تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 319 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 319


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 كَذٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَـٰكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً * مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وِزْراً * خَـٰلِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ حِمْلاً * يَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّورِ وَنَحْشُرُ ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَـٰفَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً * نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً * وَيَسْألُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْف}

تقدم شرح هذه الأيات في الصفحة التي قبلها

{فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِىَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً * وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَىِّ ٱلْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً * وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَـٰهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ ٱلْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْر}
قوله تعالى: {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْت}. الضمير في قوله: {فَيَذَرُهَ} فيه وجهان معروفان عند العلماء:
أحدهما ـ أنه راجع إلى الأرض وإن لم يجر لها ذكر. ونظير هذا القول في هذه الآية قوله تعالى: {مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} ، وقوله: {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} فالضمير فيهما راجع إلى الأرض ولم يجر لها ذكر. وقد بينا شواهد ذلك من العربية والقرآن بإيضاح في سورة «النحل» فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
والثاني ـ أنه راجع إلى منابت الجبال التي هي مراكزها ومقارها لأنها مفهومة من ذكر الجبال. والمعنى: فيذر مواضعها التي كانت مستقرة فيها من الأرض قاعاً صفصفاً. والقاع: المستوى من الأرض. وقيل: مستنقع الماء. والصفصف: المستوى الأملس الذي لا نبات فيه ولا بناء، فإنه على صف واحد في استوائه. وأنشد لذلك سيبويه قول الأعشي:
وكم دون بيتك من صفصف ودكداك ومل وأعقادها

ومنه قول الآخر:
وملمومة شهباء لو قذفوا بها شماريخ من رضوى إذاً عاد صفصفا
وقوله: {لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْت} أي لا اعوجاج فيها ولا أمت. والأمت: النتوء اليسير. أي ليس فيها اعوجاج ولا ارتفاع بعضها على بعض، بل هي مستوية، ومن إطلاق الأمت بالمعنى المذكور قول لبيد: فاجرمزت ثم سارت وهي لاهية في كافر به أمت ولا شرف

وقول الآخر: فأبصرت لمحة من رأس عكرشة في كافر ما به أمت ولا عوج

والكافر في البيتين: قيل الليل. وقيل المطر، لأنه يمنع العين من رؤية الارتفاع والانحدار في الأرض.
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت: قد فرقوا بين العوج والعوج فقالوا. العوج بالكسر في المعاني والعوج بالفتح في الأعيان. والأرض عين، فكيف صح فيها المكسور العين؟
قلت اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة، ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ مايكون. وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسويتها، وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط، ثم استطلعت رأي المهندس فيها، وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك ذلك بحاسة البصر، ولكن بالقياس الهندسي، فنفى الله عز وجل ذلك العوج الذي دق ولطف عن الإدراك، اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني فقيل فيه: عوج بالكسر، والأمت: النتوه اليسير، يقال: مد حبله حتى ما فيه أمت. انتهى منه. وقد قدمنا في أول سورة الكهف ما يغني عن هذا الكلام الذي ذكره، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِىَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْس} . قوله {يَوْمَئِذٍ} أي يوم إذ نسفت الجبال يتبعون الداعي. والداعي: هو الملك الذي يدعوهم إلى الحضور للحساب. قال بعض أهل العلم: يناديهم أيتها العظام النخرة، والأوصال المتفرقة، واللحوم المتمزقة، قومي إلى ربك للحساب والجزاء، فيسمعون الصوت ويتبعونه. ومعنى {لاَ عِوَجَ لَهُ}: أي لا يحيدون عنه، ولا يميلون يميناً ولا شمالاً. وقيل: لا عوج لدعاء الملك عن أحد، أي لا يعدل بدعائه عن أحد، بل يدعوهم جميعاً. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من اتباعهم للداعي للحساب، وعدم عدو لهم عنه بينه في غير هذا الموضع، وزاد أنهم يسرعون إليه كقوله تعالى {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَىْءٍ نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَـٰرُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلاٌّجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ يَقُولُ ٱلْكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ والإهطاع: الإسراع: وقوله تعالى:{وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ} ، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة
: {وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ} أي خفضت وخفتت، وسكنت هيبة لله، وإجلالاً وخوفاً {فَلاَ تَسْمَعُ} في ذلك اليوم صوتاً عالياً، بل لا تسمع {إِلاَّ هَمْس} أي صوتاً خفياً خافتاً من شدة الخوف. أو {إِلاَّ هَمْس} أي إلا صوت خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر ـ والهمس يطلق في اللغة على الخفاء، فيشمل خفض الصوت وصوت الأقدام. كصوت أخفاف الإبل في الأرض التي فيها يابس النبات، ومنه قول الراجز: وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا

وما ذكره جل وعلا هنا أشار له في غير هذا الموضع، كقوله:
{رَّبِّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمَـٰنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاب} :
وقوله هنا: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ}
، قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في «مريم» وغيرها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. قوله تعالى: {وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَىِّ ٱلْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْم}
. قوله: {عَنَتِ}
أي ذلت وخضعت. تقول العرب: عنا يعنو عنواً وعناء: إذ ذل وخضع، وخشع. ومنه قليل للأسير عان. لذله وخضوعه لمن أسره. ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي:
مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد

وقوله أيضاً: وعنا له وجهي وخلقي كله في الساجدين لوجهه مشكورا


واعلم أن العلماء اختلفوا في هذه الآية الكريمة، فقال بعضهم: المراد بالوجوه التي ذلت وخشعت للحي القيوم: وجوه العصاة خاصة وذلك يوم القيامة: وأسند الذل والخشوع لوجوههم، لأن الوجه تظهر فيه آثار الذل والخشوع. ومما يدل على هذا المعنى من الآيات القرآنية قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيۤئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُو} ، وقوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌتَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} ، وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـٰشِعَةٌعَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً} ، وعلى هذا القول انتصر الزمخشري واستدل له ببعض الآيات المذكورة.
وقال بعض العلماء
{وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ}: أي ذلت وخضعت وجوه المؤمنين لله في دار الدنيا، وذلك بالسجود والركوع. وظاهر القرآن يدل على أن المراد الذل والخضوع لله يوم القيامة، لأن السياق في يوم القيامة، وكل الخلائق تظهر عليهم في ذلك اليوم علامات الذل والخضوع لله جل وعلا.
وقوله في هذه الآية:
{وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْم} قال بعض العلماء: أي خسر من حمل شركاً. وتدل لهذا القول الآيات القرآنية الدالة على تسمية الشرك ظلماً. كقوله: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، وقوله: {وَٱلْكَـٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} ، وقوله: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} ، وقوله: {ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ} ، إلى غير ذلك من الآيات، والأظهر أن الظلم في قوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْم} يعم الشرك وغيره من المعاصي. وخيبة كل ظالم بقدر ما حل من الظلم، والعلم عند الله تعالى. وقوله في هذه الآية الكريمة: {لِلْحَىِّ ٱلْقَيُّومِ} الحي: المتصف بالحياة الذي لا يموت أبداً. والقيوم صيغة مبالغة. لأنه جل وعلا هو القائم بتدبير شؤون جميع الخلق. وهو القائم على كل نفس بما كسبت. وقيل: القيوم الدائم الذي لا يزول. قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْم} . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من يعمل من الصالحات وهو مؤمن بربه فإنه لا يخاف ظلماً ولا هضماً. وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيم} ، وقوله: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئًا وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، وقوله تعالى: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً} إلى غير ذلك من الآيات، كما قدمنا ذلك.
وفرق بعض أهل العلم بين الظلم والهضم: بأن الظلم المنع من الحق كله. والهضم: النقص والمنع من بعض الحق. فكل هضم ظلم، ولا ينعكس. ومن إطلاق الهضم على ما ذكر قول المتوكل الليثي: إن الأذلة واللئام لمعشر مولاهم المتهضم المظلوم

فالمتهضم: اسم مفعول تهضمه إذا اهتضمه في بعض حقوقه وظلمه فيها. وقرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن كثير
{بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ} بضم الفاء وبألف بعد الخاء مرفوعاً ولا نافية. أي فهو لا يخاف، أو فإنه لا يخاف. وقرأه ابن كثير «فلا يخف» بالجزم من غير ألف بعد الخاء. وعليه فـ«لا» ناهية جازمة المضارع. وقول القرطبي في تفسيره: إنه على قراءة ابن كثير مجزوم. لأنه جواب لقوله {وَمَن يَعْمَلْ} ـ غلط منه رحمه الله. لأن الفاء في قوله {فَلاَ يَخَافُ} مانعة من ذلك. والتحقيق هو ما ذكرنا من أن «لا» ناهية على قراءة ابن كثير، والجملة الطلبية جزاء الشرط، فيلزم اقترانها بالفاء. لأنها لا تصلح فعلاً للشرط كما قدمناه مراراً.
وقوله تعالى:
{وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَـٰهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ ٱلْوَعِيدِ}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة «الكهف» فأغنى ذلك عن إعادته هنا.