء المراجل والصريح الأجودا

فالأصل ضمنت رزق عيالنا.
وقول الراجز: نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

أي نرجو الفرج. وقول امريء القيس: فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال

فالأصل: هصرت غصنا؛ لأن هصر تتعدى بنفسها. وأمثال هذا كثيرة في كلام العرب.
وفي قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: «تساقط» تسع قراءات، ثلاث منها سبعية. وست شاذة. أما الثلاث السبعية فقد قرأه حمزة وحده من السبعة «تساقط» بفتح التاء وتخفيف السين وفتح القاف، وأصله: تتساقط؛ فحذفت إحدى التاءين. وعلى هذه القراءة فقوله «رطباً» تمييز محول عن الفاعل. وقرأه حفص وحده عن عاصم «تساقط» بضم التاء وكسر القاف وتخفيف السين، ومضارع ساقطت تساقط. وعلى هذه القراءة فقوله «رطباً» مفعول به الفعل الذي هو «تساقط» هي أي النخلة رطباً. وقرأه بقية السبعة «تساقط» بفتح التاء والقاف وتشديد السين، أصله: تتساقط؛ فأدغمت إحدى التاءين في السين. وعلى قراءة الجمهور هذه فقوله «رطباً» تمييز محول عن الفاعل كإعرابه على قراءة حمزة ـ وغير هذا من القراءات شاذ.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {رُطَباً جَنِيّ} الجني: هو ما طلب وصلح لأن يجنى فيؤكل. وعن أبي عمرو بن العلاء: أن الجني هو الذي لم يجف ولم ييبس، ولم يبعد عن يدي متناوله. قوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِىۤ إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّ}. قائل هذا الكلام لمريم: هو الذي ناداها من تحتها ألا تحزني. وقد قدمنا الخلاف فيه؛ هل هو عيسى، أو جبريل، وما يظهر رجحانه عندنا من ذلك.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {فَقُولِىۤ إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْم} قيل أمرت أن تقول ذلك باللفظ. وقيل أمرت أن تقوله بالإشارة. وكونها أمرت أن تقوله باللفظ هو مذهب الجمهور؛ كما قاله القرطبي وأبو حيان، وهو ظاهر الآية الكريمة؛ لأن ظاهر القول في قوله تعالى: {فَقُولِىۤ إِنِّى نَذَرْتُ} ـ أنه قول باللسان. واستدل من قال: إنها أمرت أن تقول ذلك بالإشارة بأنها لو قالته باللفظ أفسدت نذرها الذي نذرته ألا تكلم اليوم إنسياً، فإذا قالت لإنسي بلسانها إني نذرت للرحمن صوماً فقد كلمت ذلك الإنسي فأفسدت نذرها. واختار هذا القول الأخير لدلالة الآية عليه ابن كثير رحمه الله، قال في تفسير هذه الآية {فَقُولِىۤ إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّ} المراد بهذا القول الإشاءة إليه بذلك لا أن المراد القول اللفظي لئلا ينافي {فَلَنْ أُكَلّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّ} وأجاب المخالفون عن هذا بأن المعنى {فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّ} قوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّ} فقد رأيت كلام العلماء في الآية. وإن القول الأول يدل عليه ظاهر السياق. وإن الثاني يدل عليه قوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّ} لأنه يدل على نفي الكلام للإنسي مطلقاً. قال أبو حيان في البحر: وقوله «إنسياً» لأنها كانت تكلم الملائكة. ومعنى كلامه أن قوله «إنسياً» له مفهوم مخالفة، أي بخلاف غير الإنسي كالملائكة فإني أكلمه. والذي يظهر لي أنه لم يرد في الكلام إخراج المفهوم عن حكم المنطوق، وإنما المراد شمول نفي الكلام كل إنسان كائناً من كان.
مسألة
اعلم أنه على هذا القول الذي اختاره ابن كثير أن المراد بقوله {فَقُولِىۤ إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْم} أي قولي ذلك بالإشارة يدل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام، لأنها في هذه الآية سميت قولاً على هذا الوجه من التفسير. وسمع في كلام العرب كثيراً إطلاق الكلام على الإشارة، كقوله: إذا كلمتني بالعيون الفواتر رددت عليها بالدموع البوادر

وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى ما يدل من النصوص على أن الإشارة المفهمة تنزل منزلة الكلام، وما يدل من النصوص على أنها ليست كالكلام، وأقوال العلماء في ذلك. اعلم أنه دلت أدلة على قيام الإشارة المفهمة مقام الكلام، وجاءت أدلة أخرى يفهم منها خلاف ذلك. فمن الأدلة الدالة على قيام الإشارة مقام الكلام ـ قصة الأمة السوداء التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين الله»؟ فأشارت إلى السماء. فقال صلى الله عليه وسلم: «أعتقها فإنها مؤمنة» فجعل إشارتها كنطقها في الإيمان الذي هو أصل الديانات. وهو الذي يعصم به الدم والمال، وتستحق به الجنة، وينجي به من النار. والقصة المشهورة مروية عن جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة، وابن عباس، ومعاوية بن الحكم السلمي، والشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنهم. وفي بعض رواياتهم: أنها أشارت إلى السماء. قال أبو داود في سننه: حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، ثنا يزيد بن هارون، قال أخبرني المسعودي عن عون بن عبد الله، عن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة: أن رجلاً أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال: يا رسول الله، إن علي رقبة مؤمنة؟ فقال لها: «أين الله»؟
فأشارت إلى السماء بإصبعها فقال لها: «فمن أنا»؟ فأشارت إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وإلى السماء، يعني أنت رسول الله. فقال: «اعتقها فإنها مؤمنة». والظاهر حمل الروايات التي فيها أنه لما قال لها أين الله قالت في السماء من غير ذكر الإشارة، على أنها قالت ذلك بالإشارة. لأن القصة واحدة والروايات يفسر بعضها بعضاً. قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره في سورة «آل عمران» في الكلام على قوله تعالى {قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزً} ما نصه: في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام، وذلك موجود في كثير من السنة، وآكد الإشارات ما حكم به النَّبي صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها: «أين الله»؟ فأشارت برأسها إلى السماء، فقال: «اعتقها فإنها مؤمنة» فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديان الذي يحرز به الدم والمال، وتستحق به الجنة وينجي به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك، فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة، وهو قول عامة الفقهاء.
وروى ابن القاسم عن مالك: أن الأخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه. وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه: فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق. وقال أبو حنيفة: ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف، وإن شك فيها فهذا باطل، وليس ذلك بقياس، وإنما هو استحسان. والقياس في هذا كله أنه باطل، لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته ـ انتهى محل الغرض من كلام القرطبي رحمه الله. وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة تدل على قيام الإشارة مقام الكلام في أشياء متعددة، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: «الشهر هكذا وهكذا وهكذا،
ـ ثم عقد إبهامه في الثالثة ـ فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين» هذا لفظ مسلم في صحيحه وهو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم نزل إشارته بأصابعه إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوماً، وقد يكون ثلاثين ـ منزلة نطقه بذلك. وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على هذا الحديث: وفي هذا الحديث جواز اعتماد الإشارة المفهمة في مثل هذا. وحديث ابن عمر هذا أورده البخاري في باب (اللعان) مستدلاً به على أن الإشارة كاللفظ. وقد ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه أحاديث كثيرة تدل على جعل الإشارة كالنطق، قال رحمه الله تعالى: (باب الإشارة في الطلاق والأمور) وقال ابن عمر قال النَّبي صلى الله عليه وسلم، «لا يعذب الله بدمع العين ولكن يعذب بهذا» فأشار إلى لسانه، وقال كعب بن مالك: أشار النَّبي صلى الله عليه وسلم إليَّ أي خُذِ النصف. وقالت أسماء: صلى النَّبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف. فقلت لعائشة: ما شأن الناس وهي تصلي؟ فأومأت برأسها إلى الشمس. فقلت: آية؟ فأومأت برأسها أن نعم. وقال أنس: أومأ النَّبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم. وقال ابن عباس: أومأ النَّبي صلى الله عليه وسلم بيده لا حرج. وقال أبو قتادة: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم في الصيد للمحرم:
«آحدكم أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟» قالوا لا. قال: «فكلوا» حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا إبراهيم، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير، وكان كلما أتى على الركن أشار إليه وكبر. وقالت زينب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وهذه» وعقد تسعين ـ حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا سلمة بن عقلمة، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيراً إلا أعطاه» وقال بيده، ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر. قلنا: يزهدها: وقال الأويسي: حدثنا إبراهيم بن سعد عن شعبة بن الحجاج عن هشام بن يزيد عن أنس بن مالك قال: عدا يهودي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جارية فأخذ أوضاحاً كانت عليها، ورضخ رأسها. فأتى به أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق وقد أصمتت. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتلك؟ فلان» لغير الذي قتلها، فأشارت برأسها أن لا. قال: فقال لرجل آخر غير الذي قتلها، فأشارت أن لا. فقال: «فلان»؟ لقاتلها، فأشارت أن نعم. فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين. حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال، سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول؟ «الفتنة من هنا» وأشار إلى المشرق. حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن أبي إسحاق الشيباني؟ عن عبد الله بن أبي أوهم قال: كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم» فلما غربت الشمس قال لرجل؟ «أنزل فاجدح لي» قال؟ يا رسول الله، لو أمسيت؟ ثم قال. أنزل فاجدح» قال؟ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لو أمسيت إن عليك نهاراً، ثم قال؟ «أنزل فاجدح» فنزل فجدح له في الثالثة فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أومأ بيده إلى المشرق فقال: «إذا رأيتم قد أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم». حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال؟
قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعن أحداً منكم نداء بلال» ـ أو قال أذانه ـ من سحوره؟ فإنما ينادي ـ أو قال يؤذن ـ ليرجع قائمكم وليس أن يقول كأنه يعني الصبح أو الفجر، وأظهر يزيد يديه ثم مد إحداهما من الأخرى. وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز، سمعت أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من لدن ثدييهما إلى تراقيهما. فأما المنفق فلا ينفق شيئاً إلا مادت على جلده حتى تجن بنانه وتعفو أثره. وأما البخيل فلا يريد ينفق إلا لزمت كل حلقة موضعها، فهو يوسعها فلا تتسع» ويشير بأصبعه إلى حلقه. انتهى من صحيح البخاري.
فهذه أحاديث دالة، على قيام الإشارة مقام النطق في أمور متعددة. وقال ابن حجر في الفتح في هذا الباب: ذكر فيه عدة أحاديث معلقة وموصولة أولها قوله: وقال ابن عمر: هو طرف من حديث تقدم موصولاً في الجنائز، وفيه قصة لسعد بن عبادة، وفيها: «ولكن الله يعذب بهذا» وأشار إلى لسانه. ثانيها ـ وقال كعب بن مالك؟ هو أيضاً طرف من حديث تقدم موصولاً في الملازمة؟ وفيها وأشار إلى أن خذ النصف. ثالثها ـ «وقالت أسماء» هي بنت أبي بكر. صلَّى النَّبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف. الحديث تقدم موصولاً في كتاب الإيمان بلفظ: فأشارت إلى السماء، وفيه. فأشارت برأسها أي نعم. وفي صلاة الكسوف بمعناه. وفي صلاة السهو باختصار ـ إلى آخر كلامه. وبالجملة فجميع الأحاديث التي ذكرها البخاري في الباب المذكور كلها ثابتة في الصحيح موصولة. أما ما جاء منها موصولاً في الباب المذكور فأمره واضح. وأما ما جاء منها معلقاً في الباب المذكور فقد جاء موصولاً في محل آخر من البخاري.
والحديث الأول ـ دل على أن النَّبي صلى الله عليه وسلم جعل إشارته إلى اللسان أن الله يعذب به كنطقه بذلك.
والحديث الثاني ـ جعل فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم إشارته إلى كعب بن مالك أن يسقط نصف ديته عن ابن أبي حدود ويأخذ النصف الباقي منه كنطقه بذلك.
والحديث الثالث ـ جعلت فيه عائشة إشارتها لأختها أن الكسوف آية من آيات الله هي السبب في صلاة النَّبي صلى الله عليه وسلم، كنطقها بذلك.
والحديث الرابع ـ جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارته إلى أبي بكر رضي الله عنه أن يتقدم كنطقه له بذلك. وإيضاح ذلك هو ما رواه البخاري عن أنس في باب (أهل العلم والفضل أحق بالإمامة).
قال أنس: لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه فلما وضح وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظراً كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا. فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم: وأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب فلم يقدر عليه حتى مات ا هـ. هذا لفظ البخاري وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث في مرض موته وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم بقليل إشارته إلى أبي بكر أن يتقدم ليصلي بالناس كنطقه له بذلك. لأن أبا بكر رضي الله عنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كشف الحجاب نكص على عقيبه ليصل الصف، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة كما ثبت في صحيح البخاري في الباب المذكور آنفاً من حديث أنس، فأشار إليه أن يتقدم، وقامت الإشارة مقام النطق.
والحديث الخامس ـ جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم الفتيا بإشارة اليد كالفتيا بالنطق.
وإيضاحه هو ما رواه البخاري في كتاب العلم (في باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس) حدثنا موسى بن إسماعيل، قال حدثنا وهيب. قال حدثنا أيوب، عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في حجته فقال: «ذبحت قبل أن أرمي فأومأ بيده قال: ولا حرج، قال حلقت قبل أن أذبح. فأومأ بيده ولا حرج». ومن أمثلة الفتيا بإشارة اليد ما رواه البخاري في هذا الباب المذكور آنفاً من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج» قيل: يا رسول الله، وما الهرجٰ فقال: «هكذا» بيده فحرفها كأنه يريد القتل ا هـ فجعل صلى الله عليه وسلم إشارته بيده كنطقة: بأن المراد بالهرج القتل.
والحديث السادس ـ جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارة المحرم إلى الصيد لينبه إليه المحل كأمره له باصطياده بالنطق، وقد قدمنا هذا الحديث في سورة «المائدة».
والحديث السابع ـ جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة إلى الركن في طوافه كاستلامه وتقبيله بالفعل.
والحديث الثامن ـ جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارته بأصابعه كعقد التسعين. لبيان القدر الذي فتح من ردم يأجوج ومأجوج كالنطق بذلك.
والحديث التاسع ـ فيه أنه جعل وضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر. مشيراً بذلك لقلة زمن الساعة التي يجاب فيها الدعاء بالخير يوم الجمعة. أو مشيراً بذلك لوقتها عند من قال: إن وضع الأنملة في وسط الكف يراد به الإشارة إلى أن ساعة الجمعة في وسط يوم الجمعة.
ووضعها على الخنصر يراد به أنها في آخر النهار، لأن الخنصر آخر أصابع الكف كالنطق بذلك. وذكر ابن حجر عن بعض أهل العلم. أن هذه الإشارة باليد لساعة الجمعة من فعل بشر بن المفضل راوي الحديث عن سلمة بن علقمة كما تقدم في إسناد الحديث. وعليه ففي سياق هذا الحديث عند البخاري إدراج.
والحديث العاشر ـ جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارة الجارية التي قتلها اليهودي كنطقها بأن اليهودي قتلها، وأن من سمَّى لها غيره لم يكن هو الذي قتلها. وقد قدمنا هذا الحديث في سورة «بني إسرائيل» وبينا هنالك أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان جعل إشارة الجارية كنطقها لم يقتل اليهودي بإشارة الجارية القائمة مقام نطقها بمن قتلها، ولكنه اعترف بأنه قتلها فثبت عليه القتل باعترافه واقتص لها منه بذلك.
والحديث الحادي عشر ـ فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الفتنة من هنا» وأشار إلى المشرق، فجعل إشارته إلى المشرق كنطقه بذلك.
والحديث الثاني عشر ـ فيه أنه صلى الله عليه وسلم أومأ بيده إلى المشرق فقال: «إذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم» فجعل إشارته بيده إلى المشرق كنطقه بلفظ المشرق.
والحديث الثالث عشر ـ جعل فيه الإشارة باليد إلى الفرق بين الفجر الكاذب والفجر الصادق بذلك.
والحديث الرابع عشر ـ قال فيه صلى الله عليه وسلم: «فهو يوسعها ولا تتسع» ويشير بأصبعه إلى حلقه، فجعل إشارته إلى أن درع الحديد المضروب بها المثل للبخيل ثابتة على حلقه لا تنزل عنه ولا تستر عورته ولا بدنه كالنطق بذلك.
فهذه أربعة عشر حديثاً أوردها البخاري رحمه الله في الباب المذكور، وسقناها هنا، وبينا وجه الدلالة على أن الإشارة كالنطق في كل واحد منها، مع ما قدمنا من الأحاديث الدالة على ذلك زيادة على ما ذكره البخاري هنا.
وقد ذكر البخاري رحمه الله في أول باب (اللعان) خمسة أحاديث أيضاً كل واحد منها فيه الدلالة على أن الإشارة كالنطق ولم نذكرها هنا لأن فيما ذكرنا كفاية.
وقال ابن حجر في (الفتح) في آخر كلامه على أحاديث الباب المذكورة. قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى أن الإشارة المفهمة تنزل منزلة النطق. وخالفه الحنيفة في بعض ذلك. ولعل البخاري ردَّ عليهم بهذه الأحاديث التي جعل فيها النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة قائمة مقام النطق. وإذا جازت الإشارة في أحكام مختلفة في الديانة فهي لمن لا يمكنه النطق أجوز.
وقال ابن المنير: أراد البخاري أن الإشارة بالطلاق وغيره من الأخرس وغيره التي يفهم منها الأصل والعدد نافذة كاللفظ ا هـ ـ ويظهر لي أن البخاري أورد هذه الترجمة وأحاديثها توطئة لما يذكره من البحث في الباب الذي يليه، مع من فرق بين لعان الأخرس، وطلاقه، والله أعلم.
فهذه الأحاديث وأمثالها هي حجة من قال: إن الإشارة المفهمة تقوم مقام اللفظ. واحتج من قال: بأن الإشارة ليست كاللفظ بأن القرآن العظيم دل على ذلك، وذلك في قوله تعالى في الآية التي نحن بصددها: {فَقُولِىۤ إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّ} فإن في هذه الآية التصريح بنذرها الإمساك عن كلام كل إنسي، مع أنه تعالى قال: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أي أشارت لهم إليه أن كلموه يخبركم بحقيقة الأمر فهذه إشارة مفهمة، وقد فهمها قومها فأجابوها جواباً مطابقاً لفهمهم ما أشارت به: {قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى ٱلْمَهْدِ صَبِيّا} ، وهذه الإشارة المفهمة لو كانت كالنطق لأفسدت نذر مريم ألا تكلم إنسياً. فالآية صريحة في أن الكلام باللفظ يخل بنذرها، وأن الإشارة ليست كذلك، فقد جاء الفرق صريحاً في القرآن بين اللفظ والإشارة، وكذلك قوله تعالى {قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً} فإن الله جعل له آية على ما بُشر به وهي منعه من الكلام، مع أنه لم يمنع من الإشارة بدليل قوله: {إِلاَّ رَمْزً}، وقوله: {فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا} . فدل ذلك على أن الإشارة ليست كالكلام. والآية الأولى أصرح في الدلالة على أن الاشارة ليست كاللفظ، لأن الآية الثانية محتملة لكون الإشارة كالكلام، لأن استثناءه تعالى قوله {إِلاَّ رَمْزً} من قوله {أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ} يفهم منه أن الرمز الذي هو الإشارة نوع من جنس الكلام استثنى منه، لأن الأصل في الاستثناء الاتصال. والله تعالى أعلم.
فإذا علمت أدلة الفريقين في الإشارة، هل هي كاللفظ أو لا ـ فاعلم أن العلماء مختلفون في الاشارة المفهمة، هل تنزل اللفظ أولاً. وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى جملاً من أقوال أهل العلم في ذلك، وما يظهر رجحانه بالدليل.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى في (فتح الباري) في آخر «باب الإشارة في الطلاق والأمور» ما نصه: وقد اختلف العلماء في الإشارة المفهمة. فأما في حقوق الله فقالوا: يكفي ولو من القادر على النطق. وأما في حقوق الآدميين كالعقود والإقرار والوصية ونحو ذلك فاختلف العلماء فيمن اعتقل لسانه. ثالثها عن أبي حنيفة إن كان مأيوساً من نطقه. وعن بعض الحنابلة إن اتصل بالموت، ورجحه الطحاوي. وعن الأوزاعي إن سبقه كلام، ونقل عن مكحول إن قال: فلان حر ثم أصمت فقيل له: وفلان؟ فأومأ صح. وأما القادر على النطق فلا تقوم إشارته مقام نطقه عند الأكثرين واختلف هل يقوم منه مقام النية، كما لو طلق امرأته فقيل له: كم طلقة؟ فأشار بأصبعه ـ انتهى منه.
وقال البخاري في أول (باب اللعان) ما نصه: فإذا قذف الأخرس امرأته بكتابة أو إشارة أو إيماء معروف فهو كالمتكلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز الإشارة في الفرائض. وهو قول بعض أهل الحجاز وأهل العلم، وقال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى ٱلْمَهْدِ صَبِيّا} . وقال الضحاك: {إِلاَّ رَمْزاً} إشارة. وقال بعض الناس: لا حد ولا لعان. ثم زعم أنه إن الطلاق بكتاب أو إشارة أو إيماء جائز وليس بين الطلاق والقذف فرق، فإن قال: القذف لا يكون إلا بكلام قيل له: كذلك الطلاق لا يجوز إلا بكلام وإلا بطل الطلاق والقذف وكذلك العتق. وكذلك الأصم يلاعن. وقال الشعبي وقتادة: إذا قال أنت طالق ـ فأشار بأصابعه ـ تبين منه بإشارته. وقال إبراهيم: الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه. وقال حماد: الأخرس والأصم إن قال برأسه جاز: انتهى محل الغرض من كلام البخاري رحمه الله.
ومذاهب الأئمة الأربعة متقاربة في هذه المسألة، وبينهم اختلاف في بعض فروعها.
فمذهب مالك رحمه الله: أن الإشارة المفهمة تقوم مقام النطق. قال خليل بن إسحاق في مختصره، الذي قال في ترجمته مبيناً لما به الفتوى ـ يعني في مذهب مالك ـ الكلام على الصيغة التي يحصل بها الطلاق. ولزم بالإشارة المفهمة. يعني أن الطلاق يلزم بالإشارة
المفهمة مطلقاً من الأخرس والناطق وقال شارحه المواق رحمه الله من المدونة. ما علم من الأخرس بإشارة أو بكتاب من طلاق أو خلع أو عتق أو نكاح. أو بيع أو شراء أو قذف لزمه حكم المتكلم. وروى الباجي. إشارة السليم بالطلاق برأسه أو بيده كلفظه، لقوله تعالى: {أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً} ا هـ منه. ورواية الباجي هذه عليها أهل المذهب. ومذهب أبي حنيفة رحمه الله: أن إشارة الأخرس تقوم مقام كلام الناطق في تصرفاته، كإعتاقه وطلاقه، وبيعه وشرائه، ونحو ذلك. أما السليم فلا تقبل عنده إشارته لقدرته على النطق. وإشارة الأخرس بقذف زوجته لا يلزم عنده فيها حد ولا لعان. لأن الحدود تدرأ بالشبهات. وعدم التصريح شبهة عنده. لأن الإشارة قد يفهم ما لا يقصد المشير. ولأن أيمان اللعان لها صيغ لا بد منهما ولا تحصل بالإشارة وكذلك عنده إذا كانت الزوجة المقذوفة خرساء فلا حد ولا لعان عنده. لاحتمال أنها لو نطقت لصدقته، ولأنها لا يمكنها الإتيان بألفاظ الأيمان المنصوصة في آية اللعان. وكذلك عنده القذف لا يصح من الأخرس. لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
وقال بعض العلماء من الحنيفة: إن القياس منع اعتبار إشارة الأخرس، لأنها لا تفهم كالنطق في الجميع، وأنهم أجازوا العمل بإشارة الأخرس في غير اللعان والقذف على سبيل الاستحسان، والقياس المنع مطلقاً. ومذهب الشافعي في هذه المسألة اعتبار إشارة الأخرس في اللعان وغيره. وعدم اعتبار إشارة السليم.
وأما مذهب الإمام أحمد ـ فظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى أنه لا لعان إن كان أحد الزوجين أخرس، كما قدمنا توجيهه في مذهب أبي حنيفة. وقال القاضي وأبو الخطاب: إن فهمت إشارة الأخرس فهو كالناطق في قذفه ولعانه. وأما طلاق الأخرس ونكاحه وشبه ذلك فالإشارة كالنطق في مذهب الإمام أحمد. وأما السليم ـ فلا تقبل عنده إشارته بالطلاق ونحوه.
هذا حاصل كلام الأئمة وغيرهم من فقهاء الأمصار في هذه المسألة. وقد رأيت ما جاء فيها من أدلة الكتاب والسنة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي رجحانه في المسألة: أن الإشارة إن دلت على المعنى دلالة واضحة لا شك في المقصود معها أنها تقوم مقام النطق مطلقاً، ما لم تكن في خصوص اللفظ أهمية مقصودة من قبل الشارع، فإن كانت فيه فلا تقوم الإشارة مقامه كأيمان اللعان، فإن الله نص عليها بصورة معينة. فالظاهر أن الإشارة لا تقوم مقامها وكجميع الألفاظ المتعمَّد بها فلا تكفي فيها الإشارة، والله جل وعلا أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْما} أي إمساكاً عن الكلام في قول الجمهور. والصوم في اللغة: الإمساك، ومنه قول نابغة ذبيان. خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
فقوله: «خيل صيام» أي ممسكة عن الجري. وقيل عن العلف، «وخيل غير صائمة» أي غير ممسكة عما ذكر وقول امرىء القيس. كأن الثريا علقت في مصامها بأمراس كتان إلى صم جندل
فقوله: «في مصامها» أي مكان صومها، يعني إمساكها عن الحركة. وهذا القول هو الصحيح في معنى الآية. أن المراد بالصوم الإمساك عن الكلام، بدليل قوله بعده {فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّا} وهو قول أكثر أهل العلم. وقال ابن حجر (في الفتح في باب اللعان). وقد ثبت من حديث أبي كعب وأنس بن مالك: أن معنى قوله تعالى: {إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْما} أي صمتاً. أخرجه الطبراني وغيره ا هـ. وقال بعض العلماء: المراد بالصوم في الآية: هو الصوم الشرعي المعروف المذكور في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} .
وعليه فالمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم حرم عليهم الكلام كما يحرم عليهم الطعام، والصواب في معنى الآية الأول. وعليه فهذا النذر الذي نذرته ألا تكلم اليوم إنسياً كان جائزاً في شريعتهم. أما في الشريعة التي جاءنا بها نبينا صلى الله عليه وسلم فلا يجوز ذلك النذر ولا يجب الوفاء به. قال البخاري في صحيحه: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال: بينا النبي يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم لا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم. «مرة فليتكلم، وليستظل وليقعد وليتم صومه» قال عبد الوهاب: حدثنا أيوب عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ا هـ.
وقال ابن حجر «في الفتح» في الكلام على هذا الحديث وفي حديثه أن السكوت عن المباح ليس من طاعة الله: وقد أخرج أبو داود من حديث علي «ولا صمت يوم إلى الليل» وتقدم في السيرة النبوية قول أبي بكر الصديق إن هذا «يعني الصمت» من فعل الجاهلية، وفيه: أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلا مما لم يرد بمشروعيَّته كتاب أو سنة، كالمشي حافياً، والجلوس في الشمس ليس هو من طاعة الله، فلا ينعقد به النذر، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا إسرائيل بإتمام الصوم دون غيره. وهو محمول على أنه علم أنه لا يشق عليه. وأمره أن يقعد ويتكلم ويستظل. قال القرطبي: في قصة أبي إسرائيل هذه أوضح الحجج للجمهور في عدم وجوب الكفارة على من نذر معصية، أو ما لا طاعة فيه. قال مالك لما ذكره: ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالكفارة. انتهى كلام صاحب (فتح الباري). وقد قال الزمخشري في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها: وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت. فقال ابن حجر في (الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف): لم أره هكذا. وأخرج عبد الرزاق من حديث جابر بلفظ «لا صمت يوم إلى الليل» وفيه حزام بن عثمان وهو ضعيف. ولأبي داود من حديث علي مثله، وقد تقدم في تفسير سورة «النساء».
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} معناه فإن ترى من البشر أحداً. فلفظه «إما» مركبة من «إن» الشرطية و«ما» المزيدة لتوكيد الشرط. والأصل ترأيين على وزن تفعلين، تحركت الياء التي هي لام الكلمة وانفتح ما قبلها وجب قبلها ألفاً فصارت ترآين، فحذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الراء. لأن اللغة الفصحى التي هي الأغلب في كلام العرب حذف همزة رأى في المضارع والأمر، ونقل حركتها إلى الراء فصارت تراين، فالتقى الساكنان فحذف الأول وهو الألف، فصار ترين فدخلت عليه نون التوكيد الثقيلة فحذفت نون الرفع من أجلها هي، والجازم الذي هو إن الشرطية، لأن كل واحد منهما بانفراده يوجب حذف نون الرفع، فصار ترين، فالتقى ساكنان هما الياء الساكنة والنون الأولى الساكنة من نون التوكيد المثقلة، لأن كل حرف مشدد فهو حرفان، فحركت الياء بحركة تناسبها وهي الكسرة فصارت ترين، كما أشار إلى هذا ابن مالك في الخلاصة بقوله: واحذفه من رافع هاتين وفي واو ويا شكل مجالس قفي
ع نحو اخشين يا هند بالكسر ويا قوم اخشون واضمم وقس مسويا وما ذكرنا من أن همزة «رأى» تحذف في المضارع والأمر هو القياس المطرد في كلام العرب وبقاؤها على الأصل مسموع، ومنه قول سراقة بن مرداس البارقي الأصغر: أرى عيني ما لم ترأياه لانا عالم بالترهات
وقول الأعلم بن جرادة السعدي، أو شاعر من تيم الرباب:
ألم ترأ ما لاقيت والدهر أعصر ومن يتمل العيش يرأ ويسمع
وقول الآخر: أحن إذا رأيت جبال نجد ولا أرأى إلى نجد سبيلا
ونون التوكيد في العمل المضارع بعد «إما» لازمة عند بعض علماء العربية. وممن قال بلزومها بعد «إما» كقوله هنا {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَد}: المبراد والزجاج. ومذهب سيبويه والفارسي وجماعة أن نون التوكيد في الفعل المضارع بعد «إما» غير لازمة، ويدل له كثرة وروده في شعر العرب، كقول الأعشى ميمون بن قيس: فإما تريني ولي لمة فإن الحوادث أردى بها

وقول لبيد بن ربيعة: فإما تريني اليوم أصبحت سالما فلست بأحيا من كلاب وجعفر

وقول الشنفرى: فإما تريني كابنة الرمل ضاحيا على رقة أحفى ولا أتنعل

وقول الأفوه الأودي: إما ترى رأسي أزرى به مأس زمان ذي انتكاس مؤس

وقول الآخر: زعمت تماضر أنني إما أمت يسدد أبينوها الأصاغر خلتي

وقول الآخر: يا صاح إما تجدني غير ذي جدة فما التخلي عن الخلان من شيمي

وأمثال هذا كثيرة في شعر العرب. والمبرد والزجاج يقولان: إن حذف النون في الأبيات المذكورة ونحوها إنما هو لضرورة الشعر. ومن خالفهم كسيبويه والفارسي يمنعون كونه للضرورة، ويقولون: إنه جائز مطلقاً. والعلم عند الله تعالى.