تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 335 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 335


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

   وَهُدُوۤاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَهُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلْحَمِيدِ * إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِى جَعَلْنَـٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَـٰكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}

تقدم شرح هذه الأيات مع الأيات التي في الصفحة السابقة

{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ * وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ * لِّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ * ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَـٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلاٌّنْعَـٰمُ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلاٌّوْثَـٰنِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ * حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ}
قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ}. أي اذكر حين بوأنا، تقول العرب: بوأت له منزلاً، وبوأته منزلاً، وبوأته في منزل بمعنى واحد كلها بمعنى: هيأته له، ومكنت له فيه، وأنزلته فيه، فتبوأه: أي نزله، وتبوأت له منزلاً أيضاً هيأته له، وأنزلته فيه فبوأه المتعدي بنفسه، كقوله تعالى {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَ} وقوله {وَٱلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ فِى ٱللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَة} ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي: كم من أخ لي ماجد بوأته بيدي لحدا

أي هيأته له، وأنزلته فيه، وبوأت له كقوله هنا {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَٰهِيمَ}، وبوأته فيه كقول الشاعر: وبوئت في صميم معشرها وتم في قومها مبوؤها

أي نزلت من الكرم في صميم النسب، وتبوأت له منزلاً كقوله تعالى {وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتً} وتبوأه كقوله {وَأَوْرَثَنَا ٱلاٌّرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ}. وقوله تعالى {وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى ٱلاٌّرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ} وقوله تعالى {وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَـٰنَ}. وأصل التبوء. من المباءة: وهي منزل القوم في كل موضع، فقوله {بَوَّأْنَا لإِبْرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ} أي هيأناه له، وعرفناه إياه، ليبنيه بأمرنا على قواعده الأصلية المندرسة، حين أمرنا ببنائه، كما يهيأ المكان لمن يريد النزول فيه.
والمفسرون يقولون: بوأه له، وأراه إياه بسبب ريح تسمى الخجوج كنست ما فوق الأساس، حتى ظهر الأساس الأول الذي كان مندرساً، فبناه إبراهيم وإسماعيل عليه. وقيل:
أرسل له مزنة فاستقرت فوقه، فكان ظلها على قدر مساحة البيت، فحفرا عن الأساس، فظهر لهما فبنياه عليه. وهم يقولون أيضاً: إنه كان مندرساً من زمن طوفان نوح، وأن محله كان مربض غنم لرجل من جرهم، والله تعالى أعلم.
وغاية ما دل عليه القرآن: أن الله بوأ مكانه لإبراهيم، فهيأه له، وعرفه إياه ليبنيه في محله، وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن أول من بناه إبراهيم ولم يبن قبله. وظاهر قوله: حين ترك إسماعيل، وهاجر في مكة {رَّبَّنَآ إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ} يدل على أنه كان مبنياً، واندرس، كما يدل عليه قوله هنا {مَكَانَ ٱلْبَيْتِ} لأنه يدل على أن له مكاناً سابقاً، كان معروفاً. والله أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ} متعلق بمحذوف، وقد دلت على تقدير المحذوف المذكور آية البقرة وهي قوله تعالى {وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ} فدلت آية البقرة المذكورة على أن معنى آية الحج هذه {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ} وعهدنا إليه: أي أوصيناه، أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين، وزادت آية البقرة: أن إسماعيل مأمور بذلك أيضاً مع أبيه إبراهيم، وإذا عرفت أن المعنى: وعهدنا إلى إبراهيم ألا تشرك بي شيئاً، وطهر بيتي. الآية.
فاعلم أن في «أَنْ» وجهين:
أحدهما: أنها هي المفسرة، وعليه فتطهير البيت من الشرك، وغيره هو تفسير العهد إلى إبراهيم: أي والعهد هو إيصاؤه بالتطهير المذكور.
والثاني: أنها مصدرية بناء على دخول «أن» المصدرية على الأفعال الطلبية.
فإنْ قيل: كيف تكون مفسرة للعهد إلى إبراهيم، وهو غير مذكور هنا؟
فالجواب: أنه مذكور في سورة البقرة في المسألة بعينها، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فالمذكور هناك كأنه مذكور هنا، لأن كلام الله يصدق بعضه بعضاً، والتطهير هنا في قوله {طَهِّرَا بَيْتِىَ} يشمل التطهير المعنوي والحسي، فيطهره الطهارة الحسية من الأقذار، والمعنوية: من الشرك والمعاصي، ولذا قال {لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئ} وكانت قبيلة جرهم تضع عنده الأصنام تعبدها من دون الله، وقد قدمنا في سورة الإسراء الكلام مستوفى فيما كان عند الكعبة من الأصنام عام الفتح، وطهرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنجاس الأوثان وأقذارها. كما أمر الله بذلك إبراهيم هنا وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ} والمراد بالطائفين في هذه الآية: الذين يطوفون حول البيت، والمراد بالقائمين والركع السجود: المصلون أي طهر بيتي للمتعبدين، بطواف، أو صلاة، والركع: جمع راكع، والسجود: جمع ساجد.
وقوله تعالى في هذه الآية {لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئ} لفظة «شَيْئاً» مفعول به: للا تشرك: أي لا تشرك بي من الشركاء كائناً ما كان، ويحتمل أن تكون ما ناب عن المطلق، من لا تشرك: أي لا تشرك بي شيئاً من الشرك، لا قليلاً، ولا كثيراً.
فالمعنى على هذا: لا تشرك بي شركاً قليلاً، ولا كثيراً، وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص، وابن عامر في رواية هشام. بيتي بفتح الياء، وقرأ باقي السبعة بإسكانها.
واعلم أن المؤرخين لهم كلام كثير في قصة بناء إبراهيم، وإسماعيل للبيت، ومن جملة ما يزعمون، أن البيت الحرام رفعه الله إلى السماء أيام الطوفان، وأنه كان من ياقوتة حمراء ودرج على ذلك ناظم عمود النسب فقال: ودلت ابراهيم مزنة عليه فهي على قدر المساحة تريه
وقيل دلته خجوج كنست ما حوله حتى بدا ما أسست
قبل الملائك من البناء قبل ارتفاعه إلى السماء

ومعلوم أن هذا ونحوه شبيه بالإسرائيليات لا يصدق منه إلا ما قام دليل من كتاب، أو سنة على صدقه، ولذلك نقلل من ذكر مثل ذلك في الغالب.
مسألة
يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أنه لا يجوز أن يترك عند بيت الله الحرام قذر من الأقذار، ولا نجس من الأنجاس المعنوية، ولا الحسية، فلا يترك فيه أحد يرتكب ما لا يرضي الله، ولا أحد يلوثه بقذر من النجاسات.
ولا شك أن دخول المصورين في المسجد الحرام حول بيت الله الحرام بآلات التصوير يصورون بها الطائفين والقائمين والركع السجود: أن ذلك مناف لما أمر الله به من تطهير بيته الحرام للطائفين والقائمين والركع السجود، فانتهاك حرمة بيت الله بارتكاب حرمة التصوير عنده لا يجوز. لأن تصوير الإنسان دلت الأحاديث الصحيحة على أنه حرام، وظاهرها العموم في كل أنواع التصوير. ولا شك أن ارتكاب أي شيء حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من الأقذار، والأنجاس المعنوية التي يلزم تطهير بيت الله منها. وكذلك ما يقع في المسجد من الكلام المخل بالدين والتوحيد لا يجوز إقرار شيء منه، ولا تركه.
ونرجو الله لنا ولمن ولاه الله أمرنا، ولإخواننا المسلمين التوفيق إلى ما يرضيه في حرمه، وسائر بلاده، إنه قريب مجيب.
قوله تعالى: {وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ}. الأذان في اللغة: الإعلام: ومنه قوله تعالى {وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلاٌّكْبَرِ} وقول الحرث بن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء رب ثاوٍ يمل منه الثواء
والحج في اللغة: القصد، وكثرة الاختلاف، والتردد: تقول العرب: حج بنو فلان فلاناً: إذا قصدوه، وأطالوا الاختلاف إليه، والتردد عليه. ومنه قول المخبل السعدي: ألم تعلمي يا أم أسعد أنما تخاطأني ريب المنون لأكبرا
وأشهد من عوق حلولاً كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا

قوله: يحجون يعني: يكثرون قصده، والاختلاف إليه، والتردد عليه. والسب بالكسر: العمامة. وعنى بكونهم يحجون عمامته: أنهم يحجونه، فكنى عنه بالعمامة. والرجال في الآية: جمع راجل، وهو الماشي على رجليه، والضامر: البعير ونحوه. المهزول: الذي أتعبه السفر. وقوله «يَأْتِينَ» يعني: الضوامر المعبر عنها بلفظ كل ضامر، لأنه في معنى: وعلى ضوامر يأتين من كل فج عميق، لأن لفظة «كُلِّ» صيغة عموم، يشمل ضوامر كثيرة: والفج: الطريق، وجمعه: فجاج: ومنه قوله تعالى {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} والعميق: البعيد، ومنه قول الشاعر: إذا الخيل جاءت من فجاجٍ عميقة يمد بها في السير أشعث شاحب

وأكثر ما يستعمل العمق في البعد سفلاً، تقول: بئر عميقة: أي بعيدة القعر: والخطاب في قوله {وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ} لإبراهيم كما هو ظاهر من السياق. وهو قول الجمهور، خلافاً لمن زعم أن الخطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم، وعلى إبراهيم وسلم، وممن قال بذلك: الحسن، ومال إليه القرطبي، فقوله تعالى {وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ} أي وأمرنا إبراهيم أن أذن في الناس بالحج: أي أعلمهم، وناد فيهم بالحج: أي بأن الله أوجب عليهم حج بيته الحرام.
وذكر المفسرون أنه لما أَمره ربه، أن يأذن في الناس بالحج قال: يا رب، كيف أبلغ الناس، وصوتي لا ينفذهم، فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه. وقيل: على الحجر. وقيل: على الصفا. وقيل: على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت، حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك.
قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر هذا الكلام: هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف والله أعلم، وأوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة.انتهى منه.
وقوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَال} مجزوم في جواب الطلب، وهو عند علماء العربية مجزوم بشرط مقدر، دل عليه الطلب على الأصح: أي إن تؤذن في الناس بالحج يأتوك. وإنما قال «يَأْتُوكَ» لأن المدعو يتوجه نحو الداعي، وإن كان إتيانهم في الحقيقة للحج، لأن نداء إبراهيم للحج: أي يأتوك ملبين دعوتك، حاجين بيت الله الحرام، كما ناديتهم لذلك، وعلى قول الحسن الذي ذكر عنه: أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
ففي هذه الآية دليل على وجوب الحج، وعلى قول الجمهور، فوجوب الحج بها على هذه الأمة، مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا، كما أوضحناه في سورة المائدة، مع أنه دلت آيات أخر، على أن الإيجاب المذكور على لسان إبراهيم وقع مثله أيضاً على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ} وقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وقوله تعالى: {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية. وقوله: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ}. قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء. إلى أن الحج ماشياً لمن قدر عليه أفضل من الحج راكباً، لأنه قدمهم في الذكر، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم: وقال وكيع، عن أبي العميس، عن أبي حلحلة، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس قال: ما آسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشياً، لأن الله يقول {يَأْتُوكَ رِجَال}.
والذي عليه الأكثرون: أن الحج راكباً أفضل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حج راكباً مع كمال قوته صلى الله عليه وسلم. انتهى منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: اعلم أنه قد تقرر في الأصول: أن منشأ الخلاف في هذه المسألة، التي هي: هل الركوب في الحج. أفضل، أو المشي؟ ونظائرها كون أفعال النَّبي صلى الله عليه وسلم بالنظر إلى الجبلة والتشريع ثلاثة أقسام:
القسم الأول: هو الفعل الجبلي المحض: أعني الفعل الذي تقتضيه الجبلة البشرية بطبيعتها، كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب، فإن هذا لم يفعل التشريع والتأسي، فلا يقول أحد: أنا أجلس وأقوم تقرباً لله، واقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يقوم ويجلس لأنه لم يفعل ذلك للتشريع والتأسي. وبعضهم يقول: فعله الجبلي يقتضي الجواز، وبعضهم يقول: يقتضي الندب. والظاهر ما ذكرنا من أنه لم يفعل للتشريع، ولكنه يدل على الجواز. القسم الثاني: هو الفعل التشريعي المحض. وهو الذي فعل لأجل التأسي، والتشريع كأفعال الصلاة، وأفعال الحج مع قوله: «صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي». وقوله: «خذوا عني مناسكم».
القسم الثالث: وهو المقصود هنا هو الفعل المحتمل للجبلي والتشريعي. وضابطه: أن تكون الجبلة البشرية تقضيه بطبيعتها، ولكنه وقع متعلقاً بعبادة بأن وقع فيها، أو في وسيلتها كالركوب في الحج، فإن ركوبه صلى الله عليه وسلم في حجه محتمل للجبلة، لأن الجبلة البشرية تقتضي الركوب، كما كان يركب صلى الله عليه وسلم في أسفاره غير متعبد بذلك الركوب، بل لاقتضاء الجبلة إياه: ومحتمل للشرعي لأنه صلى الله عليه وسلم فعله في حال تلبسه بالحج وقال: «خذوا عني مناسككم». ومن فروع هذه المسألة: جلسة الاستراحة في الصلاة والرجوع من صلاة العيد في طريق أخرى غير الذي ذهب فيها إلى صلاة العيد. والضجعة على الشق الأيمن، بين ركعتي الفجر، وصلاة الصبح، ودخول مكة من كداء بالفتح والمد، والخروج من كدى بالضم والقصر. والنزول بالمحصب بعد النفر من مِنًى ونحو ذلك.
ففي كل هذه المسائل خلاف بين أهل العلم لاحتمالها للجبلي والتشريعي. وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله: وفعله المركوز في الجبلة كالأكل والشرب فليس مله
من غير لمح الوصف والذي احتمل شرعاً ففيه قل تردد حصل
فالحج راكباً عليه يجري كضجعةٍ بعد صلاة الفجر

ومشهور مذهب مالك: أن الركوب في الحج أفضل، إلا في الطواف والسعي، فالمشي فيهما واجب.
وقال سند واللخمي من المالكية: إن المشي أفضل للمشقة، وركوبه صلى الله عليه وسلم جبلي لا تشريعي.
وما ذكرنا عن مالك من أن الركوب في الحج أفضل من المشي، هو قول أكثر أهل العلم، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي وغيرهما.
قال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا أن الركوب أفضل. قال العبدري: وبه قال أكثر الفقهاء، وقال داود: ماشياً أفضل، واحتج بحديث عائشة: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «ولكنَّها على قدر نفقتكِ أو نصبكِ» رواه البخاري ومسلم، وفي رواية صحيحة «على قدر عنائكِ ونصبك» وروى البيهقي بإسناده، عن ابن عباس قال: ما آسى على شيء ما آسى أني لم أحج ماشياً، وعن عبيد بن عمير قال ابن عباس: ما ندمت على شيء فاتني في شبابي، إلا أني لم أحج ماشياً، ولقد حج الحسن بن علي خمساً وعشرين حجة ماشياً. وإن النجائب لتقاد معه، ولقد قاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات، حتى كان يعطي الخف، ويمسك النعل. انتهى محل الغرض منه، والحديث المرفوع عن ابن عباس في فضل الحج ماشياً: ضعيف، وحديث عائشة المتفق عليه الذي أشار إليه النووي يقوي حجة من قال: بأن المشي في الحج أفضل من الركوب، لأنه أكثر نصباً وعناء. ولفظ البخاري «ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك» ولفظ مسلم «ولكنها على قدر نصبك» أو قال «نفقتك» والنصب:
التعب، والمشقة.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: قد دل الكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين: على وجوب الحج مرة واحدة في العمر، وهو إحدى الدعائم الخمس، التي بني عليها الإسلام إجماعاً.
أما دليل وجوبه من كتاب الله: فقوله تعالى {وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ}.
وأما السنة فالأحاديث في ذلك كثيرة، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ قال «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا»، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تَرَكْتُكُم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» انتهى منه.
ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا»، ونحوه أخرجه الإمام أحمد والنسائي، واستدل بهذا الحديث على أن الأمر المجرد من القرائن، لا يقتضي التكرار كما هو مقرر في الأصول.
والدليل على أنه إحدى الدعائم الخمس التي بني عليها الإسلام: حديث ابن عمر المتفق عليه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بني الإسلام على خمس: شهادة أنْ لا إلٰه إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» هذا لفظ البخاري.
وقد وردت في فضل الحج والترغيب فيه أحاديث كثيرة: فمن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال «إيمان بالله ورسوله قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا؟ قال: حج مبرور» متفق عليه. وعنه رضي الله عنه أيضاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» متفق عليه أيضاً: وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما: والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» متفق عليه أيضاً، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: «لكن أفضل من الجهاد: حج مبرور» رواه البخاري: وعنها أيضاً رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء» أخرجه مسلم بهذا اللفظ. والأحاديث في الباب كثيرة. وفضل الحج وكونه من الدعائم الخمس معروف.
واعلم: أن وجوب الحج المذكور تشترط له شروط: وهي: العقل، والبلوغ، والإسلام، والحرية، والاستطاعة. ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم، أما العقل فكونه شرطاً في وجوب كل تكليف واضح، لأن غير العاقل لا يصح تكليفه بحال. وأما اشتراط البلوغ فواضح، لأن الصبي مرفوع عنه القلم، حتى يحتلم، فالبلوغ والعقل كلاهما: شرط وجوب وأما الإسلام: فالظاهر أنه على القول، بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فهو شرط صحة لا شرط وجوب، وعلى أنهم غير مخاطبين بها، فهو شرط وجوب، والأصح خطاب الكفار بفروع الشريعة كما أوضحنا أدلته في غير هذا الموضع، فيكون الإسلام شرط صحة في حقهم، ومعلوم أنه على أنه شرط وجوب، فهو شرط صحة أيضاً، لأن بعض شروط الوجوب، يكون شرطاً في الصحة أيضاً: كالوقت للصلاة. فإنه شرط لوجوبها وصحتها أيضاً، وقد يكون شرط الوجوب ليس شرطاً في الصحة كالبلوغ، والحرية، فإن الصبي لا يجب عليه الحج، مع أنه يصح منه لو فعله، وكذلك العبد إلا أنه لا يجزىء عن حجة الإسلام، إلا إذا كان كان بعد البلوغ وبعد الحرية. وأما الحرية: فهي شرط وجوب، فلا يجب الحج على العبد، واستدل العلماء على عدم وجوب الحج على العبد بأمرين:
الأول: إجماع أهل العلم على ذلك. ولكنه إذا حج صح حجه، ولم يجزئه عن حجة الإسلام، فإن عتق بعد ذلك فعليه حجة الإسلام.
قال النووي في شرح المهذب: أجمعت الأمة على أن العبد لا يلزمه الحج، لأن منافعه مستحقة لسيده، فليس هو مستطيعاً. ويصح منه الحج بإذن سيده، وبغير إذنه بلا خلاف عندنا. قال القاضي أبو الطيب: وبه قال الفقهاء كافة، وقال داود: لا يصح بغير إذنه انتهى محل الغرض منه.
الأمر الثاني: حديث جاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك: وهو أنه صلى الله عليه وسلم جاء عنه من حديث ابن عباس أنه قال: «أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام» قال ابن حجر في التلخيص في هذا الحديث: رواه ابن خزيمة، والإسماعيلي في مسند الأعمش والحاكم، والبيهقي، وابن حزم، وصححه، والخطيب في التاريخ من حديث محمد بن المنهال، عن يزيد بن زريع، عن شعبة، عن الأعمش عن أبي ظبيان عنه قال ابن خزيمة: الصحيح موقوف، بل خرجه كذلك من رواية ابن أبي عدي عن شعبة، وقال البيهقي: تفرد برفعه محمد بن المنهال، ورواه الثوري عن شعبة موقوفاً.
قلت: لكن هو عند الإسماعيلي، والخطيب، عن الحارث بن سريح، عن يزيد بن زريع متابعة لمحمد بن المنهال. ويؤيد صحة رفعه ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: نا أبو معاوية، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: احفظوا عني ولا تقولوا: قال ابن عباس. فذكره، وهذا ظاهر أنه أراد أنه مرفوع، فلذا نهاهم عن نسبته إليه. وفي الباب عن جابر أخرجه ابن عدي بلفظ «لو حج صغير حجة لكانت عليه حجة إذا بلغ» الحديث، وسنده ضعيف، وأخرجه أبو داود في المراسيل عن محمد بن كعب القرظي نحو حديث ابن عباس مرسلاً، وفيه راو مبهم انتهى من التلخيص.
وقال البيهقي في سننه: وأخبرنا أبو الحسن المقري: ثنا الحسن بن محمد بن إسحاق: ثنا يوسف بن يعقوب: ثنا محمد بن المنهال: ثنا يزيد بن زريع ثنا شعبة عن سليمان الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى» ثم ساق الحديث بسند آخر موقوفاً على ابن عباس، وسكت ولم يبين هل الموقوف أصح أو المرفوع؟ وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث:
رواه البيهقي في الباب الأول من كتاب الحج بإسناد جيد؟ ورواه أيضاً موقوفاً، ولا يقدح ذلك فيه. ورواية المرفوع قوية، ولا يضر تفرد محمد بن المنهال بها، فإنه ثقة مقبول ضابط. روى عنه البخاري ومسلم في صحيحيهما ا هـ.
وقد علمت من كلام ابن حجر: أن ابن المنهال تابعه على رفع الحديث المذكور الحارث بن سريج فقد زال التفرد. والظاهر: أن الحارث المذكور هو ابن سريج النقال، ولا يحتج به لضعفه. وبما ذكرنا تعلم أن الحديث المذكور لا يقل عن درجة الاحتجاج، ووجه الدلالة منه، على أن الحرية شرط في وجوب الحج أنه لو حج وهو مملوك ثم أعتق بعد ذلك لزمته حجة الإسلام، فلو كان واجباً عليه في حال كونه مملوكاً أجزأه حجة عن حجة الإسلام كما هو ظاهر، والعلم عند الله تعالى.
وقال أبو عيسى الترمذي رحمه الله ما نصه:
وقد أجمع أهل العلم: أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك، فعليه الحج، إذا أدرك لا تجزىء عنه تلك الحجة عن حجة الإسلام، وكذلك المملوك إذا حج في رقه ثم أعتق فعليه الحج إذا وجد إلى ذلك سبيلاً، ولا يجزىء عنه ما حج في حال رقه، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق.
وأما الاستطاعة: فقد نص تعالى على اشتراطها في قوله: {وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيل} ومعنى الاستطاعة في اللغة العربية معروف، وتفسير الاستطاعة في الآية اختلف فيه العلماء.
فالاستطاعة في مشهور مذهب مالك الذي به الفتوى: هي إمكان الوصول، بلا مشقة عظيمة زائدة على مشقة السفر العادية، مع الأمن على النفس، والمال. ولا يشترط عندهم الزاد والراحلة، بل يجب الحج عندهم على القادر على المشي، إن كانت له صنعة يحصل منها قوته في الطريق: كالجمال، والخراز، والنجار، ومن أشبههم.
قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره: ووجب باستطاعة بإمكان الوصول، بلا مشقة عظمت، وأمن على نفس، ومال ما نصه: وقال مالك في كتاب محمد، وفي سماع أشهب لما سئل عن قوله تعالى {مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيل} أذلك الزاد، والراحلة؟ قال: لا والله، ما ذلك إلا طاقة الناس، الرجل يجد الزاد والراحلة، ولا يقدر على المسير، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه ولا صفة في هذا أبين مما قال الله تعالى {مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيل} وزاد في كتاب محمد: وربَّ صغير أجلد من كبير، ونقل في المقدمات كلام مالك ثم قال بعده: فمن قدر على الوصول إلى مكة، إما راجلاً بغير كبير مشقة، أو راكباً بشراء أو كراء. فقد وجب عليه الحج، ونقله في التوضيح. انتهى من الحطاب.
واعلم: أن بعض المالكية يشترطون في الصنعة المذكورة، ألا تكون مرزية به.
واعلم أن المالكية: اختلفوا في الفقير الذي عادته سؤال الناس في بلده، وعادة الناس إعطاؤه، وذلك السؤال هو الذي منه عيشته إذا علم أنه إن خرج حاجاً، وسأل أعطاه الناس ما يعيش به، كما كانوا يعطونه في بلده، هل سؤاله الناس وإعطاؤهم إياه يكون بسببه مستطيعاً لقدرته على الزاد بذلك، فيجب عليه الحج بذلك، أو لا يجب عليه بذلك؟
فذهب بعضهم: إلى أن ذلك لا يجب عليه به الحج، ولا يعد استطاعة، وبهذا القول جزم خليل بن إسحاق رحمه الله في مختصره الذي قال في ترجمته مبيناً لما به الفتوى، وذلك في قوله: فيما لا تحصل به الاستطاعة لا بدين أو عطية أو سؤال مطلقاً.
ومعنى كلامه: أن من لم يمكنه الوصول إلى مكة، إلا بتحمل دين في ذلك، أو قبول عطية ممن أعطاه مالاً أو سؤال الناس مطلقاً، أنه لا يعد بذلك مستطيعاً، ولا يجب عليه الحج، وقوله: أو سؤال مطلقاً يعني بالإطلاق، سواء كان السؤال عادته في بلده أو لا وسواء كانت عادة الناس إعطاءه أو لا، أما إذا كانت عادة الناس عدم إعطائه، فالحج حرام عليه، لأنه إلقاء باليد إلى التهلكة، سواء كان السؤال عادته في بلده أو لا، وأما إن كانت عادة الناس إعطاءه، ولم يكن السؤال عادته في بلده، فلا خلاف في أنه لا يعد مستطيعاً ولا يجب عليه الحج، وأما إن كانت عادته السؤال في بلده، ومنه عيشته، وعادة الناس إعطاؤه، فهو محل الخلاف، وقد ذكرنا آنفاً قول خليل في مختصره: أنه لا يجب عليه الحج، ولا يعد مستطيعاً بسؤال الناس، وذلك في قوله: أو بسؤال مطلقاً، وقال الشيخ المواق في شرحه لقول خليل: وسؤال مطلقاً، وقال خليل في منسكه: وظاهر المذهب أنه لا يجب على من عادته السؤال، إذا كانت العادة إعطاءه، ويكره له المسير، فإن لم تكن عادته السؤال، أو لم تكن العادة إعطاءه سقط الحج بالاتفاق، وقال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل: أو سؤال مطلقاً ما نصه: وأما الصورة الرابعة: وهي، ما إذا كانت عادته في بلده السؤال، ومنه عيشه والعادة إعطاؤه، فقال المصنف في توضيحه ومنسكه: إن ظاهر المذهب أنه لا يجب عليه الحج، ويكره له الخروج، وجزم به هنا، وقال في الشامل: إنه المشهور وأقر في شروحه كلام المؤلف على إطلاقه، وكذلك البساطي والشيخ زروق، ولم ينبه عليه ابن غازي. انتهى محل الغرض منه، وقال الحطاب أيضاً: وذكر ابن الحاجب القولين من غير ترجيح، وقبلهما ابن عبد السلام، والمصنف في التوضيح وابن فرجون، وصاحب الشامل، ومن بعدهم، ورجحوا القول بالسقوط، وصرح بعضهم بتشهيره، وكذلك شراح المختصر ا هـ محل الغرض منه.
ومعنى قوله: ورجحوا القول بالسقوط يعني: سقوط وجوب الحج عن عادته السؤال والإعطاء.
القول الثاني من قولي المالكية: أن الفقير الذي عادته السؤال في بلده وعادة الناس إعطاءه، إذا كانت عادتهم إعطاءه في سفر الحج كما كانوا يعطونه في بلده، أنه يعد بذلك مستطيعاً، وأَن تحصيله زاده بذلك السؤال، يعد استطاعة، وعلى هذا القول أَكثر المالكية.
وقال الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره: أو سؤال مطلقاً بعد أن ذكر القول بأن ذلك السؤال والإعطاء، لا يعد استطاعة، ولا يجب به الحج، بل يكره الخروج في تلك الحال ما نصه:
قلت: ونصوص أهل المذهب التي وقفت عليها مصرحة بخلاف ذلك، وأن الحج واجب على من عادته السؤال، إذا كانت العادة إعطاءه، ثم سرد كثيراً من نقول علماء المالكية مصرحة بوجوب الحج عليه، وأهل هذا القول من علماء المالكية، وهم الأكثرون ـ وجهوه بأنه محمول على الفقير الذي يباح له السؤال لعدم قدرته على كسب ما يعيش به، وأَن ذلك السؤال لما كان جائزاً له، وصار عيشه منه في الحضر، فهو بذلك السؤال والإعطاء قادر على الوصول إلى مكة. قالوا: ومن قدر على ذلك بوجه جائز لزمه الحج.
قال مقيده، عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي رجحانه بالدليل من قولي المالكية في هذه المسألة: هو القول الأول، وهو أن الحج لا يجب على من يعيش في طريقه بتكفف الناس، وأن سؤال الناس لا يعد استطاعة.
ومن الأدلة الدالة على ذلك عموم قوله جل وعلا {وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ}. وقد قدمنا في هذا الكتاب المبارك مراراً: أن العبرة بعموم الألفاظ، لا بخصوص الأسباب، وبينا أدلة ذلك من السنة الصحيحة، فقد صرح تعالى في هذه الآية الكريمة، برفع الحرج عن الذين لا يجدون ما ينفقون. ولا شك أن الذي يتكفف الناس لشدة فقره، داخل في عموم الذين لا يجدون ما ينفقون. وقد صرح تعالى بنفي الحرج عنهم، فيلزم من ذلك نفي الحرج عنه في وجوب الحج، وهو واضح. وقد استدل الشيخ ابن القاسم رحمه الله بهذه الآية المذكورة على ما ذكرنا.
ولكن كثيراً من متأخري علماء المالكية حملوا قول ابن القاسم الذي احتج عليه بالآية المذكورة، على من ليس عادته السؤال في بلده، قالوا: فلم يتناول قوله محل النزاع.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ظاهر الآية الكريمة العموم في جميع الذين لا يجدون ما ينفقون، فتخصيصها بمن ليس عادته السؤال، بدون دليل من كتاب، أو سنة لا يصح ولا يعول عليه. وقد تقرر في الأصول أنه لا يمكن تخصيص العام إلا بدليل يجب الرجوع إليه. سواء كان من المخصصات المتصلة، أو المنفصلة.
ومما يؤيد هذا في الجملة ما ثبت في صحيح البخاري. حدثنا يحيى بن بشر، حدثنا شبابة، عن ورقاء، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل اليمن يحجُّون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا المدينة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ} ورواه ابن عيينة، عن عكرمة مرسلاً. انتهى من صحيح البخاري.
وقال ابن حجر في الفتح في الكلام على هذا الحديث: قال المهلب: في هذا الحديث من الفقه: أن ترك السؤال من التقوى، ويؤيده أن الله مدح من لم يسأل الناس إلحافاً، فإن قوله {فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ} أي تزودوا، واتقوا أذى الناس بسؤالكم إياهم والإثم في ذلك. انتهى محل الغرض منه.
وفيه دليل ظاهر: على حرمة خروج الإنسان حاجاً، بلا زاد، ليسأل الناس وظاهرها العموم في كل حاج يسأل الناس فقيراً كان، أو غنياً كانت عادته السؤال في بلده أو لا، وحمل النصوص على ظواهرها واجب إلا بدليل يجب الرجوع إليه، ومما يؤيد هذا أن الذين مدحهم الله في كتابه، بتركهم سؤال الناس، كانوا من أفقر الفقراء كما هو معلوم، وقد صرح تعالى بأنهم فقراء وأشار لشدة فقرهم، وذلك في قوله تعالى {لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى ٱلاٌّرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَـٰهُمْ لاَ يَسْألُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافً} فصرح بأنهم فقراء وأثنى عليهم بالتعفف وعدم السؤال.
ووجه إشارة الآية، إلى شدة فقرهم، هو ما فسرها به بعض أهل العلم، من أن معنى قوله {تَعْرِفُهُم بِسِيمَـٰهُمْ} أي بظهور آثار الفقر والحاجة عليهم.
وقال ابن جرير في تفسيره، بعد أن ذكر القول: بأن المراد بسيماهم: علامة فقرهم من ظهور آثار الجوع، والفاقة عليهم، والقول الآخر: أن المراد بسيماهم: علامتهم التي هي: التخشع، والتواضع ما نصه:
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم، وآثار الحاجة فيهم. انتهى محل الغرض منه.
وقال صاحب الدر المنثور في التفسير بالمأثور: وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع {تَعْرِفُهُم بِسِيمَـٰهُمْ} يقول: تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة. وأخرج بن جرير، عن ابن زيد {تَعْرِفُهُم بِسِيمَـٰهُمْ} قال: رثاثة ثيابهم. انتهى. ومثل هذا كثير في كلام المفسرين.
فالآية الكريمة: تدل بمنطوقها على الثناء على الفقير الصابر المتعفف عن مسألة الناس، وتدل بمفهومها على ذم سؤال الناس، والأحاديث الواردة في ذم السؤال مطلقاً كثيرة جداً. وبذلك كله: تعلم أن سؤال الناس ليس استطاعة على ركن من أركان الإسلام، وأن قول بعض المالكية: إنه لا يعد استطاعة هو الصواب. وهو قول جمهور أهل العلم. وممن ذهب إليه: الشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة، ونقله ابن المنذر عن الحسن البصري، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأحمد، وإسحاق. وبه قال بعض أصحاب مالك. قال البغوي: وهو قول العلماء ا هـ.
قاله النووي. والاستطاعة عند أبي حنيفة. الزاد، والراحلة. فلو كان يقدر على المشي، وعادته سؤال الناس، لم يجب عليه الحج عنده كما قدمناه قريباً.
والاستطاعة في مذهب الشافعي: الزاد والراحلة، بشرط أن يجدهما بثمن المثل، فإن لم يجدهما إلا بأكثر من المثل سقط عنه وجوب الحج. ويشترط عند الشافعية أيضاً: وجود الماء في أماكن النزول، وهذا شرط لا ينبغي أن يختلف فيه، لأنه إن لم يجد الماء هلك، ويشترط عند الشافعية أيضاً: أن يكون صحيحاً لا مريضاً، ولا ينبغي أن يختلف في أن المرض القوي الذي يشق معه السفر مشقة فادحة. مسقط لوجوب الحج.
ويشترط عند الشافعي أيضاً: أن يكون الطريق آمناً من غير خفارة. والخفارة مثلثة الخاء: هي المال الذي يؤخذ على الحاج. ويشترط عند الشافعي أيضاً: أن يكون عليه من الوقت، ما يتمكن فيه من السير والأداء. وهذه الشروط في المستطيع بنفسه لا فيما يسمونه المستطيع بغيره، فإن كان بينه، وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة وكان قادراً على المشي على رجليه، ولم يجد راحلة، أو وجدها بأكثر من ثمن المثل، أو أجرة المثل. لم يجب عليه الحج عندهم، ولا يعد قدرته على المشي استطاعة عندهم، لحديث: الزاد والراحلة في تفسير الاستطاعة، وإن لم يجد ما يصرفه في الزاد والماء، ولكنه كسوب ذو صنعة يكتسب بصنعته ما يكفيه، ففي ذلك عند الشافعي تفصيل حكاه إمام الحرمين عن العراقيين من الشافعية، وهو: أنه إن كان لا يكتسب في اليوم إلا كفاية يوم واحد. لم يجب عليه الحج: لأنه ينقطع عن الكسب في أيام الحج، وإن كان يكتسب في اليوم كفاية أيام لزمه الحج. قال الإمام: وفيه احتمال، فإن القدرة على الكسب يوم العيد، لا تجعل كملك الصاع في وجوب الفطرة، هكذا ذكره الإمام وحكاه الرافعي، وسكت عليه انتهى من النووي، ومراده بالإمام: إمام الحرمين.
وقوله: وفيه احتمال يعني: أنه يحتمل عدم وجوب الحج بذلك مطلقاً.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وهذا الذي ذكره مبني على القاعدة المعروفة المختلف فيها: وهي هل القدرة على التحصيل بمنزلة التحصيل أولاً، والأظهر أن القدرة على التحصيل بمنزلة التحصيل بالفعل. والعلم عند الله تعالى.
والاستطاعة عند أحمد وأصحابه: هي الزاد والراحلة. قال ابن قدامة في المغني: والاستطاعة المشترطة: ملك الزاد والراحلة، وبه قال الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والشافعي، وإسحاق. قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم. وقال عكرمة: هي الصحة. انتهى محل الغرض منه.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في معنى الاستطاعة المذكورة في قوله تعالى: {مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيل} فهذه أدلتهم.
أما الأكثرون الذين فسروا الاستطاعة: بالزاد والراحلة، فحجتهم الأحاديث الواردة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، بتفسير الاستطاعة في الآية: بالزاد والراحلة. وقد روي عنه ذلك من حديث ابن عمر، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث أنس، ومن حديث عائشة، ومن حديث جابر، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ومن حديث ابن مسعود ا هـ.
أما حديث ابن عمر فقد أخرجه الترمذي، وابن ماجه من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي، عن ابن عمر وقال الترمذي بعد أن ساقه: هذا حديث حسن والعمل عليه عند أهل العلم: أن الرجل إذا ملك زاداً وراحلة وجب عليه الحج. وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي المكي، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. انتهى من الترمذي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: تحسين الترمذي رحمه الله لهذا الحديث لا وجه له. لأن إبراهيم الخوزي المذكور متروك لا يحتج بحديثه، كما جزم به غير واحد. وقد نقل الزيلعي في نصب الراية عن الترمذي: أنه لما ساق الحديث المذكور، قال فيه: حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي. وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه ا هـ.
ومقتضى ما نقل الزيلعي عنه أنه لم يحسنه، وإنما وصفه بالغرابة، وهذا الذي ذكره الزيلعي ذكره الترمذي في موضع آخر، وقد علمت أن إبراهيم الخوزي لا يحتج به. فلا يكون حديث هو في إسناده حسناً.
قال صاحب نصب الراية: وله طريق آخر عند الدارقطني في سننه أخرجه محمد بن الحجاج المصفر، ثنا جرير بن حازم، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن ابن عمر مرفوعاً، ومحمد بن الحجاج المصفر ضعيف ا هـ. وهو كما قال الزيلعي ضعيف. قال في الميزان فيه: روى عباس، عن يحيى ليس بثقة. وقال أحمد: قد تركنا حديثه. وقال البخاري عن شعبة: سكتوا عنه، وقال النسائي: متروك. ثم ذكر بعض عجائبه وعلى كل حال فهو لا يحتج به.
واعلم: أن إبراهيم بن يزيد الخوزي كما تابعه في هذه الرواية جرير بن حازم من طريق محمد بن الحجاج المصفر الذي ذكرنا آنفاً، أنه لا يحتج به، فقد تابعه أيضاً فيها غيره من الضعفاء.
قال الزيلعي في نصب الراية بعد أن ذكر حديث إبراهيم الخوزي المذكور، عند الترمذي، وابن ماجه: ورواه الدارقطني، ثم البيهقي في سننهما.
قال الدارقطني: وقد تابع إبراهيم بن يزيد عليه محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، فرواه عن محمد بن عباد، عن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم كذلك انتهى. وهذا الذي أشار إليه رواه ابن عدي في الكامل وأعله بمحمد بن عبد الله الليثي، وأسند تضعيفه عن النسائي، وابن معين ثم قال: والحديث معروف بإبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو من هذه الطريق غريب. ثم ذكر عن البيهقي تضعيف إبراهيم المذكور. قال: وروي من أوجه أخر كلها ضعيفة. وروي عن ابن عباس من قوله: ورويناه من أوجه صحيحة، عن الحسن عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وفيه قوة لهذا السند انتهى. ثم قال الزيلعي بعد هذا الكلام الذي نقلناه عنه: قال الشيخ في الإمام قوله: فيه قوة فيه نظر. لأن المعروف عندهم: أن
الطريق إذا كان واحداً، ورواه الثقات مرسلاً، وانفرد ضعيف برفعه، أن يعللوا المسند بالمرسل، ويحملوا الغلط على رواية الضعيف. فإذا كان ذلك موجباً لضعف المسند، فكيف يكون تقوية له ا هـ. وهو كما قال: كما هو معروف في الأصول وعلم الحديث. ثم قال الزيلعي: قال: يعني الشيخ في الإمام: والذي أشار إليه من قول ابن عباس: رواه أبو بكر بن المنذر، حدثنا علان بن المغيرة، ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: والمرسل رواه سعيد بن منصور في سننه، حدثنا هشام، ثنا يونس: عن الحسن قال: لما نزلت {وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيل} قال رجل: يا رسول الله، وما السبيل؟ قال صلى الله عليه وسلم «زاد وراحلة» انتهى.
حدثنا الهيثم، ثنا منصور، عن الحسن مثله.
حدثنا خالد بن عبد الله عن يونس عن الحسن مثله. قال: وهذه أسانيد صحيحة إلا أنها مرسلة. وقال ابن المنذر: لا يثبت الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة مسنداً والصحيح: رواية الحسن، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وأما المسند فإنما رواه إبراهيم بن يزيد، وهو متروك ضعفه ابن معين وغيره ا هـ من نصب الراية.
وبهذا تعلم: أن حديث ابن عمر المذكور لم يسند من وجه صحيح، ولم يثبت. لأن إبراهيم الخوزي متروك، ومحمد بن الحجاج المصفر الذي ذكرنا أن إبراهيم تابعه عليه جرير بن حازم من طريقه لا يحتج به، كما بيناه، وقد بينا أن متابعة محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، لا تقويه، لأنه ضعيف، ضعفه النسائي وأعل الحديث به ابن عدي في الكامل. وقال الذهبي في الميزان: ضعفه ابن معين، وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك. ا هـ منه.
وأما مرسل الحسن البصري المذكور، وإن كان إسناده صحيحاً إلى الحسن، فلا يحتج به، لأن مراسيل الحسن رحمه الله لا يحتج بها.
قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: وقال الدارقطني: مراسيل الحسن فيها ضعف. وقال في تهذيب التهذيب أيضاً: وقال محمد بن سعد: كان الحسن جامعاً عالماً رفيعاً فقيها ثقة، مأموناً، عابداً، ناسكاً، كثير العلم، فصيحاً، جميلاً، وسيماً، وكان ما أسند من حديثه. وروى عمن سمع منه، فهو حجة، وما أرسل فليس بحجة.
وقال صاحب تدريب الراوي، في شرح تقريب النواوي: وقال أحمد بن حنبل: مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن، وعطاء فإنهما كانا يأخذان عن كل واحد انتهى. ثم قال بعد هذا الكلام وقال العراقي: مراسيل الحسن عندهم شبه الريح، وعدم الاحتجاج بمراسيل الحسن هو المشهور عند المحدثين. وقال بعض أهل العلم: هي صحاح إذا رواها عنه الثقات. قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: وقال ابن المديني: مرسلات الحسن إذا رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما يسقط منها. وقال أبو زرعة: كل شيء يقول الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وجدت له أصلاً ثابتاً ما خلا أربعة أحاديث ا هـ.
فهذا هو جملة الكلام في حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم أنه فسر الاستطاعة: بالزاد والراحلة، وقد علمت أنه لم يثبت من وجه صحيح، بحسب صناعة علم الحديث، وأما حديث ابن عباس، فرواه ابن ماجه في سننه: حدثنا سويد بن سعيد، ثنا هشام بن سليمان القرشي، عن ابن جريج قال: وأخبرنيه أيضاً، عن ابن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الزاد والراحلة» يعني قوله {مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيل} وهذا الإسناد فيه هشام بن سليمان بن عكرمة بن خالد بن العاص القرشي المخزومي قال فيه: أبو حاتم مضطرب الحديث، ومحله الصدق، ما أرى به بأساً. وقال العقيلي في حديثه عن غير ابن جريج: وهم، وقال فيه ابن حجر في التقريب: مقبول ا هـ.
وقد أخرج له مسلم، وقال البخاري في صحيحه في البيوع: وقال لي إبراهيم بن المنذر: أنبأنا هشام، أخبرنا ابن جريج، سمعت ابن أبي مليكة، عن نافع مولى ابن عمر قال «أيما ثمرة بيعت، ثم أبرت» وذكر الحديث من قوله: وهذا يدل على أنه أيضاً من رجال البخاري. وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب بعد أن ذكر هذا الكلام الذي ذكرنا: وأما كون المتقدمين، لم يذكروه في رجال البخاري، فلأن البخاري لم يخرج له سوى هذا الموضع في المتابعات وأورده بألفاظ الشواهد. انتهى منه.
وبما ذكرنا: تعلم أن حديث ابن عباس هذا عن ابن ماجه لا يقل عن درجة الحسن، مع أنه معتضد بما تقدم، وبما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقال الزيلعي في نصب الراية: وأخرج حديث ابن عباس المذكور الدارقطني في سننه، عن داود بن الزبرقان، عن عبد الملك، عن عطاء عن ابن عباس، وأخرج أيضاً عن حصين بن المخارق، عن محمد بن خالد، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله الحج كل عام؟ قال «لا بل حجة»، قيل: «فما السبيل إليه؟ قال: الزاد والراحلة» انتهى.
ثم قال: وداود وحصين كلاهما ضعيفان ا هـ. وداود بن الزبرقان المذكور قال فيه ابن حجر في التقريب: متروك، وكذبه الأزدي، وحصين بن مخارق المذكور قال فيه الذهبي في الميزان: قال الدارقطني: يضع الحديث، ونقل ابن الجوزي أن ابن حبان قال: لا يجوز الاحتجاج به ا هـ.
وهذا حاصل ما في حديث ابن عباس المذكور. وأما حديث أنس فقد أخرجه الحاكم في المستدرك: حدثنا أبو بكر محمد بن حازم الحافظ بالكوفة، وأبو سعيد إسماعيل بن أحمد التاجر، قالا: ثنا علي بن عباس بن الوليد البجلي، ثنا علي بن سعيد بن مسروق الكندي، ثنا ابن أبي زائدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتاد، عن أنس رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في قوله تبارك وتعالى {وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيل} قال قيل:
يا رسول الله ما السبيل؟ قال «الزاد والراحلة» ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقد تابع حماد بن سلمة سعيداً على روايته، عن قتادة: حدثناه أبو نصر أحمد بن سهل بن حمدويه الفقيه ببخارى، ثنا صالح بن محمد بن حبيب الحافظ، ثنا أبو أمية عمرو بن هشام الحراني، ثنا أبو قتادة، ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله {مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيل} فقيل: ما السبيل؟ قال «الزاد والراحلة» ثم قال هذا حديث صحيح على شرط مسلم. ولم يخرجاه انتهى من المستدرك. وأقره على تصحيح الطريقين المذكورتين: الحافظ الذهبي، فحديث أنس هذا صحيح كما ترى، وقال صاحب نصب الراية: ورواه الدارقطني في سننه بالإسنادين ا هـ.
وأما حديث عائشة فقد قال صاحب نصب الراية: أخرجه الدارقطني في سننه عن عتاب بن أعين، عن سفيان الثوري، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أمه عن عائشة قالت: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى {وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيل} قال «السبيل: الزاد والراحلة» انتهى. رواه العقيلي في كتاب الضعفاء، وأعله بعتاب وقال: إن في حديثه وهماً. انتهى.
وقال البيهقي في كتاب المعرفة: وليس بمحفوظ، ثم أخرجه البيهقي، عن أبي داود الحفري، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن، قال: سئل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن السبيل؟ فقال «الزاد والراحلة» ا هـ.
وقد علمت مما ذكرنا: أن حديث عائشة المذكور أعله العقيلي بعتاب بن أعين، وقال: إن في حديثه وهماً، وأن البيهقي قال: ليس بمحفوظ. وقد قال الذهبي في الميزان في عتاب المذكور، قال العقيلي في حديثه وهم. روى عنه هشام بن عبيد الله حديثاً خولف في سنده. انتهى منه.
وأما مرسل الحسن الذي أشار له، فقد قدمنا الكلام عليه مستوفى قريباً.
وأما حديث جابر، فقد قال صاحب نصب الراية: أخرجه الدارقطني، عن محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبي الزبير أو عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بلفظ: حديث عائشة، ومحمد بن عبد الله بن عبيد الله الليثي تركوه، وأجمعوا على ضعفه، وقد تقدم وقد قدمنا أن محمداً المذكور لا يحتج به. وبهذا تعلم أن حديث جابر المذكور لا يصلح للاحتجاج.
وأما حديث ابن مسعود فقد قال صاحب نصب الراية: أخرجه الدارقطني، عن بهلول بن عبيد، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة عن عبد الله بن مسعود بنحوه. وبهلول بن عبيد، قال أبو حاتم: ذاهب الحديث ا هـ.
وقال الذهبي في الميزان: في بهلول المذكور، قال أبو حاتم: ضعيف الحديث ذاهب. وقال أبو زرعة: ليس بشيء وقال ابن حبان: يسرق الحديث. انتهى منه.
وبما ذكر تعلم أن حديث ابن مسعود المذكور، ليس بصالح للاحتجاج، وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، فقد قال صاحب نصب الراية أيضاً: أخرجه الدارقطني أيضاً، عن ابن لهيعة، ومحمد بن عبيد الله العرزمي، عن أبيه، عن جده بنحوه. وابن لهيعة والعرزمي ضعيفان. قال الشيخ في الإمام: وقد أخرج الدارقطني هذا الحديث، عن جابر، وأنس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن مسعود، وعائشة، وليس فيها إسناد يحتج به انتهى منه.
هذا هو حاصل روايات الأحاديث الواردة بتفسير السبيل في الآية: بالزاد، والراحلة. وقال غير واحد: إن هذا الحديث لا يثبت مسنداً، وأنه ليس له طريق صحيحة، إلا الطريق التي أرسلها الحسن.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن حديث الزاد والراحلة، المذكور ثابت لا يقل عن درجة الاحتجاج، لأن الطريقين اللتين أخرجهما به الحاكم في المستدرك عن أنس قال: كلتاهما صحيحة الإسناد، وأقر تصحيحهما الحافظ الذهبي، ولم يتعقبه بشيء والدعوى على سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة في روايتهما الحديث، عن أنس، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنها غلط، وأن الصحيح عن قتادة عن الحسن مرسلاً دعوى لا مستند لها، بل هي تغليط وتوهيم، للعدول المشهورين من غير استناد إلى دليل.
والصحيح عند المحققين من الأصوليين والمحدثين: أن الحديث إذا جاء من طريق صحيحة، وجاء من طرق أخرى غير صحيحة، فلا تكون تلك الطرق علة في الصحيحة، إذا كان رواتها لم يخالفوا جميع الحفاظ، بل انفراد الثقة العدل بما لم يخالف فيه غيره مقبول عند المحققين.
فرواية سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة: الحديث المذكور عن قتادة من أنس مرفوعاً لم يخالفوا فيها غيرهم، بل حفظوا ما لم يحفظه غيرهم، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، فادعاء الغلط عليهما بلا دليل غلط، وقول النووي في شرح المهذب، وروى الحاكم حديث أنس، وقال: وهو صحيح، ولكن الحاكم متساهل كما سبق بيانه مرات. والله أعلم.
يجاب عنه: بأنا لو سلمنا أن الحاكم متساهل في التصحيح، لا يلزم من ذلك أنه لا يقبل له تصحيح مطلقاً. ورب تصحيح للحاكم مطابق للواقع في نفس الأمر، وتصحيحه لحديث أنس المذكور لم يتساهل فيه، ولذا لم يبد النووي وجهاً لتساهله فيه، ولم يتكلم في أحد من رواته بل هو تصحيح مطابق.
فإن قيل: متابعة حماد بن سلمة لسعيد بن أبي عروبة المذكورة راويها عن حماد، هو أبو قتادة عبد الله بن واقد الحراني، وهو متروك، لا يحتج بحديثه، كما جزم به غير واحد من العلماء بالرجال. وقال فيه ابن حجر في التقريب: متروك فقد تساهل الحاكم في قوله: إن هذه الطريق على شرط مسلم، مع أن في إسنادها أبا قتادة المذكور.
فالجواب: أن أبا قتادة المذكور، وإن ضعفه الأكثرون، فقد وثقه الإمام أحمد وأثنى عليه، وناهيك بتوثيق الإمام أحمد وثنائه، وذكر ابن حجر والذهبي: أن عبد الله بن أحمد قال لأبيه: إن يعقوب بن إسماعيل بن صبيح ذكر أن أبا قتادة المذكور كان يكذب، فمعظم ذلك عنده جداً، وأثنى عليه وقال: إنه يتحرى الصدق. قال: ولقد رأيته يشبه أصحاب الحديث. وقال أحمد في موضع آخر: ما به بأس، رجل صالح، يشبه أهل النسك ربما أخطأ. وفي إحدى الروايتين عن ابن معين أنه قال: أبو قتادة الحراني ثقة. ذكرها عنه ابن حجر والذهبي، وقول من قال: لعله كبر فاختلط تخمين وظن لا يثبت به اختلاطه، ومعلوم أن المقرر في الأصول وعلوم الحديث: أن الصحيح أن التعديل يقبل مجملاً، والتجريح لا يقبل إلا مفصلاً، مع أن رواية سعيد بن أبي عروبة، عن أنس ليس في أحد من رواتها كلام.
ومما يؤيد ذلك موافقة الحافظ النقادة الذهبي للحاكم على تصحيح متابعة حماد، مع أن حديث أنس الصحيح المذكور معتضد بمرسل الحسن، ولا سيما على قول من يقول: إن مراسيله صحاح، إذا روتها عنه الثقات كابن المديني وغيره، كما قدمناه.
ويؤيد ذلك أن مشهور مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد الاحتجاج بالمرسل كما قدمناه مراراً، ويؤيده أيضاً: الأحاديث المتعددة التي ذكرنا، وإن كانت ضعافاً لأنها تقوي غيرها، ولا سيما حديث ابن عباس، فإنا قد ذكرنا سنده، وبينا أنه لا يقل عن درجة الاحتجاج.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: ولا يخفى أن هذه الطرق يقوي بعضها بعضاً، فتصلح للاحتجاج.
ومما يؤيد الحديث المذكور أن أكثر أهل العلم على العمل به، كما قدمنا عن أبي عيسى الترمذي أنه قال في حديث: الزاد والراحلة، والعمل عليه عند أهل العلم، وقد بينا أنه قول لأكثرين منهم الأئمة الثلاثة:
أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد.
فالحاصل: أن حديث: الزاد والراحلة، لا يقل بمجموع طرقه عن درجة القبول والاحتجاج.
وأظهر قولي أهل العلم عندي أن المعتبر في ذلك ما يبلغه ذهاباً وإياباً. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن حديث: الزاد والراحلة وإن كان صالحاً للاحتجاج لا يلزم منه أن القادر على المشي على رجليه بدون مشقة فادحة: لا يلزمه الحج، إن كان عاجزاً عن تحصيل الراحلة بل يلزمه الحج لأنه يستطيع إليه سبيلاً، كما أن صاحب الصنعة التي يحصل منها قوته في سفر الحج، يجب عليه الحج، لأن قدرته على تحصيل الزاد في طريقه كتحصيله بالفعل.
فإن قيل: كيف قلتم بوجوبه على القادر على المشي على رجليه، دون الراحلة مع اعترافكم بقبول تفسير النَّبي صلى الله عليه وسلم السبيل: بالزاد، والراحلة وذلك يدل على أن المشي على الرجلين ليس من السبيل المذكور في الآية.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن الظاهر المتبادر أنه صلى الله عليه وسلم فسر الآية بأغلب حالات الاستطاعة، لأن الغالب أن أكثر الحجاج آفاقيون، قادمون من بلاد بعيدة، والغالب عجز الإنسان عن المشي على رجليه في المسافات الطويلة وعدم إمكان سفره بلا زاد، ففسر صلى الله عليه وسلم الآية بالأغلب، والقاعدة المقررة في الأصول: أن النص إذا كان جارياً على الأمر الغالب، لا يكون له مفهوم مخالفة، ولأجل هذا منع جماهير العلماء تزويج الرجل ربيبته التي لم تكن في حجره قائلين: إن قوله تعالى {ٱللَّـٰتِى فِى حُجُورِكُمْ} جرى على الغالب، فلا مفهوم مخالفة له كما قدمناه مراراً، وإذا كان أغلب حالات الاستطاعة: الزاد والراحلة، وجرى الحديث على ذلك فلا مفهوم مخالفة له فيجب الحج على القادر على المشي على رجليه، إما لعدم طول المسافة، وإما لقوة ذلك الشخص على المشي، وكذلك يجب على ذي الصنعة التي يحصل منها قوته في سفره، لأنه في حكم واجد الزاد في المعنى، والعلم عند الله تعالى.
الوجه الثاني: أن الله جل وعلا سوى في كتابه بين الحاج الراكب، والحاج الماشي على رجليه. وقدم الماشي على الراكب، وذلك في قوله تعالى {وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ}.
وقد قدمنا الكلام على هذه الآية الكريمة مستوفى، هذا هو حاصل ما يتعلق بالمستطيع بنفسه.
وأما ما يسمونه المستطيع بغيره فهو نوعان:
الأول منهما: هو من لا يقدر على الحج بنفسه، لكونه زمناً، أو هرماً ونحو ذلك، ولكنه له مال يدفعه إلى من يحج عنه، فهل يلزمه الحج نظراً إلى أنه مستطيع بغيره، فيدخل في عموم {مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيل}؟ أو لا يجب عليه الحج، لأنه عاجز غير مستطيع بالنظر إلى نفسه، فلا يدخل في عموم الآية.
وبالقول الأول قال الشافعي وأصحابه. فيلزمه عندهم أجرة أجير يحج عنه بشرط: أن يجد ذلك بأجرة المثل. قال النووي: وبه قال جمهور العلماء، منهم علي بن أبي طالب، والحسن البصري، والثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وداود. وقال مالك: لا يجب عليه ذلك، ولا يجب إلا أن يقدر على الحج بنفسه، واحتج مالك بقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَـٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ} وبقوله تعالى {مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيل}، وهذا لا يستطيع بنفسه، فيصدق عليه اسم غير المستطيع وبأنها عبادة لا تصح فيها النيابة مع القدرة، فكذلك مع العجز، كالصلاة واحتج الأكثرون القائلون بوجوب الحج عليه بأحاديث رواها الجماعة.
منها: ما رواه البخاري في صحيحه: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريح، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس رضي الله عنهم: أن امرأة ح، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، حدثنا ابن شهاب عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال: جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فريضة الله أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: «نعم» وفي رواية في صحيح البخاري عن ابن عباس فقالت: إن فريضة الله أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نعم» وذلك في حجة الوداع.
وفي لفظ في صحيح البخاري، عن ابن عباس: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: «نعم» وذلك في حجة الوداع ا هـ.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عباس «أنه كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه قال «نعم» وذلك في حجة الوداع.
وفي لفظ لمسلم قالت: يا رسول الله: إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره. قال النَّبي صلى الله عليه وسلم «فحجي عنه» ا هـ.
وهذا الحديث الذي اتفق عليه الشيخان أخرجه باقي الجماعة، إلا أن بعضهم يرويه عن ابن عباس وهو عبد الله، وبعضهم يرويه عن أخيه الفضل بن عباس، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو داود في سننه: حدثنا حفص بن عمر، ومسلم بن إبراهيم بمعناه قالا: حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن أبي رزين قال حفص في حديثه رجل من بني عامر أنه قال. يا رسول الله: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج، ولا العمرة، ولا الظعن، قال «احجج عن أبيك واعتمر» وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا يوسف بن عيسى، نا وكيع عن شعبة، عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن أبي زرين العقيلي أنه أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إن أبي شيخ كبير إلى آخر الحديث كلفظ أبي داود الذي ذكرنا ثم قال: قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وإنما ذكرت العمرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: أن يعتمر الرجل عن غيره، وأبو رزين العقيلي اسمه لقيط بن عامر. انتهى منه.
وحديث أبي رزين هذا أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعن علي بن محمد قال: حدثنا وكيع، عن شعبة به نحو ما تقدم. وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال الترمذي بعد ذكره الحديث المتفق عليه في قصة استفتاء الخثعمية: ما نصه: وقد صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب غير حديث. والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم وبه يقول الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: يرون أن يحج عن الميت.
وقال مالك: إذا أوصى أن يحج عنه حج عنه، وقد رخص بعضهم: أن يحج عن الحيِّ، إذا كان كبيراً أو بحال لا يقدر أن يحج، وهو قول ابن المبارك والشافعي. انتهى من سنن الترمذي.
وقال النسائي في سننه:
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا وكيع، قال: حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم إلى آخر السند والمتن كما ذكرناه آنفاً عند الترمذي ا هـ.
وعن علي رضي الله عنه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة شابة من خثعم فقالت: إن أبي كبير، وقد أفند وأدركته فريضة الله في الحج، ولا يستطيع أداءها فيجزىء عنه أن أؤديها عنه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم» رواه أحمد والترمذي، وصححه. انتهى منهما بواسطة نقل المجد في المنتقى والنووي في شرح المهذب.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وحديث علي أخرجه أيضاً البيهقي ا هـ. وقوله في هذا الحديث: وقد أفند: أي خرف وضعف عقله من الهرم.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن يوسف بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير، قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الركوب، وأدركته فريضة الله في الحج فهل يجزىء أن أحج عنه؟ قال «آنت أكبر ولده؟ قال: نعم، قال: أرأيت لو كان عليه دين أكنت تقضيه؟ قال: نعم. قال: فحج عنه» وفي لفظ للنسائي، عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال «أرأيت لو كان على أبيك دَيْن أكنت قاضيه؟» قال: نعم، قال: فدَيْن الله أحق» وفي لفظ عند النسائي، عن ابن عباس: أن رجلاً سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي أدركه الحج، وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته، فإن شددته خشيت أن يموت، أفأحج عنه؟ قال «أرأيت لو كان عليه دَيْن فقضيته، أكان مجزئاً؟ قال: نعم. قال: فحج عن أبيك» ا هـ من سنن النسائي.
وحديث ابن الزبير الذي ذكرناه آنفاً عند النسائي قال المجد في المنتقى: رواه الإمام أحمد والنسائي بمعناه.
وقال الشوكاني: قال الحافظ: إن إسناده صالح. انتهى. والأحاديث بمثل هذا كثيرة.
وأما النوع الثاني من نوعي المستطيع بغيره، فهو من لا يقدر على الحج بنفسه، وليس له مال يدفعه لمن يحج عنه، ولكن له ولد يطيعه إذا أمره بالحج والولد مستطيع. فهل يجب الحج على الوالد، ويلزمه أمر الولد بالحج عنه لأنه مستطيع بغيره؟ فيه خلاف بين أهل العلم.
قال النووي في شرح المهذب: فرع في مذاهبهم في المعضوب إذا لم يجد ما لا يحج به غيره، فوجد من يطيعه قد ذكرنا: أن مذهبنا: وجوب الحج عليه. وقال مالك، وأبو حنيفة وأحمد: لا يجب عليه، وقد علمت أن مالكاً احتج في مسألة العاجز الذي له مال بقوله تعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَـٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ} وبأنه عاجز بنفسه فهو غير مستطيع إلى الحج سبيلاً، إلى آخر ما تقدم، وبأن سعيد بن منصور وغيره رووا عن ابن عمر بإسناد صحيح: أنه لا يحج أحد عن أحد، ونحوه عن الليث ومالك، وأن الذين خالفوه احتجوا بالأحاديث التي ذكرنا وفيها ألفاظ ظاهرها الوجوب، كتشبيهه بدين الآدمي وكقول السائل: يجزىء عنه أن أحج عنه. والإجزاء دليل المطالبة، وفي بعض رواياتها أن السائل يقول: إن عليه فريضة الحج، ويستأذن النَّبي في الحج عنه، وهو صلى الله عليه وسلم لم يبين له أن الحج سقط عنه بزمانته وعجزه عن الثبوت على الراحلة، وبقوله للولد «أنت أكبر ولده» وأمره بالحج عنه.
وأما الذين فرقوا بين وجود المعضوب مالاً فأوجبوا عليه الحج، وبين وجوده ولداً يطيعه فلم يوجبوه عليه، فلأن المال ملكه، فعليه أن يستأجر به، والولد مكلف آخر ليس ملزماً بفرض على شخص آخر، ولأنه وإن كان له ولد فليس بمستطيع ببدن، ولا بزاد وراحلة، ولو وجد إنساناغير الولد يطيعه في الحج عنه، فهل يكون حكمه حكم الولد؟ فيه خلاف معروف. وفي فروع الشافعية توجيه كل قول منها، فانظره في النووي في شرح المهذب وأظهرها أنه كالولد.
تنبيه
إذا مات الشخص، ولم يحج، وكان الحج قد وجب عليه لاستطاعته بنفسه، أو بغيره عند من يقول بذلك، وكان قد ترك مالاً، فهل يجب أن يحج ويعتمر عنه من ماله؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم، فقال بعضهم: يجب أن يحج عنه، ويعتمر عنه من تركته، سواء مات مفرطاً أو غير مفرط لكون الموت عاجله عن الحج فوراً. وبهذا قال الشافعي وأحمد.
قال ابن قدامة في المغني: وبهذا قال الحسن، وطاوس، والشافعي. وقال أبو حنيفة، ومالك: يسقط بالموت، فإن أوصى بذلك، فهو في الثلث وبهذا قال الشعبي والنخعي لأنه عبادة بدنية، فتسقط بالموت كالصلاة، واحتجوا أيضاً: بأن ظاهر القرآن كقوله {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَـٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ} مقدم على ظاهر الأحاديث. بل على صريحها: لأنه أصح منها. وأجاب المخالفون:
بأن الأحاديث مخصصة لعموم القرآن، وبأن المعضوب وجب عليه الحج بسعيه، بتقديم المال، وأجرة من يحج عنه. فهذا من سعيه، وأجابوا عن قياسه على الصلاة، بأنها لا تدخلها النيابة، بخلاف الحج، والذين قالوا: يجب أن يحج عنه، من رأس ماله استدلوا بأحاديث جاءت في ذلك، تقتضي أن من مات وقد وجب عليه الحج قبل موته، أنه يحج عنه. منها: ما رواه البخاري في صحيحه: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج، حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: «نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دَين أكنت قاضيته، اقضوا الله فالله أحق بالوفاء» ا هـ.
والحج في هذا الحديث وإن كان منذوراً فإيجاب الله له على عباده في كتابه، أقوى من إيجابه بالنذر. واستدل بالحديث المذكور بعض أهل العلم على صحة نذر الحج، ممن لم يحج.
قال ابن حجر في الفتح: فإذا حج أجزأه عن حجة الإسلام، عند الجمهور، وعليه الحج عن النذر. وقيل: يجزىء عن النذر، ثم يحج حجة الإسلام. وقيل: يجزىء عنهما.
وقال البخاري أيضاً في كتاب: الأيمان والنذور: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى رجل النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم. «لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟» قال: نعم، «قال: فاقض الله فهو أحق بالقضاء» ا هـ.
وقال المجد في المنتقى بعد أن أشار لحديث البخاري: هذا وهو يدل على صحة الحج، عن الميت من الوارث وغيره، حيث لم يستفصله أوارث هو أو لا؟ وشبهه بالدين انتهى.
وقد تقرر في الأصول: أن عدم الاستفصال من النَّبي صلى الله عليه وسلم أي طلب التفصيل في أحوال الواقعة، ينزل منزلة العموم القولي وإليه أشار في مراقي السعود بقوله: ونزّلن تركَ الاستفصال منزلةَ العمومِ في الأقْوَالِ

وخالف في هذا الأصل، أبو حنيفة رحمه الله كما هو مقرر في الأصول، مع بيان الخلاف في المسائل الفقهية، تبعاً للخلاف في هذا الأصل المذكور.
ومنها: ما رواه النسائي في سننه، أخبرنا محمد بن بشار قال: حدثنا محمد قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر قال: سمعت سعيد بن جبير، يحدث عن ابن عباس: أن امرأة نذرت أن تحج فماتت، فأتى أخوها النَّبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك؟ فقال «أرأيت لو كان على أختك دَيْن أكنت قاضيه؟
قال: نعم قال «فاقضوا الله، فهو أحق بالوفاء» انتهى.
وهذه الأحاديث، التي ذكرنا في نذر الحج، وقد بينا أن إيجاب الله فريضة الحج أعظم من إيجابها بالنذر، مع أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر بقضائها وشبهها بِديْنِ الآدمي. وسنذكر أيضاً إن شاء الله أحاديث ليس فيها نذر الحج.
قال النسائي في سننه: أخبرنا أبو عاصم خشيش بن أصرم النسائي، عن عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله إن أبي مات ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال «أرأيت لو كان على أبيك دَين أكنت قاضيه؟» قال: نعم. «قال: فدين الله أحق» ا هـ.
ورجال هذا الإسناد ثقات معروفون، لا كلام في أحد منهم، إلا الحكم بن أبان العدني. وقد قال فيه ابن معين، والنسائي: ثقة. وقال أبو زرعة: صالح. وقال العجلي: ثقة صاحب سنة. قال ابن عيينة: أتيت عدن، فلم أر مثل الحكم بن أبان، وعده ابن حبان في الثقات. وقال: ربما أخطأ. وإنما وقع المناكير في روايته، من رواية ابنه إبراهيم عنه، وإبراهيم ضعيف. وحكى ابن خلفون: توثيقه عن ابن نمير، وابن المديني وأحمد بن حنبل ا هـ. وقال ابن عدي: فيه ضعف. وقال ابن خزيمة في صحيحه: تكلم أهل المعرفة بالحديث في الاحتجاج بخبره وبما ذكر تعلم صحة الاحتجاج بالحديث المذكور، وليس فيه نذر الحج.
وقال النسائي في سننه أيضاً: أخبرنا عمران بن موسى قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا أبو التَّيَّاحِ، قال: حدثني موسى بن سلمة الهذلي، أن ابن عباس قال: أَمَرَت امرأة سنان بن سلمة الجهني، أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أمها ماتت، ولم تحج، أفيجزىء عن أمها أن تحج عنها؟ قال: «نعم لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يكن يجزىء عنها فلتحج عن أمها» وهذا الإسناد صحيح. وفي لفظ عند النسائي أيضاً، عن ابن عباس، بإسناد آخر: أن امرأة سألت النَّبي صلى الله عليه وسلم، عن أبيها، مات ولم يحج. قال «حجي عن أبيك» وإسناده صحيح أيضاً. وأخرج ابن ماجه نحوه من حديث ابن عباس بإسناد آخر صحيح.
وقال المجد في المنتقى: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: إن أبي مات، وعليه حجة الإسلام، أفأحج عنه؟ قال «أرأيت لو أن أباكَ تركَ دَيْناً عليه أقضيته عنه؟» قال: نعم قال: «فاحجج عن أبيك» رواه الدارقطني. انتهى من المنتقى.
وقال الترمذي في سننه: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، نا عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن عطاء عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: جاءت امرأة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت، ولم تحج، أفأحج عنها؟ قال «نعم حجي عنها» ا هـ. ثم قال: قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح ا هـ. وأخرج البيهقي نحوه بإسناد صحيح.
وقال الشافعي في مسنده: أخبرنا سعيد بن سالم، عن حنظلة، سمعت طاوساً يقول: أتت النَّبي صلى الله عليه وسلم امرأة، فقالت: إن أمي ماتت، وعليها حج قال «حجي عن أمك» ولا يخفى أن حديث الشافعي هذا مرسل، ولكنه معتضد بما تقدم من الأحاديث وبما سيأتي إن شاء الله.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدثني علي بن حجر السعدي، حدثنا علي بن مسهر أبو الحسن، عن عبد الله بن عطاء، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: بينا أنا جالس، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت قال: فقال «وجب أجرك وردها عليك الميراث، قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحج قط، أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها» انتهى من صحيح مسلم.
فهذه الأحاديث وأمثالها: هي حجة من قال: إن من وجب عليه الحج في الحياة، وترك مالاً وجب أن يحج عنه، وليست كلها ظاهرة في ذلك. ولكن بعضها ظاهر فيه كتشبيهه بِديْن الآدمي، ونحو ذلك مما تقدم. وأجاب المخالفون: بأن الحج أعمال بدنية، وإن كانت تحتاج إلى مال. والأعمال البدنية: تسقط بالموت، فلا وجوب لعمل بعد الموت، والذي يحج عنه متطوع، وفاعل خيراً قالوا: ووجه تشبيهه بالدَّين انتفاع كل منهما بذلك الفعل، فالمدين ينتفع بقضاء الدين عنه، والميت ينتفع بالحج عنه، ولا يلزم من قضاء الدين عن أحد، أن القضاء عنه واجب، بل يجوز أن يكون قضاؤه عنه غير واجب عليه.
واحتجوا أيضاً بأن جميع الأحاديث الورادة بالحج عن الميت: واردة بعد الاستئذان في الحج عنه، قالوا: والأمر بعد الاستئذان كالأمر بعد الخطر، فهو للإباحة، لأن الاستئذان والحظر الأول كلاهما قرينة على صرف الأمر عن الوجوب إلى الإباحة.
قال ابن السبكي في جمع الجوامع في مبحث الأمر: فإن ورد بعد حظر قال الإمام: أو استئذان فللإباحة. وقال أبو الطيب، والشيرازي، والسمعاني والإمام: للوجوب، وتوقف إمام الحرمين انتهى منه. فتراه صدر بأن الأمر بعد الاستئذان للإباحة، والخلاف في المسألة معروف، وقد ذكرنا فيه أقوال أهل العلم، في أبيات مراقي السعود في أول سورة المائدة.
ومن أمثلة كون الأمر بعد الاستئذان للإباحة: أن الصحابة رضي الله عنهم، لما سألوا النَّبي صلى الله عليه وسلم، عما اصطادوه بالجوارح، واستأذنوه في أكله، نزل في ذلك قوله تعالى {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فصار هذا الأمر بالأكل للإباحة لأنه وارد بعد سؤال، واستئذان.
ومن أمثلته من السنة: حديث مسلم: أأُصَلِّي في مرابض الغنم؟ قال «نعم» الحديث، فإن معنى نعم هنا: صَلِّ فيها. وهذا الأمر بالصلاة فيها للإباحة لأنه بعد الاستئذان، وخلاف أهل الأصول في مسألة الأمر بعد الحظر، أو الاستئذان معروف.
هذا هو حاصل كلامهم في المستطيع بغيره، ووجوب الحج عمن وجب عليه في الحياة، ومات قبل أن يحج وترك مالاً، وقد علمت أدلتهم ومناقشتها.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأحاديث التي ذكرنا، تدل قطعاً على مشروعية الحج عن المغصوب، والميت. وقد قدمنا أن الأظهر عندنا وجوب الحج فوراً، وعليه فلو فرط، وهو قادر على الحج، حتى مات مفرطاً مع القدرة، أنه يحج عنه من رأس ماله، إن ترك مالاً، لأن فريضة الحج ترتبت في ذمته، فكانت دَيْناً عليه، وقضاء دين الله صرح النَّبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المذكورة بأحقيته حيث قال «فَدَيْنُ الله أحق أن يُقضى».
أما من عاجله الموت قبل التمكن، فمات غير مفرط، فالظاهر لنا أنه لا إثم عليه، ولا دَيْن الله عليه، لأنه لم يتمكن من أداء الفعل حتى يترتب في ذمته، ولن يكلف الله نفساً إلا وسعها، وقد دلت الأحاديث المذكورة على جواز حج الرجل عن المرأة، وعكسه، وعليه عامة العلماء، ولم يخالف فيه إلا الحسن بن صالح بن حي.
والأحاديث المذكورة حجة عليه، وقد قدمنا أن مالكاً رحمه الله ومن وافقوه، لم يعملوا بظاهر هذه الأحاديث التي ذكرنا مع كثرتها وصحتها، لأنها مخالفة عندهم، لظاهر القرآن في قوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَـٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ}. وقوله {مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيل} والمعضوب والميت، ليس واحد منهما بمستطيع، لصدق قولك: إنه غير مستطيع بنفسه.
واعلم: أن ما اشتهر عن مالك من أنه يقول: لا يحج أحد عن أحد: معناه عنده: أن الصحيح القادر لا يصح الحج عنه في الفرض.
والمعضوب عنده ليس بقادر، وأحرى الميت فالحج عنهما من مالهما لا يلزم عنده إلا بوصية، فإن أوصى به صح من الثلث وتطوع وليه بالحج عنه، خلاف الأولى عنده بل مكروه.
والأفضل عنده أن يجعل ذلك المال الذي يحج به عنه في غير الحج، كأن يتصدق به عنه أو يعتق به عنه ونحو ذلك، فإن أحرم بالحج عنه انعقد إحرامه وصح حجه عنه.
والحاصل: أن النيابة عن الصحيح في الفرض عنده ممنوعة، وفي غير الفرض مكروهة، والعاجز عنده لا فرض عليه أصلاً للحج.
قال خليل بن إسحاق في مختصره: ومنع استنابة صحيح في فرض، وإلا كره ا هـ.
وقال شارحه الخطاب: ويدخل في قول المصنف: وإلا كره بحسب الظاهر ثلاث صور: استنابة الصحيح في النفل، واستنابة العاجز في الفرض، وفي النفل، لكن في التحقيق ليس هنا إلا صورتان، لأن العاجز لا فريضة عليه ا هـ.
واعلم: أن بعض المالكية حمل الكراهة المذكورة على التحريم، والأحاديث التي ذكرنا حجة على مالك، ومن وافقه، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
اعلم أن ما عليه جمهور العلماء من جواز الحج، عن المعضوب، والميت محله فيما إذا كان الذي يحج عنهما قد حج عن نفسه حجة الإسلام، خلافاً لمن لم يشترط ذلك، واحتج الجمهور القائلون: بأن النائب عن غيره في الحج، لا بد أن يكون حج عن نفسه حجة الإسلام بحديث جاء في ذلك.
قال أبو داود في سننه: حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، وهناد بن السري: المعنى واحد، قال إسحاق: ثنا عبدة بن سليمان، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة عن عزرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شُبْرمة قال «من شُبرمة؟ قال: أخ لي، أو قريب لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك، ثم عن شُبرمة» وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، ثنا عَبْدَةُ بن سليمان، عن سعيد، عن قَتَادة، عن عزرة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شُبْرمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من شبرمة؟ قال: قريب لي، قال: هل حججت قط؟ قال: لا، قال: فاجعل هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة» وإسناد هذا الحديث عند أبي داود وابن ماجه، رجاله كلهم ثقات، معروفون، إلا عزرة الذي رواه عنه قتادة، وقتادة روى عن ثلاثة كلهم اسمه: عزرة، وعزرة المذكور في إسناد هذا الحديث، عند أبي داود، وابن ماجه ذكراه غير منسوب، وجزم البيهقي بأنه عزرة بن يحيى، وعزرة بن يحيى لم يذكره البخاري في التاريخ، ولا ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يخصه ابن حجر في تهذيب التهذيب بترجمة، ولم يذكره الذهبي في الميزان، وقد ذكره ابن حجر في التقريب، وقال فيه: مقبول، وقد روى هذا الحديث أيضاً: الدارقطني، وابن حبان في صحيحه وروى البيهقي من طريق عبدة بن سليمان الكلابي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: هذا إسناد صحيح، ليس في هذا الباب أصح منه، أخرجه أبو داود في السنن عن إسحاق بن إسماعيل، وهناد بن السري، عن عبدة وقال: يحيى بن معين، أثبت الناس سماعاً، عن سعيد عبدة بن سليمان، ثم قال: قال الشيخ وكذلك رواه أبو يوسف القاضي، عن سعيد، ثم ساق بإسناده رواية أبي يوسف، وأورد متن الحديث كما سبق، ثم قال: وكذلك روي عن محمد بن عبد الله الأنصاري ومحمد بن بشر، عن ابن أبي عروبة، ورواه غندر عن سعيد بن أبي عروبة موقوفاً على ابن عباس، ومن رواه مرفوعاً حافظ ثقة، فلا يضره خلاف من خالفه، وعزرة هذا: هو عزرة بن يحيى، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال:
سمعت أبا علي الحافظ يقول: ذلك، وقد روى قتادة أيضاً عن عزرة بن تميم، وعن عزرة بن عبد الرحمٰن ا هـ من البيهقي، وقد أورد روايات أخر عن ابن عباس تؤيد الحديث المذكور، وذكره ابن حجر في التلخيص وأطال فيه الكلام، وذكر كلام البيهقي في تصحيحه، وكلام من لم يصححه وذكر طرقه ثم قال: ما نصه: فيجتمع من هذا صحة الحديث. ا هـ محل الغرض منه.
وقال النووي في شرح المهذب: وأما حديث ابن عباس في قصة شبرمة فرواه أبو داود، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهم بأسانيد صحيحة، ثم ذكر لفظ أبي داود كما قدمنا، ثم قال: وإسناده على شرط مسلم، والظاهر أن النووي يظن أن عزرة المذكور في إسناده هو ابن عبد الرحمٰن، وذلك من رجال مسلم والواقع خلاف ذلك، وهو عزرة بن يحيى كما جزم به البيهقي، ثم قال النووي: ورواه البيهقي بإسناد صحيح، عن ابن عباس، ثم ذكر بعض ما ذكرنا سابقاً من تصحيح البيهقي للحديث، وأن رفعه أصح من وقفه.
فتحصل من هذا كله: أن الحديث صالح للاحتجاج، وفيه دليل على أن النائب في الحج، لا بد أن يكون قد حج عن نفسه. وقاس العلماء: العمرة على الحج في ذلك، وهو قياس ظاهر، والعلم عند الله تعالى.
وخالف في ذلك بعض العلماء كأبي حنيفة ومن وافقه، فقالوا: يصح حج النائب عن غيره، وإن لم يحج عن نفسه، واستدلوا بظواهر الأحاديث التي ذكرناها في الحج عن المعضوب والميت، فإن النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها: «حج عن أبيك، حج عن أمك»، ونحو ذلك من العبارات، ولم يسأل أحداً منهم هل حج عن نفسه أو لا. وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال كما تقدم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر تقديم الحديث الخاص الذي فيه قصة شُبْرمة، لأنه لا يتعارض عام وخاص، فلا يحج أحد عن أحد، حتى يحج عن نفسه حجة الإسلام، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
قد علمت مما مر أن الحج واجب مرة في العمر، وهل ذلك الوجوب على سبيل الفور أو التراخي؟
اختلف أهل العلم في ذلك وسنبين هنا إن شاء الله أقوالهم، وحججهم، وما يرجحه الدليل عندنا من ذلك: فممن قال إن وجوبه على التراخي: الشافعي وأصحابه. قال النووي: وبه قال الأوزاعي، والثوري، ومحمد بن الحسن، ونقله الماوردي عن ابن عباس، وأنس، وجابر، وعطاء، وطاوس، وممن قال إنه على الفور: الإمام أحمد، وأبو يوسف، وجمهور أصحاب أبي حنيفة والمزني. قال النووي: ولا نص في ذلك لأبي حنيفة وقال صاحب تبيين الحقائق في الفقه الحنفي: إن القول بأنه على الفور قول أبي يوسف، وعن أبي حنيفة ما يدل عليه فإن ابن شجاع روى عنه أن الرجل إذا وجد ما يحج به وقد قصد التزوج، قال: يحج، ولا يتزوج، لأن الحج فريضة أوجبها الله على عبده، وهذا يدل على أنه على الفور انتهى.
وأما مذهب مالك فعنه في المسألة قولان مشهوران، كلاهما شهره بعض علماء المالكية.
أحدهما: أنه على الفور، والثاني: أنه على التراخي، ومحل الخلاف المذكور ما لم يحسن الفوات بسبب من أسباب الفوات، فإن خشية وجب عندهم فوراً اتفاقاً.
قال خليل بن إسحاق في مختصره في الفقه المالكي: وفي فوريته وتراخيه لخوف الفوات خلاف. اهـ.
وقد ذكر في ترجمته أنه إن قال في مختصره: خلاف، فهو يعني بذلك اختلافهم في تشهير القول.
وقال الشيخ المواق في كلامه على قول خليل المذكور ما نصه الجلاب: من لزمه فرض الحج لم يجز له تأخيره، إلا من عذر وفرضه على الفور دون التراخي، والتسويف، وعن ابن عرفة هذا للعراقيين، وعزا لابن محرز والمغاربة وابن العربي، وابن رشد: أنه على التراخي ما لم يخف فواته. وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فهذه حججهم.
أما الذين قالوا:
إنه على التراخي فاحتجوا بأدلة.
منها: أنهم قالوا: إن الحج فرض عام ست من الهجرة، ولا خلاف أن آية {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ} نزلت عام ست من الهجرة في شأن ما وقع في الحديبية من إحصار المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وهم محرومون بعمرة، وذلك في ذي القعدة من عام ست بلا خلاف، ويدل عليه ما تقدم في حديث كعب بن عجرة الذي نزل فيه {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وذلك متصل بقوله: {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضً}، ولذا جزم الشافعي، وغيره: بأن الحج فرض عام ست قالوا: وإذا كان الحج فرض عام ست، وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا عام عشر، فذلك دليل على أنه على التراخي، إذ لو كان على الفور لما أخره عن أول وقت للحج، بعد نزول الآية. قالوا ولاسيما أنه عام ثمان من الهجرة فتح مكة في رمضان، واعتمر عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان، ثم رجع إلى المدينة، ولم يحج، قالوا: واستخلف عتاب بن أسيد، فأقام للناس الحج سنة ثمان، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيماً بالمدينة هو وأزواجه وعامة أصحابه، ولم يحجوا، قالوا: ثم غزا غزوة تبوك في عام تسع، وانصرف عنها قبل الحج، فبعث أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فأقام للناس الحج سنة تسع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وعامة أصحابه قادرون على الحج، غير مشتغلين بقتال، ولا غيره، ولم يحجوا ثم حج صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وأصحابه كلهم سنة عشر حجة الوداع، قالوا: فتأخيره الحج المذكور إلى سنة عشر، دليل على أن الحج ليس وجوبه على الفور. بل على التراخي.
واستدلوا لذلك أيضاً بما جاء في صحيح مسلم في قصة ضمام بن ثعلبة السعدي رضي الله عنه: حدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد، حدثنا هاشم بن القاسم أبو النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء، الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله، ونحن نسمع. فجاءه رجل من أهل البادية فقال: يا محمد صلى الله عليه وسلم أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك قال «صدق، قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: الله، قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال الله أرسلك؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا، قال: صدق قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، قال: صدق، ثم ولى قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: لئن صدق، ليدخلن الجنة» انتهى من صحيح مسلم، قالوا: هذا الحديث الصحيح جاء فيه وجوب الحج، وقد زعم الواقدي وغيره: أن قدوم الرجل المذكور وهو ضمام بن ثعلبة كان عام خمس، قالوا: وقد رواه شريك بن أبي نمر عن كريب فقال فيه: بعث بنو سعد ضماماً في رجب سنة خمس، فدل ذلك على أن الحج كان مفروضاً عام خمس، فتأخيره صلى الله عليه وسلم الحج إلى عام عشر دليل على أنه على التراخي، لا على الفور.
ومن أدلتهم على أنه على التراخي: «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أمر المحرمين بالحج أن يفسخوه في عمرة» فدل ذلك على جواز تأخير الحج، وهو دليل على أنه على التراخي.
ومن أدلتهم أيضاً: أَنه إن أَخر الحج من سنة إلى أَخرى، أَو إلى سنين ثم فعله فإنه يسمى مؤدياً للحج لا قاضياً له بالإجماع، قالوا: ولو حرم تأخيره لكان قضاء لا أداء.
ومن أدلتهم على أنه على التراخي: ما هو مقرر في أصول الشافعية: وهو أن المختار عندهم أن الأمر المجرد عن القرائن، لا يقتضي الفور، وإنما المقصود منه الامتثال المجرد. فوجوب الفور يحتاج إلى دليل خاص زائد على مطلق الأمر.
ومن أدلتهم: أنهم قاسوا الحج على الصلاة الفائتة قالوا: فهي على التراخي، ويقاس الحج عليها، بجامع أن كلا منهما واجب ليس له وقت معين.
ومنها: أنهم قاسوه على قضاء رمضان في كونهما على التراخي، بجامع أن كليهما واجب، ليس له وقت معين: قالوا: ولكن ثبتت آثار: أن قضاء رمضان غاية زمنه مدة السنة، هذا هو حاصل أدلة القائلين: بأن وجوب الحج على التراخي لا على الفور. وأما الذين قالوا إنه على الفور فاحتجوا أيضاً بأدلة، ومنعوا أدلة المخالفين.
فمن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور آيات من كتاب الله تعالى يفهم منها ذلك، وهي على قسمين:
قسم منها: فيه الدلالة على وجوب المبادرة إلى امتثال أوامره جل وعلا، والثناء على من فعل ذلك.
والقسم الثاني: يدل على توبيخ من لم يبادر، وتخويفه من أن يدركه الموت قبل أن يمتثل، لأنه قد يكون اقترب أجله، وهو لا يدري.
أما آيات القسم الأول فكقوله {وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَـٰوَٰتُ وَٱلاٌّرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} وقوله تعالى {سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلاٌّرْضِ}، فقوله {وَسَارِعُوۤ} وقوله {سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ} فيه الأمر بالمسارعة، والمسابقة إلى مغفرته، وجنته جل وعلا، وذلك بالمبادرة، والمسابقة إلى امتثال أوامره، ولا شك أن المسارعة والمسابقة كلتاهما على الفور، لا التراخي وكقوله {فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَٰتِ}، ويدخل فيه الاستباق إلى الامتثال وصيغ الأمر في قوله {وَسَارِعُوۤ} وقوله: {سَابِقُوۤ}، وقوله {فَٱسْتَبِقُو} تدل على الوجوب، لأن الصحيح المقرر في الأصول: أن صيغة أفعل إذا تجردت عن القرائن، اقتضت الوجوب، وإليه أشار في المراقي بقوله: * وأفـعـل لـدى الأكـثـر للـوجـوب * الخ
وذلك لأن الله تعالى يقول {فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال جل وعلا {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فصرح جل وعلا، بأن أمره قاطع للاختيار، موجب للامتثال، وقد سمى نبيه موسى عليه، وعلى نبينا الصلاة والسلام مخالفة الأمر معصية، وذلك في قوله {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى} يعني قوله له:
{ٱخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ} وإنما قال موسى لأخيه هارون، قبل أن يعلم حقيقة الحال، فلما علمها قال: {رَبِّ ٱغْفِرْ لِى وَلأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَٰحِمِينَ} ومما يدل على اقتضاء الأمر الوجوب: أن الله جل وعلا، عنف إبليس، لما خالف الأمر بالسجود، وذلك في قوله {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} والنصوص بمثل هذا كثيرة، وقد أجمع أهل اللسان العربي: أن السيد لو قال لعبده: اسقني ماء مثلاً، فلم يمتثل أمره فأدبه على ذلك، أن ذلك التأديب واقع موقعه، لأنه عصاه بمخالفة أمره، فلو قال العبد: ليس لك أن تؤدبني، لأن أمرك لي بقولك: اسقني ماء لا يقتضي الوجوب لقال له أهل اللسان: كذبت، بل الصيغة ألزمتك، ولكنك عصيت سيدك، فدل ما ذكر على أن الشرع واللغة، دلا على اقتضاء الأمر المجرد الوجوب، وذلك يدل على أن قوله: {سَابِقُوۤ} وقوله {وَسَارِعُوۤ} يدل على وجوب المبادرة إلى امتثال أوامر الله فوراً.
ومن الآيات التي فيها الثناء على المبادرين إلى امتثال أوامر ربهم قوله تعالى {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ}. وقوله تعالى {أُوْلَـٰئِكَ يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ وَهُمْ لَهَا سَـٰبِقُونَ}.
وأما القسم الدال على التخويف من الموت، قبل الامتثال المتضمن الحث على الامتثال: فهو أن الله جل وعلا، أمر خلقه أن ينظروا في غرائب صنعه، وعجائبه كخلقه للسماوات والأرض، ونحو ذلك من الآيات من كتابه كقوله {قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ}. وقوله تعالى {أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـٰهَا وَزَيَّنَّـٰهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} وقوله {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى ٱلاٌّرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}. ثم ذكر في آية أخرى ما يدل على أن ذلك النظر مع لزومه يجب معه النظر في اقتراب الأجل، فقد يقترب أجله، ويضيع عليه أجر الامتثال بمعالجة الموت، وذلك في قوله تعالى {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَىْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} إذ المعنى: أو لم ينظروا في أنه عسى أن يكون أجلهم قد اقترب، فيضيع عليهم الأجر بعدم المبادرة قبل الموت، وفي الآية دليل واضح، على أن الإنسان يجب عليه أن يبادر إلى امتثال الأمر، خشية أن يعالجه الموت قبل ذلك.
ومن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور، أحاديث جاءت دالة على ذلك، ولا يخلو شيء منها من مقال، إلا أنها تعتضد بالآيات المذكورة، وبما سنذكره إن شاء الله بعدها.
منها ما أخرجه أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا الثوري، عن إسماعيل وهو أبو إسرائيل الملائي، عن فضيل، يعني: ابن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تعجلوا إلى الحج» يعني الفريضة. فقوله في هذا الحديث: تعجلوا يدل على الفور، وقد نقل حديث أحمد هذا المجد في المنتقى بحذف الإسناد على عادته، فقال: عن ابن عباس، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال «تعجلوا إلى الحج» يعني الفريضة «فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له» رواه أحمد انتهى منه.
وقد سكت على هذا الحديث، وسكت عليه أيضاً شارحه الشوكاني في نيل الأوطار، وظاهر سكوتهما عليه: أنه صالح للاحتجاج عندهما، والظاهر عدم صلاحية هذا الحديث بانفراده للاحتجاج، لأن في سنده إسماعيل بن خليفة أبو إسرائيل الملائي، وهو لا يحتج بحديثه، لأنه ضعفه أكثر أهل العلم بالحديث، وكان شيعياً من غلاتهم، وكان ممن يكفر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق، سىء الحفظ، نسب إلى الغلو في التشيع.
والحاصل: أن أكثر أهل العلم لا يحتجون بحديثه، وانظر إن شئت أقوال أهل العلم في تهذيب التهذيب، والميزان وغيرهما.
ومن أدلتهم أيضاً على ذلك: ما رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي، عن مهران أبي صفوان، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أراد الحج فليتعجل» ا هـ. ورواه أبو داود: حدثنا مسدد، ثنا معاوية محمد بن خازم، عن الأعمش، عن الحسن بن عمرو، عن مهران أبي صفوان، عن ابن عباس قال «من أراد الحج فليتعجل» ا هـ. وقال الحاكم في المستدرك: حدثنا أبو بكر بن إسحاق، أنبأنا أبو المثنى، ثنا أبو معاوية محمد بن خازم، عن الحسن بن عمرو الفقيمي، عن أبي صفوان، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أراد الحج فليتعجل» ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وأبو صفوان هذا سماه غيره مهران مولى لقريش، ولا يعرف بالجرح انتهى منه. وأقره الحافظ الذهبي على تصحيحه لهذا الإسناد، ولا يخلو هذا السند من مقال، لأن فيه مهران أبا صفوان، قال فيه ابن حجر في التقريب: كوفي مجهول، وقال صاحب الميزان، لا يدري من هو. وقال فيه في تهذيب التهذيب. روي عن ابن عباس «من أراد الحج فليتعجل» وعنه الحسن بن عمرو الفقيمي، قال أبو زرعة: لا أعرفه إلا في هذا الحديث وذكره ابن حبان في الثقات. قلت: وقال الحاكم لما أخرج حديثه هذا في المستدرك لا يعرف بجرح انتهى منه، وهو دليل على أن حديث مهران المذكور معتبر به، فيعتضد بما قبله، وبما بعده، مع أن ابن حبان عده في الثقات، وصحح حديثه الحاكم وأقره الذهبي على ذلك ا هـ.
وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا علي بن محمد، وعمرو بن عبد الله، قالا: ثنا وكيع ثنا إسماعيل وأبو إسرائيل، عن فضيل بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن الفضل أو أحدهما عن الآخر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة» ا هـ. وفي سنده: إسماعيل بن خليفة أبو إسرائيل الملائي، وقد قدمنا قريباً: أن الأكثرين ضعفوه.
ومن أدلتهم على ذلك ما روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من لم يحبسه مرض، أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً» قال ابن حجر في التلخيص: هذا الحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات. وقال العقيلي، والدارقطني: لا يصح فيه شيء.
قلت: وله طرق.
أحدها: أخرجه سعيد بن منصور في السنن: وأحمد، وأبو يعلى، والبيهقي من طرق عن شريك عن ليث بن أبي سليم، عن ابن سابط، عن أبي أمة بلفظ «من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً» لفظ البيهقي، ولفظ أحمد «من كان ذا يسار فمات ولم يحج» الحديث. وليث ضعيف، وشريك سيىء الحفظ، وقد خالفه سفيان الثوري، فأرسله ورواه أحمد في كتاب: الإيمان له عن وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن ابن سابط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من مات ولم يحج ولم يمنعه من ذلك مرض حابس أو سلطان ظالم أو حاجة ظاهرة» فذكره مرسلاً.
وكذا ذكره ابن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن ليث مرسلاً، وأورده أبو يعلى من طريق أخرى، عن شريك مخالفة للإسناد الأول، وراويها عن شريك: عمار بن مطر ضعيف. وقال الذهبي في الميزان، بعد أن ذكر طريق أبي يعلى: هذه في ترجمة عمار بن مطر الرهاوي المذكور الراوي، عن شريك هذا منكر عن شريك.
الثاني: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعاً «من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً، وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه {وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيل}» رواه الترمذي، وقال: غريب، وفي إسناده مقال، والحارث يضعف، وهلال بن عبد الله الراوي له عن أبي إسحاق مجهول، وسئل إبراهيم الحربي عنه؟ فقال: من هلال. وقال ابن عدي: يعرف بهذا الحديث، وليس الحديث بمحفوظ. وقال العقيلي: لا يتابع عليه، وذكر في الميزان حديث على هذا في ترجمة هلال بن عبد الله المذكور، وقال: قال البخاري: منكر الحديث. وقال الترمذي: مجهول، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه ا هـ. وقال فيه في التقريب: متروك. وقد روي عن علي موقوفاً، ولم يرو مرفوعاً من طريق أحسن من هذا، وقال المنذري: طريق أبي أمامة على ما فيها أصلح من هذه.
الثالث: عن أبي هريرة رفعه «من مات ولم يحج حجة الإسلام في غير وجع حابس أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فليمت أَي الميتتين شاء. إما يهودياً أو نصرانياً» رواه ابن عدي، من طريق عبد الرحمٰن الغطفاني، عن أبي المهزم، وهما متروكان عن أبي هريرة، وله طريق صحيحة إلا أنها موقوفة رواها سعيد بن منصور والبيهقي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال «لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فتنظر كل من كانت له جدة ولم يحج فيضربوا عليه الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين» لفظ سعيد، ولفظ البيهقي أن عمر قال: ليمت يهودياً أو نصرانياً يقولها ثلاث مرات: رجل مات ولم يحج وجد لذلك سعة، وخليت سبيله.
قلت: وإذا انضم هذا الموقوف إلى مرسل ابن سابط، علم أن لهذا الحديث أصلاً، ومحمله على من استحل الترك، وتبين بذلك خطأ من ادعى أنه موضوع والله أَعلم ا هـ من التلخيص الحبير بلفظه. وقول ابن حجر ومحمله على من استحل الترك هو قول من قال من المفسرين: إن الكفر في قوله تعالى {وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ} يحمل على مستحل الترك، ولا دليل عليه، ووجه الدلالة من الأحاديث المذكورة على ما فيها من المقال أَنها تصرح أنه لا يمنعه من الإثم إلا مانع يمنعه من المبادرة إلى الحج، كالمرض، أو الحاجة الظاهرة، أو السلطان الجائر. فلو كان تراخيه لغير العذر المذكور لكان قد مات، وهو آثم بالتأخير. فدل على أن وجوب الحج على الفور، وأنه لا يجوز التراخي فيه إلا لعذر، وقال الشوكاني في نيل الأوطار، بعد أَن ساق الطرق التي ذكرناها عن صاحب التلخيص، وهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً؟ وبذلك تتبين مجازفة ابن الجوزي في عده لهذا الحديث من الموضوعات، فإن مجموع تلك الطرق لايقصر عن كون الحديث حسناً لغيره، وهو محتج به عند الجمهور، ولا يقدح في ذلك. قول العقيلي والدارقطني، لا يصح في الباب شيء، لأن نفي الصحة لا يستلزم نفي الحسن ا هـ محل الغرض منه.
ومن أدلتهم أيضاً على أن وجوب الحج على الفور ما قدمناه في سورة البقرة، من حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل» قال عكرمة:
سألت ابن عباس، وأبا هريرة عن ذلك؟ يعني: حديث الحجاج بن عمر والمذكور فقالا: صدق. وقد قدمنا أن هذا الحديث ثابت من رواية الحجاج بن عمرو الأنصاري. وابن عباس وأبي هريرة، وقد قدمنا أنه رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة والحاكم، والبيهقي، وقد قدمنا: أنه سكت عليه أبو داود والمنذري وحسنه الترمذي، وأن النووي قال فيه: رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه والبيهقي، وغيرهم بأسانيد صحيحة، ومحل الشاهد من الحديث المذكور قوله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات الحديث، عند أبي داود، وابن ماجه «فقد حل وعليه الحج من قابل» لأن قوله: من قابل دليل على أن الوجوب على الفور، وقد قدمنا هناك، ما يدل على أن ذلك القضاء الواجب على المحصر بمرض أو نحوه إنما هو في حجة الإسلام، وأنه لا قضاء على المحصر في غيرها، وبينا أدلة ذلك هناك في الكلام على قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} والرواية التي ذكرنا هناك: فقد حل وعليه حجة أخرى، وهذه الرواية قد بينتها رواية «وعليه الحج من قابل» وهي ثابتة: وهي دالة على الفور مفسرة للرواية التي ذكرنا هناك.
فهذه الأحاديث مع تعددها واختلاف طرقها، تدل على أن وجوب الحج على الفور، وتعتضد بالآيات القرآنية التي قدمناها، وتعتضد بما سنذكره إن شاء الله من كلام أهل الأصول.
واعلم أن المخالفين قالوا: إن هذه الأحاديث لم يثبت منها شيء، وأن حديث «من أراد أن يحج فليتعجل» مع ضعفه حجة لهم لا عليهم، لأنه وكل الأمر إلى إرادته. فدل على أنه ليس على الفور، ولا يخفى أن الأحاديث التي ذكرنا لا يقل مجموعها عن درجة الاحتجاج، على أن وجوب الحج على الفور.
ومن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور: هو أن الله أمر به، وأن جماعة من أهل الأصول قالوا: إن الشرع واللغة والعقل كلها دال على اقتضاء الأمر الفور. أما الشرع فقد قدمنا الآيات القرآنية الدالة على المبادرة فوراً، لامتثال أوامر الله كقوله {وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}، وكقوله {سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}، وبينا دلالة تلك الآيات وأمثالها على اقتضاء الأمر الفور، وأوضحنا ذلك.
وأما اللغة: فإن أهل اللسان العربي، مطبقون على أن السيد لو قال لعبده: اسقني ماء، فلم يفعل، فأدبه، فليس للعبد أن يقول له: صيغة أفعل في قولك: اسقني ماء، تدل على التراخي، وكنت سأمتثل بعد زمن متراخ عن الأمر بل يقولون: إن الصيغة ألزمتك فوراً، ولكنك عصيت أمر سيدك بالتواني والتراخي.
وأما العقل: فإنا لو قلنا: إن وجوب الحج على التراخي، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون ذلك التراخي له غاية معين ينتهي عندها، وإما ألا والقسم الأول ممنوع، لأن الحج لم يعين له زمن يتحتم فيه، دون غيره من الأزمنة، بل العمر كله تستوي أجزاؤه بالنسبة إليه. إن قلنا: إنه ليس على الفور.
والحاصل: أنه ليس لأحد تعيين غاية له لم يعينها الشرع.
والقسم الثاني الذي هو: أن تراخيه، ليس له غاية، يقتضي عدم وجوبه، لأن ما جاز تركه جوازاً، لم تعين له غاية ينتهي إليها، فإن تركه جائز إلى غير غاية، وهذا يقتضي عدم وجوبه والمفروض وجوبه.
فإن قيل: غايته الوقت الذي يغلب على الظن بقاؤه إليه.
فالجواب: أن البقاء إلى زمن متأخر، ليس لأحد أن يظنه؟ لأن الموت يأتي بغتة، فكم من إنسان يظن أنه يبقى سنين فيخترمه الموت فجأة، وقد قدمنا قوله تعالى في ذلك {وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} ولا ينتهي إلى حالة يتيقن الموت فيها،
إلا عند عجزه عن العبادات، ولا سيما العبادات الشاقة كالحج. والإنسان طويل الأمل، يهرم، ويشب أمله وتحديد وجوبه بستين سنة تحديد لا دليل عليه.
فهذه جملة أدلة القائلين: بأن وجوب الحج على الفور، ومنعوا أدلة المخالفين ـ قالوا إن قولكم: إن الحج فرض سنة خمس بدليل قصة ضمام بن ثعلبة المتقدمة، فإن قدومه سنة خمس، وقد ذكر له النَّبي صلى الله عليه وسلم وجوب الحج، وأن قوله تعالى {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ}. نزلت عام ست في عمرة الحديبية. دلت على أن الحج مفروض عام ست، وأنه صلى الله عليه وسلم أخره بعد فرضه إلى عام عشر، كل ذلك مردود، بل الحج إنما فرض عام تسع، قالوا: والصحيح أن قدوم ضمام بن ثعلبة السعدي كان سنة تسع.
وقال ابن حجر في الإصابة في ترجمة ضمام المذكور ما نصه: وزعم الواقدي أن قدومه كان في سنة خمس، وفيه نظر. وذكر ابن هشام عن أبي عبيد: أن قدومه كان سنة تسع، وهذا عندي أرجح ا هـ. منه، وانظر ترجيح ابن حجر لكون قدومه عام تسع.
وذكر ابن كثير: قدوم ضمام المذكور في حوادث سنة تسع، مع أنه ذكر قول من قال: إن قدومه كان قبل عام خمس، هذا وجه ردهم للاحتجاج بقصة ضمام، وأما وجه ردهم للاحتجاج بآية {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فهو أنه لم يذكر فيها إلا وجوب الإتمام بعد الشروع، فلا دليل فيها على ابتداء الوجوب. وقد أجمع أهل العلم على أن من أحرم بحج أو عمرة، وجب عليه الإتمام، ووجوب الإتمام بعد الشروع لا يستلزم ابتداء الوجوب.
قال ابن القيم في زاد المعاد ما نصه: وأما قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، فإنها وإن نزلت سنة ست عام الحديبية فليس فيها فرضية الحج، وإنما فيها الأمر بإتمامه، وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء.
فإن قيل: فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة.
قيل: لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه: قدم وفد بحران على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحهم على أداء الجزية، والجزية: إنما نزلت عام تبوك سنة تسع، وفيها نزل صدر سورة آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة، ويدل عليه أن أهل مكة، وجدوا في نفوسهم على ما فاتهم من التجارة من المشركين، لما أنزل الله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَ} فأعاضهم الله تعالى من ذلك الجزية، ونزول هذه الآيات، والمناداة بها إما كان عام تسع، وبعث الصديق رضي الله عنه بذلك في مكة في موسم الحج، وأردفه بعلي رضي الله عنه، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف والله أعلم. انتهى من زاد المعاد.
فتحصل: أن آية {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، لم تدل على وجوب الحج ابتداء، وإنما دلت على وجوب إتمامه بعد الشروع فيه كما هو ظاهر اللفظ، ولو كان يتعين كونه يدل على ابتداء الوجوب لما حصل خلاف بين أهل العلم في وجوب العمرة، والخلاف في وجوبها معروف، وسيأتي إن شاء الله إيضاحه.
بل الذي أجمعوا عليه: هو وجوب إتمامها بعد الشروع فيها، كما هو ظاهر الآية، وأن قصة ضمام بن ثعلبة، كانت عام تسع كما رجحه ابن حجر وغيره، فظهر سقوط الاستدلال بها وبالآية الكريمة، وأن الحج إنما فرض عام تسع كما أوضحه ابن القيم في كلامه المذكور آنفاً، لأن آية {وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيل} هي الآية التي فرض بها الحج:
وهي من صدر سورة آل عمران، وقد نزل عام الوفود وفيه قدم وفد نجران، وصالحهم النَّبي صلى الله عليه وسلم على أداء الجزية، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع كما تقدم قريباً، وعلى كون الحج إنما فرض عام تسع غير واحد من العلماء، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
وبه تعلم أنه لا حجة في تأخير النَّبي صلى الله عليه وسلم الحج عام فتح مكة، لأنه انصرف من مكة والحج قريب، ولم يحج. لأنه لم يفرض.
فإن قيل: سلمنا تسليماً جدلياً أن سبب تأخيره الحج عام فتح مكة، مع تمكنه منه، وقدرته عليه أن الحج لم يكن مفروضاً في ذلك الوقت، وقد اعترفتم بأن الحج فرض عام تسع، وهو صلى الله عليه وسلم لم يحج عام تسع، بل أخر حجه إلى عام عشر، وهذا يكفينا في الدلالة على أن وجوبه على التراخي، إذ لو كان على الفور لما أخره بعد فرضه إلى عام عشر.
فالجواب والله تعالى أعلم: أن عام تسع لم يتمكن فيه النَّبي، وأصحابه من منع المشركين من الطواف بالبيت، وهم عراة، وقد بين الله تعالى في كتابه أن منعهم من قربان المسجد الحرام، إنما هو بعد ذلك العام الذي هو عام تسع وذلك في قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَ}، وعامهم هذا هو عام تسع، فدل على أنه لم يمكن منعهم عام تسع، ولذا أرسل علياً رضي الله عنه بعد أبي بكر ينادي ببراءة: وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا عريان، فلو بادر صلى الله عليه وسلم إلى الحج عام تسع لأدى ذلك إلى رؤيته المشركين يطوفون بالبيت، وهم عراة وهو لا يمكنه أن يحضر ذلك، ولا سيما في حجة الوداع التي يريد أن يبين للناس فيها مناسك حجهم، فأول وقت أمكنه فيه الحج صافياً من الموانع والعوائق بعد وجوبه عام عشر، وقد بادر بالحج فيه والعلم عند الله تعالى، وأجابوا عن قولهم: كونه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي، أن يفسخوا حجهم في عمرة، دليل على تأخير الحج، لأنهم بعد ما أحرموا فيه فسخوه في عمرة، وحلوا منه بأن هذا ليس فيه تأخير الحج لعزمهم على أن يحجوا في تلك السنة بعينها، وتأخير الحج: إنما هو بتأخيره من سنة إلى أخرى، وذلك ليس بواقع هنا، فلا تأخير للحج في الحقيقة، لأنهم حجوا في عين الوقت الذي حج فيه من لم يفسخ حجه في عمرة، فلا تأخير كما ترى، وأجابوا عن قولهم: إنه لو أخره من سنة إلى أخرى، أو سنين، ثم فعله بعد ذلك فإنه يسمى مؤدياً لا قاضياً بالإجماع، ولو حرم التأخير، لكان قضاء بأن القضاء لا يكون إلا في العبادة الموقتة بوقت معين. ثم خرج ذلك الوقت المعين لها كما هو مقرر في الأصول، والحج لم يوقت بزمن معين والعمر كله وقت له، وذلك لا ينافي وجوب المبادرة خوفاً من طرو العوائق، أو نزول الموت قبل الأداء كما تقدم إيضاحه.
وأجابوا عن قولهم: إن من تمكن من أداء الحج، ثم أخره، ثم فعله لا ترد شهادته فيما بين فعله وتأخيره. ولو كان التأخير حراماً لردت شهادته لارتكابه ما لا يجوز بأنه ما كل من ارتكب ما لا يجوز ترد شهادته، بل لا ترد إلا بما يؤدي إلى الفسق، وهنا قد يمنع من الحكم بتفسيقه مراعاة الخلاف، وقول من قال: إنه لم يرتكب حراماً وشبهة الأدلة التي أقاموها على ذلك، هذا هو حاصل أدلة الفريقين.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي وأليقهما بعظمة خالق السموات والأرض هو: أن وجوب أوامره جل وعلا كالحج على الفور، لا على التراخي، لما قدمنا من النصوص الدالة على الأمر بالمبادرة، وللخوف من مباغتة الموت كقوله: {وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}،وما قدمنا معها من الآيات وكقوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَىْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ}7 ولما قدمنا من أن الشرع واللغة والعقل كلها يدل على أن أوامر الله تجب على الفور، وقد بينا أوجه الجواب عن كونه صلى الله عليه وسلم لم يحج حجة الإسلام إلا سنة عشر، والعلم عند الله تعالى، وأشار في مراقي السعود إلى أن مذهب مالك أن وجوب الأمر على الفور بقوله: وكونه للفور أصل المذهب وهو لدى القيد بتأخير أبى

المسألة الثانية: اعلم أن من أراد الحج له أن يحرم مفرداً الحج وله أن يحرم متمتعاً بالعمرة إلى الحج، وله أن يحرم قارناً بين الحج والعمرة، وإنما الخلاف بين العلماء، فيما هو الأفضل من الثلاثة المذكورة.
والدليل على التخيير بين الثلاثة ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع. فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة وعمرة، ومنا من أهل بالحج الحديث. وهو نص صريح متفق عليه في جواز الثلاثة المذكورة. وقال النووي في شرح المهذب: وجواز الثلاثة قال به العلماء، وكافة الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلا ما ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما: أنهما كان ينهيان عن التمتع. انتهى محل الغرض من كلامه.
وقال أيضاً في شرح مسلم: وقد أجمع العلماء على جواز الأنواع الثلاثة:
وقال ابن قدامة في المغني: وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام، بأي الأنساك الثلاثة شاء. واختلفوا في أفضلها.
وفي رواية في الصحيح عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من أراد منكم أن يُهل بحج وعمرة فلْيفعلْ، ومن أراد أن يُهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل، قالت عائشة رضي الله عنها: فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج وأهل به ناس معه، وأهل ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بالعمرة» هذا لفظ مسلم في صحيحه: وهو صريح في جواز الثلاثة المذكورة.
وبه تعلم أن ادعاء بعض المعاصرين أن إفراد الحج ممنع مخالف لما صح باتفاق مسلم والبخاري عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. وأطبق عليه جماهير أهل العلم. وحكى غير واحد عليه الإجماع، وسنذكر إن شاء الله كلام أهل العلم في التفضيل بينها مع مناقشة الأدلة.
المسألة الثالثة: اعلم أن ممن قال: إن الأفراد أفضل من التمتع والقران: مالك، وأصحابه، والشافعي في الصحيح من مذهبه وأصحابه.
قال النووي: في شرح المهذب: وبه قال عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وجابر، وعائشة، ومالك، والأوزاعي، وأبو ثور، وداود. واحتج من قال: بتفضيل إفراد للحج على غيره بأدلة متعددة.
الأول: أحاديث صحيحة جاءت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، بأنه أفرد في حجة الوداع من رواية جابر، عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم وغيرهم. أما حديث عائشة فقد ذكرناه آنفاً.
قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج الحديث. هذا لفظ البخاري، ومسلم، وهو صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج. ولا يحتمل لفظ عائشة هذا غير إفراد الحج لأنها ذكرت معه التمتع والقران، وأن بعض الناس تمتع وبعضهم قرن،
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج فهو الحج المفرد، ولا يحتمل غيره.
وفي رواية في الصحيح عنها رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل. ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل». قالت عائشة رضي الله عنها: «فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج، وأهل به ناس معه وأهل ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بالعمرة» هذا لفظ مسلم في صحيحه. وهو لا يحتمل غير الإفراد بحال، لأنها ذكرت القران، والتمتع، والإفراد، وصرحت بأنه صلى الله عليه وسلم أهل بالحج، فدل على أنها لا تريد القران ولا غيره. وفي رواية عنها في الصحيح قالت: خرجنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولا نرى إلا الحج، وفي رواية عنها في الصحيح أيضاً، ولا نذكر إلا الحج. وفي رواية عنها في الصحيح أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج. وفي رواية عنها رضي الله عنها في الصحيح: ولا نرى إلا أنه الحج. كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم. وبعضها في البخاري.
وأما حديث جابر فقد روى عنه عطاء قال: حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه حج من النَّبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفرداً الحديث: هذا لفظ البخاري ومسلم، وفي رواية عنه رضي الله عنه في الصحيح: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول: لبيك اللهم لبيك بالحج. هذا لفظ البخاري، ومسلم أيضاً وفي رواية في الصحيح عن عطاء: حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أهل وأصحابه بالحج الحديث. هذا لفظ البخاري في صحيحه. وفي حديثه أعني جابراً رضي الله عنه الطويل المشهور في صحيح مسلم الذي بين فيه حجة النَّبي صلى الله عليه وسلم أكمل بيان، وساقها أحسن سياقة من أولها إلى آخرها. وقد دل ذلك على ضبطه لها، وحفظه، وإتقانه ما نصه: قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة الحديث، وهو تصريح منه رضي الله عنه بالإفراد، دون التمتع، والقران لقوله: لسنا نعرف العمرة.
وفي رواية عنه في الصحيح قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج الحديث.
وفي رواية عنه في الصحيح أيضاً قال: أهللنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالحج خالصاً هذه وحده. وكلا الروايتين عنه بلفظ مسلم في الصحيح. وفي صحيح مسلم أيضاً عنه: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج. الحديث. وفي رواية في صحيح مسلم عنه أيضاً: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج.
وأما حديث ابن عمر: فقد قال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن أيوب، وعبد الله بن عون الهلالي، قالا: حدثنا عباد بن عباد المهلبي، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر في رواية يحيى قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً. وفي رواية ابن عون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفرداً، وحدثنا سريج بن يونس، حدثنا هشيم، حدثنا حميد، عن بكر، عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعاً: قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر، فقال: لبى بالحج وحده، فلقيت أنساً فحدثته بقول ابن عمر فقال أنس: ما تعدوننا إلا صبياناً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لبيك عمرة وحجا» وحدثني أمية بن بسطام العيشي، حدثنا يزيد يعني ابن زريع، حدثنا حبيب بن الشهيد، عن بكر بن عبد الله، حدثنا أنس رضي الله عنه: أنه رأى النَّبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما بين الحج والعمرة، قال: فسألت ابن عمر؟ فقال: أهللنا بالحج، فرجعت إلى أنس فأخبرته ما قال ابن عمر، فقال: كأنما كنا صبياناً. انتهى منه.
وحديث ابن عمر هذا لا يحتمل غير إفراد الحج، فلا يحتمل القران ولا التمتع بحال، لأن فيه أن بكراً قال لابن عمر: إن أنساً يقول: إن النَّبي صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة، فرد ابن عمر على أنس دعواه القران قائلاً: إن النَّبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج وحده، وهذا صريح في الإفراد كما ترى. وحديث ابن عمر المذكور أخرجه البخاري أيضاً ا هـ.
وفي رواية: أن رجلاً أتى ابن عمر رضي الله عنهما فقال: بم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال ابن عمر: أهل بالحج، فانصرف ثم أتاه من العام المقبل، فقال: بم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ألم تأتني عام أول؟ قال: بلى، ولكن أنس بن مالك يزعم أنه قرن: قال ابن عمر رضي الله عنهما: إن أنس بن مالك كان يدخل على النساء، وهن منكشفات الرؤوس، وإني كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها أسمعه: يلبي بالحج. رواه البيهقي بإسناده. وقال النووي في شرح المهذب: إن إسناده صحيح.
وأما حديث ابن عباس، فهو ما رواه عنه البخاري ومسلم قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفراً ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر. فقدم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج الحديث هذا لفظ البخاري ومسلم.
وفي رواية في الصحيح عنه رضي الله عنه: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج: لفظ مسلم وفي رواية عنه في الصحيح: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهل بالحج وفي رواية عنه رضي الله عنه في الصحيح: ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج. كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم رحمه الله تعالى.
وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما. قالت: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج. الحديث.
قالوا: فهذه الأحاديث الصحاح دالة على أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أحرم مفرداً، ورواتها من أضبط الصحابة وأتقنهم، قالوا: فمنهم: جابر الذي عرف ضبطه وحفظه وخصوصاً ضبطه لحجته صلى الله عليه وسلم. ومنهم: ابن عمر الذي رد على أنس، وذكر أن لعاب ناقة النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يمسه. ومنهم: عائشة رضي الله عنها وحفظها وضبطها واطلاعها على أحوال النَّبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك معروف. ومنهم: ابن عباس رضي الله عنهما. ومكانته في العلم والحفظ معروفة.
الأمر الثاني من الأمور التي احتج بها القائلون: بأفضلية الإفراد على التمتع، والقران: هو إجماع أهل العلم، على أن المفرد إذا لم يفعل شيئاً من محظورات الإحرام، ولم يخل بشيء من النسك، أنه لا دم عليه، وانتفاء الدم عنه مع لزومه في التمتع والقران: يدل على أنه أفضل منهما، لأن الكامل بنفسه الذي لا يحتاج إلى الجبر بالدم أفضل من المحتاج إلى الجبر بالدم.
وأجاب المخالفون عن هذا: بأن دم التمتع والقران، ليس دم جبر لنقص فيهما. وإنما هو دم نسك محض ألزم في ذلك النسك. واحتجوا على أنه دم نسك. بجواز أكل القارن، والمتمتع من دم قرانه، وتمتعه. قالوا: لو كان جبراً لما جاز الأكل منه كالكفارات، وبأن الجبر في فعل ما لا يجوز والتمتع والقران جائزان، فلا جبر في مباح.
ورد هذا من يخالف في ذلك قائلاً:
إنه دم جبر لا دم نسك، بدليل أن الصوم يقوم مقامه عند العجز عنه. قالوا: والنسك المحض كالأضاحي والهدايا لا يكون الصوم بدلاً منه عند العجز عنه، فلا يكون الصوم بدلاً من دم، إلا إذا كان دم جبر. قالوا: ولا مانع من الأمر بعبادة مع ما يجبرها ويكملها، ولا مانع من أن يرد دليل خاص على جواز الأكل من بعض دماء الجبر.
قالوا: والدليل على وقوع الجبر في المباح: لزوم فدية الأذى المنصوص في آية {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ}: ولا شك أنه جبر في فعل مباح. وكذلك من لبس لمرض أو حر، أو برد شديدين، أو أكل صيداً للضرورة المبيحة للميتة، أو احتاج للتداوي بطيب.
قالوا: ومن الأدلة على أنه دم جبر لا نسك سقوطه عن أهل مكة المنصوص عليه في قوله {ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} فلو كان دم نسك محض، لكان على الجميع من حاضري المسجد الحرام، وغيرهم لاستوائهم جميعاً في حكم النسك المحض. وهذا على قول الجمهور: إن الإشارة في قوله: ذلك راجعة إلى لزوم دم التمتع: أي وأما من كان أهله حاضري المسجد الحرام، فلا دم عليه، إن تمتع بالعمرة إلى الحج خلافاً لابن عباس، ومن وافقه من الحنفية وغيرهم في قولهم: إن الإشارة في قوله {ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} راجعة إلى التمتع بالعمرة إلى الحج، وأن أهل مكة لا تمتع لهم، لأنه على قول الجمهور لا فرق بين الآفاقي، وحاضري المسجد الحرام موجباً لوجوب دم التمتع على الأول وسقوطه عن الثاني، إلا أن الأول: تمتع بالترفه بسقوط أحد السفرين لأحد النسكين: ولذلك قال مالك، وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وأبو حنيفة وأصحابه: إنه إن سافر بعد إحلاله من العمرة وأحرم للحج في سفر جديد أنه لا دم تمتع عليه لزوال العلة مع اختلافهم في قدر السفر المسقط للدم المذكور: فبعضهم يكتفي بسفر مسافة القصر، وهو مذهب أحمد، وهو مروي عن عطاء وإسحاق والمغيرة، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني. وبعضهم: يكتفي بالرجوع إلى الميقات، وهو مذهب الشافعي، وبعضهم يشترط الرجوع إلى محله الذي جاء منه، وعزاه في المغني لأبي حنيفة وأصحابه. وبعضهم: يشترط ذلك أو سفر مسافة بقدره: أعني قدر مسافة المحل الذي جاء منه وهو مذهب مالك وأصحابه. وهذا يدل على أن دم التمتع دم جبر لنقص السفر المذكور، بدليل أن السفر إن حصل عندهم سقط الدم لزوال علة وجوبه.
الأمر الثالث: من الأمور التي استدل بها القائلون: بأفضلية الإفراد بعض الأحاديث الواردة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن التمتع والقران.
قال البيهقي في السنن الكبرى: أخبرنا أبو علي الروذباري، أنبأنا أبو بكر بن داسة، ثنا أبو داود، ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، أخبرني حيوة، أخبرني أبو عيسى الخراساني، عن عبد الله بن القاسم الخراساني، عن سعيد بن المسيب: أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عمر بن الخطاب، فشهد عنده: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه ينهي عن العمرة قبل الحج.
أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، أنبأ عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أبي شيخ الهنائي واسمه خيوان بن خالد: أن معاوية قال لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صفف النمور؟ قالوا: اللهم نعم. قال: وأنا أشهد قال: أتعلمون أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الذهب إلا مقطعاً؟
قالوا: اللهم نعم، قال: أتعلمون أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟ قالوا: اللهم لا، قال: والله إنها لمعهن وكذلك رواه حماد بن سلمة والأشعث بن بزاز عن قتادة، وحماد بن سلمة في حديثه، ولكنكم نسيتم ورواه مطر الوراق، عن أبي شيخ في متعة الحج انتهى من البيهقي.
وقد ذكر النووي في شرح المهذب، عن البيهقي: أنه ذكر بإسناده الحديثين الذين سقناهما عنه آنفاً، ثم قال في الأول منهما: ورواه أبو داود في سننه. وقد اختلفوا في سماع سعيد بن المسيب عن عمر، لكنه لم يرو هنا عن عمر، بل عن صحابي غير مسمى والصحابة كلهم عدول.
ثم قال في الثاني منهما: رواه البيهقي بإسناد حسن انتهى.
وقال أبو داود رحمه الله في سننه: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرنا حيوة، أخبرني أبو عيسى الخراساني، عن عبد الله بن القاسم، عن سعيد بن المسيب: أن رجلاً من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم أتى عمر بن الخطاب، فشهد عنده: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه ينهي عن العمرة قبل الحج.
حدثنا موسى أبو سلمة ثنا حماد، عن قتادة عن أبي شيخ الهنائي خيوان بن خلدة ممن قرأ على أبي موسى الأشعري من أهل البصرة: أن معاوية بن أبي سفيان قال لأصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم: هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كذا وكذا، وعن ركوب جلود النمور؟ قالوا: نعم، قال: فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟ فقالوا: أما هذا فلا، فقال: أما إنها معهن، ولكنكم نسيتم. انتهى منه.
الأمر الرابع: من الأمور التي استدل بها القائلون: بأفضلية الإفراد على غيره، أنه هو الذي كان الخلفاء الراشدون يفعلونه بعده صلى الله عليه وسلم، وهم أفضل الناس وأتقاهم، وأشدهم اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس مفرداً، وحج عمر بن الخطاب عشر سنين بالناس مفرداً، وحج عثمان رضي الله عنه بهم مدة خلافته مفرداً قالوا: فمدة هؤلاء الخلفاء الراشدين الثلاثة حول أربع وعشرين سنة وهم يحجون بالناس مفردين، ولو لم يكن الإفراد أفضل من غيره، لما واظبوا عليه هذه المدة الطويلة.
قال النووي في شرح المهذب، وشرح مسلم في أدلة من فضل الإفراد: ومنها: أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم أفردوا الحج، وواظبوا عليه، كذلك فعل أبو بكر وعمر وعثمان. واختلف فعل علي رضي الله عنهم أجمعين. وقد حج عمر بالناس عشر حجج مدة خلافته كلها مفرداً، ولو لم يكن هذا هو الأفضل عندهم، وعلموا أن النَّبي صلى الله عليه وسلم حج مفرداً لم يواظبوا على الإفراد مع أنهم الأئمة الأعلام، وقادة الإسلام ويقتدى بهم في عصرهم وبعدهم، وكيف يظن بهم المواظبة على خلاف فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم، أو أنهم خفي عليهم جميعهم فعله صلى الله عليه وسلم. وأما الخلاف عن علي وغيره، فإنما فعلوه لبيان الجواز، وقد قدمنا عنهم ما يوضح هذا انتهى منه.
الأمر الخامس: من الأمور التي استدل بها القائلون. بأفضلية الإفراد: هو ما ذكره النووي في شرح المهذب قال: ومنها: أن الأمة أجمعت على جواز الإفراد من غير كراهة، وكره عمر وعثمان وغيرهما ممن ذكرناه قبل هذا التمتع، وبعضهم كره التمتع والقران وإن كانوا يجوزونه على ما سبق تأويله، فكان ما أجمعوا على أنه لا كراهة فيه أفضل. انتهى منه.
وقال البيهقي في السنن الكبرى: فثبت بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز التمتع والقران والإفراد، وثبت بمضي النَّبي صلى الله عليه وسلم في حج مفرد ثم باختلاف الصدر الأول في كراهية التمتع والقران دون الإفراد كون إفراد الحج عن العمرة أفضل. والله أعلم. انتهى منه.
وقال البيهقي في السنن الكبرى أيضاً: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي وأبو بكر بن الحارث الفقيه قالا: ثنا علي بن عمر الحافظ، ثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا أبو هشام، ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا أبو حصين عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال: حججت مع أبي بكر رضي الله عنه فجرد، ومع عمر رضي الله عنه فجرد، ومع عثمان رضي الله عنه فجرد.
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران، أنبأ إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا عبد الكريم بن الهيثم، ثنا أبو اليمان، أخبرني شعيب، أنبأ نافع: أن ابن عمر كان يقول: إن عمر رضي الله عنه كان يقول: أن تفصلوا بين الحج والعمرة، وتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج أتمم لحج أحدكم، وأتم لعمرته انتهى منه.
ثم ساق البيهقي بسنده عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن أبيهما عن علي أنه قال: يا بني افرد الحج، فإنه أفضل ا هـ، وساق بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: جردوا الحج. وفي رواية له عنه: أنه أمر بإفراد الحج قال فكان أحب أن يكون لكل واحد منهما شعث وسفر. انتهى من البيهقي.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تاريخه، قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني، ثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا أبو هشام، ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا أبو حصين، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال: حججت مع أبي بكر فجرد، ومع عمر فجرد، ومع عثمان فجرد. تابعه الثوري، عن أبي حصين، وهذا إنما ذكرناه ها ههنا، لأن الظاهر أن هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم: إنما يفعلون هذا عن توقيف. والمراد بالتجريد ها هنا: الإفراد والله أعلم.
وقال الدارقطني: ثنا أبو عبيد الله القاسم بن إسماعيل، ومحمد بن مخلد قالا: ثنا علي بن محمد بن معاوية البزار، ثنا عبد الله بن نافع، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على الحج، فأفرد، ثم استعمل أبا بكر سنة تسع فأفرد الحج، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر فأفرد الحج، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر، فبعث عمر فأفرد الحج، ثم حج أبو بكر فأفرد الحج، ثم توفي أبو بكر واستخلف عمر، فبعث عبد الرحمن بن عوف فأفرد الحج. ثم حج فأفرد الحج ثم حج عمر سنيه كلها فأفرد الحج في إسناده عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف. لكن قال الحافظ البيهقي: له شاهد بإسناد صحيح. انتهى من البداية والنهاية لابن كثير.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني هارون بن سعيد الإبلي، حدثنا أبو وهب، أخبرني عمرو وهو ابن الحرث، عن محمد بن عبد الرحمن: أن رجلاً من أهل العراق قال له: سل لي عروة بن الزبير، عن رجل يهل بالحج، فإذا طاف بالبيت أيحل أم لا؟ فإن قال لك: لا يحل، فقل له: إن رجلاً يقول ذلك، قال: فسألته فقال: لا يحل من أهل بالحج إلا بالحج، قلت: فإن رجلاً كان يقول ذلك. قال: بئسما قال فتصدَّاني الرجل، فسألني فحدثته فقال: فقل له فإن رجلاً كان يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك وما شأن أسماء والزبير فعلا ذلك؟ قال: فجئنه، فذكرن له ذلك فقال من هذا؟ فقلت: لا أدري، قال: فما باله لا يأتيني بنفسه، يسألني، أظنه عراقياً؟ فقلت: لا أدري قال: فإنه قد كذب قد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة رضي الله عنها: أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة، أنه توضأ ثم طاف بالبيت، ثم حج أبو بكر، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره، ثم عمر مثلُ ذلك، ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به: الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره، ثم معاوية، وعبد الله بن عمر، ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام، فكان أول شيء بدأ به. الطواف بالبيت ثم لم يكن غيره، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ثم لم يكن غيره ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر، ثم لم ينقضها بِعمرةٍ، وهذا ابن عمر عندهم أفلا يسألونه؟ ولا أحد ممن مضى كانوا يبدؤون بشيء حين يضعون أقدامهم أول منَ الطَّواف بالبيت ثم لا يحلون، وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبتدآن بشيء أول من البيت تطوفان به ثم لا تحلان، وقد أخبرتني أمي أنها أقبلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بِعمرةٍ قطُّ، فلما مسحوا الركن حلوا، وقد كذب فيما ذكر من ذلك. انتهى من صحيح مسلم. وفيه التصريح من عروة بن الزبير رضي الله عنهما بأن الخلفاء الراشدين والمهاجرين، والأنصار كانت عادتهم أن يأتوا مفردين بالحج، ثم يتمونه كما رأيت.
وقال النووي في شرح الحديث المذكور وقوله: ثم لم يكن غيره وكذا قال فيما بعده، ولم يكن غيره هكذا هو في جميع النسخ غيره بالغين المعجمة والياء، قال القاضي عياض: كذا هو في جميع النسخ قال: وهو تصحيف وصوابه: ثم لم تكن عمرة بضم العين المهملة وبالميم، وكان السائل لعروة إنما سأله عن فسخ الحج إلى العمرة على مذهب من رأى ذلك، واحتج بأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك في حجة الوداع، فأعلمه عروة: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك بنفسه، ولا من جاء بعده. هذا كلام القاضي.
قلت: هذا الذي قاله من أن قول غيره تصحيف ليس كما قال، بل هو صحيح في الرواية وصحيح في المعنى، لأن قوله غيره يتناول العمرة وغيرها.
ويكون تقدير الكلام: ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم يكن غيره: أي لم يغير الحج، ولم ينقله، ويفسخه إلى غيره لا عمرة ولا قران، والله أعلم، انتهى كلام النووي، وهو صواب.
وقال البخاري في صحيحه: حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي: أنه سأل عروة بن الزبير، فقال: قد حج النَّبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشةُ رضي الله عنها: أنه أول شيء بدأ به حين قدم: أنَّه توضأ، ثم طاف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم حج أبو بكر رضي الله عنه، فكان أول شيء بدأ به: الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة، ثم عمر رضي الله عنه مثل ذلك، ثم حج عثمان رضي الله عنه، فرأيته أول شيء بدأ به: الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرةٌ، ثم معاوية وعبد الله بن عمر، ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام، فكان أول شيء بدأ به: الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ثم لم تكن عمرة، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر، ثم لم ينقصها عمرةً، وهذا ابن عمر عندهم فلا يسألونه ولا أحد ممن مضى، ما كانوا يبدأون بشيء، حتى يضعوا أقدامهم من الطواف بالبيت، ثم لا يحلون. وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبتدئان بشيء أول من البيت تطوفان به ثم لا تحلان، وقد أخبرتني أميِّ: أنها أهلت، هي وأختها والزبير، وفلان، وفلان بعمرةٍ. فلما مسحوا الركن حلوا. انتهى منه. وقال البخاري رحمه الله في صحيحه أيضاً: حدثنا أصبغ، عن ابن وهب: أخبرني عمرو عن محمد بن عبد الرحمن ذكرت لعروَةَ قال: فأخبرتني عائشة رضي الله عنها: أن أول شيء بدأ به حين قدم النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنه توضأ، ثم طاف، ثم لم تكن عمرة، ثم حج أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما مثله، ثم حججت مع أبي الزبير رضي الله عنه، فأولُ شيء بدأ به الطواف، ثم رأيت المهاجرين، والأنصار يفعلونه، وقد أخبرتني أمي: أنها أهلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة، فلما مسحوا الركن حلوا. انتهى منه.
قالوا: وجواب ابن عباس رضي الله عنهما عن حديث عروة المذكور لا يدفع احتجاج عروة بما ذكر، وكذلك جواب ابن حزم، وقد أجاب عروة ابن عباس فأسكته.
أما جواب ابن عباس الذي ذكروه، فهو ما رواه الأعمش، عن فضيل بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عروة: نهى أبو بكر، وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس: أراكم مستهلكون، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: قال أبو بكر وعمر، وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن أيوب قال: قال عروة لابن عباس: ألا تتقي الله ترخص في المتعة، فقال ابن عباس: سل أمك يا عرية، فقال عروة: أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا. فقال ابن عباس: والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله أحدثكم عن رسول الله، وتحدثوننا عن أبي بكر وعمر، فقال عروة: لهما أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأتبع لها منك ا هـ. قالوا: فترى عروة أجاب ابن عباس بجواب أسكته به.
ولا شك أن الخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، كانوا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبع لها لا يمكن ابن عباس أن ينكر ذلك.
وأما جواب ابن حزم فهو قوله: إن ابن عباس أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر من عروة، وأنه يعني ابن عباس خير من عروة وأولى منه بالنَّبي، والخلفاء الراشدين، ثم ساق آثاراً من طريق البزار وغيره عن ابن عباس، يذكر فيها التمتع، عن أبي بكر، وعمر وأن أول من نهى عنه معاوية، ولا يخفى سقوط كلام ابن حزم المذكورة رده على عروة بن الزبير رضي الله عنهما. أما قوله: إن ابن عباس أعلم من عروة، وأفضل فلا يرد رواية عروة بسند صحيح عن الخلفاء الراشدين: أنهم كانوا يفردون كما ثبت في صحيح مسلم. وابن عباس لم يعارض عروة: بأن فعلهما كان مخالفاً لما ذكره عروة من الإفراد، وإنما احتج بأن أمر النَّبي أولى بالاتباع من أمرهما، وقد أجابه عروة بأنهما ما فعلا إلا ما علما من النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنه أكمل وأتبع لسنته صلى الله عليه وسلم. وأما الآثار التي رواها من طريق ليث وغيره فلا يخفى أنها لا تعد شيئاً مع ما ثبت في الصحيحين عنهم من الروايات التي لا مطعن فيها أنهم كانوا يفضلون الإفراد.
ومن فهم كلامهم حق الفهم أعني الخلفاء الراشدين علم أنهم رضي الله عنهم يعلمون جواز التمتع والقران علماً لا يخالجه شك، ولكنهم يرون أنه أتم للحج والعمرة أن يفصل بينهما كما لا يخفى والمعنى غير خاف، بل هو ظاهر من سياق السؤال والجواب لمن تأمل ذلك، ومما يدل على صحة ما ذكره عروة بن الزبير في حديث مسلم المذكور من أن الخلفاء كانوا يفردون ما ثبت في الصحيحين من نحو ذلك، عن عمر، وعثمان رضي الله عنهما.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: بعثني النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم باليمن، فجئت وهو بالبطحاء، فقال: بما أهللت؟ قلت: أهللت كإهلال النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: هل معك من هدي؟ قلت: لا، فأمرني فطفت بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم أمرني فأحللت فأتيت امرأة من قومي فمشطتني، أو غسلت رأسي، فقدم عمر رضي الله عنه فقال: إنْ نأخذ بكتاب الله، فإنه يأمر بالتمام قال الله {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ} وإنْ نأخذ بسنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يحل حتى نَحرَ الهدي. انتهى منه ونحوه أخرجه مسلم أيضاً.
وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور: محصل جواب عمر في منعه الناس من التحلل بالعمرة، أن كتاب الله دال على منع التحلل لأمره بالإتمام، فيقتضي استمرار الإحرام إلى فراغ الحج، وأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً دالة على ذلك، لأنه لم يحل، حتى بلغ الهدي محله، لكن الجواب عن ذلك: هو ما أجاب به هو صلى الله عليه وسلم حيث قال «ولولا أن معي الهدي لأحللت» فدل على جواز الإحلال لمن لم يكن معه هدي، وتبين من مجموع ما جاء عن عمر أنه منع منه سداً للذريعة، وقال المازري: قيل: إن المتعة التي نهى عنها عمر: فسخ الحج إلى العمرة، وقيل: العمرة في أشهر الحج، ثم الحج من عامه. وعلى الثاني: إنما نهى عنها ترغيباً في الإفراد الذي هو أفضل، لا أنه يعتقد بطلانها وتحريمها. وقال عياض: الظاهر أنه نهى عن الفسخ، ولهذا كان يضرب الناس عليه، كما رواه مسلم بناء على معتقده: أن الفسخ كان خاصاً بتلك السنة.
قال النووي: والمختار أنه نهى عن المتعة المعروفة التي هي الاعتمار في أشهر الحج ثم الحج من عامه، وهو على التنزيه للترغيب في الإفراد، كما يظهر من كلامه، ثم انعقد الإجماع على جواز التمتع من غير كراهة، وبقي الاختلاف في الأفضل انتهى الغرض من كلام ابن حجر في الفتح وهو واضح في أن عمر رضي الله عنه ما كان يرى إلا تفضيل الإفراد على غيره، وشاهد لصحة قول من قال: إنه حج بالناس عشر حجج مفرداً، وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن المثنى، وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث، عن أبي نضرة قال:
كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال: على يدي دار الحديث: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وإن القرآن قد نزل منازِلَهُ. فأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله وأبتوا نكاح هذه النساء، فلن أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة، وحدثنيه زهير بن حرب، حدثنا عفان، حدثنا هَمَّامٌ، حدثنا قتادة بهذا الإسناد وقال في الحديث. فافصلوا حجكم من عمرتكم فإنه أتم لحجكم، وأتم لعمرتكم ا هـ منه.
وهو دليل على ما ذكرنا من أن عمر رضي الله عنه: يرى أن الإفراد أفضل، ويدل على صدق من قال: إنه حج عشر حجج بالناس مفرداً كما تقدم.
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غُندَرٌ، حدثنا شُعبة، عن الحَكم، عن علي بن حُسين، عن مروان بن الحَكم قال: شهدت عثمان، وعلياً رضي الله عنهما، وعثمان ينهي عن المتعة، وأن يجمع بينهما الحديث. وفيه التصريح، بأن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يرى أفضلية الإفراد على غيره لنهيه عن التمتع والقران الثابت في الصحيح كما رأيت.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن قتادة قال: قال عبد الله بن شقيق: كان عثمان ينهى عن المتعة، وكان علي يأمر بها الحديث. وفيه التصريح بنهي عثمان رضي الله عنه، عن التمتع، وبما ذكرنا كله تعلم: أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كلهم كانوا يرون الإفراد أفضل، وكان هو الذي يفعلونه كما رأيت. الروايات الصحيحة بذلك، وهو المعروف عنهم رضي الله عنهم فما ورد مما يخالف ذلك فهو مردود بما رأيت.
تنبيه
فإن قيل: هؤلاء الذين يفضلون الإفراد، كمالك، والشافعي، وأصحابهما، وكأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ومن ذكرنا سابقاً ممن يقول: بأفضلية الإفراد على غيره، من أنواع النسك بأي جواب يجيبون عن الأحاديث الصحيحة الواردة: بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً والأحاديث الصحيحة الواردة، بأنه كان متمتعاً والأحاديث الصحيحة الواردة بأنه أمر كل من لم يسق هدياً من أصحابه، بأن يتحلل من إحرامه بعمرة، فالذين أحرموا بالإفراد أمرهم بفسخ الحج في عمرة، والتحلل التام من تلك العمرة وتأسف هو صلى الله عليه وسلم على أنه ساق الهدي الذي صار سبباً لمنعه من التحلل بعمرة وقال «لو استقبلت من أَمري ما استدبرت لما سقت الهدْيَ ولجعلتها عمرة» مع أَنه صلى الله عليه وسلم لا يتأسف على فوات العمرة، إلا وهي أفضل من غيرها والقرآن الذي اختاره الله له لا يكون غيره أفضل منه، لأن الله لا يختار لنبيه في نسكه إلا ما هو الأفضل.
فالجواب: أن المالكية والشافعية يقولون: إن التمتع الذي أمر به صلى الله عليه وسلم من كان مفرداً وذلك بفسخ الحج في العمرة، لا شك أنه في ذلك الوقت، وفي تلك السنة أفضل من غيره، ولكن لا يلزم من أفضليته في ذلك الوقت، أن يكون أفضل فيما سواه.
وإيضاح ذلك: أنه دلت أدلة سيأتي قريباً تفصيلها إن شاء الله، على أن تحتم فسخ الحج المذكور في العمرة، وأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم أصحابه به خاص بذلك الركب وبتلك السنة، وأنه ما أمر بذلك لأفضلية ذلك في حد ذاته، ولكن لحكمة أخرى خارجة عن ذاته: وهي أن يبين للناس، أن العمرة في أشهر الحج جائزة، وما فعله صلى الله عليه وسلم، أو أمر به للبيان والتشريع، فهو قربة في حقه، وإن كان مكروهاً، أو مفضولاً، فقد يكون الفعل بالنظر إلى ذاته مفضولاً أو مكروهاً، ويفعله النَّبي صلى الله عليه وسلم، أو يأمر به لبيان الجواز فيصير قربة في حقه، وأفضل مما هو دونه بالنظر إلى ذاته كما هو مقرر في الأصول، وإليه أشار صاحب مراقي السعود بقوله: وربما يفعل للمكروه مبيناً أنه للتنزيه
فصار في جانبه من القرب كالنهي أن يشرب من فم القرب

وقال في نشر البنود في شرحه للبيتين المذكورتين: يعني، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قد يفعل المكروه المنهي عنه، مبيناً بذلك الفعل، أن النهي للتنزيه لا للتحريم، فصار ذلك الفعل في حقه قربة يثاب عليها لما فيه من البيان، كنهيه عن الشرب من أفواه القرب، وقد شرب منها انتهى منه.
وليس قصدنا أن التمتع والقران مكروهان، بل لا كراهة في واحد منهما يقيناً، ولكن المقصود بيان أن الفعل الذي فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز، يكون بهذا الاعتبار أفضل من غيره، وإن كان غيره أفضل منه، بالنظر إلى ذاته وهذه هي الأدلة الدالة، على أنه فعل ذلك لبيان الجواز ولذلك يختص بذلك الركب، وتلك السنة.
الأول: منها حديث ابن عباس المتفق عليه، الذي قدمناه قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج، من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفراً، ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر، فقدم النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال «الحل كله» قالوا: فقوله في هذا الحديث المتفق عليه: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، وترتيبه بالفاء على ذلك قوله: فأمرهم أن يجعلوها عمرة ظاهر كل الظهور في أن السبب الحامل له صلى الله عليه وسلم على أمرهم:
أن يجعلوا حجهم عمرة، هو أن يزيل من نفوسهم بذلك اعتقادهم أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، فالفسخ لبيان الجواز كما دل عليه هذا الحديث المتفق عليه، لا لأن الفسخ في حد ذاته أفضل، وقد تقرر في مسلك النص، ومسلك الإيماء والتنبيه أن الفاء من حروف: التعليل، كما قدمناه مراراً قالوا: فقول من زعم أن قوله في الحديث المذكور كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، لا ارتباط بينه، وبين قوله: فأمرهم أن يجعلوها عمرة ظاهر السقوط كما ترى، لأنه لو لم يقصد به ذلك، لكان ذكره قليل الفائدة.
ومما يدل على ذلك ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا هناد بن السري، عن ابن أبي زائدة، ثنا ابن جرير، ومحمد بن إسحاق، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش، ومن دان دينهم، كانوا يقولون: إذا عفا الوبر وبرأ الدبر ودخل صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر. فكانوا يحرمون العمرة، حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم ا هـ.
وقد بين الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى في السنن الكبرى: أن حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور، دال على ذلك، ولا ينافي ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما يرى فسخ الحج في العمرة لازماً، لأنه لا مانع من أن يكون يعلم أن الفسخ لبيان الجواز المذكور، كما دل عليه حديثه، وهو يرى بقاء حكمه، ولو كان سببه الأول بيان الجواز ولكن غيره من الخلفاء الراشدين وغيرهم من المهاجرين والأنصار خالفوه في رأيه ذلك.
الدليل الثاني من أدلتهم: على أن فسخ الحج في العمرة المذكور لبيان الجواز، وأنه خاص بذلك الركب، وتلك السنة، هو ما جاء من الأحاديث دالاً على ذلك، قال أبو داود في سننه: حدثنا النفيلي، ثنا عبد العزيز ـ يعني ابن محمد، أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمٰن، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا؟ قال: «بل لكم خاصة» ا هـ.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا عبد العزيز، وهو الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمٰن، عن الحارث بن بلال، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أفسخ الحجْ لنا خاصة، أم للناس عامة؟ قال «بل لنا خاصة» ا هـ.
وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا أبو مصعب، ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمٰن، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج في العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل لنا خاصة».
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: وحدثنا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش عن إبراهيم التيمي، عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحمٰن بن مهدي، عن سفيان، عن عياش العامري، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كانت لنا رخصة يعني: المتعة في الحج. وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن فضيل، عن زبيد، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: قال أبو ذر رضي الله عنه: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني متعة النساء، ومتعة الحج، حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن بيان، عن عبد الرحمٰن بن أبي الشعثاء، قال: أتيت إبراهيم النخعي، وإبراهيم التيمي فقلت: إني أهم أن أجمع العمرة والحج العام، فقال إبراهيم النخعي: لكن أبوك لم يكن لِيَهُمَّ بذلك، قال قتيبة: حدثنا جرير، عن بيان، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه: أنه مَرَّ بأبي ذر رضي الله عنه بالربذة فذكر ذلك له فقال: إنما كانت لنا خاصة دونكم. وقال البيهقي وغيره من الأئمة: مراد أبي ذر بالمتعة المذكورة: المتعة التي أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بها أصحابه رضي الله عنهم وهي فسخ الحج في العمرة. واستدلوا على أن الفسخ المذكور: هو مراد أبي ذر رضي الله عنه بما رواه أبو داود في سننه: حدثنا هناد، يعني ابن السَّري، عن ابن أبي زائدة: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمٰن بن الأسود، عن سلم بن الأسود: أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة: لم يكن ذلك إلا للرَّكب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فهذه الرواية التي في سنن أبي داود فيها التصريح من أبي ذر رضي الله عنه، بفسخ الحج في العمرة وهي تفسر مراده بالمتعة في رواية مسلم، وضعفت رواية أبي داود هذه، بأن ابن إسحاق المذكور فيها مدلس. وقد قال عن عبد الرحمٰن بن الأسود: وعنعنة المدلس لا تقبل عند أهل الحديث، حتى يصح السماع من طريق أخرى. ويجاب عن تضعيف هذه الرواية من جهتين:
الأولى: أن مشهور مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة رحمهم الله: صحة الاحتجاج بالمرسل، ومعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى، كما قدمناه مراراً.
والثانية: أن المقصود من رواية أبي داود المذكورة بيان المراد برواية مسلم، والبيان يقع بكل ما يلزم الإبهام ولو قرينة أو غيرها، كما هو مقرر في الأصول. وقد قدمناه مراراً أيضاً.
وما ذكره عن أبي ذر من الخصوصية المذكورة قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه ورد المخالفون الاستدلال بالحديثين المذكورين من جهتين:
الأولى منهما: تضعيف الحديثين المذكورين، قالوا: حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه المذكور عند أبي داود، والنسائي، وابن ماجه فيه ابنه الحارث بن بلال، وهو مجهول، قالوا: وقال الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله في حديث بلال المذكور: هذا الحديث لا يثبت عندي، ولا أقول به، قال: وقد روي فسخ الحج في العمرة أحد عشر صحابياً، أين يقع الحارث بن بلال منهم؟ قالوا: وحديث أبي ذر، عند مسلم موقوف عليه، وليس بمرفوع، وإذا كان الأول في سنده مجهول، والثاني موقوفاً تبين عدم صلاحيتهما للاحتجاج.
الجهة الثانية: من جهتي رد الحديثين المذكورين: هي أنهما معارضان بأقوى منهما، وهو حديث جابر المتفق عليه: أن سراقة بن مالك بن جعشم، سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال في تمتعهم المذكور: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم «بل للأبد» وفي رواية في الصحيح فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى، وقال «دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لأبد أبد» ورد المانعون تضعيف الحديثين المذكورين، قالوا: حديث بلال المذكور سكت عليه أبو داود، ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج، قالوا: ولم يثبت في الحارث بن بلال جرح. وقد قال ابن حجر في التقريب فيه: هو مقبول، قالوا: واعتضد حديث بما رواه مسلم عن أبي ذر، كما رأيته آنفاً قالوا: إن قلنا إن الخصوصية التي ذكرها أبو ذر بذلك الركب مما لا مجال للرأي فيه، فهو حديث صحيح له حكم الرفع، وقائله اطلع على زيادة علم خفيت على غيره، وإن قلنا إنه مما للرأي فيه مجال، كما يدل عليه كلام عمران بن حصين الآتي. وحكمنا بأنه موقوف على أبي ذر فصدق لهجة أبي ذر المعروف وتقاه، وبعده من الكذب يدلنا على أنه ما جزم بالخصوصية المذكورة، إلا وهو عارف صحة ذلك، وقد تابعه في ذلك عثمان رضي الله عنه قالوا:
ويعتضد حديث الحرث بن بلال المذكور أيضاً بمواظبة الخلفاء الراشدين في زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان على الإفراد، ولو لم يعلموا أن فسخ الحج في العمرة خاص بذلك الركب لما عدلوا عنه إلى غيره، لما هو معلوم من تقاهم، وورعهم، وحرصهم على اتباع النَّبي صلى الله عليه وسلم، فمواظبتهم على إفراد الحج نحو أربع وعشرين سنة يقوي حديث الحارث بن بلال المذكور. وقد رأيت الرواية عنهم بذلك في صحيح البخاري ومسلم، وكذلك غيرهم من المهاجرين والأنصار، كما أوضحه عروة بن الزبير رضي الله عنهما في حديثه المتقدم عند مسلم. قالوا: ورد حديث الحارث بن بلال بأنه مخالف لحديث جابر المتفق عليه في سؤال سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وإجابته له بقوله: بل للأبد لا يستقيم، لأنه لا معارضة بين الحديثين لإمكان الجمع بينهما، والمقرر في علم الأصول، وعلم الحديث: أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعاً، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى، لأنهما صادقان، وليسا بمتعارضين، وإنما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن، لأن إعمال الدليلين معاً أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى، ووجه الجمع بين الحديثين المذكورين: أن حديث بلال بن الحارث المزني، وأبي ذر رضي الله عنهما محمولان على أن معنى الخصوصية المذكورة: التحتم والوجوب، فتحتم فسخ الحج في العمرة، ووجوبه خاص بذلك الركب، لأمره صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، ولا ينافي ذلك بقاء جوازه ومشروعيته إلى أبد الأبد. وقوله في حديث جابر: بل للأبد، محمول على الجواز، وبقاء المشروعية إلى الأبد. فاتفق الحديثان. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لنا صوابه في حديث «بل للأبد» وحديث الخصوصية بذلك الركب المذكورين: هو ما اختاره العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى: وهو الجمع المذكور بين الأحاديث بحمل الخصوصية المذكورة على الوجوب والتحتم، وحمل التأييد المذكور على المشروعية والجواز أو السنة، ولا شك أن هذا هو مقتضى الصناعة الأصولية والمصطلحية، كما لا يخفى.
واعلم: أن الشافعية والمالكية، ومن وافقهم يقولون: إن قوله صلى الله عليه وسلم «بل للأبد» لا يراد به فسخ الحج في العمرة، بل يراد به جواز العمرة في أشهر الحج، وقال بعضهم: المراد به دخول أفعالها في أفعال الحج في حالة القران.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذا المعنى الذي حملت عليه المالكية، والشافعية قول النَّبي لسراقة «بل للأبد» ليس هو معناه، بل معناه: بقاء مشروعية فسخ الحج في العمرة، وبعض روايات الحديث ظاهرة في ذلك ظهوراً بيناً لا يجوز العدول عنه، إلا بدليل يجب الرجوع إليه، بل صريح في ذلك.
وسنمثل هنا لبعض تلك الروايات فنقول: ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه ما لفظه: فقال صلى الله عليه وسلم «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة.» فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: «دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد» انتهى المراد منه. وهو صريح في أن سؤال سراقة عن الفسخ المذكور، وجواب النَّبي له: يدل على تأييد مشروعيته كما ترى، لأن الجواب مطابق للسؤال، فقول المالكية، والشافعية، ومن وافقهم: بأن الفسخ ممنوع لغير أهل حجة الوداع، لا يستقيم مع هذا الحديث الصحيح المصرح، بخلافه كما ترى.
ودعواهم أن المراد بقوله «بل لأبد أبد» جواز العمرة في أشهر الحج، أو اندراج أعمالها فيه في حال القران بعيد من ظاهر اللفظ المذكور كما ترى، وأبعد من ذلك دعوى من ادعى أن المعنى: أن العمرة اندرجت في الحج: أي اندرج وجوبها في وجوبه، فلا تجب العمرة: وإنما تجب على المكلف حجة الإسلام دون العمرة، وبعد هذا القول وظهور سقوطه كما ترى.
والصواب إن شاء الله: هو ما ذكرنا من الجمع بين الأدلة، ووجهه ظاهر لا إشكال فيه.
وقال النووي في شرح المهذب في الجواب عن قول الإمام أحمد: أين يقع الحارث بن بلال من أحد عشر صحابياً رووا الفسخ عنه صلى الله عليه وسلم ما نصه قلت: لا معارضة بينهم، وبينه، حتى يقدموا عليه، لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة، ولم يذكروا حكم غيرهم، وقد وافقهم الحارث في إثبات الفسخ للصحابة، ولكنه زاد زيادة لا تخالفهم وهي اختصاص الفسخ بهم ا هـ.
وإذا عرفت مما ذكرنا أدلة الذين ذهبوا إلى تفضيل الإفراد على غيره من أنواع النسك، وعلمت أن جوابهم عن أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة، أنه لإزالة ما كان في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، وأن الفعل المفعول لبيان الجواز، قد يكون أفضل بذلك الاعتبار من غيره، وإن كان غيره أفضل منه بالنظر إلى ذاته.
فاعلم أنهم ادعوا الجمع بين الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً والأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً وكلها ثابتة في الصحيحين، وغيرهما في حجة الوداع مع الأحاديث المصرحة، بأنه كان مفرداً التي هي معتمدهم في تفضيل الإفراد بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولاً مفرداً، ثم بعد ذلك أدخل العمرة على الحج، فصار قارناً، فأحاديث الإفراد يراد بها عندهم، أنه هو الذي أحرم به أول إحرامه، وأحاديث القران عندهم حق، إلا أنه عندهم أدخل العمرة على الحج فصار قارناً وصيرورته قارناً في آخر الأمر هي معنى أحاديث القران، فلا منافاة. أما الأحاديث الدالة على أنه كان متمتعاً، فلا إشكال فيها، لأن السلف يطلقون اسم التمتع على القران من حيث إن فيه عمرة في أشهر الحج مع الحج، وكذلك أمره لأصحابه بالتمتع وتمنيه له، وتأسفه على فواته بسبب سوق الهدي في قوله: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة» كفعله له قالوا: وبهذا تتفق الأحاديث، ويكون التمتع المذكور بفسخ الحج في العمرة لبيان الجواز، وهو بهذا الاعتبار أفضل من غيره فلا ينافي أن الإفراد أفضل منه بالنظر إلى ذاته، كما سار عليه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، قالوا: ولما أمرهم النَّبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أسفوا، لأنهم أحلوا وهو باقٍ على إحرامه، فأدخل العمرة على الحج لتطيب نفوسهم، بأنه صار معتمراً مع حجه لما أمرهم بالعمرة والمانع له من أن يحل كما أحلوا هو سوق الهدي، قالوا فعمرتهم لبيان الجواز، وعمرته التي بها صار قارناً لمواساتهم لما شق عليهم أنه خالفهم، فصار تمتعهم وقرانه بهذا الاعتبار أولى من غيرهما، ولا يلزم من ذلك أفضليتهما في كل الأحوال، بعد زوال الموجب الحامل على ذلك.
قالوا: وهذا هو الذي لاحظه الخلفاء الراشدون: أبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، فواظبوا على الإفراد نحو أربع وعشرين سنة، كلهم يأخذ بسنة الخليفة الذي قبله في ذلك.
قالوا: وما قاله جماعة من أجلاَّء العلماء، من أن بيان جواز العمرة في أشهر الحج عام حجة الوداع لا داعي له، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بياناً متكرراً في سنين متعددة: وذلك لأنه اعتمر عمرة الحديبية عام ست، وعمرة القضاء عام سبع، وعمرة الجعرانة عام ثمان وكل هذه العمر الثلاث في ذي القعدة من أشهر بالحج.
قالوا: وهذا البيان المتكرر سنة بعد سنة كافٍ غاية الكفاية، فلا حاجة إلى بيان ذلك بأمر الصحابة بفسخ الحج في العمرة. وكذلك قوله «ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل» المتقدم في حديث عائشة.
وإذا كان بيان ذلك لا حاجة إليه تعين أن الأمر بالفسخ المذكور لأفضلية التمتع على غيره لا بشيء آخر. لا شك في أنه ليس بصحيح، وأن بيان ذلك محتاج إليه غاية الاحتياج في حجة الوداع، ولشدة الاحتياج إلى ذلك البيان أمرهم صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة، والدليل على ذلك: هو ما ثبت في حديث ابن عباس المتفق عليه، وقد ذكرناه في أول هذا المبحث.
قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض الحديث. وفيه: فقدم النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال «الحل كله»: وفي البخاري قال «حله كله» فقول ابن عباس في هذا الحديث الصحيح: فتعاظم ذلك عندهم، دليل على أنه في ذلك الوقت، لم يزل عظيماً عندهم. ولو كانت العمر الثلاث المذكورة أزالت من نفوسهم ذلك إزالة كلية، لما تعاظم الأمر عندهم، فتعاظم ذلك الأمر عندهم المصرح به في حديث متفق عليه بعد صبح رابعة من ذي الحجة عام عشر، دليل على أن العمرة عام ست، وعام سبع، وعام ثمان ما أزالت ما كان في نفوسهم لشدة استحكامه فيها. وكذلك: إذنه لمن شاء أن يهل بعمرة السابق في حديث عائشة. والنَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، مودع حريص على إتمام البيان، وحجة الوداع اجتمع فيها جمع من المسلمين، لم يجتمع مثله في موطن من المواطن في حياته صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور: فتعاظم عندهم: أي لما كانوا يعتقدونه أولاً، وفي رواية إبراهيم بن الحجاج: فكبر ذلك عندهم انتهى منه.
قالوا: ولشدة عظمه عندهم، لم يمتثلوا أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أولاً، حتى غضب عليهم بسبب ذلك. وبذلك كله يتضح لك أنما كان مستحكماً في نفوسهم، من أن العمرة في أشهر الحج، من أفجر الفجور في الأرض، لم يزل بالكلية إلى صبح رابعة ذي الحجة سنة عشر.
قالوا: وبه تعلم أن بيان جواز ذلك في حجة الوداع بعمل كل الصحابة الذين لم يسوقوا هدياً لأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم، واعتماره هو مع حجته، أعني قرانه بينهما أمر محتاج إليه جداً للبيان المذكور.
ومما يدل من الأحاديث الصحيحة على أن ما كان في نفوسهم من ذلك لم ينزل بالكلية: ما ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ «وأن النَّبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا بالبيت ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي، فقالوا: ننطلق إلى منًى وذكر أحدنا يقطر؟ فبلغ النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت» الحديث. هذا لفظ البخاري رحمه الله، فقولهم في هذا الحديث الصحيح بعد أن أمرهم صلى الله عليه وسلم، أن يحلوا ننطلق إلى منًى، وذكر أحدنا يقطر: يدل على شدة نفرتهم من الإحلال بعمرة في زمن الحج كما ترى. وذلك يؤكد الاحتياج إلى تأكيد بيان الجواز. وهذا الحديث الصحيح يدفع الاحتمال الذي في حديث ابن عباس المتقدم: لأن قوله «فتعاظم ذلك عندهم» يحتمل أن يكون موجب التعاظم، أنهم كانوا أولاً محرمين بحج، ويدل لهذا الاحتمال حديث جابر الثابت في الصحيح: أنه حج مع النَّبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفرداً، فقال لهم:
«أحلوا من إحرامكم بطواف البيت». الحديث. وفيه فقالوا: كيف نجعلها متعة، وقد سمينا الحج إلى آخر الحديث، فهذا الحديث يدل على أنهم إنما صعب عليهم الإحلال بالعمرة، لأنهم قد سموا الحج، لا لأن ما كان في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، لم يزل باقياً إلى ذلك الوقت، لأن حديث جابر المذكور، أعني قوله: فقالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر، لا يحتمل هذا الاحتمال، بل معناه: أن تعاظم الإحلال بعمرة عندهم، لأنه في وقت الحج كما بينا، وهو يدل على أن ذلك هو المراد من هذا الحديث الأخير، وأنه ليس المراد الاحتمال المذكور، كما جزم به ابن حجر في الفتح في كلامه على الحديث الذي ذكرناه عنه آنفاً.
الأول: منها حديث ابن عباس المتفق عليه، الذي قدمناه قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج، من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفراً، ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر، فقدم النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال «الحل كله» قالوا: فقوله في هذا الحديث المتفق عليه: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، وترتيبه بالفاء على ذلك قوله: فأمرهم أن يجعلوها عمرة ظاهر كل الظهور في أن السبب الحامل له صلى الله عليه وسلم على أمرهم: أن يجعلوا حجهم عمرة، هو أن يزيل من نفوسهم بذلك اعتقادهم أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، فالفسخ لبيان الجواز كما دل عليه هذا الحديث المتفق عليه، لا لأن الفسخ في حد ذاته أفضل، وقد تقرر في مسلك النص، ومسلك الإيماء والتنبيه أن الفاء من حروف: التعليل، كما قدمناه مراراً قالوا: فقول من زعم أن قوله في الحديث المذكور كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، لا ارتباط بينه، وبين قوله: فأمرهم أن يجعلوها عمرة ظاهر السقوط كما ترى، لأنه لو لم يقصد به ذلك، لكان ذكره قليل الفائدة.
ومما يدل على ذلك ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا هناد بن السري، عن ابن أبي زائدة، ثنا ابن جرير، ومحمد بن إسحاق، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش، ومن دان دينهم، كانوا يقولون: إذا عفا الوبر وبرأ الدبر ودخل صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر. فكانوا يحرمون العمرة، حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم ا هـ.
وقد بين الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى في السنن الكبرى: أن حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور، دال على ذلك، ولا ينافي ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما يرى فسخ الحج في العمرة لازماً، لأنه لا مانع من أن يكون يعلم أن الفسخ لبيان الجواز المذكور، كما دل عليه حديثه، وهو يرى بقاء حكمه، ولو كان سببه الأول بيان الجواز ولكن غيره من الخلفاء الراشدين وغيرهم من المهاجرين والأنصار خالفوه في رأيه ذلك.
الدليل الثاني من أدلتهم: على أن فسخ الحج في العمرة المذكور لبيان الجواز، وأنه خاص بذلك الركب، وتلك السنة، هو ما جاء من الأحاديث دالاً على ذلك، قال أبو داود في سننه: حدثنا النفيلي، ثنا عبد العزيز ـ يعني ابن محمد، أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمٰن، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا؟ قال: «بل لكم خاصة» ا هـ.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا عبد العزيز، وهو الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمٰن، عن الحارث بن بلال، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أفسخ الحجْ لنا خاصة، أم للناس عامة؟ قال «بل لنا خاصة» ا هـ.
وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا أبو مصعب، ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمٰن، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج في العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل لنا خاصة».
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: وحدثنا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش عن إبراهيم التيمي، عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحمٰن بن مهدي، عن سفيان، عن عياش العامري، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كانت لنا رخصة يعني: المتعة في الحج. وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن فضيل، عن زبيد، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: قال أبو ذر رضي الله عنه: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني متعة النساء، ومتعة الحج، حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن بيان، عن عبد الرحمٰن بن أبي الشعثاء، قال: أتيت إبراهيم النخعي، وإبراهيم التيمي فقلت: إني أهم أن أجمع العمرة والحج العام، فقال إبراهيم النخعي: لكن أبوك لم يكن لِيَهُمَّ بذلك، قال قتيبة: حدثنا جرير، عن بيان، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه: أنه مَرَّ بأبي ذر رضي الله عنه بالربذة فذكر ذلك له فقال: إنما كانت لنا خاصة دونكم. وقال البيهقي وغيره من الأئمة: مراد أبي ذر بالمتعة المذكورة: المتعة التي أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بها أصحابه رضي الله عنهم وهي فسخ الحج في العمرة. واستدلوا على أن الفسخ المذكور: هو مراد أبي ذر رضي الله عنه بما رواه أبو داود في سننه: حدثنا هناد، يعني ابن السَّري، عن ابن أبي زائدة: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمٰن بن الأسود، عن سلم بن الأسود: أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة: لم يكن ذلك إلا للرَّكب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فهذه الرواية التي في سنن أبي داود فيها التصريح من أبي ذر رضي الله عنه، بفسخ الحج في العمرة وهي تفسر مراده بالمتعة في رواية مسلم، وضعفت رواية أبي داود هذه، بأن ابن إسحاق المذكور فيها مدلس. وقد قال عن عبد الرحمٰن بن الأسود: وعنعنة المدلس لا تقبل عند أهل الحديث، حتى يصح السماع من طريق أخرى. ويجاب عن تضعيف هذه الرواية من جهتين:
الأولى: أن مشهور مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة رحمهم الله: صحة الاحتجاج بالمرسل، ومعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى، كما قدمناه مراراً.
والثانية: أن المقصود من رواية أبي داود المذكورة بيان المراد برواية مسلم، والبيان يقع بكل ما يلزم الإبهام ولو قرينة أو غيرها، كما هو مقرر في الأصول. وقد قدمناه مراراً أيضاً.
وما ذكره عن أبي ذر من الخصوصية المذكورة قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه ورد المخالفون الاستدلال بالحديثين المذكورين من جهتين:
الأولى منهما: تضعيف الحديثين المذكورين، قالوا: حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه المذكور عند أبي داود، والنسائي، وابن ماجه فيه ابنه الحارث بن بلال، وهو مجهول، قالوا: وقال الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله في حديث بلال المذكور: هذا الحديث لا يثبت عندي، ولا أقول به، قال: وقد روي فسخ الحج في العمرة أحد عشر صحابياً، أين يقع الحارث بن بلال منهم؟ قالوا: وحديث أبي ذر، عند مسلم موقوف عليه، وليس بمرفوع، وإذا كان الأول في سنده مجهول، والثاني موقوفاً تبين عدم صلاحيتهما للاحتجاج.
الجهة الثانية: من جهتي رد الحديثين المذكورين: هي أنهما معارضان بأقوى منهما، وهو حديث جابر المتفق عليه: أن سراقة بن مالك بن جعشم، سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال في تمتعهم المذكور: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم «بل للأبد» وفي رواية في الصحيح فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى، وقال «دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لأبد أبد» ورد المانعون تضعيف الحديثين المذكورين، قالوا: حديث بلال المذكور سكت عليه أبو داود، ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج، قالوا: ولم يثبت في الحارث بن بلال جرح. وقد قال ابن حجر في التقريب فيه: هو مقبول، قالوا: واعتضد حديث بما رواه مسلم عن أبي ذر، كما رأيته آنفاً قالوا: إن قلنا إن الخصوصية التي ذكرها أبو ذر بذلك الركب مما لا مجال للرأي فيه، فهو حديث صحيح له حكم الرفع، وقائله اطلع على زيادة علم خفيت على غيره، وإن قلنا إنه مما للرأي فيه مجال، كما يدل عليه كلام عمران بن حصين الآتي. وحكمنا بأنه موقوف على أبي ذر فصدق لهجة أبي ذر المعروف وتقاه، وبعده من الكذب يدلنا على أنه ما جزم بالخصوصية المذكورة، إلا وهو عارف صحة ذلك، وقد تابعه في ذلك عثمان رضي الله عنه قالوا: ويعتضد حديث الحرث بن بلال المذكور أيضاً بمواظبة الخلفاء الراشدين في زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان على الإفراد، ولو لم يعلموا أن فسخ الحج في العمرة خاص بذلك الركب لما عدلوا عنه إلى غيره، لما هو معلوم من تقاهم، وورعهم، وحرصهم على اتباع النَّبي صلى الله عليه وسلم، فمواظبتهم على إفراد الحج نحو أربع وعشرين سنة يقوي حديث الحارث بن بلال المذكور. وقد رأيت الرواية عنهم بذلك في صحيح البخاري ومسلم، وكذلك غيرهم من المهاجرين والأنصار، كما أوضحه عروة بن الزبير رضي الله عنهما في حديثه المتقدم عند مسلم. قالوا: ورد حديث الحارث بن بلال بأنه مخالف لحديث جابر المتفق عليه في سؤال سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وإجابته له بقوله: بل للأبد لا يستقيم، لأنه لا معارضة بين الحديثين لإمكان الجمع بينهما، والمقرر في علم الأصول، وعلم الحديث: أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعاً، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى، لأنهما صادقان، وليسا بمتعارضين، وإنما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن، لأن إعمال الدليلين معاً أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى، ووجه الجمع بين الحديثين المذكورين: أن حديث بلال بن الحارث المزني، وأبي ذر رضي الله عنهما محمولان على أن معنى الخصوصية المذكورة: التحتم والوجوب، فتحتم فسخ الحج في العمرة، ووجوبه خاص بذلك الركب، لأمره صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، ولا ينافي ذلك بقاء جوازه ومشروعيته إلى أبد الأبد. وقوله في حديث جابر: بل للأبد، محمول على الجواز، وبقاء المشروعية إلى الأبد.
فاتفق الحديثان. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لنا صوابه في حديث «بل للأبد» وحديث الخصوصية بذلك الركب المذكورين: هو ما اختاره العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى: وهو الجمع المذكور بين الأحاديث بحمل الخصوصية المذكورة على الوجوب والتحتم، وحمل التأييد المذكور على المشروعية والجواز أو السنة، ولا شك أن هذا هو مقتضى الصناعة الأصولية والمصطلحية، كما لا يخفى.
واعلم: أن الشافعية والمالكية، ومن وافقهم يقولون: إن قوله صلى الله عليه وسلم «بل للأبد» لا يراد به فسخ الحج في العمرة، بل يراد به جواز العمرة في أشهر الحج، وقال بعضهم: المراد به دخول أفعالها في أفعال الحج في حالة القران.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذا المعنى الذي حملت عليه المالكية، والشافعية قول النَّبي لسراقة «بل للأبد» ليس هو معناه، بل معناه: بقاء مشروعية فسخ الحج في العمرة، وبعض روايات الحديث ظاهرة في ذلك ظهوراً بيناً لا يجوز العدول عنه، إلا بدليل يجب الرجوع إليه، بل صريح في ذلك.
وسنمثل هنا لبعض تلك الروايات فنقول: ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه ما لفظه: فقال صلى الله عليه وسلم «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة.» فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: «دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد» انتهى المراد منه. وهو صريح في أن سؤال سراقة عن الفسخ المذكور، وجواب النَّبي له: يدل على تأييد مشروعيته كما ترى، لأن الجواب مطابق للسؤال، فقول المالكية، والشافعية، ومن وافقهم: بأن الفسخ ممنوع لغير أهل حجة الوداع، لا يستقيم مع هذا الحديث الصحيح المصرح، بخلافه كما ترى.
ودعواهم أن المراد بقوله «بل لأبد أبد» جواز العمرة في أشهر الحج، أو اندراج أعمالها فيه في حال القران بعيد من ظاهر اللفظ المذكور كما ترى، وأبعد من ذلك دعوى من ادعى أن المعنى: أن العمرة اندرجت في الحج: أي اندرج وجوبها في وجوبه، فلا تجب العمرة: وإنما تجب على المكلف حجة الإسلام دون العمرة، وبعد هذا القول وظهور سقوطه كما ترى.
والصواب إن شاء الله: هو ما ذكرنا من الجمع بين الأدلة، ووجهه ظاهر لا إشكال فيه.
وقال النووي في شرح المهذب في الجواب عن قول الإمام أحمد: أين يقع الحارث بن بلال من أحد عشر صحابياً رووا الفسخ عنه صلى الله عليه وسلم ما نصه قلت: لا معارضة بينهم، وبينه، حتى يقدموا عليه، لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة، ولم يذكروا حكم غيرهم، وقد وافقهم الحارث في إثبات الفسخ للصحابة، ولكنه زاد زيادة لا تخالفهم وهي اختصاص الفسخ بهم ا هـ.
وإذا عرفت مما ذكرنا أدلة الذين ذهبوا إلى تفضيل الإفراد على غيره من أنواع النسك، وعلمت أن جوابهم عن أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة، أنه لإزالة ما كان في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، وأن الفعل المفعول لبيان الجواز، قد يكون أفضل بذلك الاعتبار من غيره، وإن كان غيره أفضل منه بالنظر إلى ذاته.
فاعلم أنهم ادعوا الجمع بين الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً والأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً وكلها ثابتة في الصحيحين، وغيرهما في حجة الوداع مع الأحاديث المصرحة، بأنه كان مفرداً التي هي معتمدهم في تفضيل الإفراد بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولاً مفرداً، ثم بعد ذلك أدخل العمرة على الحج، فصار قارناً، فأحاديث الإفراد يراد بها عندهم، أنه هو الذي أحرم به أول إحرامه، وأحاديث القران عندهم حق، إلا أنه عندهم أدخل العمرة على الحج فصار قارناً وصيرورته قارناً في آخر الأمر هي معنى أحاديث القران، فلا منافاة. أما الأحاديث الدالة على أنه كان متمتعاً، فلا إشكال فيها، لأن السلف يطلقون اسم التمتع على القران من حيث إن فيه عمرة في أشهر الحج مع الحج، وكذلك أمره لأصحابه بالتمتع وتمنيه له، وتأسفه على فواته بسبب سوق الهدي في قوله: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة» كفعله له قالوا:
وبهذا تتفق الأحاديث، ويكون التمتع المذكور بفسخ الحج في العمرة لبيان الجواز، وهو بهذا الاعتبار أفضل من غيره فلا ينافي أن الإفراد أفضل منه بالنظر إلى ذاته، كما سار عليه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، قالوا: ولما أمرهم النَّبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أسفوا، لأنهم أحلوا وهو باقٍ على إحرامه، فأدخل العمرة على الحج لتطيب نفوسهم، بأنه صار معتمراً مع حجه لما أمرهم بالعمرة والمانع له من أن يحل كما أحلوا هو سوق الهدي، قالوا فعمرتهم لبيان الجواز، وعمرته التي بها صار قارناً لمواساتهم لما شق عليهم أنه خالفهم، فصار تمتعهم وقرانه بهذا الاعتبار أولى من غيرهما، ولا يلزم من ذلك أفضليتهما في كل الأحوال، بعد زوال الموجب الحامل على ذلك.
قالوا: وهذا هو الذي لاحظه الخلفاء الراشدون: أبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، فواظبوا على الإفراد نحو أربع وعشرين سنة، كلهم يأخذ بسنة الخليفة الذي قبله في ذلك.
قالوا: وما قاله جماعة من أجلاَّء العلماء، من أن بيان جواز العمرة في أشهر الحج عام حجة الوداع لا داعي له، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بياناً متكرراً في سنين متعددة: وذلك لأنه اعتمر عمرة الحديبية عام ست، وعمرة القضاء عام سبع، وعمرة الجعرانة عام ثمان وكل هذه العمر الثلاث في ذي القعدة من أشهر بالحج.
قالوا: وهذا البيان المتكرر سنة بعد سنة كافٍ غاية الكفاية، فلا حاجة إلى بيان ذلك بأمر الصحابة بفسخ الحج في العمرة. وكذلك قوله «ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل» المتقدم في حديث عائشة.
وإذا كان بيان ذلك لا حاجة إليه تعين أن الأمر بالفسخ المذكور لأفضلية التمتع على غيره لا بشيء آخر. لا شك في أنه ليس بصحيح، وأن بيان ذلك محتاج إليه غاية الاحتياج في حجة الوداع، ولشدة الاحتياج إلى ذلك البيان أمرهم صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة، والدليل على ذلك: هو ما ثبت في حديث ابن عباس المتفق عليه، وقد ذكرناه في أول هذا المبحث.
قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض الحديث. وفيه: فقدم النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال «الحل كله»: وفي البخاري قال «حله كله» فقول ابن عباس في هذا الحديث الصحيح: فتعاظم ذلك عندهم، دليل على أنه في ذلك الوقت، لم يزل عظيماً عندهم. ولو كانت العمر الثلاث المذكورة أزالت من نفوسهم ذلك إزالة كلية، لما تعاظم الأمر عندهم، فتعاظم ذلك الأمر عندهم المصرح به في حديث متفق عليه بعد صبح رابعة من ذي الحجة عام عشر، دليل على أن العمرة عام ست، وعام سبع، وعام ثمان ما أزالت ما كان في نفوسهم لشدة استحكامه فيها. وكذلك: إذنه لمن شاء أن يهل بعمرة السابق في حديث عائشة. والنَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، مودع حريص على إتمام البيان، وحجة الوداع اجتمع فيها جمع من المسلمين، لم يجتمع مثله في موطن من المواطن في حياته صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور: فتعاظم عندهم: أي لما كانوا يعتقدونه أولاً، وفي رواية إبراهيم بن الحجاج: فكبر ذلك عندهم انتهى منه.
قالوا: ولشدة عظمه عندهم، لم يمتثلوا أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أولاً، حتى غضب عليهم بسبب ذلك. وبذلك كله يتضح لك أنما كان مستحكماً في نفوسهم، من أن العمرة في أشهر الحج، من أفجر الفجور في الأرض، لم يزل بالكلية إلى صبح رابعة ذي الحجة سنة عشر.
قالوا:
وبه تعلم أن بيان جواز ذلك في حجة الوداع بعمل كل الصحابة الذين لم يسوقوا هدياً لأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم، واعتماره هو مع حجته، أعني قرانه بينهما أمر محتاج إليه جداً للبيان المذكور.
ومما يدل من الأحاديث الصحيحة على أن ما كان في نفوسهم من ذلك لم ينزل بالكلية: ما ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ «وأن النَّبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا بالبيت ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي، فقالوا: ننطلق إلى منًى وذكر أحدنا يقطر؟ فبلغ النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت» الحديث. هذا لفظ البخاري رحمه الله، فقولهم في هذا الحديث الصحيح بعد أن أمرهم صلى الله عليه وسلم، أن يحلوا ننطلق إلى منًى، وذكر أحدنا يقطر: يدل على شدة نفرتهم من الإحلال بعمرة في زمن الحج كما ترى. وذلك يؤكد الاحتياج إلى تأكيد بيان الجواز. وهذا الحديث الصحيح يدفع الاحتمال الذي في حديث ابن عباس المتقدم: لأن قوله «فتعاظم ذلك عندهم» يحتمل أن يكون موجب التعاظم، أنهم كانوا أولاً محرمين بحج، ويدل لهذا الاحتمال حديث جابر الثابت في الصحيح: أنه حج مع النَّبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفرداً، فقال لهم: «أحلوا من إحرامكم بطواف البيت». الحديث. وفيه فقالوا: كيف نجعلها متعة، وقد سمينا الحج إلى آخر الحديث، فهذا الحديث يدل على أنهم إنما صعب عليهم الإحلال بالعمرة، لأنهم قد سموا الحج، لا لأن ما كان في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، لم يزل باقياً إلى ذلك الوقت، لأن حديث جابر المذكور، أعني قوله: فقالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر، لا يحتمل هذا الاحتمال، بل معناه: أن تعاظم الإحلال بعمرة عندهم، لأنه في وقت الحج كما بينا، وهو يدل على أن ذلك هو المراد من هذا الحديث الأخير، وأنه ليس المراد الاحتمال المذكور، كما جزم به ابن حجر في الفتح في كلامه على الحديث الذي ذكرناه عنه آنفاً.
ويبين أيضاً: أن ذلك هو معنى حديث جابر عند مسلم، حيث قال رحمه الله في صحيحه: حدثنا ابن نمير، حدثني أبي، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاءٍ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة فكبر ذلك علينا، وضاقت به صدورنا، فبلغ ذلك النَّبي صلى الله عليه وسلم فما ندري أشيء بلغه من السماء، أم شيء من قبل الناس؟ فقال «أيها الناس أحلوا فلولا أن معي الهدي فعلت كما فعلتم» الحديث.
فقول جابر رضي الله عنه في هذا الحديث الصحيح: فكبر ذلك علينا، وضاقت به صدورنا، يدل على أن ما كان في نفوسهم من كراهة العمرة في أشهر الحج، لم يزل ولولا ذلك لما كبر عليهم، ولا ضاقت صدورهم بالإحلال بعمرة في أشهر الحج، كما أوضحه حديثه المذكور أيضاً. وعلى هذا الذي ذكروه، فالذي استدبره من أمره، ولو استقبله لم يسق الهدي: هو ملاحظة البيان المذكور، وإن كان قد بين ذلك سابقاً لاحتياجه إلى تأكيد البيان في مثل ذلك الجمع، وهو مودع، ولا ينافي ذلك أنه أمر القارنين بالفسخ المذكور مع أن العمرة المقرونة مع الحج فيها البيان المذكور، لأن العمرة المفردة عن الحج أبلغ في البيان، لأنها ليست مع الحج، فهي مستقلة عنه فلا يحتمل أنها إنما جازت تبعاً له. وقد أوضحنا في هذا الكلام حجة من قال من أهل العلم: بتفضيل الإفراد على غيره، من أنواع النسك، وجوابهم عما جاء من الأحاديث دالاً على أفضلية القران أو التمتع، ووجه جمعهم بين الأحاديث الصحيحة التي ظاهرها الاختلاف في حجة النَّبي صلى الله عليه وسلم.
المسألة الرابعة
ذهب جماعة من أهل العلم، إلى أن القران هو أفضل أنواع النسك، وممن قال بهذا: أبو حنيفة، وأصحابه، وسفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، والمزني، وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزي، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب، واحتج أهل هذا القول بأحاديث كثيرة، دالة على أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً في حجته.
منها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال «تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل الحج» الحديث أخرجاه بهذا اللفظ.
ومنها: ما أخرجه الشيخان متصلاً بحديث ابن عمر هذا من طريق عروة بن الزبير، عن عائشة: أنها أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن عمر المذكور سواء.
ومنها: ما رواه مسلم والبخاري في صحيحيهما، من حديث قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر «أنه قرن الحج إلى العمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً» ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: ما رواه الشيخان، عن عمران بن حصين الخزاعي رضي الله عنهما، قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله، يعني متعة الحج، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء الحديث، هكذا لفظ مسلم في صحيحه في بعض رواياته لهذا الحديث، ولفظ البخاري قريب منه بمعناه في التفسير، وفي الحج. ومراد عمران بن حصين رضي الله عنهما بالتمتع المذكور: القران بدليل الروايات الصحيحة الثابتة في صحيح مسلم، وغيره المصرحة بذلك.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدثنا عبيد الله بن معاذٍ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن حميْد بن هِلاَلٍ، عن مطرفٍ قال: قال لي عِمْرَانُ بن حصين: أحدثك حديثاً عسى الله أن ينفعك به: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعُمرة، ثم لم ينه عنه، حتى مات، ولم ينزل فيه قُرآنٌ يحرمْهُ، وقد كان يسلم علي حتى اكتَوَيْتُ فتركتُ، ثم تركتُ الكي فعادَ.
حدثناه محمد بن المثنَّى وابن بشار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعبةً، عن حميد بن هِلاَلٍ، قال: سمعت مطرفاً قال: قال لي عِمْران بن حصين: بمثل حديث معاذ.
وحدثنا محمدْ بن المثنَّى وابن بشار. قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن قتادة، عن مطَرف: قال: بعث إلى عمران بن حصين في مرَضِهِ الذي توفي فيه، فقال: إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي، فإن عشت فاكتم عني، وإن مت فحدث بها إن، شئت إنه قد سلم علي، واعلم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حج وعُمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب الله، ولم ينه عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال رجل برأيه ما شاء.
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عِيسى بن يونس، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع بين حج وعمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب، ولم ينهنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فيها رجل برأيه ما شاء. انتهى منه.
وهذه الروايات تبين أن مراده بالتمتع: القران، ومعروف عن الصحابة رضي الله عنهم، أنهم يطلقون اسم التمتع على القران، لأن فيه عمرة في أشهر الحج مع الحج.
ومنها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة» ففي بعض روايات حديثه، قال « صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به على البيداء حمد الله وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما» الحديث، هذا لفظ البخاري في صحيحه، وقد قدمنا بعض ألفاظ مسلم في حديث أنس في القران، ومخالفة ابن عمر له في ذلك، قائلاً: إنه أفرد، وفي بعض روايات حديث أنس عند مسلم عن يحيى بن أبي إسحاق، وعبد العزيز بن صهيب، وحميد، أنهم سمعوا أنساً رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل بهما جميعاً: «لبيك عُمرة وحجًّا، لبَّيك عُمرة وحجًّا»، وقد روي عن أنس رضي الله عنه حديث قران النَّبي هذا ستة عشر رجلاً، كما بينه العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، وهم الحسن البصري وأبو قلابة، وحميد بن هلال وحميد بن عبد الرحمٰن الطويل، وقتادة ويحيى بن سعيد الأنصاري، وثابت البناني، وبكر بن عبد الله المزني، وعبد العزيز بن صهيب، وسليمان التيمي، ويحيى بن أبي إسحاق، وزيد بن أسلم، ومصعب بن سليم، وأبو أسماء وأبو قدامة عاصم بن حسين، وأبو قزعة، وهو سويد بن حجر الباهلي.
ومنها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، وعن أبيها، قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا بعمرة، ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال «إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر» انتهى منهما بلفظه. وهذه العمرة المذكورة في هذا الحديث المتفق عليه عمرة مقرونة مع الحج بلا شك في ذلك، كما جزم به النووي في شرح مسلم.
ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق، يقول: «أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة» ا هـ. وقوله في هذا الحديث وقل عمرة في حجة يدل على القران، والمحتملات الأخر التي حمله عليها بعض المالكية والشافعية وغيرهم لا تظهر كل الظهور: بل معناه القران كما ذكرنا، وجزم به غير واحد والله تعالى أعلم، والأحاديث بمثل مما ذكرنا كثيرة.
وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: منها بضعة وعشرين حديثاً، عن سبعة عشر صحابياً وهم جابر، وعائشة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعمران بن حصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابن أبي أوفى وأبو طلحة، والهرماس بن زياد، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعاً وعده لعثمان رضي الله عنه في جملة من روى القران، مع ما ثبت عنه من النهي عنه يعني به تقريره لعلي رضي الله عنه على القران.
وبالجملة: فثبوت كون النَّبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً بالأحاديث الصحيحة، التي ذكرنا طرفاً منها لا مطعن فيه، وقد قدمنا أن القائلين بأفضلية الإفراد معترفون بقرانه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، إلا أنهم جمعوا بين الأحاديث، بأنه أحرم أولاً مفرداً، ثم أدخل العمرة على الحج فصار قارناً. والذين قالوا: بأفضلية القران جزموا بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم قارناً في ابتداء إحرامه، واستدلوا لذلك بأحاديث صحيحة.
منها: حديث ابن عمر المتفق عليه، وقد قدمناه في هذا المبحث، وفيه: وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج وهو تصريح منه رضي الله عنه، بأنه أهل بالعمرة قبل الحج ومنها: حديث عمر رضي الله عنه عند البخاري، وقد قدمناه أيضاً وفيه «وقل عمرةٍ في حجة» وكان ذلك بالعقيق قبل إحرامه، وأهل هذا القول جمعوا بين الأحاديث الواردة بالإفراد، والأحاديث الواردة بالقران، والأحاديث الواردة بالتمتع، بغير الجمع الذي ذكرناه عن القائلين بأفضلية الإفراد، وهو أن وجه الجمع أن المراد بالإفراد: إفراد أعمال الحج، لأن القارن يفعل في أعمال الحج كما يفعله الحاج المفرد، فيطوف لهما طوافاً واحداً، ويسعى لهما سعياً واحداً، على أصح الأقوال، وأقواها دليلاً. وأما جوابهم عن أحاديث التمتع فواضح لأن الصحابة يطلقون التمتع على القراآن كما قدمنا في حديث عمران بن حصين، وكما يدل له ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، عن سعيد بن المسيب قال: اجتمع عثمان وعلي رضي الله عنهما، وكان عثمان ينهي عن المتعة فقال علي ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه فقال عثمان: دعنا منك فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعاً. فهذا يبين: أن من جمع بينهما كان متمتعاً عندهم، وأن هذا هو الذي فعله صلى الله عليه وسلم، وأقره عثمان، على أن النَّبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، لكن الخلاف بينهما في الأفضل من ذلك.
ومما يدل على أن القارن متمتع عندهم حديث ابن عمر المتفق عليه الذي قدمناه في هذا المبحث فإن في لفظه عند الشيخين «تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، فساق الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج» فتراه صرح بأن مراده بالتمتع القران. المسألة الخامسة
اعلم: أن حجة من قال: بأن التمتع أفضل مطلقاً، ومن قال: بأنه أفضل لمن لم يسق الهدي، وكلاهما مروي عن الإمام أحمد هي: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر جميع أصحابه، الذين لم يسوقوا هدياً أن يفسخوا حجهم في عمرة. كما هو ثابت عن جماعة من الصحابة بروايات صحيحة لا مطعن فيها، وتأسف هو صلوات الله وسلامه عليه، على سوقه للهدي الذي كان سبباً لعدم تحلله بالعمرة معهم. قالوا: لو لم يكن التمتع هو أفضل الأنساك، لما أمر به أصحابه، ولما تأسف على أنه لم يفعله في قوله «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة».
تنبيهات
الأول: اعلم أن دعوى من ادعى أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً التمتع المعروف، وأنه حل من عمرته، ثم أحرم للحج باطلة بلا شك. وقد ثبت بالروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها: أنه كان قارناً، وأنه لم يحل حتى نحر هديه، كما قدمناه في هذا المبحث في حديث أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، وعن أبيها.
فإن لفظ النَّبي صلى الله عليه وسلم في حديثها المتفق عليه قال «إني لبدت رأسي، وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر» والأحاديث بمثله كثيرة. وسبب غلط من ادعى الدعوى الباطلة المذكورة، هو ما أخرجه مسلم في صحيحه:
حدثنا عمرو الناقد، حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس قال: قال ابن عباس: قال معاوية: أعلمت أني قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند المروة بمشقص قلت له: لا أعلم هذا إلا حجة عليك. وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، حدثني الحسن بن مسلم، عن طاوسٍ، عن ابن عباس: أن معاوية بن أبي سفيان أخبره قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة، أو رأيته يقصِّر عنه بمشقص، وهو على المروة. انتهى منه وأخرج البخاري هذا الحديث عن معاوية بلفظ:
قال قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص، فالاستدلال بهذا الحديث، على أن النَّبي أحل بعمرة في حجة الوداع غلط فاحش مردود من وجهين.
الأول: أنه ليس في الحديث المتفق عليه ذكر حجة الوداع، ولا شيء يدل على أن ذلك التقصير كان فيها.
الثاني: ورود الرواية الصحيحة التي لا مطعن فيها أنه لم يحل إلا بعد الرجوع من عرفات، بعد أن نحر هديه. وقال النووي في كلامه على حديث معاوية هذا، وهذا الحديث محمول على أنه قصر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارناً كما سبق إيضاحه، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم حلق بمنى، وفرق أبو طلحة رضي الله عنه شعره بين الناس فلا يجوز حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، ولا يصح حمله أيضاً على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع من الهجرة، لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلماً، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان، هذا هو الصحيح المشهور، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع، وزعم أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً، لأن هذا غلط فاحش فقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة السابقة في مسلم وغيره: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قيل له: ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت؟ قال «إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر الهدي» وفي رواية «حتى أحل من الحج» والله تعالى أعلم انتهى كلام النووي ولا شك أن حمل حديث معاوية على حجة الوداع، لا يصح بحال والعلم عند الله تعالى.
التنبيه الثالث
اعلم أن دعوى من ادعى كنه لم يحل بعمرة من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، إلا من أحرم بالعمرة وحدها، وأن من أهل بحج، أو جمع الحج والعمرة لم يحل أحد منهم، حتى كان يوم النحر دعوى باطلة أيضاً لأن الروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها عن جماعة من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة، بكل الوضوح والصراحة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أمر كل من لم يكن معه هدي، أن يحل بعمرة، سواء كان مفرداً أو قارناً، ومستند من ادعى تلك الدعوى الباطلة، هو ما أخرجه مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمٰن بن نوفل، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج. فأما من أهل بعمرة فحل، وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا، حتى كان يوم النحر انتهى منه لأن الذين لم يحلوا من القارنين، والمفردين في هذا الحديث ونحوه من الأحاديث يجب حملهم، على أن معهم الهدي لأجل الروايات الصحيحة المصرحة بذلك وبأن من لم يكن معهم هدي فسخوا حجهم في عمرة بأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم.
التنبيه الرابع
اعلم أن دعوى من قال: إن النَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، أحرم إحراماً مطلقاً، ولم يعين نسكاً، وأنه لم يزل ينتظر القضاء، حتى جاءه القضاء بين الصفا والمروة أنها دعوى غير صحيحة، وإن قال الإمام الشافعي: في اختلاف الحديث، إن ذلك ثابت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، لأن الروايات المتواترة المصرحة، بأنه صلى الله عليه وسلم عين ما أحرم به من ذي الحليفة، من إفراد، أو قران، أو تمتع، لا تمكن معارضتها لقوتها، وتواترها، واتفاق جميعها على تعيين الإحرام من ذي الحليفة، وإن اختلف في نوعه، ومستند من ادعى تلك الدعوى أحاديث جاءت يفهم من ظاهرها ذلك منها حديث عائشة قالت:
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نذكر حجاً، ولا عمرة. وفي لفظ يُلَبِّي. ولا يَذْكُر حجاً ولا عمرة، ونحو ذلك من الأحاديث، وهذا لا تعارض به تلك الروايات الصحيحة المتواترة. وقد أجاب العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد عن الأحاديث التي استدل بها من ادعى الدعوى المذكورة، فأفاد وأجاد، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه الخامس
اعلم أن الأحاديث الواردة بأنه كان مفرداً والواردة بأنه كان قارناً والواردة بأنه كان متمتعاً لا يمكن الجمع ألبتة بينها إلا الواردة منها بالتمتع، والواردة بالقران، فالجمع بينهما واضح، لأن الصحابة كانوا يطلقون اسم التمتع على القران، كما هو معروف عنهم، ولا يمكن النزاع فيه، مع أن أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتمتع، قد يطلق عليه أنه تمتع لأن أمره بالشيء كفعله إياه أما الواردة بالإفراد فلا يمكن الجمع بينها بحال، مع الأحاديث الواردة بالتمتع والقران فادعاء إمكان الجمع بينها غلط، وإن قال به خلق لا يحصى من أجلاء العلماء.
ويبين أيضاً: أن ذلك هو معنى حديث جابر عند مسلم، حيث قال رحمه الله في صحيحه: حدثنا ابن نمير، حدثني أبي، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاءٍ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة فكبر ذلك علينا، وضاقت به صدورنا، فبلغ ذلك النَّبي صلى الله عليه وسلم فما ندري أشيء بلغه من السماء، أم شيء من قبل الناس؟ فقال «أيها الناس أحلوا فلولا أن معي الهدي فعلت كما فعلتم» الحديث.
فقول جابر رضي الله عنه في هذا الحديث الصحيح: فكبر ذلك علينا، وضاقت به صدورنا، يدل على أن ما كان في نفوسهم من كراهة العمرة في أشهر الحج، لم يزل ولولا ذلك لما كبر عليهم، ولا ضاقت صدورهم بالإحلال بعمرة في أشهر الحج، كما أوضحه حديثه المذكور أيضاً. وعلى هذا الذي ذكروه، فالذي استدبره من أمره، ولو استقبله لم يسق الهدي: هو ملاحظة البيان المذكور، وإن كان قد بين ذلك سابقاً لاحتياجه إلى تأكيد البيان في مثل ذلك الجمع، وهو مودع، ولا ينافي ذلك أنه أمر القارنين بالفسخ المذكور مع أن العمرة المقرونة مع الحج فيها البيان المذكور، لأن العمرة المفردة عن الحج أبلغ في البيان، لأنها ليست مع الحج، فهي مستقلة عنه فلا يحتمل أنها إنما جازت تبعاً له. وقد أوضحنا في هذا الكلام حجة من قال من أهل العلم: بتفضيل الإفراد على غيره، من أنواع النسك، وجوابهم عما جاء من الأحاديث دالاً على أفضلية القران أو التمتع، ووجه جمعهم بين الأحاديث الصحيحة التي ظاهرها الاختلاف في حجة النَّبي صلى الله عليه وسلم.
المسألة الرابعة
ذهب جماعة من أهل العلم، إلى أن القران هو أفضل أنواع النسك، وممن قال بهذا: أبو حنيفة، وأصحابه، وسفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، والمزني، وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزي، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب، واحتج أهل هذا القول بأحاديث كثيرة، دالة على أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً في حجته.
منها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال «تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل الحج» الحديث أخرجاه بهذا اللفظ.
ومنها: ما أخرجه الشيخان متصلاً بحديث ابن عمر هذا من طريق عروة بن الزبير، عن عائشة: أنها أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن عمر المذكور سواء.
ومنها: ما رواه مسلم والبخاري في صحيحيهما، من حديث قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر «أنه قرن الحج إلى العمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً» ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: ما رواه الشيخان، عن عمران بن حصين الخزاعي رضي الله عنهما، قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله، يعني متعة الحج، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء الحديث، هكذا لفظ مسلم في صحيحه في بعض رواياته لهذا الحديث، ولفظ البخاري قريب منه بمعناه في التفسير، وفي الحج. ومراد عمران بن حصين رضي الله عنهما بالتمتع المذكور: القران بدليل الروايات الصحيحة الثابتة في صحيح مسلم، وغيره المصرحة بذلك.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدثنا عبيد الله بن معاذٍ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن حميْد بن هِلاَلٍ، عن مطرفٍ قال: قال لي عِمْرَانُ بن حصين: أحدثك حديثاً عسى الله أن ينفعك به: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعُمرة، ثم لم ينه عنه، حتى مات، ولم ينزل فيه قُرآنٌ يحرمْهُ، وقد كان يسلم علي حتى اكتَوَيْتُ فتركتُ، ثم تركتُ الكي فعادَ.
حدثناه محمد بن المثنَّى وابن بشار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعبةً، عن حميد بن هِلاَلٍ، قال: سمعت مطرفاً قال: قال لي عِمْران بن حصين: بمثل حديث معاذ.
وحدثنا محمدْ بن المثنَّى وابن بشار. قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن قتادة، عن مطَرف: قال: بعث إلى عمران بن حصين في مرَضِهِ الذي توفي فيه، فقال: إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي، فإن عشت فاكتم عني، وإن مت فحدث بها إن، شئت إنه قد سلم علي، واعلم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حج وعُمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب الله، ولم ينه عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال رجل برأيه ما شاء.
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عِيسى بن يونس، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع بين حج وعمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب، ولم ينهنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فيها رجل برأيه ما شاء. انتهى منه.
وهذه الروايات تبين أن مراده بالتمتع: القران، ومعروف عن الصحابة رضي الله عنهم، أنهم يطلقون اسم التمتع على القران، لأن فيه عمرة في أشهر الحج مع الحج.
ومنها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة» ففي بعض روايات حديثه، قال « صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به على البيداء حمد الله وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما» الحديث، هذا لفظ البخاري في صحيحه، وقد قدمنا بعض ألفاظ مسلم في حديث أنس في القران، ومخالفة ابن عمر له في ذلك، قائلاً: إنه أفرد، وفي بعض روايات حديث أنس عند مسلم عن يحيى بن أبي إسحاق، وعبد العزيز بن صهيب، وحميد، أنهم سمعوا أنساً رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل بهما جميعاً: «لبيك عُمرة وحجًّا، لبَّيك عُمرة وحجًّا»، وقد روي عن أنس رضي الله عنه حديث قران النَّبي هذا ستة عشر رجلاً، كما بينه العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، وهم الحسن البصري وأبو قلابة، وحميد بن هلال وحميد بن عبد الرحمٰن الطويل، وقتادة ويحيى بن سعيد الأنصاري، وثابت البناني، وبكر بن عبد الله المزني، وعبد العزيز بن صهيب، وسليمان التيمي، ويحيى بن أبي إسحاق، وزيد بن أسلم، ومصعب بن سليم، وأبو أسماء وأبو قدامة عاصم بن حسين، وأبو قزعة، وهو سويد بن حجر الباهلي.
ومنها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، وعن أبيها، قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا بعمرة، ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال «إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر» انتهى منهما بلفظه. وهذه العمرة المذكورة في هذا الحديث المتفق عليه عمرة مقرونة مع الحج بلا شك في ذلك، كما جزم به النووي في شرح مسلم.
ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق، يقول: «أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة» ا هـ. وقوله في هذا الحديث وقل عمرة في حجة يدل على القران، والمحتملات الأخر التي حمله عليها بعض المالكية والشافعية وغيرهم لا تظهر كل الظهور: بل معناه القران كما ذكرنا، وجزم به غير واحد والله تعالى أعلم، والأحاديث بمثل مما ذكرنا كثيرة.
وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: منها بضعة وعشرين حديثاً، عن سبعة عشر صحابياً وهم جابر، وعائشة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعمران بن حصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابن أبي أوفى وأبو طلحة، والهرماس بن زياد، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعاً وعده لعثمان رضي الله عنه في جملة من روى القران، مع ما ثبت عنه من النهي عنه يعني به تقريره لعلي رضي الله عنه على القران.
وبالجملة: فثبوت كون النَّبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً بالأحاديث الصحيحة، التي ذكرنا طرفاً منها لا مطعن فيه، وقد قدمنا أن القائلين بأفضلية الإفراد معترفون بقرانه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، إلا أنهم جمعوا بين الأحاديث، بأنه أحرم أولاً مفرداً، ثم أدخل العمرة على الحج فصار قارناً. والذين قالوا: بأفضلية القران جزموا بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم قارناً في ابتداء إحرامه، واستدلوا لذلك بأحاديث صحيحة.
منها: حديث ابن عمر المتفق عليه، وقد قدمناه في هذا المبحث، وفيه: وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج وهو تصريح منه رضي الله عنه، بأنه أهل بالعمرة قبل الحج ومنها: حديث عمر رضي الله عنه عند البخاري، وقد قدمناه أيضاً وفيه «وقل عمرةٍ في حجة» وكان ذلك بالعقيق قبل إحرامه، وأهل هذا القول جمعوا بين الأحاديث الواردة بالإفراد، والأحاديث الواردة بالقران، والأحاديث الواردة بالتمتع، بغير الجمع الذي ذكرناه عن القائلين بأفضلية الإفراد، وهو أن وجه الجمع أن المراد بالإفراد: إفراد أعمال الحج، لأن القارن يفعل في أعمال الحج كما يفعله الحاج المفرد، فيطوف لهما طوافاً واحداً، ويسعى لهما سعياً واحداً، على أصح الأقوال، وأقواها دليلاً. وأما جوابهم عن أحاديث التمتع فواضح لأن الصحابة يطلقون التمتع على القراآن كما قدمنا في حديث عمران بن حصين، وكما يدل له ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، عن سعيد بن المسيب قال: اجتمع عثمان وعلي رضي الله عنهما، وكان عثمان ينهي عن المتعة فقال علي ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه فقال عثمان:
دعنا منك فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعاً. فهذا يبين: أن من جمع بينهما كان متمتعاً عندهم، وأن هذا هو الذي فعله صلى الله عليه وسلم، وأقره عثمان، على أن النَّبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، لكن الخلاف بينهما في الأفضل من ذلك.
ومما يدل على أن القارن متمتع عندهم حديث ابن عمر المتفق عليه الذي قدمناه في هذا المبحث فإن في لفظه عند الشيخين «تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، فساق الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج» فتراه صرح بأن مراده بالتمتع القران. المسألة الخامسة
اعلم: أن حجة من قال: بأن التمتع أفضل مطلقاً، ومن قال: بأنه أفضل لمن لم يسق الهدي، وكلاهما مروي عن الإمام أحمد هي: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر جميع أصحابه، الذين لم يسوقوا هدياً أن يفسخوا حجهم في عمرة. كما هو ثابت عن جماعة من الصحابة بروايات صحيحة لا مطعن فيها، وتأسف هو صلوات الله وسلامه عليه، على سوقه للهدي الذي كان سبباً لعدم تحلله بالعمرة معهم. قالوا: لو لم يكن التمتع هو أفضل الأنساك، لما أمر به أصحابه، ولما تأسف على أنه لم يفعله في قوله «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة».
تنبيهات
الأول: اعلم أن دعوى من ادعى أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً التمتع المعروف، وأنه حل من عمرته، ثم أحرم للحج باطلة بلا شك. وقد ثبت بالروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها: أنه كان قارناً، وأنه لم يحل حتى نحر هديه، كما قدمناه في هذا المبحث في حديث أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، وعن أبيها.
فإن لفظ النَّبي صلى الله عليه وسلم في حديثها المتفق عليه قال «إني لبدت رأسي، وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر» والأحاديث بمثله كثيرة. وسبب غلط من ادعى الدعوى الباطلة المذكورة، هو ما أخرجه مسلم في صحيحه:
حدثنا عمرو الناقد، حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس قال: قال ابن عباس: قال معاوية: أعلمت أني قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند المروة بمشقص قلت له: لا أعلم هذا إلا حجة عليك. وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، حدثني الحسن بن مسلم، عن طاوسٍ، عن ابن عباس: أن معاوية بن أبي سفيان أخبره قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة، أو رأيته يقصِّر عنه بمشقص، وهو على المروة. انتهى منه وأخرج البخاري هذا الحديث عن معاوية بلفظ: قال قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص، فالاستدلال بهذا الحديث، على أن النَّبي أحل بعمرة في حجة الوداع غلط فاحش مردود من وجهين.
الأول: أنه ليس في الحديث المتفق عليه ذكر حجة الوداع، ولا شيء يدل على أن ذلك التقصير كان فيها.
الثاني: ورود الرواية الصحيحة التي لا مطعن فيها أنه لم يحل إلا بعد الرجوع من عرفات، بعد أن نحر هديه. وقال النووي في كلامه على حديث معاوية هذا، وهذا الحديث محمول على أنه قصر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارناً كما سبق إيضاحه، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم حلق بمنى، وفرق أبو طلحة رضي الله عنه شعره بين الناس فلا يجوز حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، ولا يصح حمله أيضاً على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع من الهجرة، لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلماً، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان، هذا هو الصحيح المشهور، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع، وزعم أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً، لأن هذا غلط فاحش فقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة السابقة في مسلم وغيره: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قيل له: ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت؟ قال «إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر الهدي» وفي رواية «حتى أحل من الحج» والله تعالى أعلم انتهى كلام النووي ولا شك أن حمل حديث معاوية على حجة الوداع، لا يصح بحال والعلم عند الله تعالى.
التنبيه الثالث
اعلم أن دعوى من ادعى كنه لم يحل بعمرة من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، إلا من أحرم بالعمرة وحدها، وأن من أهل بحج، أو جمع الحج والعمرة لم يحل أحد منهم، حتى كان يوم النحر دعوى باطلة أيضاً لأن الروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها عن جماعة من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة، بكل الوضوح والصراحة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أمر كل من لم يكن معه هدي، أن يحل بعمرة، سواء كان مفرداً أو قارناً، ومستند من ادعى تلك الدعوى الباطلة، هو ما أخرجه مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمٰن بن نوفل، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج. فأما من أهل بعمرة فحل، وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا، حتى كان يوم النحر انتهى منه لأن الذين لم يحلوا من القارنين، والمفردين في هذا الحديث ونحوه من الأحاديث يجب حملهم، على أن معهم الهدي لأجل الروايات الصحيحة المصرحة بذلك وبأن من لم يكن معهم هدي فسخوا حجهم في عمرة بأمرالنَّبي صلى الله عليه وسلم.
التنبيه الرابع
اعلم أن دعوى من قال: إن النَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، أحرم إحراماً مطلقاً، ولم يعين نسكاً، وأنه لم يزل ينتظر القضاء، حتى جاءه القضاء بين الصفا والمروة أنها دعوى غير صحيحة، وإن قال الإمام الشافعي: في اختلاف الحديث، إن ذلك ثابت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، لأن الروايات المتواترة المصرحة، بأنه صلى الله عليه وسلم عين ما أحرم به من ذي الحليفة، من إفراد، أو قران، أو تمتع، لا تمكن معارضتها لقوتها، وتواترها، واتفاق جميعها على تعيين الإحرام من ذي الحليفة، وإن اختلف في نوعه، ومستند من ادعى تلك الدعوى أحاديث جاءت يفهم من ظاهرها ذلك منها حديث عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نذكر حجاً، ولا عمرة. وفي لفظ يُلَبِّي. ولا يَذْكُر حجاً ولا عمرة، ونحو ذلك من الأحاديث، وهذا لا تعارض به تلك الروايات الصحيحة المتواترة. وقد أجاب العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد عن الأحاديث التي استدل بها من ادعى الدعوى المذكورة، فأفاد وأجاد، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه الخامس
اعلم أن الأحاديث الواردة بأنه كان مفرداً والواردة بأنه كان قارناً والواردة بأنه كان متمتعاً لا يمكن الجمع ألبتة بينها إلا الواردة منها بالتمتع، والواردة بالقران، فالجمع بينهما واضح، لأن الصحابة كانوا يطلقون اسم التمتع على القران، كما هو معروف عنهم، ولا يمكن النزاع فيه، مع أن أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتمتع، قد يطلق عليه أنه تمتع لأن أمره بالشيء كفعله إياه أما الواردة بالإفراد فلا يمكن الجمع بينها بحال، مع الأحاديث الواردة بالتمتع والقران فادعاء إمكان الجمع بينها غلط، وإن قال به خلق لا يحصى من أجلاء العلماء.
واختلفوا في وجه الجمع على قولين كما أوضحناه، فمنهم من جمع بأن أحاديث الإفراد، يراد بها: أنه أحرم أولاً مفرداً، وأحاديث القران يراد بها: أنه بعد إحرامه مفرداً أدخل العمرة على الحج، فصار قارناً فصدق هؤلاء باعتبار أول الأمر، وصدق هؤلاء باعتبار آخره، مع أن أكثرهم يقولون: إن إدخال العمرة على الحج خاص به صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لغيره، وهذا الجمع قال به أكثر المالكية، والشافعية. وقال النووي: لا يجوز العدول عنه، ومنهم من جمع بأن أحاديث الإفراد يراد بها: إفراد أعمال الحج، والقارن يعمل في سعيه وطوافه، كعمل المفرد على أصح الأقوال وأقواها دليلاً وكلا الجميعين غلط، مع كثرة وجلالة من قال به من العلماء. وإنما قلنا: إنهما كليهما غلط لأن المعروف في أصول الفقه، وعلم الحديث أن الجمع لا يمكن بين نصين متناقضين تناقضاً صريحاً، بل الواجب بينهما الترجيح، وإنما يكون الجمع بين نصين، لم يتناقضا تناقضاً صريحاً فيحمل كل منهما على محمل، ليس في الآخر التصريح بنقيضه، فيكونان صادقين، ولأجل هذا فجميع العلماء يقولون: يجب الجمع إن أمكن، ومفهوم قولهم: إن أمكن أنهما، إن كانا متناقضين تناقضاً صريحاً، لا يمكن الجمع بينهما، بل يجب المصير إلى الترجيح. فإذا علمت هذا فاعلم أن أحاديث الإفراد صريحة في نفي القران، والتمتع لا يمكن الجمع بينهما أبداً وبين أحاديثهما فابن عمر رضي الله عنهما في حديثه الصحيح المتقدم يكذب أنساً في دعواه القران تكذيباً صريحاً المرة بعد المرة، كما رأيته سابقاً، فكيف يمكن الجمع بين خبرين والمخبران بهما كل منهما يكذب الآخر تكذيباً صريحاً، فالجمع في مثل هذا محال ومن ادعى إمكانه، فقد غلط كائناً من كان، بالغاً ما بلغ من العلم والجلالة. وعائشة رضي الله عنها في حديثها الصحيح المتقدم تقول: فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج فذكرها الأقسام الثلاثة وتصريحها بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم أحرم بواحد معين منها، لا يمكن الجمع بينه، وبين خبر من قال: إنه أحرم بقسم من القسمين الآخرين كما ترى، وفي بعض الروايات: أحرم بالحج خالصاً، وفي بعضها: أحرم بالحج وحده، وفي بعضها: لا نعرف العمرة الخ. وأحاديث القران فيها التصريح بأنه يقول: لبيك حجاً وعمرة فالجمع بينها لا يمكن بحال إلا على قول من قال: إنه كان قارناً يلبي بهما معاً، وسمع بعضهم الحج والعمرة معاً وسمع بعضهم الحج دون العمرة، وبعضهم العمرة دون الحج، فرويى كل ما سمع وعلى أن الجمع غير ممكن فالمصير إلى الترجيح واجب، ولا شك عند من جمع بين العلم والإنصاف أن أحاديث القران أرجح من جهات متعددة، منها كثرة من رواها من الصحابة، وقد قدمنا عن ابن القيم أنها رواها سبعة عشر صحابياً، وأحاديث الإفراد لم يروها إلا عدد قليل، وهم: عائشة، وابن عمر، وجابر، وابن عباس، وأسماء، وكثرة الرواة من المرجحات قال في مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي: وكثرة الدليل والرواية مرجح لدى ذوي الدراية

كما قدمناه في البقرة ومنها: أن من روى عنهم الإفراد، روى عنهم القران أيضاً، ويكفي في أرجحية أحاديث القران: أن الذين قالوا: بأفضلية الإفراد معترفون بأن من رووا القران صادقون في ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً باتفاق الطائفتين، إلا أن بعضهم يقولون: إنه لم يكن قارناً في أول الأمر، وإنما صار قارناً في آخره، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد:
أن أحاديث القران أرجح من خمسة عشر وجهاً فلينظره من أراد الوقوف عليها.
وقد علمت مما تقدم: أن القائلين بأفضلية الإفراد، يقدحون في دلالة أحاديث القران على أفضليته على الإفراد بالقادح المعروف في الأصول بالقول بالموجب، فيقولون: سلمنا أنه كان قارناً مع بقاء نزاعنا في أفضلية القران على الإفراد، لأن قرانه، وأمره أصحابه بالتمتع، لم يكن لأفضلية القران والتمتع في حد ذاتيهما على الإفراد، بل هما في ذلك الوقت أفضل لسبب منفصل، وإن كان الإفراد أفضل منهما في حد ذاته لما قدمنا من أن الفعل المفضول أو المكروه، إذا كان لبيان الجواز كان أفضل بهذا الاعتبار من الفعل الذي هو أفضل منه في حد ذاته كما قدمنا إيضاحه.
وقد قدمنا أدلة من قال بهذا كحديث بلال بن الحارث المزني في السنن، وحديث أبي ذر في مسلم أن ذلك كان خاصاً بذلك الركب في حجة الوداع، وعمل الخلفاء الراشدين نحو أربع وعشرين سنة، وغيرهم من المهاجرين، والأنصار من أفاضل الصحابة، كما ثبت في الصحيحين عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما وثبت عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان في الصحيحين وغيرهما ذلك وقد قدمنا أن الآثار والأحاديث التي ذكرها ابن حزم عنهم مخالفة لذلك لا يلتفت إليها مع الروايات الثابتة في الصحيحين، القاضية بخلافها، فإن قيل سلمنا تسليماً جدلياً أن القران من النَّبي صلى الله عليه وسلم، والتمتع الواقع من الصحابة بأمره في حجة الوداع، كانا لأجل بيان الجواز فاللازم أن تكون مشروعية أفضليتهما باقية كالرمل في الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى، فإنه صلى الله عليه وسلم فعله، وأمر به لسبب خاص، وهو أن يرى المشركين قوة الصحابة، وأنهم لم يضعفهم مرض، ومع كون ذلك لهذا السبب فمشروعية سنيته باقية فليكن قرانه، وتمتع أصحابه بأمره لذلك السبب كذلك.
فالجواب: أن الرمل المذكور لم يرد فيه دليل، يدل على خصوصه بذلك الوقت، بل ثبت ما يدل على بقاء مشروعيته، وهو رمله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعد زوال السبب، والتمتع والقران المذكوران وردت فيهما أدلة تدل على خصوصهما بذلك الركب كحديث بلال بن الحارث المزني، وحديث أبي ذر إلى آخر ما تقدم. وقد قدمنا مناقشة من ضعف الأول، بأن الحارث بن بلال راوي الحديث، عن أبيه مجهول، وأن حديث أبي ذر موقوف.
وبالجملة: فإنه يبعد كل البعد أن أبا بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم يتواطؤون واحداً بعد واحد في نحو أربع وعشرين سنة على إفراد الحج متعمدين لمخالفة هدي النَّبي صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة حاضرون، ولم ينكر منهم أحد، فهذه دعوى باطلة ومقتضاها: أن الأمة جميعها، وخلفاءها الراشدين مكثت هذا الزمن الطويل، وهي على باطل، فهذا باطل بلا شك.
واعلم أن قول عمران بن حصين رضي الله عنه في حديثه المتقدم، معرضاً بعمر رضي الله عنه قال رجل برأيه ما شاء، يعني به: نهى عمر عن التمتع أما إفراده الحج في زمن خلافته، فلم ينكره هو ولا غيره. ومذهب ابن عباس رضي الله عنهما في أن من طاف حل بعمرة شاء أو أبى مذهب مهجور خالفه فيه الصحابة والتابعون، فمن بعدهم فهو كقوله: ينفي العول وبأن الأم لا يحجبها من الثلث إلى السدس، أقل من ثلاثة.
فإن قيل: مذهبه هذا ليس كذلك لأنه دلت عليه نصوص.
فالجواب: هو ما ذكرنا من حجج من خالفوه وهم عامة علماء الأمة والعلم عند الله تعالى.
قال مقيده عفا الله وغفر له: الأظهر عندي في هذه المسألة، هو ما اختاره العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في منسكه، وهو: إفراد الحج بسفر ينشأ له مستقلاً، وإنشاء سفر آخر مستقل للعمرة.
فقد قال رحمه الله في منسكه:
إن عمر رضي الله عنه لم ينه عن المتعة ألبتة، وإنما قال: إن أتم لحجكم، وعمرتكم أن تفصلوا بينهما فاختار عمر لهم أفضل الأمور، وهو إفراد كل واحد منهما بسفر ينشئه له من بلده، وهذا أفضل من القران، والتمتع الخاص بدون سفرة أخرى. وقد نص على ذلك أحمد، وأبو حنيفة، ومالك والشافعي وغيرهم وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما وكان عمر يختاره للناس، وكذلك علي، وقال عمر وعلي في قوله تعالى {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة في عمرتها «أجرك على قدر نصبك» فإذا رجع الحاج إلى دويرة أهله، فأنشأ العمرة منها، واعتمر قبل أشهر الحج، وأقام حتى يحج أو اعتمر في أشهره، ورجع إلى أهله، ثم حج فها هنا قد أتى بكل واحد من النسكين من دويرة أهله. وهذا إتيان بهما على الكمال فهو أفضل من غيره انتهى منه بواسطة نقل تلميذه ابن القيم في الزاد فترى هذا العلامة المحقق صرح بأن إفراد كل منهما بسفر أفضل من التمتع والقران، وأن الأئمة الأربعة متفقون على ذلك، وأن عمر، وعلياً يريان ذلك عملاً بنص القرآن العظيم، وبذلك تعلم أن قول بعض المتأخرين بمنع الإفراد مطلقاً مخالف للصواب كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
المسألة السادسة:
اعلم أن العلماء اختلفوا في طواف القارن والمتمتع إلى ثلاثة مذاهب.
الأول: أن على القارن طوافاً واحداً وسعياً واحداً، وأن ذلك يكفيه لحجه، وعمرته، وأن على المتمتع طوافين وسعيين، وهذا مذهب جمهور العلماء منهم مالك، والشافعي، وأحمد في أصح الروايات.
الثاني: أن على كل واحد منهما سعيين وطوافين وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
الثالث: أنهما معاً يكفيهما طواف واحد، وسعي واحد وهو مروي عن الإمام أحمد. أما الجمهور المفرقون بين القارن والمتمتع القائلون: بأن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف زيارة واحد، وهو طواف الإفاضة، وسعي واحد فاحتجوا بأحاديث صحيحة ليس مع مخالفيهم ما يقاومها.
منها: ما ثبت في صحيح مسلم بن الحجاج رحمه الله: حدثني محمد بن حاتم، حدثنا بَهْزٌ، حدثنا وهب، حدثنا عبد الله بن طاوُسٍ، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أنها أهلت بعمرة، فقدمت ولم تطف بالبيت، حتى حاضت، فنسكت المناسك كلها، وقد أهلَّت بالحج فقال لها النَّبي صلى الله عليه وسلم، يوم النَّفْرِ «يَسَعُك طوافُكِ لحجِّك وعُمرتِكِ» الحديث ففي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنها كانت محرمة أولاً، ومنعها الحيض من الطواف فلم يمكنها أن تحل بعمرة فأهلت بالحج مع عمرتها الأولى فصارت قارنة، وقد صرح النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح. بأنها قاربة حيث قال «لحجك وعمرتك» ومع ذلك صرح، بأنها يكفيها لهما طواف واحد.
وقال مسلم رحمه الله أيضاً في صحيحه: وحدثني حسنُ بن علي الحُلْوانيُّ، حدثنا زيد بن الحُبَابِ، حدثني إبراهيم بن نافع، حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عائشة رضي الله عنها: أنها حاضت بِسَرِفَ فَتطهَّرت بِعَرفَةَ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «يجزِىءَ عنك طوافك بالصَّفا والمروة عن حجِّك وعُمرتِكِ» ا هـ منه.
فهذا الحديث الصحيح صريح في أن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد.
ومنها: حديث ابن عمر المتفق عليه الذي قدمناه، قال البخاري رحمه الله في صحيحه في بعض رواياته لهذا الحديث: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، عن أيوب عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما دخل ابنه عبيد الله بن عبد الله وظَهْرهُ في الدار فقال: إنِّي لا آمن أن يكُونَ العام بين الناس فقال:
فيصدوك عن البيتِ، فلو أَقَمت؟ فقال: قد خرج رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فحالَ كُفَّار قريشٍ بينه وبين البيت، فإن حيلَ بيني وبينَهُ أفعلُ كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ثم قال: أُشهدكم أني أوجبتُ مع عُمرتي حجَّاً، قال: ثم قدِم فطاف لهما طوافاً واحداً.
حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما أراد الحاج عام نزل الحجاج بابن الزُّبَير فَقِيل له: إنَّ الناس كائِنٌ بينهم قِتالٌ، وإنَّا نخاف أن يَصُدُّوك؟ فقال: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} إذاً أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة، ثم خرج إذا كان بظاهرِ البيداء قال: ما شأن الحجِّ والعمرة إلا واحد، أشهدكم أني قد أَوجبتُ حجاً مع عُمرتي، وأَهْدَى هدياً اشتراه بقُدَيْدٍ، ولم يزد على ذلك فلم ينحر: ولم يحلَّ من شيءٍ حرمَ مَنه، ولم يحلق، ولم يقصِّر حتى كان يوم النَّحرِ فنَحرَ وحلَقَ، ورأى أن قد قضى طواف الحج، والعمرة بطوافِهِ الأولِ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى منه، وفي هذا الحديث الصحيح التصريح من ابن عمر باكتفاء القارن بطواف واحد وأن النَّبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل. وبعض العلماء حمل الطواف المذكور، على طواف الإفاضة، وبعضهم حمله على الطواف بين الصفا والمروة. أما حمله على طواف القدوم فباطل بلا شك، لأن النَّبي لم يكتف بطواف القدوم، بل طاف طواف الإفاضة الذي هو ركن الحج بإجماع المسلمين.
وقال الكرماني في شرح الحديث المذكور، فإن قلت: ما المقصود من الطواف الأول إذ لا يجوز أن يراد به طواف القدوم؟
قلت: يعني أنه لم يكرر الطواف للقران، بل اكتفى بطواف واحد، وقد أخرج حديث ابن عمر هذا مسلم في صحيحه من طرق متعددة، وفي لفظ منها: أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرة، فانطلق حتى ابتاع بِقُديدٍ هدياً، ثم طافَ لهما طوافاً واحداً بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم لم يَحِلُّ منهما حتى حل منهما بحجة يوم النحر ا هـ.
وقال النووي معناه: حتى حل منهما يوم النحر بعمل حجة مفردة. وفي بعض الروايات مسلم لحديث ابن عمر هذا: أشهدكم أني أوجبت حجاً مع عمرتي، وأهدى هديًّا اشتراه بقديد، ثم انطلق يهل بهما جميعاً حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة، ولم يزد على ذلك، ولم ينحر، ولم يحلق، ولم يقصر، ولم يحلل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول. وقال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى منه، وهو صريح في أن القارب يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن مراد ابن عمر في قوله: ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، في مسلم والبخاري، هو الطواف بين الصفا والمروة، ويدل على ذلك أمران: الأول منهما: هو ما قدمنا في بعض روايات مسلم في صحيحه مما لفظه: ثم طاف لهما طوافاً واحداً بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم لم يَحِلَّ منهما، حتى حل منهما بحجة، ومعلوم أن الحل بحجة لا يمكن بدون طواف الإفاضة. أما السعي في الحجة، فيكفي فيه السعي الأول بعد طواف القدوم، فيتعين أن الطواف الأول الذي رأى إجزاءه عن حجه وعمرته، هو الطواف بين الصفا والمروة، بدليل الرواية الصحيحة، بأنه لم يحل منهما إلا بحجة يوم النحر، وحجة يوم النحر أعظم أركانها طواف الإفاضة، فبدونه لا تسمى حجة لأنه ركنها الأكبر المنصوص على الأمر به في كتاب الله في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ}.
الأمر الثاني: الدال على ذلك، هو: أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعل النَّبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الروايات الصحيحة، أنه اكتفى بسعيه بين الصفا والمروة، بعد طواف القدوم لحجه وعمرته، وأنه بعد إفاضته من عرفات، طاف طواف الإفاضةَ يوم النحر عَلَى التحقيق، فحديث ابن عمر هذا نص صحيح متفق عليه، على أن القارن يعمل كعمل المفرد، وعلى هذا يحمل الطواف الواحد في حديث عائشة الآتي فيفسر بأنه الطواف بين الصفا والمروة، لأن القارن لا يسعى لحجه وعمرته إلا مرة واحدة.
وقال ابن حجر في الفتح في كلامه على الروايتين اللتين أخرج بهما البخاري حديث ابن عمر المذكور أعني اللتين سقناهما آنفاً ما نصه: والحديثان ظاهران في أن القارب لا يجب عليه إلا طواف واحد كالمفرد، وقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن نافع عن ابن عمر أصرح من سياق حديثي الباب في الرفع، ولفظه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال «من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد» وأعله الطحاوي بأن الدراوردي أخطأ فيه، وأن الصواب أنه موقوف، وتمسك في تخطئته بما رواه أيوب، والليث، وموسى بن عقبة وغير واحد عن نافع نحو سياق ما في الباب، من أن ذلك وقع لابن عمر، وأنه قال: إن النَّبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، لا أنه روي هذا اللفظ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهو إعلال مردود، فالدراوردي صدوق، وليس ما رواه مخالفاً لما رواه غيره، فلا مانع من أن يكون الحديث عند نافع على الوجهين انتهى كلام ابن حجر في الفتح.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذا الحديث الذي نحن بصدده ليس بموقوف على كلا التقديرين، لأن ابن عمر لما طاف لهما طوافاً واحداً، أخبر بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك وهذا عين الرفع، فلا وقف ألبتة كما ترى، وحديث ابن عمر هذا الذي ذكر ابن حجر في الفتح: أن سعيد بن منصور أخرجه أصرح من حديثي الباب عند البخاري قال فيه المجد في المنتقى: رواه أحمد وابن ماجه، وفي لفظ: من أَحرم بالحج والعمرة أجزأه طوافٌ واحد وسعيٌ واحد منهما حتى يَحِلَّ منهما جميعاً رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. وفيه دليل على وجوب السعي، ووقوف التحلل عليه.
ومنها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل منهما جميعاً» الحديث، وفيه: وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً انتهى. وهو نص صريح متفق عليه دال على اكتفاء القارن بطواف واحد لحجه وعمرته.
وقال بعض أهل العلم: إن المراد بالطواف في حديث عائشة، هذا هو الطواف بين الصفا والمروة، وله وجه من النظر، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
ومنها: حديث جابر الذي قدمناه عند مسلم، وفيه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال «دخلت العمرة في الحج مرتين» وتصريحه صلى الله عليه وسلم بدخولها فيه، يدل على دخول أعمالها في أعماله حالة القران، وإن أوله جماعات من أهل العلم بتأويلات أخر متعددة.
والأحاديث الدالة على أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد كفعل المفرد كثيرة، وفيما ذكرنا هنا من الأحاديث الصحيحة كفاية لمن يريد الحق وهذا الذي ذكرناه بعض أدلة القائلين بالفرق بين القران والتمتع، وأن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد لعمرته وحجه. وقد رأيت ما ذكر من أدلتهم على أن القارن يكفيه طواف واحد، وسعي واحد.
أما أدلة هذه الطائفة على أن المتمتع لا بد له من طوافين وسعيين، طواف وسعي لعمرته، وطواف وسعي لحجه. فمنها: ما رواه البخاري في صحيحه قال: وقال أبو كامل فُضيلُ بن حُسين البَصريُّ: حدثنا أبو معشر، حدثنا عثمان بن غِيَاثٍ، عن عِكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سُئِل عن متعة الحج؟ فقال: أَهلَّ المهاجرون، والأنصار، وأزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجعلوا إهلالكم بالحجِّ عُمرة إلا من قلد الهدي» طفنا بالبيت وبالصَّفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب وقال «من قَلَّد الهدي فإنه لا يَحِلُّ له حتى يبلغ الهدي محله» ثم أمرَنا عَشِيَّة التَّرْوِية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك، جئنا فَطَفنا بالبيت، وبالصفا والمروة، وقد تم حجنا وعلينا الهدي. الحديث.
فهذا الحديث الثابت في صحيح البخاري فيه الدلالة الواضحة على أن الذين تمتعوا، وأَحلوا من عمرتهم طافوا وسعوا لعمرتهم، وطافوا وسعوا مرة أخرى لحجهم، وهو نص في محل النزاع.
واعلم أن دعوى من ادعى من العلماء أن رواية البخاري في هذا الإسناد، عن أبي كامل فضيل بن حسين البصري بلفظ: وقال أبو كامل لها حكم التعليق غير مسلمة، بل الذي عليه الجمهور من المتأخرين أو الراوي إذا قال: قال: فلان، فحكم ذلك كحكم عن فلان ونحو ذلك، فالرواية بذلك متصلة، لا معلقة إن كان الراوي غير مدلس، وكان معاصراً لمن روى عنه بقال ونحوها، ولذا غلطوا ابن حزم في حديث المعازف حيث قال: إن قول البخاري في أول الإسناد: وقال هشام بن عمار تعليق وليس الحديث بمتصل، فغلطوه وحكموا للحديث بالاتصال، لأن هشام بن عمار من شيوخ البخاري والبخاري غير مدلس، فقوله: عن شيخه، قال فلان: كقوله عن فلان، وكل ذلك موصول لا معلق.
واعلم أن قول ابن حجر في تهذيب التهذيب: إن البخاري روى عن فضيل المذكور تعليقاً، مخالف لمذهب الجمهور من المتأخرين، لأن قوله: وقال أبو كامل في حكم ما لو قال: عن أبي كامل، وكل ذلك يحكم بوصله عند المحققين، فقول ابن حجر في الفتح أقرب إلى الصواب من قوله في التهذيب. وقد قال في فتح الباري في كلامه على الحديث المذكور، ويحتمل أن يكون البخاري أخذه عن أبي كامل نفسه، فإنه أدركه وهو من الطبقة الوسطى من شيوخه، ولم نجد له ذكراً في كتابه غير هذا الموضع انتهى منه.
ومعلوم أن أبا كامل مات سنة سبع وثلاثين ومائتين. وله أكثر من ثمانين سنة والبخاري مات سنة ست وخمسين ومائتين، وله اثنان وستون سنة، وبذلك تعلم معاصرتهما زمناً طويلاً، وقد قال العراقي في ألفيته: وإن يكن أول الإسناد حذف مع صيغة الجزم فتعليقاً ألف
ولو إلى آخره أما الذي لشيخه عزا بقال فكذى
عنعنة كخبر المعازف لا تصغ لابن حزم المخالف

وإذا علمت أنه في هذه الأبيات صرح بأن قوله: قال فلان: كقوله: عن فلان، تبين لك أن كل ذلك من قبيل المتصل، لا من قبيل المعلق، وقد قال العراقي في ألفيته أيضاً: وصححوا وصل معنعن سلم من دلسه راويه واللقا علم
وبعضهم حكى بذا إجماعا ومسلم لم يشرط اجتماعا
لكن تعاصراً وقيل يشترط طول صحابة وبعضهم شرط
معرفة الراوي بالأخذ عنه وقيل كل ما أتانا منه
منقطع حتى يبين الوصل وحكم أن حكم عن فالجل
سووا وللقطع نحا البرديجي حتى يبين الوصل في التخريج
قال ومثله رأي ابن شيبه كذا له ولم يصوب صوبه
قلت الصواب أن من أدرك ما رواه بالشرط الذي تقدما
يحكم له بالوصل كيفما روى بقال أو عن أو بأن فوا
وما حكي عن أحمد بن حنبل وقول يعقوب على ذا نزل
وكثر استعمال عن في ذا الزمن إجازة وهو بوصل ما قمن

انتهى منه.
فترى العراقي رحمه الله جزم في الأبيات المذكورة، باستواء قال: فلان، وعن فلان، وأن فلاناً قال كذا: وأن الجميع من قبيل الوصل، لا من قبيل العلق بالشروط المذكورة. وحكى مقابله بصيغة التمريض في قوله: وقيـل كـل مـا أتانـا عنـه منقطـع الخ .
وبه تعلم أن قول البخاري: وقال أبو كامل فضيل بن حسين الخ من قبيل المتصل لا من قبيل المعلق.
وقال صاحب تدريب الراوي: أما ما عزاه البخاري لبعض شيوخه بصيغة: قال فلان، وزاد فلان ونحو ذلك، فليس حكمه حكم التعليق عن شيوخ شيوخه، ومن فوقهم، بل حكمه حكم العنعنة من الاتصال بشرط اللقاء والسلامة من التدليس، كذا جزم به ابن الصلاح، قال: وبلغني عن بعض المتأخرين من المغاربة أنه جعله قسماً من التعليق ثانياً، وأضاف إليه قول البخاري، وقال فلان، وزاد فلان فوسم كل ذلك بالتعليق، قال العراقي: وما حزم به ابن الصلاح ها هنا هو الصواب، وقد خالف ذلك في نوع الصحيح فجعل من أمثلة التعليق قال عفان. كذا، وقال القعنبي كذا، وهما من شيوخ البخاري. والذي عليه عمل غير واحد من المتأخرين كابن دقيق العيد، والمزي، أن لذلك حكم العنعنة، قال ابن الصلاح هنا: وقد قال أبو جعفر بن حمدان النيسابوري، وهو أعرف بالبخاري: كل ما قال البخاري: قال لي فلان أو قال لنا فلان: فهو عرض ومناولة. انتهى محل الغرض منه. والنيسابوري المذكور هو المراد بالحيرى في قول العراقي في ألفيته:
وفي البخاري قال لي فجعله )خيريهم للعرض والمناوله
واعلم أن البخاري رحمه الله تعالى قد يقول: قال فلان مع سماعه منه لغرض غير التعليق.
قال ابن حجر في فتح الباري في شرح حديث المعازف المذكور ناقلاً عن ابن الصلاح، ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر، أو أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليكونن مِنْ أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف» من جهة أن البخاري أورده قائلاً: قال هشام بن عمار وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جواباً عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك في وجوه. والحديث صحيح معروف الاتصال، بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسنداً متصلاً، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع انتهى منه.
وكون البخاري رحمه الله يعبر بقال فلان لأسباب كثيرة غير التعليق، يدل دلالة واضحة على أن الجزم في مثل ذلك بالتعليق بلا مستند، دعوى لم يعضدها دليل.
وقال ابن حجر في الفتح أيضاً في شرح الحديث المذكور: وحكى ابن الصلاح في موضع آخر: أن الذي يقول البخاري فيه قال فلان، يسمى شيخاً من شيوخه، يكون من قبيل الإسناد المعنعن. وحكى عن بعض الحفاظ أو يفعل ذلك فيما تحمله عن شيخه مذاكرة. وعن بعضهم أنه فيما يرويه مناولة ا هـ، وهو صريح في أن قوله: قال فلان: لا يستلزم التعليق.
فإن قيل: توجد في صحيح البخاري أحاديث يرويها عن بعض شيوخه بصيغة: قال فلان، ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه، وبين ذلك الشيخ.
فالجواب من وجهين:
الأول: أنه لا مانع عقلاً ولا عادة، ولا شرعاً من أن يكون روي ذلك الحديث عن الشيخ مباشرة ورواه عنه أيضاً بواسطة مع كون روايته عنه مباشرة تشتمل على سبب من الأسباب المؤدية للتعبير بلفظة: قال المشار إليها آنفاً، والرواية عن الواسطة سالمة من ذلك.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا تسليماً جدلياً أن الصيغة المذكورة تقتضي التعليق،
ولا تقتضي الاتصال، فتعليق البخاري بصيغة الجزم، حكمه عند علماء الحديث حكم الصحيح، كما هو معروف.
وقد قال ابن حجر في الفتح في الكلام على حديث المعازف ما نصه: وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعليق كلها بصيغة الجزم، يكون صحيحاً إلى من علق عنه، ولو لم يكن من شيوخه. انتهى محل الغرض منه.
فتبين بما ذكرنا أن حديث ابن عباس المذكور الدال على أن المتمتع يسعى، ويطوف لحجه بعد الوقوف بعرفة، ولا يكتفي بطواف العمرة السابق، وسعيها نص صحيح على كل تقدير في محل النزاع.
ومنها: ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها مما يدل على أن المتمتع يطوف لحجه بعد رجوعه من منى، قال البخاري في صحيحه: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرجنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً» الحديث، وفيه قالت: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً واحداً بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافاً واحداً. ا هـ منه.
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع. الحديث، وفيه: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم: وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافاً واحداً. انتهى منه.
فهذا نص صريح متفق عليه، يدل على الفرق بين القارن والمتمتع، وأن القارن يفعل كفعل المفرد والمتمتع يطوف لعمرته، ويطوف لحجه فلا وجه للنزاع في هذه المسألة بعد هذا الحديث، وحديث ابن عباس المذكور قبله عند البخاري. وقول من قال: إن المراد بالطواف الواحد في حديث عائشة هذا السعي، له وجه من النظر واختاره ابن القيم، وهو وجيه عندي.
فهذه النصوص تدل على صحة هذا القول المفرق بين القارن والمتمتع، وهو قول جمهور أهل العلم، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
أما من قال: إن المتمتع كالقارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد، وهو رواية عن الإمام أحمد، فقد استدل بما رواه مسلم في صحيحه، قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جُريج، ح. وحدثنا عَبْدُ ابْنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا محمد بن بَكرٍ، أخبرنا ابن جُريج قال: أخبرني أبو الزُّبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: لم يطف النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه بين الصفا والمروة، إلا طوافاً واحداً زاد في حديث محمد بن بكر طوافَهُ الأول. انتهى منه.
قال: من تمسك بهذا الحديث، هذا نص صحيح، صرح فيه جابر بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يطف هو ولا أصحابه إلا طوافاً واحداً، ومعلوم أن أصحابه فيهم القارن، وهو من كان معه الهدي، وفيهم المتمتع، وهو من لم يكن معه هدي، وأذن ففي هذا الحديث الصحيح الدال على استواء القارن والمتمتع في لزوم طواف واحد وسعي واحد.
وأجاب المخالفون عن هذا بأجوبة:
الأول: هو أن الجمع واجب إن أمكن، قالوا: وهو هنا ممكن بحمل حديث جابر هذا على أن المراد بأصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم الذين لم يطوفوا إلا طوافاً واحداً للعمرة والحج، خصوص القارنين منهم، كالنَّبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان قارناً بلا شك، وإن حمل حديث جابر على هذا كان موافقاً لحديث عائشة، وحديث ابن عباس المتقدمين، وهذا واضح كما ترى. قال في مراقي السعود: والجمع واجب متى ما أمكنا إلا فللأخير نسخ بينا

وإنما كان قول العلماء كافة: أن الجمع إن أمكن وجب المصير إليه لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، كما هو معروف في الأصول.
الجواب الثاني: أنا لو سلمنا أن الجمع غير ممكن هنا في حديث جابر المذكور مع حديث عائشة، وحديث ابن عباس كما جاء في بعض الروايات، عن جابر عند مسلم بلفظ، لا يمكن فيه الجمع المذكور، وذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لم يكن معه هديٌ فَلْيَحِلْلْ، قال: قلنا: أيُّ الحِلِّ؟ قال: الحِلُّ كُلُّهُ. قال: فأتينا النساء ولبسنا الثياب وَمِسْنَا الطِّيبَ، فلما كان يوم التَّرْوِيَةِ أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر، كُلُّ سبعة منا في بَدَنَةٍ» انتهى.
ولفظ جابر في حديث مسلم هذا في هذه الرواية، لا يمكن حمله على القارنين بحال، لأنه صرح بأنهم حلوا الحل كله، وأتوا النساء ولبسوا الثياب ومسوا الطيب، وأنهم أهلوا يوم التروية بحج، ومع هذا كله صرح بأنهم كفاهم طوافهم الأول بين الصفا والمروة، فإن حديث جابر ينفي طواف المتمتع بعد رجوعه من منى، وحديث عائشة وحديث ابن عباس يثبتانه.
وقد تقرر في الأصول وعلوم الحديث أن المثبت مقدم على النافي، فيجب تقديم حديث ابن عباس وعائشة، لأنهما مثبتان على حديث جابر النافي.
الجواب الثالث: أن عدم طواف المتمتع بعد رجوعه من منى الثابت في الصحيح رواه جابر وحده، وطوافه بعد رجوعه من منى رواه في الصحيح ابن عباس، وعائشة، وما رواه اثنان أرجح مما رواه واحد.
قال في مراقي السعود، في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي: وكثرة الدليل والرواية مرجح لدى ذوي الدراية

وأما من قالوا: إن القارن والمتمتع يلزم كل واحد منهما طوافان وسعيان، طواف وسعي للعمرة، وطواف وسعي للحج كأبي حنيفة ومن وافقه، فقد استدلوا لذلك بأحاديث، ونحن نذكرها إن شاء الله هنا، ونبين وجه رد المخالفين لها من وجهين.
فمن الأدلة التي استدلوا بها على أن القارن يسعى سعيين ويطوف طوافين لحجه وعمرته، ما أخرجه النسائي في سننه الكبرى، ومسند علي عن حماد بن عبد الرحمٰن الأنصاري، عن إبراهيم بن محمد ابن الحنفية قال: طفت مع أبي، وقد جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، وحدثني أن علياً فعل ذلك، وحدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. انتهى بواسطة نقل صاحب نصب الراية، ثم قال بعد أن ساق الحديث كما ذكرنا.
قال صاحب التنقيح: وحماد هذا ضعفه الأزدي، وذكره ابن حبان في الثقات. قال بعض الحفاظ: هو مجهول، والحديث من أجله لا يصح. انتهى.
ومن أدلتهم على الطوافين والسعيين للمتمتع والقارن معاً: ما أخرجه الدارقطني عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عمر: أنه جمع بين حجته وعمرته معاً، وقال سبيلهما واحد، قال: فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين. وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت. انتهى وأخرجه عن الحسن بن عمارة، عن الحكم عن ابن أبي ليلى، عن علي قال: رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم قرن وطاف طوافين، وسعى سعيين. انتهى منه بواسطة نقل صاحب نصب الراية. ثم قال بعد أن ساقهما كما ذكرنا.
قال الدارقطني: لم يروهما غير الحسن بن عمارة، وهو متروك ثم هو قد روى عن ابن عباس ضد هذا ثم أخرجه عن الحسن بن عمارة، عن سلمة بن كهيل، عن طاوس قال: سمعت ابن عباس يقول: لا والله ما طاف لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا طوافاً واحداً، فهاتوا من هذا الذي يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف لهما طوافين. انتهى. وبالسند الثاني رواه العقيلي في كتاب الضعفاء فقال: حدثنا عبد الله بن محمد بن صالح السمرقندي، ثنا يحيى بن حكيم المقوم قال: قلت لأبي داود الطيالسي: إن محمد بن الحسن صاحب الرأي، حدثنا عن الحسن بن عمارة، عن الحكم عن ابن أبي ليلى، عن علي قال: فذكره. فقال: أبو داود من هذا كان شعبة يشق بطنه من الحسن بن عمارة، وأطال العقيلي في تضعيف الحسن بن عمارة، وأخرجه الدارقطني أيضاً عن حفص بن أبي داود عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن عبد الرحمٰن بن أبي ليلى، عن علي بنحوه، قال: وحفص هذا ضعيف، وابن أبي ليلى رديء الحفظ كثير الوهم. وأخرجه أيضاً عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، حدثني أبي، عن أبيه عن جده، عن علي: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً، فطاف طوافين، وسعى سعيين. انتهى. قال: وعيسى بن عبد الله، يقال له: مبارك، وهو متروك الحديث. انتهى من نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي رحمه الله.
ومن أدلتهم على ذلك: ما أخرجه الدارقطني عن أبي بردة عمرو بن يزيد، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرته. وحجه، طوافين وسعى سعيين، وأبو بكر وعمر، وعلي وابن مسعود. قال الدارقطني: وأبو بردة متروك، ومن دونه في الإسناد ضعفاء.
ومن أدلتهم أيضاً: ما أخرجه الدارقطني أيضاً، عن محمد بن يحيى الأزدي، ثنا عبد الله بن داود، عن شعبة، عن حميد بن هلال، عن مطرف عن عمران بن الحصين: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين. انتهى. قال الدارقطني: يقال إن محمد بن يحيى الأزدي حدث بهذا من حفظه، فوهم في متنه، والصواب بهذا الإسناد: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قرن الحج، والعمرة، وليس فيه ذكر الطواف ولا السعي، ويقال: إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي، وحدث به على الصواب. كما حدثنا به محمد بن إبراهيم بن نيروز، ثنا محمد بن يحيى الأزدي به: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قرن. انتهى قال: وقد خالفه غيره فلم يذكر فيه الطواف، ولا السعي، كما حدثنا به أحمد بن عبد الله بن محمد بن الوكيل، ومحمد بن مخلد قالا: ثنا القاسم بن محمد بن عباد المهلبي، ثنا عبد الله بن داود، عن شعبة بهذا الإسناد: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قرن ا هـ. انتهى كله من نصب الراية.
وقد علمت منه أن جميع هذه الأحاديث الدالة على طوافين وسعيين للقارن، ليس فيها حديث قائم كما رأيت.
وقال ابن حجر في فتح الباري: واحتج الحنفية بما روي عن علي: أنه جمع بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل، وطرقه عن علي عند عبد الرزاق، والدارقطني، وغيرهما ضعيفة، وكذا أخرج من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف نحوه، وأخرج من حديث ابن عمر نحو ذلك، وفيه الحسن بن عمارة، وهو متروك، والمخرج في الصحيحين، وفي السنن عنه من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد. وقال البيهقي: إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين، فيحمل على طواف القدوم، وطواف الإفاضة. وأما السعي مرتين فلم يثبت، وقال ابن حزم: لا يصح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه شيء في ذلك أصلاً. انتهى محل الغرض منه.
وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: وأما من قال: إنه حج قارناً قراناً طاف له طوافين وسعى سعيين، كما قاله كثير من فقهاء الكوفة، فعذره ما رواه. الدارقطني من حديث مجاهد، عن ابن عمر: أنه جمع بين حج وعمرة معاً وقال: سبيلهما واحد، قال: وطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع، كما صنعت. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه جمع بينهما، وطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت. وعن علي رضي الله عنه أيضاً: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً، فطاف طوافين، وسعى سعيين، وعن علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجته وعمرته طوافين، وسعى سعيين، وأبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود. وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين، وسعى سعيين، وما أحسن هذا العذر لو كانت هذه الأحاديث صحيحة، بل لا يصح منها حرف واحد. أما حديث ابن عمر ففيه الحسن بن عمارة، وقال الدارقطني: لم يروه عن الحكم، غير الحسن بن عمارة، وهو متروك الحديث. وأما حديث علي الأول ففيه حفص بن أبي داود، وقال أحمد ومسلم: حفص متروك الحديث. وقال ابن خراش: هو كذاب يضع الحديث، وفيه محمد بن عبد الرحمٰن بن أبي ليلى ضعيف. وأما حديثه الثاني: فيرويه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده قال الدارقطني:
عيسى بن عبد الله يقال له مبارك، وهو متروك الحديث. وأما حديث علقمة، عن عبد الله فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد عن حماد عن إبراهيم، عن علقمة. قال الدارقطني وأبو بردة ضعيف، ومن دونه في الإسناد ضعفاء. انتهى. وفيه عبد العزيز بن أبان. قال يحيى: هو كذاب خبيث، وقال الرازي والنسائي: متروك الحديث. وأما حديث عمران بن حصين: فهو مما غلط فيه محمد بن يحيى الأزدي وحدث به من حفظه فوهم فيه، وقد حدث به على الصواب مراراً، ويقال: إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي. انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم.
فإذا عرفت أن أحاديث السعيين والطوافين ليس فيها شيء قائم كما رأيت، فاعلم أن الذين قالوا: بأن القارن يطوف طوافاً، ويسعى سعياً كفعل المفرد، أجابوا عن الأحاديث المذكورة من وجهين.
الأول: هو ما بيناه الآن بواسطة نقل الزيلعي وابن حجر وابن القيم عن الدارقطني، وغيره من أوجه ضعفها.
والثاني: أنا لو سلمنا تسليماً جدلياً أن بعضها يصلح للاحتجاج وضعافها يقوي بعضها بعضاً، فلا يقل مجموع طرقها عن درجة القبول فهي معارضة بما هو أقوى منها، وأصح، وأرجح، وأولى بالقبول من الأحاديث الثابتة في الصحيح، الدالة على أن النَّبي لم يفعل في قرانه. إلا كما يفعل المفرد كحديث عائشة المتفق عليه، وحديث ابن عباس عند البخاري وكالحديث المتفق عليه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة «يكفيك طوافك بالبيت وبالصفا والمروة لحجك وعمرتك» كما قدمناه واضحاً، وقد اتضح من جميع ما كتبناه في هذه المسألة: أن التحقيق فيها أن القارن يفعل كفعل المفرد لاندراج أعمال العمرة في أعمال الحج، وأن المتمتع يطوف، ويسعى لعمرته، ثم يطوف ويسعى لحجته، ومما يوضح من جهة المعنى: أنه يطوف ويسعى لحجه بعد رجوعه من مِنًى أنه يهل بالحج بالإجماع،
والحج يدخل في معناه دخولاً مجزوماً به الطواف والسعي، فلو كان يكفيه طواف العمرة التي حل منها، وسعيها، لكان إهلاكه بالحج إهلالاً بحج، لا طواف فيه ولا سعي، وهذا ليس بحج في العرف ولا في الشرع، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن صفة الطواف بالبيت هي أن يبتدىٰء طوافه من الركن الذي فيه الحجر الأسود، فيستقبله، ويستلمه، ويقبله إن لم يؤذ الناس بالمزاحمة، فيحاذي بجميع بدنه جميع الحجر فيمر جميع بدنه علىٰ جميع الحجر وذلك بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر، ويتحقق أنه لم يبق وراءه جزء من الحجر ثم يبتدىٰء طوافه ماراً بجميع بدنه علىٰ جميع الحجر، جاعلاً يساره إلىٰ جهة البيت، ثم يمشي طائفاً بالبيت، ثم يمر وراء الحجر بكسر الحاء ويدور بالبيت. فيمر علىٰ الركن اليماني، ثم ينتهي إلىٰ ركن الحجر الأسود، وهو المحل الذي بدأ منه طوافه، فتتم له بهذا طوافة واحدة، ثم يفعل كذلك، حتىٰ يتمم سبعاً.
وأصح أقوال أهل العلم فيما يظهر لنا والله أعلم: أنه لا بد من أن يكون خارجاً جميع بدنه، حال طوفه عن شاذروان الكعبة، لأنه منها، وكذلك لا بد أن يكون خارجاً جميع بدنه حال طوافه عن جدار الحجر، لأن أصله من البيت، ولكن لم تبنه قريش علىٰ قواعد إبراهيم، ولأجل ذلك لم يشرع استلام الركنين الشاميين، لأن أصلهما من وسط البيت، لأن قريشاً لم تبن ما كان عن شمالهما من البيت، وهو الحجر الذي عليه الجدار وأصله من البيت كما بينا، ومما يدل علىٰ ذلك ما رواه الشيخان في صحيحيهما، عن عائشة رضي الله عنها. قال البخاري في صحيحه: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر، عن عائشة رضي الله عنها زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «ألم تري قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: لولا حدثان قومك بالكفر، لفعلت» قال عبد الله رضي الله عنه: لئن كانت عائشة رضي الله عنها سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم. وفي رواية عنها في صحيح البخاري قالت: «سألت النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر، أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: ألم ترى قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض» ا هـ. والمراد بالجدر بفتح الجيم، وسكون الدال المهملة هنا: الحجر. وفي رواية عنها رضي الله عنها في صحيح البخاري أيضاً قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا حداثة قومك بالكفر، لنقضت البيت، ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه السلام، فإن قريشاً استقصرت بناءه، وجعلت له خلفاً» قال أبو معاوية: حدثنا هشام خلفاً يعني: باباً. وفي رواية عنها فيه أيضاً: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين، باباً شرقياً، وباباً غربياً فبلغت به أساس إبراهيم» فذلك الذي حمل ابن الزبير رضي الله عنهما على هدمه قال يزيد: وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه، وأدخل فيه من الحجر، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل قال جريرٌ: فقلت له أين موضعه؟ قال: أريكه الآن، فدخلت معه الحجر، فأشار إلى مكان، فقال: ها هنا، قال جرير: فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها. انتهى من صحيح البخاري وزيد المذكور هو ابن رومان وجرير هو ابن حازم، وهما مذكوران في سند الحديث المذكور. وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة. عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا حداثة عهد قومك بالكفر، لنقضت الكعبة، ولجعلتها على أساس إبراهيم، فإنَّ قريشاً حين بنت البيت استقصرت ولجعلت لها خلفاً». ا هـ وقال النووي خلفاً: أي باباً من خلفها، وفي رواية عنها فيه أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ألم ترى أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟» قالت: فقلت: يا رسول الله أفلا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت» فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتمم على قواعدِ إبراهيم. وفي رواية عنها فيه أيضاً قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال: بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها من الحجر». وفي رواية عنها فيه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين، باباً شرقياً، وباباً غربياً وستة فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشاً اقتصرتها حين بنت الكعبة» انتهى من صحيح مسلم. وحديثها هذا المتفق عليه الذي ذكرنا بعض رواياته في الصحيحين، نص صريح فيما ذكرنا وبه تعلم أن قول من زعم من أهل العلم أن من سلك نفس الحجر في طوافه، ثم رجع إلى بلده، لزمه دم مع صحة طوافه غير صحيح لما رأيت من أن الحجر من البيت، وأن الطواف فيه ليس طوافاً بالبيت. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني: يسن الرمل في الأشواط الثلاثة الأول من أول طواف يطوفه القادم، إلى مكة، سواء كان طواف عمرة، أو طواف قدوم في حج، وأما الأشواط الأربعة الأخيرة فإنه يمشي فيها، ولا يرمل، وذلك ثابت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد هو ابن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وقد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بينالركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها، إلا الإبقاء عليهم. ثم قال البخاري رحمه الله: حدثنا أصبغ بن الفرج، أخبرني ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود، أول ما يطوف يخب ثلاثة أطوافٍ من السبع. ثم قال البخاري رحمه الله: حدثني محمد، حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا فليح، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سعى النَّبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشواط، ومشى أربعة في الحج والعمرة، تابعه الليث. قال: حدثني كثير بن فرقد عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني زيد بن أسلم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للركن: أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك، فاستلمه ثم قال: فما لنا وللرمل إنما كنا رأينا المشركين، وقد أهلكهم الله ثم قال شيء صنعه النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلا نحب أن نتركه. انتهى منه، وفي حديث جابر الطويل في حجة النَّبي صلى الله عليه وسلم، عند مسلم: حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً الحديث. وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول، يخب ثلاثة أطواف، ويمشي أربعة، وأنه كان يسعى بطن المسيل، إذا طاف بين الصفا والمروة» وفي لفظ عند البخاري، ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف الطواف الأول، خب ثلاثاً ومشى أربعاً، وكان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة» زاد مسلم: وكان ابن عمر يفعل ذلك.
وبهذه النصوص الصحيحة يتبين أن الرمل في الأشواط الثلاثة في طواف العمرة وطواف القدوم مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك عامة أهل العلم إلا من شذ، وإن ترك الرمل في الأشواط الأول لم يقضه في الأشواط الأخيرة على الصواب. ولا يلزم بتركه دم على الأظهر، لعدم الدليل، خلافاً لمن أوجب فيه الدم.
تنبيهان
الأول: إن قيل ما الحكمة في الرمل بعد زوال علته التي شرع من أجلها، والغالب اطراد العلة وانعكاسها، بحيث يدور معها المعلل بها، وجوداً وعدماً؟
فالجواب: أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته، لا ينافي أن لبقائه علة أخرى، وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم حيث كثرهم وقواهم بعد القلة والضعف، كما قال تعالى {وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى ٱلاٌّرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} وقال تعالى عن نبيه شعيب {وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ}.
وصيغة الأمر في قوله: اذكروا في الآيتين المذكورتين تدل على تحتم ذكر النعمة بذلك، وإذاً فلا مانع من كون الحكمة في بقاء حكم الرمل، هي تذكر نعمة الله بالقوة بعد الضعف. والكثرة بعد القلة، وقد أشار إلى هذا ابن حجر في الفتح، ومما يؤيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة، فلم يمكن بعد ذلك تركه لزوالها، والعلم عند الله تعالى.
التنبيه الثاني: اعلم أن الروايات الثابتة في الصحيح في الرمل ظاهرها الاختلاف، لأن في بعضها أن الرمل ليس في الشوط كله بل ما بين الركنين اليمانيين لا رمل فيه، وقد قدمنا في حديث ابن عباس عند البخاري ما لفظه: فأمرهم النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها، إلا الإبقاء عليهم. ولفظه عند مسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب. قال المشركون: إنه يَقْدَمُ عليكم غداً قوم قد وهنتهم الحمى ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحِجْر، وأمرهم النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جَلَدَهُم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أَجْلَدُ من كذا وكذا.
قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاءُ عليهم. فحديث ابن عباس هذا الذي أخرجه الشيخان: فيه التصريح بأنهم لم يرملوا فيما بين الركنين، وقد بين ابن عباس علة ذلك وهي قوله: فجلسوا مما يلي الحجر، يعني: أن المشركين جلسوا في جهة البيت الشمالية مما يلي الحجر بكسر الحاء، وإذاً فالذي بين الركنين اليمانيين لا يرونه لأن الكعبة تحول بينهم وبينه، وإذا كانوا لا يرونهم مشوا فإذا ظهروا لهم عند ركن الحجر رملوا، مع أن في بعض الروايات الثابتة في الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم رمل الأشواط الثلاثة كلها، من الحجر إلى الحجر.
ففي صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ما لفظه: قال: «رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثاً، ومشى أربعاً» وفي لفظ في صحيح مسلم أيضاً عن نافع: أن ابن عمر رمل من الحجر إلى الحجر، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله. وفي لفظ عند مسلم أيضاً من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود، حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف، وفيه عن جابر أيضاً بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثَّلاثةَ أطواف من الحجر إلى الحجر.
والجواب عن هذا الذي ذكرنا من اختلاف الروايات: أن حديث ابن عباس الذي فيه أنهم مشوا ما بين الركنين كان في عمرة القضاء في ذي القعدة عام سبع، وما في الروايات الأخرى من الرمل في كل شوط من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع، كما أجاب بهذا غير واحد.
وقال النووي في شرح مسلم: إن رمله صلى الله عليه وسلم في كل الشوط من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع، ناسخ للمشي بين الركنين الثابت في حديث ابن عباس لأنه متأخر عنه، والمتأخر ينسخ المتقدم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لا يتعين النسخ الذي ذكره النووي، لما تقرر في الأصول عن جماعة من العلماء، أن الأفعال لا تعارض بينها، فلا يلزم نسخ الآخر منها للأول، بناء على أن الفعل لا عموم له، فلا يقع في الخارج إلا شخصياً لا كلياً، حتى ينافي فعلاً آخر، فجائز أن يقع الفعل واجباً في وقت، وفي وقت آخر بخلافه. قال ابن الحاجب في مختصره الأصولي: مسألة الفعلان لا يتعارضان كصوم وأكل، لجواز تحريم الأكل في وقت، وإباحته في آخر. الخ، ومحل عدم تعارض الفعلين المذكور ما لم يقترن بالفعلين، قول يدل على ثبوت الحكم، وإلا كان آخر الفعلين ناسخاً للأول عند قوم، وعند آخرين لا يكون ناسخاً، كما لو لم يقترن بهما قول، وعن مالك والشافعي يصار إلى الترجيح بين الفعلين، إن اقترن بهما القول وإن لم يترجح أحدهما، فالتخيير بينهما مثال الفعلين اللذين لم يقترن بهما قول يدل على ثبوت الحكم مشيه صلى الله عليه وسلم بين الركنين اليمانيين ورمله في غير ذلك من الأشواط الثلاثة الأول في عمرة القضاء، مع رمله في الجميع في حجة الوداع، ومثال الفعلين اللذين اقترن بهما قول يدل على ثبوت الحكم صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف على صفات متعددة، مختلفة كما أوضحناه في سورة النساء، مع أن تلك الأفعال المختلفة اقترنت بقول يدل على ثبوت الحكم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم «صلوا كما رأيتموني أصلي» فالجاري على الأصول حسبما ذكرنا عن جماعة منهم: ابن الحاجب، والعضد، والرهوني، وغيرهم أن طواف الأشواط كلها ليس ناسخاً للمشي بين الركنين، وأن صيغة صلاة الخوف فيها الأقوال المارة قيل كل صورة بعد أخرى، فهي ناسخة لها، وقيل كلها صحيحة لم ينسخ منها شيء وقيل: بالترجيح بين صورها، وإن لم يترجح واحد، فالتخيير.
وإلى هذه المسألة أشار صاحب مراقي السعود بقوله: ولم يكن تعارضُ الأفعال في كل حالة من الأحوال
وإن يكُ القولُ بحكم لامعا فآخر الفعلين كان رافعا
والكل عند بعضهم صحيح ومالكٌ عنه روى الترجيح
وحيثما قد عدم المصير إليه فالأولى هو التخيير

وقال صاحب الضياء اللامع شرح جمع الجوامع: تنبيه: لم يتعرض المصنف للتعارض بين الفعلين، وصرح الرهوني وغيره، بأنه لا تعارض بينهما في الحقيقة سواء تماثل الفعلان، أو اختلفا، وسواء أمكن الجمع بينهما، أو لم يمكن لأن الفعل لا عموم له من حيث هو إذ لا يقع في الأعيان، إلا مشخصاً فلا يكون كلياً حتى ينافي فعلاً آخر، فجاز أن يكون واجباً في وقت مباحاً في آخر، وهذا ما لم يقترن بالفعل قول: يدل على ثبوت الحكم كقوله عليه الصلاة والسلام «صلوا كما رأيتموني أصلي» ورأوه صلى صلاة الخوف على صفات متعددة فقال الأبياري: هذا كاختلاف القولين على الصحيح، والمتأخر ناسخ، وقيل: يصح إيقاعها على كل وجه من تلك الوجوه، وبه قال القاضي: وللشافعي ميل إليه وقيل يطلب الترجيح، كما قال مالك والشافعي. انتهى محل الغرض منه.
والرمل: مصدر رمل بفتح الميم يرمل بضمها رملاً بفتح الميم ورملاناً: إذا أسرع في مشيته وهز منكبيه وهو في ذلك لا ينزو أي لا يثب وأنشد المبرد: ناقته ترمل في النقال متلف مال ومفيد مال

ومراده بالنقال: المناقلة، وهو أن تضع رجليها مواضع يديها، وهو دليل على أن الرمل فيه إسراع، وهو الخبب، ولذا جاء في بعض روايات الحديث: رمل وفي بعضها خب، والمعنى واحد.
الفرع الثالث: التحقيق أن الاضبطاع يسن في الطواف، لثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود في سننه: حدثنا محمد بن كثير: أخبرنا سفيان، عن ابن جريج، عن ابن يعلى عن يعلى، قال «طاف النَّبي صلى الله عليه وسلم مضطبعاً ببرد أخضر» حدثنا أبو سلمة موسى، ثنا حماد عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، قد قذفوها على عواتقهم اليسرى» انتهى منه.
وقال الترمذي في جامعه: حدثنا محمود بن غيلان، حَدَّثنا قبيصة، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عبد الحميد، عن ابن يعلى، عن أبيه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم «طاف بالبيت مضطبعاً، وعليه برد» قال أبو عيسى: هذا حديث الثوري عن ابن جريج لا نعرفه، إلا من حديثه، وهو حديث حسن صحيح وعبد الحميد هو ابن جبير بن شيبة، عن ابن يعلى، عن أبيه، وهو يعلى بن أمية. ا هـ.
وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا محمد بن يوسف وقبيصة قالا: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عبد الحميد، عن ابن يعلى بن أمية، عن أبيه يعلى «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً» قال قبيصة: وعليه برد. انتهى منه. وقال النووي في شرح المهذب في حديث ابن عباس الذي ذكرناه آنفاً في الاضطباع عند أبي داود، وحديث ابن عباس هذا صحيح، رواه أبو داود بإسناد صحيح، ولفظه: عن ابن عباس ثم ساقه كما سقناه آنفاً، ثم قال: ورواه البيهقي بإسناد صحيح قال عن ابن عباس:
قال «اضطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه ورملوا ثلاثة أشواط ومشوا أربعاً» وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت مضطبعاً ببرد» رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه بأسانيد صحيحة. وقال الترمذي: هو حديث حسن صحيح. وفي رواية البيهقي: «رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت مضطبعاً» إسناده صحيح، وعن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب، وقد أطأ الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله، ومع ذلك لا نترك شيئاً كنا نصنعه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البيهقي بإسناد صحيح. انتهى كلام النووي.
وبذلك تعلم سنية الاضطباع في الطواف، خلافاً لمالك ومن قال بقوله: إن الاضطباع ليس بسنة.
وصفة الاضطباع: أن يجعل وسط الرداء تحت كتفه اليمنى، ويرد طرفيه على كتفه اليسرى، وتبقى كتفه اليمنى مكشوفة وهو افتعال من الضبع بفتح الضاد، وسكون الباء بمعنى: العضد سمي بذلك لإبداء أحد الضبعين، والعرب تسمي العضد: ضبعاً ومنه قول طرفة في معلقته:
وإن شئت سامي واسط الكور رأسها وعامت بضبعيها نجاء الخفيدد

تقول العرب: ضبعه إذا مد إليه ضبعه، ليضربه. ومنه قول عمرو بن شاس:
نذود الملوك عنكم وتذودنا ولا صلح حتى تضبعونا ونضبعا

أي تمدون أضباعكم إلينا بالسيوف، ونمد أضباعنا إليكم، وقيل: تضبعون أي تمدون أضباعكم للصلح والمصافحة. والطاء في الإضباع مبدلة من تاء الافتعال، لأن الضاد من حروف الإطباق على القاعدة المشار لها بقوله في الخلاصة:
طاتا افتعال رد إثر مطبق في أدان وازدد وادكر دالا بقى

الفرع الرابع: في كلام العلماء في الطواف هل يشترط له ما يشترط للصلاة من طهارة الحدث والخبث وستر العورة أولاً يشترط في الطواف أو لا يشترط ذلك؟
اعلم أن اشتراط الطهارة من الحدث والخبث وستر العورة في الطواف هو قول أكثر أهل العلم، منهم مالك، وأصحابه، والشافعي، وأصحابه، وهو مشهور مذهب الإمام أحمد.
قال النووي في شرح المهذب: وحكاه الماوردي عن جمهور العلماء، وحكاه ابن المنذر في طهارة الحدث، عن عامة العلماء.
وخالف الإمام أبو حنيفة رحمه الله الجمهور في هذه المسألة، فقال: لا تشترط للطواف طهارة، ولا ستر عورة، فلو طاف جنباً، أو محدثاً، أو عليه نجاسة، أو عرياناً صح طوافه عنده.
واختلف أصحابه في وجوب الطهارة للطواف، مع اتفاقهم على أنها ليست بشرط فيه. ومن أشهر الأقوال عندهم أنه إذا طاف طواف الإفاضة جنباً، فعليه بدنة، وإن طافه محدثاً: فعليه شاة، وأنه يعيد الطواف بطهارة ما دام بمكة، فإن رجع إلى بلده، فالدم على التفصيل المذكور، واحتج الجمهور لاشتراط الطهارة للطواف، بأدلة.
منها: حديث عائشة المتفق عليه الذي ذكرناه سابقاً بسنده، ومتنه عند البخاري ومسلم: أن أول شيء بدأ به النَّبي صلى الله عليه وسلم حين قدم «أنه توضأ، ثم طاف بالبيت» الحديث قالوا: فهذا الحديث الصحيح صرحت فيه عائشة رضي الله عنها، بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالوضوء قبل الطواف لطوافه، فدل على أنه لا بد للطواف من الطهارة.
فإن قيل: وضوءه صلى الله عليه وسلم المذكور في هذا الحديث فعل مطلق، وهو لا يدل على الوجوب: فضلاً عن كونه شرطاً في الطواف.
فالجواب: أن وضوءه لطوافه المذكور في هذا الحديث، قد دل دليلان على أنه لازم، لا بد منه.
أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع «خذوا عني مناسككم» وهذا الأمر للوجوب والتحتم، فلما توضأ للطواف لزمنا أن نأخذ عنه الوضوء للطواف امتثالاً لأمره في قوله «خذوا عني مناسككم».
والدليل الثاني: أن فعله في الطواف من الوضوء له، ومن هيئته التي أتى به عليها كلها بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى {وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ} وقد تقرر في الأصول أن فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا كان لبيان نص من كتاب الله، فهو على اللزوم والتحتم. ولذا أجمع العلماء على قطع يد السارق من الكوع، لأن قطع النَّبي صلى الله عليه وسلم للسارق من الكوع بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى {فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَ} لأن اليد تطلق على العضو إلى المرفق، وإلى المنكب.
قال صاحب الضياء اللامع في شرح قول صاحب جمع الجوامع: ووقوعه بياناً ما نصه: الثاني: أن يكون فعله صلى الله عليه وسلم لبيان مجمل، إما بقرينة حال مثل القطع من الكوع، فإنه بيان لقوله تعالى {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَ} وإما بقول كقوله «صلوا كما رأيتموني أصلي» فإن الصلاة فرضت على الجملة، ولم تبين صفاتها فبينها بفعله وأخبر بقوله: أن ذلك الفعل بيان، وكذا قوله «خذوا عني مناسككم» وحكم هذا القسم وجوب الاتباع انتهى. محل الغرض منه.
وأشار في مراقي السعود: إلى أن فعله صلى الله عليه وسلم الواقع لبيان مجمل من كتاب الله إن كان المبين بصيغة اسم المفعول واجباً فالفعل المبين له بصيغة اسم الفاعل واجب بقوله: من غير تخصيص وبالنص يرى وبالبيان وامتثال ظهرا

ومحل الشاهد منه قوله: وبالبيان يعني: أنه يعرف حكم فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم من الوجوب أو غيره بالبيان، فإذا بين أمراً واجباً: كالصلاة والحج، وقطع السارق بالفعل، فهذا الفعل واجب إجماعاً لوقوعه بياناً لواجب، إلا ما أخرجه دليل خاص، وبهذا تعلم أن الله تعالى أوجب طواف الركن بقوله {وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ} وقد بينه صلى الله عليه وسلم بفعله وقال «خذوا عني مناسككم» ومن فعله الذي بينه به: الوضوء له كما ثبت في الصحيحين، فعلينا أن نأخذه عنه إلا بدليل، ولم يرد دليل يخالف ما ذكرنا.
ومن أدلتهم على اشتراط الطهارة من الحدث للطواف: ما أخرجاه في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، قال البخاري رحمه الله في كتاب الحيض: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الرحمٰن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: خرجنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت ـ الحديث. وفيه «فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» انتهى منه.
وأخرج مسلم في صحيحه حديث عائشة هذا بإسنادين عن عبد الرحمٰن بن القاسم، عن أبيه عنها بلفظ «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» وفي لفظ مسلم عنها «فاقضي ما يقضي الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي» قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه صرح فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم بنهي عائشة رضي الله عنها عن الطواف إلى غاية هي الطهارة لقوله «حتى تطهري» عند الشيخين و «حتى تغتسلي» عند مسلم ومنع الطواف في حالة الحدث، الذي هو الحيض إلى غاية الطهارة من جنابته: يدل مسلك الإيماء، والتنبيه على أن علة منعها من الطواف، هو الحدث الذي هو الحيض، فيفهم منه اشتراط الطهارة من الجنابة، للطواف كما ترى.
فإن قيل: يجوز أن تكون علة النهي عن طوافها، وهي حائض، أن الحائض لا تدخل المسجد.
فالجواب: أن نص الحديث يأبى هذا التعليل، لأنه صلى الله عليه وسلم قال «حتى تطهري ـ حتى تغتسلي» ولو كان المراد ما ذكر لقال: حتى ينقطع عنك الدم.
قال النووي في شرح المهذب: فإن قيل: إنما نهاها، لأن الحائض لا تدخل المسجد.
قلنا: هذا فاسد لأنه صلى الله عليه وسلم قال «حتى تغتسلي» ولم يقل حتى ينقطع دمك، وهو ظاهر.
ومن أدلة الجمهور على اشتراط الطهارة في الطواف: ما جاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «الطواف بالبيت صلاة» الحديث. قال الزيلعي في نصب الراية: رواه ابن حبان في صحيحه في النوع السادس والستين من القسم الثالث من حديث فضيل بن عياض، والحاكم في المستدرك من حديث سفيان كلاهما عن عطاء بن السائب، عن طاوس، عن ابن عباس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله قد أحل فيه الكلام فمن يتكلم فلا يتكلم إلا بخير» انتهى. وسكت الحاكم عنه وأخرجه الترمذي في كتابه عن جرير، عن عطاء بن السائب به بلفظ «الطواف حول البيت مثل الصلاة» قال: وقد روي هذا الحديث عن ابن طاوس وغيره، عن طاوس موقوفاً ولا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عطاء به السائب. وعن الحاكم رواه البيهقي في المعرفة بسنده ثم قال: وهذا حديث قد رفعه عطاء بن السائب في رواية جماعة عنه وروي عنه موقوفاً، وهو أصح انتهى. وقال الشيخ تقي الدين في الإمام: هذا الحديث روي مرفوعاً، أما المرفوع فله ثلاثة أوجه:
أحدهما: رواية عطاء بن السائب رواها عنه جرير، وفضيل بن عياض، وموسى بن أعين، وسفيان أخرجها كلها البيهقي.
الوجه الثاني: رواية ليث بن أبي سليم رواها عنه موسى بن أعين، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس مرفوعاً باللفظ المذكور، أخرجها البيهقي في سننه، والطبراني في معجمه.
الوجه الثالث: رواية الباغندي، عن أبيه، عن ابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عباس مرفوعاً نحوه رواه البيهقي أيضاً. فأما طريق عطاء فإن عطاء من الثقات، لكنه اختلط بأخرة قال ابن معين: من سمع منه قديماً فهو صحيح ومن سمع منه حديثاً، فليس بشيء، وجميع من روى عنه روى عنه في الاختلاط إلا شعبة. وسفيان، وما سمع منه جرير وغيره، فليس من صحيح حديثه. وأما طريق ليث، فليث رجل صالح صدوق يستضعف. قال ابن معين: ليث بن أبي سليم ضعيف مثل عطاء بن السائب، وقد أخرج له مسلم في المتابعات، وقد يقال: لعل اجتماعه مع عطاء يقوي رفع الحديث، وأما طريق الباغندي، فإن البيهقي لما ذكرها قال ولم يضع الباغندي شيئاً في رفعه لهذه الرواية. فقد رواه ابن جريج، وأبو عوانة عن إبراهيم بن ميسرة موقوفاً انتهى من نصب الراية للزيعلي. ثم قال أيضاً: حديث آخر رواه الطبراني في معجمه الأوسط: حدثنا محمد بن أبان، ثنا أحمد بن ثابت الجحدري، ثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، ثنا سفيان، عن حنظلة، عن طاوس: عن ابن عمر لا أعلمه إلا عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال «الطواف صلاة فأقلوا فيه الكلام» انتهى منه.
واعلم: أن علماء الحديث قالوا: إن وقف هذا الحديث على ابن عباس أصح من رفعه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وقد علمت مما مر قريباً أن حديث ابن عباس المذكور رفعه عطاء بن السائب، وليث بن أبي سليم، والظاهر أن اجتماعهما معاً لا يقل عن درجة الحسن، ومما يؤيد ذلك أن ممن روى رفعه عن عطاء سفيان الثوري، وقد ذكروا أن رواية سفيان عنه صحيحة، لأنه روى عنه قبل اختلاطه، وعلى ذلك فهو دليل على اشتراط الطهارة، وستر العورة، لأن قوله «الطواف صلاة» يدل على أنه يشترط فيه ما يشترط في الصلاة، إلا ما أخرجه دليل خاص كالمشي فيه، والانحراف عن القبلة، والكلام، ونحو ذلك.
فإن قيل: المحققون من علماء الحديث، يرون أن الصحيح أن حديث الطواف صلاة موقوف لا مرفوع، لأن من وقفوه أضبط، وأوثق ممن رفعه؟
فالجواب: أنا لو سلمنا أنه موقوف، فهو قول صحابي اشتهر ولم يعلم له مخالف من الصحابة، فيكون حجة، لا سيما وقد اعتضد بما ذكرنا قبله من الأحاديث الصحيحة، وبينا وجه دلالتها على اشتراط الطهارة للطواف.
وقال النووي في شرح المهذب في الكلام على حديث «الطواف صلاة» ما نصه: وقد سبق أن الصحيح أنه موقوف على ابن عباس، وتحصل منه الدلالة أيضاً، لأنه قول صحابي اشتهر، ولم يخالفه أحد من الصحابة، فكان حجة كما سبق بيانه في مقدمة هذا الشرح، وقول الصحابي حجة أيضاً، عند أبي حنيفة انتهى منه.
فهذا الذي ذكرنا هو حاصل أدلة من قال: باشتراط الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر للطواف، وأما اشتراط ستر العورة للطواف فقد استدلوا له بحديث متفق عليه دال على ذلك.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث قال يونس: قال ابن شهاب: حدثني حميد بن عبد الرحمٰن: أن أبا هريرة أخبرَهُ أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أَمَّرهُ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهطٍ يؤذِّن في الناس: ألا يَحُجُّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وقال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمٰن عن أبي هريرة ح حدثني حرملة بن يحيى التُجَيبيُّ، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس: أن ابن شهاب أخبره عن حميد بن عبد الرحمٰن بن عوف، عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الحجة التي أَمَّره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حَجَّةِ الوداع في رهط، يُؤَذِّنونَ في الناس يوم النحر: «لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» قال ابن شهاب: فكان حميد بن عبد الرحمٰن يقول: يوم النحر يوم الحج الأكبر، من أجل حديث أبي هريرة، فهذا الحديث المتفق عليه بلفظ «ولا يطوف بالبيت عريان» يدل فيه مسلك الإيماء والتنبيه على أن علة المنع من الطواف، كونه عرياناً، وهو دليل على اشتراط ستر العورة للطواف كما ترى.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وجوب ستر العورة للطواف، يدل عليه كتاب الله في قوله تعالى في سورة الأعراف {يَـٰبَنِىۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}. وإيضاح دلالة هذه الآية الكريمة على ستر العورة للطواف، يتوقف أولاً على مقدمتين.
الأولى منهما: أن تعلم أن المقرر في علوم الحديث، أن تفسير الصحابي إذا كان له تعلق بسبب النزول، أن له حكم الرفع كما أوضحناه في سورة البقرة.
قال العلوي الشنقيطي في طلعة الأنوار: تفسير صاحب له تعلق بالسبب الرفع له محقق

وقال العراقي في ألفيته: وعد ما فسره الصحابي رفعاً فمحمول على الأسباب

المقدمة الثانية: هي أن تعلم أن صورة سبب النزول قطعية الدخول عند جماهير الأصوليين، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
فإذا علمت ذلك: فاعلم أن سبب نزول قوله تعالى {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، فكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني ثوباً تجعله على فرجها، وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله

فنزلت هذه الآية في هذا السبب {يَـٰبَنِىۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}. ومن زينتهم التي أمروا بأخذها عند كل مسجد: لبسهم الثياب عند المسجد الحرام للطواف، لأنه هو صورة سبب النزول. فدخولها في حكم الآية قطعي عند الجمهور، كما ذكرناه الآن وأوضحناه سابقاً في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك. فالأمر في: خذوا شامل لستر العورة للطواف، وهو أمر حتم أوجبه الله مخاطباً به بني آدم، وهو السبب الذي نزل فيه الأمر.
واعلم أيضاً: أنه ثبت عن ابن عباس ما يدل على أنه فسر {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} بلبس الثياب للطواف استناداً لسبب النزول. قال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر ح وحدثني أبو بكر بن نافع واللفظ له، حدثنا غُنْدَرٌ، حدثنا شُعْبَةُ، عن مسلمة بن كُهَيلٍ، عن مسلم البَطِينِ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت، وهي عُريَانَة فتقول: من يعيرني تِطْوَافاً تجعله على فرجها وتقول: اليومَ يبدُو بعضُهُ أو كلُّه فما بدا منهُ فلا أحِلُّهُ

فنزلت هذه الآية {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} انتهى منه. ولأجل هذا كان ابن عباس يفسر الزينة المذكورة في هذه الآية: باللباس، ولتعلق هذا التفسير بسبب النزول، فله حكم الرفع كما بينا والبيت المذكور بعده. جهم من الجهم عظيم ظله كم من لبيب عقله يضله
• وناظر ينظر ما يمله *
قال صاحب الدر المنثور: وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة، والزينة: اللباس، وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع ا هـ منه. وجماهير علماء التفسير مطبقون على هذا التفسير المتعلق بسبب النزول، فتبين بما ذكرنا أن القرآن والسنة الصحيحة دلا معاً على ستر العورة للطواف، وقد قدمنا مراراً كلام العلماء في اقتضاء النهي الفساد فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وقد رأيت فيما كتبنا أدلة الجمهور على طهارة الحدث وستر العورة للطواف.
أما طهارة الخبث: فقد استدلوا لها بما تقدم من أن الطواف صلاة، وقد بينا وجه الدلالة منه على ذلك، سواء قلنا: إنه موقوف، أو مرفوع، وقد يقال: إنه لا مجال للرأي فيه، فله حكم الرفع، واستأنس بعضهم لطهارة الخبث للطواف بقوله تعالى {وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ}، لأنه يدل في الجملة على الأمر بالطهارة للطائفين، والعلم عند الله تعالى. وإذا علمت مما ذكرنا أن جماهير العلماء منهم الأئمة الثلاثة قالوا: باشتراط الطهارة وستر العورة للطواف، وأن أبا حنيفة خالف الجمهور في هذه المسألة، فلم يشترط الطهارة، ولا ستر العورة للطواف.
فاعلم أن حجته في ذلك هي قاعدة مقررة في أصوله ترك من أجلها العمل بأحاديث صحيحة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك القاعدة التي ترك من أجلها العمل ببعض الأحاديث الصحيحة، متركبة من مقدمتين:
إحداهما: أن الزيادة على النص نسخ.
والثانية: أن الأخبار المتواترة لا تنسخ بأخبار الآحاد، فقال في المسألة التي نحن بصددها: قال الله تعالى في كتابه {وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ} وهو نص متواتر، فلو زدنا على الطواف اشتراط الطهارة، والستر، فإن هذه الزيادة نسخ، وأخبارها أخبار آحاد فلا تنسخ المتواتر الذي هو الآية، ولأجل هذا لم يقل بتغريب الزاني البكر، لأن الأحاديث الصحيحة الدالة عليه عنده أخبار آحاد، وزيادة التغريب على قوله {ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَ} نسخ له، وهو متواتر، فلا ينسخ بأخبار الآحاد. ولأجل ذلك أيضاً لم يقل بثبوت المال بالشاهد واليمين، لأنه يرى ذلك زيادة على قوله تعالى {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ} والزيادة نسخ، والمتواتر لا ينسخ بالآحاد ا هـ والتحقيق في مسألة الزيادة على النص هو التفصيل. فإن كانت الزيادة أثبتت شيئاً نفاه المتواتر، أو نفت شيئاً أثبته، فهي نسخ له، وإن كانت الزيادة زيد فيها شيء، لم يتعرض له النص المتواتر، فهي زيادة شيء مسكوت عنه لم ترفع حكماً شرعياً، وإنما رفعت البراءة الأصلية التي هي الإباحة العقلية، ورفعها ليس بنسخ.
مثال الزيادة التي هي نسخ على التحقيق: زيادة تحريم الخمر بالقرآن، وتحريم الحمر الأهلية بالسنة الصحيحة، على قوله تعالى {قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ} فإن هذه الآية الكريمة لم تسكت عن إباحة الخمر والحمر الأهلية وقت نزولها، بل صرحت بإباحتهما بمقتضى الحصر الصريح بالنفي في {لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ} والإثبات في قوله {إِلاَ أَن يَكُونَ
مَيْتَةً
}. فتحريم شيء زائد على الأربعة المذكورة في الآية زيادة ناسخة، لأنها أثبتت تحريماً دلت الآية على نفيه.
ومثال الزيادة التي لم يتعرض لها النص بنفي ولا إثبات، زيادة تغريب الزاني البكر عاماً بالسنة الصحيحة على آية الجلد، وزيادة الحكم بالشاهد واليمين. على آية {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ} وزيادة الطهارة، والستر التي بينا أدلتها على آية {وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ} وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى مسألة الزيادة على النص بقوله: وليس نسخاً كل ما أفادا فيما رسا بالنص الازديادا

وقد أوضحنا هذه المسألة في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى {قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ}، وبينا أن التحقيق هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد إذا علم تأخرها عنه، وبيناها أيضاً في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى {وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ}. ولذلك اختصرناها هنا، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس: اعلم أن الطواف في الحج المفرد والقران ثلاثة أنواع: طواف القدوم، وطواف الإفاضة: وهو طواف الزيارة، وطواف الوداع.
أما طواف الإفاضة فهو ركن من أركان الحج بإجماع العلماء، وأما طواف الوداع، وطواف القدوم: فقد اختلف فيهما العلماء، فذهب مالك وأصحابه، إلى أن طواف القدوم: واجب يجبر بدم، وأن طواف الوداع: سنة، ولا يلزم بتركه شيء، واستدل لوجوب القدوم بحديث عائشة وعروة المتفق عليه الذي قدمنا بسنده ومتنه عند الشيخين، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم أول ما يبدأ به الطواف، وكذلك الخلفاء الراشدون، والمهاجرون، والأنصار مع قوله صلى الله عليه وسلم «خذوا عني مناسككم» واستدل لعدم وجوب طواف الوداع، بترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للحائض في تركه ولم يأمرها بدم ولا شيء، قالوا: فلو كان واجباً لأمر بجبره، وأكثر أهل العلم: على أن طواف القدوم لا يلزم بتركه شيء. وقال ابن حجر في الفتح: وذهب الجمهور إلى أن من ترك طواف القدوم لا شيء عليه، وعن مالك وأبي ثور: عليه دم، ومن حججهم على أن طواف القدوم لا شيء في تركه أنه تحية، فلم يجب كتحية المسجد. وأكثر أهل العلم على أن طواف الوداع واجب، يجب بتركه الدم إلا أنه يرخص في تركه للحائض خاصة، إذا نفرت رفقتها قبل أن تطهر. قال النووي في شرح مسلم: الصحيح في مذهبنا وجوب طواف الوداع، وأنه إذا تركه لزمه دم، ثم قال: وبه قال أكثر العلماء، منهم الحسن البصري، والحكم، وحماد، والثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال مالك، وداود، وابن المنذر: هو: سنة لا شيء في تركه. وعن مجاهد روايتان كالمذهبين انتهى منه. وقد نقل ابن حجر كلامه هذا، ثم تعقب عزوه سنيته، لابن المنذر فقال: والذي رأيته في الأوسط لابن المنذر: أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين في طواف الوداع دليلاً: أنه واجب.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا سعيد بن منصور، وزهير بن حرب، قالا: حدثنا سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا ينفِرَنَّ أحد حتى يكونَ آخرُ عهدِهِ بالبيت» قال زهير: ينصرفون كل وجه، ولم يقل في. انتهى منه. فقوله صلى الله عليه وسلم فيه هذا الحديث الصحيح بصيغة النهي الصريح «لا ينفِرَنَّ أحد» الخ. دليل على منع النفر بدون وداع، وهو واضح في وجوب طواف الوداع، ثم قال مسلم رحمه الله: حدثنا سعيد بن منصور، وأبو بكر بن أبي شيبة واللفظ لسعيد قالا: حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أُمِر الناسُ أن يكون آخرُ عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفِّفَ عن المرأة الحائض. ا هـ منه. وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أُمر الناس أن يكون آخر عَهدِهم بالبيت، إلا أنه خُفِّفَ عن الحائضِ انتهى. منه وقوله أمر بصيغة المبني للمفعول، ومعلوم في علوم الحديث، وأصول الفقه أن مثل ذلك له حكم الرفع. فهو حديث صحيح متفق عليه، يدل على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطواف الوداع، مع الترخيص لخصوص الحائض والله يقول {وَمَآ ءَاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ}. وهو صلى الله عليه وسلم يقول «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» وقد نهى في حديث مسلم السابق، عن النفر بدون طوف وداع، وأمر في الحديث المتفق عليه بالوداع. فدل ذلك الأمر وذلك النهي على وجوبه. أما لزوم الدم في تركه، فيتوقف على دليل صالح لإثبات ذلك، وسنذكر إن شاء الله ما تيسر من أدلة الدماء التي يوجبها الفقهاء، وحديث ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لصفية أن تنفر وهي حائض من غير وداع معروف.
الفرع السادس: في أول وقت طواف الإفاضة وآخره:
الظاهر أن أول وقته أول يوم النحر بعد الإفاضة من عرفة ومزدلفة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه طاف طواف الإفاضة، يوم النحر، بعد رمي جمرة العقبة، والنحر والحلق وقال «خذوا عني مناسككم» والشافعية، ومن وافقهم يقولون: إن أول وقته يدخل بنصف ليلة النحر، ولا أعلم لذلك دليلاً مقنعاً. وأما آخر وقت طواف الإفاضة، فلم يرد فيه نص، وجمهور العلماء على أنه لا آخر لوقته، بل يبقى وقته ما دام صاحب النسك حياً، ولكن العلماء اختلفوا في لزوم الدم بالتأخر. قال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن مذهبنا أن طواف الإفاضة لا آخر لوقته، بل يبقى ما دام حياً، ولا يلزمه بتأخيره دم، قال ابن المنذر: ولا أعلم خلافاً بينهم في أن من أخره وفعله في أيام التشريق أجزأه ولا دم عليه، فإن أخره عن أيام التشريق. فقد قال جمهور العلماء كمذهبنا: لا دم. وممن قال به: عطاء، وعمرو بن دينار، وابن عيينة: وأبو ثور، وأبو يوسف ومحمد وابن المنذر، وهو رواية عن مالك. وقال أبو حنيفة: إن رجع إلى وطنه قبل الطواف: لزمه العود للطواف، فيطوف، وعليه دم للتأخير، وهو الرواية المشهورة عن مالك. دليلنا أن الأصل عدم الدم حتى يرد الشرع به. والله أعلم انتهى الغرض من كلام النووي.
ولزوم الدم بالتأخير فيه خلاف معروف عند المالكية، مع اتفاقهم على أن من أخره إلى انسلاخ شهر ذي الحجة عليه الدم.
الفرع السابع: لا خلاف بين العلماء في استحباب استلام الحجر الأسود للطائف، وجماهيرهم على تقبيله، وإن عجز وضع يده عليه، وقبَّلها خلافاً لمالك قائلاً: إنه يضعها على فيه من غير تقبيل. وقال النووي في شرح المهذب: أجمع المسلمون على استحباب استلام الحجر الأسود، ويستحب عندنا مع ذلك تقبيله والسجود عليه، بوضع الجبهة كما سبق بيانه، فإن عجز عن تقبيله قبل اليد بعده، وممن قال بتقبيل اليد: ابن عمر، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وسعيد بن جبير، وعطاء وعروة، وأيوب السختياني، والثوري، وأحمد، وإسحاق. حكاه عنهم ابن المنذر قال: وقال القاسم بن محمد ومالك: يضع يده على فيه من غير تقبيل.
قال ابن المنذر: وبالأول أقول: لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعلوه، وتبعهم جملة الناس عليه، ورويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما السجود على الحجر الأسود، فحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وطاوس، والشافعي، وأحمد.
قال ابن المنذر: وبه أقول: قال وقد روينا فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال مالك: هو بدعة، واعترف القاضي عياض المالكي بشذوذ مالك عن الجمهور في المسألتين، فقال جمهور العلماء: على أنه يستحب تقبيل اليد، إلا مالكاً في أحد قوليه، والقاسم بن محمد قالا: لا يقبلها. قال: وقال جميعهم: يسجد عليه، إلا مالكاً وحده فقال: بدعة.
وأما الركن اليماني ففيه للعلماء ثلاثة أقوال:
الأول: أنه يستحب استلامه باليد، ولا يقبل، بل تقبل اليد بعد استلامه، وهذا هو مذهب الشافعي، قال النووي: وروي عن جابر، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة.
القول الثاني: أنه يستلمه، ولا يقبل يده بعده بل يضعها على فيه من غير تقبيل، وهو مشهور مذهب مالك، وأحمد، وعن مالك رواية: أنه يقبل يده بعد استلامه كمذهب الشافعي.
القول الثالث: أنه يقبله، وهو مروي عن أحمد.
تنبيهان
الأول: قد جاءت روايات متعارضة في الوقت، الذي طاف فيه النبي صلى الله عليه وسلم طواف الإفاضة، وفي الموضع الذي صلى فيه ظهر يوم النحر، فقد جاء في بعض الروايات: أنه طاف يوم النحر، وصلى ظهر ذلك اليوم بمنى، وجاء في بعض الروايات: أنه صلى ظهر ذلك اليوم في مكة، وفي بعض الروايات: أنه طاف ليلاً لا نهاراً. ففي حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم ما لفظه «ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر» ففي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنه أفاض نهاراً، وهو نهار يوم النحر، وأنه صلى ظهر يوم النحر بمكة، وكذلك قالت عائشة: أنه طاف يوم النحر، وصلى الظهر بمكة. وقال مسلم في صحيحه أيضاً: حدثني محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر «أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى» قال نافع: فكان ابن عمر يفيض يوم النحر، ثم يرجع، فيصلي الظهر بمنى، ويذكُرُ أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله انتهى منه. فترى حديث جابر وحديث ابن عمر الثابتين في صحيح مسلم، اتفقا على أنه طاف طواف الإفاضة نهاراً، واختلفا في موضع صلاته لظهر ذلك اليوم، ففي حديث جابر: أنه صلاها بمكة وكذلك قالت عائشة. وفي حديث ابن عمر: أنه صلاها بمنى، بعد ما رجع من مكة. ووجه الجمع بين الحديثين: أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة، كما قال جابر وعائشة، ثم رجع إلى منى، فصلى بأصحابه الظهر مرة أخرى، كما صلى بهم صلاة الخوف مرتين: مرة بطائفة، ومرة بطائفة أخرى في بطن نخل، كما أوضحناه سابقاً في سورة النساء، فرأى جابر وعائشة صلاته في مكة فأخبرا بما رأيا وقد صدقا. ورأى ابن عمر صلاته بهم في منى فأخبر بما رأى، وقد صدق وهذا واضح، وبهذا الجمع جزم النووي، وغير واحد. وقال البخاري في صحيحه: وقال أبو الزبير، عن عائشة، وابن عباس رضي الله عنهم: أخَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم الزيارة إلى الليل انتهى محل الغرض منه. وقد قدمنا أن كل ما علقه البخاري بصيغة الجزم فهو صحيح إلى من علق عنه، مع أن وصله أبو داود والترمذي وأحمد، وغيرهم من طريق سفيان، وهو الثوري، عن أبي الزبير به وزيارته ليلاً في هذا الحديث المروي عن عائشة، وابن عباس، مخالفة لما قدمنا في حديث جابر وابن عمر، وللجمع بينهما أوجه من أظهرها عندي اثنان.
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف الزيارة في النهار، يوم النحر، كما أخبر به جابر وعائشة، وابن عمر، ثم بعد ذلك صار يأتي البيت ليلاً، ثم يرجع إلى منى فيبيت بها، وإتيانه البيت في ليالي منى، هو مراد عائشة، وابن عباس.
وقال البخاري في صحيحه بعد أن ذكر هذا الحديث الذي علقه بصيغة الجزم ما نصه: ويُذَكَرُ عن أبي حسان، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي كان يزور البيت أيام منى. ا هـ.
وقال ابن حجر في الفتح: فكأن البخاري عقب هذا بطريق أبي حسان، ليجمع بين الأحاديث بذلك، فيحمل حديث جابر وابن عمر: على اليوم الأول، وحديث ابن عباس هذا: على بقية الأيام، وهذا الجمع مال إليه النووي. وهذا ظاهر.
الوجه الثاني: في الجمع بين الأحاديث المذكورة أن الطواف الذي طافه النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً: طواف الوداع، فنشأ الغلط من بعض الرواة في تسميته بالزيارة، ومعلوم أن طواف الوداع كان ليلاً.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا أصبغ بن الفرج، أخبرنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن قتادة: أنَّ أنس بن مالك رضي الله عنه حدَّثَهُ «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمُحَصِّب ثم ركب إلى البيت، فطاف به». تابعه الليث. حدثني خالد عن سعيد عن قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه: حدثه «أن النبي صلى الله عليه وسلم» انتهى من البخاري، وهو واضح في أنه طاف طواف الوداع ليلاً ا هـ. وحديث عائشة المتفق عليه يدل لذلك، وإلى هذا الجمع مال ابن القيم في زاد المعاد، ولو فرضنا أن أوجه الجمع غير مقنعة فحديث جابر، وعائشة، وابن عمر: أنه طاف طواف الزيارة نهاراً أصح مما عارضها فيجب تقديمها عليه والعلم عند الله تعالى.
التنبيه الثاني: اعلم أنه جاء في بعض الروايات الصحيحة، ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ماشياً، ومما يدل على ذلك الأحاديث الصحيحة التي سقناها سابقاً، في أنه رمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعاً، فإن ذلك يدل على أنه ماش على رجليه لا راكب، مع أنه جاءت روايات أخر صحيحة تدل على أنه طاف راكباً.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا أحمد بن صالح، ويحيى بن سليمان قالا: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما «طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن» تابعه الدراوردي، عن ابن أخ الزهري، عن عمه.
وقال مسلم في صحيحه: حدثني أبو الطاهر، وحرملة بن يحيى، قالا: أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعيرٍ يستلم الركن بمحجن». حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا علي بن مسهر، عن ابن جُريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال «طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه، لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه، فإن الناس قد غشوه».
وفي لفظ عن جابر عند مسلم «طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس وليشرف وليسألوه، فإن الناس قد غشوه».
وقال مسلم في صحيحه أيضاً: حدثني الحكم بن موسى القنطري، حدثنا شعيب بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة قالت «طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الرُّكن، كراهية أن يضرب عنه الناس» انتهى منه.
فهذه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن ابن عباس، وجابر وعائشة، رضي الله عنهم، صريحة في أنه طاف راكباً.
ووجه الجمع بين هذه الأحاديث الدالة على طوافه راكباً، مع الأحاديث الدالة على أنه طاف ماشياً: كأحاديث الرمل في الأشواط الثلاثة الأول، والمشي في الأربعة الأخيرة: هو «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف القدوم ماشياً، ورمل في أشواطه الثلاثة الأول، وطاف طواف الإفاضة في حجة الوداع راكباً» هو نص صريح صحيح، يبين أن من طاف، وسعى راكباً، فطوافه وسعيه كلاهما صحيح، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع قوله «خذوا عني مناسككم» وقد قدمنا البحث مستوفى في المشي، والركوب في الحج مع مناقشة أدلة الفريقين. والعلم عند الله تعالى.. الفرع الثامن: أجمع العلماء على مشروعية صلاة ركعتين بعد الطواف، ولكنهم اختلفوا في ركعتي الطواف، هل حكمهما الوجوب أو السنية؟ فقال بعض أهل العلم: إن ركعتي الطواف واجبتان، واستدلوا لوجوبهما بصيغة الأمر في قوله {وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِيمَ مُصَلًّى} على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم لما طاف: قرأ هذه الآية الكريمة، وصلى ركعتين خلف المقام، ممتثلاً بذلك الأمر في قوله {وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِيمَ مُصَلًّى}. وقد قال صلى الله عليه وسلم «خذوا عني مناسككم» والأمر في قوله {وَٱتَّخِذُو} على القراءة المذكورة يقتضي الوجوب كما بيناه مراراً في هذا الكتاب المبارك. وقال جمهور العلماء: إن ركعتي الطواف من السنن، لا من الواجبات، واستدلوا لعدم وجوبهما بحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه الثابت في الصحيح. قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهل نجد، ثائر الرأس، يسمع دوي صوته، ولا يفقه ما يقول، فإذا هو يسأل عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع» الحديث. قالوا: وفي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنه لا يجب شيء من الصلاة، غير الخمس المكتوبة، وقد يجاب عن هذا الاستدلال: بأن الأمر بصلاة ركعتي الطواف، خلف المقام وارد بعد قوله صلى الله عليه وسلم «لا. إلا أن تطوع» والعلم عند الله تعالى.
والمستحب أن يقرأ في الأولى من ركعتي الطواف {قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَـٰفِرُونَ} وفي الثانية {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} كما هو ثابت في حديث جابر. وجمهور أهل العلم على أن ركعتي الطواف، لا يشترط في صحة صلاتهما أن تكون خلف المقام، بل لو صلاهما في أي موضع غيره صح ذلك. ولو طاف في وقت نهى، فأحد قولي أهل العلم: إنه يؤخر صلاتهما إلى وقت لا نهي عن النافلة فيه، ومما يدل على هذين الأمرين أعني صحة صلاتهما في موضع آخر، وتأخير صلاتهما إلى وقت غير وقت النهي الذي طاف فيه ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً بصيغة الجزم، قال: (باب الطواف بعد الصبح والعصر) وكان ابن عمر رضي الله عنهما: يصلي ركعتي الطواف ما لم تطلع الشمس، وطاف عمر بعد الصبح، فركب حتى صلى الركعتين بذي طُوى. وفعل عمر رضي الله عنه هذا الذي ذكره البخاري يدل على عدم اشتراط كون الركعتين خلف المقام، بل تصح صلاتهما في أي موضع صلاهما فيه، وأن تأخيرهما عن وقت النهي هو الصواب، وممن قال به: أبو سعيد الخدري، ومعاذ ابن عفراء، ومالك وأصحابه: وعزاه بعضهم إلى الجمهور، وقد قدمنا مراراً قول من يقول من أهل العلم: إن ذوات الأسباب الخاصة من الصلوات لا تدخل في عموم النهي في أوقات النهي، إلا أن القاعدة المقررة في الأصول: أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وقال الشافعي وأصحابه: إن صلاة ركعتي الطواف جائزة في أوقات النهي بلا كراهة، واستدلوا لذلك بدليلين.
أحدهما: عام وهو أن ذوات الأسباب الخاصة من الصلوات، لا تدخل في عموم النهي، لأن سببها الخاص، يخرجها من عموم النهي، كركعتي الطواف فإنهما لسبب خاص، هو الطواف. وكتحية المسجد في وقت النهي، ونحو ذلك، وأحدهما خاص: وهو ما ورد في خصوص البيت الحرام، كحديث جُبَيْر بن مُطْعِم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار» رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي، ورواه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان، والدارقطني، قال ابن حجر في التلخيص في هذا الحديث: رواه الشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان والدارقطني، والحاكم من حديث أبي الزبير عن عبد الله بن باباه، عن جبير بن مطعم، وصححه الترمذي، ورواه الدارقطني من وجهين آخرين، عن نافع بن جبير، عن أبيه، ومن طريقين آخرين عن جابر وهو معلول، فإن المحفوظ عن أبي الزبير، عن عبد الله بن باباه، عن جبير، لا عن جابر. وأخرجه الدارقطني أيضاً، عن ابن عباس من رواية مجاهد عنه، ورواه الطبراني من رواية عطاء، عن ابن عباس، ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان، والخطيب في التلخيص من طريق ثمامة بن عبيدة عن أبي الزبير، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، وهو معلول. وروى ابن عدي من طريق سعيد بن أبي راشد، عن عطاء، عن أبي هريرة حديث «لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس» الحديث وزاد في آخره «من طاف فليصل» أي حين طاف، وقال: لا يتابع عليه، وكذا قال البخاري. وروى البيهقي من طريق عبد الله بن باباه، عن أبي الدرداء: أنه طاف بعد العصر عند مغارب الشمس فصلى الركعتين، وقال: إن هذه البلدة ليست كغيرها.
تنبيه
عزا المجد ابن تيمية حديث جبير لمسلم، فإنه قال: رواه الجماعة، إلا البخاري. وهذا وهم منه تبعه عليه المحب الطبري، فقال: رواه السبعة إلا البخاري، وابن الرفعة، فقال: رواه مسلم، ولفظه «لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار» وكأنه والله أعلم: لما رأى ابن تيمية عزاه إلى الجماعة، دون البخاري اقتطع مسلماً من بينهم واكتفى به عنهم، ثم ساقه باللفظ الذي أورده ابن تيمية، فأخطأ مكرراً.
فائدة
قال البيهقي: يحتمل أن يكون المراد بهذه الصلاة، صلاة الطواف خاصة: وهو الأشبه بالآثار، ويحتمل جميع الصلوات. انتهى كلام ابن حجر في التلخيص الحبير.
وهذا الذي ذكرنا عن الشافعي وأصحابه من جواز صلاة ركعتي الطواف في أوقات النهي بلا كراهة، حكاه ابن المنذر، عن ابن عمر، وابن عباس، والحسن، والحسين بن علي، وابن الزبير، وطاوس، وعطاء، والقاسم بن محمد، وعروة، ومجاهد، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور. انتهى بواسطة نقل النووي في شرح المهذب.
ومما استدلوا به على ذلك ما رواه مجاهد عن أبي ذر مرفوعاً «لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة» قال ابن حجر في التلخيص: في هذا الحديث رواه الشافعي أخبرنا عبد الله بن المؤمل، عن حميد مولى غفرة، عن قيس بن سعد، عن مجاهد، وفيه قصة وكرر الاستثناء ثلاثاً. ورواه أحمد عن يزيد، عن عبد الله بن المؤمل إلا أنه لم يذكر حميداً في سنده. ورواه ابن عدي من حديث سعيد بن سالم عن عبد الله بن المؤمل، فلم يذكر قيساً، ورواه ابن عدي من طريق اليسع بن طلحة وسمعت مجاهداً يقول: بلغنا أن أبا ذر فذكره، وعبد الله ضعيف، وذكر ابن عدي هذا الحديث من جملة ما أنكر عليه. وقال البيهقي: فقال تفرد به عبد الله ولكن تابعه إبراهيم بن طهمان، ثم ساقه بسنده إلى خلاد بن يحيى قال: ثنا إبراهيم بن طهمان، ثنا حميد مولى غفرة، عن قيس بن سعد، عن مجاهد قال: جاءنا أبو ذر فأخذ بحلقة الباب الحديث. وقال أبو حاتم الرازي: لم يسمع مجاهد من أبي ذر، وكذا أطلق ذلك ابن عبد البر، والبيهقي، والمنذري، وغير واحد. قال البيهقي: قوله في رواية إبراهيم بن طهمان: جاءنا أبو ذر أي جاء بلدنا.
قلت: ورواه ابن خزيمة في صحيحه، من حديث سعيد بن سالم كما رواه ابن عدي وقال: أنا أشك في سماع مجاهد، من أبي ذر انتهى. كلام ابن حجر في التلخيص الحبير.
هذا هو حاصل ما احتج به الشافعي، وأصحابه، ومن وافقهم على جواز صلاة ركعتي الطواف، في أوقات النهي وحجة مخالفيهم هي عموم الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في تلك الأوقات وظاهرها العموم.
وقد قال الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار: وأنت خبير بأن حديث جبير بن مطعم، لا يصلح لتخصيص أحاديث النهي المتقدمة، لأنه أعم منها من وجه وأخص من وجه، وليس أحد العمومين أولى بالتخصيص من الآخر، لما عرفت غير مرة انتهى منه، وهو كما قال رحمه الله.
والقاعدة المقررة في الأصول: أن النصين إذا كان بينهما عموم، وخصوص من وجه، فإنهما يظهر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها، فيجب الترجيح بينهما. كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله: وإن يك العموم من وجه ظهر فالحكم بالترجيح حتماً معتبر

وإيضاح كون حديث جبير المذكور بينه، وبين أحاديث النهي المذكورة عموم وخصوص من وجه، كما ذكره الشوكاني رحمه الله: هو أن أحاديث النهي عامة في مكة وغيرها، خاصة في أوقات النهي. وحديث جبير بن مطعم عام في أوقات النهي وغيرها، خاص بمكة حرسها الله، فتختص أحاديث النهي بأوقات النهي في غير مكة، ويختص حديث جبير بالأوقات التي لا ينهى عن الصلاة فيها بمكة، ويجتمعان في أوقات النهي في مكة، فعموم أحاديث النهي يشمل مكة وغيرها، وعموم إباحة الصلاة في جميع الزمن في حديث جبير، يشمل أوقات النهي وغيرها في مكة فيظهر التعارض في أوقات النهي في مكة، فيجب الترجيح. وأحاديث النهي أرجح من حديث جبير من وجهين:
أحدهما: أنها أصح منه لثبوتها في الصحيح.
والثاني: هو ما تقرر في الأصول، أن النص الدال على النهي يقدم على النص الدال على الإباحة، لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، كما قدمناه مراراً. والعلم عند الله تعالى.
الفرع التاسع: اعلم أن أظهر أقوال العلماء، وأصحها إن شاء الله: أن الطواف لا يفتقر إلى نية تخصه، لأن نية الحج تكفي فيه، وكذلك سائر أعمال الحج كالوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، والسعي، والرمي كلها لا تفتقر إلى نية، لأن نية النسك بالحج تشمل جميعها، وعلى هذا أكثر أهل العلم. ودليله واضح، لأن نية العبادة تشمل جميع أجزائها فكما لا يحتاج كل ركوع وسجود من الصلاة إلى نية خاصة لشمول نية الصلاة لجميع ذلك، فكذلك لا تحتاج أفعال الحج لنية تخص كل واحد منها، لشمول نية الحج لجميعها.
ومما استدلوا به لذلك، أنه لو وقف بعرفة ناسياً أجزأه ذلك بالإجماع، قاله النووي. ومقابل القول الذي هو الصواب إن شاء الله قولان آخران لأهل العلم:
أحدهما: وبه قال أبو علي بن أبي هريرة من الشافعية، أن ما كان منها مختصاً بفعل كالطواف والسعي والرمي، فهو مفتقر إلى نية، وما كان منها غير مختص بفعل بل هو لبث مجرد كالوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة فهو لا يفتقر إلى نية.
والثاني منهما: وبه قال أبو إسحاق المروزي: أنه لا يفتقر شيء من أعمال الحج، إلى نية إلا الطواف، لأنه صلاة، والصلاة تفتقر إلى النية، وأظهرها وأصحها إن شاء الله الأول، وهو قول الجمهور.
الفرع العاشر: أظهر قَوْلَيْ العلماء عندي أنه إن أقيمت الصلاة وهو في أثناء الطواف أنه يصلي مع الناس ولا يستمر في طوافه مقدماً إتمام الطواف على الصلاة، وممن قال بذلك: ابن عمر، وسالم، وعطاء، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأَحمد، وأصحابهم، وأبو ثور. وروي ذلك عنهم في السعي أيضاً ولكن عند المالكية لا يجوز قطع الطواف إلا للصلاة المكتوبة خاصة، إذا أقيمت، وهو في أثناء الطواف، ويبني عندهم إن قطعه للصلاة خاصة، ويندب عندهم إكمال الشوط إن قطعه في أثناء شوط، وإن قطعه لغيرها كصلاة الجنازة، أو تحصيل نفقة لا بد منها لم يبن على ما مضى منه، بل يستأنف الطواف عندهم، لأنه لا يجوز عندهم قطعه لذلك ابتداء، كما ذكرناه قريباً. وقيل: يمضي في طوافه، ولا يقطعه للصلاة واحتج من قال بهذا، بأن الطواف صلاة، فلا تقطع لصلاة. ورد عليه بحديث «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» ومن قال من أهل العلم: إن الطواف يجوز قطعه للصلاة على الجنازة والحاجة الضرورية: كالشافعية والحنابلة، قالوا: يبني على ما أتى به من أشواط الطواف، فإن كان قطعه للطواف عند انتهاء شوط من أشواطه، بنى على الأشواط المتقدمة، وجاء ببقية الأشواط، وإن كان قطعه له في أثناء الشوط، فأظهر قَولَيْ أهل العلم عندي: أنه يبتدىء من الموضع الذي وصل إليه، ويعتد ببعض الشوط الذي فعله قبل قطع الطواف، خلافاً لمن قال: إنه يبتدىء الشوط الذي قطع الطواف في أَثنائه، ولا يعتد ببعضه الذي فعله: وهو قول الحسن، وأحد وجهين عند بعض الشافعية، وهو مندوب عند المالكية إن قطعه للفريضة كما تقدم وكذلك لو أحدث في أثناء الطواف عند من يقول: إنه يتوضأ، ويبني على ما مضى من طوافه، وهو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أَحمد.
الفرع الحادي عشر: أظهر قولي أهل العلم عندي: أن من طاف قبل التحلل، وهو لابس مخيطاً أن الطواف صحيح كمن صلى في ثوب حرير، ولكنه يلزمه الدم والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني عشر: لا خلاف بين من يعتد به من أهل العلم: أن الطواف جائز في أوقات النهي عن الصلاة، وفي صلاة الركعتين، إذا طاف وقت نهى الخلاف الذي تكلمنا عليه قريباً.
الفرع الثالث عشر: اختلف العلماء في صلاة النافلة في المسجد الحرام. والطواف بالبيت أيهما أفضل؟ فقال بعض أهل العلم: الطواف أفضل. وبه قال بعض علماء الشافعية، واستدلوا بأن الله قدم الطواف على الصلاة في قوله {وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْعَـٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} وقوله {وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} وقال بعض أهل العلم: الصلاة أفضل لأهل مكة والطواف أفضل للغرباء. وممن قال به: ابن عباس، وعطاء، وسعيد بن جبير، ومجاهد، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب.
المسألة السادسة: اختلف العلماء في السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة، هل هو ركن من أركان الحج والعمرة؟ لا يصح واحد منهما بدونه، ولا يجبر بدم، أو هو واجب يجبر بدم، أو سنة لا يلزم بتركه دم؟ وممن قال: إنه ركن من أركان الحج والعمرة مالك والشافعي وأصحابهما، وأم المؤمنين عائشة، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وهو رواية عن الإمام أحمد كما نقله النووي في شرح المهذب، وقال في شرح مسلم: مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم: أن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج، لا يصح إلا به، ولا يجبر بدم وممن قال بهذا: مالك والشافعي، وأحمد وإسحاق، وأبو ثور. انتهى محل الغرض منه، وعزوه إياه لأحمد، قد قدمنا فيه
أنه إحدى الروايات عن أحمد.
وقال ابن قدامة في المغني: وروي عن أحمد أنه ركن لا يتم الحج إلا به، وهو قول عائشة، وعروة، ومالك، والشافعي.
وممن قال إنه واجب يجبر بدم: أبو حنيفة وأصحابه، والحسن، وقتادة، والثوري، وبه قال القاضي من الحنابلة، وذكره النووي رواية عن أحمد وقد رواه ابن القصار من المالكية، عن القاضي إسماعيل، عن مالك وقال ابن قدامة في المغني: إنه أولى. وذكر النووي عن طاوس أنه قال: من ترك من السعي أربعة أشواط لزمه دم، وإن ترك دونها لزمه لكل شوط نصف صاع. وليس هو بركن، ثم قال: وهو مذهب أبي حنيفة. انتهى.
وما قال النووي: إنه مذهب أبي حنيفة من أن ترك أقل السعي فيه الصدقة بنصف صاع عن كل شوط، عزاه شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق، شرح كنز الدقائق للحاكم الشهيد في مختصره المسمى بالكافي ا هـ.
ومعلوم أن مذهب أبي حنيفة في طواف الإفاضة، أن من ترك منه ثلاثة أشواط فأقل، فعليه دم، وحجه صحيح، وتفريقه بين الأقل والأكثر في الطواف الذي هو ركن يدل على التفريق بينهما في السعي، وممن روي عنه أن السعي بين الصفا والمروة سنة لا يلزم بتركه دم: ابن مسعود وأبي بن كعب، وأنس، وابن عباس، وابن الزبير، وابن سيرين.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في السعي: فاعلم أنا نريد هنا أن نبين أدلة كل منهم على ما ذهب إليه مع مناقشتها.
فأما الذين قالوا: إنه ركن من أركان الحج والعمرة، فقد استدلوا لذلك بأدلة:
منها قوله تعالى: {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ}. قالوا: فتصريحه تعالى بأن الصفا والمروة من شعائر الله، يدل على أن السعي بينهما أمر حتم لا بد منه، لأن شعائر الله عظيمة، لا يجوز التهاون بها. وقد أشار البخاري رحمه الله في صحيحه إلى أن كونهما من شعائر الله.
يدل على ذلك. قال: باب وجوب الصفا والمروة، وجعل من شعائر الله.
وقال ابن حجر في الفتح في شرح قول البخاري: وجعل من شعائر الله: أي وجوب السعي بينهما، مستفاد من كونهما جعلا من شعائر الله، قاله ابن المنير في الحاشية. انتهى الغرض من كلامه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ومما يدل على أن شعائر الله لا يجوز التهاون بها، وعدم إقامتها قوله تعالى {يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ}. وقوله تعالى: {ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَـٰئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ}، ومن أدلتهم على ذلك «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجه وعمرته بين الصفا والمروة سبعاً» وقد دل على أن ذلك لا بد منه دليلان:
الأول: هو ما قدمنا من أنه تقرر في الأصول أن فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان لبيان نص مجمل من كتاب الله، أن ذلك الفعل يكون لازماً، وسعيه بين الصفا والمروة، فعل بين المراد من قوله تعالى: {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ} والدليل على أنه فعله بياناً للآية هو قوله صلى الله عليه وسلم «نبدأ بما بدأ الله به» يعني الصفا لأن الله بدأ بها في قوله: {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ}. وفي رواية «أبدأ» بهمزة المتكلم والفعل مضارع. وفي رواية عند النسائي «اْبدَؤوا بما بدأ الله به» بصيغة الأمر.
الدليل الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال «لتأخذوا عني مناسككم» وقد طاف بين الصفا والمروة سبعاً، فيلزمنا أن نأخذ عنه ذلك من مناسكنا، ولو تركناه لكنا مخالفين أمره بأخذه عنه، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فاجتماع هذه الأمور الثلاثة التي ذكرنا يدل على اللزوم: وهي كونه سعى بين الصفا والمروة سبعاً، وأن ذلك بيان منه لآية من كتاب الله وأنه قال: «لتأخذوا عني مناسككم».
أما طوافه بينهما سبعاً فهو ثابت بالروايات الصحيحة.
منها: حديث ابن عمر الثابت في الصحيح ولفظه في صحيح البخاري. قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة سبعاً. لقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة» وفي لفظ في صحيح مسلم، من حديث ابن عمر «فأتى الصفا، فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف» والروايات بسعيه صلى الله عليه وسلم سبعاً بين الصفا والمروة كثيرة معروفة. وقد مثلنا لها بحديث ابن عمر المتفق عليه. وأما كون ذلك السعي بياناً لآية {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ}. فهو أمر لا شك فيه، ويدل عليه أمران:
أحدهما: سبب نزول الآية، لأنه ثبت في الصحيحين أنها نزلت في سؤالهم عن السعي بين الصفا والمروة، وإذا كانت نازلة جواباً عن سؤالهم عن حكم السعي، بين الصفا والمروة، فسعى النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها بيان لها.
والأمر الثاني: هو ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم «أبدأ بما بدأ الله به» يعني الصفا كما تقدم قريباً، وأما حديث «لتأخذوا عني مناسككم» فقد قال مسلم في صحيحه في باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً، وبيان قوله صلى الله عليه وسلم «لتأخذوا عني مناسككم»:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم، وعلي بن خشرم جميعاً، عن عيسى بن يونس، قال ابن خشرم: أخبرنا عيسى، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول: رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول «لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أَدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه» وقال البيهقي في السنن الكبرى: في باب الإيضاع في وادي محسر: وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا سليمان بن أحمد بن أيوب، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم قال: وحدثنا حفص ثنا قبيصة قال: وحدثنا يوسف القاضي، ومعاذ بن المثنى قالا: ثنا ابن كثير، قالوا: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه السكينة، وأمرهم بالسكينة، وأوضع في وادي محسر، وأمرهم أن يرموا الجمار مثل حصى الخذف، وقال «خذوا عني مناسككم لعلي لا أراكم بعد عامي هذا» انتهى منه. وقال النووي في شرح المهذب: إن هذا الإسناد الذي رواه به البيهقي صحيح على شرط البخاري، ومسلم.
واعلم أن رواية مسلم ورواية البيهقي المذكورتين معناهما واحد، لأن «خذوا عني مناسككم» بصيغة فعل الأمر يؤدي معنى قوله «لتأخذوا عني» بالفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، فكلتا الصيغتين صيغة أمر، ومن المعلوم أن الصيغ الدالة على الأمر أربع الأولى فعل الأمر نحو {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ} وقوله «خذوا عني مناسككم».
الثانية: الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر كقوله تعالى {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ} وقوله «لتأخذوا عني مناسككم» في رواية مسلم.
الثالثة: اسم فعل الأمر نحو قوله تعالى {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}.
الرابعة: المصدر النائب عن فعله كقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ} أي فاضربوا رقابهم.
ومن أدلتهم على أن السعي فرض لا بد منه ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، عن عائشة رضي الله عنها قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال عروة: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قوله تعالى: {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَ} فوالله ما على أحد جناح ألا يطوف بالصفا والمروة. قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أُولتها عليه كانت لا جناح عليه، ألا يطوف بهما، ولكنها أُنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها، عند المشلل فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا، والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ} قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، ثم أَخْبَرتُ أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا العلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يذكرون أن الناس إلا من ذكرت عائشة، ممن كان يهل بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصَّفا والمروة، قالوا: يا رسول الله كنا نطوف بالصفا والمروة وإن الله أنزل الطواف بالبيت، فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نَطَّوَّف بالصفا، والمروة؟ فأنزل الله تعالى {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ}. قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما، في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا، حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت. انتهى من صحيح البخاري.
وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النَّبي صلى الله عليه وسلم سن الطواف بين الصفا والمروة أي فرضه بالسنة، وقد أجابت عائشة عما يقال: إن رفع الجناح في قوله {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَ} ينافي كونه فرضاً بأن ذلك نزل في قوم، تحرجوا من السعي بين الصفا والمروة، وظنوا أن ذلك لا يجوز لهم، فنزلت الآية مبينة أن ما ظنوه من الحرج في ذلك منفي.
وقد تقرر في الأصول أن النص الوارد في جواب سؤال لا مفهوم مخالفة له، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله في هذه المسألة. وقال ابن حجر في: فتح الباري في الكلام على هذا الحديث:
تنبيه
قول عائشة رضي الله عنها: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بين الصفا والمروة أي فرضه بالسنة، وليس مرادها نفي فرضيته، ويؤيده قولها: لم يتم الله حج أحدكم، ولا عمرته ما لم يطف بينهما.
وقال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قال: قلت لها: إني لا أظن رجلاً لو لم يطف بين الصفا والمروة ما ضَرَّهُ. قالت لم؟ قلت: لأن الله تعالى يقول {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ} إلى آخر الآية فقالت: ما أتم الله حَجَّ امرىء، ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة، ولو كان كما تقول، لكان {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَ} الحديث، وفي رواية في صحيح مسلم، عن عروة قال: قلت لعائشة: «ما أرى عَلَيَّ جُناحاً أن لا أتطوَّف بين الصفا والمروة، قالت لم؟ قلت: لأن الله عز وجل يقول {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ} فقالت: لو كان كما تقول، لكان {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَ} إنما أُنزل هذا في أناس من الأنصار، كانوا إذا أَهَلُّوا لمناة في الجاهلية فلا يحل لهم أن يطَّوَّفوا بين الصفا والمروة، فلما قدموا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم لِلحَجِّ ذكروا ذلك له، فأنزل الله تعالى هذه الآية، «فلعمري ما أتم الله حَجَّ من لم يطف بين الصفا والمروة» وفي رواية، عن عروة أيضاً في صحيح مسلم قال: قلت لعائشة زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم: ما أرى على أحد، لم يطف بين الصفا والمروة شيئاً، وما أبالي، أنْ لا أطوف بينهما. قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون، فكان سُنَّةً، وإنما كان من أَهَلَّ لمناة الطاغية، التي بالمُشَلَّلِ، لا يطوفون بين الصفا والمروة، فلما كان الإسلام سَأَلْنَا النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله عز وجل {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَ} ولو كانت كما تقول، لكانت فلا جناح عليه، ألا يَطَّوَّف بينهما. قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فأعجبه ذلك، وقال: إن هذا العلم، ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يقولون: إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب، يقولون: إن طوافنا بين هَذَين الحجرين من أمر الجاهلية، وقال آخرون من الأنصار: إنما أُمرنا بالطواف بالبيت، ولم نؤمر به بين الصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ} قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فأراها قَدْ نزلت في هؤلاء وهؤلاء، وفي رواية في صحيح مسلم، عن عروة بن الزبير أيضاً قال: سألت عائشة. وساق الحديث بنحوه، وقال في الحديث: فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ذلك فقالوا: يا رسول الله، إنا كنَّا نَتَحرج أن نَطُوِف بالصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَ} قالت عائشة: قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بهما.
فهذه الروايات الثابتة في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها فيها الدلالة الواضحة، على أن السعي بين الصفا والمروة ركن، لا بد منه، لأنك رأيت في بعض هذه الروايات الثابتة عنها في الصحيح، أنها قالت: ما أتم الله حج امرىء، ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة، وفي بعضها قالت: فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة. وفي رواية متفق عليها عنها رضي الله عنها: قد سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما إلى آخر ما تقدم، من الروايات وفيها النص الصريح الصحيح، على أن السعي لا بد منه وأن من لم يسع، لم يتم له حج ولا عمرة.
تنبيه
اعلم أن ما يظنه كثير من أهل العلم، من أن حديث عائشة هذا، الدال على أن السعي لا بد منه، وأنه لا يتم بدونه حج، ولا عمرة أنه موقوف عليها غير صواب، بل هو مرفوع، ومن أصرح الأدلة في ذلك أنها رتبت بالفاء في الرواية المتفق عليها قولها: فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، على قولها: قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، وهو صريح في أن قولها: ليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، لأجل أنه صلى الله عليه وسلم سن الطواف بينهما، ودل هذا الترتيب بالفاء على أن مرادها بأنه سنه أنه فرضه بسنته كما جزم به ابن حجر في الفتح، مقتصراً عليه، مستدلاً له بأنها قالت: ما أتم الله حج امرىء ولا عمرته، لم يطف بين الصفا والمروة، فقولها: إن النَّبي صلى الله عليه وسلم سن الطواف بينهما وترتيبها على ذلك بالفاء قولها: فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، وجزمها بأنه لا يتم حج ولا عمرة، إلا بذلك دليل واضح على أنها إنما أخذت ذلك مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا برأي منها، كما ترى.
وقد تقرر في الأصول في مبحث النص الظاهر من مسالك العلة أن الفاء في الكتاب، والسنة تفيد التعليل، وكذلك هي في كلام الراوي الفقيه، فهو المرتبة الثانية بعد الوحي من كتاب، أو سنة، ثم يلي ذلك الفاء من الراوي غير الفقيه.
ومثاله في الوحي قوله تعالى {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَ} أي لعلة سرقتهما. وقوله تعالى {قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلْمَحِيضِ} أي لعلة كون الحيض أذى.
ومثاله في كلام الراوي. حديث أنس المتفق عليه: أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا فلان أو فلان؟ حتى سمي اليهودي، فأومأت برأسها فجيء به فلم يزل حتى اعترف، فأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بالحجارة. فقول أنس في هذا الحديث الصحيح:
فأمر به فرضَّ رأسه بحجرين: أي لعلة رضه رأس الجارية المذكورة، بين حجرين.
ومن أمثلة ذلك ما رواه أبو داود في سننه، عن عمران بن حصين «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين، ثم تشهد ثم سلم» ا هـ. أي سجد لعلة سهوه، وكذلك قول عائشة رضي الله عنها: قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بهما، أي لأجل أن النَّبي صلى الله عليه وسلم سن ذلك: أي فرضه بسنته كما تقدم إيضاحه، وإلى إفادة الفاء التعليل في كلام الشارع ثم الراوي الفقيه ثم الراوي غير الفقيه أشار في مراقي السعود بقوله في مراتب النص الظاهر: فالفاء الشارع فالفقيه فغيره يتبع بالشبيه

ومن أَدلتهم على أن السعي ركن لا بد منه: حديث «إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا» وقد روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس، ومن حديث حبيبة بنت أبي تجراة، ومن حديث تملك العبدرية، ومن حديث صفية بنت شيبة.
قال الزيلعي في نصب الراية: أما حديث ابن عباس، فرواه الطبراني في معجمه، ثنا محمد بن النضر الأزدي، عن معاوية بن عمرو، عن المفضل بن صدقة، عن ابن جريج، وإسماعيل بن مسلم، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حج عن الرَّملي؟ فقال «إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا» انتهى.
وأَما حديث حبيبة بنت أَبي تجراة فرواه الشافعي، وأَحمد وإسحاق بن راهويه، والحاكم في المستدرك وسكت عليه، وأعله ابن عدي في الكامل بابن المؤمل، وأسند تضيعفه عن أحمد والنسائي، ووافقهم. ومن طريق أحمد الطبراني في معجمه، ومن طريق الشافعي رواه الدارقطني، ثم البيهقي في سننهما، قال الشافعي: أخبرنا عبد الله بن المؤمل العائذي، عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه، وهو وراءهم، وهو يسعى، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي، وهو يقول «اسعوا فإن الله تعالى كتب عليكم السعي» انتهى. وأخرجه الحاكم في المستدرك أيضاً في الفضائل، عن عبد الله بن نبيه، عن جدته صفية، عن حبيبة بنت أبي تجراة بنحوه. وسكت عنه أيضاً، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه: حدثنا محمد عن عبد الله بن المؤمل، حدثنا عبد الله بن أبي حسين عن عطاء، عن حبيبة بنت أبي تجراة، فذكره، قال أبو عمر بن عبد البر: أخطأ ابن أبي شيبة أو شيخه في موضعين منه.
أحدهما: أنه جعل موضع ابن محيصن عبد الله بن أبي حسين، والآخر أنه أسقط صفية بنت شيبة. قال ابن القطان في كتابه: وعندي أن الوهم من عبد الله بن المؤمل فإن ابن أبي شيبة إمام كبير، وشيخه محمد بن بشر ثقة، وابن المؤمل: سيىء الحفظ، وقد اضطرب في هذا الحديث اضطراباً كثيراً فأسقط عطاء مرة، وابن محيصن أخرى، وصفية بنت شيبة أخرى، وأبدل ابن محيصن بابن أبي حسين أخرى، وجعل المرأة عبدرية تارة ويمنية أخرى. وفي الطواف تارة، وفي السعي بين الصفا والمروة أخرى، وكل ذلك دليل على سوء حفظه، وقلة ضبطه. والله أعلم انتهى.
طريق آخر أخرجه الدارقطني في سننه، عن ابن المبارك، أخبرني معروف ابن مشكان، قال: أخبرني منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفية قالت: أخبرتني نسوة من بني عبد الدار اللاتي أدركن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن: دخلنا دار ابن أبي حسين فاطلعنا من باب مقطع فرأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد في المسعى إلى آخره.
قال صاحب التنقيح: إسناده صحيح ومعروف ابن مشكان باني كعبة الرحمٰن صدوق، لا نعلم من تكلم فيه، ومنصور هذا ثقة مخرج له في الصحيحين. انتهى.
وأما حديث «تملك العبدرية» فأخرجه البيهقي في سننه، والطبراني في معجمه عن مهران بن أبي عمر، ثنا سفيان، ثنا المثنى بن الصباح عن المغيرة بن حكيم، عن صفية بنت شيبة، عن تملك العبدرية. قالت: نظرت إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأنا في غرفة لي بين الصفا والمروة، وهو يقول «أيها الناس إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا» انتهى. تفرد به مهران بن أبي عمر، قال البخاري: في حديثه اضطراب. وأما حديث صفية بنت شيبة فرواه الطبراني في معجمه، حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا علي بن الحكم الأودي، ثنا حميد بن عبد الرحمٰن عن المثنى بن الصباح، عن المغيرة بن حكيم، عن صفية بنت شيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» انتهى.
وذكر الدارقطني في علله: في هذا الحديث اضطراباً كثيراً. ثم قال: والصحيح قول من قال عن عمر بن محيصن، عن عطاء، عن صفية، عن حبيبة بنت أبي تجراة وهو الصواب انتهى.
وقال الحازمي في كتابه: الناسخ والمنسوخ: الوجه السادس والعشرون من وجوه الترجيحات: هو أن يكون أحد الحديثين من قول النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهو مقارن فعله، والآخر مجرد قوله لا غير، فيكون الأول أولى بالترجيح نحو ما روته حبيبة بنت أبي تجراة، قالت: رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم في بطن المسيل يسعى: وهو يقول «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» فهو أولى من حديث «الحج عرفة» لأنه مجرد قول. والأول قول وفعل، وفيه أيضاً إخباره عن الله أنه أوجبه علينا، فكان أولى. انتهى كلامه.
ورواه الواقدي في كتاب المغازي: حدثنا علي بن محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن منصور بن عبد الرحمٰن، عن أمه عن بَرَّة بنت أبي تجراة قالت: لما انتهى النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى السعي قال «أيها الناس إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا» قالت: فسعى حتى رأيت إزاره انكشف عن فخذه. انتهى كله من نصب الراية للزيلعي.
وقد رأيته عزا لصاحب التنقيح: أن حديث صفية بنت شيبة، عن نسوة من بني عبد الدار أدركن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنهن رأينه، يطوف بين الصفا والمروة وهو يقول «إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا» أن إسناده صحيح، وهو نص في محل النزاع. والظاهر أن الإسناد المذكور صحيح كما قال. لأن معروف بن مشكان المذكور صدوق، ومنصور بن عبد الرحمٰن بن طلحة بن الحارث العبدري الحجبي ثقة، وهو ابن صفية بنت شيبة المذكورة.
وقال النووي في شرح المهذب: واحتج أصحابنا بحديث صفية بنت شيبة، عن نسوة من بني عبد الدار أنهن سمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استقبل الناس في المسعى، وقال «يا أيها الناس اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم» رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد حسن. انتهى منه.
وهو نص صالح للاحتجاج في أن السعي مما كتب على الناس، ولفظة: كتب: تدل على اللزوم.
فإن قيل: حديث حبيبة المذكور في إسناده عبد الله بن المؤمل، وهو وإن كان وثقه ابن حبان وقال: يخطىء، فقد ضعفه غيره، وحديث صفية في إسناده موسى بن عبيدة، وهو ضعيف، وحديث: تملك المذكور فيه المثنى بن الصباح، وهو وإن وثقه ابن معين في رواية، فقد ضعفه جماعة. وحديث ابن عباس المذكور فيه المفضل بن صدقة، وهو متروك.
فالجواب: أن رواية صفية بنت شيبة عن نسوة من بني عبد الدار عند الدارقطني والبيهقي، ليس في إسنادها شيء مما ذكر، وقد صحح إسنادها ابن الهمام في التنقيح، كما ذكره الزيلعي وحسنها النووي في شرح المهذب، والبيهقي روى حديثها المذكور من طريق الدارقطني، قال في سننه الكبرى: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو بكر بن الحارث الفقيه قالا: ثنا علي بن عمر الحافظ، ثنا يحيى بن صاعد، ثنا الحسن بن عيسى النيسابوري، ثنا ابن المبارك، أخبرني معروف ابن مشكان، أخبرني منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفية، أخبرتني عن نسوة من بني عبد الدار اللاتي أدركن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن: دخلنا دار ابن أبي حسين، فأطلعنا من باب مقطع، ورأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد في المسعى، حتى إذا بلغ زقاق بني فلان، موضعاً قد سماه من المسعى، استقبل الناس فقال: «يا أيها الناس اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم» انتهى منه.
فهذا الإسناد هو الذي صححه صاحب التنقيح، وحسنه النووي.
واعلم أن اختلاف الروايات في المرأة التي روت عنها صفية المذكورة هذا الحديث، لا يضر لتصريحها في رواية الدارقطني والبيهقي، هذه بأنها روت ذلك عن نسوة أدركن النَّبي صلى الله عليه وسلم. وإذن فلا مانع من أن تسمى واحدة منهن في رواية، وتسمى غيرها منهن في رواية أخرى كما لا يخفى وقال ابن حجر في فتح الباري: واحتج ابن المنذر للوجوب بحديث صفية بنت شيبة، عن حبيبة بنت أبي تجراة بكسر المثناة، وسكون الجيم بعدها راء، ثم ألف ساكنة، ثم هاء، وهي إحدى نساء بني عبد الدار، قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي، وسمعته يقول: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» أخرجه الشافعي، وأحمد وغيرهما. وفي إسناد هذا الحديث: عبد الله بن المؤمل، وفيه ضعف، ومن ثم قال ابن المنذر: إن ثبت فهو حجة في الوجوب.
قلت: له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة مختصرة، وعند الطبراني عن ابن عباس كالأولى، وإذا انضمت إلى الأولى قويت.
واختلف على صفية بنت شيبة في اسم الصحابية التي أخبرتها، ويجوز أن تكون أخذته عن جماعة، فقد وقع عند الدارقطني عنها: أخبرتني نسوة من بني عبد الدار، فلا يضره الاختلاف. انتهى الغرض من كلام ابن حجر.
وقد علمت مما ذكرنا أن بعض طرق حديث «إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا» لا تقل عن درجة القبول. وهو نص في محل النزاع مع أنه معتضد بما ذكرناه من حديث عائشة، عند الشيخين. وبظاهر الآية كما بينا، وبما سيأتي أيضاً إن شاء الله تعالى.
ومن أدلتهم على لزوم السعي ما جاء في بعض روايات حديث أبي موسى المتفق عليه، من أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، أخبرنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي «أحججت؟ فقلت: نعم. فقال: بم أهللت؟ قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النَّبي صلى الله عليه وسلم. قال: فقد أحسنت. طف بالبيت وبالصفا والمروة». الحديث قالوا: فقوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري «طف بالبيت وبالصفا والمروة» أمر صريح منه صلى الله عليه وسلم بذلك، وصيغة الأمر تقتضي الوجوب ما لم يقم دليل صارف عن ذلك، وقد دل على اقتضائها الوجوب: الشرع واللغة: وقال بعضهم: إن العقل يفيد ذلك، وليس بسديد عندي، أما دلالة الشرع على ذلك ففي نصوص كثيرة كقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهذا الوعيد العظيم على مخالفة أمره، يدل على وجوب امتثال أمره، وكقوله تعالى: لإبليس لما لم يمتثل الأمر المدلول عليه بصيغة أفعل التي هي قوله تعالى {ٱسْجُدُواْ لأَدَمَمَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} فتوبيخه وتقريعه له في هذه الآية لمخالفته الأمر، وقد سمي نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، مخالفة الأمر معصية وذلك يدل على وجوب الامتثال في قوله تعالى عنه {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى} وكقوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فجعل أمر الله ورسوله مانعاً من الاختيار موجباً للامتثال، منبهاً على عدم الامتثال معصية في قوله بعده: {وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلاً مُّبِين} وكقوله تعالى {وَمَآ ءَاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُو} وقوله صلى الله عليه وسلم «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» إلى غير ذلك من الأدلة.
وأما دلالة اللغة على اقتضاء صيغة أفعل الوجوب. فإيضاحها أن أهل اللسان العربي مجمعون على أن السيد لو قال لعبده: اسقني ماء مثلاً، ثم لم يمتثل العبد وعاقبه سيده على عدم الامتثال كان ذلك العقاب واقعاً موقعه، لأن صيغة أفعل ألزمته الامتثال، وليس للعبد أن يقول: صيغة افعل لم توجب على الامثتال، ولم تلزمني إياه؟ فعقابك لي غلط لأني لم أترك شيئاً لازماً، حتى تعاقبني عليه. وإجماعهم على أنه ليس له ذلك وأن عقابه له صواب لعصيانه، دليل على أن صيغة أفعل تقتضي الوجوب، ما لم يصرف عنه صارف، وهو قول جمهور الأصوليين. ومقابله أقوال أخر، أشار لها مراقي السعود بقوله في مبحث الأمر:
وافعل لدى الأكثر للوجوب وقيل للندب أو المطلوب
وقيل للوجوب أمر الرب وأمر من أرسله للندب
ومفهم الوجوب يدري الشرع أو الحجا أو المفيد الوضع

وقال بعض أهل العلم: إن دلالة اللغة على اقتضاء الأمر الوجوب راجعة إلى دلالة الشرع، لأن الشرع هو الذي دل على وجوب طاعة العبد لسيده.
ومن أدلتهم على أن السعي بين الصفا والمروة لا بد منه: ما قدمنا من حديث ابن عمر عند الترمذي، أنه صلى الله عليه وسلم قال «من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعاً» قال المجد في المنتقى: رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، وفيه دليل على وجوب السعي، ووقوف التحلل عليه. انتهى منه.
والذي رأيته في الترمذي لما ساق الحديث بلفظه المذكور: هو أنه قال: قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح، تفرد به الدراوردي على ذلك اللفظ، وقد رواه غير واحد عن عبيد الله بن عمر، ولم يرفعوه. وهو أصح. انتهى منه.
ومن أدلتهم على ذلك: ما جاء في بعض الروايات الثابتة في الصحيح، من أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها «يجزىء عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك» وهذا اللفظ في صحيح مسلم، قالوا: ويفهم من قوله «يجزىء عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك» أنها لو لم تطف بينهما لم يحصل لها أجزاء عن حجها وعمرتها، هذا هو حاصل ما استدل به القائلون بأنه ركن من أركان الحج والعمرة.
وأما حجة الذين قالوا: إنه سنة لا يجب بتركه شيء، فهي قوله تعالى {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} قالوا: فرفع الجناح في قوله {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَ} دليل قرآني على عدم الوجوب، كما قاله عروة بن الزبير، لخالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
والجواب عن الاستدلال بهذه الآية على عدم وجوب السعي: هو ما أجابت به عائشة عروة، فإنها أولاً ذمَّت هذا التفسير لهذه الآية بقولها: بئس ما قلت يا ابن أختي، ومعلوم أن لفظة بئس فعل جامد لإنشاء الذم، وما ذمت تفسير الآية بما ذكر، إلا لأنه تفسير غير صحيح، وقد بينت له أن الآية نزلت جواباً لسؤال من ظن أن في السعي بين الصفا والمروة جناحاً، وإذاً فذكر رفع الجناح لمطابقة الجواب للسؤال، لا لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق، فلو سألك سائل مثلاً قائلاً: هل علي جناح في أن أصلي الخمس المكتوبة؟ وقلت له: لا جناح عليك في ذلك، لم يلزم من ذلك أنك تقول: بأنها غير واجبة، وإنما قلت: لا جناح في ذلك، ليطابق جوابك السؤال، وقد دلت قرينتان على أنه ليس المراد رفع الجناح، عمن لم يسع بين الصفا والمروة.
الأولى منهما: أن الله قال في أول الآية {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ} وكونهما من شعائر الله، لا يناسبه تخفيف أمرهما برفع الجناح عمن لم يطف بينهما، بل المناسب لذلك تعظيم أمرهما، وعدم التهاون بهما، كما أوضحناه في أول هذا المبحث.
والقرينة الثانية: هي أنه لو أراد ذلك المعنى لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما، كما قالت عائشة لعروة، وقد تقرر في الأصول: أن اللفظ الوارد جواباً لسؤال لا مفهوم مخالفة له، لأن المقصود به مطابقة الجواب للسؤال، لا إخراج المفهوم عن حكم المنطوق، وقد أوضحنا هذا في سورة البقرة في الكلام على آية الطلاق، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله عاطفاً على ما يمنع اعتبار دليل الخطاب، أعني مفهوم المخالفة: أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب

ومحل الشاهد منه قوله: أو النطق انجلب * للسؤل.
ومعنى ذلك: أن المنطوق إذا كان جواباً لسؤال فلا مفهوم مخالفة له، لأن المقصود بلفظ المنطوق مطابقة الجواب للسؤال، لا إخراج المفهوم عن حكم المنطوق.
فإن قيل: جاء في بعض قراءات الصحابة {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَ} كما ذكره الطبري، وابن المنذر وغيرهما، عن أُبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن هذه القراءة لم تثبت قرآناً لإجماع الصحابة على عدم كتبها في المصاحف العثمانية، وما ذكره الصحابي على أنه قرآن، ولم يثبت كونه قرآناً. ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يستدل به على شيء، وهو مذهب مالك، والشافعي، ووجهه أنه لما لم يذكره إلا لكونه قرآناً، فبطل كونه قرآناً بطل من أصله، فلا يحتج به على شيء، وقال بعض أهل العلم: إذا بطل كونه قرآناً لم يمنع ذلك من الاحتجاج به كأخبار الآحاد، التي ليست بقرآن، فعلى القول الأول: فلا إشكال، وعلى الثاني: فيجاب عنه بأن القراءة المذكورة تخالف القراءة المجمع عليها المتواترة، وما خالف المتواتر المجمع عليه إن لم يمكن الجمع بينهما فهو باطل، والنفي والإثبات لا يمكن الجمع بينهما لأنهما نقيضان.
الوجه الثاني: هو ما ذكره ابن حجر في الفتح عن الطبري والطحاوي، من أن قراءة: أن لا يطوف بهما، محمولة على القراءة المشهورة، ولا زائدة. انتهى. ولا يخلو من تكلف كما ترى.
واعلم أن قوله تعالى {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} لا دليل فيه، على أن السعي تطوع، وليس بفرض، لأن التطوع المذكور في الآية راجع إلى نفس الحج والعمرة، لا إلى السعي لإجماع المسلمين على أن التطوع بالسعي لغير الحاج والمعتمر غير مشروع، والعلم عند الله تعالى.
وأما حجة من قال: السعي واجب يجبر بدم، فهي أن النَّبي صلى الله عليه وسلم طاف بينهما فدل ذلك على أن الطواف بينهما نسك، وفي الأثر المروي عن ابن عباس: من ترك نسكاً فعليه دم. وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن جمهور العلماء على أن السعي لا تشترط له طهارة الحدث، ولا الخبث، ولا ستر العورة، فلو سعى، وهو محدث أو جنب، أو سعت امرأة وهي حائض، فالسعي صحيح، ولا يبطله ذلك، وممن قال به الأئمة الأربعة، وجماهير أهل العلم، وقال الحسن: إن كان قبل التحلل تطهر وأعاد السعي، وإن كان بعده، فلا شيء عليه، وذكر بعض الحنابلة رواية عن الإمام أحمد: أن الطهارة في السعي، كالطهارة في الطواف. قال ابن قدامة في المغني: ولا يعول عليه، والطهارة في السعي مستحبة عند كثير من أهل العلم، وهو مذهب مالك والشافعي، وأحمد وغيرهم. وحجة الجمهور على أن السعي لا تشترط له الطهارة: هي ما تقدم من حديث عائشة المتفق عليه، وقد أمرها النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور: أن تفعل كل ما يفعله الحاج، وهي حائض إلا الطواف بالبيت خاصة. وهو دليل على أن السعي لا تشترط له الطهارة، خلافاً لمن قال: لا دليل في الحديث، لأن السعي لا يصح إلا بعد طواف، والحيض مانع من الطواف، وهو مردود بأن النفي والإثبات نص في أن غير الطواف يصح من الحائض ويدخل فيه السعي.
وقال ابن قدامة في المغني: قال أبو داود: سمعت أحمد، يقول: إذا طافت المرأة بالبيت، ثم حاضت سعت بين الصفا والمروة ثم نفرت. وروي عن عائشة، وأم سلمة أنهما قالتا: إذا طافت المرأة بالبيت، وصلت ركعتين، ثم حاضت فلتطف بالصفا والمروة، رواه الأثرم. وقال ابن قدامة أيضاً: ولأن ذلك عبادة لا تتعلق بالبيت، فأشبهت الوقوف. انتهى منه.
وقال أيضاً في المغني: ولا يشترط أيضاً الطهارة من النجاسة ولا الستارة للسعي، لأنه إذا لم تشترط له الطهارة من الحدث وهي آكد فغيرها أولى.
الفرع الثاني: اعلم أن جمهور أهل العلم يشترطون في السعي الترتيب، وهو أن يبدأ بالصفا، ويختم بالمروة، فإن بدأ بالمروة لم يعتد بذلك الشوط، وممن قال باشتراط الترتيب: مالك، والشافعي، وأحمد، وأصحابهم، والحسن البصري، والأوزاعي، وداود، وجمهور العلماء، وعن أبي حنيفة خلاف في ذلك.
قال صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، في فقه الإمام أبي حنيفة رحمه الله: ولو بدأ من المروة لا يعتد بالأولى لمخالفته الأمر. انتهى منه.
وقال الشيخ شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق المذكور قوله: ولو بدأ بالمروة لا يعتد بالأولى. وفي مناسك الكرماني: إن الترتيب فيه ليس بشرط عندنا، حتى لو بدأ بالمروة، وأتى الصفا جاز ويعتد به، ولكنه مكروه لترك السنة. فتستحب إعادة ذلك الشوط.
قال السروجي رحمه الله في الغاية: ولا أصل لما ذكره الكرماني.
وقال الرازي في أحكام القرآن: فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يعتد بذلك في الرواية المشهورة، عن أصحابنا، وروي عن أبي حنيفة: أنه ينبغي له أن يعيد ذلك الشوط، فإن لم يفعل، فلا شيء عليه، وجعله بمنزلة ترك الترتيب في أعضاء الطهارة ا هـ. فقول السروجي: لا أصل لما قاله الكرماني فيه نظر. انتهى منه.
وحجة الجمهور في اشتراط الترتيب: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وقال «أبدأ بما بدأ الله به» وفي رواية عند النسائي «فابدؤوا بما بدأ الله به» بصيغة الأمر، ومع ذلك فقد قال «خذوا عني مناسككم» فيلزمنا أن نأخذ عنه من مناسكنا الابتداء بما بدأ الله به، وفعله صلى الله عليه وسلم عملاً بالقرآن العظيم.
الفرع الثالث: اعلم أن جمهور أهل العلم على أن السعي لا يصح، إلا بعد طواف، فلو سعى قبل الطواف لم يصح سعيه، عند الجمهور، منهم الأئمة الأربعة، ونقل الماوردي وغيره الإجماع عليه. قال النووي في شرح المهذب: وحكى ابن المنذر، عن عطاء، وبعض أهل الحديث: أنه يصح، وحكاه أصحابنا عن عطاء، وداود وحجة الجمهور: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يسع في حج، ولا عمرة إلا بعد الطواف، وقد قال «لتأخذوا عني مناسككم» فعلينا أن نأخذ ذلك عنه، واحتج من قال بصحة السعي قبل الطواف بما رواه أبو داود في سننه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن الشيباني، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك قال: خرجت مع النَّبي صلى الله عليه وسلم حاجاً فكان الناس يأتونه، فمن قال: يا رسول الله سعيت، قبل أن أطوف، أو قدمت شيئاً، أو أخرت شيئاً، فكان يقول: لا حرج لا حرج إلا على رجل اقترض عرض رجل مسلم، وهو ظالم له، فذلك الذي حرج وهلك.
انتهى منه. وهذا الإسناد صحيح، ورجاله كلهم ثقات معروفون. وجرير المذكور فيه هو ابن عبد الحميد بن قرط الضبي، أبو عبد الله الرازي القاضي والشيباني المذكور فيه: هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان الكوفي، ورجال هذا الإسناد كلهم مخرج لهم في الصحيحين إلا الصحابي، الذي هو أسامة بن شريك. وقد أخرج عنه أصحاب السنن، وروى عنه زياد بن علاقة المذكور، وعلي بن الأقمر، خلافاً لمن قال: لم يرو عنه إلا زياد المذكور، وعلي بن الأقمر، خلافاً لمن قال: لم يرو عنه إلا زياد المذكور، كما ذكره في تهذيب التهذيب عن الأزدي، وسعيد بن السكن، والحاكم وغيرهم، وهذا الحديث الصحيح يقتضي صحة السعي قبل الطواف، وجماهير أهل العلم على خلافه، وأنه لا يصح السعي، إلا مسبوقاً بالطواف.
قال النووي في شرح المهذب: في حديث أسامة بن شريك هذا بعد أن ذكر صحة الإسناد المذكور، وهذا الحديث محمول على ما حمله عليه الخطابي وغيره، وهو أن قوله: سعيت قبل أن أطوف: أي سعيت بعد طواف القدوم، وقبل طواف الإفاضة والله تعالى أعلم انتهى منه.
فقوله: قبل أن أطوف يعني: طواف الإفاضة الذي هو ركن، ولا ينافي ذلك أنه سعي بعد طواف القدوم الذي هو ليس بركن.
الفرع الرابع: اعلم أن جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة: مالك، وأحمد، والشافعي، وأصحابهم، على أنه يشترط في صحة السعي، أن يقطع جميع المسافة بين الصفا والمروة في كل شوط، فلو بقي منها بعض خطوة لم يصح سعيه، وقد قدمنا مذهب أبي حنيفة في السعي، وأنه لو تركه كله أو ترك أربعة أشواط منه فأكثر لصح حجه، وعليه دم وأنه إن ترك منه ثلاثة أشواط فأقل لزمه عن كل شوط نصف صاع، وحجة الجمهور أن المسافة للسعي محددة من الشارع، فالنقص عن الحد مبطل كما هو ظاهر، وحجة أبي حنيفة، من وافقه كطاوس هي تغليب الأكثر على الأقل، مع جبر الأقل بالصدقة، ولا أعلم مستنداً من النقل للتفريق بين الأربعة والثلاثة، ولا لجعل نصف الصاع مقابل الشوط. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس: اعلم أنه لا يجوز السعي في غير موضع السعي، فلو كان يمر من وراء المسعى، حتى يصل إلى الصفا والمروة من جهة أخرى لم يصح سعيه، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه. وعن الشافعي في القديم: أنه لو انحرف عن موضع السعي انحرافاً يسيراً أنه يجزئه. والظاهر أن التحقيق خلافه وأنه لا يصح السعي إلا في موضعه.
الفرع السادس: اعلم أن الأظهر أقوال أهل العلم دليلاً: أنه لو سعى راكباً أو طاف راكباً أجزأه ذلك، لما قدمنا في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع بالبيت، وبين الصفا والمروة، وهو على راحلته، ومعلوم أن من أهل العلم من يقول: لا يجزئه السعي، ولا الطواف راكباً إلا لضرورة ومنهم: من منع الركوب في الطواف، وكرهه في السعي إلا لضرورة، ومنهم من يقول: إن ركب ولم يعد سعيه ماشياً، حتى رجع إلى وطنه فعليه الدم. والأظهر هو ما قدمنا. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم طاف راكباً، وسعى راكباً، وهو صلوات الله وسلامه عليه لا يفعل إلا ما يسوغ فعله، وقد قال لنا «خذوا عني مناسككم» والذين قالوا: إن الطواف والسعي يلزم فيهما المشي. قالوا: إن ركوبه لعلة وبعضهم يقول: هي كونه مريضاً كما جاء في بعض الروايات، وبعضهم يقول: هي أن يرتفع، ويشرف حتى يراه الناس ويسألوه، وبعضهم يقول: هي كراهيته أن يضرب عنه الناس، وقد قدمنا الروايات بذلك في صحيح مسلم، ففي حديث جابر عند مسلم: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الحَجَرَ بمحجنه، لأن يراه الناس وليشرف، وليسألوه فإن الناس قد غشوه. وفي رواية في صحيح مسلم عن جابر رضي الله، طاف النَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس، وليشرف، وليسألوه فإن الناس قد غشوه. وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: طاف النَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعير يستلم الركن، كراهية أن يضرب عنه الناس.
المسألة السابعة: اعلم أن العلماء أجمعوا على أن الوقوف بعرفة: ركن من أركان الحج لا يصح الحج بدونه، وأنهم أجمعوا على أن الوقوف ينتهي وقته بطلوع فجر يوم النحر، فمن طلع فجر يوم النحر، وهو لم يأت عرفة فقد فاته الحج إجماعاً، ومن جمع في وقوف عرفة بين الليل والنهار وكان جزء النهار الذي وقف فيه من بعد الزوال فوقوفه تام، ومن اقتصر على جزء من الليل دون النهار صح حجه، ولزمه دم عند المالكية، خلافاً لجماهير أهل العلم القائلين: بأنه لا دم عليه، وما ذكره النووي عن بعض الخراسانيين: من أن الوقوف بالليل لا يجزىء ولا يصح به الحج، حتى يقف معه بعض النهار ظاهر السقوط لمخالفته للنص، وعامة أهل العلم، ومن اقتصر على جزء من النهار دون الليل لم يصح حجه عند مالك، وهو رواية عن أحمد، وعند الشافعي، وأبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى: حجه صحيح، وعليه دم، ولا خلاف بين العلماء: أن عرفة كلها موقف.
والدليل على أن الوقوف بعرفة ركن، وأن وقته ينتهي بطلوع الفجر ليلة النحر: ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن، وغيرهم من حديث عبد الرحمٰن بن يعمر الدِّيلي رضي الله عنه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال «الحج عرفة، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج» قال ابن حجر في التلخيص الحبير في هذا الحديث: رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي من حديث عبد الرحمٰن بن يعمر، قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة، وأتاه ناس من أهل نجد فقالوا: يا رسول الله كيف الحج؟ فقال «الحج عرفة من جاء عرفة قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه» لفظ أحمد وفي رواية لأبي داود «من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج» وألفاظ الباقين نحوه.
وفي رواية للدارقطني والبيهقي:
الحج عرفة الحج عرفة. انتهى من التلخيص.
وفي سنن أبي داود: الحج الحج يوم عرفة، بتكرير لفظة الحج. وفي سنن النسائي: فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع، فقد تم حجه. وقال ابن ماجه في سننه، بعد أن ساق الحديث باللفظ الذي ذكره صاحب التلخيص: قال محمد بن يحيى: ما أرى للثوري حديثاً أشرف منه. وقال النووي في شرح المهذب: حديث عبد الرحمٰن الديلي صحيح رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وآخرون بأسانيد صحيحة.
وهذا لفظ الترمذي عن عبد الرحمٰن بن يعمر: أن ناساً من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه عن الحج؟ فأمر منادياً ينادي: الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج. وفي رواية أبي داود «فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فنادى: الحج الحج يوم عرفة، من جاء قبل الصبح من ليلة جمع فتم حجه» وفي رواية البيهقي، عن عبد الرحمٰن بن يعمر الديلي، قال: شهدت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول «الحج عرفة الحج عرفات من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج» وإسناد هذه الرواية صحيح، وهو من رواية سفيان بن عيينة.
قلت: عن سفيان الثوري، قال ابن عيينة: ليس عندكم بالكوفة، حديث أشرف ولا أحسن من هذا. انتهى كلام النووي.
ودليل الإجماع على أن من جمع في وقوفه بعرفة بين جزء من الليل، وجزء من النهار، من بعد الزوال: أن وقوفه تام، هو ما ثبت في الروايات الصحيحة «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل وقال: لتأخذوا عني مناسككم». فمن الروايات الصحيحة الدالة على ذلك، ما رواه مسلم في صحيحه في حديث جابر الطويل في حجة النَّبي صلى الله عليه وسلم، فإن فيه «فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة، قد ضربت له بنمرة، فنزل حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس إلى أن قال: ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء، إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص» الحديث. ففي هذا الحديث الصحيح: أنه جمع في وقوفه بين النهار من بعد الزوال، وبين جزء قليل من الليل مع قوله «لتأخذوا عني مناسككم» ودليل القائلين بأن من اقتصر في وقوفه بعرفة على جزء من الليل، دون النهار فقد تم حجه: حديث عبد الرحمٰن بن يعمر المذكور، فإن فيه تصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم، بأن من أدرك عرفة، قبل طلوع الفجر من ليلة جمع، فقد تم حجه. وجمع: هي المزدلفة، وليلتها: هي الليلة التي صبيحتها يوم النحر.
ودليل من ألزموه دماً مع وقوفه بعرفة في جزء من الليل: وهم المالكية أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالليل، بل وقف معه جزءاً من النهار، فتارك الوقوف بالنهار تارك نسكاً. وفي الأثر المروي عن ابن عباس: من ترك نسكاً فعليه دم، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الدِّيلي «فقد تم حجه» لا يساعد على لزوم الدم، لأن لفظ التمام، يدل على عدم الحاجة إلى الجبر بدم، فهو يؤيد مذهب الجمهور، والعلم عند الله تعالى.
ودليل من قال: بأن من اقتصر في وقوفه بعرفة على النهار، دون الليل: أن وقوفه صحيح وحجه تام حديث عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لأمٍ الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة، حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جبلي طيىء. أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي. والله ما تركت من جبل، إلا وقفت عليه، فهل لي من حجٍ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجة وقضى تفثه» ا هـ.
قال المجد في المنتقى، بعد أن ساق هذا الحديث: رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير في هذا الحديث: رواه أحمد وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، ثم قال: وصحح هذا الحديث الدارقطني، والحاكم، والقاضي أبو بكر بن العربي على شرطهما.
وقال النووي في شرح المهذب في حديث عروة بن مضرس: هذا رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم، بأسانيد صحيحة. قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح.
ودليل أن عرفة كلها موقف ما رواه مسلم في صحيحه: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي عن جعفر، حدثني أبي عن جابر في حديثه ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحرت ها هنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف» انتهى من صحيح مسلم.
وقال المجد في المنتقى: بعد أن ساق هذا الحديث بلفظ مسلم الذي سقناه به: رواه أحمد ومسلم، وأبو داود، ولابن ماجه وأحمد أيضاً نحوه وفيه «وكل فجاج مكة طريق ومنحر» وقد قدمنا إجماع أهل العلم على أن وقت الوقوف ينتهي بطلوع الفجر، ليلة جمع. وإجماعهم على أن ما بعد الزوال من يوم عرفة، وقت للوقوف. وأما ما قبل الزوال من يوم عرفة، فجمهور أهل العلم على أنه ليس وقتاً للوقوف، وخالف الإمام أحمد رحمه الله الجمهور في ذلك قائلاً:
إن يوم عرفة كله من طلوع فجره إلى غروبه، وقت للوقوف، واحتج لذلك بحديث عروة بن المضرس، المذكور آنفاً فإن فيه: وقد وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه، فقوله صلى الله عليه وسلم: «ليلاً أو نهاراً» يدل على شمول الحكم لجميع الليل والنهار، وقد قدمنا قول المجد في المنتقى، بعد أن ساق هذا الحديث: وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف، وحجة الجمهور هي: أن المراد بالنهار في حديث عروة المذكور خصوص ما بعد الزوال، بدليل أن النَّبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده، لم يقفوا إلا بعد الزوال، ولم ينقل عن أحد أنه وقف قبله. قالوا: ففعله صلى الله عليه وسلم، وفعل خلفائه من بعده مبين للمراد من قوله: أو نهاراً.
والحاصل: أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج إجماعاً، وأن من جمع بين الليل والنهار من بعد الزوال فوقوفه تام إجماعاً، وأن من اقتصر على الليل دون النهار، فوقوفه تام ولا دم عليه عند الجمهور، خلافاً للمالكية القائلين بلزوم الدم، وأن من اقتصر على النهار دون الليل، لم يصح وقوفه عند المالكية. وعند جمهور العلماء: حجه صحيح. منهم الشافعي، وأبو حنيفة، وعطاء، والثوري، وأبو ثور، وهو الصحيح من مذهب أحمد.
ولكن اختلفوا في وجوب الدم، فقال أحمد وأبو حنيفة: يلزمه دم، وعن الشافعية قولان: أحدهما: لا دم عليه. وصححه النووي وغيره. والثاني: عليه دم. قيل وجوباً، وقيل: استناناً، وقيل: ندباً. والأصح أنه سنة على القول به، كما جزم به النووي. وأنما قيل: الزوال من يوم عرفة ليس وقتاً للوقوف عند جماهير العلماء، خلافاً للإمام أحمد رحمه الله، وقد رأيت أدلة الجميع.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما من اقتصر في وقوفه على الليل دون النهار، أو النهار من بعد الزوال، دون الليل، فأظهر الأقوال فيه دليلاً: عدم لزوم الدم. أما المقتصر على الليل فلحديث عبد الرحمٰن بن يعمر الديلي رضي الله عنه، الذي قدمناه قريباً، وبينا أنه صحيح. وفيه عند أحمد والنسائي: فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه.
هذا لفظ النسائي، ولفظ أحمد: من جاء عرفة قبل صلاة الفجر من ليلة جمع، فقد تم حجه، ا هـ. ولفظ أحمد المذكور بواسطة نقل ابن حجر في التلخيص فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الثابت: فقد تم حجه مرتباً ذلك على إتيانه عرفة، قبل طلوع فجر يوم النحر، نص صريح في أن المقتصر على الوقوف ليلاً: أن حجه تام، وظاهر التعبير بلفظ التمام، عدم لزوم الدم، ولم يثبت ما يعارضه من صريح الكتاب أو السنة، وعلى هذا جمهور أهل العلم، خلافاً للمالكية. وأما المقتصر على النهار دون الليل، فلحديث عروة بن مضرس الطائي، وقد قدمناه قريناً، وبينا أنه صحيح، وبينا أن فيه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه، وقضى تفثه، فقوله صلى الله عليه وسلم: فقد تم حجه مرتباً له بالفاء على وقوفه بعرفة ليلاً أو نهاراً، يدل على أن الواقف نهاراً يتم حجه بذلك، والتعبير بلفظ التمام ظاهر، في عدم لزوم الجبر بالدم، كما بيناه فيما قبله، ولم يثبت نقل صريح في معارضة ظاهر هذا الحديث، وعدم لزوم الدم للمقتصر على النهار، هو الصحيح من مذهب الشافعي، لدلالة هذا الحديث على ذلك، كما ترى. والعلم عند الله تعالى.
وأما الاكتفاء بالوقوف يوم عرفة قبل الزوال، فقد قدمنا: أن ظاهر حديث ابن مضرس المذكور، يدل عليه، لأن قوله صلى الله عليه وسلم: أو نهاراً، صادق بأول النهار وآخره. كما ذهب إليه الإمام أحمد. ولكن فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه من بعده، كالتفسير للمراد بالنهار، في الحديث المذكور، وأنه بعد الزوال، وكلاهما له وجه من النظر، ولا شك أن عدم الاقتصار على أول النهار أحوط، والعلم عند الله تعالى.
وحجة مالك: في أن الوقوف نهاراً لا يجزىء إلا إذا وقف معه جزءاً من الليل: هي أن النَّبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك، وقال: «لتأخذوا عني مناسككم» فيلزمنا أن نأخذ عنه من مناسكنا الجمع في الوقوف بين الليل والنهار، ولا يخفى أن هذا لا ينبغي أن يعارض به الحديث الصريح في محل النزاع الذي فيه، وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه كما ترى.
واعلم: أنه إن وقف بعد الزوال بعرفة ثم أفاض منها قبل الغروب ثم رجع إلى عرفة في ليلة جمع: أن وقوفه تام ولا دم عليه في أظهر القولين، لأنه جمع في وقوفه بين الليل والنهار، خلافاً لأبي حنيفة، وأبي ثور القائلين: بأن الدم لزمه بإفاضته، قبل الليل وأن رجوعه بعد ذلك ليلاً لا يسقط عنه ذلك الدم بعد لزومه. والله تعالى أعلم.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في صحة الوقوف، دون الطهارة، فيصح وقوف الجنب والحائض، وقد قدمنا دليل ذلك في حديث عائشة المتفق عليه، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمرها فيه، بأن تفعل كل ما يفعله الحاج، غير أن لا تطوف بالبيت.
الفرع الثاني: اعلم أن العلماء اختلفوا في صحة وقوف المغمى عليه بعرفة. قال النووي، في شرح المهذب: ذكرنا أن الأصح عندنا أنه لا يصح وقوف المغمى عليه، وحكاه ابن المنذر عن الشافعي وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، قال: وبه أقول، وقال مالك وأبو حنيفة: يصح.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ليس في وقوف المغمى عليه نص من كتاب ولا سنة، يدل على صحته أو عدمها.
وأظهر القولين عندي: قول من قال: بصحته لما قدمنا، من أنه لا يشترط له نية تخصه، وإذا سلمنا صحته بدون النية، كما قدمنا أنه هو الصواب فلا مانع من صحته من المغمى عليه، كما يصح من النائم، واحتج من خالف في ذلك، بأن المغمى عليه ليس من أهل العبادة، حتى يصح وقوفه، وممن قال بعدم صحته: الحسن، وممن قال بصحته: عطاء، والله تعالى أعلم.
الفرع الثالث: اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن وقف بعرفات، وهو لا يعلم أنها عرفات، قال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن مذهبنا صحة وقوفه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وحكى ابن المنذر عن بعض العلماء أنه لا يجزئه. انتهى منه.
الفرع الرابع: اعلم أنه لا خلاف بين العلماء في مشروعية جمع الظهر والعصر جمع تقويم يوم عرفة والمغرب والعشاء جمع تأخير بمزدلفة، وقد ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر رضي الله عنه.
وأظهر الأقوال دليلاً: أنه يؤذن للظهر فقط، ويقيم لكل واحدة منهما.
وأظهر قولي أهل العلم عندي: أن جميع الحجاج يجمعون الظهر والعصر، ويقصرون، وكذلك في جمع التأخير في مزدلفة يقصرون العشاء، وأن أهل مكة وغيرهم في ذلك سواء، وأن حديث «أتموا فإنا قوم سَفْرٌ» إنما قاله لهم النَّبي صلى الله عليه وسلم في مكة لا في عرفة ولا في مزدلفة، وروى مالك بإسناده الصحيح في الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أنه لما قدم مكة صلى بهم ركعتين، ثم انصرف فقال: يا أهل مكة: أتموا صلاتكم فإنا قوم سَفْرٌ. ثم صلى عمر بن الخطاب ركعتين بمنى، ولم يَـبْلُغْنَا أنه قال لهم شيئاً، وممن قال بأن أهل مكة يقصرون بعرفة ومزدلفة ومنى: مالك، وأصحابه، والقاسم بن محمد، وسالم، والأوزاعي. وممن قال بأن أهل مكة يتمون صلاتهم في عرفة، ومزدلفة، ومنى: الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وعطاء، ومجاهد، والزهري، وابن جريج، والثوري، ويحيى القطان، وابن المنذر، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني، وعزا النووي هذا القول للجمهور.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لا يخفى أن ظاهر الروايات: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم وجميع من معه جمعوا وقصروا، ولم يثبت شيء يدل على أنهم أتموا صلاتهم بعد سلامه في منى ولا مزدلفة ولا عرفة، بل ذلك الإتمام في مكة، وقد قدمنا أن تحديد مسافة القصر لم يثبت فيه شيء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وأن أقوى الأقوال دليلاً: هو أن كل ما يطلق عليه اسم السفر لغة تقصر فيه الصلاة كما أوضحنا ذلك بأدلته في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاٌّرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ}.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد ما نصه: فلما أتمها يعني الخطبة، يوم عرفة، أمر بلالاً، فأذن، ثم أقام فصلى الظهر ركعتين، أسر فيهما بالقراءة، وكان يوم الجمعة. فدل على أن المسافر لا يصلي جمعة، ثم أقام، فصلى العصر ركعتين أيضاً، ومعه أهل مكة وصلوا بصلاته قصراً وجمعاً بلا ريب، ولم يأمرهم بالإتمام، ولا بترك الجمع، ومن قال إنه قال لهم «أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر» فقد غلط عليه غلطاً بيناً، ووهم وهماً قبيحاً، وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف مكة، حيث كانوا في ديارهم مقيمين، ولهذا كان أصح أقوال العلماء أن أهل مكة يقصرون، ويجمعون بعرفة، كما فعلوا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا أوضح دليل على أن سفر القصر لا يتحدد بمسافة معلومة، ولا بأيام معلومة، ولا تأثير للنسك في قصر الصلاة ألبتة، وإنما التأثير لما جعله الله سبباً، وهو السفر. هذا مقتضى السنة ولا وجه لما ذهب إليه الملحدون. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
وقد قدمنا قول من قال: إن القصر والجمع المذكور، لأهل مكة من أجل النسك، والعلم عند الله تعالى.
ولا يخفى أن حجة من قالوا: بإتمام أهل مكة صلاتهم في عرفة ومزدلفة ومنى، هو ما قدمنا من تحديدهم للمسافة بأربعة برد أو ثلاثة أيام.
وعرفة ومزدلفة ومنى أقل مسافة من ذلك، قالوا: ومن سافر دون مسافة القصر أتم صلاته، هذا هو دليلهم.
الفرع الخامس: اعلم أن الصعود على جبل الرحمة الذي يفعله كثير من العوام لا أصل له، ولا فضيلة فيه، لأنه لم يرد في خصوصه شيء بل هو كسائر أرض عرفة، وعرفة كلها موقف، وكل أرضها سواء إلا موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالوقوف فيه أفضل من غيره، كما قاله غيره واحد، وبذلك تعلم أنما قاله أبو جعفر بن جرير الطبري والماوردي من استحباب صعود جبل الرحمة لا يعول عليه. والعلم عند الله تعالى.
والتحقيق: أن عرَنَة ليست من عرفة، فمن وقف بعرنة لم يجزئه ذلك وما يذكر عن مالك، من أن وقوفه بعرنة يجزىء، وعليه دم، خلاف التحقيق الذي لا شك فيه، والظاهر أنه لم يصح عن مالك.
المسألة الثامنة: لا خلاف بين العلماء أنه إن غربت الشمس واستحكم غروبها، وهو واقف بعرفة، أفاض منها إلى المزدلفة، وذلك هو معنى قوله تعالى {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ}. كما قدمنا إيضاحه في سورة البقرة.
وقد بينت الأحاديث الصحيحة كيفية إفاضته من عرفات، ففي حديث جابر الطويل عند مسلم «فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص. وأردف أسامة خلفه. ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزِّمام. حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله. ويقول بيده اليمنى «أيها الناسٰ السكينة السكينة» كلما أَتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً. حتى تصعد. حتى أتى المزدلفة. فصلى بها المغرب والعشاء»
الحديث، وقول جابر في هذا الحديث: وقد شنق للقصواء الزمام، يعني أنه يكفها بزمامها عن شدة المشي، والمورك بفتح الميم وكسر الراء: هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدم واسطة الرحل، إذا مل من الركوب. وضبطه القاضي عياض بفتح الراء قال: وهو قطعة أدم يتورك عليها الراكب، تجعل في مقدمة الرحل، شبه المخدة الصغيرة، وقوله: ويقول بيده السكينة السكينة: أي يأمرهم بالسكينة مشيراً بيده، والسكينة: الرفق والطمأنينة، وقول جابر في هذا الحديث: كلما أتى حبلاً من الحبال: هو بالحاء المهملة، والباء الموحدة، والمراد بالحبل في حديثه: الرمل المستطيل المرتفع، ومنه قول ذي الرمة: ويوماً بذي الأرطى إلى جنب مشرف بوعسائه حيث اسبطرت حبالها

وقول عمر بن أبي ربيعة: يا ليتني قد أجزت الحبل نحوكم حبل المعرف أو جاوزت ذا عشر

وحديث جابر هذا الدال على الرفق، وعدم الإسراع، وما جاء في معناه من الأحاديث يفسره حديث أسامة الثابت في الصحيحين «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق فإذا وجد فجوة نص» والعنق بفتحتين: ضرب من السير دون النص، ومنه قول الراجز: يا ناق سيري عنقاً فسيحا إلى سليمانَ فنستريحا

والندص: أعلى غاية الإسراع، ومنه قول كثير: حلفت برب الراقصات إلى منًى يجوب الفيافي نصها وذميلها

والفجوة تقدم تفسيرها بشواهده العربية في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ}.
وإذا علمت وقت إفاضته صلى الله عليه وسلم من عرفات إلى المزدلفة، وكيفية إفاضته، فاعلم «أنه صلى الله عليه وسلم نزل في الطريق، فبال، وتوضأ وضوءاً خفيفاً، وأخبرهم بأن الصلاة أمامهم. ثم أتى المزدلفة، فأسبغ وضوءه، وصلى المغرب والعشاء بأذان واحد، وإقامتين، ولم يصل بينهما شيئاً ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، وصلى الفجر، حين تبين له الصبح بأذان، وإقامة، ثم ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلله فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس» ومن فعل كفعله صلى الله عليه وسلم فقد أصاب السنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم «لتأخذوا عني مناسككم» وأما من خالف في ذلك، فلم يبت بالمزدلفة، فقد اختلف العلماء في حكمه إلى ثلاثة مذاهب:
الأول: أن المبيت بمزدلفة واجب يجبر بدم.
الثاني: أنه ركن لا يتم الحج بدونه.
الثالث: أنه سنة وليس بواجب، والقول: بأنه واجب يجبر بدم: هو قول أكثر أهل العلم منهم: مالك، وأحمد، وأبو حنيفة، والشافعي في المشهور عنه، وعطاء، والزهري، وقتادة، والثوري، وإسحاق، وأبو ثور.
قال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن المشهور من مذهبنا: أنه ليس بركن، فلو تركه صح حجه. قال القاضي أبو الطيب، وأصحابنا: وبهذا قال جماهير العلماء من السلف والخلف. انتهى منه.
وممن قال: بأنه ركن لا يصح الحج إلا به خمسة من أئمة التابعين، وبعض الشافعية، وأما الخمسة المذكورون: فهم علقمة، والأسود، والشعبي، والنخعي، والحسن البصري، وممن قال به من الشافعية: أبو عبد الرحمن بن بنت الشافعي، وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب، ونقله القرطبي أيضاً عن عكرمة، والأوزاعي وحماد بن أبي سليمان، قال: وروي عن ابن الزبير. وقال ابن القيم في زاد المعاد: وهو مذهب اثنين من الصحابة: ابن عباس، وابن الزبير، وإليه ذهب إبراهيم النخعي، والشعبي، وعلقمة والحسن البصري، وهو مذهب الأوزاعي وحماد بن أبي سليمان، وداود بن علي الظاهري، وأبي عبيد القاسم بن سلام. واختاره المحمدان ابن جرير وابن خزيمة، وهو أحد الوجوه للشافعية، وهؤلاء القائلون بأن المبيت بمزدلفة: ركن من أركان الحج يقولون: إن فاته المبيت بها تحلل من إحرامه بعمرة، ثم حج من قابل.
وممن قال بأن المبيت بمزدلفة سنة لا يجب يتركه دم: بعض الشافعية، وذكر النووي أن هذا القول مشهور أيضاً، لكن الأول أصح منه، وعن عطاء، والأوزاعي: أنها منزل من شاء نزل به، ومن شاء لم ينزل به، وروى نحوه الطبري بسند فيه ضعف، عن ابن عمر مرفوعاً، قاله الحافظ في الفتح.
فإذا علمت أقوال أهل العلم في حكم المبيت بمزدلفة، فهذه تفاصيل أدلتهم، أما الذين قالوا: بأنه واجب، وليس بركن: فقد استدلوا على أنه ليس بركن بحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه، وقد قدمنا ألفاظ رواياته، وأنه صحيح، وقد بين النَّبي صلى الله عليه وسلم فيه «أن من أدرك عرفة ولو في آخر جزء من ليلة النحر قبل الصبح أنه تم حجه وقضى تفثه» ومعلوم أن هذا الواقف بعرفة في آخر جزء من ليلة النحر، قد فاته المبيت بمزدلفة قطعاً بلا شك، ومع ذلك فقد صرح النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور بأن حجه تام.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الظاهر أن الاستدلال بهذا الحديث على هذا الحكم صحيح، ودلالته عليه هي المعروفة عند أهل الأصول بدلالة الإشارة، ومعلوم في الأصول أن دلالة الإشارة، ودلالة الاقتضاء، ودلالة الإيماء والتنبيه كلها من دلالة الالتزام، ومعلوم أن هذه الأنواع من دلالة الالتزام اختلف فيها هل هي من قبيل المنطوق غير الصريح، أو من قبيل المفهوم؟ وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله:
وفي كلام الوحي والمنطوق هل ما ليس بالصريح فيه قد دخل
وهو دلالة اقتضاء أن يدل لفظ ما دونه لا يستقل
دلالة اللزوم مثل ذات إشارة كذلك الايما آتي.
إلخ
وقصدنا هنا إيضاح دلالة الإشارة دون غيرها، وضابط دلالة الإشارة هي: أن يساق النص لمعنى مقصود: فيلزم ذلك المعنى المقصود أمر آخر غير مقصود باللفظ لزوماً لا ينفك، كما أشار له في المراقي بقوله: فأول إشارة اللفظ لما لم يكن القصد له قد علما

فإذا علمت ذلك، فاعلم أنه صلى الله عليه وسلم، لم يذكر حديث عبد الرحمن بن يعمر المذكور لقصد بيان حكم المبيت بمزدلفة، ولكنه ذكره قاصداً بيان أن من أدرك الوقوف بعرفة في آخر جزء من ليلة النحر أن حجه تام، وهذا المعنى المقصود يلزمه حكم آخر غير مقصود باللفظ وهو عدم ركنية المبيت بمزدلفة، لأنه إذا لم يدرك عرفة إلا في الجزء الأخير من الليل، فقد فاته المبيت بمزدلفة قطعاً، ومع ذلك فقد صرح صلى الله عليه وسلم بأن حجه تام.
ومن أمثلة دلالة الإشارة في القرآن قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ} فإنه يدل بدلالة الإشارة المذكورة، على صحة صوم من أصبح جنباً، لأن الآية الكريمة سيقت لبيان جواز الجماع في ليلة الصيام، وذلك صادق بآخر جزء منها، بحيث لا يبقى بعده من الليل، قدر ما يسع الاغتسال، فيلزم من جواز الجماع في آخر جزء من الليل، الذي دلت عليه الآية أنه لا بد أن يصبح جنباً، ولفظ الآية: لم يقصد به صحة صوم من أصبح جنباً، ولكن المعنى الذي قصد به يلزمه ذلك كما بينا.
ومن أمثلتها أيضاً في القرآن قوله تعالى {وَحَمْلُهُ وَفِصَـٰلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْر} مع قوله: {وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ} فإن الآيتين لم يقصد بلفظهما بيان قدر أقل أمد الحمل، ولكن المعنى الذي قصد بهما يلزمه أن أقل أمد الحمل ستة أشهر، لأنه جمع الحمل والفصال في ثلاثين شهراً، ثم بين أن الفصال في عامين، فيطرح من الثلاثين شهراً أربعة وعشرون التي هي عاما الفصال، فيبقى ستة أشهر، فدلت الآيتان دلالة الإشارة على أن أقل أمد الحمل ستة أشهر، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم كما أوضحناه في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى: {ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلاٌّرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}.
ومراد الأصوليين أن المدلول عليه بالإشارة لم يقصد باللفظ، أن اللفظ لا يتناوله بحسب الوضع اللغوي، مع علمهم بأن علم الله محيط بكل شيء، سواء دل عليه اللفظ المذكور بمنطوقه أو لم يدل عليه، وحجتهم في أنه واجب يجبر بدم أنه نسك، وفي أثر ابن عباس: من ترك نسكاً فعليه دم، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
وأما حجة من قال: إنه ركن فهي من كتاب وسنة.
أما الكتاب، فقوله تعالى: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ} قالوا: فهذا الأمر القرآني الصريح، يدل على أنه لا بد من ذكر الله عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفة.
وأَما السنة، فمنها حديث عروة بن مضرس، الذي سقناه سابقاً، فإن فيه «من أدرك معنا هذه الصلاة، وكان قد أتى عرفات، قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه» قالوا: فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مضرس هذا «من أدرك معنا هذه الصلاة» الحديث. يفهم منه أن من لم يدركها معهم لم يتم حجه، ولم يقض تفثه، والمراد بها صلاة الصبح بمزدلفة كما هو واضح، قالوا: وفي رواية عند النسائي، عن عروة بن مضرس: من أدرك جمعاً مع الإمام، والناس حتى يُقِيضَ منها، فقد أدرك الحج، ومن لم يدرك مع الناس الإمام فلم يدرك، قالوا: ولأبي يعلى ومن لم يدرك جمعاً، فلا حج له. وأجاب الجمهور القائلون: بأن المبيت بمزدلفة، ليس بركن، عن أدلة هؤلاء القائلين: إنه ركن لا يتم الحج إلا به.
قالوا: أما الآية التي استدلوا بها على وجوب الوقوف بمزدلفة التي هي قوله تعالى: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ}، فإنها لم تتعرض للوقوف بمزدلفة أصلاً، وإنما أمر فيها بذكر الله عند المشعر الحرام.
قالوا: وقد أجمعوا كلهم على أن من وقف بمزدلفة، ولم يذكر الله أن حجه تام، فإذا كان الذكر المذكور في الكتاب ليس من صلب الحج بإجماعهم فالموطن الذي يكون الذكر فيه أحرى أن لا يكون فرضاً، وأجابوا عن استدلالهم بمفهوم الشرط في حديث عروة بن مضرس المذكور «من أدرك معنا هذه الصلاة» الحديث. بأنهم أجمعوا كلهم، على أنه لو بات بمزدلفة ووقت قبل ذلك بعرفة، ونام عن صلاة الصبح، فلم يصلها مع الإمام، حتى فاتته أنه حجه تام، وقد قدمنا دلالة حديث عبد الرحمن بن يعمر على ذلك.
وأجابوا عن رواية النسائي التي أشرنا إليها التي قال فيها: أخبرنا محمد بن قدامة، قال: حدثني جرير، عن مُطّرف، عن الشعبي، عن عروة بن مضرس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أدرك جمعاً مع الإمام والناس حتى يُفِيضَ منها فقد أدرك، ومن لم يدرك مع الناس والإمام فلم يدرك» ا هـ بأن هذه الزيادة في هذه الرواية، لم تثبت.
قال ابن حجر في فتح الباري في بيان تضعيف الزيادة المذكورة: وقد صنَّف أبو جعفر العقيلي جزءاً في إنكار هذه الزيادة، وبين أنها من رواية مطرق عن الشعبي، عن عروة، وأن مطرفاً كان يهم في المتون، قال: وقد ارتكب ابن حزم الشطط فزعم: أن من لم يصل صلاة الصبح بمزدلفة مع الإمام: أن الحج بقوته، ولم يعتبر ابن قدامة مخالفته هذه، فحكى الإجماع على الإجزاء كما حكاه الطحاوي. انتهى كلام ابن حجر مع حذف يسير.
وأجابوا عن الرواية المذكورة عند أبي يعلى، وغيره: بأنها ضعيفة.
قال النووي في شرح المهذب في كلامه على قول القائلين: بأنه ركن، واحتج لهم بالحديث المروي، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من فاته المبيت بمزدلفة فقد فاته الحج» ثم قال: وأما الحديث فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنه ليس بثابت ولا معروف.
والثاني: أنه لو صح لحمل على فوات كمال الحج لا فوات أصله. انتهى منه.
وما ذكرنا عن ابن حجر من تضعيف الزيادة المذكورة يعني به ما عند النسائي، وأبي يعلى منها في حديث عروة المذكور.
ومن أدلتهم على أن المبيت بمزدلفة ركن: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل، وقال: «لتأخذوا عني مناسككم» وأجاب الجمهور عن هذا: بأنهم لم يخالفوا في أنه نسك، ينبغي أن يؤخذ عنه صلى الله عليه وسلم، ولكن صحة الحج بدونه علمت بدليل آخر: وهو حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي المذكور سابقاً، الدال على عدم اشتراط المبيت بمزدلفة، كما أوضحنا وجه دلالته على ذلك، والعلم عند الله تعالى.
وأما حجة من قال: إن المبيت بمزدلفة: سنة، وليس بركن، ولا واجب هي: أنه مبيت، فكان سنة كالمبيت بمنى ليلة عرفة.أعني: الليلة التاسعة، التي صبيحتها يوم عرفة، هذا هو حاصل أقوال أهل العلم، وأدلتهم في المبيت بمزدلفة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد قدمنا أن الاستدلال بحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه، على عدم ركنية المبيت بمزدلفة صحيح، وأن دلالته على ذلك دلالة إشارة كما هو معروف في الأصول، ولا شك أنه ينبغي للحاج أن يحرص على أن يفعل كفعل النَّبي صلى الله عليه وسلم فيبيت بمزدلفة كما قدمنا إيضاحه، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: قد قدمنا أن المزدلفة كلها موقف، فحيث وقف منها أجزأه، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وقد قدمناه من حديث جابر عند مسلم.
الفرع الثاني: اعلم أنه ينبغي التعجيل بصلاة الصبح يوم النحر بمزدلفة في أول وقتها، كما فعل صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن ما رواه البخاري، ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلى صلاة إلا بميقاتها إلا صلاتين: صلاة المغرب والعشاء بجمع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها. ليس المراد به أنه صلى الصبح قبل طلوع الفجر، لأن ذلك ممنوع إجماعاً، ولكن مراده به أنه صلاها قبل ميقاتها المعتاد الذي كان يصليها فيه، ولكن بعد تحقق طلوع الفجر.
ومما يدل على هذا ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود نفسه رضي الله عنه حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول: حج عبد الله رضي الله عنه، فأتينا المزدلفة. الحديث وفيه: فلما طلع الفجر قال: إن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم. قال عبد الله: هما صلاتان يُحَوَّلان عن وَقتِهِما، صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس المزدلفة، والفجر حين يبزُغُ الفجر، قال رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم يفعله انتهى من صحيح البخاري.
فقول ابن مسعود في هذا الحديث الصحيح: فلما طلع الفجر وقوله: والفجر حين يبزغ الفجر وإتباعه ذلك بقوله رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم يفعله، صريح فيما ذكرنا من أن مراده بقوله: قبل ميقاتها يعني به: وقتها الذي يصليها فيه عادة، وليس مراده أنه صلاها قبل طلوع الفجر كما ترى.
الفرع الثالث: اعلم أن العلماء اختلفوا في القدر الذي يكفي في النزول بالمزدلفة، فذهب مالك، وأصحابه، إلى أن النزول بمزدلفة بقدر ما يصلي المغرب والعشاء، ويتعشى يكفيه في نزول مزدلفة ولو أفاض منها قبل نصف الليل، وبعضهم يقول: لا بد في ذلك من حط الرحال، وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه إن دفع منها بعد نصف الليل أجزأه، وإن دفع منها قبل نصف الليل لزمه دم. وذهب أبو حنيفة إلى أنه دفع منها قبل الفجر لزمه دم، لأن وقت الوقوف عنده بعد الصلاة الصبح، ومن حضر المزدلفة في ذلك الوقت فقد أتى بالوقوف، ومن تركه ودفع ليلاً فعليه دم إلا إن كان لعذر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر عندي في هذه المسألة: هو أنه ينبغي أن يبيت إلى الصبح، لأنه لا دليل مقنعاً يجب الرجوع إليه مع، من حدد بالنصف الأخير، ولا مع من اكتفى بالنزول، وقياسهم الأقوياء على الضعفاء قائلين: إنه لو كان الدفع بعد النصف ممنوعاً، لما رخص فيه صلى الله عليه وسلم لضعفة أهله، لأنه لا يرخص لأحد في حرام، قياس مع وجود الفارق، ولا يخفى ما في قياس القوي على الضعيف الذي رخص له لأجل ضعفه كما ترى، ولا خلاف بين العلماء أن السنة أنه يبقى بجمع حتى يطلع الفجر كما تقدم ومن المعلوم أن جمعاً والمزدلفة والمشعر الحرام، أسماء مترادفة، يراد بها شيء واحد خلافاً لمن خصص المشعر الحرام بقزح دون باقي المزدلفة.
الفرع الرابع: اعلم أنه لا بأس بتقديم الضعفة إلى منى قبل طلوع الفجر. قال ابن قدامة في المغني: ولا نعلم فيه مخالفاً اهـ ومن المعلوم أن ذلك ثابت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه:
باب من قَدَّم ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون، ويقدم إذا غاب القمر: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال سالم: وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يُقَدِّم ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل فيذكرون الله عز وجل، ما بدا لهم، ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام، وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم مِنًى لصلاة الفجر، ومنهم من يَقْدَمُ بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: أرْخَصَ في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع بليل.
حدثنا عَليٌّ، حدثنا سفيان قال: أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أنا ممن قدم النَّبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله. حدثنا مسدد عن يحيى عن ابن جريج، قال: حدثني عبد الله مولى أسماء، عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تُصَلِّي، فصلت ساعة، ثم قالت: يا بُنَيَّ هل غاب القمر؟ قلت: لا فصلت ساعة ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم قالت: فارتحلوا، فارتحلنا، ومضينا حتى رَمَتِ الجمرةَ، فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هَنْتَاهْ: ما أُرَانا إلاَّ قد غسلنا، قالت: يا بُنَيَّ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَذِنَ للِظُّعُنِ.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان، حدثنا عبد الرحمن هو ابن القاسم عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت سَوْدَة النَّبي صلى الله عليه وسلم ليلة جَمْعٍ، وكان ثقيلة ثبطة، فأَذن لها.
حدثنا أبو نعيم، حدثنا أَفْلَحُ بن حميد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: نزلنا المزدلفة، فاستأذنت النَّبي صلى الله عليه وسلم سودة أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأَذن لها فدَفَعَتْ قبل حَطْمَة الناس، وأقمنا حتى أصبحنا نحن. ثم دفعنا بِدَفْعِهِ فَلاَنْ أكون استَأذَنْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سَوْدَةُ أحب إلي من مَقْروحٍ به انتهى من صحيح البخاري.
وهذه الأحاديث التي رواها البخاري عن ابن عمر، وابن عباس، وأسماء وعائشة رضي الله عنهم رواها كلها مسلم في صحيحه أيضاً، مع بعض اختلاف في الألفاظ والمعنى.
وروى مسلم في صحيحه: عن أم حبيبة رضي الله عنها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل، وفي لفظ لها عند مسلم: كنا نفعله على عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم نغلس من جمع إلى منى، وفي رواية الناقد: نغلس من مزدلفة اهـ وهذه النصوص الصحيحة تدل على جواز تقديم الضعفة والنساء من المزدلفة ليلاً كما ترى.
الفرع الخامس: اعلم أن العلماء اختلفوا في الوقت الذي يجوز فيه رمي جمرة العقبة من الضعفة وغيرهم، مع إجماعهم على أن من رماها بعد طلوع الشمس أجزأه ذلك، فذهبت جماعة من أهل العلم، إلى أن أول الوقت الذي يجزىء فيه رمي جمرة العقبة هو ابتداء النصف الأخير من ليلة النحر، وممن قال بهذا: الشافعي، وأحمد، وعطاء، وابن أبي ليلى، وعكرمة بن خالد كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني، وقال النووي في شرح المهذب: وبه قال عطاء، وأحمد، وهو مذهب أسماء بنت أبي بكر، وابن أبي مليكة وعكرمة بن خالد، وذهبت جماعة من أهل العلم: إلى أن أول وقته يبتدىء من بعد طلوع الشمس، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وذهب بعض أهل العلم إلى أن أول وقته للضعف من طلوع الفجر ولغيرهم من بعد طلوع الشمس، وهواختيار ابن القيم، وإذا علمت أقوال أهل العلم في المسألة، فهذه تفاصيل أدلتهم.
أما الذين قالوا: إن رمي جمرة العقبة يجوز في النصف الأخير من ليلة النحر فقد استدلوا بما رواه أبو داود في سننه: حدثنا هارون بن عبد الله ثنا ابن أبي فُدْيك، عن الضحاك يعني ابن عثمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: أرسل النَّبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت، فأفاضت وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عندها انتهى منه.
قال النووي في شرح المهذب: في هذا الحديث وأما حديث عائشة في إرسال أم سلمة فصحيح. رواه أبو داود بلفظه بإسناد صحيح على شرط مسلم وقال الزيلعي في نصب الراية، بعد أن ساق حديث أبي داود: هذا عن عائشة ورواه البيهقي في سننه وقال: إسناده صحيح لا غبار عليه وما ذكره الزيلعي من أنه قال: إسناده صحيح لا غبار عليه لم أره في سننه الكبرى، وقد ذكر الحديث فيها بدون التصحيح المذكور.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ما ذكره النووي من كون إسناد أبي داود المذكور صحيحاً، على شرط مسلم صحيح، لأن طبقته الأولى هارون الحمال وهو ثقة من رجال مسلم، وطبقته الثانية محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك، وهو صدوق. أخرج له الشيخان وغيرهما وطبقته الثالثة الضحاك بن عثمان الحزامي الكبير، وهو صدوق يهم، وهو من رجال مسلم، وباقي الإسناد هشام عن عروة بن الزبير عن عائشة وصحته ظاهرة، فالاحتجاج بهذا الإسناد ظاهر، لأن جميع رجاله من رجال مسلم، وبعض رجاله أخرج له الجميع فظاهره الصحة مع أن بعض أهل العلم ضعفه قائلاً: إنه مضطرب متناً وسنداً، وممن ذكر أنه ضعفه الإمام أحمد وغيره، ولا يخفى أن رواية أبي داود المذكورة ظاهرها الصحة.
وتعتضد بما رواه الخلال: أنبأنا علي بن حرب، حدثنا هرون بن عمران، عن سليمان بن أبي داود، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: أخبرتني أم سلمة قالت: قَدَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قدَّم من أهله ليلة المزدلفة، قالت: فرميتُ بليل، ثم مضيت إلى مكة، فصليت بها الصبح، ثم رجعت إلى منى انتهى منه بواسطة نقل ابن القيم في زاد المعاد ولا شك أن هذه الرواية عن أم سلمة تقوي الرواية الأولى عن عائشة. ولما ساق ابن القيم هذه الرواية التي ذكرها الخلال قال: قلت: سليمان بن أبي داود هذا، هو الدمشقي الخولاني ويقال: ابن داود قال أبو زرعة: عن أحمد رجل من أهل الجزيرة ليس بشيء، وقال عثمان بن سعيد: ضعيف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: رواية سليمان بن داود المذكورة، لا تقل عن أن تعضد الرواية المذكورة قبلها، وسليمان المذكور وثقه، وأثنى عليه غير واحد، قال فيه ابن حبان: سليمان بن داود الخولاني من أهل دمشق ثقة مأمون، وقال البيهقي: وقد أثنى على سليمان بن داود أبو زرعة، وأبو حاتم وعثمان بن سعيد، وجماعة من الحفاظ انتهى بواسطة نقل ابن حجر في تهذيب التهذيب.
وقال ابن حجر فيه أيضاً: قلت: أما سليمان بن داود الخولاني، فلا ريب في أنه صدوق، وقال فيه في التقريب: سليمان بن داود الخولاني أبو داود الدمشقي: سكن داريا صدوق من السابعة، وبذلك كله يعلم أن روايته لا تقل عن أن تكون عاضداً لغيرها.
هذا هو حاصل حجة من أجاز رمي الجمرة قبل الصبح.
وأما حجة من قال: لا يجوز رميها، إلا بعد طلوع الشمس، فمنها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم رماها وقت الضحى. وقال: «خذوا عني مناسككم».
ومنها ما رواه أصحاب السنن وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم: بعث بضعفة أهله، فأمرهم أن لا يرموا الجمرة، حتى تطلع الشمس». وفي لفظ عن ابن عباس، قال: «قدَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» قال أبو داود: اللطح الضرب اللين، وهذا الحديث صحيح، وقال الترمذي رحمه الله في هذا الحديث: قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم، وقال النووي في شرح المهذب في حديث ابن عباس المذكور، أما حديث ابن عباس، فصحيح رواه أبو داود والترمذي، والنسائي، وغيرهم بأسانيد صحيحة، قال الترمذي: حديث حسن صحيح انتهى كلام النووي.
وقال ابن القيم في زاد المعاد في حديث ابن عباس المذكور: حديث صحيح صححه الترمذي وغيره.
وأما حجة من قال: بجواز رمي جمرة العقبة للضعفة بعد الصبح قبل طلوع الشمس دون غيرهم، وأن غيرهم لا يجوز له رميها إلا بعد طلوع الشمس، فمنها حديث أسماء المتفق عليه الذي قدمناه.
قال فيه: قالت: يا بُنَيَّ: هل غاب القمر؟ قلت: نعم، قالت: فارتحلوا، فارتحلنا، ومضينا، حتى رمت الجمرة، ثم رجعت، فصلت الصبح في منزلها فقلت لها: يا هنتاه: ما أرانا إلا قد غلسنا قالت: يا بني: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن» اهـ. فهذا الحديث المتفق عليه صريح أن أسماء رمت الجمرة قبل طلوع الشمس، بل بغلس، وهو بقية الظلام، ومنه قول الأخطل. كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا

وصرحت بأنه صلى الله عليه وسلم: أذن في ذلك للظعن، ومفهومه أنه لم يأذن للأقوياء الذكور كما ترى.
ومنها حديث ابن عمر المتفق عليه الذي قدمناه أيضاً، فإن فيه: أنه كان يقدم ضعفة أهله، وأن منهم من يقدم مِنًى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحديث ابن عمر هذا المتفق عليه، يدل دلالة واضحة، على الترخيص للضعفة في رمي جمرة العقبة بعد الصبح، قبل طلوع الشمس كما ترى، ومفهومه أنه لم يرخص لغيرهم في ذلك. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: إن الذي يقتضي الدليل رجحانه في هذه المسألة: أن الذكور الأقوياء لا يجوز لهم رمي جمرة العقبة، إلا بعد طلوع الشمس، وأن الضعفة والنساء لا ينبغي التوقف في جواز رميهم بعد الصبح، قبل طلوع الشمس، لحديث أسماء، وابن عمر المتفق عليهما الصريحين في الترخيص لهم في ذلك، وأما رميهم أعني الضعفة والنساء، قبل طلوع الفجر، فهو محل نظر، فحديث عائشة عند أبي داود يقتضي جوازه، وحديث ابن عباس عند أصحاب السنن: يقتضي منعه.
والقاعدة المقررة في الأصول: هي أن يجمع بين النصين إن أمكن الجمع وإلا فالترجيح بينهما، وقد جمعت بينهما جماعة من أهل العلم، فجعلوا لرمي جمرة العقبة وقتين: وقت فضيلة، ووقت جواز، وحملوا حديث ابن عباس: على وقت الفضيلة، وحديث عائشة: على وقت الجواز، وله وجه من النظر. والعلم عند الله تعالى.
أما الذكور الأقوياء فلم يرد في الكتاب ولا السنة دليل يدل على جواز رميهم جمرة العقبة، قبل طلوع الشمس، لأن جميع الأحاديث الواردة في الترخيص في ذلك كلها في الضعفة، وليس شيء منها في الأقوياء الذكور، وقد قدمنا أن قياس القوي على الضعيف الذي رخص له من أجل ضعفه قياس مع وجود الفارق، وهو مردود كما هو مقرر في الأصول وإليه أشار في مراقي السعود بقوله:
والفرق بين الأصل والفرع قدح إبداء مختص بالأصل قد صلح
أو مانع في الفرع.
إلخ
ومحل الشاهد منه قوله: إبداء مختص بالأصل قد صلح، لأن معترض قياس القوي على الضعيف في هذه المسألة يبدي وصفاً مختصاً بالأصل، دون الفرع صالحاً للتعليل، وهو الضعف، لأن الضعف الموجود في الأصل، المقيس عليه، الذي هو علة الترخيص المذكور، ليس موجوداً في الفرع المقيس الذي هو الذكر القوي كما ترى والعلم عند الله تعالى.
الفرع السادس: اعلم أن وقت رمي جمرة العقبة يمتد إلى آخر نهار يوم النحر، فمن رماها قبل الغروب من يوم النحر فقد رماها في وقت لها.
قال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن من رماها يوم النحر، قبل المغيب فقد رماها في وقت لها وإن لم يكن مستحباً لها انتهى منه بواسطة نقل ابن قدامة في المغني فإن فات يوم النحر، ولم يرمها فقال بعض أهل العلم: يرميها ليلاً والذين قالوا: يرميها ليلاً: منهم من قال: رميها ليلاً أداء لا قضاء، وهو أحد وجهين مشهورين للشافعية حكاهما صاحب التقريب، والشيخ أبو محمد الجويني، وولده إمام الحرمين، وآخرون.
قال النووي: وروى مالك في الموطإ عن أبي بكر بن نافع مولى ابن عمر، عن أبيه نافع: أن ابنة أخ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة، فتخلفت هي وصفية، حتى أَتَتا من بعد أن غربت الشمس من يوم النحر، فأمرهما عبد الله بن عمر: أن ترميا، ولم ير عليهما شيئاً انتهى منه وهو دليل على أن ابن عمر يرى أن رميها في الليل أداء، لمن كان له عذر كصفية وابنة أخيها. وممن قال يرميها ليلاً: مالك وأصحابه، لأن مذهبه قضاء الرمي الفائت في الليل وغيره.
وفي الموطإ قال يحيى: سُئِلَ مالك عمن نسي جمرة من الجمار في بعض أيام منى حتى يُمْسي؟ قال: لِيَرْمِ أية ساعة ذكَرَ من ليل أو نهار، كما يُصلي الصلاة، إذا نسيها، ثم ذكرها ليلاً أو نهاراً، فإن كان ذلك بعد ما صَدَرَ، وهو بمكة، أو بعد ما يَخْرجُ منها فعليه الهَدْيُ انتهى من الموطإ.
وقال الشيخ المواق في شرحه: لمختصر خليل بن إسحاق المالكي في الكلام على قوله: والليل قضاء، قال ابن شاس. للرمي وقت أداء، ووقت قضاء، ووقت فوات، فوقت الأداء: في يوم النحر من طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال: وتردد الباجي في الليلة التي تلي يوم النحر هل هي وقت أداء، أو وقت قضاء؟ ووقت الأداء في كل يوم من الأيام الثلاثة، من بعد الزوال، إلى مغيب الشمس، وبتردد في الليل كما تقدم انتهى منه.
وقال الشيخ شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي: ولو أخر الرمي إلى الليل رماها، ولا شيء عليه، لأن الليل تبع لليوم في مثل هذا، كما في الوقوف بعرفة، فإن أخره إلى الغد رماه وعليه دم انتهى كرماني انتهى منه.
وقال بعض أهل العلم: إن غربت الشمس من يوم النحر، وهو لم يرم جمرة العقبة، لم يرمها في الليل، ولكن يؤخر رميها، حتى تزول الشمس من الغد، قال ابن قدامة في المغني: فإن أخرها إلى الليل، لم يرمها، حتى تزول الشمس من الغد وبهذا قال أبو حنيفة، وإسحاق، وقال الشافعي ومحمد بن المنذر ويعقوب: يرميها ليلاً لقول النَّبي صلى الله عليه وسلم «ارم ولا حرج» انتهى من المغني.
فإذا عرفت أقوال أهل العلم في الرمي ليلاً هل يجوز أولاً؟ وعلى جوازه هل هو أداء أو قضاء؟
فاعلم أن من قال بجواز الرمي ليلاً، استدل بما ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: من أنه لا حرج على من رمى بعد ما أمسى، قال البخاري في صحيحه: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا يزيد بن زُرَيعٍ، حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يُسأل يوم النحر بمنى فيقول «لا حرج، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟
قال: اذبح ولا حرج، وقال: رميت بعد ما أمسيت؟ فقال: لا حرج» قالوا: قد صرح النَّبي صلى الله عليه وسلم بأن من رمى بعد ما أمسى لا حرج عليه، واسم المساء يصدق بجزء من الليل.
واعلم أن من قالوا: لا يجوز الرمي ليلاً ردوا الاستدلال بهذا الحديث قائلين: إن مراد السائل بقوله بعد ما أمسيت يعني به بعد زوال الشمس في آخر النهار قبل الليل قالوا: والدليل الواضح على ذلك: أن حديث ابن عباس المذكور فيه: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم، يسأل يوم النحر بمنى الحديث، فتصريحه بقوله يوم النحر، يدل على أن السؤال وقع في النهار والرمي بعد الإمساء، وقع في النهار، لأن المساء يطلق لعة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل.
قال ابن حجر في فتح الباري في شرح الحديث المذكور: قال: رميت بعد ما أمسيت: أي بعد دخول المساء وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتد الظلام، فلم يتعين لكون الرمي المذكور كان بالليل انتهى منه.
وقال ابن منظور في: لسان العرب المساء بعد الظهر إلى صلاة المغرب، وقال بعضهم: إلى نصف الليل ا هـ.
قالوا: فالحديث صريح في أن المراد بالإمساء فيه آخر النهار، بعد الزوال لا الليل، وإذا فلا حجة فيه للرمي ليلاً، وأجاب القائلون: بجواز الرمي ليلاً عن هذا بأجوبة:
الأول منها: أن قول النَّبي صلى الله عليه وسلم «لا حرج» بعد قول السائل: رميت بعد ما أمسيت يشمل لفظه نفي الحرج، عمن رمى بعد ما أمسى وخصوص سببه بالنهار لا عبرة به لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ولفظ المساء عام لجزء من النهار وجزء من الليل، وسبب ورود الحديث المذكور خاص بالنهار، وقد قدمنا الأدلة الصحيحة على أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك.
الجواب الثاني: أنه ثبت في بعض روايات حديث ابن عباس المذكور، ما هو أعم من يوم النحر، وهو صادق قطعاً، بحسب الوضع اللغوي ببعض أيام التشريق، ومعلوم أن الرمي فيها لا يكون إلا بعد الزوال فقول السائل في بعض أيام التشريق: رميت بعد ما أمسيت لا ينصرف إلا إلى الليل، لأن الرمي فيها بعد الزوال معلوم فلا يسأل عنه صحابي.
قال أبو عبد الرحمٰن النسائي في سننه أخبرنا محمد بن عبد الله بن بَزِيعٍ، قال: حدثنا يزيد، هو ابن زُرَيعٍ قال: حدثنا خالد عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أيامَ منىً فيقول «لا حرج» فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح قال: «لا حرج» فقال رجل: رميت بعد ما أمسيت قال: «لا حرج» انتهى منه، وهذا الحديث صحيح الإسناد كما ترى، لأن طبقته الأولى، محمد بن عبد الله بن بزيع، وهو ثقة معروف، وهو من رجال مسلم في صحيحه، وبقية إسناده هي بعينها إسناد البخاري الذي ذكرناه آنفاً، وقوله في هذا الحديث الصحيح: أيام منى بصيغة الجمع صادق بأكثر من يوم واحد، فهو صادق بحسب وضع اللغة ببعض أيام التشريق، والسؤال عن الرمي بعد المساء فيها لا ينصرف إلا إلى الليل كما بينا.
فإن قيل: صيغة الجمع في رواية النسائي تخصص بيوم النحر الوارد في رواية البخاري فيحمل ذلك الجمع على المفرد نظراً لتخصيصه به، ويؤيد ذلك: أن في رواية أبي داود وابن ماجه لحديث ابن عباس المذكور، يوم منى بالإفراد.
فالجواب: أن المقرر في الأصول أن ذكر بعض أفراد العام، بحكم العام لا يخصصه على مذهب الجمهور، خلافاً لأبي ثور. سواء كان العام، وبعض أفراده المذكور بحكمه في نص واحد أو نصين.
فمثال كونهما في نص واحد قوله تعالى: {حَـٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وٱلصَّلَوٰةِ ٱلْوُسْطَىٰ} فلا يخصص عموم الأمر بالمحافظة على جميع الصلوات بالصلاة الوسطى بل المحافظة على جميعها واجبة.
ومثال كونهما في نصين: حديث ابن عباس العام في جلود الميتة «أيما إهاب دبغ فقد طهر» مع حديثه الآخر أنه تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به» الحديث، فذكر جلد الشاة في هذا الحديث الأخير لا يخصص عموم الجلود المذكورة «أيما إهاب دبغ» الحديث، فجواز الانتفاع عام في جلد الشاة، وفي غيرها من الأهب إلا ما أخرجه دليل خاص، لأن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله عاطفاً على ما لا يخصص به العموم. وذكر ما وافقه من مفرد ومذهب الراوي على المعتمد

وللمخالفين القائلين: لا يجوز الرمي ليلاً أن يردوا هذا الاستدلال فيقولوا رواية النسائي العامة في أيام منى فيها أنه كان يسأل فيها فيقول «لا حرج» وأنه سأله رجل فقال: رميت بعد ما أمسيت فقال «لا حرج» ولم يعين اليوم الذي قال فيه: رميت بعد ما أمسيت وعموم أيام منى صادق بيوم النحر وقد بينت رواية البخاري أن ذلك السؤال وقع في خصوص يوم النحر من أيام منى ولا ينافي ذلك أنه قال: لا حرج في أشياء أخر في بقية أيام منى، وغاية ذلك أن أيام منى عام ورواية البخاري عينت اليوم الذي قال فيه رميت بعد ما أمسيت.
الجواب الثالث: هو ما قدمنا في الموطإ عن ابن عمر من: أنه أمر زوجته صفية بنت أبي عبيد وابنة أخيها، برمي الجمرة بعد الغروب، ورأى أنهما لا شيء عليهما في ذلك، وذلك يدل على أنه علم من النَّبي صلى الله عليه وسلم أن الرمي ليلاً جائز، وقد يقال: إن صفية وابنة أخيها كان لهما عذر، لأن ابنة أخيها عذرها النفاس ليلة المزدلفة وهي عذرها معاوية ابنة أخيها، والعلم عند الله تعالى.
الفرع السابع: اعلم أنه لا بأس بلقط الحصيات من المزدلفة: أعني السبع التي ترمى بها جمرة العقبة يوم النحر، وبعض أهل العلم يقول: إن لقطها من المزدلفة مستحب، واستدلوا لذلك بأمرين:
الأول: حديث الفضل بن العباس رضي الله عنهما أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال له غداة يوم النحر «القط لي حصى» فلقطت له حصيات مثل حصى الخذف، قال النووي في شرح المهذب: وأما حديث الفضل بن عباس في لقط الحصيات، فصحيح رواه البيهقي بإسناد حسن أو صحيح وهو على شرط مسلم من رواية عبد الله بن عباس، عن أخيه الفضل بن عباس، ورواه النسائي وابن ماجه بإسنادين صحيحين إسناد النسائي، على شرط مسلم، لكنهما روياه من رواية ابن عباس مطلقاً، وظاهر روايتيهما أنه عبد الله بن عباس، لا الفضل وكذا ذكره الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في الأطراف في مسند عبد الله بن عباس، لا الفضل بن عباس، ولم يذكره في مسند الفضل والجميع صحيح كما ذكرناه، فيكون ابن عباس وصله في رواية البيهقي وأرسله في روايتي النسائي، وابن ماجه، وهو مرسل صحابي وهو حجة لو لم يعرف المرسل عنه فأولى بالاحتجاج، وقد عرف هنا أنه الفضل بن عباس.
فالحاصل: أن الحديث صحيح من رواية الفضل بن عباس والله أعلم، انتهى كلام النووي.
الأمر الثاني: أن السنة أنه إذا أتى منى لا يشتغل بشيء قبل الرمي، فاستحب أن يأخذ الحصى من منزلة بمزدلفة ليلاً يشتغل عن الرمي بلقطه إذا أتى منى، ولا شك أنه إن أخذ الحصى من غير المزدلفة أنه يجزئه لأن اسم الحصى يقع عليه، والله تعالى أعلم.
الفرع الثامن: اعلم أن السنة أن يكون الحصى الذي يرمي به مثل حصى الخذف، لأحاديث واردة بذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديث جابر الطويل في صحيح مسلم: فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف الحديث.
قال في اللسان: والخذف رميك بحصاة، أو نواة تأخذها بين سبابتيك، وقال الجوهري في صحاحه: الخذف بالحصى الرمي به بالأصابع ومنه قول الشاعر: «خذف أعسرا» ا هـ منه، والشاعر امرؤ القيس وتمام البيت: كأن الحصى من خلفها وأمامها إذا نجلته رجلها خذف أعسرا

الفرع التاسع: اعلم أن جمهور العلماء على أن رمي جمرة العقبة واجب يجبر بدم، وخالف عبد الملك بن الماجشون من أصحاب مالك الجمهور فقال: هو ركن واحتج الجمهور بالقياس على الرمي في أيام التشريق واحتج ابن الماجشون: بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم رماها، وقال «لتأخذوا عني مناسككم» كما في صحيح مسلم، وفي رواية البيهقي «خذوا عني مناسككم» وفي رواية أبي داود: «لتأخذوا مناسككم».
الفرع العاشر: أجمع العلماء على أنه لا يرمى من الجمرات يوم النحر إلا جمرة العقبة.
الفرع الحادي عشر: اعلم أن الأفضل في موقف من أراد رمي جمرة العقبة أن يقف في بطن الوادي، وتكون منى عن يمينه، ومكة عن يساره كما دلت الأحاديث الصحيحة، على أن النَّبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك.
قال النووي في شرح المهذب: وبهذا قال جمهور العلماء، منهم ابن مسعود، وجابر، والقاسم بن محمد، وسالم، وعطاء، ونافع، والثوري، ومالك وأحمد، قال ابن المنذر: وروينا أن عمر رضي الله عنه خاف الزخام فرماها من فوقها.
المسألة التاسعة: اعلم أنه إذا رمى الجمرة يوم النحر وحلق فقد تحلل التحلل الأول، وبه يحل كل شيء كان محظوراً بالإحرام إلا النساء. وعند مالك: إلا النساء والصيد والطيب، فإن طاف طواف الإفاضة وكان قد سعى بعد طواف القدوم، أو سعى بعد إفاضته فقد تحلل التحلل الثاني، وبه يحل كما شيء كان محظوراً بالإحرام، حتى النساء والصيد والطيب.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أنهم اختلفوا في الحلق، هل هو نسك كما قدمنا في سورة البقرة؟.
فمن قال: هو نسك قال: إن التحلل الأول، لا يكون إلا بعد الرمي والحلق معاً، ومن قال: إن الحلق غير نسك قال: يتحلل التحلل الأول بمجرد انتهائه من رمي جمرة العقبة يوم النحر.
وأظهر القولين عندي: أن الحلق نسك، كما قدمنا إيضاحه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ}.
الفرع الثاني: في مذاهب العلماء في مسألة التحلل: فمذهب مالك: أنه بمجرد رمي جمرة العقبة يوم النحر: يحل له كل شيء إلا النساء والصيد الطيب، والطيب مكروه عنده بعد رميها لا حرام، وإن طاف طواف الإفاضة. وكان قد سعى حل له كل شيء، ومذهب أبي حنيفة: أنه إذا حلق، أو قصر حل التحلل الأول، ويحل به كل شيء عنده إلا النساء، وإن طاف طواف الإفاضة. حل له النساء، وهم يقولون إن حل النساء بعد الطواف، إنما هو بالحلق السابق، لا بالطواف لأن الحلق هو المحلل، دون الطواف، غير أنه أخر عمله إلى ما بعد الطواف فإذا طاف عمل الحلق عمله كالطلاق الرجعي أخر عمله إلى انقضاء العدة لحاجته إلى الاسترداد، فإذا انقضت عمل الطلاق عمله فبانت.
والدليل على ذلك: أنه لو لم يحلق حتى طاف بالبيت لم يحل له شيء حتى يحلق، وبذلك تعلم أن المدار عندهم على الحلق، إلا أن الحلق عندهم بعد رمي جمرة العقبة، وبعد النحر إن كان الحاج يريد النحر، ومذهب الشافعي في هذه المسألة هو: أنه على القول بأن الحلق نسك، يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة هي: رمي جمرة العقبة، والحلق، وطواف الإفاضة، فإذا فعل اثنين من هذه الثلاثة تحلل التحلل الأول، وإن فعل الثالث منها تحلل التحلل الثاني، وبالأول يحل عنده كل شيء إلا النساء، وبالثاني تحل النساء، وعلى القول بأن الحلق ليس بنسك، فالتحلل الأول يحصل بواحد من اثنين: هما رمي جمرة العقبة، وطواف الإفاضة. ويحصل التحلل الثاني بفعل الثاني، ومذهب الإمام أحمد هو أنه إن رمى جمرة العقبة، ثم حلق تحلل التحلل الأول، وبه يحل عنده كل شيء إلا النساء، فإن طاف طواف الإفاضة، حلت له النساء.
وقال ابن قدامة في المغني بعد أن ذكره: أن هذا هو الصحيح من مذهب أحمد. وهذا قول ابن الزبير، وعائشة وعلقمة، وسالم، وطاوس، والنخعي، وعبد الله بن الحسين، وخارجة بن زيد، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، وروي أيضاً عن ابن عباس، وعن أحمد أنه يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج، لأنه أغلظ المحرمات، ويفسد النسك، بخلاف غيره. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يحل له كل شيء، إلا النساء، والطيب. وروي ذلك عن ابن عمر وعروة بن الزبير، وعباد بن عبد الله بن الزبير، لأنه من دواعي الوطء فأشبه القبلة، وعن عروة: أنه لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا يتطيب، وروي في ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم حديثاً انتهى كلام صاحب المغني.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في المسألة، فهذه تفاصيل أدلتهم.
أما حجة مالك في أن التحلل الأول يحل به ما سوى النساء والصيد والطيب: أما بالنسبة إلى الصيد، فلم أر له مستنداً من النقل، إلا أمرين:
أحدهما: أثر مروي عن مكحول عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا رميتم الجمرة، فقد حل لكم كل شيء إلا النساء والطيب والصيد: ذكر هذا الأثر صاحب المهذب، وقال النووي في شرحه: وأما الأثر المذكور عن عمر رضي الله عنه فهو مرسل. لأن مكحولاً لم يدرك عمر فحديثه عند منقطع ومرسل. والله أعلم.
والثاني: التمسك بظاهر قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} لأن حرمة الجماع المتفق عليها بعد رمي جمرة العقبة، دليل على بقاء إحرامه في الجملة، فيشمله عموم {لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}، لأنه لو زال حكم إحرامه بالكلية، لما حرم عليه الوطء.
وأما حجته أعني مالكاً بالنسبة إلى النساء والطيب، فهي ما روى في موطئه عن نافع، وعبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس بعرفة، وعلمهم أَمرَ الحج، وقال لهم فيما قال: إذا جئتم منًى، فمن رَمَى الجمرة، فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النِّساء والطيب لا يَمَسَّ أحد نساءً ولا طيباً حتى يطوف بالبيت ا هـ.
ومما يستدل به لمالك على ذلك، ما رواه الحاكم في المستدرك: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، ثنا إبراهيم بن عبد الله، أنبأ زيد بن هارون، أنبأ يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن الزبير قال: من سُنَّة الحج أن يصلي الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والصبح بمنى، ثم يغدو إلى عرفة الحديث، وفيه: فإذا رمى الجمرة الكبرى حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء والطيب حتى يزور البيت ا هـ. ثم قال: هذا حديث على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ولم يتعقبه عليه الذهبي.
هذا هو حاصل حجة مالك وأصحابه في أن التحلل الأول يحل به، ما عدا النساء والصيد والطيب، وقد قدمنا أن الطبيب بعد رمي الجمرة مكروه عنده لا حرام. وأما حجة من قال: إنه إن رمى جمرة العقبة وحلق: حل له كل شيء إلا النساء: كأحمد والشافعي ومن وافقهما، فمنها حديث عائشة المتفق عليه، قالت: كنت أطيِّبُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه، حين يحرم ولِحِلِّهِ قبل أن يطوف بالبيت. هذا لفظ البخاري في صحيحه، ولفظ مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لِحُرْمِهِ حين أحْرَمَ، ولِحِلِّهِ قبل أن يَطُوفَ بالبيت، وفي لفظ: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لِحُرْمِهِ حِينَ أحْرَمَ، ولِحِلِّهِ حين أحَلَّ. قبل أن يطوف بالبيت. وقد ذكر مسلم لهذا الحديث ألفاظاً متعددة متقاربة معناها واحد.
منها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لِحُرْمِهِ حين أحْرَمَ ولِحِلِّهِ قبل أن يُفِيضَ بأطيبِ ما وجدت.
ومن أدلتهم على ذلك: ما رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا رميتم الجمرة فقد حلَّ لكم كل شيء إلا النساء. قال رجل: والطيب؟ فقال ابن عباس: أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب ذلك أم لا؟ قال النووي في شرح المهذب في حديث ابن عباس هذا: وقد روى النسائي بإسناده عن الحسن بن عبد الله العرني، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا رمى الجمرة فقد حل له كل شيء إلا النساء» هكذا رواه النسائي وابن ماجه مرفوعاً، وإسناده جيد، إلا أن يحيى بن معين وغيره، قالوا: يقال: إن الحسن العُرَنِيِّ لم يسمع ابن عباس ورواه البيهقي موقوفاً على ابن عباس. انتهى كلام النووي رحمه الله.
والذي رأيته في سنن النسائي، وابن ماجه: أن حديث الحسن العرني المذكور موقوف عندهما على ابن عباس، إلا ما ذكره من أنه رأى النَّبي صلى الله عليه وسلم يتضمخ بالمسك. وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب في الحسن العرني المذكور، قال أحمد: لم يسمع من ابن عباس شيئاً، وقال أبو حاتم: لم يدركه ا هـ. والعرني بضم العين، وفتح الراء ثم نون: نسبة إلى عرينة بطن من بجيلة.
ومن أدلتهم على ذلك: ما رواه أبو داود في سننه من طريق الحجاج بن أرطاة عن الزهري عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا رمى أحدكم جمرة العقبة، فقد حل له كل شيء إلا النساء» ا هـ.
ومعلوم أن هذا الحديث ضعيف من وجهين:
أحدهما: هو ما قدمنا من تضعيف الحجاج بن أرطاة.
والثاني: أن الحجاج المذكور لم يسمع من الزهري. وقد قال أبو داود في سننه بعد أن ساق هذا الحديث: هذا حديث ضعيف: الحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه، وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: أما حديث عائشة رضي الله عنها فرواه أبو داود بإسناد ضعيف جداً من رواية الحجاج بن أرطاة وقال: هو حديث ضعيف ا هـ.
هذا هو حاصل حجة من قال: إنه يحل له بعد رمي جمرة العقبة كل شيء إلا النساء، وأما ما ذكرنا عن الشافعي: من أنه يحل له كل شيء إلا النساء باثنين من ثلاثة: هي الرمي، والحلق، والطواف، وتحل النساء بالثالث منها، بناء على أن الحلق نسك، وعلى أنه ليس بنسك، يحل له كل شيء إلا النساء بواحد من اثنين، هما: الرمي، والطواف وتحل له النساء بالثاني منهما لم نعلم له نصاً يدل عليه، هكذا والظاهر أنه رأى هذه الأشياء لها مدخل في التحلل، وقد دل النص الصحيح على حصول التحلل الأول بعد الرمي والحلق، فجعل هو الطواف كواحد منهما. والله تعالى أعلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق أن الطيب يحل له بالتحلل الأول، لحديث عائشة المتفق عليه الذي هو صريح في ذلك. وكذلك لبس الثياب، وقضاء التفث، وأن الجماع لا يحل إلا بالتحلل الأخير، وأما حيلة الصيد بالتحلل الأول فهي محل نظر، لأن الأحاديث التي فيها التصريح، بأنه يحل له كل شيء إلا النساء، قد علمت ما فيها من الكلام، وحديث عائشة المتفق عليه، لم يتعرض لحل الصيد.
وظاهر قوله: {لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يمكن أن يتناول ما بعد التحلل الأول، لأن حرمة الجماع تدل على أنه متلبس بالإحرام في الجملة، وإن كان قد حل له بعض ما كان حراماً عليه، والله تعالى أعلم.
المسألة العاشرة في أحكام الرمي
اعلم أن قدمنا في الكلام على الإفاضة من مزدلفة إلى منى، بعض أحكام رمي جمرة العقبة، فبينا كلام العلماء في حكمه، وفي أول وقته وآخره، وذكرنا بعض الأحكام المتعلقة برميها قريباً، والآن سنذكر إنشاء الله المهم من أحكام الرمي.
اعلم أن الرمي في أيام التشريق واجب، يجبر بدم عند جماهير العلماء على اختلاف بينهم في تعدد الدماء فيه، وعدم تعددها، ولا خلاف بينهم في أنه ليس بركن لأن الحج يتم قبله، ويتحلل صاحبه التحلل الأصغر والأكبر، فيحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام، فحجه تام إجماعاً قبل رمي أيام التشريق، ولكن رميها واجب يجبر بدم، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم رمى فيها، وقال «لتأخذوا عني مناسككم».
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن التحقيق أنه لا يجوز الرمي في أيام التشريق، إلا بعد الزوال، لثبوت ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
ففي صحيح مسلم من حديث جابر قال: «رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس» هذا لفظ مسلم عنه في صحيحه، وحديث جابر هذا الذي رواه مسلم في صحيحه موصولاً باللفظ الذي ذكرنا، رواه البخاري تعليقاً مجزوماً به بلفظ: وقال جابر «رمى النَّبي صلى الله عليه وسلم، يوم النحر ضحى ورمى بعد ذلك بعد الزوال» ثم ساق البخاري رحمه الله بسنده عن ابن عمر قال: كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رميناً.
وقال ابن حجر في فتح الباري في قول ابن عمر: كنا نتحين. الحديث، فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على أن الحافظ ابن حجر يرى قول ابن عمر: كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رميناً له حكم الرفع، وحديث جابر الصحيح المذكور قبله صريح في الرفع، وروى الإمام أحمد، وأبو داود، عن عائشة رضي الله عنها قالت «أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يوم حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس» الحديث، وفي إسناده محمد بن إسحاق، صاحب المغازي، وهو مدلس، وقد قال ابن إسحاق المذكور في الإسناد المذكور، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، والمدلس إذا عنعن لم تقبل روايته عند أهل الحديث وقد قدمنا مراراً أن من يحتج بالمرسل، يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى، وأن المشهور عن أبي حنيفة، ومالك، وأحمد: الاحتجاج بالمرسل. وروى الإمام أحمد، وابن ماجه، والترمذي وحسنه عن ابن عباس قال «رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمار حين زالت الشمس».
وبهذه النصوص الثابتة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم تعلم أن قول عطاء وطاوس بجواز الرمي في أيام التشريق، قبل الزوال، وترخيص أبي حنيفة في الرمي يوم النفر قبل الزوال، وقول إسحاق: إن رمى قبل الزوال في اليوم الثالث أجزأه كل ذلك، خلاف التحقيق لأنه مخالف لفعل النَّبي صلى الله عليه وسلم الثابت عند المعتضد بقوله: «لتأخذوا عني مناسككم» ولذلك خالف أبا حنيفة في ترخيصه المذكور صاحباه محمد وأبو يوسف، ولم يرد في كتاب الله، ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يخالف ذلك، فالقول بالرمي قبل الزوال أيام التشريق، لا مستند له ألبتة، مع مخالفته للسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي لأحد أن يفعله، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني: اعلم أنه يجب الترتيب في رمي الجمار، أيام التشريق فيبدأ بالجمرة الأولى، التي تلي مسجد الخيف، فيرميها بسبع حصيات، مثل حصى الخذف، يكبر مع كل حصاة، ثم يقف، فيدعو طويلاً، ثم ينصرف إلى الجمرة الوسطى، فيرميها كالتي قبلها، ثم يقف، فيدعو طويلاً، ثم ينصرف إلى جمرة العقبة، فيرميها كذلك، ولا يقف عندها، بل ينصرف إذا رمى وهذا الترتيب على النحو الذي ذكرنا هو الذي فعله النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بأخذ المناسك عنه. فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا الترتيب المذكور. ففي صحيح البخاري رحمه الله من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يرمي الجمرة الدنيا، بسبع حصيات، يكبر على إثْرِ كل حصاةٍ، ثم يتقدَّم، حتى يُسْهِلَ، فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلاً، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوُسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيستهل، ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلاً، ويدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم يفعله ا هـ. روى البخاري هذا الحديث في ثلاثة أبواب متوالية، وهو نص صحيح صريح في الترتيب المذكور، وقد قال صلى الله عليه وسلم «لتأخذوا عني مناسككم» فإن لم يرتب الجمرات، بأن بدأ بجمرة العقبة لم يجزئه الرمي منكساً لأنه خالف هدي النَّبي صلى الله عليه وسلم وفي الحديث «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وتنكيس الرمي عمل ليس من أمرنا، فيكون مردوداً، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وجمهور أهل العلم، وقال أبو حنيفة: الترتيب المذكور سنة، فإن نكس الرمي أعاده وإن لم يعد أجزأه، وهو قول الحسن وعطاء، واحتجوا بأدلة لا تنهض. وعلى الصحيح الذي هو قول الجمهور: إن الترتيب شرط لو بدأ بجمرة العقبة، ثم الوسطى، ثم الأولى أو بدأ بالوسطى، ورمى الثلاث لم يجزه إلا الأولى، لعدم الترتيب في الوسطى والأخيرة، فعليه أن يرمي الوسطى، ثم الأخيرة، ولو رمى جمرة العقبة. ثم الأولى، ثم الوسطى أعاد جمرة العقبة وحدها هذا هو الظاهر.
واعلم أن العلماء اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الرمي، ليس فيها نص، وسنذكر هنا بعض ذلك مما يظهر لنا أنه أقرب للصواب، مع الاختصار، لعدم النصوص في ذلك.
فمن ذلك: أن الأقرب فيما يظهر لنا أنه لا بد من رمي الحصاة بقوة، فلا يكفي طرحها، ولا وضعها باليد في المرمى، لأن ذلك ليس برمي في العرف، خلافاً لمن قال: إنه رمي، وأنه لا بد من وقوع الحصاة في نفس المرمى، وهو الجمرة التي يحيط بها البناء واستقرارها فيه خلافاً لمن قال: إنها إن وقعت في المرمى ثم تدحرجت حتى خرجت منه: أنه يجزئه، وأنها لو ضربت شيئاً دون المرمى، ثم طارت، وسقطت في المرمى: أن ذلك يجزئه، بخلاف ما لو جاءت في محمل، أو في ثوب رجل، فتحرك المحمل أو الرجل فسقطت في المرمى، فإنها لا تجزىء، وكذلك لو جاءت دون المرمى، فأطارت حصاة أخرى، فجاءت هذه الحصاة الأخرى في المرمى، فإنها لا تجزئه. لأن الحصاة التي رماها لم تسقط في المرمى، وإنما وقعت فيه الحصاة التي أطارتها، وأنها إن أخطأت المرمى، ولكن سقطت قريباً منه، أن ذلك لا يجزئه، خلافاً لمن قال: يجزئه، وأنه لا ينبغي أن يرمي إلا بالحجارة، فلا ينبغي الرمي بالمدر، والطين، والمغرة، والنورة، والزرنيخ، والملح، والكحل، وقبضة التراب، والأحجار النفسية: كالياقوت، والزبرجد، والزُّمُرُّدْ، ونحو ذلك، خلافاً لمن أجاز الرمي بذلك.
ولا يجوز الرمي بالخشب، والعنبر، واللؤلؤ، والجواهر، والذهب، والفضة، والأقرب أيضاً أن الحصاة إن وقعت فيه شقوق البناء المنتصب في وسط الجمرة، وسكنت فيها أنها لا تجزىء، لأنها وقعت في هواء المرمى، لا في نفس المرمى خلافاً لمن قال: إنها تجزئه، والأقرب:
أنه لا يلزم غسل الحصى لعدم الدليل على ذلك، وأنه لو رمى بحصاة نجسة أجزأه ذلك لصدق اسم الرمي عليه، وعدم نص على اشتراط طهارة الحصى مع كراهة ذلك عند بعض أهل العلم، وقول بعضهم: بعدم الإجزاء والأقرب أنه لو رمى بحصاة قد رمى بها أنها تجزئه، لصدق اسم الرمي عليها، وعدم النص على منع ذلك، ولا على عدم إجزائه ولكن الأحوط في الجميع الخروج من الخلاف، كما قال بعضهم: وأن الأورع الذي يخرج من خلافهم ولو ضعيفاً فاستبن

وفي كتب الفروع هنا أشياء تركناها لكثرتها.
تنبيه
اعلم أن العلماء اختلفوا في المعنى الذي منه الجمرة، فقال بعض أهل العلم: الجمرة في اللغة: الحصاة، وسميت الجمرة التي هي موضع الرمي بذلك، لأنها المحل الذي يرمى فيه بالحصى، وعلى هذا فهو من تسمية الشيء باسم ما يحل فيه، وهو أسلوب عربي معروف، وهو عند البلاغيين من نوع ما يسمونه المجاز المرسل، والتجمير رمي الحصى في الجمار ومنه قول بن أبي ربيعة: بدَا لِي منها معصمٌ يوم جَمَّرت وكفٌّ خضيبٌ زُيِّنت ببنانِ
فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميتَ الجمرَ أم بثمانِ

والمجمر بصيغة اسم المفعول مضعفاً: هو الموضع الذي ترمى فيه الجمار، ومنه قول حذيفة بن أنس الهذلي: لأدركهم شُعْث النواصي كأنهم سوابقُ حجَّاج تُوافِي المجمَّرا

وقال بعض أهل العلم: أصل الجمرة من التجمر بمعنى التجمع، تقول العرب: تجمَّر القوم، إذا اجتمعوا، وانضم بعضهم إلى بعض، وجمرهم الأمر: أحوجهم إلى التجمر، وهو التجمع، وجمر الشيء: جمعه، وجمر الأمير الجيش، إذا أطال حبسهم مجتمعين بالثغر، ولم يأذن لهم في الرجوع والتفرق، وروى الربيع: أن الشافعي أنشده في ذلك قول الشاعر:
وجمَّرتْنا تجميرَ كسرى جُنوده ومنيتنا حتى نسينا الأمَانِيَا

والجمار: القوم المجتمعون، ومنه قول الأعشى: فَمِنْ مُبلغٍ وائلاً قومَنا وأعني بذلك بكراً جمارا

أي مجتمعين، وعلى هذا فاشتقاق الجمرة من التجمر بمعنى: التجمع لاجتماع الحجيج عندها يرمونها، وقيل: لأن الحصى يتجمع فيها، وقيل: اشتقاق الجمرة من أجمر إذا أسرع، لأن الناس يأتون مسرعين لرميها. وقيل: أصلها من جمرته إذا نحيته وأظهرها القول الأول والثاني، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثالث: في آخر وقت الرمي أيام التشريق.
قد علمت أن أول وقت رميها بعد الزوال، ولا خلاف بين العلماء، أن بقية اليوم وقت للرمي إلى الغروب.
واختلفوا فيما بعد الغروب، فمنهم من يقول: إن غربت الشمس، ولم يرم رمى بالليل، وبعضهم يقول: الليل قضاء، وبعضهم يقول: أداء، وقد قدمنا أقوالهم، وحججهم في الكلام على رمي جمرة العقبة، ومنهم من يقول: لا يرمي بالليل، بل يؤخر الرمي، حتى تزول الشمس من الغد كما قدمناه، مع إجماعهم على فوات وقت الرمي بغروب اليوم الثالث عشر من ذي الحجة الذي هو رابع يوم النحر.
واعلم أن هذا الحكم له حالتان:
الأولى: حكم الرمي في الليلة التي تلي اليوم الذي فاته الرمي فيه من أيام التشريق.
والثانية: الرمي في يوم آخر من أيام التشريق.
أما الليل فقد قدمنا أن الشافعية والمالكية والحنفية كلهم يقولون:
يرمي ليلاً، والمالكية بعضهم يقولون: الرمي ليلاً قضاء، وهو المشهور عندهم، وبعضهم يتوقف في كونه قضاء أو أداء، كما قدمناه عن الباجي، والحنفية يقولون: إن الليلة التي بعد اليوم تبع له، فيجوز الرمي فيها تبعاً لليوم، والشافعية لهم وجهان مشهوران في الرمي في الليلة التي بعد اليوم، هل هو أداء، أو قضاء؟ كما قدمناه مستوفى، والحنابلة قدمنا أنهم يقولون: لا يرمي ليلاً، بل يرمي من الغد بعد زوال الشمس، كما ذكرنا فيه كلام صاحب المغني وأما رمي يوم من أيام التشريق في يوم آخر منها، فلا خلاف فيه بين من يعتد به من أهل العلم، إلا أنهم اختلفوا في أيام التشريق الثلاثة هل هي كيوم واحد؟ فالرمي في جميعها أداء، لأنها وقت للرمي كيوم واحد، أو كل يوم منها مستقل، فإن فات هو وليلته التي بعده فات وقت رميه، فيكون قضاء في اليوم الذي بعده، فعلى القول الأول لو رمى عن اليوم الأول في الثاني أو عن الثاني في الثالث، أو عن الأول والثاني في الثالث، فلا شيء عليه، لأنه رمى في وقت الرمي، وعلى الثاني يلزمه دم عن كل يوم فاته رمي فيه إلى الغد، عند من يقول: بتعدد الدماء كالشافعية، أو دم واحد عن اليومين، عند من يقول: بعدم التعدد.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق في هذه المسألة أن أيام التشريق كاليوم الواحد بالنسبة إلى الرمي، فمن رمى عن يوم منها في يوم آخر منها أجزأه، ولا شيء عليه، كما هو مذهب أحمد، ومشهور مذهب الشافعي، ومن وافقهما.
والدليل على ذلك: هو ما رواه مالك في الموطأ، والإمام أحمد، والشافعي، وابن حبان، والحاكم، وأصحاب السنن الأربعة، عن عاصم بن عدي العجلاني رضي الله عنه، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم رخَّص لرعاء الإبل، أن يرموا يوماً، ويدعوا يوماً هذا لفظ أبي داود، والنسائي وابن ماجه، وفي لفظ: رخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغداة، ومن بعد الغداة ليومين، ثم يرمون يوم النفر. ولهذا الحديث ألفاظ متقاربة غير ما ذكرنا، ومعناها واحد، وقال الإمام مالك رحمه الله في الموطأ: ما نصه: تفسير الحديث الذي أرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في تأخير رمي الجمار فيما نرى والله أعلم: أنهم يرمون يوم النحر، فإذا مضي اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد، وذلك يوم النفر الأول، فيرمون لليوم الذي مضى، ثم يرمون ليومهم ذلك، لأنه لا يقضي أحد شيئاً حتى يجب عليه، فإذا وجب عليه ومضى كان القضاء بعد ذلك، فإن بدا لهم النفر فقد فرغوا، وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الآخر، ونفروا. انتهى منه، وهذا المعنى الذي فسر به الحديث هو صريح معناه في رواية من روى: أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً، وحديث عاصم العجلاني هذا قال فيه الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
فإن قيل: أنتم سقتم هذا الحديث مستدلين به على أن أيام التشريق كاليوم الواحد، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما رخص لهم في تأخير رمي يوم إلى اليوم الذي بعده، دل ذلك على أن اليوم الثاني وقت لرمي اليوم الأول، لأنه لو فات وقته لفات بفوات وقته لإجماع العلماء على أنه لا يقضي في اليوم الرابع عشر من ذي الحجة الذي هو خامس يوم النحر فما بعده، ولكن ظاهر كلام مالك في تفسيره الحديث المذكور، يدل على أن رمي يوم في اليوم الذي بعده قضاء لقوله في كلامه المذكور: فإذا وجب عليه ومضى كان القضاء.
فالجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما: أن إطلاق القضاء على ما فات وقته بالكلية اصطلاح حادث للفقهاء، لأن القضاء في الكتاب والسنة يطلق على فعل العبادة في وقتها، كقوله تعالى:
فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ}، وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ}، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ}. فالقضاء في هذه الآيات بمعنى الأداء.
الوجه الثاني: أنا لو فرضنا أن مالكاً رحمه الله، يريد بالقضاء في كلامه المذكور المعنى الاصطلاحي عند الفقهاء، وهو أن القضاء فعل العبادة بعد خروج وقتها المعين لها تداركاً لشيء علم تقدم ما أوجب فعله في خصوص وقته، كما هو المعروف في مذهبه. إنه إن أخر الرمي إلى الليل فما بعده، أنه قضاء. يلزم به الدم، فإنا لا نسلم أن رمي يوم في اليوم الذي بعده قضاء لعبادة، خرج وقتها بالكلية استناداً لأمرين:
الأول: أن رمي الجمار عبادة موقتة بالإجماع، فإذن النَّبي صلى الله عليه وسلم في فعلها في وقت، دليل واضح على أن ذلك الوقت من أجزاء وقت تلك العبادة الموقتة، لأنه ليس من المعقول أن تكون هذه العبادة موقتة بوقت معين ينتهي بالإجماع في وقت معروف، ويأذن النَّبي صلى الله عليه وسلم في فعلها في زمن ليس من أجزاء وقتها المعين لها. فهذا لا يصح بحال، وإذا تقرر أن الوقت الذي أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فعل العبادة الموقتة فيه أنه من وقتها، علم أنها أداء لا قضاء، والأداء في اصطلاح أهل الأصول هو إيقاع العبادة في وقتها المعين لها شرعاً، لمصلحة اشتمل عليها ذلك الوقت. الأمر الثاني: أنه لا يمكن أن يقال هنا: إن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر بالرمي في وقت غير وقته، بل بعد فوات وقته، وأن أمره به في ذلك الوقت أمر بقضائه بعد فوات وقته المعين له، لما قدمنا من إجماع المسلمين على أنه لا يجوز الرمي في رابع يوم النحر، ولو كان يجوز قضاء الرمي بعد فوات وقته، لجاز الرمي في رابع النحر وخامسه، وما بعد ذلك. والقضاء في اصطلاح الفقهاء والأصوليين: لا يطلق إلا على ما فات وقته بالكلية، والصلاة في آخر الوقت الضروري أداء عندهم، حتى إنه لو صلى بعضها في آخر الضروري، وبعضها بعد خروج الوقت الضروري، فهي أداء عندهم على الصحيح. ويدل له قوله صلى الله عليه وسلم «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» وعرف في مراقي السعود الأداء والوقت والقضاء عند الأصوليين بقوله: فعل العبادة بوقتٍ عُينا شرعاً لها باسم الأداء قُرنا
وكونه بفعل بعض يحصل لعاضد النص هو المعول
وقيل ما في وقته أداء وما يكون خارجاً قضاء
والوقت ما قدره من شرعا من زمن مضيقاً موسعا
وعكسه القضا تداركاً لما سبق الذي أوجبه قد علما

وقوله: وعكسه القضا يعني أن القضاء ضد الأداء.
وبما ذكرنا: تعلم أن التحقيق أن أيام الرمي كلها كاليوم الواحد، وأن من رمى عن يوم في الذي بعده، لا شيء عليه لإذن النَّبي صلى الله عليه وسلم للرعاء في ذلك، ولكن لا يجوز تأخير يوم إلى يوم آخر إلا لعذر، فهو وقت له، ولكنه كالوقت الضروري. والله تعالى أعلم.
أما رمي جمرة العقبة، فقال بعض أهل العلم: إن حكمه مع رمي أيام التشريق كواحد منها، فمن أخر رميه إلى يوم من أيام التشريق، فهو كمن أخر يوماً منها إلى يوم وعليه ففيه الخلاف المذكور، وقال بعض أهل العلم: هو مستقل بوقته دونها لأنه يخالفها في الوقت، والعدد لأنها جمرة واحدة أول النهار، وأيام التشريق بعكس ذلك وله وجه من النظر. والله أعلم.
الفرع الرابع: أظهر قَوْلَيْ أهل العلم عندي أنه إن قضى رمي اليوم الأول والثاني من أيام التشريق في اليوم الثالث منها، ينوي تقديم الرمي عن اليوم الأول قبل الثاني، ولا يجوز تقديم رمي الثاني بالنية، لأنه لا وجه لتقديم المتأخر وتأخير المتقدم من غير استناد إلى دليل كما ترى. والظاهر أنه إن نوى تقديم الثاني، لا يجزئه لأنه كالمتلاعب، خلافاً لمن قال: يجزئه. والله تعالى أعلم.
الفرع الخامس: اعلم أن العلماء اختلفوا في القدر الذي يوجب تركه الدم، من رمي الجمار، فذهب مالك، وأصحابه إلى أن من أخر رمي حصاة واحدة من واحدة من الجمار. إلى ليل ذلك اليوم، لزمه الدم، وما فوق الحصاة أحرى بذلك، وسواء عندهم في ذلك من جمرة العقبة، يوم النحر، ورمي الثلاث أيام التشريق. ومعلوم أن من توقف من المالكية في كون الرمي ليلاً قضاء يتوقف في وجوب الدم، إن رمي ليلاً، ولكن مشهور مذهبه: هو أن الليل قضاء كما قال خليل في مختصره: والليل قضاء. وذهب أبو حنيفة، وأصحابه: إلى أن الدم يلزمه بترك رمي الجمرات كلها، أو رمي يوم واحد من أيام التشريق، وكذلك عندهم رمي جمرة العقبة، فرمي جمرة العقبة ورمي يوم من أيام التشريق، ورمي الجميع سواء عندهم، يلزم في ترك كل واحد منها دم واحد، وما هو أكثر من نصف رمي يوم عندهم كرمي اليوم يلزم فيه الدم، فلو رمى جمرة وثلاث حصيات من جمرة، وترك الباقي، فعليه دم، لأنه رمى عشر حصيات وترك إحدى عشر حصاة، فإن ترك أقل من نصف رمي يوم كأن ترك جمرة واحدة، فلا دم عليه، ولكن عليه الصداقة، عندهم، فيلزمه لكل حصاة نصف صاع من بر أو صاع من تمر، أو شعير إلا أن يبلغ ذلك دماً فيقص ما شاء هكذا يقول. ولا أعلم له مستنداً من النقل، وقد قدمنا أن الدم يلزم عند أبي حنيفة بفوات الرمي في يومه وليلته، التي بعده، ولو رماه من الغد في أيام التشريق، وخالفه في ذلك صاحباه. ومذهب الشافعي في هذه المسألة فيه اختلاف يرجع إلى قولين:
القول الأول: وعليه اقتصر صاحب المهذب: أنه إن ترك رمي الجمار الثلاث في يوم من أيام التشريق لزمه دم، وإن ترك ثلاث حصيات من جمرة، فما فوقها: لزمه دم لأن ثلاث حصيات فما فوقها يقع عليها اسم الجمع المطلق، فصار تركها كترك الجميع، وإن ترك حصاة واحدة فثلاثة أقوال:
الأول: يجب عليه ثلث دم.
والثاني: مد.
والثالث: درهم. وحكم الحصاتين كذلك، قيل: يلزم فيها ثلثا دم، وقيل: مدان وقيل درهمان، فإن ترك الرمي في أيام التشريق كلها، فعلى القول المشهور عندهم أنها كيوم واحد، فاللازم دم واحد. وإن قلنا: بأن كل يوم منفرد بوقته، فثلاثة دماء، وإن ترك رمي جمرة العقبة يوم النحر، ورمى أيام التشريق، فعلى القول بأن رمي يوم النحر كرمي يوم من أيام التشريق، لزمه على القول الأول أنها كيوم واحد دم واحد، وإن قلنا: بانفراد رمي يوم النحر عن أيام التشريق، لمخالفته لها وقتاً وعدداً، فإن قلنا: بالمشهور أن أيام التشريق كيوم واحد، لزمه دمان، وإن قلنا: بانفراد كل يوم منها عن الآخر بوقته، لزمه أربعة دماء.
القول الثاني: أن الجمرات الثلاث كلها كالشعرات الثلاث، فلا يكمل الدم في بعضها بل لا يلزم إلا بترك جميعها، بأن يترك رمي يوم، وعليه فإن ترك رمي جمرة من الجمار، ففيه الأقوال الثلاثة المشهورة عندهم، فيمن حلق شعرة أظهرها: مد، والثاني: درهم، والثالث: ثلث دم، فإن ترك جمرتين، فعلى هذا القياس، وهو لزوم مدين أو درهمين أو ثلثي دم، وعلى هذا لو ترك حصاة من جمرة، فعلى أن في الجمرة ثلث دم يلزمه في الحصاة جزء من واحد وعشرين جزءاً من دم، وعلى أن فيها مد أو درهماً، ففي الحصاة سبع مد أو سبع درهم، وللشافعية في هذا المبحث تفاصيل كثيرة، تركناها لطولها، ومذهب الإمام أحمد: أن من أخر الرمي كله عن أيام التشريق. لزمه دم، وعنه في ترك رمي الجمرة الواحدة دم، ولا شيء عنده في الحصاة، والحصاتين وعنه يتصدق بشيء. وروي عنه أن في الحصاة الواحدة: دماً كقول مالك. وروي عنه أن في ثلاث حصيات: دماً كأحد قولي الشافعي وفيما دون ذلك كل حصاة مد كأحد الأقوال عند الشافعية والعلم عند الله تعالى.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم، في حكم من أخل بشيء من الرمي، حتى فات وقته.
فاعلم أن دليلهم في إجماعهم على أن من ترك الرمي كله. وجب عليه دم، هو ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من نسي من نسكه شيئاً، أو تركه، فليهرق دماً، وهذا صح عن ابن عباس موقوفاً عليه، وجاء عنه مرفوعاً ولم يثبت. وقد روى مالك في موطئه عن أيوب بن أبي تيمة السختياني عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: من نسي من نسكه شيئاً إلى آخره باللفظ الذي ذكرنا وهذا إسناد في غاية الصحة إلى ابن عباس كما ترى. وقال البيهقي في سننه: أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنبأ ابن وهب، أخبرني عبد الله بن عمر، ومالك بن أنس، وغيرهما: أن أيوب بن أبي تميمة، أخبرهم عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عباس أنه قال: من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً اهـ.
وقال النووي في شرح المهذب: وأما حديث «من ترك نسكا فعليه دم» فرواه مالك، والبيهقي، وغيرهما بأسانيد صحيحة، عن ابن عباس موقوفاً عليه، لا مرفوعاً ولفظه، عن مالك عن أيوب، عن سعيد بن جبير: أن ابن عباس قال: من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً قال مالك: لا أدري قال: ترك أم نسي قال البيهقي: وكذا رواه الثوري، عن أيوب: من أو نسي شيئاً من نسكه فليهرق له دماً وما قال البيهقي، فكأنه قالهما يعني البيهقي أن أو ليست للشك كما أشار إليه مالك بل للتقسيم، والمراد به يريق دماً سواء ترك عمداً أو سهواً والله أعلم. انتهى كلام النووي.
وقال ابن حجر في تلخيص الحبير حديث ابن عباس موقوفاً عليه ومرفوعاً «من ترك نسكاً فعليه دم» أما الموقوف، فرواه مالك في الموطأ. والشافعي عنه عن أيوب عن سعيد بن جبير عنه بلفظ: «من نسي نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً» وأما المرفوع فرواه ابن حزم، من طريق علي بن الجعد، عن ابن عيينة، عن أيوب به وأعله بالراوي، عن علي بن الجعد أحمد بن علي بن سهل المروزي فقال: إنه مجهول، وكذا الراوي عنه علي بن أحمد المقدسي قال: هما مجهولان. انتهى من التلخيص.
فإذا علمت أن الأثر المذكور ثابت بإسناد صحيح، عن ابن عباس.
فاعلم أن وجه استدلال الفقهاء به على سائر الدماء التي قالوا بوجوبها غير الدماء الثابتة بالنص، أنه لا يخلو من أحد أمرين.
الأول: أن يكون له حكم الرفع، بناء على أنه تعبد، لا مجال للرأي فيه، وعلى هذا فلا إشكال.
والثاني: أنه لو فرض أنه مما للرأي فيه مجال، وأنه موقوف ليس له حكم الرفع، فهو فتوى من صحابي جليل لم يعلم لها مخالف من الصحابة، وهم رضي الله عنهم خير أسوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما اختلاف العلماء في لزوم الدم بترك جمرة أو رمي يوم أو حصاة أو حصاتين إلى آخر ما تقدم: فهو من نوع الاختلاف في تحقيق المناط فمالك مثلاً القائل: بأن في الحصاة الواحدة دماً يقول الحصا. الواحدة داخلة في أثر ابن عباس المذكور، فمناط لزوم الدم محقق فيها، لأنها شيء من نسكه فيتناولها قوله: من نسي من نسكه شيئاً أو تركه إلخ، لأن لفظة شيئاً نكرة في سياق الشرط، فهي صيغة عموم، والذين قالوا: لا يلزم في الحصاة والحصاتين دم، قالوا، الحصاة، والحصاتان، لا يصدق عليهما نسك، بل هما جزء من نسك، وكذلك الذين قالوا: لا يلزم في الجمرة الواحدة دم، قالوا: رمي اليوم الواحد نسك واحد فمن ترك جمرة في يوم لم يترك نسكاً، وإنما ترك بعض نسك، وكذلك الذين قالوا: لا يلزم إلا بترك الجميع قالوا: إن الجميع نسك واحد والعلم عند الله تعالى.
الفرع السادس: اعلم أن جماعة من أهل العلم قالوا: يستحب رمي جمرة العقبة راكباً إن أمكن، ورمي أيام التشريق ماشياً في الذهاب والإياب إلا اليوم الأخير، فيرمي فيه راكباً، وينفر عقب الرمي وقال بعضهم: يرميه كله راكباً.
وأظهر الأقوال في المسألة: هو الاقتداء بالنَّبي صلى الله عليه وسلم وهو قد رمى جمرة العقبة راكباً ورمى أيام التشريق ماشياً ذهاباً وإياباً والله تعالى أعلم.
الفرع السابع: إذا عجز الحاج عن الرمي، فله أن يستنيب من يرمي عنه، وبه قال كثير من أهل العلم، وهو الظاهر. وفي الموطأ قال يحيى: سئل مالك، هل يُرمى عن الصبي والمريض؟ فقال: نعم، ويتحرى المريض حين يُرمى عنه، فيكبر وهو في منزله، ويهريق دماً، فإن صح المريض في أيام التشريق: رَمَى الذي رمِيَ عنه، وأهدى وجوباً انتهى من الموطأ.
أما الرمي عن الصبيان فهو كالتلبية عنهم، والأصل فيه ما رواه ابن ماجه في سننه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عبد الله بن نمير، عن أشعت، عن أبي الزبير، عن جابر قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا النساء، والصبيان، فلبَّينا عن الصبيان، ورمينا عنهم، ورجال إسناد ابن ماجه هذا ثقات معروفون إلا أشعث وهو ابن سوار الكندي النجار الكوفي مولى ثقيف فقد ضعفه غير واحد ومسلم إنما أخرج له في المتابعات، وهو ممن يعتبر بحديثه، كما يدل على ذلك إخراج مسلم له في المتابعات. وروى الدورقي عن يحيى أشعث بن سوار الكوفي ثقة، وقال ابن عدي: لم أجد لأشعث متناً منكراً وإنما يغلط في الأحايين في الأسانيد ويخالف. وأما الرمي عن المريض ونحوه ممن كان له عذر غير الصغر فلا أعلم له مستنداً من النقل إلا أن الاستنابة في الرمي، هي غاية ما يقدر عليه والله تعالى يقول {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ} وبعض أهل العلم يستدل لذلك بالقياس على الصبيان، بجامع العجز في الجميع وبعضهم يقيس الرمي على أصل الحج قال النووي في شرح المهذب: استدل أصحابنا على جواز الاستنابة في الرمي بالقياس على الاستنابة في أصل الحج قالوا والرمي أولى بالجواز ا هـ.
تنبيه
إذا رمى النائب عن العاجز ثم زال عذر المستنيب، وأيام الرمي باقية، فقد قدمنا قول مالك في الموطأ: أنه يقضي كل ما رواه عنه النائب، مع لزوم الدم وقال بعض أهل العلم: لا يلزمه قضاء ما رمى عنه النائب، لأن فعل النائب كفعل المنوب عنه، فيسقط به الفرض، ولكن تندب إعادته، وهذا هو مشهور مذهب الشافعي. وفي المسألة لأهل العلم غير ما ذكرنا.
قال مقيده عفا الله وغفر له: أظهر أقوال أهل العلم عندي في هذه المسألة: أنه إذا زال عذر المستنيب وأيام الرمي باق بعضها: أنه يرمي جميع ما رمى عنه، ولا شيء عليه، لأن الاستنابة إنما وقعت لضرورة العذر، فإذا زال العذر والوقت باق بعضه، فعليه أن يباشر فعل العبادة بنفسه.
وقد قدمنا أن أقوى الأقوال دليلاً هو قول من قال: إن أيام الرمي كيوم واحد بدليل ما قدمنا من ترخيصه صلى الله عليه وسلم للرعاء أن يرموا يوماً، ويدعوا يوماً كما تقدم إيضاحه والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثامن: اعلم أن التحقيق في عدد الحصيات التي ترمى بها كل جمرة أنها سبع حصيات، فمجموع الحصى سبعون حصاة سبع منها ترمى بها جمرة العقبة يوم النحر، والثلاث والستون الباقية تفرق على الأيام الثلاثة في كل يوم إحدى وعشرون حصاة، لكل جمرة سبع.
وأحوط الأقوال في ذلك قول مالك وأصحابه ومن وافقهم: أن من ترك حصاة واحدة كمن ترك رمي الجميع، وقال بعض أهل العلم: يجزئه الرمي بخمس أو ست وقال ابن قدامة في المغني: والأولى ألا ينقص في الرمي عن سبع حصيات، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع حصيات، فإن نقص حصاة أو حصاتين فلا بأس، ولا ينقص أكثر من ذلك نص عليه يعني أحمد، وهو قول مجاهد وإسحاق، وعنه: إن رمى بست ناسياً، فلا شيء عليه، ولا ينبغي أن يتعمده فإن تعمد ذلك تصدق بشيء، وكان ابن عمر يقول: ما أبالي رميت بست، أو بسبع. وعن أحمد: أن عدد السبع شرط، ونسبه إلى مذهب الشافعي، وأصحاب الرأي لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع. وقال أبو حبة: لا بأس بما رمى به الرجل من الحصى، فقال عبد الله بن عمرو: صدق أبو حبة، وكان أبو حبة بدريا.
ووجه الرواية الأولى ما روى ابن أبي نجيح قال: سئل طاوس عن رجل ترك حصاة؟ قال: يتصدق بتمرة أو لقمة، فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إن أبا عبد الرحمن لم يسمع قول سعد قال سعد: رجعنا من الحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضنا يقول: بسبع، فلم يعب ذلك بعضنا على بعض رواه الأثرم وغيره انتهى كلام ابن قدامة في المغني. وما رواه عن أبي نجيح قال: سئل طاوس إلخ رواه البيهقي بإسناده في السنن الكبرى، من طريق الفريابي، عن ابن عيينة، عن أبي نجيح.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق أنه لا يجوز أقل من سبع حصيات للروايات الصحيحة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يرمي الجمار بسبع حصيات. مع قوله «خذوا عني مناسككم» فلا ينبغي العدول عن ذلك، لوضوح دليله وصحته ولأن مقابله لم يقم عليه دليل يقارب دليله، والعلم عند الله تعالى. والظاهر أن من شك في عدد ما رمى بيني على اليقين، وروى البيهقي عن علي رضي الله عنه ما يؤيده.
الفرع التاسع: اعلم أن جمهور أهل العلم على أن من غربت شمس يوم النفر الأول، وهو بمنى لزم المقام بمنى، حتى يرمي الجمار الثلاث بعد الزوال في اليوم الثالث، ولا ينفر ليلاً. وممن قال بهذا: الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، وهو قول أكثر أهل العلم. وقال ابن قدامة في المغني: وهو قول عمر، وجابر بن زيد، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وأبان بن عثمان، ومالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وابن المنذر. وقال ابن المنذر: ثبت عن عمر أنه قال: «من أدركه المساء في اليوم الثاني، فليقم إلى الغد، حتى ينفر مع الناس». وخالف أبو حنيفة الجمهور في هذه المسألة فقال: له أن ينفر ليلة الثالث عشر من الشهر حتى يطلع الفجر من اليوم الثالث، فإن طلع الفجر لزمه البقاء، حتى يرمي.
والأظهر عندي: حجة الجمهور. لأن الله تعالى قال {فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ} ولم يقل في يومين وليلة.
ووجه قول أبي حنيفة: هو أن من نفر بالليل فقد نفر في وقت، لا يجب فيه الرمي، بل لا يجوز فجاز له النفر كالنهار. وقد قدمنا أيضاً عن الحنفية أنهم يرون الليلة التي بعد اليوم من أيام التشريق تابعة له، فيجوز فيها ما يجوز في اليوم الذي قبلها كالرمي فيها والنفر فيها إن كان يجوز في يومها.
والأظهر عندي: أنه لو ارتحل من منى فغربت عليه الشمس، وهو سائر في منى لم يخرج منها أنه يلزمه المبيت والرمي، لأنه يصدق عليه أنه غربت عليه الشمس في منى، فلم يتعجل منها في يومين خلافاً للمشهور من مذهب الشافعي القائل:
بأن له أن يستمر في نفره ولا يلزمه المبيت والرمي.
والأظهر عندي أيضاً: أنه لو غربت عليه الشمس، وهو في شغل الارتحال أنه يبيت، ويرمي خلافاً لمن قال: يجوز له الخروج منها بعد الغروب لأنها غربت، وهو مشتغل بالرحيل، وهما وجهان مشهوران عند الشافعية والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن التحقيق أن التعجل جائز، لأهل مكة فهم فيه كغيرهم، خلافاً إن فرق بين المكي وغيره، إلا لعذر لأن الله قال {فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} وهو عموم شامل لأهل مكة وغيرهم، ولا شك أن التأخر أفضل من التعجل لأن فيه زيادة عمل، والنَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لم يتعجل.
الفرع العاشر: اعلم أن العلماء اختلفوا في المبيت في منى، ليالي أيام التشريق هل هو واجب أو مستحب، مع إجماعهم على أنه مشروع؟ فذهب مالك، وأصحابه: إلى أنه واجب، ولو بات ليلة واحدة منها أو جل ليلة، وهو خارج عن منى. لزمه دم لأثر ابن عباس السابق. وروى مالك في الموطأ، عن نافع أنه قال: زعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان يبعث رجالاً يُدْخلون الناس من وراء العقبة. وروى مالك في الموطأ أيضاً، عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب قال: لا يَبِيتَنَّ أحد من الحاج ليالي منًى من وراء العقبة. اهـ منه.
وهو دليل على وجوب المبيت ليالي أيام التشريق بمنى كما أنه دليل على أن ما وراء جمرة العقبة، مما يلي مكة، ليس من منى، وهو معروف، ومذهب أبي حنيفة: هو أن عدم المبيت بمنى ليالي منى مكروه، ولو بات بغير منى لم يلزمه شيء، عند أبي حنيفة، وأصحابه، لأنهم يرون أن المبيت بمنى لأجل أن يسهل عليه الرمي، فلم يكن من الواجبات عندهم. ومذهب الشافعي في هذه المسألة: هو أن في المبيت بمنى ليالي منى طريقتين، أصحهما، وأشهرهما فيه قولان أصحهما: أنه واجب، والثاني: أنه سنة، والطريق الثاني أنه سنة قولاً واحداً فعلى القول بأنه واجب، فالدم واجب في تركه، وعلى أنه سنة، فالدم سنة في تركه، ولا يلزم عندهم الدم، إلا في ترك المبيت في الليالي كلها، لأنها عندهم كأنها نسك واحد، وإن ترك المبيت في ليلة من الليالي الثلاث، ففيه الأقوال المذكورة في ترك الحصاة الواحدة عندهم أصحها أن في ترك مبيت الليلة الواحدة عدا، والثاني: أن فيه درهماً، والثالث: أن فيه ثلث دم كما تقدم، وحكم الليلتين معلوم كما تقدم.
ومذهب الإمام أحمد في هذه المسألة: أن المبيت بمنى ليالي منى واجب، فلو ترك المبيت بها في الليالي الثلاث. فعليه دم على الصحيح من مذهبه، وعنه: يتصدق بشيء، وعنه: لا شيء عليه فإن ترك المبيت في ليلة من لياليها، ففيه ما في الحصاة الواحدة من الأقوال التي قدمنا، قل من وقيل: درهم، وقيل، ثلث دم.
فإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فاعلم أن أظهر الأقوال دليلاً أن المبيت بمنى أيام منى نسك من مناسك الحج، يدخل في قول ابن عباس: من نسي من نسكه شيئاً، أو تركه فليهرق دماً.
والدليل على ذلك ثلاثة أمور. الأول: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم بات بها الليالي المذكورة وقال «لتأخذوا عني مناسككم» فعلينا أن نأخذ من مناسكنا البيتوتة بمنى الليالي المذكورة.
الثاني: هو ما ثبت في الصحيحين: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس أن يبيت بمكة أيام منى، من أجل سقايته وفي رواية: أذن للعباس.
وقال ابن حجر في فتح الباري في شرح حديث الترخيص للعباس المذكور عند البخاري ما نصه: وفي الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى وأنه من مناسك الحج، لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد هي أو ما في معناها لم يحصل الإذن وبالوجوب قال الجمهور: وفي قول للشافعي ورواية عن أحمد، وهو مذهب الحنفية: أنه سنة ووجوب الدم بتركه مبني على هذا الخلاف، ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل انتهى محل الغرض عنه. وما ذكره من أخذ الوجوب من الحديث المذكور واضح.
وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على الحديث المذكور: هذا يدل لمسألتين.
إحداهما: أن المبيت بمنى ليالي أيام التشريق مأمور به، وهذا متفق عليه، لكن اختلفوا هل هو واجب أو سنة؟ وللشافعي قولان، أصحهما: واجب وبه قال مالك، وأحمد، والثاني: سنة. وبه قال ابن عباس، والحسن وأبو حنيفة، فمن أوجبه أوجب الدم في تركه وإن قلنا سنة لم يجب الدم بتركه، ولكن يستحب انتهى محل الغرض منه وكأنه يقول: إن الحديث لا يؤخذ منه الوجوب، ولكن يؤخذ منه مطلق الأمر به لأن رواية مسلم ليس فيها لفظ الترخيص، وإنما فيها التعبير بالإذن ورواية البخاري فيها رخَّص النَّبي صلى الله عليه وسلم والتعبير بالترخيص: يدل على الوجوب كما أوضحه ابن حجر في كلامه الذي ذكرناه آنفاً.
الأمر الثالث: هو ما قدمنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه كان يمنع الحجاج من المبيت، خارج منى ويرسل رجالاً يدخلونهم في منى، وهو من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بالاقتداء بهم، والتمسك بسنتهم، والظاهر أن من ترك البيت بمنى لعذر لا شيء عليه، كما دل عليه الترخيص للعباس من أجل السقاية، والترخيص لرعاء الإبل في عدم المبيت ورمي يوم بعد يوم.
الفرع الحادي عشر: في حكمة الرمي:
اعلم أنه لا شك في أن حكمة الرمي في الجملة هي طاعة الله، فيما أمر به وذكره بامتثال أمره على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، قال أبو داود في سننه حدثنا مسدد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا عبيد الله بن أبي زياد، عن القاسم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما جُعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورَمْيُ الجِمار لإقامة ذكر الله» وقال النووي في شرح المهذب في حديث أبي داود هذا، وهذا الإسناد كله صحيح إلا عبيد الله فضعفه أكثرهم ضعفاً يسيراً، ولم يضعف أبو داود هذا الحديث، فهو حسن عنده كما سبق. وروى الترمذي هذا الحديث من رواية عبيد الله هذا، وقال هو حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح، فلعله اعتضد برواية أخرى. انتهى محل الغرض منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: عبيد الله بن أبي زياد المذكور، هو القداح أبو الحصين المكي، وقد وثقه جماعة، وضعفه آخرون، وحديثه هذا معناه صحيح بلا شك ويشهد لصحة معناه قوله تعالى {وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَٰتٍ} لأنه يدخل في الذكر المأمور به: رمي الجمار بدليل قوله بعده {فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}، وذلك يدل على أن الرمي شرع لإقامة ذكر الله، كما هو واضح، ولكن هذه الحكمة إجمالية، وقد روى البيهقي رحمه الله في سننه عن ابن عباس مرفوعاً قال: لما أتى إبراهيم خليل الله عليه السلام المناسك، عرض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له في الجمرة الثالثة، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الشيطان ترجمون وملة أبيكم تتبعون. انتهى بلفظه من السنن الكبرى للبيهقي، وقد روى هذا الحديث الحاكم في المستدرك مرفوعاً ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وعلى هذا الذي ذكره البيهقي، فذكر الله الذي يشرع الرمي لإقامته، هو الاقتداء بإبراهيم في عداوة الشيطان، ورميه، وعدم الانقياد إليه، والله يقول {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِىۤ إِبْرَٰهِيمَ}، فكأن الرمي رمز وإشارة إلى عداوة الشيطان التي أمرنا الله بها في قوله {إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّ} وقوله منكراً على من والاه {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}، ومعلوم أن الرجم بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة.
وقال النووي في شرح المهذب: فرع في الحكمة في الرمي، قال العلماء: أصل العبادة الطاعة، وكل عبادة فلها معنى قطعاً، لأن الشرع لا يأمر بالعبث، ثم معنى العبادة قد يفهمه المكلف، وقد لا يفهمه، فالحكمة في الصلاة: التواضع، والخضوع، وإظهار الافتقار إلى الله تعالى، والحكمة في الصوم. كسر النفس وقمع الشهوات، والحكمة في الزكاة: مواساة المحتاج، وفي الحج: إقبال العبد أشعث أغبر من مسافة بعيدة إلى بيت فضله الله كإقبال العبد إلى مولاه ذليلاً.
ومن العبادات التي لا يفهم معناها: السعي والرمي، فكلف العبد بهما ليتم انقياده، فإن هذا النوع لاحظ للنفس فيه، ولا للعقل، ولا يحمل عليه إلا مجرد امتثال الأمر، وكمال الانقياد فهذه إشارة مختصرة تعرف بها الحكمة في جميع العبادات والله أعلم انتهى كلام النووي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ما ذكره الشيخ النووي رحمه الله: من أن حكمة السعي والرمي غير معقولة المعنى، غير صحيح فيما يظهر لي والله تعالى أعلم بل حكمة الرمي والسعي معقولة، وقد دل بعض النصوص، على أنها معقولة، أما حكمة السعي: فقد جاء النص الصحيح ببيانها، وذلك هو ما رواه البخاري في صحيحه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة ترك إبراهيم هاجر وإسماعيل في مكة، وأنه وضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، وفي الحديث الصحيح المذكور «وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي، تنظر هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات» قال ابن عباس: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم «فذلك سعى الناس بينهما» الحديث. وهذا الطرف الذي ذكرنا من هذا الحديث سقناه بلفظ البخاري رحمه الله في صحيحه، وقول النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث «فذلك سعى الناس بينهما» فيه الإشارة الكافية إلى حكمة السعي بين الصفا والمروة، لأن هاجر سعت بينهما السعي المذكور، وهي في أشد حاجة، وأعظم فاقة إلى ربها، لأن ثمرة كبدها، وهو ولدها إسماعيل تنظره يتلوى من العطش في بلد لا ماء فيه، ولا أنيس، وهي أيضاً في جوع وعطش في غاية الاضطرار إلى خالقها جل وعلا، وهي من شدة الكرب تصعد على هذا الجبل فإذا لم تر شيئاً جرت إلى الثاني فصعدت عليه لترى أحداً فأمر الناس بالسعي بين الصفا والمروة، ليشعروا بأن حاجتهم، وفقرهم إلى خالقهم ورازقهم كحاجة وفقر تلك المرأة في ذلك الوقت الضيق والكرب العظيم، إلى خالقها ورازقها وليتذكروا أن من كان يطيع الله كإبراهيم عليه، وعلى نبينا الصلاة والسلام، لا يضيعه، ولا يخيب دعاءه وهذه حكمة بالغة ظاهرة دل عليها حديث صحيح وقد قدمنا في حديث البيهقي المذكور حكمة الرمي أيضاً فتبين بذلك أن حكمة السعي والرمي معروفة ظاهرة خلافاً لما ذكره النووي.
والعلم عند الله تعالى.
المسألة الحادية عشرة في مواقيت الحج والعمرة
اعلم أن الحج له ميقات زماني: وهو المذكور في قوله تعالى {ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ}، وهي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. وقيل: وذو الحجة مع الإجماع على فوات الحج بعدم الوقوف بعرفة قبل الفجر من ليلة النحر، وميقات مكاني، والمواقيت المكانية خمسة، أربعة منها بتوقيت النَّبي صلى الله عليه وسلم، بلا خلاف بين العلماء، لثبوت ذلك في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم، وواحد مختلف فيه هل وقته للنبي صلى الله عليه وسلم، أو وقته عمر رضي الله عنه.
أما الأربعة المجمع على نقلها عن النَّبي صلى الله عليه وسلم فهي: ذو الحليفة، وهو ميقات أهل المدينة، والجحفة وهي: ميقات أهل الشام وقرن المنازل وهو: ميقات أهل نجد، ويلملم وهي ميقات أهل اليمن أخرج توقيت هذه المواقيت الأربعة الشيخان في صحيحيهما، عن ابن عباس، وابن عمر رضي عنهم إلا أن ابن عمر لم يسمع من النَّبي صلى الله عليه وسلم توقيت يلملم لأهل اليمن، بل سمعه من غيره صلى الله عليه وسلم، وهو مرسل صحابي، والاحتجاج بمراسيل الصحابة معروف، أما ابن عباس فقد سمع منه صلى الله عليه وسلم المواقيت الأربعة المذكورة.
فتحصل: أن ذا الحليفة، والجحفة، وقرن المنازل اتفق الشيخان على إخراج توقيتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث ابن عمر وابن عباس. وأن يلملم اتفقا أيضاً على إخراج توقيته عنهما معاً، إلا أن ابن عباس سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عمر سمعه من غيره، كما أوضحناه وذو الحليفة هو المسمى الآن بآبار علي، وقرن المنازل هو المسمى الآن: بالسيل. والجحفة خراب الآن، والناس يحرمون من رابغ، وهو قبلها بقليل وهو موضع معروف قديماً وفيه يقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
ولما أجزنا الميل من بطن رابغ بدت نارها قمراء للمتنور

وأما الميقات الخامس الذي اختلف العلماء فيه، هل وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو وقته عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو: ذات عرق لأهل العراق، فقال بعض أهل العلم. توقيت ذات عرق، لأهل العراق من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: هو بتوقيت عمر رضي الله عنه. وقال ابن حجر في فتح الباري: كون توقيت ذات عرق، ليس منصوصاً من النبي صلى الله عليه وسلم بل بتوقيت عمر، هو الذي قطع به الغزالي، والرافعي في شرح المسند، والنووي في شرح مسلم، وكذا وقع في المدونة لمالك وصحح الحنفية، والحنابلة، وجمهور الشافعية، والرافعي في الشرح الصغير، والنووي في شرح المهذب: أنه منصوص. انتهى محل الغرض من فتح الباري.
وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على ميقات ذات عرق: واختلف العلماء، هل صارت ميقاتهم بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم، أم باجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ وفي المسألة وجهان لأصحاب الشافعي أصحهما، وهو نص الشافعي رضي الله عنه في الأم: بتوقيت عمر رضي الله عنه. انتهى محل الغرض منه. وقال النووي في شرح المهذب، وممن قال إنه مجتهد فيه من السلف، طاوس، وابن سيرين، وأبو الشعثاء جابر بن زيد وحكاه البيهقي وغيره عنهم، وممن قال من السلف إنه منصوص عليه: عطاء بن أبي رباح وغيره، وحكاه ابن الصباغ، عن أحمد، وأصحاب أبي حنيفة، وإذا عرفت اختلاف أهل العلم فيمن وقت ذات عرق لأهل العراق، فهذه تفاصيل أدلتهم.
أما الذين قالوا: إنه باجتهاد من عمر فاستدلوا بما رواه البخاري في صحيحه:
حدثني علي بن مسلم، حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّ لأهل نجد: قرناً، وهو جَوْرٌ عَنْ طريقنا، وإنا إن أردنا قرناً شق علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحدَّ لهم ذات عرق ا هـ منه. قالوا: فهذا الحديث الصحيح صريح في أن توقيت ذات عرق باجتهاد من عمر، وقد جاءت بذلك أيضاً آثار عن بعض السلف.
وأما الذين قالوا: إنه بتوقيت النَّبي صلى الله عليه وسلم، فاستدلوا بأحاديث منها: ما رواه مسلم في صحيحه، وحدثني محمد بن حاتم، وعبد بن حميد، كلاهما عن محمد بن بكر، قال عبد: أخبرنا محمد، أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، يسأل عن المهل؟ فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال: مهل أهل المدينة، من ذي الحليفة والطريق الآخر الجحفة، ومهل أهل العراق: من ذات عرق، ومهل أهل نجد: من قرن. ومهل أهل اليمن: من يلملم. انتهى منه. وهذا الإسناد صحيح كما ترى إلا أنه ليس فيه الجزم برفع الحديث إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم. وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: فهذا إسناد صحيح، لكنه لم يجزم برفعه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم: فلا يثبت رفعه بمجرد هذا، ورواه ابن ماجه من رواية إبراهيم بن يزيد الخوزي بضم الخاء المعجمة بإسناده عن جابر مرفوعاً بغير شك، لكن الخوزي ضعيف، لا يحتج بروايته ورواه الإمام أحمد في مسنده، عن جابر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، بلا شك أيضاً، لكنه من رواية الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، وعن عائشة «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل العراق: ذات عرق» رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم بإسناد صحيح، لكن نقل ابن عدي: أن أحمد بن حنبل أنكر على أفلح بن حميد روايته هذه، وانفراده به مع أنه ثقة، وعن الحارث بن عمرو السهمي الصحابي رضي الله عنه: «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل العراق: ذات عرق» رواه أبو داود، وعن عطاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «أنه وقت لأهل المشرق: ذات عرق» رواه البيهقي، والشافعي بإسناد حسن، عن عطاء، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وعطاء من كبار التابعين. وقد قدمنا في مقدمة هذا الشرح أن مذهب الشافعي الاحتجاج بمرسل كبار التابعين، إذا اعتضد بأحد أربعة أمور.
منها: أن يقول به بعض الصحابة، أو أكثر العلماء، وهذا قد اتفق على العمل به الصحابة، ومن بعدهم، قال البيهقي: هذا هو الصحيح من رواية عطاء أنه رواه مرسلاً، قال: وقد رواه الحجاج بن أرطاة، عن عطاء وغيره متصلاً، والحجاج ظاهر الضعف. انتهى كلام النووي. وقال صاحب نصب الراية: وأخرجه الدارقطني في سننه، وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى الموصلي في أسانيدهم، عن حجاج، عن عطاء، عن جابر. وحجاج لا يحتج به، وذكر الحافظ في الفتح أن أحمد روى هذا الحديث من طريق ابن لهيعة من غير شك في الرفع.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي دليلاً أن ذات عرق، وقتها النَّبي صلى الله عليه وسلم لأهل العراق، والدليل على ذلك من وجهين:
أحدهما: أن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، في أحاديث منها: ما هو صحيح الإسناد، ومنها: ما في إسناده كلام، وبعضها يقوي بعضاً.
قال أبو داود رحمه الله في سننه: حدثنا هشام بن بهرام المدائني، ثنا المعافى بن عمران، عن أفلح يعني: ابن حميد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق» انتهى من سنن أبي داود، وهذا الإسناد صحيح كما ترى، لأن طبقته الأولى هشام بن بهرام المدائني أبو محمد، وهو ثقة، وطبقته الثانية: المعافى بن عمران الأزدي الفهمي أبو مسعود الموصلي، وهو ثقة عابد فقيه. وطبقته الثالثة: أفلح بن حميد بن نافع المدني أبو عبد الرحمن، ويقال له: ابن صغيراء، وهو ثقة، وطبقته الرابعة، والخامسة القاسم بن أبي بكر، عن عمته عائشة رضي الله عنها، فهذا إسناد في غاية الصحة كما ترى.
وقال النسائي في سننه: حدثنا محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، قال: حدثنا أبو هاشم محمد بن علي عن المعافى، عن أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة قالت «وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة: ذا الحُليفة، ولأهل الشام ومصر: الجحفة، ولأهل العراق: ذات عرق، ولأهل نجد: قرناً، ولأهل اليمن: يلملم» وهذا إسناد صحيح أيضاً، لأن طبقته الأولى محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وهو ثقة حافظ، وطبقته الثانية هي أبو هاشم محمد بن علي الأسدي، وهو ثقة عابد وباقي الإسناد، هو ما تقدم الآن في إسناد أبي داود، وكلهم ثقات كما أوضحناه الآن، فهذا الإسناد لا شك في صحته ومتنه فيه التصريح بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق لأهل العراق.
واعلم أن تضعيف من ضعف هذا الحديث بأن الإمام أحمد رحمه الله، أنكر على أفلح بن حميد ذكره في هذا الحديث لذات عرق، وأنه انفرد بذلك غير مسلم لأن أفلح بن حميد ثقة وزيادة العدل مقبولة، ولا يضره انفراد المعافى بن عمران أيضاً لأنه ثقه، وكم من حديث صحيح غريب انفرد به ثقة عن ثقة، كما هو معلوم في الأصول وعلم الحديث. وقال الشيخ الذهبي رحمه الله في ميزان الاعتدال في نقد الرجال في ترجمة أفلح بن حميد المذكور: وثقه ابن معين، وأبو حاتم. وقال ابن صاعد: كان أحمد ينكر على أفلح بن حميد قوله: ولأهل العراق ذات عرق، وقال ابن عدي في الكامل: هو عندي صالح، وهذا الحديث ينفرد به المعافى بن عمران، عن أفلح، عن القاسم عن عائشة.
قلت: هو صحيح غريب. انتهى كلام الذهبي. وتراه صرح بأن هذا الحديث صحيح غريب، مع أن هذا الحديث في توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق، لأهل العراق له شواهد متعددة.
منها: حديث جابر في صحيح مسلم، وإن كان لم يجزم فيه بالرفع، لأن قوله: أحسبه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ظن من أبي الزبير أن جابراً رفع الحديث، وهذا الظن يقوي الروايات، التي فيها الجزم بالرفع.
ومنها: ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عتبة بن عبد الملك السهمي، حدثني زرارة بن كريم: أن الحارث بن عمرو السهمي، حدثه: قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمنى أو بعرفات، وقد أطاف به الناس قال: فتجيء الأعراب، فإذا رأوا وجهه قالوا: هذا وجه مبارك، قال: ووقت ذات عرق: لأهل العراق. انتهى منه. وهذا الإسناد لا يقل عن درجة الحسن، لأن طبقته الأولى: عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر المقعد التميمي المِنْقَري، وهو ثقة ثبت رمِيَ بالقدر، وطبقته الثانية: عبد الوارث وهو ابن سعيد بن ذكوان العنبري مولاهم أبو عبيدة التنوري، وهو ثقة ثبت رمِيَ بالقدر ولم يثبت عنه، وطبقته الثالثة: عتبة بن عبد الملك السهمي، وهو بصري. ذكره ابن حبان في الثقات، وطبقته الرابعة: زرارة بن كريم بن الحارث بن عمرو السهمي، وهو له رؤية،
وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وطبقته الخامسة: الحارث بن عمرو السهمي الباهلي رضي الله عنه وهو صحابي، فهذا الإسناد لا يقل عن درجة الحسن، وهو صالح لأن يعتضد به حديث عائشة المتقدم عند أبي داود، والنسائي الذي قدمنا: أن إسناده صحيح، وقد سكت أبو داود على هذا الحديث. ومعلوم أن أبا داود إذا سكت على حديث، فهو صالح للاحتجاج عنده، كما قدمناه مراراً. وقد ذكر ابن حجر في الإصابة في ترجمة الحارث بن عمر والمذكور: أن حديثه هذا صححه الحاكم، ولم يتعقب ذلك بشيء. وذكر البخاري هذا الحديث في تاريخه في ترجمة زرارة بن كريم بالسند الذي رواه به أبو داود، ولم يتعقبه بشيء.
ومنها: ما رواه أحمد، وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وأبو يعلى الموصلي في مسانيدهم والدارقطني في سننه: عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت ذات عرق: لأهل العراق من غير شك في الرفع، وقد قدمنا في كلام النووي، والزيلعي، وابن حجر: أن في إسناده ابن لهيعة، والحجاج بن أرطاة، وكلاهما ضعيف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لا شك أن رواية الحجاج بن أرطاة معتبر بها صالحة لاعتضاد غيرها، ومن أجل ذلك أخرج له مسلم في صحيحه مقروناً بغيره، كما قاله الذهبي في الميزان، وقد أثنى عليه غير واحد، وروى عنه شعبة وقال: اكتبوا حديث حجاج بن أرطاة، وابن إسحاق، فإنهما حافظان. وقال فيه الثوري: ما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه، وقال فيه حماد بن زيد: كان أقهر عندنا لحديثه من سفيان. وقال فيه الذهبي في الميزان: هو أحد الأعلام على لين في حديثه. وقال فيه الذهبي: وأكثر ما نقم عليه التدليس، وفيه تيه لا يليق بأهل العلم، وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق كثير الخطأ والتدليس ا هـ.
وعلى كل حال: فلا شك في الاعتبار بروايته، وصلاحها لتقوية غيرها، وابن لهيعة لا شك في أن روايته تعضد غيرها، وقد أخرج له مسلم أيضاً مقروناً بغيره. وقد قدمنا الكلام عليه. وعلى كل حال فرواية الحجاج وابن لهيعة عاضدة للرواية الصحيحة. ومنها الحديث الذي رواه عطاء مرسلاً كما قدمنا في كلام النووي، وقد قال: إنه رواه الشافعي والبيهقي بإسناد حسن ومرسل عطاء هذا في توقيت النبي صلى الله عليه وسلم: ذات عرق لأهل العراق محتج به عند الأئمة الأربعة. أما مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، فالمشهور عنهم الاحتجاج بالمرسل كما قدمناه مراراً. وأما الشافعي: فقد قدمنا عن النووي: أنه يعمل بمرسل التابعي الكبير إن قال به بعض الصحابة أو أكثر أهل العلم، ومرسل عطاء هذا أجمع على العمل به الصحابة، فمن بعدهم إلى غير ذلك من الأدلة العاضدة، لأن توقيت ذات عرق لأهل العراق من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن حجر في فتح الباري بعد أن ساق بعض طرق حديث توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق لأهل العراق ما نصه: وهذا يدل على أن للحديث أصلاً، فلعل من قال: إنه غير منصوص لم يبلغه، ورأى ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق لا يخلو من مقال. انتهى محل الغرض منه.
وقد بينا أن بعض روايات هذا الحديث صحيحة، ولا يضرها انفراد بعض الثقات بها.
الأمر الثاني من الأمرين المذكورين في أول هذا المبحث: هو إنما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر، مما يدل على أن توقيت ذات عرق، لأهل العراق باجتهاد من عمر، كما قدمناه لا يعارض هذه الأدلة التي ذكرناها، على أنه منصوص، لاحتمال أن عمر لم يبلغه ذلك، فاجتهد فوافق اجتهاده توقيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو رضي الله عنه معروف أنه وافقه الوحي في مسائل متعددة، فلا مانع من أن تكون هذه منها لا شرعاً ولا عقلاً ولا عادة. وأما إعلال بعضهم حديث ذات عرق، بأن العراق لم تكن فتحت يومئذ فقد قال فيه ابن عبد البر: هي غفلة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت لأهل النواحي قبل الفتوح، لأنه علم أنها ستفتح، فلا فرق في ذلك بين الشام والعراق. انتهى بواسطة نقل ابن حجر في الفتح.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن المواقيت الخمسة التي ذكرنا، مواقيت أيضاً لكل من مر عليها من غير أهلها، وهو يريد النسك حجاً كان أو عمرة، ففي حديث ابن عباس المتفق عليه، الذي ذكرناه في أول هذا المبحث بعد ذكر المواقيت المذكورة «هُنَّ لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهنَّ لمن كان يريد الحج والعمرة» هذا لفظ البخاري في صحيحه من رواية ابن عباس: وفي لفظ في البخاري، عن ابن عباس: «هُنَّ لأهلهن ولكل آتٍ أتى عليهنَّ من غيرهم ممن أراد الحج والعمرة» وكلا اللفظين في صحيح مسلم من رواية ابن عباس وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
الفرع الثاني: اعلم أن من كان مسكنه أقرب إلى مكة من الميقات، فميقاته من موضع سكناه، ففي حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور آنفاً: «فمن كان دونهن فمهله من أهله» وفي رواية «فمن كان دونهن فمن أهله» وفي لفظ «ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ» كل هذه بالألفاظ في صحيح البخاري من حديث ابن عباس مرفوعاً، واللفظان الأخيران منها في صحيح مسلم أيضاً من حديث ابن عباس، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
الفرع الثالث: اعلم أن أهل مكة يهلون من مكة، وفي حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور آنفاً «حتى أهل مكة، يهلون منها»، وفي لفظ: «حتى أهل مكة يهلون من مكة»، وكلا اللفظين في الصحيحين من حديث ابن عباس المذكور، وهذا بالنسبة إلى الإهلال بالحج، لا خلاف فيه بين أهل العلم إلا ما ذكره بعضهم من أن المكي يجوز له أن يحرم من أي موضع من الحرم، ولو خارجاً عن مكة وهو ظاهر السقوط لمخالفته للنص الصريح، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إهلال المكي بالعمرة، فجماهير أهل العلم على أنه لا يهل بالعمرة من مكة، بل يخرج إلى الحل، ويحرم منه، وهو قول الأئمة الأربعة وأصحابهم، وحكى غير واحد عليه الإجماع.
قال صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي: الوقت لأهل مكة الحرم في الحج، والحل في العمرة للإجماع على ذلك. انتهى منه.
وقال ابن قدامة في المغني في الكلام على ميقات المكي: وإن أراد العمرة فمن الحل، لا نعلم في هذا خلافاً. انتهى منه.
وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على ميقات أهل مكة: وأما المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل، كما سيأتي بيانه في أبواب العمرة.
قال المحب الطبري: لا أعلم أحداً جعل مكة ميقاناً للعمرة. انتهى محل الغرض منه.
وقال ابن القيم: إن أهل مكة لا يخرجون من مكة للعمرة، وظاهر صنيع البخاري أنه يرى إحرامهم من مكة بالعمرة، حيث قال: باب مهل أهل مكة للحج والعمرة، ثم ساق بسنده حديث ابن عباس المذكور، ومحل الشاهد عنده منه المطلق للترجمة هي قوله: «حتى أهل مكة من مكة» فقوله في الترجمة باب مهل أهل مكة للحج والعمرة، وإيراده لذلك، حتى أهل مكة يهلون من مكة، دليل واضح على أنه يرى أن أهل مكة يهلون من مكة للعمرة والحج معاً كما هو واضح من كلامه.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن دليل هذا القول هو عموم حديث ابن عباس المتفق عليه. الذي فيه حتى أهل مكة يهلون من مكة، والحديث عام بلفظه في الحج والعمرة، فلا يمكن تخصيص العمرة منه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وأما القائلون: بأنه لا بد أن يخرج إلى الحل، وهم جماهير أهل العلم كما قدمنا، فاستدلوا بدليلين.
أحدهما: ما ثبت في الصحيحين، وغيرهما من: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة في عمرتها من مكة إلى التنعيم وهو أدنى الحل. قالوا: فلو كان الإهلال من مكة بالعمرة سائغاً لأمرها بالإهلال من مكة، وأجاب المخالفون عن هذا: بأن عائشة آفاقية والكلام في أهل مكة لا في الآفاقيين، وأجاب الآخرون عن هذا بأن الحديث الصحيح، دل على أن من مر ميقات لغيره كان ميقاتاً له، فيكون ميقات أهل مكة في عمرتهم هو ميقات عائشة في عمرتها. لأنها صارت معهم عند ميقاتهم.
الدليل الثاني: هو الاستقراء وقد تقرر في الأصول: أن الاستقراء من الأدلة الشرعية، ونوع الاستقراء المعروف عندهم بالاستقراء التام حجة بلا خلاف، وهو عند أكثرهم دليل قطعي، وأما الاستقراء الذي ليس بتام وهو المعروف عندهم بإلحاق الفرد بالأغلب فهو حجة ظنية عند جمهورهم. والاستقراء التام المذكور هو: أن تتبع الأفراد، فيؤخذ الحكم في كل صورة منها، ما عدا الصورة التي فيها النزاع، فيعلم أن الصورة المتنازع فيها حكمها حكم الصور الأخرى التي ليست محل نزاع.
وإذا علمت هذا فاعلم أن الاستقراء التام أعني تتبع أفراد النسك، دل على أن كل نسك من حج أو قران أو عمرة، غير صورة النزاع لا بد فيه من الجمع بين الحل والحرم، حتى يكون صاحب النسك زائراً قدماً على البيت من خارج كما قال تعالى {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ}. فالمحرم بالحج أو القران من مكة لا بد أن يخرج إلى عرفات: وهي في الحل، والآفاقيون يأتون من الحل لحجهم وعمرتهم، فجميع صور النسك غير صورة النزاع، لا بد فيها من الجمع بين الحل والحرم، فيعلم بالاستقراء التام أن صورة النزاع لا بد فيها من الجمع أيضاً بين الحل والحرم، وإلى مسألة الاستقراء المذكورة أشار في مراقي السعود بقوله: ومنه الاستقراء بالجزئي على ثبوت الحكم للكلبي
فإن يعم غير ذي الشقاق فهو حجة بالاتفاق الخ

وقوله: فإن يعم البيت: يعني أن الاستقراء إذا عم الصور كلها غير صورة النزاع فهو حجة في صورة النزاع بلا خلاف، والشقاق الخلاف. فقوله: غير ذي الشقاق: أي غير محل النزاع.
واعلم أن جماعة من أهل العلم يقولون: إن أهل مكة ليس لهم التمتع، ولا القران، فالعمرة في التمتع والقران ليست لهم، وإنما لهم أن يحجوا بلا خلاف والعمرة منهم في غير تمتع، ولا قران جائزة عند جل من لا يرون عمرة التمتع والقران لأهل مكة، وممن قال لا تمتع ولا قران لأهل مكة: أبو حنيفة وأصحابه، ونقله بعض الحنفية عن ابن عمر وابن عباس، وابن الزبير، وهو رأي البخاري رحمه الله كما ذكره في صحيحه، ومنشأ الخلاف في أهل مكة هل لهم تمتع أو قران أو لا؟ هو اختلاف العلماء في مرجع الإشارة في قوله تعالى {ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} فالذين قالوا: لأهل مكة تمتع وقران كغيرهم، قالوا: الإشارة راجعة إلى الهدي والصوم، ومفهومه أن من كان أهله حاضري المسجد الحرام إذا تمتع فلا هدي عليه ولا صوم، والذين قالوا: ليس لأهل مكة تمتع ولا قران، قالوا: الإشارة راجعة إلى قوله {فَمَن تَمَتَّعَ} أي ذلك التمتع {لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} أما من كان أهله حاضري المسجد الحرام، فلا تمتع له والقران داخل في اسم التمتع في عرف الصحابة، كما تقدم إيضاحه، والذين قالوا هذا القول زعموا أن في الآية بعض القرائن الدالة عليه، منها التعبير باللام في قوله {لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ}، لأن اللام تستعمل فيما لنا لا فيما علينا، والتمتع لنا أن نفعله، وأن لا نفعله بخلاف الهدي، فهو علينا وكذلك الصوم عند العجز عن الهدي، ومنها: أنه جمع في الإشارة بين اللام والكاف، وذلك يدل على شدة البعد والتمتع أبعد في الذكر من الهدي والصوم.
وأجاب المخالفون: بأن الإشارة ترجع إلى أقرب مذكور وهو الهدي، والصوم، وأن الإشارة إلى القريب إشارة البعيد أسلوب عربي معروف، وقد ذكره البخاري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ومنه قوله {ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ} أي هذا القرآن. لأن الكتاب قريب، ولذا تكثر الإشارة إليه بإشارة القريب كقوله {إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} وقوله {وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ} وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، ومن إطلاق إشارة البعد على القريب قول خفاف بن ندية السلمي: فإن تَكُ خيلي قد أصيب صَميمها فعمداً على عيني تيممَّتُ مالكا
أقول له والرُّمح يأطر مَتْنُه تأمَّل خفافاً إنني أنا ذَلِكا

فقد أشار إلى نفسه إشارة البعيد، ومعلوم أنه لا يمكن أن يكون بعيداً من نفسه قالوا: واللام تأتي بمعنى على كقوله {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَ} أي فعليها وقوله تعالى {وَيَخِرُّونَ لِلاٌّذْقَانِ} أي على الأذقان، ومنه قول الشاعر، وقد قدمناه في أول سورة هود: هتكت له بالرمح جيبَ قميصِه فخرَّ صريعاً لليديْن ولِلْفَم

وفي الحديث «واشترطي لهم الولاء» أو أن المراد ذلك الحكم بالهدي والصوم مشروع، لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أقرب أقوال أهل العلم عندي للصواب في هذه المسألة: أن أهل مكة لهم أن يتمتعوا، ويقرنوا وليس عليهم هدي، لأن قوله تعالى {فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ} عام بلفظه في جميع الناس من أهل مكة، وغيرهم ولا يجوز تخصيص هذا العموم، إلا بمخصص يجب الرجوع إليه، وتخصيصه بقوله {ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} لا يجب الرجوع إليه، لاحتمال رجوع الإشارة إلى الهدي والصوم، لا إلى التمتع كما أوضحناه، وأن المكي إذا أراد العمرة خرج إلى الحل فأحرم منه، والدليل على هذا هو ما قدمناه من إرسال النَّبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها، مع أخيها لتحرم بعمرتها من التنعيم، وهو نص متفق على صحته، وقول من قال: إن النَّبي أرسلها مع أخيها لتلك العمرة تطييباً لخاطرها، لا تقوم به حجة ألبتة، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يأمرها بعمرة، وهي نسك وعبادة إلا على الوجه المشروع لعامة الناس لاستواء جميع الناس في أحكام التكليف، فعمرتها المذكورة نسك قطعاً، والحالة التي أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بأداء ذلك النسك عليها، لا شك أنها مشروعة لجميع الناس إلا فيما قام دليل يجب الرجوع إليه بالخصوص، وقصة عمرة عائشة المذكورة لم يثبت فيها دليل على التخصيص والعلم عند الله تعالى.
الفرع الرابع: اعلم أن من سلك إلى الحرم طريقاً لا ميقات فيها فميقاته المحل المحاذي، لأقرب المواقيت إليه، كما يدل عليه ما قدمناه في صحيح البخاري، من توقيت عمر ذات عرق لأهل العراق لمحاذاتها قرن المنازل. وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
الفرع الخامس: قد قدمنا في حديث النسائي أن الجحفة ميقات لأهل مصر وأهل الشام، وعليه فميقات أهل مصر منصوص، والحديث المذكور قد قدمنا أنه صحيح الإسناد.
الفرع السادس: أظهر قولي أهل العلم عندي: أن أهل الشام، ومصر مثلاً إذا قدموا المدينة، فميقاتهم من ذي الحليفة، وليس لهم أن يؤخروا إحرامهم إلى ميقاتهم الأصلي الذي هو الجحفة، أو ما حاذاها. لظاهر حديث ابن عباس المتفق عليه: فَهُنَّ لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن. وقس على ذلك.
الفرع السابع: اعلم أن جمهور أهل العلم على أن من جاوز ميقاته من المواقيت المذورة غير محرم، وهو يريد النسك أن عليه دماً، ودليله في ذلك أثر ابن عباس، الذي قدمناه موضحاً: «من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً»، قالوا: ومن جاوز الميقات غير محرم، وهو يريد النسك فقد ترك من نسكه شيئاً، وهو الإحرام من الميقات، فيلزمه الدم.
وأظهر أقوال أهل العلم عندي: أنه إن جاوز الميقات، ثم رجع إلى الميقات، وهو لم يحرم أنه لا شيء عليه، لأنه لم يبتدىء إحرامه، إلا من الميقات، وأنه إن جاوز الميقات غير محرم، وأحرم في حال مجاوزته الميقات، ثم رجع إلى الميقات محرماً أن عليه دماً لإحرامه بعد الميقات، ولو رجع إلى الميقات فإن ذلك لا يرفع حكم إحرامه مجاوزاً للميقات. والله تعالى أعلم.
الفرع الثامن: في الكلام على مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس المتفق عليه ممن أراد النسك، ومفهومه صادق بصورتين:
إحداهما: أن يمر إنسان على واحد من هذه المواقيت المذكورة وهو لا يريد النسك، ولا دخول مكة أصلاً كالذي يمر بذي الحليفة قاصداً الشام أو نجداً مثلاً وهذه الصورة لا خلاف في أنه لا يلزمه فيها الإحرام، وأن مفهوم قوله: ممن أراد النسك دالاً على أنه لا إحرام عليه في هذه الصورة.
والثانية: هي أن يمر على واحد من هذه المواقيت وهو لا يريد حجاً، ولا عمرة، ولكنه يريد دخول مكة، لقضاء حاجة أخرى.
وهذه الصورة اختلف فيها أهل العلم، فقال بعض أهل العلم: لا يجوز لأحد دخول مكة بغير إحرام، ولو كان دخوله لغرض آخر غير النسك. وقال بعضهم: إذا كان دخوله مكة لغرض غير النسك، فلا مانع من دخوله غير محرم، والخلاف في هذه المسألة مشهور بين أهل العلم.
وقال ابن حجر في فتح الباري: في باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام في هذه المسألة: وقد اختلف العلماء في هذا. فالمشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقاً، وفي قول: يجب مطلقاً، وفيمن يتكرر منه دخولها خلاف، وهو أولى بعدم الوجوب. والمشهور عن الأئمة الثلاثة: الوجوب. وفي رواية عن كل منهم لا يجب، وهو قول ابن عمر والزهري والحسن، وأهل الظاهر، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة، واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات، وزعم ابن عبد البر أن أكثر الصحابة والتابعين على القول بالوجوب. انتهى كلام ابن حجر. ونقل النووي في شرح مسلم عن القاضي عياض: أن هذا هو قول أكثر العلماء.
وإذا علمت اختلاف العلماء في هذه المسألة فهذه تفاصيل أدلتهم. أما الذين قالوا: إنه لا يجوز دخول مكة بغير إحرام إلا للمترددين عليها كثيراً كالحطابين، وذوي الحاجات المتكررة كالمالكية والحنابلة، ومن وافقهم فقد استدلوا بأدلة:
منها قول بعضهم: إن من نذر دخول مكة لزمه الإحرام. قالوا: ولو لم يكن واجباً لم يجب بنذر الدخول كسائر البلدان.
ومنها: ما رواه البيهقي في سننه أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني، أنبأ أبو سعيد بن الأعرابي، ثنا سعدان بن نصر، ثنا إسحاق الأزرق، عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال: ما يدخل مكة أحد من أهلها، ولا من غير أهلها إلا بإحرام، ورواه إسماعيل بن مسلم، عن عطاء عن ابن عباس: فوالله ما دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حاجاً أو معتمراً.
انتهى من البيهقي. وقال ابن حجر في التلخيص: حديث ابن عباس لا يدخل أحد مكة إلا محرماً. رواه البيهقي من حديثه، وإسناده جيد، ورواه ابن عدي مرفوعاً من وجهين ضعيفين، ولابن أبي شيبة من طريق طلحة، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لا يدخل أحد مكة بغير إحرام، إلا الحطابين والعمالين، وأصحاب منافعها. وفيه طلحة بن عمرو فيه ضعف. وروى الشافعي عن ابن عيينة، عن عمرو، عن أبي الشعثاء: أنه رأى ابن عباس يرد من جاوز الميقات غير محرم. ا هـ منه.
ومنها: أن دخول مكة بغير إحرام مناف للتعظيم اللازم لها.
وأما الذين قالوا: بجواز دخول مكة بلا إحرام لمن لم يرد نسكاً، فاحتجوا بأدلة.
منها: ما رواه البخاري في صحيحه، قال: باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام. ودخل ابن عمر وإنما أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بالإهلال لمن أراد الحج والعمرة، ولم يذكر الحطابين وغيرهم. ثم ساق بسنده حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور سابقاً وفيه «هن لهن ولكل آت أتى عليهن من غيرهم ممن أراد الحج والعمرة» الحديث ومراد البخاري رحمه الله أن مفهوم قوله: ممن أراد الحج والعمرة أن من لم يرد الحج، والعمرة لا إحرام عليه، ولو دخل مكة.
وقال ابن حجر في الفتح في الكلام على هذا الحديث وحاصله: أنه خص الإحرام بمن أراد الحج والعمرة واستدل بمفهوم قوله في حديث ابن عباس: ممن أراد الحج والعمرة، فمفهومه:
أن المتردد إلى مكة لغير قصد الحج والعمرة لا يلزمه الإحرام. انتهى محل الغرض منه ثم قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح، وعلى رأسه المِغفَر فلما نزعه جاء رجل فقال: إن ابن خَطَلٍ متعلق بأستار الكعبة فقال: اقتلوه» انتهى منه فقول أنس في هذا الحديث الصحيح: دخل عام الفتح، وعلى رأسه المغفر، دليل على أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح بغير إحرام، كما هو واضح، وحديث أنس هذا أخرجه مالك في الموطأ، وزاد: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرماً، وأخرجه أيضاً مسلم في صحيحه باللفظ الذي ذكره البخاري في باب جواز دخول مكة بغير إحرام.
وقال مسلم رحمه الله في صحيحه أيضاً: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، وقتيبة بن سعيد الثقفي، قال يحيى: أخبرنا، وقال قتيبة: حدثنا معاوية بن عمار الدُّهنيُّ، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله الأنصاري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة» وقال قتيبة «دخل يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء بغير إحرام» وفي رواية قتيبة قال: حدثنا أبو الزبير، عن جابر، وفي رواية أخرى عند مسلم عن جابر أيضاً: «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء» وفي رواية عند مسلم من طريق جعفر بن عمرو بن حُرَيْثٍ، عن أبيه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عمامة سوداء» وفي لفظ لمسلم، عن جعفر بن عمرو بن حُرَيْثٍ، عن أبيه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وعليه عمامة سوداء، قد أرخى طرفيها بين كتفيه. ولم يقل أبو بكر: على المنبر. انتهى منه.
فإن قيل: في بعض هذه الأحاديث الصحيحة: أنه دخل مكة، وعلى رأسه المغفر، وفي بعضها: أنه دخل وعليه عمامة سوداء.
فالجواب: أن العلماء جمعوا بين الروايتين. قال القاضي عياض: وجه الجمع بينهما أن أول دخوله كان على رأسه المغفر، ثم بعد ذلك كان على رأسه العمامة بعد إزالة المغفر، بدليل قوله: خطب الناس، وعليه عمامة سوداء، لأن الخطبة إنما كانت عند باب الكعبة بعد تمام فتح مكة، وجمع بعض أهل العلم بينهما بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر وكانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدأ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متهيئاً للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم انتهى محل الغرض منه من فتح الباري. وقال ابن حجر في الفتح في قول البخاري: ودخل ابن عمر وصله مالك رحمه الله في الموطأ عن نافع قال: أقبل عبد الله بن عمر من مكة، حتى إذا كان بِقُدَيْدٍ (يعني بضم القاف) جاءه خبر من المدينة، فرجع فدخل مكة بغير إحرام ا هـ منه، وقد ذكر مالك في الموطأ في جامع الحج بلفظ: جاءه خبر من المدينة يدل عن الفتنة، وباقي اللفظ كما ذكره ابن حجر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي دليلاً: أن من أراد دخول مكة حرسها الله لغرض غير الحج والعمرة أنه لا يجب عليه الإحرام، ولو أحرم كان خيراً له، لأن أدلة هذا القول أقوى وأظهر فحديث ابن عباس المتفق عليه: خص فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم الإحرام بمن أراد النسك. وظاهره أن من لم يرد نسكاً فلا إحرام عليه. وقد رأيت الروايات الصحيحة بدخول النَّبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح غير محرم، ودخول ابن عمر غير محرم والعلم عند الله تعالى.
وأما قول بعض أهل العلم من المالكية وغيرهم أن دخول مكة بغير إحرام من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فهو لا تنهض به حجة، لأن المقرر في الأصول وعلم الحديث أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يختص حكمه به إلا بدليل يجب الرجوع إليه، لأنه هو المشرع لأمته بأقواله وأفعاله وتقريره كما هو معلوم. الفرع التاسع: في حكم تأخير الإحرام عن الميقات، وتقديمه عليه قد قدمنا أنه لا يجوز تأخير الإحرام عن الميقات ممن يريد حجاً أو عمرة، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وقد قدمنا دليله، وأما ما رواه مالك رحمه الله في الموطأ عن نافع: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أهل من الفُرْعِ. ومعلوم أن الفرع وراء ميقات أهل المدينة الذي هو ذو الحليفة، فهو محمول عند أهل العلم كما ذكره ابن عبد البر وغيره، على أنه وصل الفرع وهو لا يريد النسك فطرأت عليه نية النسك بالفرع، فأهل منه، وهذا متعين، لأن ابن عمر رضي الله عنهما ممن روى المواقيت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فمن المعلوم أنه لا يخالف ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الإحرام من موضع فوق الميقات، فأكثر أهل العلم على جوازه وحكى غير واحد عليه الاتفاق.
واختلفوا في الأفضل من الأمرين وهما الإحرام من الميقات أو الإحرام من بلده إن كان أبعد من الميقات؟ قال النووي في شرح المهذب: أجمع من يعتد به من السلف والخلف من الصحابة، فمن بعدهم، على أنه يجوز الإحرام من الميقات ومما فوقه. وحكى العبدري وغيره عن داود أنه قال: لا يجوز الإحرام مما فوق الميقات، وأنه لو أحرم مما قبله لم يصح إحرامه، ويلزمه أن يرجع، ويحرم من الميقات. وهذا الذي قاله مردود عليه بإجماع من قبله. انتهى كلام النووي.
وحجة من قال: إن الإحرام من الميقات أفضل أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أحرم في حجته وعمرته من الميقات الذي هو ذو الحليفة، وهذا مجمع عليه من أهل العلم، وأحرم معه في حجه وعمرته أصحابه كلهم من الميقات، وكذلك كان يفعل بعده خلفاؤه الراشدون وغيرهم من الصحابة والتابعين، وجماهير العلماء، وأهل الفضل فترك النبي صلى الله عليه وسلم الإحرام في مسجده الذي صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وإحرامه من الميقات دليل واضح، لا شك فيه أن السنة هي الإحرام من الميقات، لا مما فوقه، واحتج من قال:
يكون الإحرام مما فوق الميقات أفضل بما رواه أبو داود في سننه: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن أبي فُدَيك، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يُحنَّس، عن يحيى بن أبي سفيان الأخنسي، عن جدته حكيمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة» شك عبد الله أيتهما قال: قال أبو داود: يرحم الله وكيعاً أحرم من بيت المقدس، يعني إلى مكة. انتهى من سنن أبي داود. واحتج أهل هذا القول أيضاً بتفسير عمر، وعلي رضي الله عنهما لقوله {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، واحتجوا أيضاً بما رواه مالك في الموطأ عن الثقة عنده أن عبد الله بن عمر: أهَلَّ من إيلياء. وهي بيت المقدس، ورد المخالفون استدلال هؤلاء بأن حديث أم سلمة: ليس بالقوي.
قال النووي في شرح المهذب: وأما حديث أم سلمة، فرواه أبو داود، وابن ماجه، والبيهقي، وآخرون وإسناده ليس بالقوي، وبأن تفسير علي وعمر رضي الله عنهما للآية، وفعل ابن عمر كلاهما مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله في حجته تفسير لآيات الحج. وقد قال صلى الله عليه وسلم «خذوا عني مناسككم» وإحرامه من الميقات مجمع عليه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي دليلاً هو: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والإحرام من الميقات، فلو كان الإحرام قبله فيه فضل لفعله صلى الله عليه وسلم، والخير كله في اتباعه صلى الله عليه وسلم.
وقال النووي في شرح المهذب، بعد أن يبين أن الإحرام من الميقات أفضل من غير ما نصه: فإن قبل: إن النبي صلى الله عليه وسلم، أحرم من الميقات لبيان جوازه.
فالجواب من أوجه:
أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد بين الجواز بقوله صلى الله عليه وسلم «مهل أهل المدينة من ذي الحليفة».
الثاني: أن بيان الجواز فيما يتكرر فعله، ففعله صلى الله عليه وسلم مرة أو مرات يسيرة على أقل ما يجزىء بياناً للجواز ويداوم في عموم الأحوال، على أكمل الهيئات، كما توضأ مرة في بعض الأحوال ودوام على الثلاث، ونظائر هذا كثيرة، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أحرم من المدينة، وإنما أحرم بالحج وعمرة الحديبية من ذي الحليفة.
الثالث: أن بيان الجواز إنما يكون في شيء اشتهر أكمل أحواله بحيث يخاف أن يظن وجوبه، ولم يوجد ذلك هنا، وهذا كله إنما يحتاج إليه على تقدير دليل صريح صحيح في مقابلته ولم يوجد ذلك، فإن حديث أم سلمة قد سبق أن إسناده ليس بالقوي فيجاب عنه بأربعة أجوبة.
الأول: أن إسناده ليس بقوي.
الثاني: أن فيه بيان فضيلة الإحرام من فوق الميقات وليس فيه أنه أفضل من الميقات. ولا خلاف أن الإحرام من فوق الميقات فيه فضيلة، وإنما الخلاف أيهما أفضل.
فإن قيل: هذا الجواب يبطل فائدة تخصيص المسجد الأقصى.
فالجواب: أن فيه زيادة هي تبيين قدر الفضيلة فيه.
والثالث: أن هذا معارض لفعله صلى الله عليه وسلم المتكرر في حجته وعمرته، فكان فعله المتكرر أفضل. الرابع: أن هذه الفضيلة جاءت في المسجد الأقصى لأن له مزايا عديدة معروفة، ولا يوجد ذلك في غيره، فلا يلحق به والله تعالى أعلم. اتهى كلام النووي. ولا شك: أن مسجد النَّبي صلى الله عليه وسلم أفضل من المسجد الأقصى، بدليل الحديث المتفق عليه «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» ولا خلاف بين أهل العلم في دخول المسجد الأقصى في هذا العموم، وتفضيل مسجد النَّبي صلى الله عليه وسلم عليه في الجملة، فلو كان فضل المكان سبباً للإحرام فيه قبل الميقات، لأحرم النَّبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، لأنه لا يفعل إلا ما هو الأفضل والأكمل صلوات الله وسلامه عليه، ولا يخفى أن الاقتداء بالنَّبي صلى الله عليه وسلم أفضل وأكمل من غيره.
الفرع العاشر: في حكم تقديم الإحرام على ميقاته الزماني، الذي هو أشهر الحج التي تقدم بيانها.
اعلم أن جماعة من أهل العلم قالت: لا يعتقد الإحرام بالحج في غير أشهر الحج، وأكثر من قال بهذا يقولون: إنه إن أحرم بالحج في غير أشهره ينعقد إحرامه بعمرة لا حج، وهذا هو مذهب الشافعي. قال النووي في شرح المهذب: وبه قال عطاء، وطاوس، ومجاهد، وأبو ثور. ونقله الماوردي عن عمر، وابن مسعود، وجابر، وابن عباس وأحمد. وقال الأوزاعي: يتحلل بعمرة. وقال ابن عباس: لا يحرم بالحج إلا في أشهره. وقال داود: لا ينعقد. وقال النخعي والثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأحمد: يجوز قبل أشهر الحج، ولكن يكره قالوا: فأما الأعمال فلا تجوز قبل أشهر الحج بلا خلاف، واحتج لهم بقوله تعالى {يَسْألُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ} فأخبر سبحانه وتعالى أن الأهلة كلها مواقيت للناس والحج، ولأنها عبادة تدخلها النيابة، وتجب الكفارة في إفسادها، فلم تخص بوقت كالعمرة، ولأن الإحرام بالحج يصح في زمان لا يمكن إيقاع الأفعال فيه. وهو شوال. فعلم أنه لا يختص بزمان. قالوا، ولأن التوقيت ضربان توقيت مكان وزمان. وقد ثبت أنه لو تقدم إحرامه على ميقات المكان صح، فكذا الزمان قالوا: وأجمعنا على أنه لو أحرم بالحج قبل أشهره انعقد لكن اختلفنا، هل ينعقد حجاً أو عمرة؟ فلو لم ينعقد حجاً لما انعقد عمرة. انتهى محل الغرض من كلام النووي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ومن العجيب عندي أن يستدل عالم بمثل هذه الأدلة التي هي في غاية السقوط كما ترى، لأن آية {قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ} ليس معناها: أن كل شهر منها ميقات للحج، ولكن أشهر الحج، إنما تعلم بحساب جميع الأشهر، لأنه هو الذي يتميز به وقت الحج من غيره، ولأن هذه الأدلة التي لا يعول عليها في مقابلة آية محكمة من كتاب الله صريحة في توقيت الحج بأشهر معلومات هي قوله تعالى {ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ} فتجاهل هذا النص القرآني، ومعارضته بما رأيت من الغرائب كما ترى.
والتحقيق الذي يدل عليه القرآن هو قول من قال: إن الحج لا ينعقد في غير زمنه، كما أن الصلاة المكتوبة لا ينعقد إحرامها قبل وقتها، وانقلاب إحرامه عمرة له وجه من النظر، ويستأنس له بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه المحرمين بالحج الذين لم يسوقوا هدياً أن يقلبوا حجهم الذي أحرموا به عمرة، وبأن من فاته الحج تحلل من إحرامه للحج بعمرة والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثانية عشرة ـ في التلبية في بيان أول وقتها ووقت انتهائها وفي حكمها وكيفية لفظها ومعناها:
أما لفظها: فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وفي صحيح البخاري، من حديث عائشة رضي الله عنها، ومسلم من حديث جابر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في تلبيته، إذا أهل محرماً «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمدَ والنعمةَ لك والملكَ لا شريكَ لك» ورواية البخاري عن عائشة المذكورة إلى قوله «إن الحمد والنعمة لك» وقد أجمع المسلمون على لفظ التلبية المذكورة في حديث ابن عمر المتفق عليه،
وحديث جابر، عند مسلم عند الإحرام بالحج أو العمرة. ولكن اختلفوا في الزيادة عليه بألفاظ فيها تعظيم الله، ودعاؤه، ونحو ذلك فكره بعضهم: الزيادة، على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكاه ابن عبد البر، عن مالك قال: وهو أحد قولي الشافعي: انتهى منه بواسطة نقل ابن حجر في الفتح.
وقال آخرون: لا بأس بالزيادة المذكورة، واستحب بعضهم الزيادة المذكورة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي في هذه المسألة: أن الأفضل هو الاقتداء بالنَّبي صلى الله عليه وسلم، والاقتصار على لفظ تلبيته الثابت في الصحيحين وغيرهما، لأن الله تعالى يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وهو صلى الله عليه وسلم يقول «لتأخذوا عني مناسككم» وأن الزيادة المذكورة لا بأس بها. والدليل على ذلك من وجهين:
أحدهما: ما رواه مسلم في صحيحه، عن ابن عمر رضي الله عنهما بعد أن ساق حديثه بلفظ تلبية النَّبي صلى الله عليه وسلم المذكورة قال: قال نافع: كان عبد الله رضي الله عنه، يَزِيدُ مع هذا: لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك لبيك، والرغباء إليك، والعمل. وقال مسلم رحمه الله في صحيحه أيضاً بعد أن ساق حديثه، بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ابن عمر من رواية ابنه سالم رضي الله عنه، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُهِلُّ بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الكلمات ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك والرغباء إليك والعمل. ا هـ.
وقال ابن حجر في الفتح بعد أن ذكر الرواية عن عمر وابنه عبد الله، فعرف أن ابن عمر اقتدى في ذلك بأبيه ا هـ.
ومعلوم أن الزيادة على تلبية النَّبي صلى الله عليه وسلم، لو كان فيها محذور، لما فعلها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما.
الوجه الثاني: هو ما ثبت في صحيح مسلم في حديث جابر الطويل، فإن فيه ما نصه: فأهل بالتوحيد: لبيك اللَّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يَردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئاً منه. انتهى محل الغرض من حديث جابر المذكور، وهو واضح في أنهم يزيدون على تلبيته صلى الله عليه وسلم، ويقرهم على ذلك، ولم ينكره عليهم كما ترى.
وأما أول وقتها: فأظهر أقوال أهل العلم فيه: أنه أول الوقت، الذي يركب فيه مركوبه عند إرادة ابتداء السير لصحة الأحاديث الواردة، بأنه صلى الله عليه وسلم أهل حين استوت به راحلته.
قال البخاري في صحيحه: باب من أهل حين استوت به راحلته قائمة: حدثنا أبو عاصم، أخبرنا ابن جريج، قال أخبرني صالح بن كيسان، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال: أهَلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمةً: باب الإهلال مُستقبل القِبلة، وقال أبو مَعْمَرٍ: حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما: إذا صلى بالغداة بذي الحُلَيْفَةِ، أمَرَ براحلته فَرحِلَتْ، ثم ركب، فإذا استوت به استقبل القبلة قائماً، ثم يُلَبي حتى يَبلُغَ الحرم، ثم يُمسكُ، حتى إذا جاء ذا طُوًى بات به، حتى يصبح، فإذا صلى الغداة اغتَسَلَ، وزَعَمَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. تابعه إسماعيل عن أيوب في الغَسْلِ: حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع، حدثنا فُلَيْحٌ، عن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أراد الخروج إلى مكة ادَّهَنَ بِدُهْنٍ، ليس له رائحة طيبة، ثم يأتي مسجد الحُلَيفة، فيصلي ثم يَركَبُ، وإذا استوت به راحلتُهُ قائمة أحرم، ثم قال: هكذا رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم يفعل. انتهى من صحيح البخاري.
فهذه الروايات الصحيحة الثابتة، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه صلى الله عليه وسلم أحرم حين استوت به راحلته قائمة واضحة فيما ذكرنا، من أن أول وقت الإحرام، عندما يركب حالة شروعه في السير من الميقات.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله أنه سمع أباه رضي الله عنه يقول: بَيْدَاؤكُم هذه التي تكذبون عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ما أهَلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا من عند المسجد يعني ذا الحُلَيْفَةِ، وحدثناه قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم يعني: ابن إسماعيل، عن موسى بن عقبة، عن سالم قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قيل له: الإحرام من البَيْداءِ قال: البيداء التي تَكْذِبُونَ فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أهَلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة، حين قام به بعيره. وفي لفظ لابن عمر رضي الله عنهما عند مسلم: فإني لم أرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُهلُّ حتى تنبعث به راحلته. وفي لفظ له أيضاً عند مسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا وضع رجله في الغَرْزِ، وانبعثت به راحلته قائمةً أهَلَّ من ذي الحُلَيْفَة. وفي مسلم عنه ألفاظ أخرى متعددة بهذا المعنى، ومراد ابن عمر رضي الله عنهما بكذبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإحرام من البيداء هو ما رواه البخاري، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، بلفظ: فأصبح بذي الحليفة ركب راحلته، حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه. الحديث، وما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه أيضاً، عن أنس بن مالك بلفظ قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن معه بالمدينة الظهر أربعاً والعصر بذي الحُلَيْفَة ركعتين، ثم بات بها، حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به على البيداء حمد الله وسَبَّح، وكَبَّر، ثم أهَلَّ بحج وعمرة، وأهل الناس بهما. الحديث. ومراد ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل محرماً حين استوت به راحلته قائمة من منزله بذي الحليفة، قبل أن يصل البيداء، ووجه الجمع بين حديث ابن عمر، وحديث ابن عباس، وأنس معروف عند أهل الحديث، وهو أنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ إهلاله حين استوت به راحلته قائمة فسمعه قوم، ثم لما استوت به على البيداء أعاد تلبيته فسمعه آخرون لم يسمعوا تلبيته الأولى فحدَّث كل واحد منهم بما سمع.
وقال بعضهم: أحرم في مصلاه فسمعه بعضهم، ولم يسمعه ابن عمر، حتى استوت به راحلته، وجزم ابن عمر أنه ما أهل حتى استوت به راحلته يدل على أنه علم أنه لم يهل حتى استوت به، فالأحاديث متفقة ومراد ابن عمر بالإنكار والتكذيب خاص بمن زعم أنه لم يلب قبل وصوله البيداء، وهذا الجمع ذكره ابن حجر، عن أبي داود، والحاكم وقال ابن حجر في الفتح: فائدة البيداء هذه فوق علَمي ذي الحليفة، لمن صعد من الوادي قاله أبو عبيد البكري وغيره. انتهى منه.
وإذا عرفت مما ذكرنا أول وقت التلبية. وأنه وقت انعقاد الإحرام فاعلم أن الصحيح الذي قام عليه الدليل: أن الحاج لا يقطع التلبية، حتى يشرع في رمي جمرة العقبة، وقال بعض أهل العلم: حتى ينتهي رميه إياها.
والدليل على أن القول هو الصواب دون غيره من أقوال أهل العلم هو ما ثبت في صحيح مسلم من حديث الفضل بن العباس رضي الله عنهما، وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من مزدلفة إلى منى، ففي لفظ لمسلم عن الفضل بن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يُلَبي حتى بلغ الجمرة. وقوله في هذا الحديث الصحيح: حتى بلغ الجمرة، هو حجة من قال: يقطع التلبية، عند الشروع في الرمي لأن بلوغ الجمرة هو وقت للشروع في الرمي وفي لفظ مسلم، عن الفضل أيضاً «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي، حتى رمى جمرة العقبة» وقوله في هذا الحديث «حتى رمى جمرة العقبة» هو حجة من قال يلبي حتى ينتهي رميه، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، من طريق عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله: ونحن نجمع سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة، يقول في هذا المقام: «لبيك اللهم لبيك» وجمع هي المزدلفة. وهذا الحديث الصحيح يدل على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بمزدلفة بعد الرجوع من عرفة، وفي لفظ لابن مسعود عند مسلم أيضاً: قال عبد الله: أنَسِيَ الناس أم ضَلُّوا سمعتُ الذي أنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المكان: «لبيك اللهم لبيك» وفي لفظ عنه أيضاً عند مسلم، من رواية عبد الرحمن بن يزيد والأسود بن يزيد قالا: سمعنا عبد الله بن مسعود يقول بجمع: سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة ههنا يقول «لبيك اللهم لبيك» ثم لبى ولبينا معه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: فهذه النصوص الصحيحة، تدل على عدم قطع التلبية بعرفة، والأظهر أنه يقطعها عند الشروع في رمي العقبة، وأن رواية مسلم حتى رمى جمرة العقبة يراد به الشروع في رميها لا الانتهاء منه.
ومن القرائن الدالة على ذلك: ما ثبت في الروايات الصحيحة من التكبير مع كل حصاة فظرف الرمي لا يستغرق غير التكبير، مع الحصاة لتتابع رمي الحصيات.
قال الزرقاني في شرح الموطأ، ولابن خزيمة عن الفضل: أفضت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يلبي، حتى رمى جمرة العقبة يكبر من كل حصاة، ثم قطع التلبية، مع آخر حصاة، قال ابن خزيمة: حديث صحيح مفسر لما أبهم في الرواية الأخرى، وأن المراد بقوله «حتى رمى جمرة العقبة» أتم رميها ا هـ وعلى تقدير صحة هذه الرواية لا ينبغي العدول عنها. وإذا علمت الصحيح الذي دلت عليه النصوص، فاعلم أن في وقت انتهاء الرمي مذاهب للعلماء غير ما ذكرنا. فقد روي عن سعد بن أبي وقاص، وعائشة: أنه يقطع التلبية، إذا راح إلى الموقف، وعن علي، وأم سلمة: أنهما كانا يلبيان حتى تزول الشمس يوم عرفة، وهذا قريب من قول سعد وعائشة، وكان الحسن يقول: يلبي حتى يصلي الغداة يوم عرفة، ومذهب مالك أنه يقطعها إذا زاغت الشمس من يوم عرفة، وقد روى مالك رحمه الله في الموطأ عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يلبي في الحج. حتى إذا زاغت الشمس من يوم عرفة، قطع التلبية قال مالك: وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا ا هـ. وروى مالك في الموطأ أيضاً عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج للنبي صلى الله عليه وسلم: أنها كانت تترك التلبية إذا رجعت إلى الموقف، وروي في الموطأ أيضاً عن نافع أنَّ عَبْدُ الله بن عمر كان يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم. حتى يطوف بالبيت. وبين الصفا والمروة. ثم يلبي حتى يغدو من منى إلى عرفة. فإذا غدا ترك التلبية. وكان يَتركُ التلبية في العمرة، إذا دخل الحرم ا هـ.
والتحقيق أنه لا يقطعها، إلا إذا رمى جمرة العقبة، لدلالة حديث الفضل بن
عباس الثابت في الصحيح على ذلك، دلالة واضحة ودلالة حديث ابن مسعود الثابت في الصحيح على تلبية النبي بمزدلفة أيضاً، ولم يثبت في كتاب الله، ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يخالف ذلك، والعلم عند الله تعالى.
وأما حكم التلبية فقد اختلف فيه أهل العلم اختلافاً معروفاً، قال ابن حجر في فتح الباري: لم يتعرض المصنف لحكم التلبية، وفيها مذاهب أربعة، يمكن توصيلها إلى عشرة.
الأول: أنها سنة من السنن لا يجب بتركها شيء وهو قول الشافعي وأحمد.
ثانيها: واجبة ويجب بتركها دم حكاه الماوردي عن ابن أبي هريرة من الشافعية، وقال: إنه وجد للشافعي نصاً يدل عليه وحكاه ابن قدامة عن بعض المالكية والخطابي عن مالك وأبي حنيفة وأغرب النووي فحكى عن مالك أنها سنة، ويجب بتركها دم، ولا يعرف ذلك عندهم إلا أن ابن الجلاب قال: التلبية في الحج مسنونة غير مفروضة، وقال ابن التين: يريد أنها ليست من أركان الحج وإلا فهي واجبة، ولذلك يجب بتركها الدم، ولو لم تكن واجبة لم يجب، وحكى ابن العربي: أنه يجب عندهم بترك تكرارها دم، وهذا قدر زائد على أصل الوجوب.
ثالثها: واجبة لكن يقوم مقامها فعل يتعلق بالحج، كالتوجه على الطريق، وبهذا صدر ابن شاس من المالكية كلامه في الجواهر له، وحكى صاحب الهداية من الحنفية مثله، لكن زاد القول الذي يقوم مقام التلبية من الذكر كما في مذهبهم من أنه لا يجب لفظ معين، وقال ابن المنذر: قال أصحاب الرأي: إن كبر أو هلل أو سبح ينوي بذلك الإحرام، فهو محرم.
رابعها: أنها ركن في الإحرام لا ينعقد بدونها حكاه ابن عبد البر عن الثوري، وأبي حنيفة، وابن حبيب من المالكية، والزبير من الشافعية، وأهل الظاهر قالوا: هي نظيرة تكبيرة الإحرام للصلاة، ويقويه ما تقدم من بحث ابن عبد السلام، عن حقيقة الإحرام، وهو قول عطاء، أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه، قال: التلبية فرض الحج، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وطاوس، وعكرمة، وحكى النووي: عن داود: أنه لا بد من رفع الصوت بها، وهذا قدر زائد على أصل كونها ركناً. انتهى من فتح الباري.
وإذا عرفت مذاهب أهل العلم في حكم التلبية، فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى كما ذكرنا وقال: «لتأخذوا عني مناسككم» فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا التلبية، وهذا القدر هو الذي قام عليه الدليل: أما كونها مسنونة أو مستحبة أو واجبة يصح الحج بدونها، وتجبر بدم فكل ذلك لم يرد فيه دليل خاص، والخير كله في اتباعه صلى الله عليه وسلم، والعلم عند الله تعالى.
وأما معنى التلبية: فهي من لبى بمعنى: أجاب، فلفظة: لبيك مثناة على قول سيبويه والجمهور، وتثنيتها للتكثير: أي إجابة لك بعد إجابة، ولزوماً لطاعتك، وقال يونس بن حبيب البصري: لبيك: اسم مفرد لا مثنى، قال: وإنما انقلبت ألفه ياء لاتصالها بالضمير، كما قلبت ألف لدي، وإلي، وعلي في حالة الاتصال بالضمير فتقول: لديك، وإليك وعليك بإبدال الألف ياء، والأظهر قول سيبويه، وجمهور أهل اللغة.
ومما يدل على ذلك أنه سمع في كلام العرب ثبوت الياء مع الإضافة للاسم الظاهر لا الضمير كما في قول الشاعر، وهو أعرابي من بني أسد: دعوتُ لما نابني مِسورَا فلبي فلبي يدي مسور

وقال ابن الأنباري: ثنوا لبيك كما ثنوا حنانيك: أي تحنناً بعد تحنن، وقال القاضي عياض: اختلفوا في معنى لبيك واشتقاقها، فقيل معناها: اتجاهي وقصدي إليك، مأخوذ من قولهم: داري تلب دارك أي تواجهها، وقيل معناها محبتي لك مأخوذ من قولهم: امرأة لبة، إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه، وقيل معناها: إخلاصي لك مأخوذ من قولهم: حب لباب، إذا كان خالصاً محضاً، ومن ذلك لب الطعام ولبابه، وقيل معناها: أنا مقيم على طاعتك، وإجابتك مأخوذ من قولهم: لب الرجل بالمكان، وألب به إذا أقام فيه قال ابن الأنباري:
وبهذا قال الخليل. وقيل في لبيك: أي قرباً منك، وطاعة، والإلباب: القرب، وقال أبو نصر معناه: أنا ملب بين يديك أي خاضع. انتهى كلام عياض، مع تصرف، وحذف يسير بواسطة نقل النووي في شرح مسلم، وما قاله الشيخ عياض رحمه الله، يدور حوله كلام أهل اللغة في معنى التلبية، وبقية ألفاظ التلبية معانيها ظاهرة.
واعلم أن لفظة لبيك ملازمة للإضافة لضمير المخاطب، وشذ إضافتها للظاهر كما تقدم قريباً، وشذ أيضاً إضافتها لضمير الغائب كقول الراجز: إنك لو دعوتني ودوني زوراء ذات متزع بيون
لقلت لبيه لمن يدعوني
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أنه ينبغي للرجال رفع أصواتهم بالتلبية، لما رواه مالك في الموطأ، والشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم. من حديث خلاد بن السائب الأنصاري، عن أبيه السائب بن خلاد بن سويد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية» ا هـ.
ولفظ مالك في موطئه «أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي، أو من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو بالإهلال» يريد أحدهما. وقال الترمذي في هذا الحديث: حديث حسن صحيح، وجمهور أهل العلم على أن هذا الأمر المذكور في الحديث للاستحباب، وذهب الظاهرية إلى أنه للوجوب، والقاعدة المقررة في الأصول مع الظاهرية، وهي أن الأمر يقتضي الوجوب إلا لدليل صارف عنه، وأما النساء فلا ينبغي لهن رفع الصوت بالتلبية كما عليه جماهير أهل العلم.
قال مالك في موطئه: إنه سمع أهل العلم يقولون: ليس على النساء رفع الصوتِ بالتلبية، لِتُسمِع المرأة نَفْسَها، وعلل بعض أهل العلم خفض المرأة صوتها بالتلبية، بخوف الافتتان بصوتها.
وقال الرافعي في شرحه الكبير المسمى فتح العزيز في شرح الوجيز: وإنما يستحب الرفع في حق الرجل، ولا يرفع حيث يجهد ويقطع صوته، والنساء تقتصرن على إسماع أنفسهن، ولا يجهرن كما لا يجهرن بالقراءة في الصلاة.
قال القاضي الروياني: ولو رفعت صوتها بالتلبية لم يحرم، لأن صوتها ليس بعورة خلافاً لبعض أصحابنا ا هـ. وذكر نحوه النووي عن الروياني ثم قال: وكذا قال غيره: لا يحرم لكن يكره صرح به الدارمي، والقاضي أبو الطيب والبندنيجي، ويخفض الخنثى صوته كالمرأة ذكره صاحب البيان وهو ظاهر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما المرأة الشابة الرخيمة الصوت، فلا شك أن صوتها من مفاتن النساء ولا يجوز لها رفعه بحال، ومن المعلوم أن الصوت الرخيم من محاسن النساء ومفاتنها، ولأجل ذلك يكثر ذكره في التشبيب بالنساء، كقول غيلان ذي الرمة: لها بشر مثل الحرير ومنطق رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
وعينان قال الله: كونا فكانتا فعولان بالألباب ما تفعل الخمر

فتراه جعل الصوت الرخيم من محاسن النساء، كالبشرة الناعمة والعينين الحسنتين، وكقول قعنب ابن أم صاحب: وفي الخدود لو أن الدار جامعة بيض أوانس في أصواتها غنن

فتراه جعل الصوت الأغن من جملة المحاسن، وهذا أمر معروف لا يمكن الخلاف فيه، وقد قال جل وعلا مخاطباً لنساء النَّبي صلى الله عليه وسلم وهن خير أسوة لنساء المسلمين {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوف} لأن تليين الصوت وترخيمه يدل على الاهتمام بالريبة كإبداء غيره من محاسن المرأة للرجال كما قال الشاعر:
يحسبن من الكلام زوانيا ويصدهن عن الخنا الإسلام

الفرع الثاني: اعلم أنه يستحب لإكثار من التلبية في دوام الإحرام، ويتأكد استحبابها في كل صعود وهبوط، وحدوث أمر من ركوب، أو نزول، أو اجتماع رفاق، أو فراغ من صلاة وعند إقبال الليل والنهار، ووقت السحر، وغير ذلك من تعاير الأحوال، وعلى هذا أكثر أهل العلم.
قال صاحب المهذب: يستحب أن يكثر من التلبية، ويلبي عند اجتماع الرفاق، وفي كل صعود وهبوط، وفي أديار الصلوات، وإقبال الليل والنهار، لما روى جابر رضي الله عنه، قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي إذا رأى ركباً أو صعد أكمة هبط وادياً» وفي أدبار المكتوبة وآخر الليل. انتهى محل الغرض منه. ولم يتكلم النووي في شرحه للمهذب على حديث جابر المذكور، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير في حديث جابر المذكور: هذا الحديث ذكره الشيخ في المهذب، وبيض له النووي، والمنذري، وقد رواه ابن عسكر في تخريجه لأحاديث المهذب من طريق عبد الله بن محمد بن ناجية في فوائده بإسناد له إلى جابر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي إذا لقى ركباً» فذكره، وفي إسناده من لا يعرف، وروى الشافعي، عن سعيد بن سالم عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يلبي راكباً، ونازلاً، ومضطجعاً. وروى ابن أبي شيبة من رواية ابن سابط قال: كان السلف يستحبون التلبية في أربعة مواضع: في دبر الصلاة، وإذا هبطوا وادياً أو علوه، وعند التقاء الرفاق، وعند خيثمة نحوه وزاد: وإذا استقلت بالرجل راحلته. انتهى من التلخيص.
وقال مالك في الموطأ: سمعت بعض أهل العلم يستحب التلبية دبر كل صلاة، وعلى كل شرف من الأرض. ويستأنس لحديث جابر المذكور يقول البخاري: باب التلبية، إذا انحدر في الوادي، ثم ساق بسنده الحديث عن ابن عباس وفيه قال «أما موسى كأني أنظر إليه، إذا انحدر في الوادي يلبي» وقال في الفتح في شرح هذا الحديث، وفي الحديث: أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين، وأنها تتأكد عند الهبوط كما تتأكد عند الصعود.
الفرع الثالث: اعلم أن العلماء اختلفوا في استحباب التلبية في حال طواف القدوم والسعي بعده، وممن قال إنه لا يلبي في طواف القدوم، والسعي بعده: مالك وأصحابه، وهو الجديد الصحيح من قولي الشافعي، وقال ابن عيينة: ما رأيت أحداً يقتدي به يلبي حول البيت إلا عطاء بن السائب، وممن أجاز التلبية في طواف القدوم: أحمد، وقال ابن قدامة في المغني: وبه يقول ابن عباس، وعطاء بن السائب، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وابن أبي ليلى، وداود والشافعي. وروي عن سالم بن عبد الله أنه قال: لا يلبي حول البيت، وقال ابن عيينة: ما رأينا أحداً يقتدي به يلبي حول البيت، إلا عطاء بن السائب، وذكر أبو الخطاب: أنه لا يلبي، وهو قول للشافعي، لأنه مشتغل بذكر يخصه، فكان أولى. انتهى محل الغرض من المغني، وقد قدمنا لك أن القول الجديد الأصح في مذهب الشافعي: أنه لا يلبي خلافاً لما يوهمه كلام صاحب المغني، وروى مالك في موطئه عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم. حتى يطوف بالبيت. وبين الصفا والمروة. ثم يلبي حتى يَغْدُو من منى إلى عرفة. فإذا غدا ترك التلبية. وكان يترك التلبية في العمرة، إذا دخل الحرم. انتهى في الموطأ، وروى مالك في الموطأ أيضاً عن ابن شهاب، أنه كان يقول: كان عبد الله بن عمر لا يلبي، وهو يطوف بالبيت انتهى منه، وقد روي عن ابن عمر أيضاً خلاف هذا، فقد ذكر ابن حجر في التلخيص: أن ابن أبي شيبة أخرج من طريق ابن سيرين قال: كان ابن عمر إذا طاف بالبيت لبى.
الفرع الرابع: اعلم أنه لا خلاف بين من يعتد به من أهل العلم في أن المحرم يلبي في المسجد الحرام، ومسجد الخيف بمنى، ومسجد نَمِرة بقرب عرفات، لأنها مواضع نسك. واختلفوا في التلبية فيما سوى ذلك من المساجد.
وأظهر القولين عندي: أنه يلبي في كل مسجد، إلا أنه لا يرفع صوته رفعاً يشوش على المصلين، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس: أظهر قولي أهل العلم عندي: أن المحرم يلبي في كل مكان في الأمصار وفي البراري، ونقل النووي عن العبدري أنه قال به أكثر الفقهاء. خلافاً لمن قال: التلبية مسنونة في الصحارى، ولا يعجِبني أن يلبي في المصر، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة عشرة ـ فيما يمتنع بسبب الإحرام على المحرم حتى يحل من إحرامه.
فمن ذلك ما صرح الله بالنهي عنه في كتابه في قوله {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ} والصيغة في قوله {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ} صيغة خبر أريد بها الإنشاء: أي فلا يرفث ولا يفسق، ولا يجادل، وقد تقرر في فن المعاني أن الصيغة قد تكون خبرية، والمراد بها الإنشاء لأسباب منها التفاؤل كقولك: رحم الله زيداً، فالصيغة خبرية، والمراد بها إنشاء الدعاء له بالرحمة، ومنها إظهار تأكيد الإتيان بالفعل، وإلزام ذلك كقوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَـٰرَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ}: أي آمنوا بالله بدليل جزم الفعل في قوله {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} فهو مجزوم بالطلب المراد بالخبر في قوله {تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ} أي آمنوا بالله، يغفر لكم ذنوبكم كقوله {قَـٰتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ} {تَعَالَوْاْ أَتْلُ}، ونحو ذلك، فالمسوغ لكون الصيغة في الآية خبرية، هو إظهار التأكد، واللزوم في الإتيان بالإيمان فعبر عنه بصيغة الخبر، لإظهار أنه يتأكد ويلزم أن يكون كالواقع بالفعل المخبر عن وقوعه، وكقوله تعالى {وَٱلْوَٰلِدَٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ}، وقوله {وَٱلْمُطَلَّقَـٰتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ}. فالمراد الأمر بالإرضاع، والتربص وقد عبر عنه بصيغة خبرية لما ذكرنا، كما هو معروف في فن المعاني.
والأظهر في معنى الرفث في الآية أنه شامل لأمرين:
أحدهما: مباشرة النساء بالجماع ومقدماته.
والثاني: الكلام بذلك كأن يقول المحرم لامرأته: إن أحللنا من إحرامنا فعلنا كذا وكذا، ومن إطلاق الرفث على مباشرة المرأة كجماعها قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ} فالمراد بالرفث في الآية: المباشرة بالجماع ومقدماته، ومن إطلاق الرفث على الكلام قول العجاج: ورب أسرابٍ حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم

وقد قدمنا هذا البيت في سورة المائدة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما أنشد وهو محرم قول الراجز: وهنَّ يمشين بنا هميسا إن تَصْدِق الطير تَنِكْ لَمِيسَا

فقيل له أترفث، وأنت محرم؟ قال: إنما الرفث: ما روجع به النساء، وفي لفظ: ما قيل من ذلك عند النساء.
والأظهر في معنى الفسوق في الآية أنه شامل لجميع أنواع الخروج عن طاعة الله تعالى، والفسوق في اللغة: ومنه قول العجاج: يهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا

يعني بقوله: فواسقا عن قصدها: خوارج عن جهتها التي كانت تقصدها.
والأظهر في الجدال في معنى الآية: أنه المخاصمة والمراء أي لا تخاصم صاحبك وتماره حتى تغضبه، وقال بعض أهل العلم: معنى لا جدال في الحج: أي لم يبق فيه مراء ولا خصومة، لأن الله أوضح أحكامه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما صرح الله بالنهي عنه في كتابه، من حلق شعر الرأس في قوله تعالى {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ} ومن ذلك تغطية المحرم الذكر رأسه لما ثبت في الصحيح، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: في المحرم الذي خر عن راحلته فوقصته فمات «ولا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً»، وفي رواية في صحيح مسلم «ولا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» وهذا الحديث في صحيح مسلم بألفاظ متعددة في بعضها الاقتصار على النهي عن تخمير الرأس، وفيها النهي عن تخيير الرأس والوجه، وفي بعضها: النهي عن مسه بطيب، وفي بعضها: النهي عن أن يقربوه طيباً وأن يغطوا وجهه، وكل ذلك ثابت، وهو نص صريح في منع تغطية المحرم الذكر رأسه أو وجهه، أما المرأة فإنها تغطي رأسها، ولا تغطي وجهها، إلا إذا خافت نظر الرجال الأجانب إليه كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ومن ذلك لبس كل شيء محيط بالبدن، أو بعضه، وكل شيء يغطي الرأس كما تقدم قريباً: فلا يجوز للمحرم لبس القميص، ولا العمامة، ولا السروايل، ولا البرنس، ولا القباء، ولا الخف إلا إذا لم يجد نعلاً فإنه يجوز له لبس الخفين، ويلزمه أن يقطعهما أسفل من الكعبين، وكذلك إذا لم يجد إزاراً: فله أن يلبس السراويل على الأصح فيهما.
وكذلك لا يجوز له أن يلبس ثوباً مسه ورس أو زعفران. وهذه أدلة منع ما ذكر.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجلاً قال يا رسول الله: ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلبس القُمُصَ ولا العمائم ولا السَّراوِيلاتِ ولا البَرَانِسَ ولا الخِفافِ إلا أحدٌ لا يَجدُ نعلين فليلبس خُفَّين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مَسَّهُ الزعفرانُ أو وَرْسٌ» انتهى من صحيح البخاري.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تلبسوا القُمُص، ولا العمائم، ولا السَّراوِيلاَتِ، ولا البرانِس ولا الخِفاف إلا أحدٌ لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفلُ من الكعبينِ ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مَسَّه الزعفران ولا الوَرْسُ». وأخرج مسلم رحمه الله هذا الحديث عن ابن عمر أيضاً من طريق ابنه سالم. وأخرج بعضه عنه أيضاً من طريق عبد الله بن دينار. ثم قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو الربيع الزهراني، وقتيبة بن سعيد جميعاً، عن حماد قال يحيى: أخبرنا حَماد بن زيد، عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يقول: «السَّراويل لمن لم يجد الإزار، والخُفَّانِ لمن لم يجد النعلين» يعني المحرم. وقد ذكر مسلم هذا الحديث من طرق، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، وزاد شعبة في روايته، عن عمرو: يخطب بعرفات. وأخرج البخاري نحوه عن ابن عباس أيضاً ثم قال مسلم رحمه الله: وحدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لم يجد نعلين، فليلبس خُفَّين، ومن لم يجد إزار فليلبس سراويل» ا هـ من صحيح مسلم، وهو يدل دلالة واضحة على جواز لبس السراويل للمحرم، الذي لم يجد إزاراً، كجواز لبس الخفين لمن لم يجد نعلين، وفي حديث ابن عباس، وجابر المذكورين زيادة على حديث ابن عمر: وهي جواز السراويل لمن لم يجد إزاراً وهذه الزيادة، يجب قبولها، خلافاً لمن منع قبولها، وإطلاق الخفين في حديث ابن عباس، وجابر المذكورين يجب تقييده بما في حديث ابن عمر من قطعهما أسفل من الكعبين، لوجوب حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إذا اتحد حكمهما وسببهما كما هنا، كما هو مقرر في الأصول.
فأظهر الأقوال دليلاً: أنه لا يجوز لبس الخفين، إلا في حالة عدم وجود النعلين، وأن قطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين لا بد منه، وأن لبس السراويل جائز للمحرم الذي لم يجد إزاراً، خلافاً لمن ذهب إلى غير ذلك.
وقال النووي في شرح المهذب: وأما حديث ابن عمر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يلبس المحرم القميص ولا السراويلات ولا البرنس ولا العمامة ولا الخف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب ما مسَّه ورس أو زعفران» فرواه البخاري ومسلم هكذا، وزاد البيهقي وغيره وفيه «ولا يلبس القباء» وقال البيهقي: هذه الزيادة صحيحة محفوظة انتهى منه وهو دليل على منع لبس القباء للمحرم.
وقال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لحديث ابن عمر المذكور. زاد الثوري في روايته، عن أيوب، عن نافع في هذا الحديث: ولا القباء، أخرجه عبد الرزاق، ورواه الطبراني من وجه آخر عن الثوري، وأخرجه الدارقطني، والبيهقي من طريق حفص بن غياث، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع أيضاً. انتهى محل الغرض منه، وهذا الذي ذكرنا من تحريم اللباس المذكور إنما هو في حق الرجال، وأما النساء فلهن أن يلبسن ما شئن من أنواع الثياب، إلا أنهن لا يجوز لهن أن ينتقبن، ولا أن يلبسن القفازين، لأن إحرام المرأة في وجهها وكفيها.
وقد قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا الليث، حدثنا نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجل فقال: يا رسول الله، ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب الحديث وفيه «ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين» تابعه موسى بن عقبة، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وجويرية، وابن إسحاق في النقاب والقفازين، وقال عبيد الله: ولا ورس، وكان يقول: لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين، وقال مالك عن نافع عن ابن عمر: لا تنتقب المحرمة، وتابعه ليث بن أبي سليم. انتهى من صحيح البخاري.
وقال أبو داود رحمه الله في سننه بعد أن ساق حديث ابن عمر المتقدم: حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا الليث، عن نافع عن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بمعناه. وزاد: «ولا تنتقب المرأة الحرام، ولا تلبس القفازين». وفي لفظ عن ابن عمر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم «المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين» وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: وأما حديث ابن عمر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين، والنقاب، وما مسه الورس، والزعفران من الثياب وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حرير، أو حلياً أو سراويل أو قميصاً أو خفاً، فرواه أبو داود بإسناد حسن، وهو من رواية محمد بن إسحاق صاحب المغازي إلا أنه قال: حدثني نافع عن ابن عمر وأكثر ما أنكر على ابن إسحاق التدليس، وإذا قال المدلس: حدثني، احتج به على المذهب الصحيح المشهور. انتهى منه.
وقال ابن حجر في التلخيص: حديث: أنه صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن النقاب، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب معصفراً، أو خزاً، أو حلياً، أو سراويل، أو قميصاً، أو خفاً. رواه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر، واللفظ لأبي داود زاد فيه بعد قوله: عن النقاب: وما مس الزعفران والورس من الثياب: وليلبسن بعد ذلك. ورواه أحمد إلى قوله من الثياب، ومن ذلك استعمال المحرم الطيب في بدنه. أو ثيابه، والطيب هو ما يتطيب به، ويتخذ منه الطيب، كالمسك، والكافور، والعنبر، والصندل، والورس، والزعفران، والورد، والياسمين ونحو ذلك، والأصل في منع استعمال الطيب للمحرم هو ما قدمنا في حديث ابن عمر المتفق عليه من نهيه صلى الله عليه وسلم عن لبس ما مسه الزعفران، والورس من الثياب في الإحرام، وما قدمنا من حديث مسلم في الذي وقع عن راحلته فأوقصته فمات. ففي لفظ في صحيح مسلم: فأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يغسل بماء وسدر وأن يكفن في ثوبين، ولا يمس طيباً الحديث. وفي لفظ في صحيح مسلم:
قال النَّبي صلى الله عليه وسلم «اغسلوه ولا تقربوه طيباً ولا تغطوا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة يلبي» فقوله «ولا يمس طيباً» في الرواية الأولى نكرة في سياق النفي وقوله «ولا تُقَرِّبوه طيباً» في الرواية الثانية نكرة في سياق النهي، وكلتاهما من صيغ العموم، كما هو مقرر في الأصول فهو يدل على منع جميع أنواع الطيب للمحرم، وترتيبه صلى الله عليه وسلم على ذلك بالفاء:
قوله: «فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» دليل على أن علة منع ذلك الطيب كونه محرماً ملبياً، الدلالة على العلة المذكورة: هي من دلالة مسلك الإيما والتنبيه، كما هو معروف في الأصول. ومن ذلك عقد النكاح، فإنه لا يجوز للمحرم أن يتزوج، ولا أن يزوج غيره بولاية أو وكالة، وسيأتي الخلاف في تزويج المحرم غيره بالولاية العامة إن شاء الله تعالى، وكون إحرام أحد الزوجين أو الولي مانعاً من عقد النكاح، هو الذي عليه أكثر أهل العلم. وعزاه النووي في شرح المهذب لجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وقال: وهو مذهب عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والزهري، ومالك، وأحمد، والشافعي، وإسحاق، وداود، وغيرهم. وقال في شرح مسلم: قال مالك والشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء من الصحابة، فمن بعدهم: لا يصح نكاح المحرم ا هـ. وقال ابن قدامة في المغني. وروي ذلك عن عمر وابنه، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والزهري، والأوزاعي، ومالك، والشافعي ا هـ.
وذهبت جماعة أخرى من أهل العلم: إلى أن إحرام أحد الزوجين، أو الولي، ليس مانعاً من عقد النكاح، وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة، وهو مروي عن الحكم، والثوري، وعطاء، وعكرمة، وعزاه صاحب المغني، لابن عباس، والظاهر أن عزو هذا القول الأخير لابن عباس أصح من عزو النووي له القول الأول كما ذكرناه عنه آنفاً كما سترى: ما يدل على ذلك إن شاء الله تعالى.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في الإحرام بحج أو عمرة، هل هو مانع من عقد النكاح، أو لا، فهذه أدلتهم. أما الجمهور القائلون: بأن الإحرام مانع من النكاح، فاستدلوا بما رواه مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى قال:
قرأت على مالك، عن نافع، عن نُبَيْهِ بن وهب. أن عمر بن عبيد الله أراد أن يُزَوِّجَ طلحة بن عمر، بنت شيبة بن جبير. فأرسل إلى أبان بن عثمان يَحْضُر ذلك وهو أمير الحج. فقال أبان: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يَنْكِحُ المحرم، ولا يُنْكَحُ ولا يَخْطِبُ».
وحدثنا محمد بن أبي بكر المُقَّدِمي. حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن نافع. حدثني نبيه بن وهب. قال: بعثني عمر بن عبيد الله بن معمر. وكان يخطب بنت شيبة بن عثمان على ابنه. فأرسلني إلى أبان بن عثمان وهو على الموسم. فقال: ألا أراه أعرابياً «إن المحرم لا يَنْكِحْ ولا يُنْكَحُ»، أخبرنا بذلك عثمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثني أبو غسان المِسْمَعِي. حدثنا عبد الأعلى. ح وحدثني أبو الخطاب زياد بن يحيى. حدثنا محمد بن سواء. قالا جميعاً: حدثنا سعيد عن مطر ويعلى بن حكيم، عن نافع، عن نبيه بن وهب، عن أبان بن عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، ولا يُنْكَحُ ولا يَخْطِبُ».
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، وزهير بن حرب. جميعاً عن ابن عيينة. قال زهير: حدثنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى، عن نبيه بن وهب، عن أبان بن عثمان، عن عثمان يَبْلُغُ به النَّبي صلى الله عليه وسلم. قال «المحرم لا يَنْكِحُ ولا يَخْطُبُ».
حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث. حدثني أبي عن جدي. حدثني خالد بن يزيد. حدثني سعيد بن أبي هلال عن نبيه بن وهب. أن عمر بن عبيد الله بن معمر أراد أن يُنْكِحَ ابنه طلحة بنت شيبة بن جبير في الحج. وأبان بن عثمان يومئذ أميرِ الحاجِّ. فأرسل إلى أبان: إني أردت أن أنْكِحَ طلحة بن عمر. فأحِبُّ أن تَحْضُرَ ذلك. فقال له أبان: ألا أراك عراقياً جافياً! إني سمعت عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يَنْكِحُ المحرم».
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وإسحاق الحنظلي. جميعاً عن ابن عيينة. قال ابن نمير: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء. أن ابن عباس أخبره. أن النَّبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم. زاد ابن نمير: فحدثت به الزهري فقال: أخبرني يزيد بن الأصم: أنه نَكَحَها وهو حلال. وحدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا داود بن عبد الرَّحمن عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، أبي الشعثاء، عن ابن عباس. أنه قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا يحيى بن آدم. حدثنا جرير بن حازم. حدثنا أبو فزارة عن يزيد بن الأصم حدثتني ميمونة بنت الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال. قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس. انتهى من صحيح مسلم. وحديث عثمان المذكور في صحيح مسلم رواه أيضاً مالك وأحمد وأصحاب السنن. وقال أبو عيسى الترمذي بعد أن ساقه: حديث عثمان حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند بعض أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم، منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر، وهو قول بعض فقهاء التابعين، وبه يقول مالك، والشافعي وأحمد، وإسحاق لا يرون أن يتزوج المحرم. وقالوا: إن نكح فنكاحه باطل. وحديث يزيد بن الأصم، عن ميمونة المذكور في صحيح مسلم «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نكحها وهو حلال» رواه أيضاً الترمذي، وأبو داود وابن ماجه والإمام أحمد، وقال الترمذي: حدثنا قتيبة، أخبرنا حَمَّاد بن زيد عن مطر الورَّاق، عن ربيعة بن أبي عبد الرَّحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع قال «تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة، وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت أنا الرسول فيما بينهما». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، لا نعلم أحداً أسنده غير حماد بن زيد عن مطر الوراق، عن ربيعة. وروى مالك بن أنس عن ربيعة، عن سليمان بن يسار «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال» رواه مالك مرسلاً، ورواه أيضاً سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلاً. انتهى: محل الغرض منه. وحديث أبي رافع هذا رواه أيضاً الإمام أحمد، وروى مالك رحمه الله في موطئه، عن نافع. أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول: لا ينكح المحرم، ولا يخطب على نفسه، ولا على غيره. وفي الموطأ أيضاً، عن مالك أنه بلغه: أن سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار سُئِلُوا عن نكاح المحرم؟ فقالوا: لا يَنْكِحُ المحرم، ولا يُنْكِحْ. وفي الموطأ أيضاً عن مالك، عن داود بن الحصين. أن أبا غطفان بن طَرِيف المُرِّيَّ، أخبره أن أباه طريفاً، تزوج امرأة وهو محرم. فرد عمر بن الخطاب رضي الله عنه نكاحه. وحديث أبي غطفان بن طريف، هذا رواه أيضاً الدارقطني، وروى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سئل عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل، وهو خارج من مكة، فأراد أن يعتمر أو يحج؟ فقال: لا تتزوجها، وأنت محرم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه انتهى منه بواسطة نقل المجد في المنتقى.
فهذا هو حاصل أدلة من قال: بأن الإحرام مانع من عقد النكاح، وأما الذين قالوا: بأن الإحرام لا يمنع عقد النكاح، فقد استدلوا بما رواه الشيخان في صحيحيهما، وأصحاب السنن، والإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم» وللبخاري «تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم، وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف» ا هـ.
قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه، عن ابن عباس رضي الله عنهما فيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، والله تعالى يقول {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وهو المشرع لأمته بأقواله، وأفعاله، وتقريره صلوات الله وسلامه عليه، فلو كان تزويج المحرم حراماً لما فعله صلى الله عليه وسلم واحتج الجمهور القائلون: يمنع نكاح المحرم بالأحاديث المتقدمة، قالوا: ثبت في صحيح مسلم من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب» وصيغة النفي في قوله: «لا ينكح ولا ينكح ولا يخطب» يراد بها النهي كقوله تعالى {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ} أي لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا في الحج، وإيراد الإنشاء بصيغة الخبر أبلغ من إيراده بصيغة الإنشاء، كما هو مقرر في المعاني.
والحديث دليل صحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم على منع نكاح المحرم وهو معتضد بما ذكرنا معه من الأحاديث، والآثار الدالة على منع نكاح المحرم. وأجاب الجمهور القائلون: يمنع إحرام أحد الزوجين: أو الولي عقد ـ النكاح عن حديث ابن عباس المذكور، بأجوبة.
واعلم أولاً: أن المقرر في الأصول: أنه إذا اختلف نصان وجب الجمع بينهما إن أمكن، وإن لم يمكن وجب الترجيح.
وإذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أن من أجوبتهم عن حديث ابن عباس المذكور، أنه يمكن الجمع بينه وبين حديث ميمونة، وأبي رافع «أنه تزوجها وهو حلال» ووجه الجمع في ذلك، هو أن يفسر قول ابن عباس: أنه تزوجها وهو محرم بأن المراد بكونه محرماً كونه في الشهر الحرام، وقد تزوجها صلى الله عليه وسلم في الشهر الحرام، وهو ذو القعدة عام سبع في عمرة القضاء، كما ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب: المغازي في باب عمرة القضاء.
قال بعد أن ساق حديث ابن عباس المذكور، وزاد ابن إسحاق: حدثني ابن أبي نجيح، وأبان بن صالح، عن عطاء، ومجاهد، عن ابن عباس قال: «تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة في عمرة القضاء» ا هـ منه. ومعلوم أن عمرة القضاء كانت في الشهر الحرام، وهو ذو القعدة من سنة سبع، ولا خلاف بين أهل اللسان العربي في إطلاق الإحرام على الدخول في حرمة لا تهتك كالدخول في الشهر الحرام، أو في الحرم أو غير ذلك.
وقال ابن منظور في اللسان: وأحرم الرجل: إذا دخل في حرمة لا تهتك، ومن إطلاق الإحرام على الدخول في الشهر الحرام، وقد أنشده في اللسان شاهداً لذلك قول زهير: جعلن القنان عن يمين وحزنه وكم بالقنان من محل ومحرم

وقول الآخر: وإذ فتك النعمان بالناس مُحرما فملىء من عوف بن كعب سلاسله

وقول الراعي: قتلوا ابن عفَّان الخليفةَ مُحرما ودعا فلم أر مثله مقتولا
فتفرقت من بعد ذاك عصاهُم شقفاً وأصبح سيفهم مسلولا

ويروى: فلم أر مثله مخذولاً، فقوله: قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً: أي في الشهر الحرام وهو ذو الحجة، وقيل المعنى: أنهم قتلوه في حرم المدينة، لأن المحرم يطلق لغة على كل داخل في حرمة لا تهتك، سواء كانت زمانية، أو مكانية أو غير ذلك.
وقال بعض أهل اللغة منهم الأصمعي: إن معنى قول الراعي: محرماً في بيته المذكور كونه في حرمة الإسلام، وذمته التي يجب حفظها، ويحرم انتهاكها وأنه لم يحل من نفسه شيئاً يستوجب به القتل، ومن إطلاق المحرم على هذا المعنى الأخير قول عدي بن زيد:
قتلوا كسرى بليل محرما غادروه لم يمتع بكفن

يدريد قتل شيرويه أباه أبرويز بن هرمز، مع أن له حرمة العهد الذي عاهدوه به، حين ملكوه عليهم، وحرمة الأبوة ولم يفعل لهم شيئاً يستوجب به منهم القتل. وذلك هو مراده بقوله: محرماً، وعلى تفسير قول ابن عباس: وهو محرم بما ذكر فلا تعارض بين حديث ابن عباس، وبين حديث ميمونة وأبي رافع، ولو فرضنا أن تفسير حديث ابن عباس بما ذكر ليس بمتعين وليس بظاهر كل الظهور، وأن التعارض بين الحديثين باق، فالمصير إلى الترجيح إذاً واجب. وحديث ميمونة وأبي رافع أرجح من حديث ابن عباس، لأن ميمونة هي صاحب القصة، ولا شك أن صاحب القصة أدرى بما جرى له في نفسه من غيره. وقد تقرر في الأصول أن خبر صاحب الواقعة المروية مقدم على خبر غيره، لأنه أعرف بالحال من غيره، والأصوليون يمثلون له بحديث ميمونة المذكور، مع حديث ابن عباس. وإليه أشار في مراقي السعود في مبحث الترجيح، باعتبار حال الراوي بقوله عاطفاً على ما ترجح به رواية أحد الراويين على رواية الآخر: أو راويا باللفظ أو ذا الواقع وكون من رواه غير مانع

ومحل الشاهد منه قوله: أو ذا الواقع: أي يقدم خبر ذي الواقع المروي على خبر غيره كخبر ميمونة، مع خبر ابن عباس ومما يرجح به حديث أبي رافع على حديث ابن عباس: أن أبا رافع هو رسوله إليها يخطبها عليه، فهو مباشر للواقعة، وابن عباس ليس كذلك، وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المباشر، لما روى على خبر غيره، لأن المباشر لما روى أعرف بحاله من غيره، والأصوليون يمثلون له بخبر أبي رافع المذكور «أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال» قال: وكنت الرسول فيما بينهما، مع حديث ابن عباس المذكور «أنه تزوجها وهو محرم».
ومما يرجح به حديث ميمونة، وحديث أبي رافع معاً، على حديث ابن عباس: أن ميمونة، وأبا رافع كانا بالغين وقت تحمل الحديث المذكور، وابن عباس ليس ببالغ وقت التحمل. وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المتحمل بعد البلوغ على المتحمل قبله، لأن البالغ أضبط من الصبي لما تحمل، وللاختلاف في قبول خبر المتحمل، قبل البلوغ من الاتفاق على قبول خبر المتحمل بعد البلوغ، وإن كان الراجح قبول خير المتحمل قبل البلوغ إذا كان الأداء بعد البلوغ، لأن المتفق عليه أرجح من المختلف فيه، وإلى تقديم خبر الراوي المباشر على خبر غيره، وتقديم خبر المتحمل بعد البلوغ على خبر المتحمل قبله.
أشار في مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال الراوي بقوله عاطفاً على ما يرجح أحد الخبرين: أو كونه مباشراً أو كلفا أو غير ذي اسمين للأمن من خفا

فإن قيل: يرجح حديث ابن عباس، بأنه اتفق عليه الشيخان في صحيحيهما. ومعلوم أن ما اتفق عليه مسلم والبخاري، أرجح مما انفرد به مسلم، وهو حديث ميمونة، وأرجح مما أخرجه الترمذي وأحمد، وهو حديث أبي رافع.
فالجواب: أن غاية ما يفيده اتفاق الشيخين صحة الحديث، إلى ابن عباس، ونحن لو جزمنا بأنه قاله قطعاً لم يمنع ذلك من ترجيح حديث ميمونة وأبي رافع عليه، لأنهما أعلم بحال الواقعة منه، لأن ميمونة صاحبة الواقعة، وأبو رافع هو الرسول المباشر لذلك. فلنفرض أن ابن عباس قال ذلك، وأن أبا رافع وميمونة خلفاه، وهما أعلم بالحال منه، لأن لكل منهما تعلقاً خاصاً بنفس الواقعة ليس لابن عباس مثله.
ومن الرجحات التي رجح بها بعض العلماء: حديث تزوجه صلى الله عليه وسلم ميمونة، وهو حلال على حديث تزوجه إياها، وهو محرم: أن الأول: رواه أبو رافع، وميمونة. والثاني: رواه ابن عباس وحده، وما رواه الاثنان أرجح مما رواه الواحد كما هو مقرر في الأصول، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي: وكثرة الدليل والرواية مرجح لدى ذوي الدراية

كما تقدم في سورة البقرة. ولكن هذا الترجيح المذكور يرده ما ذكره ابن حجر في فتح الباري، ولفظه فالمشهور عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم» وصح نحوه عن عائشة وأبي هريرة. ا هـ منه.
وعلى تقدير صحة ما ذكره ابن حجر فمن روى أن تزويجها في حالة الإحرام أكثر.
فإن قيل: يرجح حديثهم إذاً بالكثرة.
فالجواب: أنهم وإن كثروا فميمونة، وأبو رافع أعلم منهم بالواقعة كما تقدم، والمرجحات يرجح بعضها على بعض، وضابط ذلك عند الأصوليين هو قوة الظن، ومعلوم أن ما أخبرت به ميمونة رضي الله عنها عن نفسها، وأخبر به الرسول بينها، وبين زوجها صلى الله عليه وسلم الذي هو أبو رافع أقوى في ظن الصدق مما أخبر به غيرهما، وأشار في مراقي السعود إلى ما ذكرنا بقوله: قطب رحاها قوة المظنة فهي لدى تعارض مئنه

ومن أقوى الأدلة الدالة على أن حديث ابن عباس، لا تنهض به الحجة، على جواز عقد النكاح في حال الإحرام هو: أنا لو سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وهو محرم، لم تكن في ذلك حجة على جواز ذلك بالنسبة إلى أمته صلى الله عليه وسلم، لأنه ثبت عنه في صحيح مسلم وغيره من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، ما يدل على منع النكاح في حال الإحرام وهو عام لجميع الأمة. والأظهر دخوله هو صلى الله عليه وسلم في ذلك العموم، فإذا فعل فعلاً يخالف ذلك العموم المنصوص عليه بالقول، دل على أن ذلك الفعل خاص به صلى الله عليه وسلم لتحتم تخصيص ذلك العموم القولي بذلك الفعل. فيكون خاصاً به صلى الله عليه وسلم.
وقد تقرر في الأصول: أن النص القولي العام الذي يشمل النبي بظاهر عمومه لا بنص صريح، إذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعلاً يخالفه كان ذلك الفعل مخصصاً لذلك العموم القولي، فيكون ذلك الفعل خاصاً به صلى الله عليه وسلم. وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى ذلك في كتاب السنة بقوله: في حقه القول بفعل خصا إن يك فيه القول ليس نصا

فإن قيل: لا حجة في حديث عثمان المذكور في صحيح مسلم، على منع عقد النكاح في حال الإحرام، لأن المراد بالنكاح فيه وطء الزوجة، وهو حرام في حال الإحرام إجماعاً، وليس المراد به العقد.
فالجواب من أوجه:
الأول: أن في نفس الحديث قرينتين دالتين على أن المراد به عقد النكاح، لا الوطء. الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المذكور «لا يَنْكِحُ المحرم ولا يُنْكَحُ» فقوله: «ولا يُنْكَحُ» بضم الياء، دليل على أن المراد: لا يزوج، ولا يمكن أن يكون المراد بذلك الوطء، لأن الولي إذا زوج قبل الإحرام، وطلب الزوج وطء زوجته في حال إحرام وليها، فعليه أن يمكنه من ذلك إجماعاً، فدل ذلك على أن المراد بقوله: ولا ينكح ليس الوطء بل التزويج كما هو ظاهر القرينة الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم قال أيضاً: «ولا يخطب»، والمراد خطبة المرأة التي هي طلب تزويجها، وذلك دليل على أن المراد العقد، لأنه هو الذي يطلب بالخطبة، وليس من شأن وطء الزوجة أن يطلب بخطبة كما هو معلوم.
الوجه الثاني: أن أبان بن عثمان راوي الحديث وهو من أعلم الناس بمعناه، فسره بأن المراد بقوله: ولا ينكح: أي لا يزوج، لأن السبب الذي أورد فيه الحديث، هو أنه أرسل له عمر بن عبيد الله حين أراد أن يزوج ابنه طلحة بن عمر ابنة شيبة بن جبير، فأنكر عليه ذلك أشد الإنكار وبين له أن حديث عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، دليل على منع عقد النكاح في حال الإحرام، ولم يعلم أنه أنكر عليه أحد تفسيره الحديث، بأن المراد بالنكاح فيه العقد لا الوطء.
الوجه الثالث: هو ما قدمنا من الأحاديث، والآثار الدالة على منع التزويج في حال الإحرام، كحديث ابن عمر، عند أحمد: أنه سئل عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل، وهو خارج من مكة: فأراد أن يعتمر أو يحج فقال: لا تتزوجها وأنت محرم. نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ا هـ.
فتراه: صرح بأن النكاح المنهي عنه في الإحرام: التزويج.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار في حديث ابن عمر هذا: في إسناده أيوب بن عيينة، وهو ضعيف وقد وثق، وكالأثر الذي رواه مالك والبيهقي والدارقطني، عن أبي غطفان بن طريف: أن أباه طريفاً تزوج امرأة، وهو محرم فرد عمر بن الخطاب نكاحه ا هـ.
وذلك دليل على أن عمر يفسر النكاح الممنوع في الإحرام بالتزويج ولا يخصه بالوطء. وقد روى البيهقي في السنن الكبرى بإسناده عن الحسن، عن علي قال: من تزوج وهو محرم نزعنا منه امرأته.
وروي بإسناده أيضاً عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن علياً رضي الله عنه قال: لا ينكح المحرم، فإن نكح رد نكاحه. وروي بإسناده أيضاً عن شوذب مولى زيد بن ثابت: أنه تزوج، وهو محرم، ففرق بينهما زيد بن ثابت.
قال: وروينا في ذلك عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وروى بإسناده أيضاً عن قدامة بن موسى قال: تزوجت، وأنا محرم فسألت سعيد بن المسيب فقال: يفرق بينهما، وروي بإسناده أيضاً عن سعيد بن المسيب: أن رجلاً تزوج، وهو محرم فأجمع أهل المدينة على أن يفرق بينهما. ا هـ.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي رجحانه بدليل هو أن إحرام أحد الزوجين أو الولي مانع من عقد النكاح لحديث عثمان الثابت في صحيح مسلم، ولما قدمنا من الآثار الدالة على ذلك، ولم يثبت في كتاب الله، ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يعارض ذلك الحديث. وحديث ابن عباس معارض بحديث ميمونة، وأبي رافع، وقد قدمنا لك أوجه ترجيحهما عليه. ولو فرضنا أن حديث ابن عباس، لم يعارضه معارض، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وهو محرم. فهذا فعل خاص لا يعارض عموماً قولياً لوجوب تخصيص العموم القولي المذكور بذلك الفعل كما تقدم إيضاحه.
أما ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا ابن بشار، ثنا عبد الرحمٰن بن مهدي، ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن رجل، عن سعيد بن المسيب قال: وَهِمَ ابن عباس في تزويج ميمونة وهو محرم. فلا تنهض به حجة على توهيم ابن عباس، لأن الراوي، عن سعيد، لم تعرف عينه كما ترى، وما احتج به كل واحد من المتنازعين في هذه المسألة من الأقيسة كقياس من أجاز النكاح في الإحرام، النكاح على شراء الأمة في الإحرام. لقصد الوطء، وكقياس من منعه النكاح في الإحرام على نكاح المعتدة بجامع أن كل منهما لا يعقبه جواز التلذذ كالوطء والقبلة تركناه وتركنا مناقشته، لأن هذه المسألة من المسائل المنصوصة فلا حاجة فيها إلى القياس، مع أن كل الأقيسة التي استدل بها الطرفان لا تنهض بها حجة.
فروع تتعلق بهذه المسألة
التي هي ما يمتنع بالإحرام على المحرم حتى يحل من إحرامه:
الفرع الأول: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي: أن المحرم يجوز له أن يرتجع مطلقته في حال الإحرام، لأن الرجعة ليست بنكاح مؤتنف لأنها لا يحتاج فيها إلى عقد، ولا صداق، ولا إلى إذن الولي ولا الزوجة فلا تدخل في قوله صلى الله عليه وسلم «لا يَنْكح المحرم ولا يُنْكح» وجواز الرجعة في الإحرام هو قول جمهور أهل العلم منهم: الأئمة الثلاثة، وأصحابهم: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وهو إحدى الروايتين، عن الإمام أحمد، وعزاه النووي في شرح المهذب لعامة العلماء إلا رواية عن الإمام أحمد.
وقال ابن قدامة في المغني في شرحه قول الخرقي: وللمحرم أن يتجر ويصنع الصنائع، ويرتجع امرأته ما نصه:
فأما الرجعة: فالمشهور إباحتها، وهو قول أكثر أهل العلم، وفيه رواية ثانية أنها لا تباح. إلى أن قال: وجه الرواية الصحيحة: أن الرجعية زوجة والرجعة إمساك بدليل قوله تعالى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} فأبيح ذلك كالإمساك قبل الطلاق. انتهى محل الغرض منه.
وقال مالك في الموطأ في الرجل المحرم: أنه يراجع امرأته، إذا كانت في عدة منه. وذكر النووي عن الخراسانيين من الشافعية وجهين، أصحهما: جواز الرجعة، والثاني: منعها في الإحرام.
الفرع الثاني: اعلم أن التحقيق أن الولي إذا وكل وكيلاً على تزويج وليته، فلا يجوز لذلك الوكيل تزويجها بالوكالة في حالة إحرامه، لأنه يدخل في عموم الحديث المذكور، وكذلك وكيل الزوج.
الفرع الثالث: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي: أن السلطان لا يجوز له أن يزوج بالولاية العامة في حال إحرامه، لدخوله في عموم قوله صلى الله عليه وسلم «لا يَنكح المحرم ولا يُنكح» فلا يجوز إخراج السلطان من هذا العموم، إلا بدليل خاص به من كتاب أو سنة، ولم يرد بذلك دليل، فالتحقيق منع تزويجه في الإحرام وهو قول جمهور العلماء خلافاً لبعض الشافعية القائلين: يجوز ذلك للسلطان، ولا دليل معهم من كتاب ولا سنة، وإنما يحتجون بأن الولاية العامة أقوى من الولاية الخاصة. بدليل أن الولي المسلم الخاص، لا يزوج الكافرة بخلاف السلطان، فله عندهم أن يزوج الكافرة بالولاية العامة.
الفرع الرابع: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي: أن للشاهد المحرم، أن يشهد على عقد نكاح، لأن الشاهد لا يتناوله حديث «لا ينكح المحرم ولا ينكح» لأن عقد النكاح بالإيجاب والقبول والشاهد لا صنع له في ذلك، وخالف في ذلك أبو سعيد الاصطخري من الشافعية، قائلاً: إن شهادة الشاهد ركن في العقد، فلم تجز في حال الإحرام كالولي، وكره بعض أهل العلم للمحرم أن يشهد على النكاح.
الفرع الخامس: الأظهر عندي: أن المحرم لا يجوز له أن يخطب امرأة، وكذلك المحرمة، لا يجوز للرجل خطبتها لما تقدم من حديث عثمان، عند مسلم: «لا يُنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب» فالظاهر أن حرمة الخطبة كحرمة النكاح، لأن الصيغة فيهما متحدة، فالحكم بحرمة أحدهما دون الآخر، يحتاج إلى دليل خاص، ولا دليل عليه. والظاهر من الحديث حرمة النكاح وحرمة وسيلته التي هي الخطبة كما تحرم خطبة المعتدة.
وبه تعلم أن ما ذكره كثير من أهل العلم من أن الخطبة لا تحرم في الإحرام، وإنما تكره أنه خلاف الظاهر من النص ولا دليل عليه، وما استدل به بعض أهل العلم من الشافعية وغيرهم: على أن المتعاطفين قد يكون أحدهما مخالفاً لحكم الآخر كقوله تعالى {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}. قالوا: الأكل مباح وإيتاء الحق واجب، لا دليل فيه، لأن الأمر بالأكل معلوم أنه ليس للوجوب، بخلاف قوله في الحديث «لا يخطب» فلا دليل على أنه ليس للتحريم كقوله قبله «لا ينكح المحرم».
الفرع السادس: إذا وقع عقد النكاح في حال إحرام أحد الزوجين أو الولي، فالعقد فاسد، ولا يحتاج إلى فسخه بطلاق، كما هو ظاهر الآثار التي قدمنا، ومذهب مالك وأحمد: أنه يفسخ بطلاق مراعاة لقول من أجازه كأبي حنيفة ومن تقدم ذكرهم.
الفرع السابع: أظهر قولي أهل العلم عندي: أنه إذا وكل حلال حلالاً في التزويج، ثم أحرم أحدهما أو المرأة أن الوكالة لا تنفسخ بذلك، بل له أن يُزَوِّج بعد التحلل بالوكالة السابقة خلافاً لمن قال تنفسخ الوكالة بذلك، والتحقيق أن الوكيل إذا كان حلالاً والموكل محرماً فليس للوكيل الحلال عقد النكاح، قبل تحلل موكله خلافاً لمن حكى وجهاً بجواز ذلك، ولا شك أن تجويز ذلك غلط.
الفرع الثامن: اعلم أنا قدمنا في أول الكلام على هذه المسألة: أن الإحرام يحرم بسببه على المحرم وطء امرأته في الفرج، ومباشرتها فيما دون الفرج لقوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ} وقد قدمنا أن الرفث شامل للجماع، ومقدماته. وقد أردنا في هذا الفرع أن نبين ما يلزمه لو فعل شيئاً من ذلك، ولا خلاف بين أهل العلم: أن المحرم إذا جامع امرأته قبل الوقوف بعرفات: أن حجه يفسد بذلك، ولا خلاف بينهم أنه لا يفسد الحج من محظورات الإحرام، إلا الجماع خاصة، وإذا فسد حجة بجماعه قبل الوقوف بعرفات: فعليه إتمام حجه هذا الذي أفسده عليه قضاء الحج، وعليه الهدي، وهو عند مالك، والشافعي، وأحمد، وجماعات من الصحابة بدنة، وقال أبو حنيفة: عليه شاة، وقال داود: هو مخير بين بدنة وبقرة وشاة، فإن كان جماعه بعد الوقوف بعرفات، وقبل رمي جمرة العقبة، وطواف الإفاضة فحجه فاسد عند مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: حجه صحيح، وعليه أن يهدي بدنة متمسكاً بظاهر حديث «الحج عرفة» وإن كان جماعه بعد رمي جمرة العقبة، وقبل طواف الإفاضة: فحجه صحيح عند الجميع، وعند الشافعي: تلزمه فدية، وعند أبي حنيفة: إن جامع بعد الحلق: فعليه شاة، وإن جامع قبل الحلق، وبعد الوقوف: فعليه بدنة.
وعن أحمد روايتان: فيما يلزمه هل هو شاة، أو بدنة، ومذهب مالك: أن حجه صحيح، وعليه: هدي وعمرة، ووجهه عنده أن الجماع لما كان بعد التحلل الأول برمي جمرة العقبة، لم يفسد به الحج، ولكنه وقع فيه نقص بسبب الجماع قبل التحلل الثاني، فكان هذا النقص عنده يجبر بالعمرة والهدي.
وفي الموطأ قال مالك: في رجل وقع بامرأته في الحج ما بينه، وبين أن يدفع من عرفة، ويرمي الجمرة أنه يجب عليه الهدي وحج قابل، قال: فإن كانت إصابته أهله بعد رمي الجمرة، فإنما عليه أن يعتمر ويهدي، وليس عليه حج قابل ا هـ.
ونقل الباجي عن مالك: أن محل فساد الحج بالجماع قبل الرمي والإفاضة وبعد الوقوف بعرفة، فيما إذا كان الوطء واقعاً يوم النحر، أما إن أخر رمي جمرة العقبة، وطواف الإفاضة معاً عن يوم النحر، وجامع قبلهما: فلا يفسد حجه: وعليه عمرة وهديان: هدي لوطئه، وهدي لتأخير رمي الجمرة انتهى منه بواسطة نقل المواق في شرحه لمختصر خليل في الكلام على قوله: والجماع ومقدماته، وأفسد مطلقاً كاستدعاء منى، وإن ينظر قبل الوقوف مطلقاً، إن وقع قبل إفاضة وعقبه يوم النحر أو قبله وإلا فهدي ا هـ.
فتحصل: أن الجماع قبل الوقوف بعرفات مفسد للحج، عند الأئمة الأربعة وبعد التحلل الأول، وقبل الثاني: لا يفسد الحج عند الأربعة.
وقد عرفت مما قدمنا ما يقع به التحلل عند كل واحد منهم، وإن وقع بعد الوقوف بعرفة، وقبل التحلل: أفسد عند الثلاثة، خلافاً لأبي حنيفة كما تقدم إيضاحه قريباً.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في الجماع، فاعلم أنهم متفقون على أن مقدمات الجماع كالقبلة، والمفاخذة، واللمس بقصد اللذة حرام على المحرم.
ولكنهم اختلفوا فيما يلزمه لو فعل شيئاً من ذلك: فمذهب مالك وأصحابه: أن كل تلذذ بمباشرة المرأة من قبلة، أو غيرها، إذا حصل معه إنزال أفسد الحج. وقد بينا قريباً ما يلزم من أفسد حجه حتى إنه لو أدام النظر بقصد اللذة فأنزل: فسد عند مالك حجه ولو أنزل بسبب النظرة الأولى من غير إدامة: لم يفسد حجه عند مالك، وعليه الهدي. أما إذا تلذذ بالمرأة بما دون الجماع، ولم ينزل فإن كان بتقبيل الفم: فعليه هدي، والقبلة حرام على المحرم مطلقاً عند مالك، وأما إن كان بغير القبلة كاللمس باليد، فهو ممنوع إن قصد به اللذة، وإن لم يقصدها به، فليس بممنوع، ولا هدي فيه ولو قصد به اللذة وإنما عليه الإثم إلا إذا حصل بسببه مذي فيلزم فيه الهدي ومحل هذا عندهم في غير الملاعبة الطويلة والمباشرة الكثيرة ففيها الهدي.
فتحصيل: أن مذهب مالك فساد الحج بمقدمات الجماع، إن أنزل، وإن لم ينزل ففي القبلة خاصة مطلقاً: هدي وكذلك كل تلذذ خرج بسببه مذي، وكذلك الملاعبة الطويلة والمباشرة الكثيرة وما عدا ذلك من التلذذ، فليس فيه إلا التوبة والاستغفار، ولا يفسد الحج عنده إلا بالجماع، أو الإنزال. ومذهب أبي حنيفة رحمه الله: أن التلذذ بما دون الجماع كالقبلة، واللمس بشهوة،والمفاخذة ونحو ذلك: يلزم بسببه دم، وسواء عنده في ذلك أنزل أو لم ينزل، ولو ردد النظر إلى امرأته حتى أمنى، فلا شيء عليه عند أبي حنيفة.
ومذهب الشافعي رحمه الله: هو أنه إن باشر امرأته فيما دون الفرج بشهوة أو قبلها بشهوة: أن عليه فدية الأذى والاستمناء عنده كالمباشرة فيما دون الفرج. وصحح بعض الشافعية: أن عليه شاة، ولو ردد النظر إلى امرأته، حتى أمنى، فلا شيء عليه عند الشافعي. ومذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنه إن وطىء فيما دون الفرج، ولم ينزل: فعليه دم، وإن أنزل: فعليه بدنة. وفي فساد حجه روايتان:
إحداهما: أنه إن أنزل فسد حجه، وعليه بدنة وبها جزم الخرقي.
وقال في المغني: في هذه الرواية اختارها الخرقي وأبو بكر، وهو قول عطاء والحسن، والقاسم بن محمد، ومالك، وإسحاق.
والرواية الثانية: أنه إن أنزل فعليه بدنة، ولا يفسد حجه.
وقال ابن قدامة في المغني: في هذه الرواية: وهي الصحيحة، إن شاء الله، لأنه استمتاع لا يجب بنوعه حد فلم يفسد الحج كما لو لم ينزل، ولأنه لا نص فيه ولا إجماع، ولا هو في معنى المنصوص عليه. انتهى محل الغرض منه.
وما ذكرنا عن أحمد: من أنه إن أنزل تلزمه بدنة: أي سواء قلنا بفساد الحج، أو عدم فساده، وممن قال بلزوم البدنة في ذلك: الحسن وسعيد بن جبير، والثوري، وأبو ثور، كما نقله عنهم صاحب المغني. وإن قبل امرأته، ولم ينزل أو أنزل جرى على حكم الوطء فيما دون الفرج، وقد أوضحناه قريباً.
وإن نظر إلى امرأته، فصرف بصره، فأمنى فعليه دم عند أحمد، وإن كرر النظر، حتى أمنى: فعليه بدنة عنده.
وقد قدمنا عن مالك: أنه إن كرر النظر، حتى أمنى فسد حجه، وهو مروي عن الحسن وعطاء.
واعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي: أن الحج الفاسد بالجماع يجب قضاؤه فوراً في العام القابل، خلافاً لمن قال: إنه على التراخي، ودليل ذلك الآثار التي ستراها إن شاء الله في الكلام على أدلة هذا المبحث.
وأظهر قولي أهل العلم عندي أيضاً: أن الزوجين اللذين أفسدا حجهما يفرق بينهما، إذا أحرما بحجة القضاء ليلاً يفسدا حجة القضاء أيضاً بجماع آخر كما يدل عليه بعض الآثار المروية عن الصحابة، والأظهر أيضاً: أن الزوجة إن كانت مطاوعة له في الجماع يلزمها مثل ما يلزم الرجل من الهدي والمضي في الفاسد والقضاء في العام القابل، خلافاً لمن قال: يكفيهما هدي واحد. والأظهر أنه إن أكرهها: لا هدي عليها. وإذا علمت أقوال أهل العلم في جماع المحرم، ومباشرته بغير الجماع، فاعلم أن غاية ما دل عليه الدليل: أن ذلك لا يجوز في الإحرام لأن الله تعالى نص على ذلك في قوله تعالى {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ} أما أقوالهم في فساد الحج وعدم فساده، وفيما يلزم في ذلك، فليس على شيء، من أقوالهم في ذلك دليل من كتاب ولا سنة، وإنما يحتجون بآثار مروية عن الصحابة. ولم أعلم بشيء مروي في ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم إلا حديثاً منقطعاً لا تقوم بمثله حجة: وهو ما رواه أبو داود في المراسيل، والبيهقي في سننه: أخبرنا أبو بكر محمد بن صالح أنبأ أبو الحسن عبد الله بن إبراهيم الفسوي الداودي، ثنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي، ثنا أبو داود السجستاني ثنا أبو توبة، ثنا معاوية يعني: ابن سلام، عن يحيى قال: أخبرني يزيد بن نعيم أو زيد بن نعيم: شك أبو توبة: أن رجلاً من جذم جامع امرأته، وهما محرمان، فسأل الرجل رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما «اقضيا نسككما وأهديا هدياً ثم ارجعا حتى إذا جئتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا ولا يرى واحد منكما صاحبه وعليكما حجة أخرى فتقبلان حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتما فيه ما أصبنا فأحرما وأنتما نسككما واهديا».
هذا منقطع، وهو يزيد بن نعيم الأسلمي بلا شك. انتهى من البيهقي وتراه صرح بأنه منقطع وانقطاعه ظاهر، لأن يزيد بن نعيم المذكور من صغار التابعين. وقال الزيلعي في نصب الراية بعد أن ذكر الحديث المذكور، عند أبي داود في المراسيل، والبيهقي، وذكر قول البيهقي: إنه منقطع ما نصه: وقال ابن القطان في كتابه: هذا حديث لا يصح، فإن زيد بن نعيم مجهول، ويزيد بن نعيم بن هزال ثقة. وقد شك أبو توبة، ولا يعلم عمن هو منهما، ولا عمن حدثهم به معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، فهو لا يصح. قال ابن القطان: وروى ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن ابن المسيب: أن رجلاً من جذام جامع امرأته، وهما محرمان، فسأل الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما: «أتما حجكما، ثم ارجعا، وعليكما حجة أخرى، فإذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما، فأحرما وتفرقا، ولا يرى واحد منكما صاحبة ثم أتما نسككما واهديا» انتهى.
قال ابن القطان: وفي هذا أنه أمرهما بالتفرق في العودة لا في الرجوع وحديث المراسيل على العكس منه قال: وهذا ضعيف أيضاً بابن لهيعة انتهى كلامه انتهى محل الغرض منه من نصب الراية للزيلعي.
وإذا كانت هذه المسألة المذكورة ليس فيها عن النَّبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث المنقطع سنده تبين: أن عمدة الفقهاء فيها على الآثار المروية عن الصحابة، فمن ذلك ما رواه مالك في الموطأ بلاغاً أن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبا هريرة رضي الله عنهم سئلوا عن رجل أصاب أهله، وهو محرم بالحج؟ فقالوا: يَنْفُذَانِ يمضيان لوجههما حتى يقضيا حجهما ثم عليهما حج قابل والهدي. قال: وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وإذا أهلا بالحج من عام قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما ا هـ.
وهذا الأثر عن هؤلاء الصحابة منقطع أيضاً كما ترى.
وفي الموطأ أيضاً: عن مالك، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: ما ترون في رجل وقع بامرأته وهو محرم؟ فلم يقل له القوم شيئاً. فقال سعيد: إن رجلاً وقع بامرأته، وهو محرم، فبعث إلى المدينة يسأل عن ذلك، فقال بعض الناس: يفرق بينهما إلى عام قابل، فقال سعيد بن المسيب: لِيَنْفُذَا لِوْجْهِهِمَا فَلْيُتِمَّا حَجَّهُمَا الذي أفسداه، فإذا فرغا رجعا، فإن أدركهما حج قابل فعليهما الحج والهدي، ويُهِلانِ من حيث أهَلاَّ بحجهما الذي أفسداه ويتفرقان، حتى يقضيا حجهما. قال مالك: يهديان جميعاً بدنة بدنة.
قال مالك في رجل وقع بامرأته في الحج: ما بينه وبين أن يدفع عن عرفة، ويرمي الجمرة إنه يجب عليه الهدي وحج قابل، فإن كانت إصابته أهله بعد رمي الجمرة، فإنما عليه أن يعتمر، ويهدي، وليس عليه حج قابل.
قال مالك: والذي يفسد الحج أو العمرة حتى يَجِبَ عليه، في ذلك، الهَدي في الحج أو العمرة، التقاء الختانين. وإن لم يكن ماء دافق. قال: ويوجب ذلك أيضاً الماء الدافق، إذا كان من مباشرة، فأما رجل ذكر شيئاً حتى خرج منه ماء دافق، فلا أرى عليه شيئاً، ولو أن رجلاً قبَّل امرأته، ولم يكن من ذلك ماء دافق، لم يكن عليه القبلة إلا الهدي، وليس على المرأة التي يصيبها زوجها، وهي محرمة مراراً في الحج أو العمرة، وهي له في ذلك مطاوعة: إلا الهدي وحج قابل، إن أصابها في الحج، وإن كان أصابها في العمرة، فإنما عليها قضاء العمرة التي أفسدت والهدي ا هـ. وفي الموطأ أيضاً عن مالك عن أبي الزبير المكي، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أنه سُئِل عن رجل وقع بأهله، وهو بمنى، قبل أن يفيض، فأمره أن ينحر بدنة. وفي الموطإ أيضاً عن مالك، عن ثور بن زيد الديلي، عن عكرمة مولى ابن عباس أنه قال: الذي يصيب أهله قبل أن يُفِيضَ يعتمر ويهدي. وفي الموطإ أيضاً عن مالك: أنه سمع ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول في ذلك مثل قول عكرمة، عن ابن عباس. قال مالك: وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك. انتهى محل الغرض منه.
وروى البيهقي بإسناده، عن عطاء: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في محرم بحجة أصاب امرأته: يعني وهي محرمة؟ قال: يقضيان حجهما وعليهما الحج من قابل من حيث كانا أحرما، ويفترقان حتى يتما حجهما، قال وقال عطاء: وعليهما بدنة، إن أطاعته، أو استكرهها، فإنما عليهما بدنة واحدة ا هـ. وهذا الأثر منقطع أيضاً، لأن عطاء لم يدرك عمر رضي الله عنه وروى البيهقي بإسناده أيضاً: أن مجاهداً سئل عن المحرم، يواقع امرأته؟ فقال: كان ذلك على عهد عمر رضي الله عنه، قال: يقضيان حجهما والله أعلم بحجهما، ثم يرجعان حلالاً، كل واحد منهما لصاحبه، فإذا كان من قابل حجا وأهديا، وتفرقا في المكان الذي أصابها فيه.
وروى البيهقي بإسناده أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما: في رجل وقع على امرأته وهو محرم؟ قال: اقضيا نسككما، وارجعا إلى بلدكما، فإذا كان عام قابل فاخرجا حاجين، فإذا أحرمتما فتفرقا، ولا تلتقيا حتى تقضيا نسككما، وأهديا هدياً. وفي رواية: ثم أهلا من حيث أهللتما أول مرة ا هـ. قال النووي في هذا الأثر الذي رواه البيهقي عن ابن عباس، إسناده صحيح وروى البيهقي بإسناده، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه: أن رجلاً أتى عبد الله بن عمرو يسأله عن محرم، وقع بامرأته؟ فأشار إلى عبد الله بن عمر فقال: اذهب إلى ذلك فسله. قال شعيب: فلم يعرفه الرجل، فذهبت معه، فسأل ابن عمر فقال: بطل حجك. فقال الرجل: فما أصنع؟ قال: اخرج مع الناس واصنع ما يصنعون، فإذا أدركت قابلاً، فحج واهد، فرجع إلى عبد الله بن عمرو، وأنا معه فأخبره، فقال: اذهب إلى ابن عباس فسله، قال شعيب: فذهبت معه إلى ابن عباس فسأله فقال له، كما قال ابن عمر، فرجع إلى عبد الله بن عمرو، وأنا معه، فأخبره بما قال ابن عباس، ثم قال: ما تقول أنت؟ فقال: قولي مثل ما قالا ا هـ. ثم قال البيهقي هذا إسناد صحيح وفيه دليل على صحة سماع شعيب بن محمد بن عبد الله عن جده بن عمرو بن العاص، فترى هذا الأثر عن هؤلاء الصحابة الثلاثة فيه ذلك الحكم عنهم بإسناد صحيح.
وروى البيهقي أيضاً من طرق أخرى، عن ابن عباس مثل ذلك، وفي بعض الروايات عن ابن عباس: أن على كل واحد منهما بدنة، وفي بعضها: أنهما تكفيهما بدنة واحدة، فهذه الآثار عن الصحابة وبعض خيار التابعين هي عمدة الفقهاء في هذه المسألة.
الفرع التاسع: اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي: أنه إذا جامع مراراً قبل أن يكفر كفاه هدي واحد، وإن كان كفر لزمته بالجماع الثاني كفارة أخرى، كما أنه إن زنى مراراً قبل إقامة الحد عليه كفاه حد واحد إجماعاً، وإن زنى بعد إقامة الحد عليه لزمه حد آخر، وهذا هو مذهب الإمام أحمد، وممن قال بأنه يكفيه هدي واحد مطلقاً: مالك، وإسحاق، وعطاء.
والأصح في مذهب الشافعي: أنه يلزمه في الجماع الأول بدنة، وفي كل مرة بعد ذلك شاة. وعن أبي ثور: تلزمه بكل مرة بدنة، وهو رواية عن أحمد.
وعن أبي حنيفة: إن كان ذلك في مجلس واحد. فدم واحد وإلا فدمان.
واعلم أنهم اختلفوا فيما إذا جامع ناسياً لإحرامه؟ ومذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد: أن العمد والنسيان سواء بالنسبة إلى فساد الحج، وهو قول للشافعي، وهو قوله القديم. وقال في الجديد: إن وطىء ناسياً أو جاهلاً لا يفسد حجه ولا شيء عليه، أما إن قبل امرأته ناسياً لإحرامه، فليس عليه شيء عند الشافعي وأصحابه قولاً واحداً.
وقال ابن قدامة في المغني:
ينبغي أن يكون الأمر كذلك في المذهب الحنبلي.
واعلم أن الجماع المفسد للحج هو التقاء الختانين الموجب للحد والغسل كما قدمناه في كلام مالك في الموطإ، والأظهر أن الإتيان في الدبر كالجماع في إفساد الحج، وكذلك الزنا أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من فعل كل ما لا يرضي الله تعالى.
وقد قدمنا أن أظهر قولي أهل العلم عندنا أنه يفرق بين الزوجين اللذين أفسدا حجهما، وذلك التفريق بينهما في حجة القضاء. لا في جميع السنة.
وظاهر الآثار المتقدمة أن ذلك التفريق بينهما إنما يكون من الموضع الذي جامعها فيه، وعن مالك: يفترقان من حيث يحرمان، ولا ينتظر موضع الجماع، وهو رواية عن أحمد، وهو أظهر. وعن مالك وأحمد: أن التفريق المذكور واجب وهو قول أو وجه عند الشافعية، والثاني عندهم: أنه مستحب وهو وجه أيضاً عن الحنابلة، وممن قال بالتفريق بينهما: عمر بن الخطاب، وعثمان، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والثوري، وإسحاق، وابن المنذر. كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب ونقله ابن قدامة في المغني، عن عمر وابن عباس، وسعيد بن المسيب وعطاء، والنخعي والثوري، وأصحاب الرأي وغيرهم، وعن أبي حنيفة وعطاء: لا يفرق بينهما، ولا يفترقان قياساً على الجماع في نهار رمضان، فإنهما إذا قضيا اليوم الذي أفسداه لا يفرق بينهما.
واعلم أنا قدمنا خلاف العلماء في الهدي الذي على المفسد حجه بالجماع، وذكرنا أنه عند مالك والشافعي وأحمد: بدنة، وهو قول جماعات من الصحابة وغيرهم منهم ابن عباس، وطاوس، ومجاهد الثوري، وأبو ثور، وإسحاق، وغيرهم. ولم نتكلم على ما يلزمه إن عجز عن البدنة، وفي ذلك خلاف بين أهل العلم، فذهب بعضهم إلى أنه إن عجز عن البدنة كفته شاة، وممن قال به الثوري، وإسحاق، وذهب بعضهم: إلى أنه إن لم يجد بدنة فبقرة، فإن لم يجد بقرة فسبع من الغنم، فإن لم يجد أخرج بقيمة البدنة طعاماً، فإن لم يجد صام عن كل مد يوماً، وهذا هو مذهب الشافعي، وبه قال جماعة من أهل العلم. وعن أحمد رواية: أنه مخير بين هذه الخمسة المذكورة.
واعلم أن المفسد حجه بالجماع إذا قضاه على الوجه الذي أحرم به في حجه الفاسد، كأن يكون في حجه الفاسد مفرداً ويقضيه مفرداً أو قارناً، ويقضيه قارناً فلا إشكال في ذلك وكذلك إن كان مفرداً في الحج الذي أفسده وقضاه قارناً فلا إشكال لأنه جاء بقضاء الحج مع زيادة العمرة، وأما إذا كان قارناً في الحج الذي أفسده ثم قضاه مفرداً، فالظاهر أن الدم اللازم له بسبب القران لا يسقط عنه بإفراده في القضاء، خلافاً لمن زعم ذلك.
وقال النووي في شرح المهذب: إذا وطىء القارن، فسد حجه وعمرته، ولزمه المضي في فاسدهما، وتلزمه بدنة للوطء، وشاة بسبب القران، فإذا قضى لزمته أيضاً شاة أخرى، سواء قضى قارناً، أم مفرداً لأنه توجه عليه القضاء قارناً، فإذا قضى مفرداً لا يسقط عنه دم القران. قال العبدري: وبهذا كله قال مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: إن وطىء قبل طواف العمرة، فسد حجه وعمرته، ولزمه المضي في فاسدهما والقضاء، وعليه شاتان: شاة لإفساد الحج، وشاة لإفساد العمرة ويسقط عنه دم القران، فإن وطىء بعد طواف العمرة فسد حجه، وعليه قضاؤه وذبح شاة، ولا تفسد عمرته فتلزمه بدنة بسببها، ويسقط عنه دم القران.
قال ابن المنذر، وممن قال يلزمه هدي واحد: عطاء وابن جريج ومالك والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور. وقال الحكم: يلزمه هديان ا هـ. من شرح المهذب.
وقد قدمنا أن الأظهر عندنا: أن الزوجين المفسدين حجهما بالجماع تلزم كل واحد منهما بدنة، إن كانت مطاوعة له، وهو مذهب مالك. وبه قال النخعي، وهو أحد القولين للشافعي.
قال النووي: قال ابن المنذر:
وأوجب ابن عباس، وابن المسيب والضحاك والحكم، وحماد، والثوري، وأبو ثور على كل واحد منهما هدياً، وقال النخعي ومالك: على كل واحد منهما بدنة.
وقال أصحاب الرأي: إن كان قبل عرفة، فعلى كل واحد منهما شاة، وعن أحمد روايتان:
إحداهما: يجزئهما هدي واحد.
والثانية: على كل واحد منهما هدي، وقال عطاء وإسحاق: لزمهما هدي واحد.
الفرع العاشر: إذا جامع المحرم بعمرة قبل طوافه: فسدت عمرته إجماعاً، وعليه المضي في فاسدها والقضاء والهدي، فإن كان جماعه بعد الطواف، وقبل السعي فعمرته فاسدة أيضاً عند الشافعي، وأحمد، وأبي ثور، وهو مذهب مالك فعليه إتمامها، والقضاء والدم، وقال عطاء: عليه شاة، ولم يذكر القضاء. وقال أبو حنيفة: إن جامع المعتمر بعد أن طاف بالبيت أربعة أشواط لم تفسد عمرته، وعليه دم، وإن طاف ثلاثة أشواط، فسدت، وعليه إتمامها والقضاء ودم، وأما إن كان جماعه بعد الطواف والسعي، ولكنه قبل الحلق، فلم يقل بفساد عمرته إلا الشافعي.
قال ابن المنذر: ولا أحفظ هذا عن غير الشافعي. وقال ابن عباس، والثوري، وأبو حنيفة: عليه دم دم، وقال مالك: عليه الهدي، وعن عطاء: أنه يستغفر الله، ولا شيء عليه، قال ابن المنذر: قول ابن عباس أعلا. انتهى بواسطة نقل النووي.
وأظهر قولي أهل العلم عندي: أن المحرمة التي أكرهها زوجها على الوطء حتى أفسد حجها أو عمرتها بذلك، أن جميع التكاليف اللازمة لها بسبب حجة القضاء من نفقات سفرها في الحج، كالزاد والراحلة والهدي اللازم لها كله على الزوج، لأنه هو الذي تسبب لها في ذلك وإن كانت بانت منه، ونكحت غيره، وأنه إن كان عاجزاً لفقره صرفت ذلك من مالها، ثم رجعت عليه بذلك، إن أيسر، وهذا مذهب مالك وأصحابه وعطاء، ومن وافقهم، خلافاً لمن قال: إن جميع تكاليف حجة القضاء في مالها لا في مال الزوج، وهو قول بعض أهل العلم.
قال الشيخ شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته، على تبيين الحقائق، شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي ما نصه: قال في شرح الطحاوي: أما المرأة إذا كانت نائمة، أو جامعها صبي أو مجنون، فذلك كله سواء، ولا ترجع المرأة من ذلك بما لزمها عَلَى المكره، لأن ذلك شيء لزمها فيما بينها، وبين الله غير محبور عليه كرجل أكره على النذر، فإنه يلزمه، فإذا أدى ما لزمه، فإنه لا يرجع على المكره، كذلك هنا انتهى إتقاني رحمه الله تعالى. انتهى كلام الشلبي في حاشيته.
وقال في موضع آخر من حاشيته المذكورة: ثم إذا كانت مكرهة حتى فسد حجها ولزمها دم، هل ترجع على الزوج، عن أبي شجاع: لا، وعن القاضي أبي حازم: نعم ا هـ.
وقد ذكرنا أن الأظهر عندنا لزوم ذلك لزوجها الذي أكرهها، ووجهه ظاهر جداً، لأن سببه هو جنابته بالجماع، الذي لا يجوز له شرعاً، ومن تسبب في غرامة إنسان بفعل حرام، فإلزامه تلك الغرامة لا شك في ظهور وجهه، والعلم عند الله تعالى.
وقال ابن قدامة في المغني: في مذهب أحمد في هذه المسألة: ما نصه: وإذا كانت المرأة مكرهة على الجماع، فلا هدي عليها، ولا على الرجل أن يهدي عنها نص عليه أحمد لأنه جماع يوجب الكفارة، فلم يجب به حال الإكراه أكثر من كفارة واحدة كما في الصيام، وهذا قول إسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر.
وعن أحمد رواية أخرى: أن عليه أن يهدي عنها، وهو قول عطاء، ومالك، لأن إفساد الحج وجد منه في حقها، فكان عليه لإفساده حجها هدي قياساً على حجه، وعنه ما يدل على أن الهدي عليها، لأن فساد الحج ثبت بالنسبة إليها، ويحتمل أنه أراد أن الهدي عليها، ويتحمله الزوج عنها، فلا يكون رواية ثالثة. انتهى منه.
وفي مذهب الشافعي في هذه المسألة وجهان، الأصح منهما عند أصحاب الشافعي:
وجوب ذلك على الزوج كما بينه النووي في شرح المهذب. كما إن كانت مطاوعة له، فالأظهر أن على كل واحد منهما تكاليف حجة القضاء، وكل ما سببه الوطء المذكور لأنهما سواء فيه، ولا ينبغي العدول عن ذلك.
الفرع الحادي عشر: اعلم أنا قدمنا أن من أفسد حجه أو عمرته، لزمه القضاء، وقد بينا أن الصحيح وجوبه على الفور لا على التراخي، وسواء في ذلك كان الحج والعمرة فرضاً أو نفلاً، لأن النفل منهما يصير فرضاً بالشروع فيه، وقد أردنا أن نبين في هذا الفرع أنه لو أحرم بالقضاء، فأفسده أيضاً بالجماع، لزمته الكفارة ولزمه قضاء واحد، ولو تكرر ذلك منه مائة مرة، ويقع القضاء عن الحج الأول أي الذي أفسده أولاً، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني عشر: قد قدَّمنا أن مما يمنع بسبب الإحرام، حلق شعر الرأس لقوله تعالى {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ} فإن حلق شعر رأسه لأجل مرض، أو أذى ككثرة القمل في رأسه، فقد نص تعالى على ما يلزمه بقوله {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}.
وهذه الآية الكريمة نزلت في كعب بن عجرة رضي الله عنه، والتحقيق الذي لا شك فيه: أن الثلاثة المذكورة في الآية على سبيل التخيير بينها لأن لفظة أو في قوله {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} حرف تخيير، والتحقيق أن الصيام المذكور ثلاثة أيام، وأن الصدقة المذكورة ثلاثة آصع بين ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وما سوى هذا فهو خلاف التحقيق.
وقد روى الشيخان في صحيحيهما، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: كان بي أذى من رأسي، فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: «ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ منك ما أرى، أتجد شاة؟ قلت: لا. فنزلت الآية {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قال: هو صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين نصف صاع نصف صاع طعاماً لكل مسكين» وفي رواية «أتى عَلَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية فقال: كأن هوام رأسك تؤذيك؟ فقلت: أجل. قال: فاحلقه، واذبح شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو تصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين» رواه مسلم، وأحمد، وأبو داود، ولأبي داود في رواية «فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، فرقاً من زبيب، أو انسك شاة فحلقت رأسي ثم نسكت» وفي رواية عند البخاري، عن كعب بن عجرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لعلك آذاك هوامك؟ قال: نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة» وفي رواية عند البخاري أيضاً، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال «وقف عَليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ورأسي يتهافت قملاً فقال: يؤذيك هوامُّك؟ قلت: نعم. قال: فاحْلِقْ رأسك، أو قال: احلق قال: فيَّ نزلت هذه الآية {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} إلى آخرها فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق بين ستة، أو انسك بما تيسر» وفي رواية عند البخاري أيضاً «فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يُطْعِمَ فَرَقاً بين ستة أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام». وبعض هذه الروايات في صحيح مسلم وفيه غيرها بمعناها. والفَرق ثلاثة آصع. فهذه النصوص الصحيحة الصريحة: مبينة غاية البيان آية الفدية، موضحة: أن الصيام المذكور في الآية ثلاثة أيام، وأن الصدقة فيها ثلاثة آصع بين ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وأن النسك فيها ما تيسر شاة فما فوقها، وأن ذلك على سبيل التخيير بين الثلاثة، كما هو نص الآية، والأحاديث المذكورة، وهذا لا ينبغي العدول عنه، لدلالة القرآن، والسنة الصحيحة عليه، وهو قول جماهير العلماء.
وبه تعلم أن قول الحسن والثوري وعكرمة ونافع: أن الصيام عشرة أيام، والصدقة على عشرة مساكين، خلاف الصواب لما ذكرنا، وإنما يقول أصحاب الرأي: من أنه يجزىء نصف صاع من البر خاصة لكل مسكين، وأما غير البر كالتمر والشعير مثلاً، فلا بد من صاع كامل لكل مسكين، خلاف الصواب أيضاً لمخالفته للروايات الصحيحة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها آنفاً، وأن ما رواه الطبري وغيره، عن سعيد بن جبير: من أن الواجب أولاً النسك، فإن لم يجد نسكاً، فهو مخير بين الصوم والصدقة، خلاف الصواب أيضاً، للأدلة التي ذكرناها، وهي واضحة صريحة في التخيير.
ومن أصرحها في التخيير ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، عن داود، عن الشعبي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له «إن شئت فانسك نسيكة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين» ا هـ. فصراحة هذا في التخيير بين الثلاثة كما ترى وما رواه مالك في موطئه، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرماً، فآذاه القمل في رأسه، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه، وقال: «صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ، لكل إنسان أو انسك بشاة. أيَّ ذلك فعلت أجزأ عنك» ا هـ من الموطأ.
وقوله «أيَّ ذلك فعلت أجزأ عنك» صريح في التخيير كما ترى، مع أن الآية الكريمة، والروايات الثابتة في الصحيحين نصوص صريحة في ذلك لصراحة لفظة، أو في التخيير والعلم عند الله تعالى.
وهذا الذي بينا حكمه الآن: هو حلق جميع شعر الرأس أما حلق بعض شعر الرأس، أو شعر باقي الجسد غير الرأس، فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله.
واعلم أن ما جاء في بعض الروايات أن النسك المذكور في الآية بقرة، يجاب عنه من وجهين، وسنذكر هنا إن شاء الله بعض الروايات الواردة بذلك، والجواب عنها.
قال أبو داود في سننه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن نافع: أن رجلاً من الأنصار أخبره عن كعب بن عجرة، وكان قد أصابه في رأسه أذى، فحلق فأمره النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يهدي هدياً بقرة. ا هـ منه.
وقال ابن حجر في الفتح: بعد أن أشار لحديث أبي داود: هذا وللطبراني من طريق عبد الوهاب بن بخت، عن نافع عن ابن عمر قال: حلق كعب بن عجرة رأسه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفتدي فافتدى ببقرة.
ولعبد بن حميد من طريق أبي معشر، عن نافع، عن ابن عمر قال: افتدى كعب من أذى كان في رأسه، فحلقه ببقرة قلدها وأشعرها.
ولسعيد بن منصور من طريق ابن أبي ليلى، عن نافع عن سليمان بن يسار قيل لابن كعب بن عجرة: ما صنع أبوك حين أصابه الأذى في رأسه؟ قال: ذبح بقرة. انتهى من الفتح. ثم قال: فهذه الطرق كلها تدور على نافع.
وقد اختلف عليه في الواسطة التي بينه وبين كعب، وقد عارضها ما هو أصح منها، من أن الذي أمر به كعب وفعله إنما هو شاة.
وروى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد من طريق المقبري، عن أبي هريرة: أن كعب بن عجرة ذبح شاة لأذى كان أصابه، وهذا أصوب من الذي قبله، واعتمد ابن بطال على رواية نافع، عن سليمان بن يسار فقال: أخذ كعب بأرفع الكفارات، ولم يخالف النَّبي صلى الله عليه وسلم فيما أمره به من ذبح الشاة، بل وافقه، وزاد ففيه: أن من أفتى بأيسر الأشياء فله أن يأخذ بأرفعها، كما فعل كعب.
قلت: هو فرع ثبوت الحديث ولم يثبت لما قدمته. والله أعلم. انتهى كلام ابن حجر.
وقد علمت منه الروايات المقضية: أن النسك في آية الفدية المذكورة بقرة، وأن الجواب عنها من وجهين:
الأول: عدم ثبوت الروايات الواردة بالبقرة، ومعارضتها بما هو صحيح ثابت من أن النسك المذكور في الآية شاة كما قدمناه.
والجواب الثاني: أنا لو فرضنا أن تلك الروايات ثابتة، فهي لا تعارض الروايات الصحيحة الدالة، على أن النسك المذكور: شاة، وذلك بأن اللازم هو الشاة، والتطوع بالبقرة تطوع بأكثر من اللازم. ولا مانع من التطوع بأكثر مما يلزم، والعلم عند الله تعالى.
وهذا الذي ذكرنا حكمه: هو حلق الرأس لعذر كمرض، أو أذى في الرأس ككثرة القمل فيه، كما هو موضوع آية الفدية، والأحاديث التي ذكرنا.
أما إن حلق رأسه قبل وقت الحلق لغير عذر من مرض، أو أذى من رأسه، فقد اختلف أهل العلم فيما يلزمه، فذهب مالك والشافعي وهو ظاهر مذهب أحمد: إلى أن الفدية في العمد بلا عذر، حكمها حكم الفدية لعذر المرض، أو الأذى في الرأس، ولا فرق بين المعذور وغيره، إلا في الإثم، فإن المعذور تلزمه الفدية، ولا إثم عليه ومن لا عذر له تلزمه الفدية المذكورة مع الإثم، وهو مروي عن الثوري.
وعن الحنابلة وجه: أنه لا فدية على من حلق ناسياً إحرامه، وهو قول إسحاق، وابن المنذر، واحتجوا بالأدلة الدالة على العذر بالنسيان.
وذهب أبو حنيفة: إلى الفرق بين من حلق لعذر ومن حلق لغير عذر، فإن حلقه لعذر، فعليه الفدية المذكورة في الآية على سبيل التخيير، وفاقا للجمهور، وإن كان حلقه لغير عذر تعين عليه الدم دون الصيام والصدقة، ولا أعلم لأقوالهم رحمهم الله في هذه المسألة نصاً واضحاً يجب الرجوع إليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع.
أما الذين قالوا: إن فدية غير المعذور كفدية المعذور. فاحتجوا، بأن الحلق إتلاف، فاستوى عمده وخطأه كقتل الصيد. قالوا: ولأن الله تعالى أوجب الفدية على من حلق رأسه لأذى به وهو معذور، فكان ذلك تنبيهاً على وجوبها على غير المعذور ا هـ. ولا يخفى أن هذا النوع من الاستدلال وأمثاله ليس فيه مقنع.
وأما الذين فرقوا بين المعذور وغيره، وهم الحنفية فاستدلوا بظاهر قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قالوا: فرتب الفدية المذكورة على العذر، فدل ذلك على أن من ليس له عذر، لا يكون له هذا الحكم المرتب على العذر خاصة.
واحتج بعض أجلاء علماء الشافعية على استدلال الحنفية بالآية المذكورة بأنه قول بدليل الخطاب: يعني مفهوم المخالفة، والمقرر في أصول الحنفية: عدم الاحتجاج بدليل الخطاب.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لا يلزم الحنفية احتجاج الشافعية المذكور علهيم لأنهم يقولون: نعم نحن لا نعتبر مفهوم المخالفة، ولكن نرى أن قوله {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} ليس فيه تعرض لحكم الحالق لغير عذر، لا بنفي الفدية المذكورة، ولا بإثباتها وقد ظهر لنا من دليل آخر خارج عن الآية: أنه يلزمه دم ا هـ. ولا خلاف بين أهل العلم:
أن صيام الفدية له أن يصومه حيث شاء، والأظهر عندي في النسك، والصدقة أيضاً أن له أن يفعلهما حيث شاء، لأن فدية الأذى أشبه بالكفارة منها بالهدي، ولأن الله لم يذكر للفدية محلاً معيناً، ولم يذكره النَّبي صلى الله عليه وسلم وسماها نسكاً ولم يسمها هدياً، والظاهر أنه لا مانع من أن ينوي بالنسك المذكور الهدي، فيجري على حكم الهدي، فلا يصح في غير الحرم، إلا أنه لا يجوز له الأكل منه، لأنه في حكم الكفارة، كما قاله علماء المالكية، وعند الحنفية، ومن وافقهم يختص النسك المذكور بالحرم. والعلم عند الله تعالى. أما إذا كان الذي حلقه بعض شعر رأسه لا جميعه، أو كان شعر جسده، أو بعضه لا شعر الرأس، فليس في ذلك نص صريح من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، لأن الله جل وعلا إنما ذكر في آية الفدية: حلق الرأس، وظاهرها حلق جميعه لا بعضه، والعلماء مختلفون في ذلك ولم يظهر لنا في مستندات أقوالهم. ما فيه مقنع، يجب الرجوع إليه والعلم عند الله تعالى.
فذهب مالك رحمه الله وأصحابه إلى أن ضابط ما تلزم به فدية: الأذى من الحلق هو حصول أحد أمرين:
أحدهما: أن يحصل له بذلك ترفه.
والثاني: أن يزيل عنه به أذى. أما حلق القليل من شعر رأسه، أو غيره مما لا يحصل به ترفه، ولا إماطة أذى، فيلزم فيه التصدق بحفنة: وهي يد واحدة، وكذلك عندهم الظفر الواحد لا لإماطة أذى، وقتل القملة أو القملات.
وقال ابن القاسم في المدونة: ما سمعت بحد فيما دون إماطة الأذى أكثر من حفنة من شيء من الأشياء، وقد قال في قملة أو قملات حفنة من طعام، والحفنة بيد واحدة. انتهى بواسطة نقل المواق في شرحه لقول خليل في مختصره، وفي الظفر الواحد، لا لإماطة الأذى حفنة ا هـ.
وذهب الشافعي وأصحابه: إلى أن حلق ثلاث شعرات فصاعداً تلزم فيه فدية الأذى كاملة، واحتجوا بأن الثلاث: يقع عليها اسم الجمع المطلق، فكان حلقها كحلق الجميع، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وقال القاضي: إنها المذهب، وبذلك قال الحسن، وعطاء، وابن عيينة وأبو ثور، كما نقله عنهم صاحب المغني. أما حلق الشعرة الواحدة، أو الشعرتين فللشافعية فيه أربعة أقوال:
الأول: وهو أصحها عند محققيهم، وهو نص الشافعي في أكثر كتبه: أنه يجب في الشعرة الواحدة مد وفي الشعرتين مدان.
الثاني: يجب في شعرة واحدة درهم، وفي شعرتين درهمان.
الثالث: يجب في شعرة: ثلث دم وفي شعرتين: ثلثاه.
الرابع: أن في الشعرة الواحدة دماً كاملاً. ومذهب الإمام أحمد: وجوب الفدية كاملة في أربع شعرات فصاعداً، وهذه الرواية اقتصر عليها الخرقي، وقد قدمنا قريباً، الرواية عنه بوجوب الفدية بثلاث شعرات فصاعداً. أما ما هو أقل من القدر. الذي يوجب الفدية، وهو ثلاث شعرات، أو شعرتان بحسب الروايتين المذكورتين ففي الشعرة الواحدة: مد من طعام، وفي الشعرتين: مدان، وعنه أيضاً في كل شعرة: قبضة من طعام، وروي نحوه عن عطاء.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن حلق ربع رأسه، أو ربع لحيته، أو حلق عضواً كاملاً كرقبته، أو عانته أو أحد إبطيه، ونحو ذلك: لزمته فدية الأذى، إن كان ذلك لعذر، وإن كان لغير عذر: لزمه دم، ويلزم عنده في حلق أقل مما ذكر كحلق أقل من ربع الرأس، أو ربع اللحية، أو أقل من عضو كامل صدقة، والصدقة عندهم: نصف صاع من بر، أو صاع من غيره.
وروي عن أبي حنيفة وأصحابه: أن في كل شعرة قبضة من طعام كما ذكره عنهم صاحب المغني.
وأما حلق شعر البدن غير الرأس، فقد علمت مما ذكرنا آنفاً أن مذهب أبي حنيفة فيه: أنه إن حلق عضواً كاملاً ففيه الفدية أو الدم، وإن حلق أقل من عضو، ففيه الصدقة، وأن حكم اللحية عنده كحكم الرأس، وحلق الربع فيهما كحلق الجميع.
ومذهب الشافعي أن حلق شعر الجسد غير الرأس كحكم حلق الرأس، فتلزم الفدية في ثلاث شعرات فصاعداً، سواء كانت من شعر الرأس أو غيره من الجسد، وفي الشعرة، أو الشعرتين من الجسد عندهم الأقوال الأربعة المتقدمة، وإن حلق شعر رأسه وشعر بدنة معاً، لزمه عند الشافعي، وأصحابه: فدية واحدة، خلافاً لأبي القاسم الأنماطي القائل: يلزمه فديتان، محتجاً بأن شعر الرأس مخالف لشعر البدن، لأن النسك يتعلق بشعر الرأس، فيلزم حلقه، أو تقصيره بخلاف شعر البدن.
واحتج الشافعية بأنهما، وإن اختلف حكمهما في النسك فهما جنس واحد، فأجزأت لهما فدية واحدة.
ومذهب الإمام أحمد في هذه المسألة كمذهب الشافعي فشعر الرأس وشعر البدن حكمهما عنده سواء. وإن حلق شعر رأسه، وبدنه: فعليه فدية واحدة، وعنه رواية أخرى: أنه يلزمه دمان، إذا حلق من كل من الرأس، والجسد ما تجب به الفدية منفرداً عن الآخر كقول الأنماطي المتقدم.
قال في المغني: وهو الذي ذكره القاضي، وابن عقيل، لأن الرأس يخالف البدن، بحصول التحلل به دون البدن، ولنا أن الشعر كله جنس واحد في البدن، فلم تتعدد الفدية فيه باختلاف مواضعه كسائر البدن، وكاللباس، ودعوى الاختلاف تبطل باللباس فإنه يجب كشف الرأس، دون غيره، والجزا في اللبس فيهما واحد.
وقال ابن قدامة في المغني أيضاً: وإن حلق من رأسه شعرتين، ومن بدنه شعرتين فعليه دم واحد هذا ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي الخطاب، ومذهب أكثر الفقهاء. ومذهب مالك في هذه المسألة: أن شعر البدن كشعر الرأس فإن حلق من شعر بدنه ما فيه ترفه، أو إماطة أذى: لزمته الفدية، وإلا فالتصدق بحفنة بيد واحدة.
وسئل مالك: عن المحرم يتوضأ فيمر يديه على وجهه، أو يخلل لحيته في الوضوء، أو يدخل يده في أنفه لمخاط ينزعه، أو يمسح رأسه، أو يركب دابته، فيحلق ساقه إلا كاف أو السرج؟ قال مالك: ليس عليه في ذلك كله شيء، وهذا خفيف، ولا بد للناس منه انتهى بواسطة نقل الخطاب في كلامه على قول خليل، وتساقط شعر لوضوء أو ركوب ا هـ.
وإذا علمت أقوال الأئمة رحمهم الله في شعر الجسد. فاعلم أني لا أعلم لشيء منها مستنداً من نص كتاب، أو سنة.
والأظهر أنهم قاسوا شعر الجسد على شعر الرأس، بجامع أن الكل قد يحصل بحلقه الترفه، والتنظف، والظاهر أن اجتهادهم في حلق بعض شعر الرأس يشبه بعض أنواع تحقيق المناط، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثالث عشر ـ في حكم قص المحرم أظافره أو بعضها:
وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فالصحيح مِن مذهب مالك: أنه إن قلم ظفرين فصاعداً: لزمته الفدية مطلقاً، وإن قلم ظفراً واحداً، الإماطة أذى عنه: لزمته الفدية أيضاً، وإن قلمه لا لإماطة أذى: لزمه إطعام حفنة بيد واحدة.
قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره: وفي الظفر الواحد لا لإماطة الأذى حفنة، ما نصه: أما لو قلم ظفرين فلم أرَ في ابن عبد السلام والتوضيح، وابن فرحون في شرحه، ومناسكه وابن عرفة، والتادلي، والطراز وغيرهم خلافاً في لزوم الفدية، ولم يفصلوا كما فصلوا في الظفر الواحد والله أعلم انتهى منه.
ولا ينبغي أن يختلف في أن الظفر إذا انكسر جاز أخذه، ولا شيء فيه، لأنه بعد الكسر لا ينمو فهو كحطب شجر الحرم. والله أعلم.
ومذهب الشافعي وأصحابه: أن حكم الأظفار كحكم الشعر، فإن قلم ثلاثة أظفار، فصاعداً، فعليه الفدية كاملة، وأظفار اليد والرجل في ذلك سواء، وإن قلم ظفراً واحداً أو ظفرين ففيه الأقوال الأربعة فيمن حلقٍ شعرة واحدة أو شعرتين، وقد قدمنا أن أصحها عندهم أن في الشعرة: مداً، وفي الشعرتين: مدين، وباقي الأقوال المذكورة موضح قريباً ومذهب الإمام أحمد في الأظفار كمذهبه في الشعر، ففي أربعة أظفار، أو ثلاثة على الرواية الأخرى: فدية كاملة، وحكم الظفر الواحد كحكم الشعرة الواحدة، وحكم الظفرين كحكم الشعرتين. وقد تقدم موضحاً قريباً.
ومذهب أبي حنيفة في هذه المسألة: أنه لو قص أظفار يديه ورجليه جميعاً بمجلس واحد، أو قص أظفار يد واحدة كاملة في مجلس، أو رجل كذلك لزمه الدم، وإن قطع مثلاً خمسة أظفار ثلاثة من يد واثنان من رجل، أو يد أخرى، أو عكس ذلك: فعليه الصدقة: وهي نصف صاع من بُر عن كل ظفر، والمعروف عند الحنفية في باب الفدية: أن ما كان لعذر ففيه فدية الأذى المذكورة في الآية، وما كان لغير عذر ففيه الدم. أما لو قص أظفار إحدى يديه، أو رجليه في مجلس، والأخرى في مجلس آخر، فعند أبي حنيفة، وأبي يوسف: يتعدد الدم، حتى إنه يمكن أن تلزمه أربعة دماء للرجلين واليدين، إذا كانت كل واحدة في مجلس، وعند محمد: لا يلزمه إلا دم واحد، ولو تعددت المجالس إلا إذا تخللت الكفارة بينهما، وقد علمت أنه لو قص أظافر أكثر من خمسة متفرقة من الرجلين واليدين: ليس عليه إلا الصدقة عندهم.
وقال زفر: يجب الدم بقص ثلاثة أظفار من اليد أو من الرجل، وهو قول أبي حنيفة الأول، بناءً على اعتبار الأكثر، والثلاثة أكثر من الباقي بعدها بالنسبة إلى الخمسة.
وقال ابن قدامة في المغني: قال ابن المنذر: وأجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره، وعليه الفدية بأخذها في قول أكثرهم، وهو قول حماد، ومالك، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي. وروي ذلك عن عطاء، وعنه لا فدية عليه، لأن الشرع لم يرد فيه بفدية، ولم يعتبر ابن المنذر في حكايته الإجماع قول داود الظَّاهري: إن المحرم له أن يقص أظفاره، ولا شيء عليه لعدم النص، وفي اعتبار داود في الإجماع خلاف معروف، والأظهر عند الأصوليين اعتباره في الإجماع. والله تعالى أعلم.
ثم قال صاحب المغني: ولنا أنه أزال ما منع إزالته لأجل الترفه، فوجبت عليه الفدية كحلق الشعر، وعدم النص فيه، لا يمنع قياسه. كشعر البدن مع شعر الرأس، والحكم في فدية الأظفار كالحكم في فدية الشعر سواء في أربعة منها: دم. وعنه في ثلاثة: دم، وفي الظفر الواحد: مد من طعام وفي الظفرين: مدان على ما ذكرنا من التفصيل والاختلاف فيه. وقول الشافعي وأبي ثور كذلك انتهى محل الغرض منه.
وإذا عرفت مذاهب الأئمة في حكم قص المحرم أظفاره، وما يلزمه في ذلك فاعلم أني لا أعلم لأقوالهم مستنداً من النصوص، إلا ما ذكرنا عن ابن المنذر، من الإجماع على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره، أما لزوم الفدية، فلم يدع فيه إجماعاً، وإلا ما جاء عن بعض السلف من الصحابة والتابعين، من تفسير آية الحج، فإنه يدل على منع المحرم من أخذ أظفاره كمنعه من حلق شعره حتى يبلُغَ الهديُ مَحِلَّه، والآية المذكورة هي قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ}.
قال صاحب الدر المنثور في التفسير بالمأثور: وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} قال: «يعني بالتفث: وضع إحرامهم من حلق الرأس، ولبس الثياب، وقص الأظفار، ونحو ذلك».
وقال أيضاً: وأخرج ابن أبي شيبة، عن محمد بن كعب قال: التفث: حلق العانة ونتف الإبط، والأخذ من الشارب، وتقليم الأظفار ا هـ. ونحو هذا كثير في كلام المفسرين وإن فسر بعضهم الآية بغيره.
وعلى التفسير المذكور فالآية تدل على: أن الأظفار كالشعر بالنسبة إلى المحرم، ولا سيما أنها معطوفة بثم على نحر الهدايا لأن الله تعالى قال {لِّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ} والمراد بذكر اسمه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام:
التسمية عند نحر الهدايا والضحايا، ثم رتب على ذلك قوله {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} فدل على أن الحلق وقص الأظافر، ونحو ذلك، ينبغي أن يكون بعد النحر كما قال تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ} وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: أن من حلق قبل أن ينحر لا شيء عليه. كما بيناه موضحاً في سورة البقرة في الكلام على قوله {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} ويؤيد التفسير المذكور الدال على ما ذكرنا كلام أهل اللغة.
قال الجوهري في صحاحه: التفث في المناسك: ما كان من نحو قص الأظفار، والشارب وحلق الرأس، والعانة، ورمي الجمار، ونحر البدن، وأشباه ذلك. قال أبو عبيدة: ولم يجىء فيه شِعر يحتج به ا هـ منه.
قال صاحب القاموس: التفث محركة في المناسك: الشعث، وما كان من نحو قص الأظفار، والشارب، وحلق العانة، وغير ذلك. وككتف الشعث والمغبر ا هـ.
وقال صاحب اللسان: التفث: الشعر وقص الأظفار. الخ.
وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره في الكلام على معنى التفث. قال ابن العربي: وهذه اللفظة غريبة لم يجد أهل العربية فيها شعراً، ولا أحاطوا بها خبراً، لكني تتبعت التَّفَتثَ لغةً فرأيت أبا عبيدة معمر بن المثنى قال: إنه قص الأظفار وأخذ الشارب، وكل ما يحرم على المُحرم إلا النكاح، ولم يجىء فيه شِعر يحتج به. وقال صاحب العين: التَّفَث: هو الرمي والحلق، والتقصير، والذبح، وقص الأظفار، والشارب، والإبط. وذكر الزجاج والفراء نحوه، ولا أراهم أخذوه إلا من قول العلماء، وقال قطرب: تَفَثَ الرجل: إذا كثر وسخه. قال أمية بن أبي الصلت:
حلقوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا ولم يسلوا لهم قملاً وصئبانا
وما أشار إليه قطرب هو الذي قاله ابن وهب عن مالك، وهو الصحيح في التفث، وهذه صورة إلقاء التفث لغة، إلى أن قال: قلت ما حكاه عن قطرب، وذكر من الشعر قد ذكره في تفسيره الماوردي، وذكر بيتاً آخر فقال: قضوا تَفَثاً ونحباً ثم ساروا إلى نجدٍ وما انتظروا عليا

وقال الثعلبي: وأصل التفث في اللغة: الوسخ، تقول العرب للرجل تستقذره: ما أتفثك أي ما أوسخك وأقذرك.
قال أمية بن أبي الصلت: ساخين آباطهم لم يقذفوا تَفَثا وينزعوا عنهم قملاً وصئبانا

انتهى من القرطبي.
والظاهر أن قوله: ساخين آباطهم ـ البيت، من قولهم: سخاً يسخو سخواً إذا سكن من حركته: يعني أنهم ساكنون عن الحركة إلى آباطهم بالحلق، بدليل قوله بعده: ... لم يقذفوا تفثا وينزعوا عنهم قملاً وصئبانا

الفرع الرابع عشر: وقد قدمنا في أول الكلام في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه، ما يُمنع المحرم من لبسه من أنواع الملبوس، وسنذكر في هذا الفرع ما يلزم في ذلك عند الأئمة.
فذهب الشافعي، وأصحابه: إلى أنه إن لبس شيئاً مما قدمنا أنه لا يجوز لبسه مختاراً عامداً، أثم بذلك، ولزمته المبادرة إلى إزالته ولزمته الفدية سواءً قصر زمان اللبس أو طال، لا فرق عندهم في ذلك، ولا دليل عندهم للزوم الفدية في ذلك، إلا القياس على حلق الرأس المنصوص عليه في آية الفدية، واللبس الحرام الموجب للفدية عندهم محمول على ما يعتاد في كل ملبوس، فلو التحف بقميص أو قباء، أو ارتدى بهما، أو ائتزر سراويل: فلا فدية عليه عندهم، لأنه ليس لبساً له في العادة، فهو عندهم كمن لفق إزاراً من خرق وطبقها وخاطها: فلا فدية عليه بلا خلاف، وكذا لو التحف بقميص أو بعباءة أو إزار ونحوها ولفها عليه طاقاً أو طاقين، أو أكثر فلا فدية، وسواء فعل ذلك في النوم أو اليقظة قاله النووي ثم قال: قال أصحابنا: وله أن يتقلد المصحف وحمائل السيف، وأن يشد الهميان والمنطقة في وسطه، ويلبس الخاتم، ولا خلاف في جواز هذا كله، وهذا الذي ذكرناه في المنطقة والهميان مذهبنا، وبه قال العلماء كافة، إلا ابن عمر في أصح الروايتين عنه فكرههما، وبه قال نافع مولاه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ما ذكره النووي رحمه الله، من كون جواز شد المنطقة والهميان في وسطه، هو قول العلماء كافة، إلا ابن عمر في أصح الروايتين فيه نظر، فإن مذهب مالك، وأصحابه: منع شد المنطقة والهميان، فوق الإزار مطلقاً، وتجب به الفدية عندهم. أما شد المنطقة مباشرة للجلد تحت الإزار، فهو جائز عندهم، بشرط كونه يريد بذلك حفظ نفقته، فلا يجوز إلا تحت الإزار، لضرورة حفظ النفقة خاصة، وإلا فتجب الفدية، وشد المنطقة لغير النفقة تجب به الفدية أيضاً، عند أحمد. والهميان قريب مما تسميه العامة اليوم: بالكمر.
قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره عاطفاً على ما يجوز للمحرم: وشد منطقة لنفقته على جلده. قال ابن فرحون في شرح ابن الحاجب: المنطقة: الهميان، وهو مثل الكيس تجعل فيه الدراهم ا هـ.
وروى البيهقي بإسناده عن عائشة: أنه لا بأس بشد المنطقة لحفظ النفقة، وما في المغني من رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيه نظر، والظاهر أنه من قول ابن عباس، والمرفوع عند الطبراني وفي إسناده يوسف بن خالد السمتي، وهو ضعيف. قاله في مجمع الزوائد، وقال في التقريب في يوسف المذكور: تركوه، وكذبوه.
وإذا علمت مما مر أن اللبس الحرام على المُحرم، تجب به الفدية عند الشافعية، وأنه لا فرق عندهم بين اللحظة والزمن الطويل، فاعلم أن الأصح عندهم، وبه جزم الأكثرون: أن اللازم في ذلك هو فدية الأذى المذكورة في آية الفدية. ودليلهم القياس كما تقدم، ولهم طريقان غير هذا في المسألة إحداهما، وذكر أبو علي الطبري في الإيضاح، وآخرون من العراقيين أن في المسألة قولين:
أحدهما: أنه كالمتمتع، فيلزمه ما استيسر من الهَدْي فإن لم يجد فصيام عشرة أيام كما هو معلوم.
والقول الثاني: أنه يلزمه الهدْي فإن لم يجده قومه دراهم، وقوم الدراهم طعاماً، ثم يصوم عن كل مد يوماً.
الطريق الثانية: هي أن في المسألة عندهم أربعة أوجه أصحها: أنه كالحلق لاشتراكهما في الترفه.
والثاني: أنه مخير بين شاة، وبين تقويمها، ويخرج قيمتها طعاماً، ويصوم عن كل مد يوماً.
الثالث: تجب شاة، فإن عجز عنها، لزمه الطعام بقيمتها.
والرابع: أنه كالمتمتع. ا هـ من النووي.
وقد علمت أن الصحيح عند الشافعية: أن اللبس الحرام تلزم فيه فدية الأذى، وهذا حاصل مذهب الشافعي، وأصحابه في المسألة ومذهب أحمد، وأصحابه: أن الفدية تجب بقليل اللبس وكثيره كمذهب الشافعي. ويجوز عند الشافعي، وأصحابه: للرجل المُحرِم ستر وجهه، ولا فدية عليه، بخلاف البياض الذي وراء الآذان.
قال النووي: وبه قال جمهو العلماء: يعني جواز ستر المحرم وجهه، وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز كرأسه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وهذا القول الأخير أرجح عندي كما تقدم، لأن في صحيح مسلم في المحرم الذي خر من بعيره، فمات «ولا تخمروا وجهه ولا رأسه» وقد قدمنا أن العلة كونه يبعث ملبياً.
فدل هذا الحديث الصحيح على أن إحرام الرجل مانع من ستر وجهه، وما أول به الشافعية وغيرهم الحديث المذكور، ليس بمقنع فلا يجوز العدول عن ظاهر الحديث إليه، ولا عبرة بالأجلاء الذين خالفوا ظاهره، لأن السنة أولى بالاتباع، والآثار التي رووها عن عثمان وزيد بن ثابت، ومروان بن الحكم، لا يعارض بها المرفوع الصحيح والله أعلم.
والظاهر لنا: أن ما يُروى عن أبي حنيفة والثوري وسعد بن أبي وقاص: من جواز لبس المحرمة القفازين، خلاف الصواب لما قدمنا من حديث ابن عمر الثابت في الصحيح، وفيه «ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين» الحديث. ولم يثبت شيء صحيح من كتاب أو سنة، يخالفه، وما قاله بعض أهل العلم من الحنابلة وغيرهم، من النهي عن لبس المرأة الخلخال والسوار خلاف الصواب: والظاهر: جواز ذلك: ولا دليل يمنع منه. والله أعلم.
أما لبس الرجل القفازين، فلم يخالف في منعه أحد، وعند الشافعية: إذا طلى المحرم رأسه بطين، أو حِناء أو مرهم ونحو ذلك فإن كان رقيقاً لا يستر فلا فدية، وإن كان ثخيناً ساتراً فوجهان أصحهما: وجوب الفدية.
والثاني: لا تجب لأن ذلك لا يعد ساتراً ولو توسد وسادة، أو وضع يده على رأسه، أو انغمس في ماء أو استظل بمحمل، أو هودج، فذلك عند الشافعية: جائز، ولا شيء فيه، سواء مس المحمل رأسه أم لا، وفيه قول ضعيف: أنه إن مس المحمل رأسه، وجبت الفدية.
وضابط ما تجب به الفدية عندهم هو: أن يستر من رأسه قدراً يقصد ستره، لغرض كشد عصابة وإلصاق لصوق لشجة ونحوها: والصحيح عندهم: أنه إن شد خيطاً على رأسه لم يضره، ولا فدية عليه، ولو جرح المحرم فشد على جرحه خرقة، فإن كان الجرح في غير الرأس فلا فدية، وإن كان في الرأس، لزمته الفدية ولا إثم عليه.
وقد قدمنا أن إحرام المرأة في وجهها فلا يجوز لها ستره بما يعد ساتراً، ولها ستر وجهها عن الرجال، والأظهر في ذلك أن تسدل الثوب على وجهها متجافياً عنه لا لاصقاً به. والله أعلم.
ويجوز عند الشافعية: أن يعقد الإزار ويشد عليه خيطان، وأن يجعل له مثل الحجزة، ويدخل فيها التكة، لأن ذلك من مصلحة الإزار لا يستمسك، إلا بنحو ذلك، وقيل: لا يجوز له جعل حجزة في الإزار، وإدخال التكة فيها، لأنه حينئذ يصير كالسراويل، والصحيح عندهم الأول، والأخير ضعيف عندهم، وكذلك القول بمنع عقد الإزار ضعيف عندهم. أما عقد الرداء فهو حرام عندهم، وكذلك عندهم خله بخلال، وربط طرفه إلى طرفه الآخر بخيط، كل ذلك لا يجوز عندهم، وفيه الفدية، وفيه خلاف ضعيف عندهم. ووجه تفريقهم بين الإزار والرداء أن الإزار يحتاج إلى العقد، بخلاف الرداء، ولو حمل المحرم على رأسه زنبيلاً، أو حملاً، ففي ذلك عند الشافعية طريقان أصحهما: أن ذلك جائز، ولا فدية فيه، لأنه لا يقصد به الستر كما لا يُمنع المحدث من حمل المصحف في متاع ا هـ. ومذهب الإمام أحمد في جواز عقد الإزار، ومنع عقد الرداء كمذهب الشافعي. ويجوز عند الإمام أحمد أن يشد في وسطه منديلاً أو عمامة أو حبلاً ونحو ذلك، إذا لم يعقده فإن عقده منع ذلك عنده، وإنما يجوز إذا أدخل بعض ذلك الذي شد على وسطه في بعضه.
قال في المغني: قال أحمد في محرم: حزم عمامة على وسطه لا تعقدها، ويدخل بعضها في بعض، ثم قال: قال طاوس: رأيت ابن عمر يطوف بالبيت، وعليه عمامة قد شدها على وسطه، فأدخلها هكذا. وقد قدمنا أن مثل هذا يجوز عند المالكية لضرورة العمل خاصة، ثم قال في المغني: ولا يجوز أن يشق أسفل ردائه نصفين، ويعقد كل نصف على ساق لأنه يشبه السراويل انتهى من المغني. وفيه عند الشافعية وجهان أصحهما: المنع، ولزوم الفدية، لأنه كالسراويل، كما قال صاحب المغني.
والوجه الثاني:
لا فدية في ذلك، وهو ضعيف ا هـ.
وأظهر قولي أهل العلم عندي: أن لبس الخف المقطوع، مع وجود النعل تلزم به الفدية. والله أعلم.
ومذهب مالك وأصحابه في هذه المسألة: هو أن المحرم إن لبس ما يحرم عليه لبسه لزمته فدية الأذى، ويستوي عندهم الخياطة والعقد والتزرر والتخلل والنسخ على هيئة المحيط، ولكن بشرط أن ينتفع بذلك اللبس، من حر، أو برد، أو يطول زمنه كيوم كامل، لأن ذلك مظنة انتفاعه به من حر أو برد. أما إذا لبس المحرم ما يحرم عليه لبسه، ولم ينتفع بلبسه من حر أو برد، ولم يدم لبسه له يوماً كاملاً، فلا فدية عليه عندهم، ومشهور مذهب مالك: أن للمحرم أن يشد في وسطه الحزام، لأجل العمل خاصة، ولا يعقده، وأن له أن يستثفر عند الركوب والنزول. وعنه في الاستثفار للركوب والنزول قول بالكراهة ولا فدية فيه على كل حال. والاستثفار: شد الفرج بخرقة عريضة ويوثق طرفاها إلى شيء مشدود على الوسط، وهو مأخوذ من ثثفر الدابة، الذي يجعل تحت ذنبها، أو من ثفر الدابة بمعنى: فرجها، ومنه قول الأخطل: جزى الله عنا الأعورين ملامة وفروة ثفر الثورة المتضاجم

فقوله: ثفر الثورة يعني: فرج البقرة، وهو بدل من فروة، والمتضاجم المائل وهو مخفوض بالمجاورة، لأنه صفة للثفر، وهو منصوب وفروة اسم رجل جعله في الخبث، والحقارة كأنه فرج بقرة مائل. وستر المحرم وجهه عند المالكية، كستر رأسه: تلزم فيه الفدية، إن ستر ذلك بما يعد ساتراً كالمخيط، ويدخل في ذلك ما لو ستره بطين أو جلد حيوان يسلخ، فيلبس، ولا يمنع عندهم لبس المخيط، إذا استعمل استعمال غير المخيط، كأن يجعل القميص إزاراً أو رداءً، لأنه إذا ارتدى بالقميص مثلاً، لم يدخل فيه حتى يحيط به، لأنه استعمله استعمال الرداء، ولا بأس عندهم باتقاء الشمس أو الريح باليد يجعلها على رأسه أو وجهه. وله وضع يده على أنفه من غبار، أو جيفة مرَّ بها. ويستحب ذلك له عندهم، إنْ مرَّ على طيب وتلزم عندهم الفدية بلبس القباء، وإن لم يدخل يده في كمه، وحمله بعضهم على ما إذا أدخل فيه منكبيه، وأطلقه بعضهم. ولا يجوز عندهم أن يظلل المحرم على رأسه، أو وجهه بعصاً فيها ثوب فإن فعل افتدى، وفيه قول عندهم: بعد لزوم الفدية، وهو الحق. والحديث الذي قدمنا في التظليل على النَّبي صلى الله عليه وسلم بثوب يقيه الحر، وهو يرمي جمرة العقبة: يدل على ذلك، وعلى أنه جائز، فالسنة أولى بالاتباع، وأجاز المالكية للمحرم أن يرفع فوق رأسه شيئاً يقيه من المطر.
واختلفوا في رفعه فوقه شيئاً يقيه من البرد. والأظهر الجواز والله أعلم. لدخوله في معنى الحديث المذكور، إذ لا فرق بين الأذى من البرد والحر والمطر والله أعلم. وبعضهم يقول: إن الفدية المذكورة مندوبة لا واجبة. وما يذكره المالكية، من أن من لم يجد الإزار، يكره له لبس السراويل أو يمنع وأن ذلك تلزم فيه الفدية، خلاف التحقيق للحديث المتقدم الذي قال فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم «ومن لم يجد إزاراً فليلبس السَّراويل» وهو حديث صحيح كما تقدم. وظاهره أن من لم يجد إزاراً، فله لبس السراويل من غير إثم ولا فدية، إذ لو كانت الفدية تلزمه لبينه النَّبي صلى الله عليه وسلم لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة إليه، ولا خلاف بين أهل العلم في الاستظلال بالخباء، والقبة المضروبة والفسطاط والشجرة، وأنْ يرميَ عليها ثوباً. وعن مالك منع إلقاء الثوب على الشجرة، وأجازه عبد الملك بن الماجشون قياساً على الخيمة، وهو الأظهر.
واعلم: أن الاستظلال بالثوب على العصا عندهم إذا فعله وهو سائر لا خلاف في منعه، ولزوم الفدية فيه، وإن فعله وهو نازل ففيه خلاف عندهم أشرنا له قريباً. والحق: الجواز مطلقاً للحديث المذكور، لأن ما ثبتت فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز العدول عنه إلى رأي مجتهد من المجتهدين، ولو بلغ ما بلغ من العالم والعدالة، لأن سنته صلى الله عليه وسلم حجة على كل أحد، وليس قول أحد حجة على سنته صلى الله عليه وسلم، وقد صح على الأئمة الأربعة رحمهم الله أنهم كلهم قالوا: إذا وجدتم قولي يخالف كتاباً أو سنة، فاضربوا بقولي الحائط، واتبعوا الكتاب والسنة. وقد قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدَّثَنِي سلمة بن شبيب، حدثنا الحسن بن أعين حدثنا معقل، عن زيد بن أبي أنيسة، عن يحيى بن حصين، عن جدته أم الحصين قال: سمعتها تقول: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف، وهو على راحلته، ومعه بلال، وأسامة أحدهما يقود به راحلته، والآخر رافع ثوبه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس. الحديث. وفي لفظ لمسلم، عن أم الحصين: فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة النَّبي صلى الله عليه وسلم، والآخر رافع ثوبه، يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة. انتهى محل الغرض من صحيح مسلم، وهو نص صحيح صريح في جواز استظلال المحرم الراكب بثوب مرفوع فوقه يقيه حر الشمس. والنازل أحرى بهذا الحكم، عند المالكية من الراكب، وهذا الحديث الصحيح المرفوع لا يعارض بما روي من فعل عمر. وقول ابنه عبد الله رضي الله عنهما، موقوفاً عليهما ولا بحديث جابر
الضعيف في منع استظلال المحرم، والعلم عند الله تعالى. ويجوز عند المالكية: حمل المُحرم زاده على رأسه في خرج أو جراب إن كان فقيراً تدعوه الحاجة إلى ذلك، أما إن كان ذلك لبخله بأجرة الحمل، وهو غني، أو لأجل تجارة بالمحمول، فلا يجوز، وتلزم به الفدية عندهم، ويجوز عندهم إبدال ثوبه الذي أحرم فيه بثوب آخر، ويجوز عندهم بيعه، ولو قصد بذلك الاستراحة من الهوام التي فيه، إلا أن ينقل الهوام من جسده، أو ثوبه الذي عليه إلى الثوب الذي يريد طرحه فيكون ذلك كطرحه لها. قاله صاحب الطراز، ويكره للمحرم عند المالكية غسل ثوبه الذي أحرم فيه، إلا لنجاسة فيه، فيجوز غسله بالماء فقط، وقال بعضهم: يجوز غسله بالماء أيضاً، لأجل الوسخ، فلا يختص الجواز بالنجاسة، لأن الوسخ مبيح لغسله بالماء على هذا القول، ولا يجوز للمحرم عندهم أن يغسل ثوب غيره خوف أن يقتل بغسله إياه بعض الدواب التي في الثوب. وقال بعضهم: فإن فعل افتدى. والظّاهر أن محل ذلك، فيما إذا لم يعلم أن الثوب ليس فيه شيء من الدواب، فإن علم ذلك، فلا بأس بغسله، ولا شيء فيه إن كان ذلك لنجاسة أو وسخ والله تعالى أعلم. ويجوز عندهم: أن يعصب المحرم على جرحه خرقاً وتلزمه الفدية بذلك. وقال التونسي: وفي المدونة: صغير خرق التعصيب والربط ككبيرها، وروى محمد: رقعة قدر الدرهم كبيرة فيها الفدية، وظاهر قول خليل في مختصره المالكي: أو لصق خرقة كدرهم: أن الخرقة التي هي أصغر من الدرهم، لا شيء فيها. وقال شارحه الحطاب: انظر إذا كان به جروح متعددة، والصق على كل واحد منها خرقة، دون الدرهم والمجموع كدرهم، أو أكثر. وظاهر ما في التوضيح، وابن الحاجب: أنه لا شيء عليه. انتهى. وسمع ابن القاسم: لا بأس، ولا فدية في جعل فرجه في خرقة عند النوم فإن لفها على ذكره لبول، أو مذي افتدى. انتهى بواسطة نقل المواق. ولا يجوز للمحرم عندهم: أن يجعل القطن في أذنيه، فإن فعل افتدى، لأن كشف الأذن واجب في الإحرام، فلا يجوز تغطيتها بالقطن، وكذلك لو جعل على صدغه قرطاساً تلزمه الفدية عندهم، سواء كان ذلك لعذر أو لغير عذر، ولا يجوز عندهم عصب رأسه بعصابة، فإن فعل افتدى. ويكره عندهم لبس المصبوغ بغير طيب، لمن يقتدي به خاصة دون غيره، إذا كان لون الصبغ يشبه لون صبغ الطيب: ويكره عندهم شد نفقته بعضده أو فخذه أو ساقه، ولا فدية عليه في ذلك، وإن شد عضده، أو ساقه، أو فخذه بما يحيط به لغير نفقة أو لنفقة غيره افتدى. وإن شد نفقته، وجعل معها نفقة لغيره فلا بأس، فإن فرغت نفقته ألقى المنطقة ونحوها مما كان يشده لحفظها ورد نفقة غيره إلى ربها فوراً، وإن ترك ردها إليه افتدى، وإن ذهب صاحبها، وهو عالم افتدى، وإن لم يعلم فلا شيء عليه. انتهى من المواق. ويكره عند المالكية: كب المحرم وجهه على الوسادة، وبعضهم يقول: بكراهة ذلك مطلقاً للمحرم وغيره. وهو الأظهر، ويكره عندهم غمس رأسه في الماء، وإن فعل ذلك أطعم شيئاً، قاله مالك في المدونة ونقلناه بواسطة نقل المواق والحطاب، وعن بعضهم: أن إطعام الشيء، المذكور مستحب لا واجب، وهذا في حق من له شعر يكون فيه القمل. أما من لا شعر له، ولا يكون فيه القمل فلا يكره غمس رأسه في الماء، ولا شيء فيه قاله اللخمي، وصاحب الطراز. انتهى بواسطة نقل الحطاب. وغسل الرأس لجنابة: لا خلاف فيه. أما غسله لغير جنابة بل للتَّبرُّد ونحوه: ففيه عندهم قولان: بالجواز، والكراهة والجواز: أظهر. والله تعالى أعلم.
ومذهب أبي حنيفة في هذه المسألة أنه إن لبس اللبس الحرام، ويدخل فيه تغطية الرأس كما تقدم لا يلزمه بذلك دم، إلا إذا لبسه يوماً كاملاً لأن اليوم الكامل مظنة الانتفاع باللبس، من حر أو برد، وعن أبي يوسف: أنه إذا لبس أكثر من نصف يوم، فعليه دم وهو قول أبي حنيفة الأول، عن محمد: أنه إن لبسه في بعض اليوم يجب عليه من الدم بحسابه ا هـ. هذا هو حاصل مذهب أبي حنيفة وصاحبيه في هذه المسألة.
وقد قدمنا مراراً أن مثل ذلك إن كان فعله لعذر ففيه عندهم فدية الأذى، وإن كان لغير عذر، ففيه الدم، والعلم عند الله تعالى.
والظّاهر: أن اختلافهم في القدر الذي تلزم به الفدية في اللبس الحرام من نوع الاختلاف في تحقيق المناط والله تعالى أعلم. ولو ارتدى بالقميص أو اتشح به، أو اتزر بالسراويل، فلا بأس، ولا يلزمه شيء عند الحنفية كما قدمنا عن غيرهم، وكذلك لو أدخل منكبيه في القباء، ولم يدخل يديه في الكمين، فلا شيء عليه عندهم خلافاً لزفر وقد بيَّـنَّا حُكمْ ذلك عند غيرهم وعن أبي حنيفة: تغطية ربع الرأس كتغطية جميعه، وعن أبي يوسف: أنه يعتبر في ذلك الأكثر ودوام لبس المخيط عندهم بعد الإحرام كابتدائه، وهو كذلك عند غيرهم أيضاً.
واعلم أن النووي قال في شرح المهذب: وله يعني: المحرم أن يتقلد المصحف وحمائل السيف وأن يشد الهميان والمنطقة في وسطه، ويلبس الخاتم، ولا خلاف في جواز هذا كله، وهذا الذي ذكرناه في المنطقة والهميان مذهبنا وبه قال العلماء كافة إلا ابن عمر في أصح الروايتين عنه، فكرههما وبه قال نافع مولاه. وقد علمت أنا ناقشناه في كلامه وبيـنَّا: أن مالكاً وأصحابه لا يجيزون شد المنطقة والهميان، إلا تحت الإزار مباشراً جلده لخصوص النفقة، وأن شد الهميان فوق الإزار فيه عندهم الفدية مطلقاً، وكذلك تحت الإزار لغير حفظ النفقة، وأن الإمام أحمد تلزم عنده الفدية في شد المنطقة لغير حفظ النفقة: أي ولو كان لوجع بظهره، وسنتمم الكلام هنا. أما ما ذكره من أن لبس الخاتم لا خلاف في جوازه للمحرم، ففيه نظر أيضاً، لأن بعض العلماء يقول: يمنع لبس المحرم الخاتم والخلاف في جواز لبسه ومنعه معروف في مذهب مالك.
قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره: مشبهاً على ما لا يجوز لبسه للمحرم كخاتم ما نصه:
قال ابن الحاجب: وفي الخاتم قولان، فحملهما في التوضيح على الجواز والمنع. وقال اللخمي وابن رشد: المعروف من قول مالك: منعه، لأنه أشبه بالإحاطة بالإصبع المحيط، وفي مختصر ما ليس في المختصر: لا بأس به. إلى أن قال: فالذي يظهر أن القائل بالمنع يقول: بالفدية، والقائل بالجواز يقول: بسقوط الفدية. انتهى منه.
ثم قال: تنبيه: وهذا في حق الرجل، وأما المرأة فيجوز لها لبس الخاتم ا هـ.
وبما ذكرنا تعلم أن قول النووي، ولا خلاف في جواز هذا كله. فيه نظر، وأما تقلد حمائل السيف فعند المالكية، إن كان لعذر يلجئه إلى ذلك، فهو جائز له، ولا فدية فيه، فإن تقلده لغير حاجة فقد قال ابن المواق عن مالك: ينزعه ولا فدية عليه انتهى بواسطة نقل المواق في كلامه على قول خليل في مختصره، ولا فدية في سيف، ولو بلا عذر ا هـ. وظاهر قوله: ينزعه أنه لا يجوز تقلد السيف اختياراً عنده كما ترى، والعلم عند الله تعالى. وظاهر مذهب الإمام أحمد: أنه لا يجوز للمحرم، أن يتقلد السيف إلا لضرورة، وقال الخرقي: ويتقلد بالسيف عند الضرورة، وقال في المغني في شرحه لكلام الخرقي: فأما من غير خوف، فإن أحمد قال: لا إلا من ضرورة. انتهى محل الغرض منه.
وقال البخاري في صحيحه في كتاب الحج: باب لبس السلاح للمحرم، وقال عكرمة: إذا خشي العدو، لبسَ السلاح وافتدى ولم يتابع عليه في الفدية.
حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه «اعتمر النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يَدَعُوه يدخل مكة، حتى قَاضَاهُمْ لا يدخل مكة سلاحاً إلا في القراب» ا هـ منه.
وقوله: ولم يتابع عليه في الفدية، يدل على أنه توبع في لبس السلاح للضرورة، لأن معنى قاضاهم: لا يدخل مكة سلاحاً إلا في القراب، أنه صالح كفار مكة صلح الحديبية، أنه إن دخل معتمراً عام سبع في ذي القعدة لا يدخل مكة السيوف إلا في أغمادها، والقراب غمد السيف، فدل ذلك على جواز دخول المحرم متقلداً سيفه للخوف من العدو.
وقال البخاري في صحيحه في باب عمرة القضاء: حدثني عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال «لما اعتَمَرَ النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيَّام» الحديث بطوله، وفيه «فكتب هذا ما قَاضَى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب» الحديث. وفي لفظ للبخاري في كتاب الصلح «لا يدخُلُ مكة سلاحٌ إلا في القراب» وفي لفظ له في كتاب الصلح أيضاً «ولا يدخلها إلا بجُلُبان السلاح» فسألوه ما جُلُبَّان السلاح؟ فقال: القِراب بما فيه» والجلبان بضم الجيم واللام وتشديد الباء الموحدة بعدها ألف، ثم نون: هو قِراب السيف ويطلق على أوعية السلاح، ويروى بتسكين اللام، وتخفيف الباء، وهو شبه الجراب من الأدم يوضع فيه السيف مغموداً.
وقال صاحب اللسان: والقِراب غمد السيف والسكين، ونحوهما وجمعه قُرب أي بضمتين، وفي صحاح الجوهري: قراب السيف: جفنه وهو وعاء يكون فيه السيف بغمده، وحمالته ا هـ والقراب ككتاب ومن جمعه على قُرب بضمتين قوله: يا ربةَ البيت قومي غير صاغرة ضُمي إليك رحالَ القومِ والقُربَا

يعني: ضمي إليك رحالهم وسلاحهم، في أوعيته.
وبهذه الأحاديث: استدل بعض أهل العلم على أن الصحابة دخلوا مكة محرمين عام سبع وهم متقلدو سيوفهم في أغمادها، وأن ذلك لعلة خوفهم من المشركين، لأن الكفار لا يوثق بعهودهم.
وقد علمت أن بعض أهل العلم قال: إن ذلك لا يجوز إلا لضرورة، والله تعالى أعلم.
وللمخالف أن يقول: إن الأحاديث المذكورة ليس فيها التصريح بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تقلدوها. ويمكن أن يكونوا حملوا السلاح معهم في رحالهم في أوعيته من غير أن يتقلدوه، وعلى هذا الاحتمال، فلا حجة في الأحاديث على تقلد المحرم حمائل السيف، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس عشر: قد بينا في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه أنه يمنع من الطيب، وسنذكر إن شاء الله في هذا الفرع ما يلزم في ذلك.
اعلم: أن الأئمة الثلاثة: مالكاً، والشافعي، وأحمد: لا فرق عندهم، بين أن يطيِّب جسده كله أو عضواً منه، أو أقل من عضو، فكل ذلك عندهم إن فعله قصداً يأثم به، وتلزمه الفدية.
وقال أبو حنيفة: لا تجب عليه الفدية إلا إذا طيب عضواً كاملاً، مثل الرأس، والفخذ، والساق: فإن طيب أقل من عضو فعليه الصدقة، وهي عندهم نصف صاعٍ من بُرٍّ أو صاع من غيره، كتمر وشعير. وقد قدمنا مراراً أن مذهب أبي حنيفة: أنه إن فعل المحظور، كاللباس، والتطيب، لا لعذر، فعليه دم، وتُجزِئُه شاة وإن فعله لعذر فعليه فدية الأذى المذكورة في آية الفدية، على التخيير، وإن كان المحرم طيباً كثيراً: لزمه الدم عند أبي حنيفة، وقال صاحباه محمد وأبو يوسف: تجب في ذلك الصدقة، وعن محمد: أنه إن طيب أقل من عضوٍ لزمه بحسبه من الدم فإن طيب ثلث العضو، فعليه ثلث دم مثلاً، وهكذا، وعن بعض الحنفية: أنه إن طيب ربع عضوٍ: لزمه الدم كاملاً كحلق ربع الرأس، فهو عندهم كحلق جميعه وهذا خلاف المشهور في تطيب بعض العضو عندهم. وظاهر كلامهم أنه لو جعل طيباً كثيراً على بعض عضو، فليس عليه إلا الصدقة. وصحح بعض الحنفية: أنه إن كان الطيب قليلاً فالعبرة بالعضو، وإن كان كثيراً فالعبرة بالطيب، وله وجه من النَّظر، وعن بعض الحنفية أن من مس طيباً بأصبعه، فأصابها كلها فعليه دم. وعن أبي يوسف: إنْ طيَّبَ شاربَه كله أو يقدره من لحيته، أو رأسه فعليه دم، وعن بعض الحنفية: أنه إن اكتحل بكحل مطيب، فعليه صدقة، ومثله الأنف، فإن فعل ذلك مراراً كثيرة فعليه دم، وفي مناسك الكرماني: لو طيب جميع أعضائه فعليه دم واحد، لاتحاد الجنس، ولو كان الطيب في أعضاء متفرقة يجمع ذلك كله، فإن بلغ عضواً: فعليه دم، وإلا فصدقة، ولو شم طيباً فليس عليه شيء، وإن دخل بيتاً مجمراً، فليس عليه شيء، وإن أجمر ثوبه، فإن تعلق به كثيراً، فعليه دم، وإلا فصدقة ا هـ من تبيين الحقائق.
وقال بعض الحنفية: إن طيب أعضاءه كلها في مجلس واحد فعليه دم واحد كما تقدم، وإن كان ذلك في مجلسين مختلفين، فعليه لكل واحد دم في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، سواء ذبح للأول أو لم يذبح. وقال محمد: إن ذبح للأول، فكذلك، وإن لم يذبح فعليه دم واحد، والاختلاف فيه كاختلاف في الجماع ا هـ.
وأظهرها عندي قول محمد: والحناء عندهم طيب، فلو خضب رأسه بالحناء، لزمه الدم. واستدلوا بحديث الحناء طيب. قالوا رواه البيهقي. وسيأتي ما يدل على أن البيهقي رواه في المعرفة، وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف. وقد روى البيهقي عن عائشة مرفوعاً، ما يدل على أن الحناء ليس بطيب، والعلم عند الله تعالى: هذا حاصل مذهب أبي حنيفة وأصحابه في الطيب للمحرم.
وأما مذهب مالك في الطيب للمُحرم فحاصله: أن الطيب عندهم نوعان: مذكر ومؤنث، أما المذكر فهو ما يظهر ريحه، ويخفى أثره: كالريحان، والياسمين، والورد، والبنفسج ونحو ذلك. وأما المؤنث: فهو ما يظهر ريحه، ويبقى أثره: كالمسك والورس والزعفران والكافور والعنبر والعود ونحو ذلك. فأما المذكر فيكره شمه والتطيب به، ولا فدية في مسه، والتطيب به ولو غسل يديه بماء الورد، فلا فدية عليه عندهم في ذلك، لأنه من الطيب المذكر، خلافاً لابن فرحون في مناسكه حيث قال: إن ماء الورد فيه الفدية لأن أثره يبقى، وممن قال: بأن الطيب المذكر لا فدية في استعماله: عثمان بن عفان، والحسن، ومجاهد، وإسحاق. وأما ما ينبت في الأرض من النبات الطيب الريح ولا يقصد التطيب به، كالشيح، والقيصوم، والزنجبيل، والإذخر، فلا فدية فيه عندهم، فهو كريح الفواكه الطيبة كالتفاح والليمون، والأترج وسائر الفواكه وبعض أهل العلم يكره شمه للمحرم، وإن خضب رأسه أو لحيته بحناء، أو خضبت المرأة رأسها أو رجليها، أو طرفت أصابعها بحناء فالفدية عندهم واجبة في ذلك. وأما مؤنث الطيب: كالمسك، والورس، والزعفران، فإن التطيب به عندهم حرام، وفيه الفدية.
ومعنى التطيب بالطيب عندهم: إلصاقه بالثوب، أو باليد وغيرها من الأعضاء، ونحو ذلك، فإن علق به ريح الطيب دون عينه بجلوسه في حانوت عطار، أو في بيت تجمر ساكنوه، فلا فدية عليه عندهم مع كراهة تماديه في حانوت العطار أو البيت الذي تجمر ساكنوه، هذا هو مشهور مذهب مالك. وإن مس الطيب المؤنث افتدى عندهم، وحد ريحه أولاً، لصق به أولاً، ويكره شم الطيب عندهم مطلقاً.
وأظهر أقوال علماء المالكية في الثوب المصبوغ بالورس، والزعفران: إذا تقادم عهده، وطال زمنه حتى ذهبت ريحه بالكلية: أنه مكروه للمحرم، ما دام لون الصبغ باقياً ولكنه لا فدية فيه لانقطاع ريحه بالكلية.
وأقيس الأقوال: أنه يجوز مطلقاً، لأن الرائحة الطيبة التي منع من أجلها زالت بالكلية، والعلم عند الله تعالى. وإن اكتحل عندهم بما فيه طيب، فالفدية، ولو لضرورة مع الجواز للضّرورة وبما لا طيب فيه فهو جائز للضّرورة ولغيرها، فثلاثة أقوال مشهورها: وجوب الفدية على الرجل، والمرأة معاً، وقيل: لا تجب عليهما، وقيل: تجب على المرأة دون الرجل.
وحاصل مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة: أن النبات الذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب:
أحدها: ما لا ينبت للطيب ولا يتخذ منه، كنبات الصحراء من الشيخ، والقيصوم، والخزامي والفواكه كلها من الأترج، والتفاح وغيره، وما ينبته الآدميون لغير قصد الطيب، كالحناء والعصفر، وهذا النوع مباح شمه في مذهب الإمام أحمد، ولا فدية فيه.
قال في المغني: ولا نعلم فيه خلافاً إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم: أن يشُمَّ شَيئاً من نبات الأرض من الشيخ والقيصوم وغيرهما قال: ولا نعلم أحداً أوجب في ذلك شيئاً فإنه لا يقصد للطيب، ولا يتخذ منه فأشبه سائر نبات الأرض. وقد روي أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كنَّ يحرمن في المعصفرات.
النوع الثاني: ما ينبته الآدميون للطيب، ولا يتخذ منه طيب، كالريحان، والنرجس، ونحو ذلك وفي هذا النوع للحنابلة وجهان.
أحدهما: يباح بغير فدية كالذي قبله.
قال في المغني: وبه قال عثمان بن عفان، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وإسحاق.
والوجه الثاني: يحرم شمه، فإن فعل فعليه الفدية.
قال في المغني: وهو قول جابر، وابن عمر، والشافعي، وأبي ثور، لأنه يتخذ للطيب فأشبه الورد. وكرهه مالك، وأصحاب الرأي، ولم يوجبوا فيه شيئاً، وكلام أحمد فيه محتمل لهذا، فإنه قال في الريحان: ليس من آلة المحرم، ولم يذكر فديته، وذلك لأنه لا يتخذ منه طيب، فأشبه العصفر. ا هـ من المغني.
والنوع الثالث عندهم: هو ما ينبت للطيب، ويتخذ منه طيب كالورد والبنفسج والياسمين، ونحو ذلك. وهذا النوع إذا استعمله، وشمه ففيه: الفدية عندهم، لأن الفدية تجب فيما يتخذ منه، فكذلك في أصله. وعن أحمد رواية أخرى في الورد: أنه لا فدية عليه في شمه، لأنه زهر كزهر سائر الشجر.
قال في المغني: وذكر أبو الخطاب في هذا، والذي قبله روايتين والأولى: تحريمه، لأنه ينبت للطيب، ويتخذ منه، فأشبه الزعفران والعنبر. قال القاضي يقال: إن العنبر ثمر شجر وكذلك الكافور. ا هـ من المغني.
واختلفوا في رفعه فوقه شيئاً يقيه من البرد. والأظهر الجواز والله أعلم. لدخوله في معنى الحديث المذكور، إذ لا فرق بين الأذى من البرد والحر والمطر والله أعلم. وبعضهم يقول: إن الفدية المذكورة مندوبة لا واجبة. وما يذكره المالكية، من أن من لم يجد الإزار، يكره له لبس السراويل أو يمنع وأن ذلك تلزم فيه الفدية، خلاف التحقيق للحديث المتقدم الذي قال فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم «ومن لم يجد إزاراً فليلبس السَّراويل» وهو حديث صحيح كما تقدم. وظاهره أن من لم يجد إزاراً، فله لبس السراويل من غير إثم ولا فدية، إذ لو كانت الفدية تلزمه لبينه النَّبي صلى الله عليه وسلم لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة إليه، ولا خلاف بين أهل العلم في الاستظلال بالخباء، والقبة المضروبة والفسطاط والشجرة، وأنْ يرميَ عليها ثوباً. وعن مالك منع إلقاء الثوب على الشجرة، وأجازه عبد الملك بن الماجشون قياساً على الخيمة، وهو الأظهر.
واعلم: أن الاستظلال بالثوب على العصا عندهم إذا فعله وهو سائر لا خلاف في منعه، ولزوم الفدية فيه، وإن فعله وهو نازل ففيه خلاف عندهم أشرنا له قريباً. والحق: الجواز مطلقاً للحديث المذكور، لأن ما ثبتت فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز العدول عنه إلى رأي مجتهد من المجتهدين، ولو بلغ ما بلغ من العالم والعدالة، لأن سنته صلى الله عليه وسلم حجة على كل أحد، وليس قول أحد حجة على سنته صلى الله عليه وسلم، وقد صح على الأئمة الأربعة رحمهم الله أنهم كلهم قالوا: إذا وجدتم قولي يخالف كتاباً أو سنة، فاضربوا بقولي الحائط، واتبعوا الكتاب والسنة. وقد قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدَّثَنِي سلمة بن شبيب، حدثنا الحسن بن أعين حدثنا معقل، عن زيد بن أبي أنيسة، عن يحيى بن حصين، عن جدته أم الحصين قال: سمعتها تقول: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف، وهو على راحلته، ومعه بلال، وأسامة أحدهما يقود به راحلته، والآخر رافع ثوبه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس. الحديث. وفي لفظ لمسلم، عن أم الحصين: فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة النَّبي صلى الله عليه وسلم، والآخر رافع ثوبه، يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة. انتهى محل الغرض من صحيح مسلم، وهو نص صحيح صريح في جواز استظلال المحرم الراكب بثوب مرفوع فوقه يقيه حر الشمس. والنازل أحرى بهذا الحكم، عند المالكية من الراكب، وهذا الحديث الصحيح المرفوع لا يعارض بما روي من فعل عمر. وقول ابنه عبد الله رضي الله عنهما، موقوفاً عليهما ولا بحديث جابر الضعيف في منع استظلال المحرم، والعلم عند الله تعالى. ويجوز عند المالكية: حمل المُحرم زاده على رأسه في خرج أو جراب إن كان فقيراً تدعوه الحاجة إلى ذلك، أما إن كان ذلك لبخله بأجرة الحمل، وهو غني، أو لأجل تجارة بالمحمول، فلا يجوز، وتلزم به الفدية عندهم، ويجوز عندهم إبدال ثوبه الذي أحرم فيه بثوب آخر، ويجوز عندهم بيعه، ولو قصد بذلك الاستراحة من الهوام التي فيه، إلا أن ينقل الهوام من جسده، أو ثوبه الذي عليه إلى الثوب الذي يريد طرحه فيكون ذلك كطرحه لها. قاله صاحب الطراز، ويكره للمحرم عند المالكية غسل ثوبه الذي أحرم فيه، إلا لنجاسة فيه، فيجوز غسله بالماء فقط، وقال بعضهم: يجوز غسله بالماء أيضاً، لأجل الوسخ، فلا يختص الجواز بالنجاسة، لأن الوسخ مبيح لغسله بالماء على هذا القول، ولا يجوز للمحرم عندهم أن يغسل ثوب غيره خوف أن يقتل بغسله إياه بعض الدواب التي في الثوب. وقال بعضهم: فإن فعل افتدى. والظّاهر أن محل ذلك، فيما إذا لم يعلم أن الثوب ليس فيه شيء من الدواب، فإن علم ذلك، فلا بأس بغسله، ولا شيء فيه إن كان ذلك لنجاسة أو وسخ والله تعالى أعلم. ويجوز عندهم: أن يعصب المحرم على جرحه خرقاً وتلزمه الفدية بذلك. وقال التونسي: وفي المدونة: صغير خرق التعصيب والربط ككبيرها، وروى محمد: رقعة قدر الدرهم كبيرة فيها الفدية، وظاهر قول خليل في مختصره المالكي: أو لصق خرقة كدرهم: أن الخرقة التي هي أصغر من الدرهم، لا شيء فيها. وقال شارحه الحطاب: انظر إذا كان به جروح متعددة، والصق على كل واحد منها خرقة، دون الدرهم والمجموع كدرهم، أو أكثر. وظاهر ما في التوضيح، وابن الحاجب: أنه لا شيء عليه. انتهى. وسمع ابن القاسم: لا بأس، ولا فدية في جعل فرجه في خرقة عند النوم فإن لفها على ذكره لبول، أو مذي افتدى. انتهى بواسطة نقل المواق. ولا يجوز للمحرم عندهم: أن يجعل القطن في أذنيه، فإن فعل افتدى، لأن كشف الأذن واجب في الإحرام، فلا يجوز تغطيتها بالقطن، وكذلك لو جعل على صدغه قرطاساً تلزمه الفدية عندهم، سواء كان ذلك لعذر أو لغير عذر، ولا يجوز عندهم عصب رأسه بعصابة، فإن فعل افتدى. ويكره عندهم لبس المصبوغ بغير طيب، لمن يقتدي به خاصة دون غيره، إذا كان لون الصبغ يشبه لون صبغ الطيب: ويكره عندهم شد نفقته بعضده أو فخذه أو ساقه، ولا فدية عليه في ذلك، وإن شد عضده، أو ساقه، أو فخذه بما يحيط به لغير نفقة أو لنفقة غيره افتدى. وإن شد نفقته، وجعل معها نفقة لغيره فلا بأس، فإن فرغت نفقته ألقى المنطقة ونحوها مما كان يشده لحفظها ورد نفقة غيره إلى ربها فوراً، وإن ترك ردها إليه افتدى، وإن ذهب صاحبها، وهو عالم افتدى، وإن لم يعلم فلا شيء عليه. انتهى من المواق. ويكره عند المالكية: كب المحرم وجهه على الوسادة، وبعضهم يقول: بكراهة ذلك مطلقاً للمحرم وغيره. وهو الأظهر، ويكره عندهم غمس رأسه في الماء، وإن فعل ذلك أطعم شيئاً، قاله مالك في المدونة ونقلناه بواسطة نقل المواق والحطاب، وعن بعضهم: أن إطعام الشيء، المذكور مستحب لا واجب، وهذا في حق من له شعر يكون فيه القمل. أما من لا شعر له، ولا يكون فيه القمل فلا يكره غمس رأسه في الماء، ولا شيء فيه قاله اللخمي، وصاحب الطراز. انتهى بواسطة نقل الحطاب. وغسل الرأس لجنابة: لا خلاف فيه. أما غسله لغير جنابة بل للتَّبرُّد ونحوه: ففيه عندهم قولان: بالجواز، والكراهة والجواز: أظهر. والله تعالى أعلم.
ومذهب أبي حنيفة في هذه المسألة أنه إن لبس اللبس الحرام، ويدخل فيه تغطية الرأس كما تقدم لا يلزمه بذلك دم، إلا إذا لبسه يوماً كاملاً لأن اليوم الكامل مظنة الانتفاع باللبس، من حر أو برد، وعن أبي يوسف: أنه إذا لبس أكثر من نصف يوم، فعليه دم وهو قول أبي حنيفة الأول، عن محمد: أنه إن لبسه في بعض اليوم يجب عليه من الدم بحسابه ا هـ. هذا هو حاصل مذهب أبي حنيفة وصاحبيه في هذه المسألة.
وقد قدمنا مراراً أن مثل ذلك إن كان فعله لعذر ففيه عندهم فدية الأذى، وإن كان لغير عذر، ففيه الدم، والعلم عند الله تعالى.
والظّاهر: أن اختلافهم في القدر الذي تلزم به الفدية في اللبس الحرام من نوع الاختلاف في تحقيق المناط والله تعالى أعلم. ولو ارتدى بالقميص أو اتشح به، أو اتزر بالسراويل، فلا بأس، ولا يلزمه شيء عند الحنفية كما قدمنا عن غيرهم، وكذلك لو أدخل منكبيه في القباء، ولم يدخل يديه في الكمين، فلا شيء عليه عندهم خلافاً لزفر وقد بيَّـنَّا حُكمْ ذلك عند غيرهم وعن أبي حنيفة: تغطية ربع الرأس كتغطية جميعه، وعن أبي يوسف: أنه يعتبر في ذلك الأكثر ودوام لبس المخيط عندهم بعد الإحرام كابتدائه، وهو كذلك عند غيرهم أيضاً.
واعلم أن النووي قال في شرح المهذب: وله يعني: المحرم أن يتقلد المصحف وحمائل السيف وأن يشد الهميان والمنطقة في وسطه، ويلبس الخاتم، ولا خلاف في جواز هذا كله، وهذا الذي ذكرناه في المنطقة والهميان مذهبنا وبه قال العلماء كافة إلا ابن عمر في أصح الروايتين عنه، فكرههما وبه قال نافع مولاه. وقد علمت أنا ناقشناه في كلامه وبيـنَّا: أن مالكاً وأصحابه لا يجيزون شد المنطقة والهميان، إلا تحت الإزار مباشراً جلده لخصوص النفقة، وأن شد الهميان فوق الإزار فيه عندهم الفدية مطلقاً، وكذلك تحت الإزار لغير حفظ النفقة، وأن الإمام أحمد تلزم عنده الفدية في شد المنطقة لغير حفظ النفقة: أي ولو كان لوجع بظهره، وسنتمم الكلام هنا. أما ما ذكره من أن لبس الخاتم لا خلاف في جوازه للمحرم، ففيه نظر أيضاً، لأن بعض العلماء يقول: يمنع لبس المحرم الخاتم والخلاف في جواز لبسه ومنعه معروف في مذهب مالك.
قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره: مشبهاً على ما لا يجوز لبسه للمحرم كخاتم ما نصه: قال ابن الحاجب: وفي الخاتم قولان، فحملهما في التوضيح على الجواز والمنع. وقال اللخمي وابن رشد: المعروف من قول مالك: منعه، لأنه أشبه بالإحاطة بالإصبع المحيط، وفي مختصر ما ليس في المختصر: لا بأس به. إلى أن قال: فالذي يظهر أن القائل بالمنع يقول: بالفدية، والقائل بالجواز يقول: بسقوط الفدية. انتهى منه.
ثم قال: تنبيه: وهذا في حق الرجل، وأما المرأة فيجوز لها لبس الخاتم ا هـ.
وبما ذكرنا تعلم أن قول النووي، ولا خلاف في جواز هذا كله. فيه نظر، وأما تقلد حمائل السيف فعند المالكية، إن كان لعذر يلجئه إلى ذلك، فهو جائز له، ولا فدية فيه، فإن تقلده لغير حاجة فقد قال ابن المواق عن مالك: ينزعه ولا فدية عليه انتهى بواسطة نقل المواق في كلامه على قول خليل في مختصره، ولا فدية في سيف، ولو بلا عذر ا هـ. وظاهر قوله: ينزعه أنه لا يجوز تقلد السيف اختياراً عنده كما ترى، والعلم عند الله تعالى. وظاهر مذهب الإمام أحمد: أنه لا يجوز للمحرم، أن يتقلد السيف إلا لضرورة، وقال الخرقي: ويتقلد بالسيف عند الضرورة، وقال في المغني في شرحه لكلام الخرقي: فأما من غير خوف، فإن أحمد قال: لا إلا من ضرورة. انتهى محل الغرض منه.
وقال البخاري في صحيحه في كتاب الحج: باب لبس السلاح للمحرم، وقال عكرمة: إذا خشي العدو، لبسَ السلاح وافتدى ولم يتابع عليه في الفدية.
حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه «اعتمر النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يَدَعُوه يدخل مكة، حتى قَاضَاهُمْ لا يدخل مكة سلاحاً إلا في القراب» ا هـ منه.
وقوله: ولم يتابع عليه في الفدية، يدل على أنه توبع في لبس السلاح للضرورة، لأن معنى قاضاهم: لا يدخل مكة سلاحاً إلا في القراب، أنه صالح كفار مكة صلح الحديبية، أنه إن دخل معتمراً عام سبع في ذي القعدة لا يدخل مكة السيوف إلا في أغمادها، والقراب غمد السيف، فدل ذلك على جواز دخول المحرم متقلداً سيفه للخوف من العدو.
وقال البخاري في صحيحه في باب عمرة القضاء: حدثني عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال «لما اعتَمَرَ النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيَّام» الحديث بطوله، وفيه «فكتب هذا ما قَاضَى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب» الحديث. وفي لفظ للبخاري في كتاب الصلح «لا يدخُلُ مكة سلاحٌ إلا في القراب» وفي لفظ له في كتاب الصلح أيضاً «ولا يدخلها إلا بجُلُبان السلاح» فسألوه ما جُلُبَّان السلاح؟ فقال: القِراب بما فيه» والجلبان بضم الجيم واللام وتشديد الباء الموحدة بعدها ألف، ثم نون: هو قِراب السيف ويطلق على أوعية السلاح، ويروى بتسكين اللام، وتخفيف الباء، وهو شبه الجراب من الأدم يوضع فيه السيف مغموداً.
وقال صاحب اللسان: والقِراب غمد السيف والسكين، ونحوهما وجمعه قُرب أي بضمتين، وفي صحاح الجوهري: قراب السيف: جفنه وهو وعاء يكون فيه السيف بغمده، وحمالته ا هـ والقراب ككتاب ومن جمعه على قُرب بضمتين قوله: يا ربةَ البيت قومي غير صاغرة ضُمي إليك رحالَ القومِ والقُربَا

يعني: ضمي إليك رحالهم وسلاحهم، في أوعيته.
وبهذه الأحاديث: استدل بعض أهل العلم على أن الصحابة دخلوا مكة محرمين عام سبع وهم متقلدو سيوفهم في أغمادها، وأن ذلك لعلة خوفهم من المشركين، لأن الكفار لا يوثق بعهودهم.
وقد علمت أن بعض أهل العلم قال: إن ذلك لا يجوز إلا لضرورة، والله تعالى أعلم.
وللمخالف أن يقول: إن الأحاديث المذكورة ليس فيها التصريح بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تقلدوها. ويمكن أن يكونوا حملوا السلاح معهم في رحالهم في أوعيته من غير أن يتقلدوه، وعلى هذا الاحتمال، فلا حجة في الأحاديث على تقلد المحرم حمائل السيف، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس عشر: قد بينا في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه أنه يمنع من الطيب، وسنذكر إن شاء الله في هذا الفرع ما يلزم في ذلك.
اعلم: أن الأئمة الثلاثة: مالكاً، والشافعي، وأحمد: لا فرق عندهم، بين أن يطيِّب جسده كله أو عضواً منه، أو أقل من عضو، فكل ذلك عندهم إن فعله قصداً يأثم به، وتلزمه الفدية.
وقال أبو حنيفة: لا تجب عليه الفدية إلا إذا طيب عضواً كاملاً، مثل الرأس، والفخذ، والساق: فإن طيب أقل من عضو فعليه الصدقة، وهي عندهم نصف صاعٍ من بُرٍّ أو صاع من غيره، كتمر وشعير. وقد قدمنا مراراً أن مذهب أبي حنيفة: أنه إن فعل المحظور، كاللباس، والتطيب، لا لعذر، فعليه دم، وتُجزِئُه شاة وإن فعله لعذر فعليه فدية الأذى المذكورة في آية الفدية، على التخيير، وإن كان المحرم طيباً كثيراً: لزمه الدم عند أبي حنيفة، وقال صاحباه محمد وأبو يوسف: تجب في ذلك الصدقة، وعن محمد: أنه إن طيب أقل من عضوٍ لزمه بحسبه من الدم فإن طيب ثلث العضو، فعليه ثلث دم مثلاً، وهكذا، وعن بعض الحنفية: أنه إن طيب ربع عضوٍ: لزمه الدم كاملاً كحلق ربع الرأس، فهو عندهم كحلق جميعه وهذا خلاف المشهور في تطيب بعض العضو عندهم. وظاهر كلامهم أنه لو جعل طيباً كثيراً على بعض عضو، فليس عليه إلا الصدقة. وصحح بعض الحنفية: أنه إن كان الطيب قليلاً فالعبرة بالعضو، وإن كان كثيراً فالعبرة بالطيب، وله وجه من النَّظر، وعن بعض الحنفية أن من مس طيباً بأصبعه، فأصابها كلها فعليه دم. وعن أبي يوسف: إنْ طيَّبَ شاربَه كله أو يقدره من لحيته، أو رأسه فعليه دم، وعن بعض الحنفية: أنه إن اكتحل بكحل مطيب، فعليه صدقة، ومثله الأنف، فإن فعل ذلك مراراً كثيرة فعليه دم، وفي مناسك الكرماني: لو طيب جميع أعضائه فعليه دم واحد، لاتحاد الجنس،
ولو كان الطيب في أعضاء متفرقة يجمع ذلك كله، فإن بلغ عضواً: فعليه دم، وإلا فصدقة، ولو شم طيباً فليس عليه شيء، وإن دخل بيتاً مجمراً، فليس عليه شيء، وإن أجمر ثوبه، فإن تعلق به كثيراً، فعليه دم، وإلا فصدقة ا هـ من تبيين الحقائق.
وقال بعض الحنفية: إن طيب أعضاءه كلها في مجلس واحد فعليه دم واحد كما تقدم، وإن كان ذلك في مجلسين مختلفين، فعليه لكل واحد دم في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، سواء ذبح للأول أو لم يذبح. وقال محمد: إن ذبح للأول، فكذلك، وإن لم يذبح فعليه دم واحد، والاختلاف فيه كاختلاف في الجماع ا هـ.
وأظهرها عندي قول محمد: والحناء عندهم طيب، فلو خضب رأسه بالحناء، لزمه الدم. واستدلوا بحديث الحناء طيب. قالوا رواه البيهقي. وسيأتي ما يدل على أن البيهقي رواه في المعرفة، وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف. وقد روى البيهقي عن عائشة مرفوعاً، ما يدل على أن الحناء ليس بطيب، والعلم عند الله تعالى: هذا حاصل مذهب أبي حنيفة وأصحابه في الطيب للمحرم.
وأما مذهب مالك في الطيب للمُحرم فحاصله: أن الطيب عندهم نوعان: مذكر ومؤنث، أما المذكر فهو ما يظهر ريحه، ويخفى أثره: كالريحان، والياسمين، والورد، والبنفسج ونحو ذلك. وأما المؤنث: فهو ما يظهر ريحه، ويبقى أثره: كالمسك والورس والزعفران والكافور والعنبر والعود ونحو ذلك. فأما المذكر فيكره شمه والتطيب به، ولا فدية في مسه، والتطيب به ولو غسل يديه بماء الورد، فلا فدية عليه عندهم في ذلك، لأنه من الطيب المذكر، خلافاً لابن فرحون في مناسكه حيث قال: إن ماء الورد فيه الفدية لأن أثره يبقى، وممن قال: بأن الطيب المذكر لا فدية في استعماله: عثمان بن عفان، والحسن، ومجاهد، وإسحاق. وأما ما ينبت في الأرض من النبات الطيب الريح ولا يقصد التطيب به، كالشيح، والقيصوم، والزنجبيل، والإذخر، فلا فدية فيه عندهم، فهو كريح الفواكه الطيبة كالتفاح والليمون، والأترج وسائر الفواكه وبعض أهل العلم يكره شمه للمحرم، وإن خضب رأسه أو لحيته بحناء، أو خضبت المرأة رأسها أو رجليها، أو طرفت أصابعها بحناء فالفدية عندهم واجبة في ذلك. وأما مؤنث الطيب: كالمسك، والورس، والزعفران، فإن التطيب به عندهم حرام، وفيه الفدية.
ومعنى التطيب بالطيب عندهم: إلصاقه بالثوب، أو باليد وغيرها من الأعضاء، ونحو ذلك، فإن علق به ريح الطيب دون عينه بجلوسه في حانوت عطار، أو في بيت تجمر ساكنوه، فلا فدية عليه عندهم مع كراهة تماديه في حانوت العطار أو البيت الذي تجمر ساكنوه، هذا هو مشهور مذهب مالك. وإن مس الطيب المؤنث افتدى عندهم، وحد ريحه أولاً، لصق به أولاً، ويكره شم الطيب عندهم مطلقاً.
وأظهر أقوال علماء المالكية في الثوب المصبوغ بالورس، والزعفران: إذا تقادم عهده، وطال زمنه حتى ذهبت ريحه بالكلية: أنه مكروه للمحرم، ما دام لون الصبغ باقياً ولكنه لا فدية فيه لانقطاع ريحه بالكلية.
وأقيس الأقوال: أنه يجوز مطلقاً، لأن الرائحة الطيبة التي منع من أجلها زالت بالكلية، والعلم عند الله تعالى. وإن اكتحل عندهم بما فيه طيب، فالفدية، ولو لضرورة مع الجواز للضّرورة وبما لا طيب فيه فهو جائز للضّرورة ولغيرها، فثلاثة أقوال مشهورها: وجوب الفدية على الرجل، والمرأة معاً، وقيل: لا تجب عليهما، وقيل: تجب على المرأة دون الرجل.
وحاصل مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة: أن النبات الذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب:
أحدها: ما لا ينبت للطيب ولا يتخذ منه، كنبات الصحراء من الشيخ، والقيصوم، والخزامي والفواكه كلها من الأترج، والتفاح وغيره، وما ينبته الآدميون لغير قصد الطيب، كالحناء والعصفر، وهذا النوع مباح شمه في مذهب الإمام أحمد، ولا فدية فيه.
قال في المغني: ولا نعلم فيه خلافاً إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم: أن يشُمَّ شَيئاً من نبات الأرض من الشيخ والقيصوم وغيرهما قال: ولا نعلم أحداً أوجب في ذلك شيئاً فإنه لا يقصد للطيب، ولا يتخذ منه فأشبه سائر نبات الأرض. وقد روي أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كنَّ يحرمن في المعصفرات.
النوع الثاني: ما ينبته الآدميون للطيب، ولا يتخذ منه طيب، كالريحان، والنرجس، ونحو ذلك وفي هذا النوع للحنابلة وجهان.
أحدهما: يباح بغير فدية كالذي قبله.
قال في المغني: وبه قال عثمان بن عفان، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وإسحاق.
والوجه الثاني: يحرم شمه، فإن فعل فعليه الفدية.
قال في المغني: وهو قول جابر، وابن عمر، والشافعي، وأبي ثور، لأنه يتخذ للطيب فأشبه الورد. وكرهه مالك، وأصحاب الرأي، ولم يوجبوا فيه شيئاً، وكلام أحمد فيه محتمل لهذا، فإنه قال في الريحان: ليس من آلة المحرم، ولم يذكر فديته، وذلك لأنه لا يتخذ منه طيب، فأشبه العصفر. ا هـ من المغني.
والنوع الثالث عندهم: هو ما ينبت للطيب، ويتخذ منه طيب كالورد والبنفسج والياسمين، ونحو ذلك. وهذا النوع إذا استعمله، وشمه ففيه: الفدية عندهم، لأن الفدية تجب فيما يتخذ منه، فكذلك في أصله. وعن أحمد رواية أخرى في الورد: أنه لا فدية عليه في شمه، لأنه زهر كزهر سائر الشجر.
قال في المغني: وذكر أبو الخطاب في هذا، والذي قبله روايتين والأولى: تحريمه، لأنه ينبت للطيب، ويتخذ منه، فأشبه الزعفران والعنبر. قال القاضي يقال: إن العنبر ثمر شجر وكذلك الكافور. ا هـ من المغني.
وفي المغني أيضاً: وإن مس من الطيب ما يعلق بيده كالغالية، وماء الورد والمسك المسحوق الذي يعلق بأصابعه فعليه الفدية، لأنه مستعمل للطيب، وإن مس ما لا يعلق بيده كالمسك غير المسحوق، وقطع الكافور والعنبر، فلا فدية لأنه غير مستعمل للطيب، فإنه شمه فعليه الفدية لأنه يستعمل هكذا، وإن شم العود، فلا فدية عليه لأنه لا يتطيب به هكذا ا هـ من المغني.
وقال في المغني أيضاً: فكل ما صبغ بزعفران، أو ورس، أو غمس في ماء ورد، أو بخر بعود، فليس للمحرم لبسه ولا الجلوس عليه، ولا النوم عليه نص أحمد عليه، وذلك لأنه استعمال له، فأشبه لبسه، ومتى لبسه أو استعمله، فعليه الفدية. وبذلك قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن كان رطباً يلي بدنه أو يابساً ينفض فعليه الفدية، وإلاَّ فلا، لأنه ليس بمتطيب ثم قال صاحب المغني: وإن انقطعت رائحة الثوب، لطول الزمن عليه أو لكونه صبغ بغيره فغلب عليه بحيث لا يفوح له رائحة إذا رش فيه الماء، فلا بأس باستعماله لزوال الطيب منه. وبهذا قال سعيد بن المسيب، والحسن، والنخعي، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وروي ذلك عن عطاء، وطاوس، وذكره ذلك مالك، إلا أن يغسل، ويذهب لونه: لأن عين الزعفران ونحوه فيه. ثم قال: فأما إن لم يكن له رائحة في الحال لكن كان بحيث إذا رش فيه الماء فاح ريحه: ففيه الفدية، لأنه متطيب بدليل أن رائحته تظهر عند رش الماء فيه. والماء لا رائحة له، وإنما هي من الصبغ الذي فيه. فأما إن فرش فوق الثوب ثوباً صفيقاً يمنع الرائحة والمباشرة: فلا فدية عليه بالجلوس، والنوم عليه، وإن كان الحائل بينهما ثياب بدنه ففيه الفدية، لأنه يمنع من استعمال الطيب في الثوب الذي عليه كمنعه من استعماله في بدنه. ا هـ من المغني.
وأما العصفر: فليس عندهم بطيب، ولا بأس باستعماله، وشمه، ولا بما صبغ به.
قال في المغني: وهذا قول جابر، وابن عمر، وعبد الله بن جعفر، وعقيل بن أبي طالب، وهو مذهب الشافعي، وعن عائشة وأسماء، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: «أنهن كن يحرمن في المعصفرات» وكرهه مالك: إذا كان ينتفض في بدنه، ولم يوجب فيه فدية، ومنع ذلك الثوري، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن وشبهوه بالمورس، والمزعفر، لأنه صبغ طيب الرائحة فأشبه ذلك ا هـ.
والأظهر: أن العصفر ليس بطيب مع أنه لا يجوز لبس المحرم، ولا غيره للمعصفر، وقد قدمنا فيه حديث ابن عمر، عند أبي داود «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مسه الورس والزعفران من الثياب، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب من معصفر أوخز» الحديث وهو صريح في أن العصفر: ليس بطيب. وقد قدمنا الكلام على هذا الحديث.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يختضبن بالحناء، وهن محرمات، ويلبسن المعصفر وهنَّ محرمات».
وقال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الكبير، وفيه يعقوب بن عطاء، وثقه ابن حبان، وضعّفه جماعة ا هـ. وسيأتي ما يدل على منع لبس المعصفر مطلقاً.
وقال صاحبُ المغني أيضاً: ولا بأس بالمصبوغ بالمغرة، لأنه مصبوغ بطين لا بطيب، وكذلك المصبوغ بسائر الأصباغ، سوى ما ذكرنا، لأن الأصلَ الإباحة، إلا ما ورد الشرع بتحريمه، وما كان في معناه، وليس هذا كذلك، وأما المصبوغ بالرياحين: فهو مبني على الرياحين في نفسها، فما منع المحرم من استعماله منع من لبس المصبوغ به إذا ظهرت رائحته، وإلا فلا، وهذا الذي ذكرنا هو حاصل مذهب الإمام أحمد في الطيب للمحرم، ولا فرق عنده بين قليل الطيب وكثيره، ولا بين قليل اللبس وكثيره، كما تقدمَ إلا أنه يفرق بين تعمُّد استعمال الطيب، واللبس وبين استعماله لذلك ناسياً، فإن فعله متعمداً أثم وعليه الفدية، وإزالة الطيب، واللباس فوراً، وإن تطيب، أو لبس ناسياً: فلا فدية عليه، ويخلع اللباس، ويغسل الطيب.
قال ابن قدامة في المغني: المشهور أن المتطيب ناسياً، أو جاهلاً لا فدية عليه، وهو مذهب عطاء، والثوري، وإسحاق، وابن المنذر. انتهى محل الغرض منه، ثم ذكر أن الذي يستوي عمده ونسيانه في لزوم الكفارة ثلاثة أشياء: وهي الجماع، وقتل الصيد، وحلق الرأس، وأن كل ما سوى هذه الثلاثة يفرق فيه بين العمد والنسيان. وذكر أن الإمام أحمد نقل عن سفيان أن الثلاثة المذكورة يستوي عمدها ونسيانها في لزوم الكفارة.
وقال في المغني: ويلزمه غسل الطيب، وخلع اللباس، لأنه فعل محظوراً، فيلزمه إزالته، وقطع استدامته كسائر المحظورات، والمستحب أن يستعين في غسل الطيب بحلال لئلا يباشر المحرم الطيب بنفسه. ويجوز أن يليَهُ بنفسه، ولا شيء عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي رأى عليه طيباً أو خلوقاً «اِغسل عنكَ الطيبَ» ولأنه تارك له، فإن لم يجدْ ما يغسله به، مسحه بخرقة، أو حكه بترابٍ، أو ورقٍ أو حشيش، لأن الذي عليه إزالته بحسب القدرة. وهذا نهاية قدرته ثم قال: وإذا احتاج إلى الوضوء، وغسل الطيب، ومعه ماء لا يكفي إلا أحدهما: قدم غسل الطيب ويتيمم للحدث، لأنه لا رخصة في إبقاء الطيب، وفي ترك الوضوء إلى التيمم رخصة، فإن قدر على قطع رائحة الطيب بغير الماء فعل، وتوضّأ فإن المقصود من إزالة الطيب قطع رائحته، فلا يتعين الماء والوضوء، بخلافه ا هـ منه. وهذا خلاصة المذهب الحنبلي في مسألة الطيب للمحرم. ومذهب الشافعي في هذه المسألة: أنه يحرم على الرجل والمرأة استعمال الطيب، ولا فرق عنده بين القليل والكثير، واستعمال الطيب عنده: هو أنْ يلصق الطيب ببدنه، أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك الطيب. فلو طيب جزءاً من بدنه بغالية، أو مسك مسحوق، أو ماء ورد: لزمته الفدية، سواء كان الإلصاق بظاهر البدن أو باطنه، فإن أكله أو احتقن به، أو استعط، أو اكتحل أو لطخ به رأسه، أو وجهه أو غير ذلك من بدنه أثِمَ، ولزمته الفديةُ، ولا خلاف عندهم في شيءٍ من ذلك، إلا الحقنة والسعوط ففيهما وجه ضعيف: أنه لا فدية فيهما، ومشهور مذهب الشافعي: وجوب الفدية فيهما، ولو لبس ثوباً مبخّراً بالطيب، أو ثوباً مصبوغاً بالطيب، أو علق بنعله طيب، لزمته الفدية عند الشافعية ولو عبقت رائحة الطيب دون عينه، بأن جلس في دكان عطار أو عند الكعبة، وهي تبخر أو في بيت يبخر ساكنوه: فلا فدية عليه بلا خلاف، ثم إن لم يقصد الموضع لاشتمام الرائحة، لم يكره، وإن قصده لاشتمامها ففي كراهته قولان: للشافعي أصحهما: يكره، وبه قطع القاضي أبو الطيب، وآخرون، وهو نصه في الإملاء، والثاني: لا يكره، وقطع القاضي حسين: بالكراهة، وقال: إنما القولان في وجوب الفدية، والمذهب الأول، وبه قطع الأكثرون. قاله النووي ثم قال: ولو احتوى على مجمرة فتبخّر بالعود بدنه أو ثيابه: لزمته الفدية، بلا خلاف، لأنه يُعد استعمالاً للطيب، ولو مس طيباً يابساً كالمسك والكافور، فإن علق بيده لونه وريحه وجبت الفدية، بلا خلاف، لأن استعماله هكذا يكون، وإن لم يعلق بيده شيء من عينه، لكن عبقت به الرائحة، ففي وجوب الفدية قولان الأصح عند الأكثرين وهو نصه في الأوسط: لا تجب، لأنها عن مجاورة فأشبه من قعد عند الكعبة، وهي تبخر، والثاني: تجب. وصححه القاضي أبو الطيب، وهو نصه في الأم والإملاء والقديم، لأنها عن مباشرة، وإن ظن أن الطيب يابس فمسه، فعلق بيده ففي الفدية عند الشافعية قولان أصحهما: لا تجب عليه الفدية، خلافاً لإمام الحرمين. وأما إن مس الطيب، وهو عالم بأنه رطب وكان قاصداً مسه، فعلق بيده، فعليه فدية عندهم، ولو شد مسكاً أو كافوراً، أو عنبراً في ظرفِ ثوبه أو جبته: وجبت الفدية عندهم قطعاً، لأنه استعمال له، ولو شد العود فلا فدية، لأنه لا يعد تطيباً، بخلاف شد المسك، ولو شم الورد فقد تطيب عندهم، بخلاف ما لو شم ماء الورد، فإنه لا يكون متطيباً عندهم، بل استعمال ماء الورد عندهم هو أن يصبه على بدنه أو ثوبه ولو حمل مسكاً، أو طيباً غيره في كيس، أو خرقة مشدوداً، أو قارورة مصممة الرأس، أو حمل الورد في وعاء: فلا فدية عليه. نص عليه في الأم وقطع به الجمهور: وفيه وجه شاذٌ: أنه إن كان يشمه قصداً: لزمته الفدية، ولو حمل مسكاً في قارورة غير مشقوقة: فلا فدية في أصح الوجهين. ولو كانت القارورة مشقوقة، أو مفتوحةَ الرأس، فعن جماعة من الأصحاب الشافعيين: تجب الفدية، وخالف الرافعي قائلاً: إن ذلك لا يعد تطيباً، ولو جلس على فراشٍ مطيب أو أرض مطيبة، أو نام عليها مفضياً إليها ببدنه أو ملبوسه: لزمته الفدية عندهم. ولو فرش فوقه ثوباً، ثم جلس عليه، أو نام: لم تجب الفدية. نص عليه الشافعي في الأم. واتفق عليه الأصحاب، لكن إن كان الثوب رقيقاً كره، وإلا فلا، ولو داس بنعله طيباً لزمته الفدية، وإن خفيت رائحة الطيب في الثوب لطول الزمان، فإن كانت تفوح عند رشه بالماء حرم استعماله، وإن بقي لون الطيب دون ريحه، لم يحرم على أصح الوجهين. ولو صب ماء ورد في ماء كثير، حتى ذهب ريحه ولونه: لم تجب الفدية باستعماله في أصح الوجهين. فلو ذهبت الرائحة، وبقي اللون، أو الطعم فحكمه عندهم حكم من أكل طعاماً فيه زعفران أو طيب. وذلك أن الطيب إن استهلك في الطعام، حتى ذهب لونه، وريحه وطعمه: فلا فدية. ولا خلاف في ذلك عندهم، وإن ظهر لونه وطعمه، وريحه وجبت الفدية، بلا خلاف، وإن بقيت الرائحة فقط: وجبت الفدية لأنه يعد طيباً، وإن بقي اللون وحده، فطريقان مشهوران أصحهما: أن فيه قولين الأصح منهما: أنه لا فدية فيه، وهو نص الشافعي في الأم والإملاء والقديم الثاني: تجب الفدية، وهو نصه في الأوسط والطريق الثاني: أنه لا فدية فيه قطعاً، وإن بقي الطعم وحده ففيه عندهم ثلاث طرق أصحها: وجوب الفدية قطعاً: كالرائحة، والثاني: فيه طريقان بلزومها وعدمه، والثالث: لا فدية، وهذا ضعيف أو غلط. وحكى بعض الشافعية طريقاً رابعاً: وهو أنه لا فدية قطعاً ولو كان المحرم أخشم لا يجد رائحة الطيب، واستعمل الطيب: لزمته الفدية عندهم، بلا خلاف لأنه وجد منه استعمال الطيب مع علمه بتحريم الطيب على المحرم فوجبت الفدية وإن لم ينتفع به كما لو نتف شعر لحيته أو غيرها من شعوره التي لا ينفعه نتفها قال النووي: وممن صرح بهذا المتولي، وصاحب العدة والبيان ا هـ.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لزوم الفدية للأخشم الذي لا يجد ريح الطيب، إذا استعمل الطيب، مبني على قاعدة هي: أن المعلل بالمظان لا يتخلف بتخلف حكمته، لأن مناط الحكم مظنة وجود حكمة العلة، فلو تخلفت في صورة لم يمنع ذلك من لزوم الحكم كمن كان منزله على البحر، وقطع مسافة القصر في لحظة في سفينة، فإنه يباح له قصر الصلاة والفطر في رمضان بسفره، هذا الذي لا مشقة فيه، لأن الحكم الذي هو الرخصة علق بمظنة المشقة في الغالب، وهو سفر أربعة برد مثلاً والمعلل بالظان لا تتخلف أحكامه، بتخلف حكمها في بعض الصوَر كما عقده بعض أهل العلم بقوله: إن علل الحكم بعلة غلب وجودها اكتفى بذا عن الطلب
لـهـا بـكـل صـورة الخ
وإيضاحه: أن الغالب كون الإنسان يجد ريح الطيب، فأنيط الحكم بالأغلب الذي هو وجوده ريح الطيب، فلو تخلفت الحكمة في الأخشم الذي لا يجد ريح الطيب لم يتخلف الحكم لإناطته بالمظنة، وقد أوضحنا هذه المسألة وأكثرنا من أمثلتها في غير هذا الموضع.
وقد تقرر في الأصول: أن وجود الحكم مع تخلف حكمته من أنواع القادح المسمى بالكسر، وقد أشار إلى ذلك صاحب المراقي بقوله في مبحث القوادح: والكسر قادح ومنه ذكرا تخلف الحكمة عنه من درا

وهذا الذي قررنا في مسألة الأخشم مبني على القول، بأن الكسر بتخلف الحكمة عن حكمها، لا يقدح في المعلل بالمظان، كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن الحكمة في اصطلاح أهل الأصول: هي الفائدة التي صار بسببها الوصف علة للحكم، فتحريم الخمر مثلاً حكم والإسكار هو علة هذا الحكم، والمحافظة على العقل من الاختلال: هي الحكمة التي من أجلها صار الإسكار علة لتحريم الخمر، وقد عرف صاحب المراقي الحكمة بقوله: وهي التي من أجلها الوصف جرى علة حكم عند كل من دَرَى

وعلة الرخصة بقصر الصلاة والإفطار في رمضان: هي السفر، والحكمة التي صار السفر علة بسببها: هي تخفيف المشقة على المسافر مثلاً، وهكذا.
واعلم: أن علماء الشافعية قالوا: إنه يشترط في الطيب الذي يحكم بتحريمه: أن يكون معظم الغرض منه التطيب، واتخاذ الطيب منه، أو يظهر فيه هذا الغرض. هذا ضابطه عندهم.
ثم فصلوه فقالوا: الأصل في الطيب: المسك، والعنبر، والكافور، والعود، والصندل، والذريرة، وهذا كله لا خلاف فيه عندهم قالوا: والكافور صنع شجر معروف.
وأما النبات الذي له رائحة فأنواع:
منها: ما يطلب للتطيب، واتخاذ الطيب منه كالورد والياسمين، والخيرى، والزعفران، والورس ونحوها، فكل هذا طيب. وعن الرافعي وجه شاذ في الورد والياسمين والخيرى: أنها ليست طيباً والمذهب الأول.
ومنها: ما يُطلب للأكل والتداوي غالباً، كالقرنفل والدارصيني، والفلفل، والمصطكى، والسنبل وسائر الفواكه كل هذا وشبهه ليس بطيب، فيجوز أكله وشمه وصبغ الثوب به، ولا فدية فيه سواء قليله وكثيره، ولا خلاف عند الشافعية في شيء من هذا إلا القرنفل، ففيه وجهان عندهم. والصحيح المشهور أنه ليس بطيب عندهم.
ومنها: ما ينبت بنفسه، ولا يُراد للطيب كنور أشجار الفواكه كالتفاح، والمشمش، والكمثري، والسفرجل، وكالشيح، والقيصوم، وشقائق النعمان والإذخر، والخزامي، وسائر أزهار البراري، فكل هذا ليس بطيب فيجوز أكله وشمه، وصبغ الثوب به، ولا فدية فيه، بلا خلاف.
ومنها: ما يُتطيب به، ولا يتخذ منه الطيب: كالنرجس، والآس، وسائر الرياحين وفي هذا النوع عند الشافعية طريقان.
أحدهما: أنه طيب قولاً واحداً.
والطريق الثاني: وهو الصحيح المشهور عندهم: أن فيه قولين مشهورين الصحيح منهما، وهو قوله الجديد: أنه طيب موجب للفدية. القول الثاني وهو القديم: أنه ليس بطيب، ولا فدية فيه ا هـ والحناء والعصفر ليسا بطيب عند الشافعية بلا خلاف على التحقيق، خلافاً لمن زعم خلافاً عندهم في الحناء.
واعلم: أن الأدهان عند الشافعية ضربان أحدهما دهن ليس بطيب، ولا فيه طيب، كالزيت، والشيرج، والسمن، والزبد، ودهن الجوز، واللوز ونحوها. فهذا لا يحرم استعماله في جميع البدن، ولا فدية فيه، إلا في الرأس، واللحية، فيحرم عندهم استعماله فيهما بلا خلاف، وفيه: الفدية. لأنه إزالة للشعث، إن كان في الرأس واللحية، فإن كان أصلع لا ينبت الشعر في رأسه فدهن رأسه أو أمرد فدهن ذقنه: فلا فدية عندهم في ذلك، بلا خلاف، وإن كان محلوق الرأس فدهنه بما ذكر، ففيه عندهم وجهان: أصحهما: وجوب الفدية بناء على أن الشَّعر إنْ نبت جَمله ذلك الدهن، الذي جعل عليه، وهو محلوق والوجه الثاني: لا فدية، لأنه لا يزول به شعث. واختاره المزني وغيره ولو كان برأسه شجة فجعل هذا الدهن في داخلها من غير أن يمس شعر رأسه: فلا فدية، بلا خلاف، ولو طلى شعر رأسه ولحيته بلين جاز: ولا فدية، وإن كان اللبن يستخرج منه السمن، لأنه ليس بدهن ولا يحصل به ترجيل الشعر، والشحم، والشمع عندهم، إذا أُذبيا كالدهن يحرم على المحرم ترجيل شعره بهما.
الضرب الثاني: دهن هو طيب ومنه: دهن الورد، والمذهب عندهم: وجوب الفدية فيه، وقيل فيه وجهان. ومنه: دهن البنفسج، فعلى القول بأن نفس البنفسج: لا فدية فيه، فدهنه أولى، وعلى أن فيه الفدية، فدهنه كدهن الورد، والأدهان كثيرة، وخلاف العلماء فيها من الخلاف في تحقيق المناط كدهن البان والزنبق، وهو دهن الياسمين والكاذي وهو دهن، ونبت طيب الرائحة والخيري، وهو معرب، وهو نبت طيب الرائحة ويقال للنحاسي: خيري البر، ومذهب الشافعي: أن الأدهان المذكورة، ونحوها طِيب، تجب باستعماله الفِدْية.
واعلم: أن محل وجوب الفدية عند الشافعية في الطيب: إذا كان استعمله عامداً، فإن كان ناسياً أو ألقته الريح عليه، لزمته المبادرة بإزالته بما يقطع ريحه، وكون الأولى أن يستعين في غسله بحلال وتقديمه غسله على الوضوء، إن لم يكف الماء، إلا أحدهما عند الشافعية موافق لما قدمنا عن الحنابلة، بخلاف غسل النجاسة، فهو مقدم عندهم على غسل الطيب ولو لصق بالمحرم طيب يوجِب الفدية، لزمه المبادرة إلى إزالته فإن أخره عصى ولا تتكرر به الفدية والاكتحال عندهم بما فيه طيب حرام، فإن احتاج إليه اكتحل به ولزمته الفدية.
وأما الاكتحال بما لا طيب فيه، فإن كان فيه زينة كره عندهم: كالإثمد، وإن كان بما لا زينة فيه: كالتوتيا الأبيض فلا كراهة.
وقال النووي بعد أن ذكر الإجماع على تحريم الطيب للمحرم:
ومذهبنا أنه لا فرق بين أن يتبخر، أو يجعله في ثوبه، أو بدنه، وسواء كان الثوب مما ينغض الطيب، أم لم يكن.
قال العبدري: وبه قال أكثر العلماء.
وقال أبو حنيفة: يجوز للمحرم أن يتبخر بالعود، والند، ولا يجوز أن يجعل شيئاً من الطيب في بدنه، ويجوز أن يجعله على ظاهر ثوبه، فإن جعله في باطنه، وكان الثوب لا بنقض، فلا شيء عليه، وإن كان بنقص لزمته الفدية ا هـ منه.
والظّاهر المنع مطلقاً لصريح الحديث الصحيح في النهي عن ثوب مسه ورس أو زعفران، وكل هذه الصور يصدق فيها: أنه مسه ورس أو زعفران، وغيرهما من أنواع الطيب وحكمه كحكمهما، كما أوضحنا الأحاديث الدالة عليه في أول الكلام في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه. وكذلك المتبخر بالعود متطيب عُرفاً، والأحاديث دالة على اجتناب المحرم للطيب كما تقدم، والعلمُ عند الله تعالى.
وقال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن مذهبنا: أن الزيت، والشيرج، والسمن، والزبد ونحوها من الأدهان غير المطيبة، لا يحرم على المحرم استعمالها في بدنه ويحرم عليه في شعر رأسه ولحيته.
وقال الحسن بن صالح: يجوز استعمال ذلك في بدنه وشعر رأسه ولحيته.
وقال مالك: لا يجوز أن يدْهن بها أعضاءه الظاهرة كالوجه، واليدين، والرجلين، ويجوز دهن الباطنة: وهي ما يوارى باللباس.
وقال أبو حنيفة: كقولنا في السمن والزبد، وخالفنا في الزيت والشيرج فقال: يحرم استعمالها في الرأس والبدن.
وقال أحمد: إن ادهن بزيت أو شيرج: فلا فدية في أصح الروايتين، سواء دهن يديه أو رأسه.
وقال داود: يجوز دهن رأسه، ولحيته، وبدنه بدهن غير مطيب.
وحجة من قال بهذا حديث جاء بذلك: فقد قال البيهقي في السنن الكبرى: أخبرنا أبو ظاهر الفقيه، وأبو سعيد بن أبي عمرو قراءة عليهما، وأبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني إملاء قالوا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، أنبأ أبو سلمة الخزاعي، أنبأ حماد بن سلمة، عن فرقد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم» يعني غير مطيب، لم يذكر ابن يوسف تفسيره. قال الإمام أحمد: ورواه الأسود بن عامر شاذان، عن حماد بن سلمة، عن فرقد، عن سعيد، عن ابن عمر فذكره من غير تفسير ا هـ منه: ثم ذكر بإسناده عن أبي ذر رضي الله عنه: أنه مر عليه قوم محرمون، وقد تشققت أرجلهم فقال: ادهنوها. وفرقد المذكور في سند هذا الحديث، هو فرقد بن يعقوب السبخي بفتح السين المهملة والباء الموحدة وبخاء معجمة: أبو يعقوب البصري، وهو معروف بالزهد والعبادة. ولكنه ضعّفه غير واحد. وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق عابد، لكنه لين الحديث كثير الخطأ. وقال النووي في شرح المهذب: واحتج أصحابنا بحديث فرقد السبخي الزاهد رحمه الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم» رواه الترمذي والبيهقي، وهو ضعيف. وفرقد غير قوي عند المحدثين. قال الترمذي: هو ضعيف غريب، لا يعرف إلا من حديث فرقد، وقد تكلم فيه يحيى بن سعيد. وقوله: غير مقتت: أي غير مطيب انتهى محل الغرض منه.
وفي المغني أيضاً: وإن مس من الطيب ما يعلق بيده كالغالية، وماء الورد والمسك المسحوق الذي يعلق بأصابعه فعليه الفدية، لأنه مستعمل للطيب، وإن مس ما لا يعلق بيده كالمسك غير المسحوق، وقطع الكافور والعنبر، فلا فدية لأنه غير مستعمل للطيب، فإنه شمه فعليه الفدية لأنه يستعمل هكذا، وإن شم العود، فلا فدية عليه لأنه لا يتطيب به هكذا ا هـ من المغني.
وقال في المغني أيضاً:
فكل ما صبغ بزعفران، أو ورس، أو غمس في ماء ورد، أو بخر بعود، فليس للمحرم لبسه ولا الجلوس عليه، ولا النوم عليه نص أحمد عليه، وذلك لأنه استعمال له، فأشبه لبسه، ومتى لبسه أو استعمله، فعليه الفدية. وبذلك قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن كان رطباً يلي بدنه أو يابساً ينفض فعليه الفدية، وإلاَّ فلا، لأنه ليس بمتطيب ثم قال صاحب المغني: وإن انقطعت رائحة الثوب، لطول الزمن عليه أو لكونه صبغ بغيره فغلب عليه بحيث لا يفوح له رائحة إذا رش فيه الماء، فلا بأس باستعماله لزوال الطيب منه. وبهذا قال سعيد بن المسيب، والحسن، والنخعي، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وروي ذلك عن عطاء، وطاوس، وذكره ذلك مالك، إلا أن يغسل، ويذهب لونه: لأن عين الزعفران ونحوه فيه. ثم قال: فأما إن لم يكن له رائحة في الحال لكن كان بحيث إذا رش فيه الماء فاح ريحه: ففيه الفدية، لأنه متطيب بدليل أن رائحته تظهر عند رش الماء فيه. والماء لا رائحة له، وإنما هي من الصبغ الذي فيه. فأما إن فرش فوق الثوب ثوباً صفيقاً يمنع الرائحة والمباشرة: فلا فدية عليه بالجلوس، والنوم عليه، وإن كان الحائل بينهما ثياب بدنه ففيه الفدية، لأنه يمنع من استعمال الطيب في الثوب الذي عليه كمنعه من استعماله في بدنه. ا هـ من المغني.
وأما العصفر: فليس عندهم بطيب، ولا بأس باستعماله، وشمه، ولا بما صبغ به.
قال في المغني: وهذا قول جابر، وابن عمر، وعبد الله بن جعفر، وعقيل بن أبي طالب، وهو مذهب الشافعي، وعن عائشة وأسماء، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: «أنهن كن يحرمن في المعصفرات» وكرهه مالك: إذا كان ينتفض في بدنه، ولم يوجب فيه فدية، ومنع ذلك الثوري، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن وشبهوه بالمورس، والمزعفر، لأنه صبغ طيب الرائحة فأشبه ذلك ا هـ.
والأظهر: أن العصفر ليس بطيب مع أنه لا يجوز لبس المحرم، ولا غيره للمعصفر، وقد قدمنا فيه حديث ابن عمر، عند أبي داود «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مسه الورس والزعفران من الثياب، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب من معصفر أوخز» الحديث وهو صريح في أن العصفر: ليس بطيب. وقد قدمنا الكلام على هذا الحديث.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يختضبن بالحناء، وهن محرمات، ويلبسن المعصفر وهنَّ محرمات».
وقال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الكبير، وفيه يعقوب بن عطاء، وثقه ابن حبان، وضعّفه جماعة ا هـ. وسيأتي ما يدل على منع لبس المعصفر مطلقاً.
وقال صاحبُ المغني أيضاً: ولا بأس بالمصبوغ بالمغرة، لأنه مصبوغ بطين لا بطيب، وكذلك المصبوغ بسائر الأصباغ، سوى ما ذكرنا، لأن الأصلَ الإباحة، إلا ما ورد الشرع بتحريمه، وما كان في معناه، وليس هذا كذلك، وأما المصبوغ بالرياحين: فهو مبني على الرياحين في نفسها، فما منع المحرم من استعماله منع من لبس المصبوغ به إذا ظهرت رائحته، وإلا فلا، وهذا الذي ذكرنا هو حاصل مذهب الإمام أحمد في الطيب للمحرم، ولا فرق عنده بين قليل الطيب وكثيره، ولا بين قليل اللبس وكثيره، كما تقدمَ إلا أنه يفرق بين تعمُّد استعمال الطيب، واللبس وبين استعماله لذلك ناسياً، فإن فعله متعمداً أثم وعليه الفدية، وإزالة الطيب، واللباس فوراً، وإن تطيب، أو لبس ناسياً: فلا فدية عليه، ويخلع اللباس، ويغسل الطيب.
قال ابن قدامة في المغني: المشهور أن المتطيب ناسياً، أو جاهلاً لا فدية عليه، وهو مذهب عطاء، والثوري، وإسحاق، وابن المنذر. انتهى محل الغرض منه، ثم ذكر أن الذي يستوي عمده ونسيانه في لزوم الكفارة ثلاثة أشياء:
وهي الجماع، وقتل الصيد، وحلق الرأس، وأن كل ما سوى هذه الثلاثة يفرق فيه بين العمد والنسيان. وذكر أن الإمام أحمد نقل عن سفيان أن الثلاثة المذكورة يستوي عمدها ونسيانها في لزوم الكفارة.
وقال في المغني: ويلزمه غسل الطيب، وخلع اللباس، لأنه فعل محظوراً، فيلزمه إزالته، وقطع استدامته كسائر المحظورات، والمستحب أن يستعين في غسل الطيب بحلال لئلا يباشر المحرم الطيب بنفسه. ويجوز أن يليَهُ بنفسه، ولا شيء عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي رأى عليه طيباً أو خلوقاً «اِغسل عنكَ الطيبَ» ولأنه تارك له، فإن لم يجدْ ما يغسله به، مسحه بخرقة، أو حكه بترابٍ، أو ورقٍ أو حشيش، لأن الذي عليه إزالته بحسب القدرة. وهذا نهاية قدرته ثم قال: وإذا احتاج إلى الوضوء، وغسل الطيب، ومعه ماء لا يكفي إلا أحدهما: قدم غسل الطيب ويتيمم للحدث، لأنه لا رخصة في إبقاء الطيب، وفي ترك الوضوء إلى التيمم رخصة، فإن قدر على قطع رائحة الطيب بغير الماء فعل، وتوضّأ فإن المقصود من إزالة الطيب قطع رائحته، فلا يتعين الماء والوضوء، بخلافه ا هـ منه. وهذا خلاصة المذهب الحنبلي في مسألة الطيب للمحرم. ومذهب الشافعي في هذه المسألة:
أنه يحرم على الرجل والمرأة استعمال الطيب، ولا فرق عنده بين القليل والكثير، واستعمال الطيب عنده: هو أنْ يلصق الطيب ببدنه، أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك الطيب. فلو طيب جزءاً من بدنه بغالية، أو مسك مسحوق، أو ماء ورد: لزمته الفدية، سواء كان الإلصاق بظاهر البدن أو باطنه، فإن أكله أو احتقن به، أو استعط، أو اكتحل أو لطخ به رأسه، أو وجهه أو غير ذلك من بدنه أثِمَ، ولزمته الفديةُ، ولا خلاف عندهم في شيءٍ من ذلك، إلا الحقنة والسعوط ففيهما وجه ضعيف: أنه لا فدية فيهما، ومشهور مذهب الشافعي: وجوب الفدية فيهما، ولو لبس ثوباً مبخّراً بالطيب، أو ثوباً مصبوغاً بالطيب، أو علق بنعله طيب، لزمته الفدية عند الشافعية ولو عبقت رائحة الطيب دون عينه، بأن جلس في دكان عطار أو عند الكعبة، وهي تبخر أو في بيت يبخر ساكنوه: فلا فدية عليه بلا خلاف، ثم إن لم يقصد الموضع لاشتمام الرائحة، لم يكره، وإن قصده لاشتمامها ففي كراهته قولان: للشافعي أصحهما: يكره، وبه قطع القاضي أبو الطيب، وآخرون، وهو نصه في الإملاء، والثاني: لا يكره، وقطع القاضي حسين: بالكراهة، وقال: إنما القولان في وجوب الفدية، والمذهب الأول، وبه قطع الأكثرون. قاله النووي ثم قال: ولو احتوى على مجمرة فتبخّر بالعود بدنه أو ثيابه: لزمته الفدية، بلا خلاف، لأنه يُعد استعمالاً للطيب، ولو مس طيباً يابساً كالمسك والكافور، فإن علق بيده لونه وريحه وجبت الفدية، بلا خلاف، لأن استعماله هكذا يكون، وإن لم يعلق بيده شيء من عينه، لكن عبقت به الرائحة، ففي وجوب الفدية قولان الأصح عند الأكثرين وهو نصه في الأوسط: لا تجب، لأنها عن مجاورة فأشبه من قعد عند الكعبة، وهي تبخر، والثاني: تجب. وصححه القاضي أبو الطيب، وهو نصه في الأم والإملاء والقديم، لأنها عن مباشرة، وإن ظن أن الطيب يابس فمسه، فعلق بيده ففي الفدية عند الشافعية قولان أصحهما: لا تجب عليه الفدية، خلافاً لإمام الحرمين. وأما إن مس الطيب، وهو عالم بأنه رطب وكان قاصداً مسه، فعلق بيده، فعليه فدية عندهم، ولو شد مسكاً أو كافوراً، أو عنبراً في ظرفِ ثوبه أو جبته: وجبت الفدية عندهم قطعاً، لأنه استعمال له، ولو شد العود فلا فدية، لأنه لا يعد تطيباً، بخلاف شد المسك، ولو شم الورد فقد تطيب عندهم، بخلاف ما لو شم ماء الورد، فإنه لا يكون متطيباً عندهم، بل استعمال ماء الورد عندهم هو أن يصبه على بدنه أو ثوبه ولو حمل مسكاً، أو طيباً غيره في كيس، أو خرقة مشدوداً، أو قارورة مصممة الرأس، أو حمل الورد في وعاء: فلا فدية عليه. نص عليه في الأم وقطع به الجمهور: وفيه وجه شاذٌ: أنه إن كان يشمه قصداً: لزمته الفدية، ولو حمل مسكاً في قارورة غير مشقوقة: فلا فدية في أصح الوجهين. ولو كانت القارورة مشقوقة، أو مفتوحةَ الرأس، فعن جماعة من الأصحاب الشافعيين: تجب الفدية، وخالف الرافعي قائلاً: إن ذلك لا يعد تطيباً، ولو جلس على فراشٍ مطيب أو أرض مطيبة، أو نام عليها مفضياً إليها ببدنه أو ملبوسه: لزمته الفدية عندهم. ولو فرش فوقه ثوباً، ثم جلس عليه، أو نام: لم تجب الفدية. نص عليه الشافعي في الأم. واتفق عليه الأصحاب، لكن إن كان الثوب رقيقاً كره، وإلا فلا، ولو داس بنعله طيباً لزمته الفدية، وإن خفيت رائحة الطيب في الثوب لطول الزمان، فإن كانت تفوح عند رشه بالماء حرم استعماله، وإن بقي لون الطيب دون ريحه، لم يحرم على أصح الوجهين. ولو صب ماء ورد في ماء كثير، حتى ذهب ريحه ولونه: لم تجب الفدية باستعماله في أصح الوجهين. فلو ذهبت الرائحة، وبقي اللون، أو الطعم فحكمه عندهم حكم من أكل طعاماً فيه زعفران أو طيب. وذلك أن الطيب إن استهلك في الطعام، حتى ذهب لونه، وريحه وطعمه: فلا فدية. ولا خلاف في ذلك عندهم، وإن ظهر لونه وطعمه، وريحه وجبت الفدية، بلا خلاف، وإن بقيت الرائحة فقط: وجبت الفدية لأنه يعد طيباً، وإن بقي اللون وحده، فطريقان مشهوران أصحهما: أن فيه قولين الأصح منهما: أنه لا فدية فيه، وهو نص الشافعي في الأم والإملاء والقديم الثاني: تجب الفدية، وهو نصه في الأوسط والطريق الثاني: أنه لا فدية فيه قطعاً، وإن بقي الطعم وحده ففيه عندهم ثلاث طرق أصحها: وجوب الفدية قطعاً: كالرائحة، والثاني: فيه طريقان بلزومها وعدمه، والثالث: لا فدية، وهذا ضعيف أو غلط. وحكى بعض الشافعية طريقاً رابعاً: وهو أنه لا فدية قطعاً ولو كان المحرم أخشم لا يجد رائحة الطيب، واستعمل الطيب: لزمته الفدية عندهم، بلا خلاف لأنه وجد منه استعمال الطيب مع علمه بتحريم الطيب على المحرم فوجبت الفدية وإن لم ينتفع به كما لو نتف شعر لحيته أو غيرها من شعوره التي لا ينفعه نتفها قال النووي: وممن صرح بهذا المتولي، وصاحب العدة والبيان ا هـ.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لزوم الفدية للأخشم الذي لا يجد ريح الطيب، إذا استعمل الطيب، مبني على قاعدة هي: أن المعلل بالمظان لا يتخلف بتخلف حكمته، لأن مناط الحكم مظنة وجود حكمة العلة، فلو تخلفت في صورة لم يمنع ذلك من لزوم الحكم كمن كان منزله على البحر، وقطع مسافة القصر في لحظة في سفينة، فإنه يباح له قصر الصلاة والفطر في رمضان بسفره، هذا الذي لا مشقة فيه، لأن الحكم الذي هو الرخصة علق بمظنة المشقة في الغالب، وهو سفر أربعة برد مثلاً والمعلل بالظان لا تتخلف أحكامه، بتخلف حكمها في بعض الصوَر كما عقده بعض أهل العلم بقوله: إن علل الحكم بعلة غلب وجودها اكتفى بذا عن الطلب
لـهـا بـكـل صـورة الخ
وإيضاحه: أن الغالب كون الإنسان يجد ريح الطيب، فأنيط الحكم بالأغلب الذي هو وجوده ريح الطيب، فلو تخلفت الحكمة في الأخشم الذي لا يجد ريح الطيب لم يتخلف الحكم لإناطته بالمظنة، وقد أوضحنا هذه المسألة وأكثرنا من أمثلتها في غير هذا الموضع.
وقد تقرر في الأصول: أن وجود الحكم مع تخلف حكمته من أنواع القادح المسمى بالكسر، وقد أشار إلى ذلك صاحب المراقي بقوله في مبحث القوادح: والكسر قادح ومنه ذكرا تخلف الحكمة عنه من درا

وهذا الذي قررنا في مسألة الأخشم مبني على القول، بأن الكسر بتخلف الحكمة عن حكمها، لا يقدح في المعلل بالمظان، كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن الحكمة في اصطلاح أهل الأصول: هي الفائدة التي صار بسببها الوصف علة للحكم، فتحريم الخمر مثلاً حكم والإسكار هو علة هذا الحكم، والمحافظة على العقل من الاختلال: هي الحكمة التي من أجلها صار الإسكار علة لتحريم الخمر، وقد عرف صاحب المراقي الحكمة بقوله: وهي التي من أجلها الوصف جرى علة حكم عند كل من دَرَى

وعلة الرخصة بقصر الصلاة والإفطار في رمضان: هي السفر، والحكمة التي صار السفر علة بسببها: هي تخفيف المشقة على المسافر مثلاً، وهكذا.
واعلم: أن علماء الشافعية قالوا: إنه يشترط في الطيب الذي يحكم بتحريمه: أن يكون معظم الغرض منه التطيب، واتخاذ الطيب منه، أو يظهر فيه هذا الغرض. هذا ضابطه عندهم.
ثم فصلوه فقالوا: الأصل في الطيب: المسك، والعنبر، والكافور، والعود، والصندل، والذريرة، وهذا كله لا خلاف فيه عندهم قالوا: والكافور صنع شجر معروف.
وأما النبات الذي له رائحة فأنواع:
منها: ما يطلب للتطيب، واتخاذ الطيب منه كالورد والياسمين، والخيرى، والزعفران، والورس ونحوها، فكل هذا طيب. وعن الرافعي وجه شاذ في الورد والياسمين والخيرى: أنها ليست طيباً والمذهب الأول.
ومنها: ما يُطلب للأكل والتداوي غالباً، كالقرنفل والدارصيني، والفلفل، والمصطكى، والسنبل وسائر الفواكه كل هذا وشبهه ليس بطيب، فيجوز أكله وشمه وصبغ الثوب به، ولا فدية فيه سواء قليله وكثيره، ولا خلاف عند الشافعية في شيء من هذا إلا القرنفل، ففيه وجهان عندهم. والصحيح المشهور أنه ليس بطيب عندهم.
ومنها: ما ينبت بنفسه، ولا يُراد للطيب كنور أشجار الفواكه كالتفاح، والمشمش، والكمثري، والسفرجل، وكالشيح، والقيصوم، وشقائق النعمان والإذخر، والخزامي، وسائر أزهار البراري، فكل هذا ليس بطيب فيجوز أكله وشمه، وصبغ الثوب به، ولا فدية فيه، بلا خلاف.
ومنها: ما يُتطيب به، ولا يتخذ منه الطيب: كالنرجس، والآس، وسائر الرياحين وفي هذا النوع عند الشافعية طريقان.
أحدهما: أنه طيب قولاً واحداً.
والطريق الثاني: وهو الصحيح المشهور عندهم: أن فيه قولين مشهورين الصحيح منهما، وهو قوله الجديد: أنه طيب موجب للفدية. القول الثاني وهو القديم: أنه ليس بطيب، ولا فدية فيه ا هـ والحناء والعصفر ليسا بطيب عند الشافعية بلا خلاف على التحقيق، خلافاً لمن زعم خلافاً عندهم في الحناء.
واعلم: أن الأدهان عند الشافعية ضربان أحدهما دهن ليس بطيب، ولا فيه طيب، كالزيت، والشيرج، والسمن، والزبد، ودهن الجوز، واللوز ونحوها. فهذا لا يحرم استعماله في جميع البدن، ولا فدية فيه، إلا في الرأس، واللحية، فيحرم عندهم استعماله فيهما بلا خلاف، وفيه: الفدية. لأنه إزالة للشعث، إن كان في الرأس واللحية، فإن كان أصلع لا ينبت الشعر في رأسه فدهن رأسه أو أمرد فدهن ذقنه: فلا فدية عندهم في ذلك، بلا خلاف، وإن كان محلوق الرأس فدهنه بما ذكر، ففيه عندهم وجهان: أصحهما: وجوب الفدية بناء على أن الشَّعر إنْ نبت جَمله ذلك الدهن، الذي جعل عليه، وهو محلوق والوجه الثاني: لا فدية، لأنه لا يزول به شعث. واختاره المزني وغيره ولو كان برأسه شجة فجعل هذا الدهن في داخلها من غير أن يمس شعر رأسه: فلا فدية، بلا خلاف، ولو طلى شعر رأسه ولحيته بلين جاز: ولا فدية، وإن كان اللبن يستخرج منه السمن، لأنه ليس بدهن ولا يحصل به ترجيل الشعر، والشحم، والشمع عندهم، إذا أُذبيا كالدهن يحرم على المحرم ترجيل شعره بهما.
الضرب الثاني: دهن هو طيب ومنه: دهن الورد، والمذهب عندهم: وجوب الفدية فيه، وقيل فيه وجهان. ومنه: دهن البنفسج، فعلى القول بأن نفس البنفسج: لا فدية فيه، فدهنه أولى، وعلى أن فيه الفدية، فدهنه كدهن الورد، والأدهان كثيرة، وخلاف العلماء فيها من الخلاف في تحقيق المناط كدهن البان والزنبق، وهو دهن الياسمين والكاذي وهو دهن، ونبت طيب الرائحة والخيري، وهو معرب، وهو نبت طيب الرائحة ويقال للنحاسي: خيري البر، ومذهب الشافعي: أن الأدهان المذكورة، ونحوها طِيب، تجب باستعماله الفِدْية.
واعلم: أن محل وجوب الفدية عند الشافعية في الطيب: إذا كان استعمله عامداً، فإن كان ناسياً أو ألقته الريح عليه، لزمته المبادرة بإزالته بما يقطع ريحه، وكون الأولى أن يستعين في غسله بحلال وتقديمه غسله على الوضوء، إن لم يكف الماء، إلا أحدهما عند الشافعية موافق لما قدمنا عن الحنابلة، بخلاف غسل النجاسة، فهو مقدم عندهم على غسل الطيب ولو لصق بالمحرم طيب يوجِب الفدية، لزمه المبادرة إلى إزالته فإن أخره عصى ولا تتكرر به الفدية والاكتحال عندهم بما فيه طيب حرام، فإن احتاج إليه اكتحل به ولزمته الفدية.
وأما الاكتحال بما لا طيب فيه، فإن كان فيه زينة كره عندهم: كالإثمد، وإن كان بما لا زينة فيه: كالتوتيا الأبيض فلا كراهة.
وقال النووي بعد أن ذكر الإجماع على تحريم الطيب للمحرم: ومذهبنا أنه لا فرق بين أن يتبخر، أو يجعله في ثوبه، أو بدنه، وسواء كان الثوب مما ينغض الطيب، أم لم يكن.
قال العبدري: وبه قال أكثر العلماء.
وقال أبو حنيفة: يجوز للمحرم أن يتبخر بالعود، والند، ولا يجوز أن يجعل شيئاً من الطيب في بدنه، ويجوز أن يجعله على ظاهر ثوبه، فإن جعله في باطنه، وكان الثوب لا بنقض، فلا شيء عليه، وإن كان بنقص لزمته الفدية ا هـ منه.
والظّاهر المنع مطلقاً لصريح الحديث الصحيح في النهي عن ثوب مسه ورس أو زعفران، وكل هذه الصور يصدق فيها: أنه مسه ورس أو زعفران، وغيرهما من أنواع الطيب وحكمه كحكمهما، كما أوضحنا الأحاديث الدالة عليه في أول الكلام في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه. وكذلك المتبخر بالعود متطيب عُرفاً، والأحاديث دالة على اجتناب المحرم للطيب كما تقدم، والعلمُ عند الله تعالى.
وقال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن مذهبنا: أن الزيت، والشيرج، والسمن، والزبد ونحوها من الأدهان غير المطيبة، لا يحرم على المحرم استعمالها في بدنه ويحرم عليه في شعر رأسه ولحيته.
وقال الحسن بن صالح: يجوز استعمال ذلك في بدنه وشعر رأسه ولحيته.
وقال مالك: لا يجوز أن يدْهن بها أعضاءه الظاهرة كالوجه، واليدين، والرجلين، ويجوز دهن الباطنة: وهي ما يوارى باللباس.
وقال أبو حنيفة: كقولنا في السمن والزبد، وخالفنا في الزيت والشيرج فقال: يحرم استعمالها في الرأس والبدن.
وقال أحمد: إن ادهن بزيت أو شيرج: فلا فدية في أصح الروايتين، سواء دهن يديه أو رأسه.
وقال داود: يجوز دهن رأسه، ولحيته، وبدنه بدهن غير مطيب.
وحجة من قال بهذا حديث جاء بذلك: فقد قال البيهقي في السنن الكبرى: أخبرنا أبو ظاهر الفقيه، وأبو سعيد بن أبي عمرو قراءة عليهما، وأبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني إملاء قالوا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، أنبأ أبو سلمة الخزاعي، أنبأ حماد بن سلمة، عن فرقد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم» يعني غير مطيب، لم يذكر ابن يوسف تفسيره. قال الإمام أحمد: ورواه الأسود بن عامر شاذان، عن حماد بن سلمة، عن فرقد، عن سعيد، عن ابن عمر فذكره من غير تفسير ا هـ منه: ثم ذكر بإسناده عن أبي ذر رضي الله عنه: أنه مر عليه قوم محرمون، وقد تشققت أرجلهم فقال: ادهنوها. وفرقد المذكور في سند هذا الحديث، هو فرقد بن يعقوب السبخي بفتح السين المهملة والباء الموحدة وبخاء معجمة: أبو يعقوب البصري، وهو معروف بالزهد والعبادة. ولكنه ضعّفه غير واحد. وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق عابد، لكنه لين الحديث كثير الخطأ. وقال النووي في شرح المهذب: واحتج أصحابنا بحديث فرقد السبخي الزاهد رحمه الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم» رواه الترمذي والبيهقي، وهو ضعيف. وفرقد غير قوي عند المحدثين. قال الترمذي: هو ضعيف غريب، لا يعرف إلا من حديث فرقد، وقد تكلم فيه يحيى بن سعيد. وقوله: غير مقتت: أي غير مطيب انتهى محل الغرض منه.
وفي القاموس: وزيت مقتت طبخ بالرياحين أو خلط بأدهان طيبة، واحتجاج الشافعية بهذا الحديث الذي ذكرنا على جواز دهن جميع البدن غير الرأس واللحية بالزيت والسمن ونحوهما فيه أمران:
الأول: أن الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج، لضعف فرقد المذكور.
والثاني: أنه على تقدير صحة الاحتجاج به فظاهره عدم الفرق بين الرأس واللحية وبين سائر البدن، لأن الأدهان فيه مطلق غير مقيد بما سوى الرأس واللحية ا هـ.
وحجة من منع الأدهان بغير الطيب، لأنه يزيل الشعث الحديث الذي فيه «انظروا إلى عبادي جاؤوا شعثاً غبراً» وهو مشهور، وفيه دليل على أنه لا ينبغي إزالة الشعث، ولا التنظيف. والله أعلم.
وقال النووي في شرح المهذب: قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والسمن. قال: وأجمع عوام أهل العلم، على أنه له دهن بدنه بالزيت والشحم والشيرج والسمن، قال: وأجمعوا على أنه ممنوع من حيث استعمال الطيب في جميع بدنه.
وقال النووي أيضاً: الحناء ليس بطيب عندنا كما سبق: ولا فدية، وبه قال مالك، وأحمد، وداود. وقد قدمنا أن الخِضاب بالحناء: يوجب الفدية عند المالكية، ثم قال النووي: وقال أبو حنيفة: هو طيب يوجب الفدية، وإذا لبس ثوباً معصفراً: فلا فدية، والعصفر: ليس بطيب هذا مذهبنا، وبه قال أحمد وداود، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وجابر، وعبد الله بن جعفر، وعقيل بن أبي طالب وعائشة وأسماء وعطاء، قال: وكرهه عمر بن الخطاب، وممن تبعه الثوري ومالك، ومحمد بن الحسن، وأبو ثور، وقال أبو حنيفة: إن نفض على البدن: وجبت الفدية، وإلا وجبت صدقة. انتهى محل الغرض منه.
وقال النووي أيضاً: ذكرنا أن مذهبنا في تحريم الرياحين قولان: الأصح تحريمها، ووجوب الفدية، وبه قال ابن عمر، وجابر، والثوري، ومالك، وأبو ثور، وأبو حنيفة، إلا أن مالكاً، وأبا حنيفة يقولان: يحرم ولا فدية.
قال ابن المنذر: واختلف في الفدية، عن عطاء وأحمد، وممن جوزه وقال: هو حلال لا فدية فيه: عثمان، وابن عباس، والحسن البصري، ومجاهد وإسحاق، قال العبدري: وهو قول أكثر الفقهاء.
وقال النووي أيضاً: قد ذكرنا أن مذهبنا: جواز جلوس المحرم، عند العطار: ولا فدية فيه. وبه قال ابن المنذر، قال: وأوجب عطاء فيه الفدية، وكره ذلك مالك. انتهى منه.
واعلم: أن المحرم عند الشافعية، إذا فعل شيئاً من محظورات الإحرام ناسياً أو جاهلاً، فإن كان إتلافاً كقتل الصيد والحلق والقلم، فالمذهب وجوب الفدية، وفيه حلاف ضعيف. وإن كان استمتاعاً محضاً: كالتطيب، واللباس، ودهن الرأس واللحية، والقبلة، وسائر مقدمات الجماع: فلا فدية، وإن جامع ناسياً أو جاهلاً: فلا فدية في الأصح أيضاً.
قال النووي: وبهذا قال عطاء، والثوري وإسحاق وداود. وقال مالك، وأبو حنيفة، والمزني وأحمد في أصح الروايتين عنه: عليه الفدية، وقاسوه على قتل الصيد.
وقد قدمنا حكم المجامع ناسياً وأقوال الأئمة فيه. هذا هو حاصل كلام العلماء من الصحابة ومن بعدهم، ومنهم الأئمة الأربعة في مسألة الطيب. وقد علمت من النقول التي ذكرنا عن الأئمة وغيرهم، من فقهاء الأمصار، ما اتفقوا عليه، وما اختلفوا فيه.
واعلم: أنهم مجمعون على منع الطيب للمحرم في الجملة، إلا أنهم اختلفوا في أشياء كثيرة، اختلافاً من نوع الاختلاف في تحقيق المناط. فيقول بعضهم مثلاً: الريحان والياسمين، كلاهما طيب فمناط تحريمهما، على المحرم موجود، وهو كونهما طيباً، فيخالفه الآخر، ويقول: مناط التحريم، ليس موجوداً فيهما، لأنهما لا يُتخذ منهما الطيب، فليسا بطيب وهكذا.
واعلم: أنهم متفقون على لزوم الفدية في استعمال الطيب، ولا دليل من كتاب ولا سنة، على أن من استعمل الطيب، وهو محرم يلزمه فدية، ولكنهم قاسوا الطيب على حلق الرأس المنصوص على الفدية فيه، إن وقع لعذر في آية {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}.
وأظهر أقوال أهل العلم: أن الفدية اللازمة كفدية الأذى وهي على التخيير المذكور في الآية، لأنها هي حكم الأصل المقيس عليه، والمقرر في الأصول أنه لا بد من اتفاق الفرع المقيس، والأصل المقيس عليه في الحكم وذلك هو مذهب أبي حنيفة، إن كان التطيب، أو اللبس لعذر، لأن الآية نزلت في العذر؟ وقد قدمنا أنه هو الصحيح من مذهب الشافعي مطلقاً كان لعذر أو غيره، وهو أيضاً مذهب مالك وأحمد.
فتحصيل: أن مذاهب الأئمة الأربعة متفقون على أن فدية الطيب، وتغطية الرأس، واللبس، وتقليم الأظافر، كفدية حلق الرأس المنصوصة في آية الفدية؟ وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى، وقدمنا الأقوال المخالفة لهذا المذهب الصحيح المشهور عند الأربعة. وقد بينا أنه مقتضى الأصول، لوجوب اتفاق الأصل والفرع في الحكم، واعلم عند الله تعالى. تنبيهان
الأول: في ذكر أشياء مما ذكر وردت فيها نصوص، وتفصيل ذلك: فمن ذلك العصفر وقد رأيت في النقول التي ذكرنا كثرة من قال من أهل العلم: بأنه ليس بطيب، وأنه لا بأس بلبس المحرم له، وقد قدمنا فيه حديث أبي داود المصرح بأنه لا بأس بلبس النساء له، وهن محرمات، وفيه ابن إسحاق، وقد صرح فيه بالسماع، فعلم أنه لم يدلس فيه إلى آخر ما قدمنا فيه، والظاهر بحسب الدليل: أن المعصفر لا يجوز لبسه، وإن جوزه كثير من أجلاَّء العلماء من الصحابة ومن بعدهم، لأن السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أحق بالاتباع.
وقد قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن يحيى، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث: أن ابن معدان أخبره: أن عبد الله بن عمرو بن العاص، أخبره قال «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبِسْها» ا هـ.
وابن معدان المذكور: هو خالد كما ثبت في صحيح مسلم بعد الحديث المذكور مباشرة، وفي لفظ مسلم بإسناد، غير الأول، عن عبد الله بن عمرو قال «رأى النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: أأمك أَأُمَرْتك بهذا؟ قلتُ: أغسِلُهُمَا قال: بلْ أحرِقْهُما».
وقال مسلم في صحيحه أيضاً: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن لبس القِّسيِّ، والمعصفر، وعن تختم الذهب وعن قراءة القرآن في الركوع» وفي لفظ لمسلم، عن علي رضي الله عنه «نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن القراءة، وأنا راكع، وعن لبس الذهب، والمعصفر» وفي لفظ لمسلم عنه أيضاً رضي الله عنه «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب، وعن لباس القسى، وعن القراءة في الركوع والسجود، وعن لباس المعصفر» ا هـ منه.
فهذا الحديث الثابت في صحيح مسلم، وغيره عن صحابيين جليلين، وهما علي، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، صريح في منع لبس المعصفر مطلقاً، لأن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو «إنهما من ثياب الكفار فلا تلبسهما» صريح في منع لبسهما، لأن النهي يقتضي التحريم كما تقرر في الأصول، ويؤيد ذلك هنا أنه رتب النهي عنهما على أنهما من ثياب الكفار، وهذا دليل واضح على منع لبس المعصفر مطلقاً في الإحرام وغيره. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو «بل أحرقهما» فهو دليل واضح على منع لبسهما لأنُ لبس الجائز لبسه، لا يستوجب الإحراق بحال، فهو نص في منع المعصفر مطلقاً، وقول علي رضي الله عنه «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القسِّيِّ والمعصفر، وعن تختم الذهب» الحديث دليل أيضاً على منع لبس المعصفر مطلقاً. لأن النهي يقتضي التحريم، إلا لدليل صارف عنه، وليس موجوداً، ويؤيده أنه قرنه بالتختم بالذهب، وهو ممنوع، وما زعمه بعض أهل العلم: من أن رواية علي المذكورة آنفاً في مسلم «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم» تدل على اختصاص هذا الحكم، بعلي لأنه قال: نهاني بياء المتكلم في الرواية المذكورة، مردود من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم بين في حديث ابن عمرو عموم هذا الحكم، حيث قال لعبد الله «إن هذا من ثياب الكفار فلا تلبسهما» وهذا صريح في عدم اختصاص هذا الحكم، بعلي رضي الله عنه.
الوجه الثاني: أنه ثبت في صحيح مسلم، عن علي رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن لبس القسي، والمعصفر وعن تختم الذهب» بحذف مفعول نهى، وحذف المفعول في ذلك، يدل على عموم الحكم، على التحقيق كما حرره القرافي في شرح التنقيح من أن مثل نهى صلى الله عليه وسلم عن كذا صيغة عموم بما لا يدع مجالاً للشك؟ وممن انتصر لذلك: ابن الحاجب وغيره، واختاره الفهري.
والحاصل: أن التحقيق في مثل نهى صلى الله عليه وسلم، عن بيع الغرر وقضى بالشفعة، وقضى بالشاهد واليمين ونحو ذلك: أنه يعم كل غرر وكل شفعة، وكل شاهد، ويمين، وإن خالف في ذلك كثير من الأصوليين، كما حررنا أدلة الفريقين، وناقشناها في غير هذا الموضع.
الوجه الثّالث: أن رواية نهاني التي احتج بها مدعي اختصاص هذا الحكم بعلي: تدل أيضاً على عموم الحكم، لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من أمته يعم حكمه جميع الأمة لاستوائهم في أحكام التكليف، إلا بدليل خاصّ يجب الرجوع إليه، وخلاف أهل الأصول في خطاب الواحد، هل هو من صيغ العموم الدالة على عموم الحكم، خلاف في حال لا خلاف حقيقي، فخطاب الواحد عند الحنابلة صيغة عموم، وعند غيرهم من الشّافعية، والمالكية وغيرهم: أن خطاب الواحد لا يعم، لأن اللفظ للواحد لا يشمل بالوضع غيره، وإذا كان لا يشمله وضعاً، فلا يكون صيغة عموم، ولكن أهل هذا القول موافقون: على أن حكم خطاب الواحد عام لغيره لكن بدليل آخر غير خطاب الواحد، وذلك الدليل بالنص والقياس. أما القياس فظاهر، لأن قياس غير ذلك المخاطب عليه بجامع استواء المخاطبين في أحكام التكليف من القياس الجلي والنص، كقوله صلى الله عليه وسلم في مبايعة النساء «إني لا أصافح النساء، وما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة».
قالوا: ومن أدلة ذلك حديث «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة».
قال ابن قاسم العبادي في الآيات البينات: اعلم أن حديث «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» لا يعرف له أصل بهذا اللفظ، ولكن روى الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، قوله صلى الله عليه وسلم في مبايعة النساء «إني لا أصافحُ النساء» وساق الحديث كما ذكرناه.
وقال صاحب كشف الخفاء ومزيل الألباس، عما اشتهر من الأحاديث، على ألسنة الناس: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة، وفي لفظ: كحكمي على الجماعة، ليس له أصل بهذا اللفظ، كما قال العراقي: في تخريج أحاديث البيضاوي. وقال في الدرر كالزّركشي لا يعرف، وسئل عنه المزّي، والذهبي فأنكراه. نعم يشهد له ما رواه الترمذي، والنسائي من حديث أميمة بنت رقيقة، فلفظ النسائي «ما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة» ولفظ الترمذي «إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين بإخراجها، لثبوتها على شرطهما.
وقال ابن قاسم العبادي في شرح الورقات الكبير: حكمي على الجماعة، لا يعرف له أصل، إلى آخره قريباً مما ذكرنا عنه ا هـ.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الحديث المذكور ثابت من حديث أميمة بنت رقيقة بقافين مصغراً: وهي صحابية من المبايعات، ورقيقة أمها: وهي أخت خديجة بنت خويلد. وقيل عمتها واسم أبيها بجاد بموحدة، ثم جيم ابن عبد الله بن عمير التيمي تيم بن مرة، وأشار إلى ذلك في المراقي بقوله:
خطاب واحد لغير الحنبلي من غير رعي النص والقيس الجلي
وبهذا كله تعلم أن التحقيق منع لبس المعصفر، وظاهر النصوص الإطلاق: أي سواء كان في الإحرام، أو غيره كما رأيت، وجمع بعض العلماء بين الأحاديث التي ذكرناها في صحيح مسلم، الدالة على منع لبس المعصفر مطلقاً، وبين حديث أبي داود المتقدم الدال على إباحته للنساء في الإحرام، بأن الأحاديث المنع إنما هي بالنسبة للرجال، وحديث الجواز بالنسبة إلى النساء، فيكون ممنوعاً للرجال جائزاً للنساء، وتتفق الأحاديث.
وممن اعتمد هذا الجمع الترمذي في سننه حيث قال: باب ما جاء في كراهة المعصفر للرجال: حدثنا قتيبة، ثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القسِّيِّ والمعصفر» وفي الباب عن أنس، وعبد الله بن عمرو، وحديث علي: حديث حسن صحيح انتهى منه. فتراه في ترجمة الحديث جعله خاصّاً بالرجال، وهو عين الجمع الذي ذكرنا، وأشار النووي في شرح مسلم: إلى أن الجمع المذكور يشير إليه الحديث الصحيح عند مسلم، وذلك في قوله: أعني النووي قوله صلى الله عليه وسلم «أَأُمك أمرتك بهذا» معناه: أن هذا من لباس النساء، وزيهن، وأخلاقهن. انتهى محل الغرض منه.
وتفسيره للحديث: يدل على أن الحديث فيه تحريم المعصفر على الرجال دون النساء.
ويدل لهذا الجمع ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا مسدد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا هشام بن الغاز، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: هبطنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية فالتفت إلي وعلي ريطة مضرجة بالعصفر فقال «ما هذه الريطة عليك» فعرفت ما كره فأتيت أهلي، وهم يسجرون تنوراً لهم فقذفتها فيه، ثم أتيته من الغد فقال «يا عبد الله ما فعلت الريطة؟ فأخبرته فقال: ألا كسوتها بعض أهلك فإنه لا بأس به للنساء» ا هـ من سنن أبي داود، وهو صريح في الجمع المذكور، وهذا الإسناد لا يقل عن درجة الحسن، وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه: حدثنا أبو بكر، ثنا عيسى بن يونس، عن هشام بن الغاز إلى آخر الإسناد، ثم قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية أذاخر، فالتفت إلي وعلي ريطة إلى آخر الحديث. كلفظ أبي داود ا هـ.
وجمع الخطابي بين الأحاديث: بأن النهي فيما صبغ من الثياب بعد النسج، وأن الإباحة منصرفة إلى ما صبغ غزله، ثم نسج نقل هذا الجمع النووي في شرح مسلم عن الخطابي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذا الجمع فيه نظر، لأنه تحكم، والظاهر أن العصفر ليس بطيب، فأُبيح للنساء ومنع للرجال، كالحرير وخاتم الذهب. والله تعالى أعلم.
فاتضح أن الظاهر بحسب الدليل أن المعصفر: لا يحل لبسه للرجال، ويحل للنساء، لأن ظاهر أحاديث النهي عنه العموم، وكونه من ثياب الكفار قرينة على التعميم، إلا أن أحاديث النهي تخصص بالأحاديث المتقدمة المصرحة، بجوازه للنساء كحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عند أبي داود وابن ماجه، وحديث الترمذي وما فسر به النووي حديث مسلم وحديث أبي داود المتقدم الذي فيه ابن إسحاق، وكونه من ثياب الكفار: لا ينافي أن ذلك بالنسبة للرجال. دون النساء، كما قال في الذهب والفضة والديباج والحرير «إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» مع إباحتها للنساء.
والذين أباحوا لبس المعصفر للرجال والنساء معاً، احتجوا بما ذكره النووي في شرح مسلم قال: ثبت أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء.
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال «رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة» ا هـ منه فانظره.
والذين منعوه للرجال دون النساء استدلوا بالأحاديث المذكورة المصرحة بإباحته للنساء، وعضدوا الأحاديث المذكورة بآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، فمن ذلك ما رواه مالك في الموطأ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: أنها كانت تلبس الثياب المعصفرات المشبعات، وهي محرمة ليس فيها زعفران. انتهى محل الغرض منه.
وقال شارحه الزرقاني: وكذلك جاء عن أختها. روى سعيد بن منصور، عن القاسم بن محمد قال: كانت عائشة رضي الله عنها، تلبس الثياب المعصفرة، وهي محرمة. إسناده صحيح انتهى منه.
وروى البيهقي بإسناده، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر نحو رواية مالك في الموطإ عنها ثم قال: هكذا رواه مالك، وخالفه أبو أسامة، وحاتم بن إسماعيل، وابن نمير فرووه عن هشام، عن فاطمة، عن أسماء قاله مسلم بن الحجاج. انتهى من السنن الكبرى.
وقال البيهقي: وروينا عن نافع أن نساء ابن عمر كن يلبسن المعصفر، وهن محرمات، ثم ذكر عن أبي داود في المراسيل: أن مكحولاً قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب مشبع بعصفر، فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج، فأحرم في هذا قال «لك غيره؟ قالت: لا. قال: فأحرمي فيه» ثم ساق سنده به إلى أبي داود، وذكر بسنده عن جابر أنه قال «لا تلبس المرأة ثياب الطيب وتلبس الثياب المعصفرة لا أرى المعصفر طيباً»
وروى البيهقي بسنده عن عائشة رضي الله عنها، «أنها كانت تلبس الثياب الموردة بالعصفر الخفيف: وهي محرمة»، وقد قدمنا حديث ابن عباس، عند الطبراني في الكبير قال: كان أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم يختضبن بالحناء، وهن محرمات، ويلبسن المعصفر، وهن محرمات، وفي إسناده يعقوب بن عطاء. قال في مجمع الزوائد: وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة.
وقال أبو داود في سننه: حدثنا زهير بن حرب، ثنا يحيى بن أبي بكير، ثنا إبراهيم بن طهمان، حدثني بديل عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة، عن أم سلمة زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال «المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب» ا هـ منه، وهذا الإسناد صحيح كما ترى.
وقال صاحب الجوهر النقي في حاشيته على سنن البيهقي، لما أشار إلى حديث أبي داود هذا، وفيه دليل على أن العصفر طيب، ولذلك نهيت عن المعصفر، إذ لو كان النهي لكونه زينة نهيت عن ثوب العصب، لأنه في الزينة فوق المعصفر، والعصب برود اليمن يعصب غزلها: أي تطوى، ثم تصنع مصبوغاً، ثم تنسج.
وفي الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم استثنى من المنع ثوب العصب، والشافعية خالفت هذا الحديث.
قال النووي: الأصح عندنا تحريم العصب مطلقاً، والحديث حجة لمن أجازه. وقال أيضاً: الأصح أنه يجوز لها لبس الحرير. انتهى منه.
وفي صحيح مسلم من حديث أم عطية، في المتوفى عنها زوجها «ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب، ولا تكتحل ولا تمس طيباً» الحديث.
وفي صحيح البخاري: من حديث أم عطية قالت: «كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج». الحديث، وفيه «ولا تكتحل ولا تطيب ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب» الحديث.
والممشقة في حديث أم سلمة المذكور هي المصبوغة بالمشق بالكسر والفتح وهو المغرة والعصفر بالضم نبات يصبغ به ويزره هو القرطم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أن منع المتوفى عنها زوجها، من لبس المعصفر المذكور، ليس لكونه طيباً كما ظنه صاحب الجوهر النقي، بدليل الأحاديث الدالة على المنع منه في غير الإحرام، مع جواز الطيب لغير المحرم، والأظهر أن المنع منه للزينة: وهي محرمة على المتوفى عنها زوجها، دون غيرها من النساء. والعلم عند الله تعالى.
ولا يتعين كون العصب فوقه في الزينة لأن المتوفى عنها زوجها ممنوعة في العدة، من الطيب، والتزين، فإباحة العصب لها تدل على ضعف مرتبته في الزينة. والله تعالى أعلم.
ومن ذلك الحناء قد قدمنا اختلاف العلماء فيها، هل هي طيب أو لا؟ وقد قدمنا آثاراً تدل: على أنها ليست بطيب، وقدمنا حديث ابن عباس، عند الطبراني أن أزواج النَّبي كن يختضبن بالحناء، وهن محرمات، وقد قدمنا أن في إسناده يعقوب بن عطاء، وقد روى البيهقي بإسناده في السنن الكبرى عن عائشة رضي الله عنها أنها قيل لها: ما تقولين في الحناء والخضاب؟ قالت: كان خليلي لا يحب ريحه، ثم قال البيهقي: فيه كالدلالة على أن الحناء ليس بطيب «فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الطيب ولا يحب ريح الحناء» ا هـ منه.
وهذا حاصل مستند من قال: إن الحناء ليس بطيب وقال صاحب الجوهر النقي: بعد أن ذكر كلام البيهقي الذي ذكرنا، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم خلاف هذا. قال أبو عمر في التمهيد: ذكر ابن بكير عن ابن لهيعة، عن بكير بن الأشج، عن خولة بنت حكيم، عن أمها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة «لا تطيبي، وأنت محرمة ولا تمسي الحناء فإنه طيب» وأخرجه البيهقي في كتاب المعرفة، من هذا الوجه وقد عد أبو حنيفة الدينوري وغيره: من أهل اللغة: الحناء من أنواع الطيب. وقال الهروي في الغريبين: وفي الحديث «سيد رياحين الجنة الفاغية» قال الأصمعي: هو نور الحناء. وفي الحديث أيضاً، عن أنس: «كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفاغية» انتهى منه. وقال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس. وقال النجم، وعند الطبراني والبيهقي، وأبي نعيم في الطب عن بريدة «سيد الإدام في الدنيا والآخرة اللحم، وسيد الشراب في الدنيا والآخرة الماء، وسيد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية» انتهى محل الحاجة منه، وقال ابن الأثير في النهاية فيه «سيد رياحين الجنة الفاغية هي نور الحناء» وقيل نور الريحان. وقيل: نور كل نبت من أنوار الصحراء، التي لا تزرع. وقيل فاغية كل نبت نوره، ومنه: حديث أنس «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الفاغية» ا هـ.
وفي القاموس: والفاغية نور الحناء أو يغرس غصن الحناء مقلوباً فيثمر زهراً أطيب من الحناء، فذلك الفاغية ا هـ محل الغرض منه. ولا يخفى أن الحناء لم يثبت فيه شيء مرفوع وأكثر أنواع الطيب لم تثبت في خصوصها نصوص، ومنها: ما ثبت بالنص كالزعفران، والورس، كما تقدم إيضاح، وكالذريرة، والمسك كما سيأتي إن شاء الله، وقد قدمنا أن الذي اختلف فيه أهل العلم من الأنواع: هل هو طيب، أو ليس بطيب؟ أن ذلك من نوع الاختلاف في تحقيق المناط، والعلم عند الله تعالى.
الفرع السادس عشر: اعلم أن العلماء اختلفوا في التطيب عند إرادة الإحرام قبله بحيث يبقى أثر الطيب، وريحه أو عينه بعد التلبس بالإحرام، هل يجوز ذلك لأنه وقت الطيب غير محرم، والدوام على الطيب، ليس كابتدائه كالنكاح عند من يمنعه في حال الإحرام، مع إباحة الدوام على نكاح مقعود، قبل الإحرام أو لا يجوز ذلك، لأن وجود ريح الطيب، أو عينه، أو أثره في المحرم بعد إحرامه كابتدائه للتطيب، ولأنه متلبس حال الإحرام بالطيب، مع أن الطيب منهي عنه في الإحرام، فقال جماهير من أهل العلم: إن الطيب عند إرادة الإحرام مستحب. قال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن مذهبنا استحبابه، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف والمحدثين والفقهاء منهم سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن الزبير، ومعاوية، وعائشة، وأم حبيبة، وأبو حنيفة، والثوري، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وداود وغيرهم ا هـ.
وقال النووي في شرح مسلم: وبه قال خلائق من الصحابة والتابعين وجماهير الفقهاء والمحدثين منهم: سعد بن أبي وقاص، وابن عباس إلى آخره، كما في شرح المهذب.
وقال ابن قدامة في المغني في شرحه لقول الخرقي: ويتطيب.
وجملة ذلك أنه يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنه خاصة، ولا فرق بين ما يبقى عينه كالمسك والغالية، أو أثره كالعود والبخور وماء الورد هذا قول ابن عباس، وابن الزبير، وسعد بن أبي وقاص وعائشة، وأم حبيبة، ومعاوية، وروي عن محمد ابن الحنفية، وأبي سعيد الخدري، وعروة، والقاسم، والشعبي وابن جريج. ا هـ محل الغرض منه.
وقال جماعة آخرون من أهل العلم: لا يجوز التطيب عند إرادة الإحرام، فإن فعل ذلك لزمه غسله حتى يذهب أثره وريحه، وهذا هو مذهب مالك.
وقال النووي في شرح مسلم: وقال آخرون بمعنه منهم: الزهري، ومالك، ومحمد بن الحسن، وحكي أيضاً عن جماعة من الصحابة والتابعين ا هـ.
وقال في شرح المهذب: وقال عطاء والزهري ومالك ومحمد بن الحسن: يكره.
قال القاضي عياض: وحكي أيضاً عن جماعة من الصحابة والتابعين ا هـ.
وقال ابن قدامة في المغني: وكان عطاء يكره ذلك، وهو قول مالك، وروي ذلك عن عمر وعثمان، وابن عمر رضي الله عنهم ا هـ.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة: فهذه أدلتهم ومناقشتها وما يظهر رجحانه بالدليل منها.
أما الذين منعوا ذلك: فقد احتجوا بحديث يعلى بن أمية التميمي رضي الله عنه، وهو متفق عليه. قال البخاري في صحيحه، قال أبو عاصم: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عطاء: أن صفوان بن يعلى أخبره: أن يعلى قال لعمر رضي الله عنه: أرني النَّبي صلى الله عليه وسلم حين يوحى إليه؟ فبينما النَّبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، ومعه نفر من أصحابه، جاء رجل فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلمٰ: كيف ترى في رجلٍ أحرم بعمرة، وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النَّبي صلى الله عليه وسلم ساعة، فجاءه الوحي فأَشار عمر رضي الله عنه إلى يعلى، فجاء يعلى، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب، وقد أظل به، فأدخل رأسه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمر الوجه، وهو يغط، ثم سري عنه فقال «أين الذي سأل عن العمرة فأوتي برجل فقال: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك» قلت لعطاء: أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مراتٍ؟ قال: نعم. ا هـ من صحيح البخاري قالوا: فهذا الحديث الصحيح صرح فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم بغسل الطيب الذي تضمخ به قبل الإحرام، وأمر بإنقائه كما قاله عطاء، ولا شك أن هذا الحديث يقتضي أن الطيب في بدنه إذ لو كان في الجبة، دون البدن لكفى نزع الجبة كما ترى، خلافاً لما توهمه ترجمة الحديث الذي ترجمه بها البخاري: وهي قوله: باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب. وقول البخاري في أول هذا الإسناد: قال أبو عاصم: قد قدمنا الكلام على مثله مستوفى وبينا أنه صحيح سواء قلنا: إنه موصول كما هو الصحيح، أو معلق، لأنه أورده بصيغة الجزم.
وقال البخاري أيضاً في صحيحه: في أبواب العمرة: حدثنا أبو نعيم، حدثنا همام، حدثنا عطاء قال: حدثني صفوان بن يعلى بن أمية: يعني عن أبيه: أن رجلاً أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهو بالجِعْرَانة، وعليه جبة، وعليه أثر الخلوق، أو قال صفرة، فقال: كيف تأمرني أن أصنعَ في عمرتي؟ فأنزل الله على النَّبي صلى الله عليه وسلم فستر بثوب وودت أني رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد أُنزل عليه الوحي فقال عمر: تعال أيسرك أن تنظر إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنزل الله الوحي؟ قلت: نعم، فرفع طرف الثوب، فنظرت إليه له غطيط: وأحسبه قال: كغطيط البكر، فلما سري عنه قال «أين السائل عن العمرة: اخلعْ عنك الجبة، واغسل أثر الخلوق عنك، وأنق الصفرة واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك» ا هـ منه. وقوله في هذا الحديث: «اخلع عنك الجبة واغسل أثر الخلوق وأنق الصفرة» صريح في أن غسل ذلك وإنقاءه من بدنه لأن ما في الجبة من الخلوق، والصفرة يزول بخلعها كما ترى.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا همام، حدثنا عطاء بن أبي رباح، عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه رضي الله عنه قال «جاء رجلٌ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة عليه جبة، وعليها خلوق أو قال: أثر صفرة. فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ قال: وأُنزل على النَّبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فستر بثوب وكان يعلى يقول: وددت أن أرى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد نزل عليه الوحي قال فقال: أيسرك أن تنظر إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد أُنزل عليه الوحي؟ قال: فرفع عمر طرف الثوب، فنظرت إليه له غطيط قال: وأحسبه قال: كغطيط البكر. قال: فلما سري عنه قال: أين السائل عن العمرة: اغسل عنك أثر الصفرة أو قال أثر الخلوق واخلع عنك جبتك واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك».
وفي لفظ في صحيح مسلم عن يعلى قال: أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ، وهو بالجعرانة، وأنا عند النَّبي صلى الله عليه وسلم، وعليه مقطعات، يعني جبة، وهو متضمخ بالخلوق فقال: إني أحرمت بالعمرة، وعلي هذا، وأنا متضمخ بخلوق، فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم «ما كنت صانعاً في حجك؟ قال: أنزع عني هذه الثياب، وأغسل عني هذا الخلوق فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم: ما كنت صانعاً في حجك فاصنعه في عمرتك» وفي لفظ في صحيح مسلم، عن يعلى فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم «أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مراتٍ، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك» وفي لفظ في صحيح مسلم عن يعلى رضي الله عنه «أن رجلاً أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو الجعرانة قد أهل بالعمرة، وهو مصفر لحيته ورأسه، وعليه جبة، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أحرمت بعمرة، وأنا كما ترى فقال: «انزعْ عنك الجبة، واغسل عنك الصفرة، وما كنت صانعاً في حجك، فاصنعه في عمرتك» وفي لفظ في صحيح مسلم عن يعلى أيضاً قال «انزع عنك جبتك واغسل أثر الخلوق الذي بك. وافعل في عمرتك ما كنت فاعلاً في حجك» انتهى من صحيح مسلم.
قالوا: فهذه الروايات الصحيحة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: فيها التصريح، بأن من تضمخ بالطيب قبل إحرامه لا يجوز له الدوام على ذلك، بل يجب غسله ثلاثاً، وإنقاؤه، ولا شك أن بعض الروايات الصحيحة التي أوردنا صريحة في ذلك. وهذا هو حجة مالك ومن ذكرنا معه من أهل العلم في وجوب إزالة المحرم الطيب، الذي تلبس به قبل إحرامه.
وروى مالك في الموطأ، عن حميد بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح «إن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بحُنين، وعلى الأعرابي قميص، وبه أثر صفرةٍ فقال: يا رسول الله إني أهللتُ بعمرة فكيف تأمرني أن أصنع؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انزع قميصك، واغسلْ هذه الصفرة عنك وافعل في عمرتك ما تفعل في حجتك» ا هـ.
والذين قالوا بهذا قالوا: يعتضد حديث يعلى المتفق عليه ببعض الآثار الواردة، عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، كما أشرنا إليه غير بعيد، وقد روى مالك في الموطأ، عن نافع، عن أسلم مولى عمر بن الخطاب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجد ريحَ طيبٍ، وهو بالشجرة، فقال: ممن ريح هذا الطيب، فقال معاوية بن أبي سفيان: مني يا أمير المؤمنين، فقال منك لعمر الله فقال معاوية: أن أم حبيبة طيبتني يا أمير المؤمنين، فقال عمر: عزمت عليك لترجعن فلتغسلنه.
وروى مالك في الموطأ عن الصلت بن زيد عن غير واحد من أهله: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجد ريح طيبٍ وهو بالشجرة، وإلى جنبه كثير بن الصّلت، فقال عمر: ممن ريح هذا الطيب؟ فقال كثير: مني يا أمير المؤمنين، لبدت رأسي، وأردت ألا أحلق فقال عمر: فاذهب إلى شربة فادلك رأسك، حتى تنقيه، ففعل كثير بن الصلت. قال مالك: الشربة حفير تكون عند أصل النخلة. انتهى من الموطأ.
قالوا: ففعل هذا الخليفة الراشد في زمن خلافته مطابق لما تضمنه حديث يعلى بن أمية المتفق عليه، فتبين بذلك أنه غير منسوخ، وذكر الزرقاني في شرح الموطأ: أن عمر أنكر أيضاً ذلك على البراء بن عازب، وقال: إنه رواه ابن أبي شيبة عن بشير بن يسار، كما أنكر على معاوية وكثير المذكورين، قال: فهذا عمر قد أنكر على صحابيين، وتابعي كثير الطيب بمحضر الجمع الكثير من الناس صحابة وغيرهم، وما أنكر عليه منهم أحد، فهو من أقوى الأدلة على تأويل حديث عائشة، ثم ذكر عن وكيع، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه: أن عثمان رأى رجلاً قد تطيب عند الإحرام، فأمره أن يغسل رأسه بطين ا هـ.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر: أن محمد بن المنتشر سأله عن الرجل يتطيب، ثم يصبح محرماً، فقال: «ما أحب أن أصبح محرماً أنضخ طيباً، لأن أطلى بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك». هذا لفظ مسلم في صحيحه. وفيه بعده رد عائشة على ابن عمر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فحديث يعلى المتفق عليه، والآثار التي ذكرنا عن بعض الصحابة، ومنها ما لم نذكره هو حجة مالك، ومن ذكرنا معه في منع التطيب قبل الإحرام، ووجوب غسله، وإنقائه إن فعل ذلك، ولا فدية فيه عندهم مطلقاً، وذكر بعضهم: أن المشهور عن مالك: الكراهة لا التحريم.
واحتج الجمهور القائلون باستحباب التطيب عند الإحرام بما رواه الشيخان وغيرهما، عن عائشة رضي الله عنها وبعض الآثار الدالة على ذلك، عن بعض الصحابة رضي الله عنهم. قال البخاري في صحيحه: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن عبد الرحمٰن بن القاسم، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه، حين يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت. وفي صحيح البخاري: قبل هذا الحديث متصلاً به من طريق الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم. وقد ذكرنا هذا الحديث في الكلام على التحلل الأول.
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الرحمٰن بن القاسم: أنه سمع أباه وكان أفضل أهل زمانه يقول: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين، حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف، وبسطت يديها ا هـ منه.
وقال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن عباد أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمِهِ، حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت. وفي لفظ لمسلم عنها من طريق القاسم بن محمد قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، لحرمه حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف بالبيت. وفي لفظ عند مسلم عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه، قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت. وفي لفظ عنها عند مسلم قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة في حجة الوداع، للحل والإحرام.
وفي النهاية الذريرة: نوع من الطيب مجموع من أخلاط. وقال السيوطي في تلخيصه للنهاية: وقيل هي فتات قصب، وقال النووي في شرح مسلم: هي فتات قصب طيب، يجاء به من الهند، وقد قدمنا في سورة الأنعام أن الذريرة قصب يجاء به من الهند كقصب النشاب أحمر يتداوى به. وفي لفظ عند مسلم أيضاً، عن عروة قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه؟ قالت: بأطيب الطيب، وفي لفظ: بأطيب ما أقدر عليه، قبل أن يحرم، ثم يحرم. وفي لفظ: بأطيب ما وجدت. وفي لفظ عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم، وفي لفظ عنها قالت: لكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يهل. وفي لفظ: وهو يلبي. والألفاظ المماثلة لهذا متعددة في صحيح مسلم عنها رضي الله عنها، وفي لفظ عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أرادَ أن يحرمَ، يتطيب بأطيب ما يجد، ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته. وفي لفظ عنها قالت:
كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم، ويوم النحر، قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك. وفي صحيح مسلم: أن عائشة لما بلغها قول ابن عمر المتقدم: لأن أطلى بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك، قالت: أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه، ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرماً ا هـ. كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم. قالوا فهذا الحديث الذي اتفق عليه الشيخان، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، دليل صحيح صريح في مشروعية الطيب قبل الإحرام، وإن كان أثره باقياً بعد الإحرام، بل ولو بقي عينه وريحه، لأن رؤيتها وبيص الطيب في مفارقه صلى الله عليه وسلم، وهو محرم صريح في ذلك، قالوا: وقد وردت آثار عن بعض الصحابة بذلك، تدل على عدم خصوصية ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب نصب الراية: وقيل إن ذلك من خواصه صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر، فقد رئي ابن عباس محرماً، وعلى رأسه مثل الرب من الغالية. وقال مسلم بن صبح: رأيت ابن الزبير، وهو محرم، وفي رأسه ولحيته من الطيب ما لو كان لرجل أعد منه رأس مال. انتهى منه.
فهذا الحديث، وهذه الآثار: حجة من قال: بالتطيب قبل الإحرام، ولو كان الطيب يبقى بعد الإحرام.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم وحججهم في هذه المسألة فهذه مناقشة أقوالهم: اعلم أن المالكية، ومن وافقهم أجابوا عن حديث عائشة المذكور، بأجوبة:
منها: أنهم حملوه على أنه تطيب، ثم اغتسل بعده، فذهب الطيب قبل الإحرام قالوا: ويؤيد هذا قولها في الرواية الأخرى «طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه ثم طاف على نسائه، ثم أصبح محرماً» فظاهره أنه إنما تطيب لمباشرة نسائه ثم زال بالغسل بعده، لا سيما وقد نقل أنه كان يتطهر من كل واحدة قبل الأخرى، ولا يبقى مع ذلك طيب، ويكون قولها: ثم أصبح ينضح طيباً: أي قبل غسله، وقد سبق في رواية لمسلم: أن ذلك الطيب كان ذريرة وهي مما يذهبه الغسل، قالوا: وقولها: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم المراد به: أثره لا جرمه قاله القاضي عياض. وقال ابن العربي: ليس في شيء من طرق حديث عائشة: أن عين الطيب بقيت.
ومنها: أن ذلك التطيب خاص به صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن الدوام على الطيب بعد الإحرام كابتداء الطيب في الإحرام، بجامع الاستمتاع بريح الطيب في حال الإحرام، في كل منهما قالوا: ومما يؤيد أن ذلك التطيب خاص به صلى الله عليه وسلم: أنه لو كان مشروعاً لعامة الناس لما أنكره عمر، وعثمان، وابن عمر مع علمهم بالمناسك وجلالتهم في الصحابة. ولم ينكر عليهم أحد إلا ما أنكرت عائشة على ابن عمر ولما أنكره الزهري، وعطاء مع علمهما بالمناسك.
ومنها: أن حديث عائشة المذكور يقتضي إباحة الطيب، لمن أراد الإحرام، وحديث يعلى بن أمية: يقتضي منع ذلك، والمقرر في الأصول: أن الدال على المنع مقدم على الدال على الإباحة، لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام.
ومنها: أن حديث يعلى من قول النَّبي صلى الله عليه وسلم بلفظه الصريح في الأمر بإزالة الطيب، وإنقائه من البدن، وظاهره العموم لما قدمنا أن خطاب الواحد يعم حكمه الجميع لاستواء الجميع في التكليف، والعموم القولي لا يعارضه فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم، لأنه مخصص له كما تقرر في الأصول، كما أوضحناه سابقاً، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود: في حقه القول بفعل خصا إن يك فيه القول ليس نصا

ومن ذلك الحناء قد قدمنا اختلاف العلماء فيها، هل هي طيب أو لا؟ وقد قدمنا آثاراً تدل: على أنها ليست بطيب، وقدمنا حديث ابن عباس، عند الطبراني أن أزواج النَّبي كن يختضبن بالحناء، وهن محرمات، وقد قدمنا أن في إسناده يعقوب بن عطاء، وقد روى البيهقي بإسناده في السنن الكبرى عن عائشة رضي الله عنها أنها قيل لها: ما تقولين في الحناء والخضاب؟ قالت: كان خليلي لا يحب ريحه، ثم قال البيهقي: فيه كالدلالة على أن الحناء ليس بطيب «فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الطيب ولا يحب ريح الحناء» ا هـ منه.
وهذا حاصل مستند من قال: إن الحناء ليس بطيب وقال صاحب الجوهر النقي: بعد أن ذكر كلام البيهقي الذي ذكرنا، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم خلاف هذا. قال أبو عمر في التمهيد: ذكر ابن بكير عن ابن لهيعة، عن بكير بن الأشج، عن خولة بنت حكيم، عن أمها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة «لا تطيبي، وأنت محرمة ولا تمسي الحناء فإنه طيب» وأخرجه البيهقي في كتاب المعرفة، من هذا الوجه وقد عد أبو حنيفة الدينوري وغيره: من أهل اللغة: الحناء من أنواع الطيب. وقال الهروي في الغريبين: وفي الحديث «سيد رياحين الجنة الفاغية» قال الأصمعي: هو نور الحناء. وفي الحديث أيضاً، عن أنس: «كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفاغية» انتهى منه. وقال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس. وقال النجم، وعند الطبراني والبيهقي، وأبي نعيم في الطب عن بريدة «سيد الإدام في الدنيا والآخرة اللحم، وسيد الشراب في الدنيا والآخرة الماء، وسيد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية» انتهى محل الحاجة منه، وقال ابن الأثير في النهاية فيه «سيد رياحين الجنة الفاغية هي نور الحناء» وقيل نور الريحان. وقيل: نور كل نبت من أنوار الصحراء، التي لا تزرع. وقيل فاغية كل نبت نوره، ومنه: حديث أنس «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الفاغية» ا هـ.
وفي القاموس: والفاغية نور الحناء أو يغرس غصن الحناء مقلوباً فيثمر زهراً أطيب من الحناء، فذلك الفاغية ا هـ محل الغرض منه. ولا يخفى أن الحناء لم يثبت فيه شيء مرفوع وأكثر أنواع الطيب لم تثبت في خصوصها نصوص، ومنها: ما ثبت بالنص كالزعفران، والورس، كما تقدم إيضاح، وكالذريرة، والمسك كما سيأتي إن شاء الله، وقد قدمنا أن الذي اختلف فيه أهل العلم من الأنواع: هل هو طيب، أو ليس بطيب؟ أن ذلك من نوع الاختلاف في تحقيق المناط، والعلم عند الله تعالى.
الفرع السادس عشر: اعلم أن العلماء اختلفوا في التطيب عند إرادة الإحرام قبله بحيث يبقى أثر الطيب، وريحه أو عينه بعد التلبس بالإحرام، هل يجوز ذلك لأنه وقت الطيب غير محرم، والدوام على الطيب، ليس كابتدائه كالنكاح عند من يمنعه في حال الإحرام، مع إباحة الدوام على نكاح مقعود، قبل الإحرام أو لا يجوز ذلك، لأن وجود ريح الطيب، أو عينه، أو أثره في المحرم بعد إحرامه كابتدائه للتطيب، ولأنه متلبس حال الإحرام بالطيب، مع أن الطيب منهي عنه في الإحرام، فقال جماهير من أهل العلم: إن الطيب عند إرادة الإحرام مستحب. قال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن مذهبنا استحبابه، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف والمحدثين والفقهاء منهم سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن الزبير، ومعاوية، وعائشة، وأم حبيبة، وأبو حنيفة، والثوري، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وداود وغيرهم ا هـ.
وقال النووي في شرح مسلم: وبه قال خلائق من الصحابة والتابعين وجماهير الفقهاء والمحدثين منهم: سعد بن أبي وقاص، وابن عباس إلى آخره، كما في شرح المهذب.
وقال ابن قدامة في المغني في شرحه لقول الخرقي: ويتطيب.
وجملة ذلك أنه يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنه خاصة، ولا فرق بين ما يبقى عينه كالمسك والغالية، أو أثره كالعود والبخور وماء الورد هذا قول ابن عباس، وابن الزبير، وسعد بن أبي وقاص وعائشة، وأم حبيبة، ومعاوية، وروي عن محمد ابن الحنفية، وأبي سعيد الخدري، وعروة، والقاسم، والشعبي وابن جريج. ا هـ محل الغرض منه.
وقال جماعة آخرون من أهل العلم: لا يجوز التطيب عند إرادة الإحرام، فإن فعل ذلك لزمه غسله حتى يذهب أثره وريحه، وهذا هو مذهب مالك.
وقال النووي في شرح مسلم: وقال آخرون بمعنه منهم: الزهري، ومالك، ومحمد بن الحسن، وحكي أيضاً عن جماعة من الصحابة والتابعين ا هـ.
وقال في شرح المهذب: وقال عطاء والزهري ومالك ومحمد بن الحسن: يكره.
قال القاضي عياض: وحكي أيضاً عن جماعة من الصحابة والتابعين ا هـ.
وقال ابن قدامة في المغني: وكان عطاء يكره ذلك، وهو قول مالك، وروي ذلك عن عمر وعثمان، وابن عمر رضي الله عنهم ا هـ.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة: فهذه أدلتهم ومناقشتها وما يظهر رجحانه بالدليل منها.
أما الذين منعوا ذلك: فقد احتجوا بحديث يعلى بن أمية التميمي رضي الله عنه، وهو متفق عليه. قال البخاري في صحيحه، قال أبو عاصم: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عطاء: أن صفوان بن يعلى أخبره: أن يعلى قال لعمر رضي الله عنه: أرني النَّبي صلى الله عليه وسلم حين يوحى إليه؟ فبينما النَّبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، ومعه نفر من أصحابه، جاء رجل فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلمٰ: كيف ترى في رجلٍ أحرم بعمرة، وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النَّبي صلى الله عليه وسلم ساعة، فجاءه الوحي فأَشار عمر رضي الله عنه إلى يعلى، فجاء يعلى، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب، وقد أظل به، فأدخل رأسه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمر الوجه، وهو يغط، ثم سري عنه فقال أين الذي سأل عن العمرة فأوتي برجل فقال: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك» قلت لعطاء: أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مراتٍ؟ قال: نعم. ا هـ من صحيح البخاري قالوا: فهذا الحديث الصحيح صرح فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم بغسل الطيب الذي تضمخ به قبل الإحرام، وأمر بإنقائه كما قاله عطاء، ولا شك أن هذا الحديث يقتضي أن الطيب في بدنه إذ لو كان في الجبة، دون البدن لكفى نزع الجبة كما ترى، خلافاً لما توهمه ترجمة الحديث الذي ترجمه بها البخاري: وهي قوله: باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب. وقول البخاري في أول هذا الإسناد: قال أبو عاصم: قد قدمنا الكلام على مثله مستوفى وبينا أنه صحيح سواء قلنا: إنه موصول كما هو الصحيح، أو معلق، لأنه أورده بصيغة الجزم.
وقال البخاري أيضاً في صحيحه: في أبواب العمرة: حدثنا أبو نعيم، حدثنا همام، حدثنا عطاء قال: حدثني صفوان بن يعلى بن أمية: يعني عن أبيه: أن رجلاً أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهو بالجِعْرَانة، وعليه جبة، وعليه أثر الخلوق، أو قال صفرة، فقال: كيف تأمرني أن أصنعَ في عمرتي؟ فأنزل الله على النَّبي صلى الله عليه وسلم فستر بثوب وودت أني رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد أُنزل عليه الوحي فقال عمر: تعال أيسرك أن تنظر إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنزل الله الوحي؟ قلت: نعم، فرفع طرف الثوب، فنظرت إليه له غطيط: وأحسبه قال: كغطيط البكر، فلما سري عنه قال «أين السائل عن العمرة: اخلعْ عنك الجبة، واغسل أثر الخلوق عنك، وأنق الصفرة واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك» ا هـ منه. وقوله في هذا الحديث: «اخلع عنك الجبة واغسل أثر الخلوق وأنق الصفرة» صريح في أن غسل ذلك وإنقاءه من بدنه لأن ما في الجبة من الخلوق، والصفرة يزول بخلعها كما ترى.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا همام، حدثنا عطاء بن أبي رباح، عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه رضي الله عنه قال «جاء رجلٌ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة عليه جبة، وعليها خلوق أو قال: أثر صفرة. فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟
قال: وأُنزل على النَّبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فستر بثوب وكان يعلى يقول: وددت أن أرى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد نزل عليه الوحي قال فقال: أيسرك أن تنظر إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد أُنزل عليه الوحي؟ قال: فرفع عمر طرف الثوب، فنظرت إليه له غطيط قال: وأحسبه قال: كغطيط البكر. قال: فلما سري عنه قال: أين السائل عن العمرة: اغسل عنك أثر الصفرة أو قال أثر الخلوق واخلع عنك جبتك واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك».
وفي لفظ في صحيح مسلم عن يعلى قال: أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ، وهو بالجعرانة، وأنا عند النَّبي صلى الله عليه وسلم، وعليه مقطعات، يعني جبة، وهو متضمخ بالخلوق فقال: إني أحرمت بالعمرة، وعلي هذا، وأنا متضمخ بخلوق، فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم «ما كنت صانعاً في حجك؟ قال: أنزع عني هذه الثياب، وأغسل عني هذا الخلوق فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم: ما كنت صانعاً في حجك فاصنعه في عمرتك» وفي لفظ في صحيح مسلم، عن يعلى فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم «أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مراتٍ، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك» وفي لفظ في صحيح مسلم عن يعلى رضي الله عنه «أن رجلاً أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو الجعرانة قد أهل بالعمرة، وهو مصفر لحيته ورأسه، وعليه جبة، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أحرمت بعمرة، وأنا كما ترى فقال: «انزعْ عنك الجبة، واغسل عنك الصفرة، وما كنت صانعاً في حجك، فاصنعه في عمرتك» وفي لفظ في صحيح مسلم عن يعلى أيضاً قال «انزع عنك جبتك واغسل أثر الخلوق الذي بك. وافعل في عمرتك ما كنت فاعلاً في حجك» انتهى من صحيح مسلم.
قالوا: فهذه الروايات الصحيحة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: فيها التصريح، بأن من تضمخ بالطيب قبل إحرامه لا يجوز له الدوام على ذلك، بل يجب غسله ثلاثاً، وإنقاؤه، ولا شك أن بعض الروايات الصحيحة التي أوردنا صريحة في ذلك. وهذا هو حجة مالك ومن ذكرنا معه من أهل العلم في وجوب إزالة المحرم الطيب، الذي تلبس به قبل إحرامه.
وروى مالك في الموطأ، عن حميد بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح «إن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بحُنين، وعلى الأعرابي قميص، وبه أثر صفرةٍ فقال: يا رسول الله إني أهللتُ بعمرة فكيف تأمرني أن أصنع؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انزع قميصك، واغسلْ هذه الصفرة عنك وافعل في عمرتك ما تفعل في حجتك» ا هـ.
والذين قالوا بهذا قالوا: يعتضد حديث يعلى المتفق عليه ببعض الآثار الواردة، عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، كما أشرنا إليه غير بعيد، وقد روى مالك في الموطأ، عن نافع، عن أسلم مولى عمر بن الخطاب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجد ريحَ طيبٍ، وهو بالشجرة، فقال: ممن ريح هذا الطيب، فقال معاوية بن أبي سفيان: مني يا أمير المؤمنين، فقال منك لعمر الله فقال معاوية: أن أم حبيبة طيبتني يا أمير المؤمنين، فقال عمر: عزمت عليك لترجعن فلتغسلنه.
وروى مالك في الموطأ عن الصلت بن زيد عن غير واحد من أهله: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجد ريح طيبٍ وهو بالشجرة، وإلى جنبه كثير بن الصّلت، فقال عمر: ممن ريح هذا الطيب؟ فقال كثير: مني يا أمير المؤمنين، لبدت رأسي، وأردت ألا أحلق فقال عمر: فاذهب إلى شربة فادلك رأسك، حتى تنقيه، ففعل كثير بن الصلت. قال مالك: الشربة حفير تكون عند أصل النخلة. انتهى من الموطأ.
قالوا: ففعل هذا الخليفة الراشد في زمن خلافته مطابق لما تضمنه حديث يعلى بن أمية المتفق عليه، فتبين بذلك أنه غير منسوخ، وذكر الزرقاني في شرح الموطأ: أن عمر أنكر أيضاً ذلك على البراء بن عازب، وقال: إنه رواه ابن أبي شيبة عن بشير بن يسار، كما أنكر على معاوية وكثير المذكورين، قال: فهذا عمر قد أنكر على صحابيين، وتابعي كثير الطيب بمحضر الجمع الكثير من الناس صحابة وغيرهم، وما أنكر عليه منهم أحد، فهو من أقوى الأدلة على تأويل حديث عائشة، ثم ذكر عن وكيع، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه: أن عثمان رأى رجلاً قد تطيب عند الإحرام، فأمره أن يغسل رأسه بطين ا هـ.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر: أن محمد بن المنتشر سأله عن الرجل يتطيب، ثم يصبح محرماً، فقال: «ما أحب أن أصبح محرماً أنضخ طيباً، لأن أطلى بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك». هذا لفظ مسلم في صحيحه. وفيه بعده رد عائشة على ابن عمر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فحديث يعلى المتفق عليه، والآثار التي ذكرنا عن بعض الصحابة، ومنها ما لم نذكره هو حجة مالك، ومن ذكرنا معه في منع التطيب قبل الإحرام، ووجوب غسله، وإنقائه إن فعل ذلك، ولا فدية فيه عندهم مطلقاً، وذكر بعضهم: أن المشهور عن مالك: الكراهة لا التحريم.
واحتج الجمهور القائلون باستحباب التطيب عند الإحرام بما رواه الشيخان وغيرهما، عن عائشة رضي الله عنها وبعض الآثار الدالة على ذلك، عن بعض الصحابة رضي الله عنهم. قال البخاري في صحيحه: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن عبد الرحمٰن بن القاسم، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه، حين يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت. وفي صحيح البخاري: قبل هذا الحديث متصلاً به من طريق الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وهو محرم. وقد ذكرنا هذا الحديث في الكلام على التحلل الأول.
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الرحمٰن بن القاسم: أنه سمع أباه وكان أفضل أهل زمانه يقول: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين، حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف، وبسطت يديها ا هـ منه.
وقال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن عباد أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمِهِ، حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت. وفي لفظ لمسلم عنها من طريق القاسم بن محمد قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، لحرمه حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف بالبيت. وفي لفظ عند مسلم عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه، قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت. وفي لفظ عنها عند مسلم قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة في حجة الوداع، للحل والإحرام.
وفي النهاية الذريرة: نوع من الطيب مجموع من أخلاط. وقال السيوطي في تلخيصه للنهاية: وقيل هي فتات قصب، وقال النووي في شرح مسلم: هي فتات قصب طيب، يجاء به من الهند، وقد قدمنا في سورة الأنعام أن الذريرة قصب يجاء به من الهند كقصب النشاب أحمر يتداوى به. وفي لفظ عند مسلم أيضاً، عن عروة قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه؟ قالت: بأطيب الطيب، وفي لفظ: بأطيب ما أقدر عليه، قبل أن يحرم، ثم يحرم. وفي لفظ: بأطيب ما وجدت. وفي لفظ عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم، وفي لفظ عنها قالت: لكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يهل. وفي لفظ: وهو يلبي. والألفاظ المماثلة لهذا متعددة في صحيح مسلم عنها رضي الله عنها، وفي لفظ عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أرادَ أن يحرمَ، يتطيب بأطيب ما يجد، ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته. وفي لفظ عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم، ويوم النحر، قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك. وفي صحيح مسلم: أن عائشة لما بلغها قول ابن عمر المتقدم: لأن أطلى بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك، قالت: أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه، ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرماً ا هـ. كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم. قالوا فهذا الحديث الذي اتفق عليه الشيخان، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، دليل صحيح صريح في مشروعية الطيب قبل الإحرام، وإن كان أثره باقياً بعد الإحرام، بل ولو بقي عينه وريحه، لأن رؤيتها وبيص الطيب في مفارقه صلى الله عليه وسلم، وهو محرم صريح في ذلك، قالوا: وقد وردت آثار عن بعض الصحابة بذلك، تدل على عدم خصوصية ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب نصب الراية: وقيل إن ذلك من خواصه صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر، فقد رئي ابن عباس محرماً، وعلى رأسه مثل الرب من الغالية. وقال مسلم بن صبح: رأيت ابن الزبير، وهو محرم، وفي رأسه ولحيته من الطيب ما لو كان لرجل أعد منه رأس مال. انتهى منه.
فهذا الحديث، وهذه الآثار: حجة من قال: بالتطيب قبل الإحرام، ولو كان الطيب يبقى بعد الإحرام.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم وحججهم في هذه المسألة فهذه مناقشة أقوالهم: اعلم أن المالكية، ومن وافقهم أجابوا عن حديث عائشة المذكور، بأجوبة:
منها: أنهم حملوه على أنه تطيب، ثم اغتسل بعده، فذهب الطيب قبل الإحرام قالوا: ويؤيد هذا قولها في الرواية الأخرى «طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه ثم طاف على نسائه، ثم أصبح محرماً» فظاهره أنه إنما تطيب لمباشرة نسائه ثم زال بالغسل بعده، لا سيما وقد نقل أنه كان يتطهر من كل واحدة قبل الأخرى، ولا يبقى مع ذلك طيب، ويكون قولها: ثم أصبح ينضح طيباً: أي قبل غسله، وقد سبق في رواية لمسلم: أن ذلك الطيب كان ذريرة وهي مما يذهبه الغسل، قالوا: وقولها: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم المراد به: أثره لا جرمه قاله القاضي عياض. وقال ابن العربي: ليس في شيء من طرق حديث عائشة: أن عين الطيب بقيت.
ومنها: أن ذلك التطيب خاص به صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن الدوام على الطيب بعد الإحرام كابتداء الطيب في الإحرام، بجامع الاستمتاع بريح الطيب في حال الإحرام، في كل منهما قالوا: ومما يؤيد أن ذلك التطيب خاص به صلى الله عليه وسلم: أنه لو كان مشروعاً لعامة الناس لما أنكره عمر، وعثمان، وابن عمر مع علمهم بالمناسك وجلالتهم في الصحابة. ولم ينكر عليهم أحد إلا ما أنكرت عائشة على ابن عمر ولما أنكره الزهري، وعطاء مع علمهما بالمناسك.
ومنها: أن حديث عائشة المذكور يقتضي إباحة الطيب، لمن أراد الإحرام، وحديث يعلى بن أمية: يقتضي منع ذلك، والمقرر في الأصول: أن الدال على المنع مقدم على الدال على الإباحة، لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام.
ومنها: أن حديث يعلى من قول النَّبي صلى الله عليه وسلم بلفظه الصريح في الأمر بإزالة الطيب، وإنقائه من البدن، وظاهره العموم لما قدمنا أن خطاب الواحد يعم حكمه الجميع لاستواء الجميع في التكليف، والعموم القولي لا يعارضه فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم، لأنه مخصص له كما تقرر في الأصول، كما أوضحناه سابقاً، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود: في حقه القول بفعل خصا إن يك فيه القول ليس نصا

فهدذا هو حاصل ما أجاب به القائلون: بمنع التطيب، عند إرادة الإحرام أو كراهته. وأجاب المخالفون بمنع ذلك كله قالوا: دعوى أن التطيب للنساء لا الإحرام، يرده صريح الحديث في قولها: طيبته لإحرامه، وادعاء أن اللام للتوقيت، خلاف الظاهر قالوا وادعاء أن الطيب زال بالمغسل قبل الإحرام ترده الروايات الصريحة، عن عائشة: أنها كأنها تنظر إلى وبيص الطيب، في مفرقه صلى الله عليه وسلم وهو محرم، لأن الوبيص في اللغة: البريق، واللمعان، وهو وصف وجودي، والوصف الوجودي: لا يوصف به المعدوم، وإنما يوصف به الموجود. فدل على أن الطيب الموصوف بالوبيص موجود بعينه، وهو يرد قول ابن العربي أنه لم يرد في شيء من طرق حديث عائشة أن عين الطيب بقيت.
ويؤيده ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا الحسين بن الجنيد الدامغاني: ثنا أبو أسامة، قال: أخبرني عمر بن سويد الثقفي، قال: حدثتني عائشة بنت طلحة: أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حدثتها قالت: «كنا نخرج مع النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة. فنضمد جباهنا بالشك المطيب، عند الإحرام، فإذا عرفت إحدانا سأل على وجهها، فيراه النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينهانا» ا هـ منك والسك بضم السين، وتشديد الكاف: نوع من الطيب، يضاف إلى غيره من الطيب، ويستعمل.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار في حديث أبي داود هذا: سكت عنه أبو داود، والمنذري، وإسناده رواته ثقات إلا الحسين بن الجنيد شيخ أبي داود وقد قال النسائي، لا بأس به، وقال ابن حبان في الثقات: مستقيم الأمر فيما يروى ا هـ. وقال فيه ابن حجر في التقريب: لا بأس به، وقال فيه: في تهذيب التهذيب: قال النسائي: لا بأس به. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال من أهل سمغان: مستقيم الأمر فيما يروي.
قلت: وقال أحمد بن حمدان العابدي، ثنا الحسين بن الجنيد، وكان رجلاً صالحاً وقال: مسلمة بن القاسم ثقة ا هـ منه.
وبما ذكرنا: تعلم أن حديث عائشة المذكور عند أبي داود أقل درجاته أنه حسن، وقال فيه النووي في شرح المهذب: هذا حديث حسن، رواه أبو داود بإسناد حسن ا هـ منه، وهو حجة في جواز بقاء عين الطيب في المحرم بعد الإحرام، إن كان استعماله للطيب، قبل الإحرام.
قال في القاموس: والسك بالضم طيب، يتخذ من الرامك مدقوقاً منخولاً معجوناً بالماء، ويعرك شديداً، ويمسح بدهن الخيري لئلا يلصق بالإناء، ويترك ليلة ثم يسحق المسك ويلقمه ويعرك شديداً، ويقرص، ويترك يومين، ثم يثقب بمسلة وينظم في خيط قتب، ويترك سنة، وكلما عتق طابت رائحته ا هـ منه. وقال أيضاً: والرامك كصاحب: شيء أسود يخلط بالمسك، ويفتح انتهى منه. ولا يخفى أن أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم، إنما كن يضمدن به جباههن في حال كونه معجوناً، قبل أن يقرص ويجف.
وقال ابن منظور في اللسان: والسك ضرب من الطيب يركب من مسك ورامك، وقال في اللسان أيضاً ابن سيده: والرامك والرامك، والكسر أعلى، شيء أسود كالقار يخلط بالمسك فيجعل سكاً قال: إن لك الفضل على صحبتي والمسك قد يستصحب الرامكا

وأجابوا عن كون التطيب المذكور خاصاً به صلى الله عليه وسلم: بأن حديث عائشة هذا نص في عدم خصوص ذلك به صلى الله عليه وسلم، وعضدوه بالآثار المروية، عن بعض الصحابة كما تقدم، عن ابن عباس، وابن الزبير قالوا: وإنكار عمر وعثمان لا يعارض به الصحيح المرفوع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم لأن سنته أولى بالاتباع، من قول كل صحابي، مع أنهم خالفهم بعض الصحابة.
وقد ثبت في صحيح مسلم: أن عائشة أنكرت ذلك على ابن عمر رضي الله عنهما. وأجابوا عن كون حديث يعلى، كالعموم القولي، فلا يعارضه فعله صلى الله عليه وسلم، بل يخصص به بما ذكرناه آنفاً من الأدلة، على أن ذلك الفعل الذي هو التطيب قبل الإحرام، ليس خاصاً به كما دل عليه حديث عائشة المذكور آنفاً. وقولها في الصحيح: «طيبته بيدي هاتين». صريح في أنها شاركته في ملابسة ذلك الطيب كما ترى.
وأجابوا عن كون حديث يعلى: دالاً على المنع، وحديث عائشة: دالاً على الجواز. والدال على المنع مقدم على الدال على الجواز، بأن محل ذلك فيما إذا جهل المتقدم منهما. أما إذا علم المتقدم، فإنه يجب الأخذ بالمتأخر لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث، فالأحدث وقصة يعلى، وقعت بالجعرانة عام ثمان بلا خلاف، وحديث عائشة في حجة الوداع، عام عشر ومن المقرر في الأصول أن النصين، إذا تعارضا وعلم المتأخر منهما فهو ناسخ للأول كما هو معلوم في محله. وأجابوا عن كون الدوام على الطيب كابتدائه بأنه منتقض بالنكاح، فإن ابتداء عقده في حال الإحرم ممنوع عند الجمهور كما تقدم إيضاحه خلافاً لأبي حنيفة، مع الإجماع على جواز الدوام على نكاح، وقع عقده قبل الإحرام، ثم أحرم بعد عقده الزوجان، وهو دليل على أنه ما كل دوام كالابتداء.
وقد تقرر في الأصول أن المانع بالنسبة إلى الابتداء والدوام ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: هو المانع للدوام والابتداء معاً كالرضاع، فإن الرضاع مانع من ابتداء عقد النكاح كما أنه أيضاً مانع من الدوام عليه فلو تزوج رضيعة، غير محرم منه في حال العقد، ثم أرضعتها أمه بعد العقد فإن هذا الرضاع الطارىء على عقد النكاح مانع من الدوام عليه، لوجوب فسخ ذلك النكاح بذلك الرضاع الطارىء عليه، وكالحدث فإنه مانع من ابتداء الصلاة، مانع من الدوام عليها إذا طرأ في أثنائها.
والثاني: هو المانع للدوام فقط دون الابتداء، كالطلاق فإنه مانع من الدوام على العقد الأول، والاستمتاع بالزوجة بموجبه، وليس مانعاً من ابتداء عقد جديد والاستمتاع بها بموجبه.
والثالث: هو المانع من الابتداء فقط، دون الدوام، كالنكاح بالنسبة إلى الإحرام، فإن الإحرام مانع من ابتداء العقد، وليس مانعاً من الدوام على عقد كان قبله، وكالاستبراء، فإنه مانع من النكاح في حال الاستبراء، وليس مانعاً من الدوام على النكاح، لأن الزوج إذا وطئت امرأته بشبهة، فلزمها الاستبراء بذلك فإن ذلك لا يمنع من الدوام، على عقد زواجها الأول، قالوا: ومن هذا الطيب فإن الإحرام مانع من ابتدائه، وليس مانعاً من الدوام عليه، كالنظائر المذكورة وإلى تعريف المانع وأقسامه، أشار في المراقي بقوله:
ما من وجوده يجيء العدم ولا لزوم في انعدام يعلم
بمانع يمنع للدوام والابتدا أو آخر الأقسام
أو أول فقط على نزاع كالطول الاستبراء والرضاع

هذا هو حاصل أقوال العلماء ومناقشتها. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر قولي أهل العلم عندي في هذه المسألة: أن الطيب جائز عند إرادة الإحرام، ولو بقيت ريحه بعد الإحرام، لحديث عائشة المتفق عليه، ولإجماع أهل العلم على أنه آخر الأمرين، والأخذ بآخر الأمرين أولى كما هو معلوم.
وقد علمت الأدلة على أنه ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم فحديث عائشة في حجة الوداع عام عشر، وحديث يعلى عام الفتح، وهو عام ثمان فحديث عائشة بعد حديث يعلى بسنتين، هذا ما ظهر، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
أظهر قولي أهل العلم عندي: إنه إن طيب ثوبه قبل الإحرام فله الدوام على لبسه كتطييب بدنه، وأنه إن نزع عنه ذلك الثوب المطيب بعد إحرامه، فليس له يعيد لبسه، فإن لبسه صار كالذي ابتدأ الطيب في الإحرام، فتلزمه الفدية، وكذلك إن نقل الطيب الذي تلبس به قبل الإحرام، من موضع من بدنه إلى موضع آخر بعد الإحرام، فهو ابتداء تطيب في ذلك الموضع، الذي نقله إليه، وكذلك إن تعمد مسه بيده أو نحاه من موضعه، ثم رده إليه، لأن كل تلك الصور فيها ابتداء تلبس جديد بعد الإحرام بالطيب، وهو لا يجوز. أما إن كان قد عرق فسال الطيب من موضعه إلى موضع آخر فلا شيء عليه في ذلك، لأنه ليس من فعله.
ولحديث عائشة: عند أبي داود الذي ذكرناه قريباً. وقال بعض علماء المالكية: ولا فرق في ذلك، بين أن يكون الطيب في بدنه، أو ثوبه، إلا أنه إذا نزع ثوبه لا يعود إلى لبسه، فإن عاد فهل عليه في العود فدية، يحتمل أن نقول: لا فدية، لأن ما فيه قد ثبت له حكم العفو كما لو لم ينزعه. وقال أصحاب الشافعي: تجب عليه الفدية، لأنه لبس جديد وقع بثوب مطيب. انتهى من الحطاب والعلم عند الله تعالى.
الفرع السابع عشر: في أحكام أشياء متفرقة: كالنظر في المرآة للمحرم، وغسل الرأس، والبدن وما يلزم من قتل بغسله رأسه قملاً، والحجامة، وحك الجسد، والرأس وتقريد البعير، وتضميد العين بالصبر ونحوه، والسواك. أما النظر في المرآة: فالظاهر أنه لا بأس به للمحرم، ولم يرد شيء يدل على النهي عنه فيما أعلم.
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب الطيب عند الإحرام، وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجل، ويدهن. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يشم المحرم الريحان، وينظر في المرآة، ويتداوى بما يأكل الزيت والسمن، وقال عطاء: يتختم ويلبس الهميان، وطاف ابن عمر رضي الله عنهما، وهو محرم، وقد حزم على بطنه بثوب، ولم تر عائشة رضي الله عنها بالتبان بأساً للذين يرحلون هودجها انتهى منه.
ومحل الشاهد عنه قول ابن عباس: وينظر في المرآة وهذه المسائل التي ذكرها البخاري، قد قدمنا كلها وأوضحنا مذاهب العلماء فيها، إلا النظر في المرآة الذي هو غرضنا منها الآن. وكون عائشة لم تر بأساً بالتبان، للذين يرحلون هودجها، والتبان كرمان، سراويل صغير يستر العورة المغلظة، وإباحة عائشة للتبان للذين يرحلون هودجها قريب من قول المالكية: بجواز الاستثفار للركوب والنزول وما ذكره البخاري عن ابن عمر من: «أنه طاف وهو محرم، وقد حزم على بطنه بثوب» خصص المالكية، جواز شد الحزام على البطن من غير عقد بضرورة العمل خاصة كما تقدم.
والحاصل: أنه لا ينبغي أن يختلف في جواز نظر المحرم في المرآة، إذ لا دليل على النهي عنه، وذكر ابن حجر في الفتح: أنه نقلت كراهته عن القاسم بن محمد، وذلك هو مشهور مذهب مالك، وفي سماع ابن القاسم: لا أحب نظر المحرم في المرآة، فإن نظر فلا شيء عليه، وليستغفر الله.
وأصح القولين عند الشافعية: أنه لا كراهة فيه، ونقل ابن المنذر عدم الكراهة عن ابن عباس، وأبي هريرة، وطاوس، والشافعي، وأحمد، وإسحاق قال: وبه أقول، وكره ذلك عطاء الخراساني. وقال مالك: لا يفعل ذلك إلا عن ضرورة، قال: وعن عطاء في المسألة قولان: بالكراهة والجواز، وصح عن ابن عمر: أنه نظر في المرآة. انتهى بالمعنى من النووي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق إن شاء الله في هذه المسألة: أن مجرد نظر المحرم في المرآة لا بأس به، ما لم يقصد به الاستعانة على أمر من محظورات الإحرام، كنظر المرأة فيها لتكتحل بما فيه طيب أو زينة، ونحو ذلك، والعلم عند الله تعالى.
وذكر في الفتح أيضاً: أن سعيد بن منصور روى من طريق عبد الرحمٰن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: أنها حجت، ومعها غلمان لها، وكانوا إذا شدوا رحلها يبدو منهم الشيء، فأمرتهم أن يتخذوا التبابين فيلبسوها، وهم محرمون قال: وأخرجه من وجه آخر مختصراً بلفظ: «يشدون هودجها انتهى محل الغرض منه، وقوله: يَرْحَلون هودجها هو بفتح الياء المثناة التحتية، وسكون الراء، وفتح الحاء من قولهم: رحلت البعير أرحَلَه بفتح الحاء، في المضارع، والماضي رحلا بمعنى: شددت الرَّحْلَ على ظهره، ومنه قول الأعشى: رحلت سمية غدوةً أجمالَها غضبى عليك فما تقول بدالها

وقول المثقب العبدي وهو عائذ بن محصن: إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين

والهودج: مركب من مراكب النساء معروف، وما ذكر عن عائشة رضي الله عنها ظاهره أنها إنما رخّصت في التبان، لمن يرحل هودجها، لضرورة انكشاف العورة، وهو يدل على أنه لا يجوز لغير ضرورة، والعلم عند الله تعالى.
وأما غسل الرأس والبدن بالماء، فإن كان لجنابة كاحتلام، فلا خلاف في وجوبه، وإن كان لغير ذلك فهو جائز على التحقيق، ولكن ينبغي أن يكون برفق لئلا يقتل بعض الدواب في رأسه واغتسال المحرم، وغسله رأسه، لا ينبغي أن يختلف فيه: لثبوته عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وكلما خالف السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، فهو مردود على قائله.
قال البخاري في صحيحه: باب الاغتسال للمحرم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يدخل المحرم الحمام، ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأساً. حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه: «أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء، فقال عبد الله بن عباس: يغسل المحرم رأسه. وقال المِسوَر: لا يغسل المحرم رأسه، فأرسلني عبد الله بن العباس، إلى أبي أيوب الأنصاري فوجدته يغتسل بين القرنين، وهو يستر بثوب، فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين، أرسلني إليك عبد الله بن العباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه، وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب، فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصب عليه: اصبب، فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما، وأدبر وقال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل.
وقال ابن حجر في الكلام على هذا الحديث: وكأنه خص الرأس بالسؤال لأنه موضع الإشكال في هذه المسألة، لأنه محل الشعر الذي يخشى انتتافه بخلاف سائر البدن غالباً، وحديث أبي أيوب المذكور أخرجه أيضاً مسلم في صحيحه كلفظ البخاري، وزاد مسلم فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبداً. وقال النووي في شرحه لحديث أبي أيوب: هذا عند مسلم، وفي هذا الحديث فوائد.
منها: جواز اغتسال المحرم، وغسله رأسه، وإمرار اليد على شعره بحيث لا ينتف شعراً إلى آخره، وهذا حديث متفق عليه فيه التصريح: بجواز غسل الرأس في الإحرام، وكذلك غسل البدن، وقال النووي في شرح المهذب: قال الماوردي: أما اغتسال المحرم بالماء والانغماس فيه، فجائز لا يعرف بين العلماء، خلاف فيه، لحديث أبي أيوب السابق: أما دخول الحمام وإزالة الوسخ عن نفسه فجائز أيضاً، عن ناوبه، قال الجمهور وقال مالك: تجب الفدية بإزالة الوسخ، وقال أبو حنيفة: إن غسلَ رأسه بخطمى: لزمته الفدية دليلنا حديث ابن عباس في المحرم الذي خر عن بعير. وقال ابن المنذر: وكره جابر بن عبد الله ومالك: غسل المحرم رأسه بالخطمى قال مالك: وعليه الفدية وبه قال أبو حنيفة وقال أبو يوسف، ومحمد: عليه صدقة. قال ابن المنذر: هو مباح لحديث ابن عباس. انتهى محل الغرض منه.
وقد قدمنا جواز غسل الرأس بالماء وحده، عن المالكية، وكراهة غمس الرأس في الماء ما لم يتيقن أنه لا يقتل بذلك بعض دواب الرأس.
وقال صاحب اللسان: والخطمى: ضرب من النبات، يغسل به، وفي الصحاح: يغسل به الرأس. قال الأزهري: هو بفتح الخاء، ومن قال: خطمى بكسر الخاء فقد لحن، وفي المدونة عن مالك: لا يدخل المحرم الحمام، فإن دخله، وتدلك، وألقى الوسخ: افتدى. وقال اللخمي: أرى أن يفتدي، ولو لم يتدلك، لأن الشأن فيمن دخل الحمام، ثم اغتسل أن الشعث يذهب عنه، ولو لم يتدلك ا هـ بواسطة نقل المواق.
فتحصل: أن مطلق الغسل الذي لا تنظيف فيه لا خلاف فيه إلا ما رواه مالك، عن ابن عمر: «أنه كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام» وروى مالك في الموطأ، عن عمر بن الخطاب «أنه غسل رأسه، وهو محرم، وأمر يعلى بن منية: أن يصب على رأسه أي عمر الماء. وقال: اصببْ، فلن يزيده الماء إلا شعثاً». وقد ثبت في الصحيحين جوازه، وأن إزالة الوسخ بالتدلك في الحمام، وغسل الرأس بالخطمى ونحو ذلك: فيه خلاف كما رأيت أقوال أهل العلم فيه.
وحجة من قال: من التدلك وإزالة الوسخ لا شيء فيه حديث ابن عباس في المحرم الذي خر عن بعيره، ومات، ونهاهم النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يخمروا رأسه ووجهه، وعلل ذلك: بأنه يبعث ملبياً، ومع ذلك فقد أمرهم أن
يغسلوه بماء وسدر، وذلك ثابت في الصحيح، وأن الأصل عدم الوجوب.
واحتج من منع إزالة الوسخ: بأن الوسخ من التفث وقد دلت آية {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} على أن إزالة التفث: لا تجوز قبل وقت التحلل الأول.
واحتجوا أيضاً بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله تعالى يباهي بأهل عرفات أهل السماء فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثاً غبراً» قال النووي في شرح المهذب: رواه البيهقي، بإسناد صحيح.
وأخرج الترمذي، وابن ماجه، عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الحاج الشعث التفل» وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما مجرد الغسل الذي لا يزيده إلا شعثاً كما قال عمر رضي الله عنه، فلا ينبغي أن يختلف فيه، لحديث أبي أيوب المتفق عليه، وأما التدلك في الحمام، وغسل الرأس بالخطمى، فلا نص فيه، والأحسن تركه احتياطاً، وأما لزوم الفدية فيه فلا أعلم له دليلاً يجب الرجوع إليه والعلم عنده الله تعالى.
وأما حكم من قتل بغسله رأسه قملاً فلا أعلم في خصوص قتل المحرم القمل نصاً من كتاب، ولا سنة.
وقد قدمنا أن مذهب مالك: أنه إن قتل قملة أو قملات أطعم ملء يد واحدةٍ من الطعام كفارة لذلك، وإن قتل كثيراً منه لزمته الفدية، وعن الشافعي أن من قتل قملةً: أطعم شيئاً قال: وأي شيء فداها به فهو خير منها. وعند الشافعي: أنه إن ظهر القمل على بدنه أو ثيابه، لم يكره له أن ينحيه، لأنه ألجأه.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن قتل القمل لا فدية فيه، وهو مذهب أحمد وأصحابه مع أن عنه روايتين:
أحداهما: إباحة قتله، لأنه يؤذي، والأخرى منع قتله، لأن فيه ترفهاً.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له:
أظهر أقوال أهل العلم عندي في ذلك: أن القمل لا يجوز قتله، وأخذه من الرأس، بدليل قصة كعب بن عجرة المتقدمة، فإنه لو كان قتله يجوز لما صبر على أذاه، ولتسبب في التفلي، لإزالته من رأسه، كما هو العادة المعروفة فيمن آذاه القمل، وهو غير محرم إن لم يرد الحلق، وأنه لا شيء على من قتله. والدليل على ذلك أمران.
أحدهما: أن الأصل عدم الوجوب إلا لدليل، ولا دليل على لزوم شيء في قتل القمل، مع أنه يؤذي أشد الإيذاء.
الأمر الثاني: أن ظاهر حديث كعب بن عجرة المتفق عليه، وظاهر القرآن العظيم كلاهما: يدل على أن الفدية إنما لزمت بسبب حلق الرأس، مع كثرة ما فيه من القمل، فلو كانت الفدية تلزم من قتل القمل، وإزالته، لبيّنه صلى الله عليه وسلم فقوله تعالى {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ظاهره أن الأذى الذي برأسه من القمل ونحوه: كالمرض في إباحة الحلق، وأن الفدية لزمت بسبب الحلق لا بسبب المرض، ولا بسبب إزالة القمل، وكذلك ظاهر حديث كعب، حيث أمره بالحلق والفدية، فهو يدل على أن الفدية من أجل الحلق لا غيره.
ومما يؤيد ذلك: أن القمل لا قيمة له فهو كالبراغيث والبعوض، وليس القمل بمأكول، وليس بصيد.
قال صاحب المغني: وحكي عن ابن عمر قال: هي أهون مقتول، وسئل ابن عباس، عن محرم ألقى قملة، ثم طلبها فلم يجدها؟ قال: تلك ضالة لا تبتغى. قال: وهذا قول طاوس، وسعيد بن جبير، وعطاء، وأبي ثور، وابن المنذر، وعن أحمد فيمن قتل قملة قال: يطعم شيئاً فعلى هذا أي شيء تصدق به أجزأه، سواء قتل كثيراً أو قليلاً، وهذا قول أصحاب الرأي وقال إسحاق: تمرة فما فوقها. وقال مالك: حفنة من طعام. وروي ذلك عن ابن عمر، وقال عطاء: قبضة من طعام.
وهذه الأقوال كلها راجعة إلى ما قلناه، فإنهم لم يريدوا بذلك التقدير، وإنما هو على التقريب لأقل ما يتصدق به. انتهى من المغني. ولا يخفى أنها أقوال لا دليل على شيء منها.
وحجة القائلين بها في الجملة: أن قتل القمل فيه ترفه للمحرم، والعلم عند الله تعالى.
وأما الحجامة: إن دعت إليها ضرورة، فلا خلاف في جوازها للمحرم، وإنما اختلف أهل العلم في الفدية، إن احتجم. أما جوازها لضرورة فهو ثابت، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا مطعن فيه.
قال البخاري في صحيحه: باب الحجامة للمحرم: وكوى ابن عمر ابنه، وهو محرم، ويتداوى ما لم يكن فيه طيب.
حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال: قال عمرو: أول شيء سمعت عطاء يقول: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم، ثم سمعته يقول: حدثني طاوس، عن ابن عباس فقلت: لعله سمعه منها.
حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، عن علقمة بن أبي علقمة، عن عبد الرحمٰن الأعرج، عن ابن بحينة رضي الله عنه قال «احتجمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو محرم بلحيى جمل في وسط رأسه» انتهى من صحيح البخاري.
وقال البخاري في كتاب: الطب: باب الحجم في السفر والإحرام: قاله ابن بحينة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، وعطاء، عن ابن عباس قال «احتجم النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهو محرم».
وقال البخاري في كتاب: الطب أيضاً: باب الحجامة على الرأس.
حدثنا إسماعيل، حدثني سليمان، عن علقمة: أنه سمع عبد الرحمٰن الأعرج: أنه سمع عبد الله ابن بحينة، يحدث «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم بلَحْيى جملٍ من طريق مكة وهو محرم في وسط رأسه» وقال الأنصاري:
أخبرنا هشام بن حسّان، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم في رأسه» وفي لفظ للبخاري، عن ابن عباس قال: «احتجم النَّبي صلى الله عليه وسلم في رأسه وهو محرم من وجع كان به بماء يقال له لحيى جمل» وفي لفظ له أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم في رأسه من شقيقةٍ كانت به» انتهى منه. وحديث ابن عباس الذي ذكره البخاري: أخرجه مسلم أيضاً، عن طاوس، وعطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم» وأخرج مسلم أيضاً حديث ابن بحينة المذكور بلفظ «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم احتجم بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه» ا هـ.
فهذا الحديث المتفق عليه، عن صحابيين جليلين وهما: عبد الله بن عباس وعبد الله ابن بحينة: صريح في جواز الحجامة للمحرم إن دعت إلى ذلك ضرورة وجع. والحديث المتفق عليه المذكور فيه أن الحجامة المذكورة كانت في الرأس.
قال ابن حجر في الفتح: وخالف ذلك حديث أنس فأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان من طريق معمر، عن قتادة عنه قال «احتجم النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به» ورجاله رجال الصحيح، إلا أن أبا داود، حكى عن أحمد أن سعيد بن أبي عروبة رواه عن قتادة، فأرسله وسعيد أحفظ من معمر وليست هذه بعلة قادحة، والجمع بين حديث ابن عباس، وحديث أنس، واضح بالحمل على التعدد أشار إلى ذلك الطبري. ا هـ منه.
ولا يخفى أن مثل هذا لا تعارض فيه، وأنه احتجم مرة في الرأس، ومرة على ظهر القدم كما لا يخفى. وقوله في الحديث المتفق عليه «بلحيي جمل» هو بفتح اللام، ويجوز كسرها وسكون الحاء وياء مثناة تحتية، وفي بعض رواياته: بياءين بصيغة التثنية، وجمل يفتح الجيم، والميم. وقد جاء في الروايات، أنه اسم موضع بين مكة، والمدينة. وقال في الفتح: قال ابن وضاح: هي بقعة معروفة وهي عقبة الجحفة على سبعة أميال من السقيا ا هـ.
وقال صاحب القاموس: ولحى جمل موضع بين الحرمين، وإلى المدينة أقرب. وزعم صاحب القاموس: أن السقيا بالضم: موضع بين المدينة، ووادي الصفراء، وما ظنه بعضهم: من أن المراد به أحد فكي الجمل الذي هو ذكر الإبل، وأن فكه كان هو آلة الحجامة، فهو غلط لا شك فيه.
فهذه النصوص التي ذكرنا لا يبقى معها شك في جواز الحجامة للمحرم الذي به وجع يحتاج إلى الحجامة.
أما ما يلزم في ذلك فاختلفوا فيه: قال النووي في شرح مسلم: وفي هذا الحديث دليل لجواز الحجامة للمحرم. وقد أجمع العلماء على جوازها له في الرأس وغيره، إذا كان له عذر في ذلك وإن قطع الشعر حينئذ، لكن عليه الفدية لقطع الشعر، فإن لم يقطع فلا فدية عليه، ودليل المسألة قوله تعالى {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ}. وهذا الحديث محمول على أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان له عذر في الحجامة في وسط الرأس، لأنه لا ينفك عن قطع شعر، أما إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة، فإن تضمنت قلع شعر، فهي حرام لتحريم قطع الشعر وإن لم تتضمن ذلك، بأن كانت في موضع لا شعر فيه، فهي جائزة عندنا.
وعند الجمهور: ولا فدية فيها، ووافق الجمهور سحنون، من أصحاب مالك، وعن ابن عمر ومالك كراهتها، وعن الحسن البصري: فيها الفدية.
دليلنا: أن إخراج الدم ليس حراماً في الإحرام. انتهى منه.
وما ذكره النووي، عن ابن عمر ومالك: من كراهة الحجامة لغير عذر، ذكره مالك في الموطأ، عن نافع، عن ابن عمر بلفظ: أنه كان يقول: «لا يحتجم المحرم إلا مما لا بد منه» وفيه قال مالك: لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة، ولا شك أنها إن أدت إلى قطع شعر من غير حاجة إليها أنها حرام، وإن كانت لا تؤدي إلى قطع شعر، فقد وجه المالكية كراهتها المذكورة، عن مالك وابن عمر بأمرين.
أحدهما: أن إخراج الدم من الحاج، قد يؤدي إلى ضعفه، كما كره صوم يوم عرفة للحاج، مع أن الصوم أخف من الحجامة، قالوا: فبطل الاستدلال المجيز، بأنه لم يقم دليل على تحريم إخراج الدم في الإحرام، لأنا لم نقل بالحرمة، بل بالكراهة لعلة أخرى علمت. قاله الزرقاني في شرح الموطأ.
ومرادهم أن ضعفه بإخراج الدم منه، قد يؤدي إلى عجزه عن إتمام بعض المناسك.
الأمر الثاني: هو أن الحجامة إنما تكون في العادة، بشد الزجاج ونحوه والمحرم ممنوع من العقد والشد على جسده. قاله الشيخ سند.
وقال الحطاب في شرحه لقول خليل عاطفاً على ما يكره: وحجامة بلا عذر ما نصه: وأما مع العذر فتجوز، فإن لم يزل بسببها شعراً، ولم يقتل قملاً فلا شيء ما عليه، وإن أزال بسببها شعراً: فعليه الفدية. وذكر ابن بشير قولاً بسقوطها قال في التوضيح: وهو غريب، وإن قتل قملاً، فإن كان كثيراً، فالفدية وإلا أطعم حفنة من طعام. والله سبحانه أعلم انتهى منه.
والقول الذي ذكره ابن بشير من المالكية واستغربه خليل في التوضيح بسقوط الفدية مطلقاً. ولو أزال بسبب الحجامة شعراً له وجه من النظر، ولا يخلو عندي من قوة والله تعالى أعلم. وإيضاح ذلك أن جميع الروايات المصرحة «بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم احتجم في رأسه» لم يرد في شيء منها أنه افتدى لإزالة ذلك الشعر من أجل الحجامة، ولو وجبت عليه في ذلك فدية، لبينها للناس، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
والاستدلال على وجوب الفدية في ذلك بعموم قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ}. لا ينهض كل النهوض، لأن الآية واردة في حلق جميع الرأس، لا في حلق بعضه، وقد قدمنا أن حلق بعضه: ليس فيه نص صريح.
ولذلك اختلف العلماء فيه، فذهب الشافعي: إلى أن الفدية تلزم بحلق ثلاث شعرات فصاعداً. وذهب أحمد في إحدى الروايتين إلى ذلك، وفي الأخرى: إلى لزومها بأربع شعرات، وذهب أبو حنيفة: إلى لزومها بحلق الربع، وذهب مالك: إلى لزومها بحلق ما فيه ترفه، أو إماطة أذى، وهذا الاختلاف يدل على عدم النص الصريح في حلق بعض الرأس، فلا تتعين دلالة الآية على لزوم الفدية، في من أزال شعراً قليلاً، لأجل تمكن آلة الحجامة من موضع الوجع والله تعالى أعلم.
وممن قال بأن إزالة الشعر عن موضع الحجامة: لا فدية فيه: محمد وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة بل قالا: في ذلك صدقة، وقد قدمنا مراراً: أن الصدقة عندهم نصف صاع من بر أو صاع كامل من غيره كتمر وشعير.
والحاصل: أن أكثر أهل العلم منهم الأئمة الأربعة، على أنه إن حلق الشعر لأجل تمكن آلة الحجامة، لزمته الفدية على التفصيل المتقدم في قدر ما تلزم به الفدية، من حلق الشعر كما تقدم إيضاحه. وأن عدم لزومها عندنا له وجه من النظر قوي، وحكاه ابن بشير من المالكية. وأما إن لم يحلق بالحجامة شعراً، فقد قدمنا قريباً أقوال أهل العلم فيها، وتفصيلهم بين ما تدعو إليه الضرورة، وبين غيره. والعلم عند الله تعالى.
واستدل أهل العلم بأحاديث الحجامة المذكورة، على جواز الفصد، وربط الجرح، والدمل، وقلع الضرس، والختان: وقطع العضو، وغير ذلك من وجوه التداوي، إذا لم يكن في ذلك محظور: كالطيب، وقطع الشعر.
وأما الحك فإن كان في موضع لا شعر فيه فلا ينبغي أن يختلف في جوازه، وإن كان في موضع فيه شعر كالرأس، وكان برفق بحيث لا يحصل به نتف بعض الشعر فكذلك، وإن كان بقوة بحيث يحصل به نتف بعض الشعر، فالظاهر أنه لا يجوز.
وهذا هو الصواب إن شاء الله في مسألة الحك. ولم أعلم في ذلك بشيء مرفوع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم. وإنما فيه بعض الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، وقد قدمنا قول البخاري، ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأساً.
وروى مالك في الموطإ عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه أنها قالت: سمعت عائشة زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم تسأل عن المحرم، أيحك جسده؟ قالت: نعم فليحككه، وليشدد، ولو ربطت يداي، ولم أجد إلا رجلي لحككت ا هـ.
وأما نزع القراد والحلمة من بعيره، فقد أجازه عمر بن الخطاب. وكرهه ابن عمر ومالك. وقد روى مالك في الموطإ، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن ربيعة بن أبي عبد الله بن الهدير: أنه رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرد بعيراً له في طين بالسقيا، وهو محرم. قال مالك: وأنا أكرهه. وروي أيضاً في الموطإ عن نافع: أن عبد الله بن عمر، كان يكره أن ينزع المحرم حلمة، أو قراداً عن بعيره. قال مالك: وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك. وقوله: يقرد بعيره: أي ينزع عنه القراد ويرميه.
وأما تضميد العين بالصبر ونحوه مما لا طيب فيه لضرورة الوجع فلا خلاف فيه، بين العلماء وأنه لا فدية فيه، كما أجمعوا على أنه إن دعته الضرورة إلى تضميد العين ونحوها بما فيه طيب. أن ذلك جائز له، وعليه الفدية.
ومن أدلتهم على جواز تضميد العين بالصبر ونحوه: ما رواه مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب جميعاً، عن ابن عيينة قال أبو بكر: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا أيوب بن موسى، عن نبيه بن وهب قال: خرجنا مع أبان بن عثمان، حتى إذا كنا بملل اشتكى عمر بن عبيد الله عينيه، فلما كنا بالروحاء اشتد وجعه، فأرسل إلى أبان بن عثمان يسأله، فأرسل إليه: أن اضمدهما بالصبر، فإن عثمان رضي الله عنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل إذا اشتكى عينيه، وهو محرم ضمدهما بالصبر. وفي لفظ عن مسلم: أن عمر بن عبيد الله بن معمر رمدت عينه، فأراد أن يكحلها، فنهاه أبان بن عثمان، وأمره أن يضمدها بالصبر، وحدث عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنه فعل ذلك. انتهى من صحيح مسلم.
وأما السواك في الإحرام، فلا خلاف في جوازه بين أهل العلم.
قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره: وربط جرحه ما نصه: قال التادلي في مناسك ابن الحاج: وأجمع أهل العلم على أن للمحرم أن يتسوك، وإن دمي فمه. انتهى.
وقال ابن عرفة الشيخ: روى محمد والعتبي: للمحرم أن يتسوك، ولو أدمى فاه انتهى، ثم قال: قلت: لا يلزم من منع القاضي الزينة منع السواك بالجوزاء ونحوه. انتهى والله أعلم. انتهى كلام الحطاب.
فصل فيما تتعدد فيه الفدية ونحوها وما لا يتعدد فيه ذلك وأقوال العلماء فيه
اعلم أولاً أن هذا الفصل يدخل في مسألة كبيرة، يذكرها علماء الأصول في مبحث الأمر وهي: هل الأمر يقتضي التكرار أو لا؟ وهي ذات واسطة وطرفين، طرف يتعدد فيه اللازم بلا خلاف، وطرف لا يتعدد فيه، بلا خلاف، وواسطة: هي محل الخلاف، وهذا البحث أعم مما نحن بصدده، ولكن إذا تكلمنا عليه على سبيل العموم، رحعنا إلى مسألتنا، فذكرنا فيها كلام أهل الكلام، وأدلتهم، وناقشناها.
والمسألة المذكورة: هي إذا تعددت الأسباب، واتحد موجبها بصيغة اسم المفعول، هل يتعدد الموجب نظراً لتعدد أسبابه أو لا يتعدد نظراً لاتحاده في نفسه؟ وأشار إلى هذه المسألة في الجملة الشيخ ميارة في التكميل بقوله: إن يتعدد سبب والموجب متحد كَفى لهن موجب
كناقض سهو ولوغ والفدا حكاية حد تيمم بدا
وذا الكثير والتعدد ورد بخلف أو وفق بنص معتمد

فقوله: الموجب في الموضعين بصيغة اسم المفعول. وقوله كناقض: يعني أن نواقض الوضوء، إن تعددت كمن بال مرات. أو بال ونام وقبل، فإنه يكفي لجميعها وضوء واحد. وكذلك الجنابة، إن تعددت أسبابها بوطء مرات، وإنزال بلذة، واحتلام، وانقطاع حيض، فإنه يكفي لجميع ذلك غسل واحد.
وقوله: سهو يعني: أن من سها في صلاته مرات متعددة، يكفيه لجميعها سجود سهو واحد.
وقوله: ولوغ: يعني: أنه إذا تعدد ولوغ الكلب في الإناء بأن ولغ فيه مرات متعددة أو ولغت فيه كلاب متعددة، فإنه يكفي لجميع ذلك غسله سبع مرات على نحو ما في الحديث، ولا يتعدد الغسل بتعدد الولوغ.
وقوله: والفدا: يعني أن من تكرر منه موجب الفدية، كمن لبس ثوباً مخيطاً مطيباً تكفيه فدية واحدة.
قوله: حكاية: يعني: أن من سمع أذان جماعة من المؤذنين في وقت واحد، يكفيه حكاية أذان واحد، ولا تتعدد حكاية الأذان لتعدد المؤذنين.
وقوله: حد: يعني أن من زنى مرات متعددة قبل أن يقام عليه الحد يكفي حده حداً واحداً، ولا يتعدد الحد بتعدد الزنى مثلاً. أما إذا أقيم عليه الحد، ثم زنى بعد إقامة الحد، فإنه يقام عليه الحد لزناه الواقع بعد إقامة الحد.
وقوله: تيمم: يعني: أن الجنب مثلاً الذي حكمه التيمم، إذا أراد حمل المصحف وقراءة القرآن فيه يكفيه تيمم واحد، ولا يلزمه أن يتيمم لكل واحد منهما.
وقوله: وذا الكثير: يعني أن الكثير في فروع هذه المسألة، عدم تعدد الموجب الذي تعددت أسبابه.
وقوله: والتعدد ورد بخلف، أو وفق يعني: أن تعدد الموجب، لتعدد أسبابه وارد في الشرع، وتارة يكون مجمعاً على تعدده، وتارة يكون مختلفاً فيه فقوله: أن وفق يعني: بالوفق الاتفاق، ومراده به الإجماع. وقد نظم العلوي الشنقيطي في نشر البنود شرح مراقي السعود ما يتعدد بتعدد سببه إجماعاً، وما يتعدد بخلاف في شرحه لقوله في المراقي: أو التكرر إذا ما علقا بشرط أو بصفة تحققا

فقال رحمه الله: وما تعدد بوفق غره أودية ومهر غصب الحره
عقيقة ومهر من لم تعلم والثلث من بعد الخروج فاعلم
والخلف في صاع المصراة وفي كفارة الظهار من نسا يفي
وهدى من نذر نحر ولده غسل إنا الولغ يرى بعدده
حكاية المؤذنين وسجود تلاوة وبعد تكفير يعود
قذف جماعة وثلث قبل أن يخرج ثلثا قاله من قد فطن
كفارة اليمين بالله علا لقصد تأسيس من الذي ائتلا

وحاصل كلامه في نظمه:
أن الذي يتعدد إجماعاً خمس مسائل:
الأولى: أن من ضرب بطن حامل، فأسقطت جنينين مثلاً، يتعدد الواجب فيهما من غرة أو دية على ما مر تفصيله في سورة بني إسرائيل، وهذا مراده بقوله: وما تعدد بوفق غرة أو دية.
المسألة الثانية: أن من غصب حرة فزنى بها مرات متعددة، يتعدد عليه مهرها بتعدد الزنى بها.
والثالثة: أن من ولد له توأمان لزمته عقيقتان.
الرابعة: أن من وطئت مرات وهي غير عالمة كالنائمة، فإنه يتعدد لها المهر بتعدد الوطء.
الخامسة: أن من نذر ثلث ماله فأخرجه ثم نذر بعد ذلك ثلثه، فإنه يلزمه، ومراده بهذا واضح من النظم، وقد يقال: إن بعض المذكورات، لا يخلو من خلاف.
أما ما ذكر تعدده على خلاف فيه، فهو عشر مسائل:
الأولى: صاع المصراة يعني صاع التمر الذي يرده مع المصراة إذا حلبها، هل يتعدد بتعدد الشياه المصراة، أو يكفي عن جميعها صاع واحد، والأظهر في هذه التعدد.
الثانية: إذا ظاهر من زوجاته الأربع، هل تتعدد كفارة الظهار بتعددهن، أو تكفي كفارة واحدة؟
والثالثة: إذا تكرر منه نذر ذبح ولده، بأن نذر أنه يذبح اثنين، أو ثلاثة من ولده، وقلنا: يلزمه الهدي، هل يتكرر بتكرر الأولاد المنذور ذبحهم، أو يكفي هدي واحد؟.
والرابعة: تعدد ولوغ الكلاب في الإناء، هل يتعدد الغسل سبعاً بتعدد الولوغ، أو يكفي غسله سبعاً مرة واحدة؟.
والخامسة: حكاية أذان المؤذنين.
والسادسة: سجود التلاوة، إذا كرر آية السجود مراراً في وقت واحد، هل يكفي سجود واحداً أو لا؟
والسابعة: إذا جامع في نهار رمضان، ثم كفر من حينه، ثم جامع مرة أخرى في نفس اليوم، هل تتعدد الكفارة أو لا؟
والثامنة: إذا قذف جماعة، هل يتعدد عليه حد القذف بتعددهم، أو يكفي حد واحد؟
والتاسعة: إذا نذر ثلث ماله، ثم نذر ثلثا آخر قبل أن يخرج الثلث الأول هل يلزمه النذر في الثلثين، أو يكفي واحد؟
والعاشرة: إذا حلف بالله مرات متعددة، وقصد بكل يمين التأسيس لا التأكيد، هل تتعدد الكفارة بتعدد الأيمان، أو تكفي كفارة واحدة، هذا هو حاصل مراده بالأبيات.
ولا شك أن المسائل المتفق على تعددها والمختلف فيها أكثر مما ذكر بكثير، فمن السائل المتفق على التعدد فيها، ولم يذكرها من صاد ظبيين مثلاً، وهو محرم فإنه يتكرر عليه الجزاء إجماعاً. وما روي عن أحمد من أنه يكفي جزاء واحد، لا يصح، كما قاله صاحب المغني، لأنه مخالف لصريح قوله تعالى {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ} لأن الواحد لا يكون مثلاً للاثنين.
والحاصل: أن هذه المسألة، إنما تعرف فروعها بالتتبع، فقد يكفي موجب واحد مع تعدد الأسباب إجماعاً، كتعدد نواقض الوضوء، وأسباب الجنابة، وتعدد سبب الحد كالزنى، وقد يتعدد إجماعاً كالمسائل المذكورة آنفاً، وقد يختلف في تعدده، وعدم تعدده وهذا هو الغالب في فروع هذه المسألة، خلافاً لما قاله الشيخ ميارة في التكميل.
فإذا علمت هذه المسألة في الجملة وعلمت أنها عند الأصوليين من المسائل المبنية على مسألة الأمر هل يقتضي التكرار أو لا يقتضيه؟ فهذه أقوال أهل العلم، وأدلتهم في المسألة التي نحن بصددها، وهي ما تعدد فيه الفدية ونحوها، بتعدد أسبابها، وما لا تتعدد فيه.
واعلم أولاً: أن تعدد اللازم في الجماع بتعدد الجماع، وعدم تعدده قد قدمنا أقوال أهل العلم فيه، واستوفينا الكلام عليه.
أما مذهب مالك رحمه الله في هذه المسألة ففيه تفصيل. حاصله: أن الجماع لا يتعدد الهدي اللازم فيه بتعدده، سواء جامع بعد إخراج الهدي عن الجماع الأول أو قبله. وأما غير الجماع من محظورات الإحرام كلبس المخيط والتطيب، وحلق الرأس، وقلم الأظافر، ونحو ذلك، فتارة تكفي عنده في ذلك فدية واحدة، عن الجميع، وتارة تتعدد بتعدد أسبابها.
أمو موجبات عدم تعدد الفدية فهي في مذهب مالك ثلاثة.
الأولى: أن يكون فعل أسباب الفدية في وقت واحد أو بعضها بالقرب من بعض، فإن لبس وتطيب وحلق في وقت واحد، فعليه فدية واحدة، وكذلك إن فعل بعضها قريباً من بعض، والقول الذي خرجه اللخمي بالتعدد في ذلك ضعيف، لا يعول عليه.
الثانية: أن ينوي فعل جميعها، بأن ينوي اللبس والتطيب والحلق فتلزمه فدية واحدة، ولو كان بعضها بعد بعض غير قريب منه.
الثالثة: أن يكون فعل محظورات الإحرام ظاناً أنها مباحة، كالذي يطوف على غير وضوء في عمرته، ثم يسعى، ويحل ويفعل محظورات متعددة، وكالذي يرفض إحرامه ظاناً أن الإحرام يصح رفضه، فيفعل بعد رفضه محظورات متعددة، وكمن أفسد إحرامه بالوطء، ثم فعل موجبات الفدية ظاناً أن الإحرام تسقط حرمته بالفساد، وجعل بعض المالكية من صور ظن الإباحة من ظن أن الإحرام لا يمنعه من محرماته أو لا يمنعه من بعضها. وأما ما يوجب تعدد الفدية عند المالكية، فهو أن يفعل محظورات الإحرام مترتبة بعضها بعد بعض، غير قريب منه، فإنه تلزمه بكل محظور فدية، ولو كثر ذلك سواء كانت المحظورات من نوع واحد، كمن كرر التطيب، أو كرر اللبس، أو كرر الحلق في أوقات غير متقاربة، والظاهر أن القرب بحسب العرف، أو من أنواع كمن لبس مخيطاً، ثم تطيب، ثم حلق، فإن الفدية تتعدد في جميع ذلك، إن لم يكن بعضه قريباً من بعض، أو في وقت واحد، فإن احتاج إلى لبس قميص، ثم احتاج بعد ذلك إلى لبس سراويل، ففدية واحدة عندهم، لأن محل السراويل كان يستره القميص قبل لبس السراويل. أما إن احتاج إلى السراويل أولاً، ثم احتاج بعد ذلك إلى القميص، ففديتان، لأن القميص يستر من أعلى بدنه شيئاً ما كان يستره السراويل.
هذا هو حاصل مذهب مالك في تعدد الفدية وعدمه في تعدد محظورات الإحرام.
وأما مذهب أبي حنيفة: فهو أنه إن تكرر منه موجب الفدية من نوع واحد في مجالس واحد، فعليه كفارة واحدة، وهي فدية الأذى إن كان ذلك لعذر، ودم إن كان لغير عذر، وإن فعل ذلك في مجالس متعددة تعددت الكفارة. وقال محمد: لا تتعدد إلا إذا كفر عن الأول قبل فعل الثاني، فلو لبس قميصاً وقباء وسراويل وخفين يوماً كاملاً لزمه دم واحد أو فدية واحدة، لأنها من جنس واحد فصارت كجناية واحدة، وكذلك لو دام على لبس ذلك أياماً، وكذا لو كان ينزعه بالليل، ويلبسه بالنهار، لا يجب عليه إلا دم واحد، إلا إذا نزعه على عدم الترك، ثم لبسه بعد ذلك، فإنه يجب عليه دم آخر، لأن اللبس الأول انفصل عن الثاني بالعزم على الترك، وكذا لو لبس قميصاً للضرورة ولبس خفين من غير ضرورة فعليه دم وفدية، لأن السبب اختلف فلا يمكن التداخل، وكذلك لو طيب جميع أعضائه، فإن كان في مجلس واحد فعليه دم واحد، إن كان لغير عذر، وفدية واحدة، إن كان ذلك لعذر، وإن كان تطييب أعضائه في مجالس تعددت الفدية أو الدم بتعدد الأعضاء التي طيبها في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، سواء ذبح للأول أو لم يذبح. وقال محمد: إن ذبح للأول، فكذلك، وإن لم يذبح فعليه دم واحد، وإن اختلفت أسباب الفدية، كمن تطيب، ولبس مخيطاً أو تطيب، وغطى رأسه يوماً كاملاً مثلاً، تعددت الفدية، أو الدم سواء كان ذلك في مجلس واحد، أو في مجلسين. وقد قدمنا أنه لا خلاف في تعدد جزاء الصيد بتعدد الصيد. وما روي عن أحمد مما يخالف ذلك، لم يصح لمخالفته صريح القرآن العظيم.
هذا هو حاصل مذهب أبي حنيفة، في المسألة.
وأما مذهب أحمد في هذه المسألة فهو: أنه إن فعل محظورات متعددة من جنس واحد، كما لو حلق مرة بعد مرة، أو لبس مرة بعد مرة، أو تطيب مرة بعد مرة: فعليه فدية واحدة، ولا تتعدد الفدية بتعدد الأسباب، التي هي من نوع واحد، سواء كانت في مجلس واحد، أو مجالس متفرقة، ومحل هذا ما لم يكفر عن الفعل الأول، قبل الفعل الثاني. فلو تطيب مثلاً، ثم افتدى ثم تطيب بعد الفدية لزمته فدية أخرى، لتطيبه بعد أن افتدى.
وعن أحمد: أنه إن كرر ذلك لأسباب مختلفة، مثل أن لبس للبرد، ثم لبس للحر، ثم لبس للمرض فكفارات، وإن كان لسبب واحد فكفارة واحدة وقد روى عنه الأثرم فيمن لبس قميصاً وجبة وعمامة وغير ذلك لعلة واحد.
قلت له: فإن اعتل فلبس جبة، ثم برأ ثم اعتل فلبس جبة، قال: هذا الآن عليه كفارتان قاله في المغني، ثم قال: وعن الشافعي كقولنا، وعنه لا يتداخل. وقال مالك: تتداخل كفارة الوطء دون غيره، وقال أبو حنيفة: إن كرره في مجلس واحد فكفارة واحدة، وإن كان في مجلس فكفارات، لأن حكم المجلس الواحد حكم الفعل الواحد، بخلاف غيره، ولنا أنما يتداخل إذا كان بعضه عقب بعض، يجب أن يتداخل، وإن تفرق كالحدود وكفارة الأيمان، ولأن الله تعالى أوجب في حلق الرأس: فدية واحدة، ولم يفرق بين ما وقع في دفعة أو دفعات، والقول بأنه لا يتداخل غير صحيح، فإنه إذا حلق رأسه لا يمكن إلا شيئاً بعد شيء. انتهى من المغني.
وأما إن كانت المحظورات من أجناس مختلفة، كأن حلق، ولبس، وتطيب، ووطىء فعليه لكل واحد منها فدية، سواء فعل ذلك مجتمعاً أو متفرقاً. قال في المغني: وهذا مذهب الشافعي.
وعن أحمد: أن في الطيب واللبس والحلق فدية واحدة، وإن فعل ذلك واحداً بعد واحد، فعليه لكل واحد دم، وهو قول إسحاق.
وقال عطاء وعمرو بن دينار: إذا حلق ثم احتاج إلى الطيب أو إلى قلنسوة أو إليهما، ففعل ذلك، فليس عليه إلا فدية.
وقال الحسن: إن لبس القميص، وتعمم، وتطيب فعل ذلك جميعاً: فليس عليه إلا كفارة واحدة، ونحو ذلك عن مالك.
ولنا أنها محظورات مختلفة الأجناس، فلم تتداخل أجزاؤها كالحدود المختلفة، والأيمان المختلفة، وعكسه ما إذا كان من جنس واحد. ا هـ من المغني.
وهذا هو حاصل مذهب أحمد في المسألة.
وأما مذهب الشافعي في هذه المسألة: فهو أن المحظورات تنقسم عند الشافعية إلى استهلاك، كالحلق، والقلم، والصيد وإلى استمتاع، وترفه كالطيب، واللباس، ومقدمات الجماع فإذا فعل محظورين، فله ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون أحدهما: استهلاكاً والآخر: استمتاعاً، فينظر إن لم يستند إلى سبب واحد، كالحلق، ولبس القميص تعددت الفدية كالحدود المختلفة، وإن استند إلى سبب واحد، كمن أصابت رأسه شجة، واحتاج إلى حلق جوانبها، وسترها بضماد، وفيه طيب، ففي تعدد الفدية وجهان، والصحيح منهما تعددها.
الحال الثاني: أن يكون استهلاكاً وهو على ثلاثة أضرب:
الأول: أن يكون مما يقابل بمثله، وهو الصيد. فتتعدد الفدية بتعدده، بلا خلاف عندهم، سواء فدى عن الأول، أم لا، وسواء اتحد الزمان والمكان، أو اختلفا كضمان المتلفات.
الضرب الثاني: أن يكون أحدهما مما يقابل بمثله، دون الآخر كالصيد والحلق فتتعدد بلا خلاف. الضرب الثالث: أن لا يقابل واحد منهما بمثله، فينظر إن اختلف نوعهما كحلق وطيب أو لباس وحلق، تعددت الفدية، سواء فرق بينهما أو والى في مكان أو مكانين بفعلين أو بفعل واحد، وإن لبس ثوباً مطيباً فوجهان عندهم، الصحيح المنصوص منهما: أن عليه فدية واحدة، والثاني: عليه فديتان، وإن اتحد النوع، فإن كرر الحلق، وكان ذلك في وقت واحد: لزمته فدية واحدة، كمن يحلق رأسه شيئاً بعد شيء في وقت واحد، ولو طال الزمان، وهو في أثناء الحلق، فهو كما لو حلف لا يأكل في اليوم إلا مرة واحد، فوضع الطعام، وجعل يأكل لقمة لقمة من بكرة إلى العصر، فإنه لا يحنث عندهم.
وأما إن كان الحلق في أمكنة متعددة أو في مكان واحد في أوقات متفرقة ففيه عندهم طريقان. أصحهما: تتعدد الفدية فتفرد كل مرة بحكمها، فإن كان حلق في كل مرة ثلاث شعرات فصاعداً، وجب لكل مرة فدية وإن كانت شعرة أو شعرتين، ففيها الأقوال السابقة الأربعة: وهي أنه قيل في الشعرة والواحدة مد. وقيل: درهم. وقيل: ثلث دم. وقيل: دم كامل وحكم الشعرتين معروف من هذا كما تقدم إيضاحه.
الطريق الثاني: أن في المسألة قولين: بالتعدد، وعدمه، وعدم التعدد: هو القديم، والتعدد: هو الجديد. وإن حلق عندهم ثلاث شعرات في ثلاثة أمكنة أو ثلاثة أزمنة متفرقة ففي ذلك عندهم طريقان، أصحهما، أنه يفرد كل شعرة بحكمها، وفيها الأقوال الأربعة الماضية.
والطريق الثاني: هو تفريع ذلك على القول، بالتداخل وعدمه. فإن قلنا بالتداخل: لزمته فدية كاملة، لأنه كأنه قطع الشعرات الثلاث في وقت واحد، وإن قلنا: بعدمه، وهو الصحيح عندهم، فلكل شعرة حكمها كما تقدم في الطريق الصحيح عندهم. ولو أخذ ثلاث شعرات في وقت واحد من ثلاثة مواضع من بدنه. ففيه عندهم طريقان:
أصحهما: لزوم الفدية، كما لو أخذها من موضع واحد.
والطريق الثاني: فيه وجهان أحدهما: هذا الذي ذكرناه آنفاً.
والثاني: أنه كما لو أزالها في أزمنة متفرقة، أو أمكنة متفرقة، فيجري على الخلاف في ذلك أو قد قدمنا أن حكم الأظفار عندهم كحكم الشعر.
الحال الثالث: أن يكون استمتاعاً، فإن اتحد النوع بأن تطيب بأنواع من الطيب أو لبس أنواعاً من الثياب كعمامة وقميص وسراويل، وخف أو استعمل نوعاً واحداً مرات، فإن فعل ذلك متوالياً من غير أن يتخلله تكفير عن الأول ففدية واحدة تكفي للجميع، وإن تخلله تكفير وجبت الفدية للثاني أيضاً، وإن فعل ذلك في مكانين، أو زمانين متفرقين فإن تخللهما تكفير: وجبت الفدية للثاني، وإن لم يتخللهما تكفير فقولان الأصح عندهم منهما، وهو الجديد: تعدد الفدية، والقديم: تتداخل، ولا تتعدد وإن اختلف النوع، بأن لبس وتطيب في مجلس واحد، قبل أن يكفر عن الأول منهما أو فعلهما معاً، ففيه ثلاثة أوجه مشهورة عندهم.
أصحها: تعدد الفدية لاختلاف نوع السبب.
الثاني: تجب فدية واحدة، لأنهما استمتاع، فيتداخلان، لاتحاد الجنس.
الثالث: التفصيل، فإن اتحد سببهما بأن أصابته شجة، واحتاج في مداواتها إلى طيب وسترها. لزمته فدية واحدة، وإن لم يتحد السبب: ففديتان، وهذا كله في غير الجماع، وقد قدمنا حكم تعدد الجماع، وفيه للشافعية خمسة أقوال:
أصحها: تجب بالجماع الأول: بدنة، وبالثاني: شاة.
والثاني: تجب بكل جماع بدنة.
الثالث: تكفي بدنة واحدة عن الجميع.
الرابع: إن كفر عن الأول، قبل الجماع الثاني وجبت الكفارة للثاني: وهي شاة في الأصح، وبدنة في القول الآخر، وإن لم يكن كفر عن الأول كفته بدنة عنهما.
والخامس: إن طال الزمان بين الجماعين أو اختلف المجلس: وجبت كفارة أخرى للثاني، وفيها القولان. وإلا فكفارة واحدة، وإن وطىء مرة ثالثة ورابعة، أو أكثر ففيه الأقوال المذكورة، الأظهر: تجب للأول بدنة، ولكل جماع بعد ذلك شاة.
والثاني: تجب بكل جماع بدنة إلى آخر الأقوال المذكورة آنفاً. هذا هو حاصل مذهب الشافعي في المسألة.
ولنكتف هنا بما ذكرنا من أحكام الحج في الكلام على آية الحج هذه خوف الإطالة المملة.
تنبيهان
الأول: اعلم أن مسألة الإحصار والفوات وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة البقرة، ومسألة الصيد وجزائه في الإحرام، أو أحد الحرمين، وأشجار الحرمين، ونباتهما ونحو ذلك وصيد وج قد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة المائدة، وأحكام الهدي سيأتي تفصيلها إن شاء الله في الآيات الدالة عليها من سورة الحج هذه.
التنبيه الثاني: اعلم أن جميع ما ذكرنا في هذا الفصل من تعدد الفدية، وعدم تعددها، إذا تعددت أسبابها لا نص فيه من كتاب، ولا سنة فيما نعلم، واختلاف أهل العلم فيه كما ذكرنا من نوع الاختلاف في تحقيق المناط. والعلم عند الله تعالى. * * *
قوله تعالى: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ}. اللام في قوله: ليشهدوا: هي لام التعليل: وهي متعلقة بقوله تعالى: {وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ}: أي إن تؤذن فيهم يأتوك مشاة وركباناً، لأجل أن يشهدوا: أي يحضروا منافع لهم، والمراد بحضورهم المنافع: حصولها لهم.
وقوله: {مَنَـٰفِعَ} جمع منفعة، ولم يبين هنا هذه المنافع ما هي. وقد جاء بيان بعضها في بعض الآيات القرآنية، وأن منها ما هو دنيوي، وما هو أخروي، أما الدنيوي فكأرباح التجارة، إذا خرج الحاج بمال تجارة معه، فإنه يحصل له الربح غالباً، وذلك نفع دنيوي.
وقد أطبق علماء التفسير على أن معنى قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} أنه ليس على الحاج إثم ولا حرج، إذا ابتغى ربحاً بتجارة في أيام الحج، إن كان ذلك لا يشغله عن شيء، من أداء مناسكه كما قدمنا إيضاحه.
فقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} فيه بيان لبعض المنافع المذكورة في آية الحج هذه وهذا نفع دنيوي.
ومن المنافع الدنيوية ما يصيبونه من البدن والذبائح كما يأتي تفصيله إن شاء الله قريباً كقوله في البدن: {لَكُمْ فِيهَا مَنَـٰفِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} على أحد التفسيرين.
وقوله: {فَكُلُواْ مِنْهَ} في الموضعين، وكل ذلك نفع دنيوي، وفي ذلك بيان أيضاً لبعض المنافع المذكورة في آية الحج هذه.
وقد بينت آية البقرة على ما فسرها به جماعة من الصحابة ومن بعدهم، واختاره أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره، ووجه اختياره له، بكثرة الأحاديث الدالة عليه: أن من المنافع المذكورة في آية الحج: غفران ذنوب الحاج، حتى لا يبقى عليه إثم إن كان متقياً ربه في حجه بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهي عنه.
وذلك أنه قال: إن معنى قوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ} أن الحاج يرجع مغفوراً له، ولا يبقى عليه إثم سواه تعجل في يومين، أو تأخر إلى الثالث، ولكن غفران ذنوبه هذا مشروط بتقواه ربه في حجه، كما صرح به في قوله تعالى: {لِمَنِ ٱتَّقَىٰ}: أي وهذا الغفران للذنوب، وحط الآثام إنما هو لخصوص من اتقى.
ومعلوم أن هذه الآية الكريمة فيها أوجه من التفسير غير هذا.
وممن نقل عنهم ابن جرير أن معناها: أنه يغفر للحاج جميع ذنوبه، سواء تعجل في يومين، أو تأخر: علي وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وإبراهيم، وعامر، ومعاوية بن قرة.
ولما ذكر أقوال أهل العلم فيها قال وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: تأويل ذلك: فمن تعجل من أيام منى الثلاثة، فنفر في اليوم الثاني، فلا إثم عليه، يحط الله ذنوبه إن كان قد اتقى في حجه، فاجتنب فيه ما أمر الله باجتنابه، وفعل فيه ما أمر الله بفعله، وأطاعه بأدائه على ما كلفه من حدوده، ومن تأخر إلى اليوم الثالث منهن، فلم ينفر إلى النفر الثاني، حتى نفر من غد النفر الأول، فلا إثم عليه، لتكفير الله ما سلف من آثامه، وإجرامه إن كان اتقى الله في حجه بأدائه بحدوده.
وإنما قلنا إن ذلك أولى تأويلاته: لتظاهر الأخبار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» وأنه قال «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديث والذهب والفضة» وساق ابن جرير رحمه الله بأسانيده أحاديث دالة على ذلك ففي لفظ له أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديث والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة» وفي لفظ له، عن عمر يبلغ به النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «تابعوا بين الحج والعمرة فإن المتابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير الخبث أو خبث الحديد» وفي لفظ له عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قضيت حجك فأنت مثل ما ولدتك أمك» وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكر جميعها الكتاب مما ينبىء عن أن من حج، فقضاه بحدوده على ما أمره الله، فهو خارج من ذنوبه كما قال جل ثناؤه {فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ} الله في حجه فكان في ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يوضح أن معنى قوله جل وعز {فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ} أنه خارج من ذنوبه، محطوطة عنه آثامه، مغفورة أجرامه إلى آخر كلامه الطويل في الموضوع.
وقد بين فيه أنه لا وجه لقول من قال: إن المعنى لا إثم عليه في تعجله ولا إثم عليه في تأخره، لأن التأخر إلى اليوم الثالث، لا يحتمل أن يكون فيه إثم، حتى يقال فيه {فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ} وأن قول من قال: إن سبب النزول أن بعضهم كان يقول: التعجل لا يجوز، وبعضهم يقول: التأخر لا يجوز.
فمعنى الآية: النهي عن تخطئة المتأخر المتعجل كعكسه: أي لا يؤثمن أحدهما الآخر أن هذا القول خطأ، لمخالفته لقول جميع أهل التأويل.
والحاصل: أنه أعني الطبري بين كثيراً من الأدلة على أن معنى الآية: هو ما ذكر من أن الحاج يخرج مغفوراً له، كيوم ولدته أمه، لا إثم عليه، سواء تعجل في يومين، أو تأخر، وقد يظهر للناظر أن ربط نفي الإثم في قوله: {فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ} بالتعجل والتأخر في الآية ربط الجزاء بشرطه يتبادر منه، أن نفي الإثم إنما هو في التعجل والتأخر، ولكن الأدلة التي أقامها أبو جعفر الطبري، على المعنى الذي اختار فيها فيه مقنع، وتشهد لها أحاديث كثيرة، وخير ما يفسر به القرآن بعد القرآن سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم.
فقوله في آية البقرة هذه {فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ} هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم «رجع كيوم ولدته أمه» وقوله: {لِمَنِ ٱتَّقَىٰ} هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق» لأن من لم يرفث، ولم يفسق، هو الذي اتقى.
ومن كلام ابن جرير الطويل الذي أشرنا إليه أنه قال: ما نصه: فإن قال قائل ما الجالب للام في قوله: {لِمَنِ ٱتَّقَىٰ} وما معناها؟
قيل: الجالب لها معنى قوله: {فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ}، لأن في قوله: {فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ} معنى: حططنا ذنوبه، وكفرنا آثامه، فكان في ذلك معنى: جعلنا تكفير الذنوب لمن اتقى الله في حجه، وترك ذكر جعلنا تكفير الذنوب اكتفاء بدلالة قوله: {فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ}، وقد زعم بعض نحويي البصرة أنه كأنه إذا ذكر هذه الرخصة، فقد أخبر عن أمر فقال: {لِمَنِ ٱتَّقَىٰ} أي هذا لمن اتقى، وأنكر بعضهم ذلك من قوله: وقد زعم أن الصفة لا بد لها من شيء تتعلق به، لأنها لا تقوم بنفسها، ولكنها فيما زعم من صلة قول متروك.
فكان معنى الكلام عنده ما قلنا: من أن من تأخر لا إثم عليه لمن اتقى، وقام قوله: {وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ} مقام القول. انتهى محل الغرض من كلام ابن جرير.
وعلى تفسير هذه الآية الكريمة بأن معنى {فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ} في الموضعين: أن الحاج يغفر جميع ذنوبه، فلا يبقى عليه إثم، فغفران جمع ذنوبه هذا الذي دل عليه هذا التفسير من أكبر المنافع المذكورة في قوله: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ} وعليه فقد بينت آية البقرة هذه بعض ما دلت عليه آية الحج، وقد أوضحت السنة هذا البيان بالأحاديث الصحيحة التي ذكرنا كحديث «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» وحديث «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» ومن تلك المنافع التي لم يبينها القرآن حديث «إن الله يباهى بأهل عرفة أهل السماء» الحديث كما تقدم. ومن تلك المنافع التي لم يبينها القرآن تيسر اجتماع المسلمين من أقطار الدنيا في أوقات معينة، في أماكن معينة ليشعروا بالوحدة الإسلامية، ولتمكن استفادة بعضهم من بعض، فيما يهم الجميع من أمور الدنيا والدين، وبدون فريضة الحج، لا يمسكن أن يتسنى لهم ذلك، فهو تشريع عظيم من حكيم خبير، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ}.
قوله: ويذكروا منصوب بحذف النون، لأنه معطوف على المنصوب، بأن المضمرة بعد لام التعليل أعني قوله: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ}.
وإيضاح المعنى: وأذن في الناس بالحج يأتوك مشاة وركباناً، لأجل أن يشهدوا منافع لهم، ولأجل أن يتقربوا إليه بإراقة دماء ما رزقهم من بهيمة الأنعام، مع ذكرهم اسم الله عليها عند النحر والذبح، وظاهر القرآن يدل على أن هذا التقرب بالنحر في هذه الأيام المعلومات، إنما هو الهدايا لا الضحايا، لأن الضحايا لا يحتاج فيها إلى الأذان بالحج، حتى يأتي المضحون مشاة وركباناً، وإنما ذلك في الهدايا على ما يظهر، ومن هنا ذهب مالك، وأصحابه إلى أن الحاج بمنى لا تلزمه الأضحية ولا تسن له، وكل ما يذبح في ذلك المكان والزمان، فهو يجعله هدياً لا أضحية.
وقوله: {وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ} أي على نحر وذبح ما رزقهم {مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ} ليتقربوا إليه بدمائها، لأن ذلك تقوى منهم، فهو يصل إلى ربهم كما في قوله تعالى: {لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ} وقد بين في بعض المواضع أنه لا يجوز الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه منها كقوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ}. وقوله {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ} وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل الحرم المكي منسكاً تراق فيه الدماء تقرباً إلى الله، ويذكر عليها عند تذكيتها اسم الله، ولم يبين في هذه الآية، هل وقع مثل هذا لكل أمة أولاً، ولكنه بين في موضع آخر: أنه جعل مثل هذا لكل أمة من الأمم، وذلك في قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَـٰمِ}.
وإذا علمت أن من حكم الأذان في الناس بالحج، ليأتوا مشاة، وركباناً تقربهم إلى ربهم بدماء الأنعام، ذاكرين عليها اسم الله عند تذكيتها، وأن الآية أقرب إلى إرادة الهدي من إرادة الأضحية، فدونك تفصيل أحكام الهدايا التي دعوا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم منها.
اعلم أولاً: أن الهدي قسمان: هدي واجب، وهدي غير واجب بل تطوع به صاحبه تقرباً لله تعالى، والأيام المعلومات التي ذكر الله عز وجل أنه يذبح فيها، ويذكر عليه اسم الله فيها، للعلماء فيها أقوال كثيرة. والتحقيق إن شاء الله تعالى: أن غير اثنين من تلك الأقوال الكثيرة باطل لا يعول عليه، وأن المعول عليه منها اثنان، لأن القرآن دل على أن الأيام المعلومات: هي أيام النحر، بدليل قوله: {وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ} وذكرهم الله عليها يعني: التسمية عند تذكيتها. فاتضح أنها أيام النحر، والقولان المعول عليهما دون سائر الأقوال الأخرى أحدهما: أنها يوم النحر: ويومان بعده، وعليه فلا يذبح الهدي، ولا الأضحية في اليوم الأخير من أيام منى، الذي هو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة.
قال ابن قدامة في المغني: وهذا القول نص عليه أحمد وقال: وهو عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه الأثرم عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال مالك والثوري، ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: أيام النحر: يوم الأضحى، وثلاثة أيام بعده. وبه قال الحسن، وعطاء، والأوزاعي، والشافعي، وابن المنذر. انتهى محل الغرض منه.
وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية: اختلفوا كم أيام النحر. فقال مالك: ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد بن حنبل. وروي ذلك عن أبي هريرة، وأنس بن مالك، من غير اختلاف عنهما.
وقال الشافعي: أربعة أيام، يوم النحر، وثلاثة بعده، وبه قال الأوزاعي، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم. وروى عنهم أيضاً مثل قول مالك وأحمد. ا هـ محل الغرض منه.
وقال أيضاً: قال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء على أن يوم النحر: يوم أضحى. وأجمعوا على ألا أضحي بعد انسلاخ ذي الحجة، ولا يصح عندي في هذه إلا قولان:
أحدهما: قول مالك والكوفيين.
والآخر: قول الشافعي، والشاميين، وهذان القولان مرويان عن الصحابة، فلا معنى للاشتغال بما خالفهما، لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة، ولا في قول الصحابة، وما خرج عن هذين فمتروك لهما ا هـ.
وقال النووي في شرح المهذب: في وقت ذبح الهدي طريقان: أصحهما وبه قطع العراقيون وغيرهم: أنه يختص بيوم النحر وأيام التشريق، والثاني: فيه وجهان أصحهما: هذا، والثاني: لا يختص بزمان كدماء الجبران. فعلى الصحيح لو أخر الذبح، حتى مضت هذه الأيام، فإن كان الهدي واجباً: لزمه ذبحه، ويكون قضاء، وإن كان تطوعاً فقد فات الهدي.
قال الشافعي والأصحاب: فإن ذبحه كان شاة لحم لا نسكاً. ا هـ محل الغرض منه.
وذكر النووي عن الرافعي: أنه في بعض المواضع من كتابه في باب صفة الحج، جزم بأنه لا يختص بيوم النحر، وأيام التشريق، وأنه ذكر المسألة على الصواب في باب الهدي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: القول بعدم الاختصاص بيوم النحر ويومين أو ثلاثة بعده ظاهر البطلان، لأن عدم الاختصاص يجعل زمن النحر مطلقاً، ليس مقيداً بزمان، وهذا يرده صريح في قوله {وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ} فجعل ظرفه أياماً معلومات يرد الإطلاق في الزمن رداً لا ينبغي أن يختلف فيه كما ترى.
وقال النووي أيضاً في شرح المهذب: اتفق العلماء على أن الأيام المعدودات هي: أيام التشريق، وهي ثلاثة بعد يوم النحر ا هـ.
ولا وجه للخلاف في ذلك، مع أنه يدل عليه قوله تعالى متصلاً به: {فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}، والمراد بذلك: أيام الرمي التي هي أيام التشريق كما ترى، ثم قال النووي: وأما الأيام المعلومات فمذهبنا: أنها العشر الأوائل من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر. انتهى محل الغرض منه. وعزا ابن كثير هذا القول لابن عباس قال: وعلقه عنه البخاري بصيغة الجزم، ونقله ابن كثير أيضاً عن أبي موسى الأشعري، ومجاهد، وقتادة، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، وعطاء الخراساني، وإبراهيم النخعي، قال: وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن أحمد بن حنبل، ثم شرع يذكر الأحاديث الدالة على فضل الأيام العشرة الأول من ذي الحجة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: تفسير الأيام المعلومات في آية الحج هذه: بأنها العشر الأول من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر، لا شك في عدم صحته، وإن قال به من أجلاء العلماء، وبعض أجلاء الصحابة من ذكرنا. والدليل الواضح على بطلانه أن الله بين أنها أيام النحر بقوله: {وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ} وهو ذكره بالتسمية عليها عند ذبحها تقرباً إليه كما لا يخفى، والقول: بأنها العشرة المذكورة، يقتضي أن تكون العشرة كلها أيام نحر، وأنه لا نحر بعدها، وكلا الأمرين باطل كما ترى، لأن النحر في التسعة التي قبل يوم النحر لا يجوز والنحر في اليومين، بعده جائز. وكذلك الثالث عند من ذكرنا، فبطلان هذا القول واضح كما ترى. ثم قال النووي متصلاً بكلامه الأول، وقال مالك: هي ثلاثة أيام: يوم النحر، ويومان بعده فالحادي عشر، والثاني عشر عنده من المعلومات، والمعدودات.
وقال أبو حنيفة المعلومات: ثلاثة أيام: يوم عرفة والنحر والحادي عشر. وقال علي رضي الله عنه: المعلومات أربعة: يوم عرفة والنحر ويومان بعده.
وفائدة الخلاف: أن عندنا يجوز ذبح الهدايا والضحايا في أيام التشريق كلها، وعند مالك، لا يجوز في اليوم الثالث. هذا كلام صاحب البيان انتهى من النووي. وقد سكت على كلام صاحب البيان: وهو باطل بطلاناً واضحاً، لأن القول بأن الأيام المعلومات هي العشرة الأول، لا يدل على جواز الذبح فيما بعد يوم النحر لأنه آخرها، وقد يدل على جواز الذبح قبل يوم النحر في جميع التسعة الأول، لأن القرآن دل على أن الأيام المعلومات، هي ظرف الذبح كما بينا مراراً فإن كانت هي العشرة كانت العشرة هي ظرف الذبح. فلا يجوز فيما قبلها ولا ما بعدها، ولكنه يجوز في جميعها، وبطلان هذا واضح كما ترى، ثم قال النووي متصلاً بكلامه السابق.
وقال العبدري: فائدة وصفه بأنه معلوم جواز النحر فيه، وفائدة وصفه بأنه معدود انقطاع الرمي فيه. وقال: وبمذهبنا قال أحمد، وداود، وقال الإمام أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره: قال أكثر المفسرين الأيام المعلومات: هي عشر ذي الحجة. قال: وإنما قيل لها معلومات للحرص على علمها من أجل أن وقت الحج في آخرها.
قال: وقال مقاتل: المعلومات أيام التشريق. وقال محمد بن كعب: المعلومات والمعدودات واحد.
قلت: وكذا نقل القاضي أبو الطيب والعبدري، وخلائق إجماع العلماء على أن المعدودات: هي أيام التشريق. وأما ما نقله صاحب البيان عن ابن عباس فخلاف المشهور عنه.
فالصحيح المعروف عن ابن عباس: أن المعلومات: أيام العشر كلها كمذهبنا، وهو مما احتج به أصحابنا، كما سأذكره قريباً إن شاء الله. واحتج لأبي حنيفة، ومالك بأن الله تعالى قال: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ} وأراد بذكر اسم الله في الأيام المعلومات: تسمية الله تعالى على الذبح، فينبغي أن يكون ذكر اسم الله تعالى في جميع المعلومات، وعلى قول الشافعي: لا يكون ذلك إلا في يوم واحد منها، وهو يوم النحر. واحتج أصحابنا بما رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس: قال: الأيام المعلومات: أيام العشر، والمعدودات: أيام التشريق. رواه البيهقي بإسناد صحيح.
واستدلوا أيضاً بما استدل به المزني في مختصره: وهو أن الاختلاف الأسماء، يدل على اختلاف المسميات، فلما خولف بين المعدودات والمعلومات في الاسم دل على اختلافهما، وعلى ما يقول المخالفون يتداخلان في بعض الأيام، والجواب عن الآية من وجهين:
أحدهما: جواب المزني: أنه لا يلزم من سياق الآية: وجود الذبح في الأيام المعلومات، بل يكفي وجوده في آخرها وهو يوم النحر.
قال المزني والأصحاب: ونظيره قوله تعالى: {وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُور} وليس هو نوراً في جميعها، بل في بعضها.
الثاني: أن المراد بالذكر في الآية الذكر على الهدايا، ونحن نستحب لمن رأى هدياً أو شيئاً من بهيمة الأنعام في العشر أن يكبر، والله أعلم. انتهى كلام النووي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن مذهب الشافعية في الأيام المعلومات، خلاف الصواب، وإن قال به من قال من أجلاء العلماء، وأن الأجوبة التي أجابوا بها عن الاعتراضات الواردة عليه، لا ينهض شيء منها لما قدمنا من أن الله بين في كتابه، أن الأيام المعلومات هي ظرف الذبح والنحر، فتفسيرها بأنها العشرة الأول، يلزمه جواز الذبح في جميعها، وعدم جوازه بعد غروب شمس اليوم العاشر، وهذا كله باطل كما ترى.
وزعم المزني رحمه الله: أن الآية كقوله {وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُور} ظاهر السقوط، لأن كون القمر كوكباً واحداً والسموات سبعاً طباقاً قرينة دالة على أنه في واحدة منها دون الست الأخرى.
وأما قوله تعالى: {وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ} فظاهره المتبادر منه أن جميع الأيام المعلومات ظرف لذكر الله على الذبائح، وليس هنا قرينة تخصصه ببعضها دون بعض. فلا يجوز التخصيص ببعضها، إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وليس موجوداً هنا وتفسيرهم ذكر اسم الله عليها، بأن معناه: أن من رأى هديا أو شيئاً من بهيمة الأنعام في العشر استحب له أن يكبر، وأن ذلك التكبير هو ذكر الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ظاهر السقوط كما ترى، لأنه مخالف لتفسير عامة المفسرين للآية الكريمة، والتحقيق في تفسيرها ما هو مشهور عند عامة أهل التفسير، وهو ذكر اسم الله عليها عند التذكية، كما دل عليه قوله بعده مقترناً به {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ}. وقوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ}.
وقوله: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ} وتداخل الأيام لا يمنع من مغايرتها، لأن الأعمين من وجه متغايران إجماعاً مع تداخلهما في بعض الصور.
ومما يبطل القول بأن الأيام المعلومات هي العشرة المذكورة أن كونها العشرة المذكورة يستلزم عدم جواز الذبح بعد غروب شمس اليوم العاشر، وهو خلاف الواقع لجواز الذبح في الحادي عشر والثاني عشر، بل والثالث عشر عند الشافعية. والتحقيق إن شاء الله في هذه المسألة: أن الأيام المعدودات: هي أيام التشريق التي هي أيام رمي الجمرات. وحكى عليه غير واحد الإجماع، ويدل عليه قوله تعالى متصلاً به {فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}، وأن الأيام المعلومات: هي: أيام النحر، فيدخل فيها يوم النحر واليومان بعده، والخلاف في الثالث عشر، هل هو منها كما مر تفصيله، وقد رجع بعض أهل العلم أن الثالث عشر منها. ورجح بعضهم: أنه ليس منها.
وقد قال ابن قدامة في المغني في ترجيح القول بأنه ليس منها: ما نصه: ولنا «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل من النسك، فوق ثلاث» وغير جائز أن يكون الذبح مشروعاً في وقت يحرم فيه الأكل، ثم نسخ تحريم الأكل، وبقي وقت الذبح بحاله، ولأن اليوم الرابع: لا يجب فيه الرمي، فلم يجز فيه الذبح كالذي بعده.
ومما رجح به بعضهم أن اليوم الرابع منها: أنه يؤدي فيه بعض المناسك: وهو الرمي، إذا لم يتعجل فهو كسابقيه من أيام التشريق، والعلم عند الله تعالى.
ومما يوضح أن الأيام المعلومات، هي: أيام النحر، سواء قلنا إنها ثلاثة، أو أربعة: أن الله نص على أنها هي التي يذكر فيها اسم الله: أي عند التذكية، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، كما قدمنا إيضاحه.
وإذا عرفت كلام أهل العلم في الأيام المعلومات، التي هي زمن الذبح.
فاعلم: أن العلماء اختلفوا في ليالها، هل يجوز فيها الذبح؟ فذهب مالك، وأصحابه: إلى أنه لا يجوز ذبح النسك ليلاً، فإن ذبحه ليلاً لم يجز، وتصير شاة لحم لا نسك، وهو رواية عن أحمد، وهي ظاهر كلام الخرقي. وذهب الشافعي، وأصحابه: إلى جواز الذبح ليلاً قال النووي: وبه قال أبو حنيفة، وإسحاق، وأبو ثور والجمهور وهو الأصح عن أحمد.
وحجة من قال لا يجوز الذبح ليلاً: أن الله خصصه بلفظ الأيام في قوله {فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ} قالوا: وذكر اليوم يدل على أن الليل ليس كذلك.
وحجة من أجازه: أن الأيام تطلق لغة على ما يشمل الليالي، وتخصيصه بالأيام أحوط، لمطابقة لفظ القرآن والعلم عند الله تعالى.
وإذا علمت وقت نحر الهدي وأن الهدي نوعان: واجب، وغير واجب، وهو هدي التطوع، فهذه تفاصيل أحكام كل منهما.
أما الهدي الواجب فهو بالتقسيم الأول نوعان.
أحدهما: هدي واجب بالنذر، وسيأتي الكلام عليه، إن شاء الله في الكلام على قوله تعالى {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ}. وهدي واجب بغير النذر، وهو أيضاً ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: الهدي المنصوص عليه.
والثاني: الهدي المسكوت عنه، ولكن العلماء قاسوه على الهدي المنصوص عليه.
أما المنصوص عليه فهو أربعة أقسام:
الأول: هدي التمتع، ويدخل فيه القران، لأن الصحابة رضي الله عنهم جاء عنهم التصريح، بأن اسم التمتع في الآية، صادق بالقران، كما قدمناه واضحاً عن ابن عمر، وعمران بن حصين، وغيرهما، والصحابة هم أعلم الناس بلغة العرب وبدلالة القرآن.
وهدي التمتع المذكور منصوص في قوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ}.
الثاني: دم الإحصار المنصوص عليه في قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ}.
الثالث: دم جزاء الصيد المنصوص عليه بقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ}.
الرابع: دم فدية الأذى المذكور في قوله: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}، وهذه الدماء الأربعة اثنان منها على التخيير، وهما: دم الفدية في الأذى المذكور في قوله: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} كما قدمنا إيضاحه. والثاني: جزاء الصيد فهو على التخيير أيضاً كما قدمنا إيضاحه مستوفى في الكلام على قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَـٰكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَام}.
وقد أوضحنا الكلام على التخيير فيهما غاية الإيضاح بما أغنى عن إعادته هنا، وواحد من الدماء الأربعة المذكورة على الترتيب إجماعاً، وهو دم التمتع الشامل للقران، لأن الله بين أنه على الترتيب بقوله: {فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} ثم قال مبيناً الترتيب: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}.
والرابع: من الدماء المذكورة اختلف فيه فمن قال: له بدل عند العجز عنه قال: هو على الترتيب، ومن قال: لا بدل له فالأمر على قوله واضح، لأنه ليس هناك تعدد، يقتضي الترتيب أو عدمه، وهذا القسم هو دم الإحصار وقد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة البقرة في الكلام على قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ}.
والحاصل: أن ثلاثة من الدماء الأربعة المذكورة، قد قدمنا الكلام على كل واحد منها، بغاية الإيضاح، والاستيفاء فدم الفدية قدمناه في مبحث آية الحج التي هي: {وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ}. في جملة مسائل الحج، التي ذكرنا في الكلام عليها.
ودم جزاء الصيد قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في المائدة في الكلام على قوله تعالى: {هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَـٰكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَام}.
ودم الإحصار قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في البقرة، في الكلام على قوله {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ}.
وأما هدي التمتع، فلم يتقدم لنا فيه إيضاح، وسنبينه الآن.
أما التمتع بالعمرة فمعلوم: أن كل من اعتمر في أشهر الحج، ثم حل من عمرته، ثم حج من عامه، ولم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أنه متمتع.
وقد بينا أن الصحابة بينوا أنه يشمل القران من حيث إن كلاً منهما عمرة في أشهر الحج مع الحج، وإن كان بين حقيقتيهما اختلاف كما هو واضح.
اعلم أولاً: أن العلماء اشترطوا لوجوب هدي التمتع شروطاً.
منها: ما هو مجمع عليه.
ومنها: ما هو مختلف فيه.
الأول: أن يعتمر في أشهر الحج فإن اعتمر في غير أشهر الحج، لم يلزمه دم، لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج، فلم يلزمه دم كالمفرد، ولا يخفى سقوط قول طاوس: إنه متمتع، كما لا يخفى سقوط قول الحسن: إن من اعتمر بعد النحر فهو متمتع.
وقال ابن المنذر: لا نعلم أحداً قال بواحد من هذين القولين.
قاله في المغني فإن أحرم بها في غير أشهر الحج، ولكنه أتى بأفعالها في أشهر الحج، ففي ذلك للعلماء قولان:
أحدهما: يجب عليه الدم نظراً إلى أفعال العمرة الواقعة في أشهر الحج.
والثاني: لا يجب عليه دم نظراً إلى وقوع الإحرام، قبل أشهر الحج، وهو نسك لا تتم العمرة بدونه، ولكليهما وجه من النظر، ولا نص فيهما، وممن قال بأنه لا دم عليه، وأنه غير متمتع: الإمام أحمد.
قال في المغني: ونقل معنى ذلك، عن جابر، وأبي عياض، وهو قول إسحاق، وأحد قولي الشافعي، وقال طاوس عمرته: في الشهر الذي يدخل فيه الحرم. وقال الحسن، والحكم، وابن شبرمة، والثوري، والشافعي في أحد قوليه: عمرته في الشهر الذي يطوف فيه. وقال عطاء: عمرته في الشهر الذي يحل فيه، وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة: إن طاف للعمرة أربعة أشواط، قبل أشهر الحج فليس بمتمتع، وإن طاف الأربعة في أشهر الحج، فهو متمتع. لأن العمرة صحت في أشهر الحج، بدليل أنه لو وطىء أفسدها، فأشبه إذا أحرم بها في أشهر الحج. قاله في المغني والله تعالى أعلم.
الشرط الثاني: أن يحج في نفس تلك السنة، التي اعتمر في أشهر الحج منها. أما إذا كان حجه في سنة أخرى: فلا دم عليه.
قال صاحب المهذب: وذلك لما روى سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج فإذا لم يحجوا من عامهم ذلك، لم يهدوا، قال: ولأن الدم إنما يجب لترك الإحرام بالحج من الميقات وهذا لم يترك الإحرام بالحج من الميقات، فإنه إن أقام بمكة صارت مكة ميقاته، وإن رجع إلى بلده، وعاد فقد أحرم من الميقات. وقال النووي في الأثر المذكور: المروي عن ابن المسيب حسن رواه البيهقي بإسناد حسن، ولا يخفى سقوط قول الحسن: إنه متمتع وإن لم يحج من عامه.
الشرط الثالث: أن لا يعود إلى بلده، أو ما يماثله في المسافة. وقال بعضهم: يكفي في هذا الشرط، أن يرجع إلى ميقاته فيحرم بالحج منه، وبعضهم يكتفي بمسافة القصر بعد العمرة، ثم يحرم للحج من مسافة القصر.
والحاصل: أن الأئمة الأربعة متفقون على أن السفر بعد العمرة، والإحرام بالحج من منتهى ذلك السفر مسقط لدم التمتع، إلا أنهم مختلفون في قدر المسافة، فمنهم من يقول: لا بد أن يرجع بعد العمرة في أشهر الحج، إلى المحل الذي جاء منه، ثم ينشىء سفراً للحج ويحرم من الميقات. وبعضهم يقول: يكفيه أن يرجع إلى بلده أو يسافر مسافة مساوية لمسافة بلده، وبعضهم يكفي عنده سفر مسافة القصر، وبعضهم يقول: يكفيه أن يرجع لإحرام الحج إلى ميقاته، وقد قدمنا أقوالهم مفصلة، ودليلهم في ذلك ما فهموه من قوله تعالى {ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} قالوا: لا فرق بين حاضري المسجد الحرام، وبين غيرهم، إلا أن غيرهم ترفهوا بإسقاط أحد السفرين الذي هو السفر للحج، بعد السفر للعمرة، وإن سافر للحج بعد العمرة زال السبب، فسقط الدم بزواله، وعضدوا ذلك بآثار رووها، عن عمر وابنه رضي الله عنهما، وقد قدمنا قولي العلماء في الشيء الذي ترجع إليه الإشارة في قوله: {ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} وناقشنا أدلتهما، وبينا أنه على القول الذي يراه البخاري رحمه الله، ومن وافقه: أن الإشارة راجعة إلى نفس التمتع وأن أهل مكة لا متعة لهم أصلاً، فلا دليل في الآية على أقوال الأئمة التي ذكرنا، وعلى القول الآخر أن الإشارة راجعة إلى حكم التمتع وهو لزوم ما استيسر من الهدي، والصوم عند العجز عنه لا نفس التمتع فاستدلال الأئمة بها على الأقوال المذكورة له وجه من النظر كما ترى.
والحاصل:
أن استدلالهم بها إنما يصح على أحد التفسيرين في مرجع الإشارة في الآية، وقد قدمنا الكلام على ذلك مستوفى.
والأحوط عندي: إراقة دم التمتع، ولو سافر لعدم صراحة دلالة الآية، في إسقاطه، وللاحتمال الآخر الذي تمسك به البخاري والحنفية كما تقدم إيضاحه. وممن قال بذلك الحسن واختاره ابن المنذر لعموم الآية قاله في المغني. والعلم عند الله تعالى.
الشرط الرابع: أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام، فأما إذا كان من حاضري المسجد الحرام فلا دم عليه لقوله تعالى: {ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ}.
وأظهر الأقوال أهل العلم عندي في المراد بحاضري المسجد الحرام: أنهم أهل الحرم ومن بينه وبينه مسافة لا تقصر فيها الصلاة، لأن المسجد الحرام، قد يطلق كثيراً ويراد به الحرم كله، ومن على مسافة دون مسافة القصر، فهو كالحاضر، ولذا تسمى صلاته إن سافر من الحرم، إلى تلك المسافة صلاة حاضر، فلا يقصرها لا صلاة مسافر، حتى يشرع له قصرها فظهر دخوله في اسم حاضري المسجد الحرام، بناء على أن المراد به جميع الحرم، وهو الأظهر خلافاً لمن خصه بمكة، ومن خصه بالحرم، ومن عممه في كل ما دون الميقات، وقد علمت أن هذا الشرط إنما يتمشى على أحد القولين في الآية.
الشرط الخامس: ما قال به بعض أهل العلم: من أنه يشترط نية التمتع بالحج إلى العمرة عند الإحرام بالعمرة. قال: لأنه جمع بين عبادتين في وقت إحداهما، فافتقر إلى نية الجمع كالجمع بين الصلاتين، وعلى الاشتراط المذكور، فمحل نية التمتع هو وقت الإحرام بالعمرة.
وقال بعضهم: له نية التمتع، ما لم يفرغ من أعمال العمرة كالخلاف في وقت نية الجمع بين الصلاتين فقال بعضهم: ينوي عند ابتداء الأولى منهما، وقال بعضهم: له نيته ما لم يفرغ من الصلاة الأولى، هكذا قاله بعض أهل العلم، وعليه فلو اعتمر في أشهر الحج، وهو لا ينوي الحج في تلك السنة، ثم بعد الفراغ من العمرة بدا له أن يحج في تلك السنة، فلا دم تمتع عليه، واشتراط النية المذكور عزاه صاحب الإنصاف للقاضي، وأكثر الحنابلة، وحكي عدم الاشتراط بقيل ثم قال: واختاره المصنف، والشارح، وقدمه في المحرر والفائق، والظاهر سقوط هذا الشرط، وأنه متى حج بعد أن اعتمر في أشهر الحج من تلك السنة: فعليه الهدي، لظاهر عموم الآية الكريمة، فتخصيصه بالنية تخصيص القرآن، بلا دليل يجب الرجوع إليه: ويؤيده أنهم يقولون: إن سبب وجوب الدم: أنه ترفه بإسقاط سفر الحج، وتلك العلة موجودة في هذه الصورة، والعلم عند الله تعالى:
الشرط السادس: هو ما اشترطه بعض أهل العلم من كون الحج والعمرة المذكورين عن شخص واحد، كأن يعتمر بنفسه ويحج بنفسه، وكل ذلك عن نفسه لا عن غيره أو يحج شخص، ويعتمر عن شخص واحد. أما إذا حج عن شخص، واعتمر عن شخص آخر، أو اعتمر عن شخص، وحج عن نفسه، أو اعتمر عن نفسه، وحج عن شخص آخر، فهل يلزم دم التمتع نظراً إلى أن مؤدي النسكين شخص واحد أو لا يلزم، نظراً إلى أن الحج وقع عن شخص والعمرة وقعت عن شخص آخر فهو كما لو فعله شخصان فحج أحدهما، واعتمر الآخر، وإذن فلا تمتع على أحدهما، وكلاهما له وجه من النظر، ومذهب الشافعي الذي عليه جمهور الشافعية: هو عدم اشتراط هذا الشرط نظراً إلى اتحاد فاعل النسك، ومقابله المرجوح عدم وجوب الدم نظراً إلى أن الحج عن شخص، والعمرة عن آخر، ومذهب مالك في هذا قريب من مذهب الشافعي في وجود الخلاف. وترجيح عدم الاشتراط.
قال الشيخ المواق في شرح قول خليل في مختصره، في عده شروط وجوب دم التمتع، وفي شرط كونهما عن واحد تردد ما نصه: ذكر ابن شاس من الشروط التي يكون بها متمتعاً: أن يقع النسكان عن شخص واحد: ابن عرفة لا أعرف هذا، بل في كتاب محمد من اعتمر عن نفسه، ثم حج من عامه عن غيره فتمتع. وقال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل المذكور ما نصه: أشار بالتردد لتردد المتأخرين في النقل، فالذي نقله صاحب النوادر وابن يونس، واللخمي عدم اشتراط ذلك. وقال ابن الحاجب: الأشهر اشتراط كونهما عن واحد، وحكى ابن شاس في ذلك قولين قال في التوضيح: لم يعزهما ولم يعين المشهور منهما، ولم يحك صاحب النوادر وابن يونس، إلا ما وقع في الموازية أنه تمتع. انتهى. وقال في مناسكه بعد أن ذكر كلام ابن الحاجب خليل: ولم أر في ابن يونس وغيره، إلا القول بوجوب الدم. وقال ابن عرفة: وشرط ابن شاش كونهما عن واحد، ونقل ابن حاجب: لا أعرفه، بل في كتاب محمد من اعتمر عن نفسه، ثم حج من عامه عن غيره متمتع فما ذكره المصنف من التردد صحيح. لكن المعروف: عدم اشتراط ذلك وعادته أن يشير بالتردد لما ليس فيه ترجيح.
وقال ابن جماعة: الشافعي في منسكه الكبير: لا يشترط أن يقع النسكان عن واحد عند جمهور الشافعية، وهو قول الحنفية ورواية ابن المواز، عن مالك، وعلى ذلك جرى جماعة من أئمة المالكية منهم الباجي، والطرطوشي، ومن الشافعية من شرط ذلك. وقال ابن الحاجب: إنه الأشهر من مذهب مالك، وتبع ابن الحاجب في اشتراط ذلك صاحب الجواهر، وقوله: إنه الأشهر غير مسلم، فإن القرافي في الذخيرة ذكر ما سوى هذا الشرط، وقال: إن صاحب الجواهر زاد هذا الشرط، ولم يعزه لغيره. انتهى كلام الحطاب، والظاهر من النقول التي نقلها أن عدم اشتراط كون النسكين عن واحد: هو المعروف في مذهب مالك، وهوكذلك، ومذهب أحمد قريب من مذهب مالك والشافعي، ففيه خلاف أيضاً، هل يشترط كون النسكين عن واحد أو لا يشترط؟ وعدم اشتراطه عليه الأكثر من الحنابلة، وعزاه في الإنصاف لبعض الأصحاب قال منهم المنصف، والمجد، قاله الزركشي، واقتصر عليه في الفروع وعزا مقابله لصاحب التلخيص، وقد قدمنا في كلام ابن جماعة الشافعي: أن عدم اشتراط كون النسكين، عن شخص واحد هو مذهب الحنفية أيضاً، فظهر أن المشهور في المذاهب الأربعة عدم اشتراط هذا الشرط، وقول من اشترطه له وجه من النظر. والعلم عند الله تعالى.
الشرط السادس: أن يحل من العمرة قبل إحرامه بالحج، فإن أحرم قبل حله منها صار قارناً، كما وقع لعائشة رضي الله عنها في حجة الوداع على التحقيق كما تقدم إيضاحه.
الشرط السابع: هو ما اشترطه بعض أهل العلم من كونه لا يعد متمتعاً، حتى يحرم بالعمرة من الميقات، فإن أحرم بها من دون الميقات صار غير متمتع، لأنه كأنه من حاضري المسجد الحرام، ولا يخفى سقوط هذا الشرط.
قال صاحب الإنصاف: لما ذكر هذا الشرط ذكره أبو الفرج والحلواني وجزم به ابن عقيل في التذكرة، وقدمه في الفروع. وقال القاضي وابن عقيل: وجزم به في المستوعب والتلخيص والرعاية وغيرهم: إن بقي بينه، وبين مكة مسافة قصر، فأحرم منه لم يلزمه دم المتعة لأنه من حاضري المسجد الحرام، بل دم مجاوزة الميقات. واختار المصنف والشارح وغيرهما، أنه إذا أحرم بالعمرة من دون الميقات: يلزمه دمان دم المتعة، ودم الإحرام من دون الميقات، لأنه لم يقم ولم ينوها به، وليس بساكن وردوا ما قاله القاضي. انتهى منه وهذا الأخير هو الظاهر. والله تعالى أعلم.
وقال صاحب الإنصاف بعد كلامه: هذا متصلاً به.
قال المصنف والشارح: ولو أحرم الآفاقي بعمرة في غير أشهر الحج ثم أقام بمكة واعتمر من التنعيم، فهو متمتع نص عليه، وفي نص على هذه الصورة تنبيه على إيجاب الدم في الصورة الأولى بطريق الأولى ا هـ منه. ولا ينبغي أن يختلف في واحدة منهما لدخولهما صريحاً في عموم آية التمتع، كما ترى. والعلم عند الله تعالى.
واعلم أن من يعتد به من أهل العلم: أجمعوا على أن القارن يلزمه ما يلزم المتمتع من الهدي، والصوم عند العجز عن الهدي، وقد قدمنا الروايات الصحيحة الثابتة عن بعض أجلاء الصحابة، بأن القران داخل في اسم التمتع، وعلى هذا فهو داخل في عموم الآية، وكلا النسكين فيه تمتع لغة، لأن التمتع من المتاع أو المتعة، وهو الانتفاع أو النفع ومنه قوله: وقفت على قبر غريب بقفرة متاع قليل من حبيب مفارق

جعل استئناسه بقبره متاعاً لانتفاعه بذلك الاستئناس، وكل من القارن والمتمتع، انتفع بإسقاط أحد السفرين وانتفع القارن عند الجمهور باندراج أعمال العمرة في الحج.
وقال جماعة من أهل العلم: إن القران لم يدخل في عموم الآية بحسب مدلول لفظها، وهو الأظهر، لأن الغاية في قوله {فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ} تدل على ذلك، والذين قالوا هذا قالوا: هو ملحق به في حكمه لأنه في معناه. وعلى أن القارن يلزمه ما يلزم المتمتع عامة العلماء منهم: الأئمة الأربعة، إلا من شذ شذوذاً لا عبرة به. وليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلاف له وجه من النظر

قال في الإنصاف: وسأله يعني الإمام أحمد بن مشيش القارن يجب عليه الدم وجوباً؟ فقال: كيف يجب عليه وجوباً، وإنما شبهوه بالمتمتع قال في الفروع، فتتوجه منه رواية لا يلزمه دم. ا هـ منه.
ولا يخفى أن مذهب أحمد مخالف لما زعموه رواية، وأن القارن كالمتمتع في الحكم. وقال ابن قدامة في المغني: ولا نعلم في وجوب الدم على القارن خلافاً إلا ما حكي عن داود أنه لا دم عليه. وروي ذلك عن طاوس. وحكى ابن المنذر: أن ابن داود لما دخل مكة، سئل عن القارن هل يجب عليه دم؟ فقال: لا، فجر برجله، وهذا يدل على شهرة الأمر بينهم. ا هـ منه. وذكر النووي: أن العبدري حكى هذا القول، عن الحسن بن علي بن سريج. والتحقيق خلافه، وأنه يلزمه ما يلزم المتمتع.
ومن النصوص الدالة على ذلك. حديث عائشة المتفق عليه، وفيه «فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ فقيل: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه» متفق عليه.
قال المجد في المنتقى: وفيه دليل على الأكل من دم القران، لأن عائشة كانت قارنة. ا هـ منه. وهو يدل على أن القارن عليه دم. والله أعلم.
ومن أصرح الأدلة في ذلك: ما رواه مسلم في صحيحه، عن جابر بلفظ «ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرة يوم النحر» ومعلوم أنها كانت قارنة، على التحقيق فتلك البقرة دم قران، وذلك دليل على لزومه، وما ذكره ابن قدامة في المغني، من أنه روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من قرن بين حجه وعمرته فليهرق دماً» لم أعرف له أصلاً، والظاهر أنه لا يصح مرفوعاً. والله تعالى أعلم.
وأكثر أهل العلم: على أن القارن إن كان أهله حاضري المسجد الحرام، أنه لا دم عليه، لأنه متمتع أو في حكم المتمتع، والله يقول {ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ}.
وقال ابن قدامة في المغني، وهو قول جمهور العلماء: وقال ابن الماجشون: عليه دم، لأن الله تعالى أسقط الدم عن المتمتع، وهذا ليس متمتعاً، وليس هذا بصحيح، فإننا ذكرنا أنه متمتع، وإن لم يكن متمتعاً، فهو مفرع عليه، ووجوب الدم على القارن، إنما كان بمعنى النص على التمتع، فلا يجوز أن يخالف الفرع أصله. انتهى منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: حاصل هذا الكلام: أن القارن كالمتمتع في أن كلا منهما إن كان من حاضري المسجد الحرام، لا دم عليه، وذكر صاحب المغني: أن ابن الماجشون خالف في ذلك، وقال: عليه دم، وله وجه قوي من النظر على قول الجمهور: أنه يكفيه طواف واحد وسعي واحد لحجه، وعمرته. فقد انتفع بإسقاط عمل أحد النسكين، ولزوم الدم في مقابل ذلك، له وجه من النظر كما ترى.
وقال النووي في شرح المهذب: قال أصحابنا: ولا يجب على حاضري المسجد الحرام دم القران، كما لا يجب على المتمتع، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور. وحكى الحناطي والرافعي وجهاً: أنه يلزمه. انتهى محل الغرض منه. وهذا الوجه عند الشافعية هو قول ابن الماجشون من المالكية، كما ذكره صاحب المغني، ومذهب مالك، وأصحابه، كمذهب الشافعي وأحمد، في أن القارن إن كان من حاضري المسجد الحرام، لا دم عليه، وحاضروا المسجد عند مالك وأصحابه أهل مكة، وذي طوى.
قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره: وشرط دمهما عدم إقامته بمكة أو ذي طوى الخ ما نصه: وذو طوى هو ما بين الثنية التي يهبط منها إلى مقبرة مكة المسماة بالمعلاة، والثنية الأخرى التي إلى جهة الزاهر وتسمى عند أهل مكة بين الحجونين ا هـ. محل الغرض منه.
وقد قدمنا أن مذهب أبي حنيفة، وأصحابه: أن أهل مكة ونحوهم ممن دون الميقات: لا تشرع لهم العمرة أصلاً فلا تمتع لهم ولا قران، بناء على رجوع الإشارة في قوله {ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} لنفس التمتع كما تقدم إيضاحه، مع أنهم يقولون: إنهم إن تمتعوا أو قرنوا أساؤوا وانعقد إحرامهم، ولزمهم دم الجبر، وهذا الدم عندهم دم جناية لا يأكل صاحبه منه، بخلاف دم التمتع والقران من غير حاضري المسجد الحرام، فهو عندهم دم نسك، يجوز لصاحبه الأكل منه، ونقل بعض الحنفية، عن ابن عمر وابن عباس، وابن الزبير: أن أهل مكة لا متعة لهم. وقد قدمنا أنه رأي البخاري.
واعلم: أنا قدمنا أن من شروط وجوب دم التمتع: ألا يرجع بعد العمرة إلى بلده أو مسافة مثله، أو يسافر مسافة القصر على ما بينا هناك من أقوال الأئمة في ذلك، وأردنا أن نذكر هنا حكم القارن إذا أتى بأفعال العمرة، ثم رجع إلى بلده، ثم حج من عامه، أو سافر مسافة قصر، ثم أحرم بالحج من الميقات، هل يسقط عنه الدم بذلك كالتمتع أولاً. ومذهب أبي حنيفة: أن الدم لا يسقط عنه برجوعه إلى بلده بعد إتيانه بأفعال العمرة، إن رجع، وحج لأنه لم يزل قارناً.
وقال صاحب الإنصاف في الكلام على القارن: لا يلزم الدم حاضري المسجد الحرام، كما قال المصنف: وقاله في الفروع وغيره، وقال: والقياس أنه لا يلزم من سافر سفر قصر أو إلى الميقات، إن قلنا به، كظاهر مذهب الشافعي، وكلامهم يقتضي لزومه، لأن اسم القران باق بعد السفر، بخلاف التمتع ا هـ. منه.
وحاصل كلامه: أن ظاهر كلام الحنابلة: أن السفر بعد وصول مكة، لا يسقط دم القران، وأن مقتضى القياس أنه يسقطه إلحاقاً له بالتمتع، وقال النووي في شرح المهذب: لو دخل القارن مكة قبل يوم عرفة، ثم عاد إلى الميقات، فالمذهب: أنه لا دم عليه في الإملاء، وقطع به كثيرون أو الأكثرون، وصححه الحناطي وآخرون. وقال إمام الحرمين: إن قلنا المتمتع إذا أحرم بالحج ثم عاد إليه لا يسقط عنه الدم فهنا أولى، وإلا فوجهان: والفرق أن اسم القران، ولا يزول بالعود، بخلاف التمتع، ولو أحرم بالعمرة من الميقات، ودخل مكة، ثم رجع إلى الميقات قبل طوافه فأحرم بالحج، فهو قارن.
قال الدارمي في آخر باب الفوات: إن قلنا إذا أحرم بهما جميعاً، ثم رجع سقط الدم فهنا أولى، وإلا فوجهان. انتهى منه.
وظاهر كلام خليل في مختصره المالكي: أن السفر لا يسقط دم القران والحاصل: أنا بينا اختلاف أهل العلم في السفر بعد أفعال العمرة أو بعد دخول مكة، هل يسقط دم القران أو لا؟ وبينا قول صاحب الإنصاف: أن سقوطه بالسفر، هو مقتضى قياسه على التمتع.
وأقرب الأقوال عندي للصواب: أن دم القران لا يسقطه السفر، وقد بينا أن الأحوط عندنا: أن دم التمتع لا يسقطه السفر، لتصريح القران بوجوب الهدي على المتمتع، وعدم صراحة الآية في سقوطه بالسفر. وقد ذكرنا أن لزوم الدم للقارن الذي هو من حاضري المسجد الحرام له وجه من النظر، لأنه اكتفى عن النسكين بعمل أحدهما على قول الجمهور، كما تقدم.
وأظهر قولي أهل العلم عندنا: أن المكي إذا أراد الإحرام بالقران، أحرم به من مكة، لأنه يخرج في حجه إلى عرفة، فيجمع بين الحل والحرم، خلافاً لمن قال: يلزم المكي القارن إنشاء إحرامه من أدنى الحل وكذلك الآفاقي، إذا كان في مكة، وأراد أن يحرم قارناً، فالأظهر أنه يحرم بالقران من مكة خلافاً لمن قال: يحرم به من أدنى الحل لما بينا. والعلم عند الله تعالى.
وإذا عرفت الشروط التي بها يجب دم التمتع والقران، فاعلم أنا أردنا هنا أن نبين ما يجزىء فيه ووقت ذبحه، أما ما يجزىء فيه، فالتحقيق أنه ما تيسر من الهدي، وأقله شاة تجزىء ضحية، وأعلاه: بدنة وأوسطه: بقرة، والتحقيق: أن سبع بدنة أو بقرة يكفي، فلو اشترك سبعة من المتمتعين في بدنة أو بقرة وذبحوها أجزأت عنهم، للنصوص الصحيحة الدالة على ذلك، كحديث جابر الثابت في الصحيح قال «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة» وفي لفظ لمسلم «قال اشتركنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة» فقال رجل لجابر: أيشترك في البقرة ما يشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البدن.
قال مسلم في صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا مالك ح وحدثنا يحيى بن يحيى. واللفظ له قال: قرأت على مالك عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال «نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» وفي لفظ لمسلم عن جابر قال «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة» وفي لفظ له عنه أيضاً قال «حجحنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحرنا البعير عن سبعة والبقرة عن سبعة» وفي لفظ له عنه أيضاً قال «اشتركنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة» فقال رجل لجابر: أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور؟ قال: ما هي إلا من البدن، وحضر جابر الحديبية قال «نحرنا يومئذ سبعين بدنة اشتركنا كل سبعة في بدنة» وفي لفظ له عنه، وهو يحدث عن حجة النَّبي صلى الله عليه وسلم قال «فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية» وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث، وفي لفظ له عنه أيضاً قال «كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذبح البقرة، عن سبعة نشترك فيها» ا هـ. محل الغرض من صحيح مسلم.
وهذه الروايات الصحيحة تدل: على أن دم التمتع يكفي فيه الاشتراك بالسبع في بدنة، أو بقرة، ويدل على أن ذلك داخل فيما استيسر من الهدي. أما الشاة والبدنة كاملة فإجزاء كل منهما لا إشكال فيه. وقال البخاري في صحيحه: حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا النضر، أخبرنا شعبة، حدثنا أبو جمرة قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما، عن المتعة؟ فأمرني بها، وسألته عن الهدي فقال: فيها جزور أو بقرة، أو شاة، أو شرك في دم. الحديث. فقوله: أو شرك في دم: يعني به ما بينته الروايات المذكورة الصحيحة. عن جابر: أن البدنة والبقرة كلتاهما تكفي عن سبعة من المتمتعين، وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث: وهذا موافق لما رواه مسلم عن جابر قال «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج فأمرنا أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة» ثم قال وبهذا قال الشافعي والجمهور، سواء كان الهدي تطوعاً أو واجباً، وسواء كانوا كلهم متقربين بذلك، أو كان بعضهم يريد التقرب، وبعضهم يريد اللحم. وعن أبي حنيفة: يشترط في الاشتراك أن يكونوا كلهم متقربين بالهدي، وعن زفر مثله بزيادة: أن تكون أسبابهم واحدة، وعن داود وبعض المالكية: يجوز في هدي التطوع، دون الواجب، وعن مالك: لا يجوز مطلقاً ا هـ منه.
والتحقيق أن سبع البدنة وسبع البقرة كل واحد منهما يقوم مقام الشاة، ويدخل في عموم {فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} والروايات الصحيحة التي ذكرنا حجة على كل من خالف ذلك كمالك، ومن وافقه وما احتج به إسماعيل القاضي لمالك، من أن الاشتراك في الهدي، لا يصح من أن حديث جابر، إنما كان بالحديبية، حيث كانوا محصرين. وأن حديث ابن عباس خالف فيه أبو جمرة عنه ثقات أصحابه، فرووا عنه أن ما استيسر من الهدي: شاة ثم ساق ذلك عنهم بأسانيد صحيحة مردودة. أما دعوى أن حديث جابر إنما كان بالحديبية، حيث كانوا محصرين، فهي مردودة، بما ثبت في الروايات الصحيحة في مسلم التي حجه، ولا شك أن المراد بحجه حجة الوداع، لأنه لم يحج بعد الهجرة حجة غيرها. وفي بعض الروايات الصحيحة، عند مسلم التي سقناها بألفاظها آنفاً التصريح بوقوع الاشتراك في الحجة المذكورة، كما هو واضح من ألفاظ مسلم التي ذكرناها. وأما دعوى مخالفة أبي جمرة في ذكره الاشتراك المذكور ثقات أصحاب ابن عباس، فهي مردودة أيضاً، بما ذكره ابن حجر في الفتح، حيث قال: وليس بين رواية أبي جمرة، ورواية غيره منافاة، لأنه زاد عليهم ذكر الاشتراك، ووافقهم على ذكر الشاة، وإنما أراد ابن عباس بالاقتصار على الشاة الرد على من زعم اختصاص الهدي بالإبل والبقر. وذلك واضح فيما سنذكره بعد هذا، إلى أن قال: وبهذا تجتمع الأخبار، وهو أولى من الطعن في رواية من أجمع العلماء، على توثيقه، وهو أبو جمرة الضبعي. وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يرى التشريك، ثم رجع عن ذلك لما بلغته السنة، وذكر ابن حجر رجوع ابن عمر عن ذلك، عن أحمد بسنده من طريق الشعبي، عن ابن عمر.
وأظهر قولي أهل العلم عندي: أن البدنة لا تجزىء عن أكثر من سبعة، وذكر ابن حجر في الفتح، عن سعيد بن المسيب في إحدى الروايتين عنه: أنها تجزىء عن عشرة. قال: وبه قال إسحاق بن راهويه، وابن خزيمة من الشافعية. واحتج لذلك في صحيحه، وقواه واحتج له ابن خزيمة بحديث رافع بن خديج: «أنه صلى الله عليه وسلم قسم فعدل عشراً من الغنم ببعير» الحديث. وهو في الصحيحين.
وأجمعوا على أن الشاة: لا يصح الاشتراك فيها وقوله: أو شاة هو قول جمهور العلماء. ورواه الطبري وابن أبي حاتم بأسانيد صحيحة عنهم، ورويا بإسناد قوي عن القاسم بن محمد، عن عائشة، وابن عمر: أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي: إلا من الإبل والبقر، ووافقهما القاسم، وطائفة. قال إسماعيل القاضي في الأحكام له: أظن أنهم ذهبوا إلى ذلك لقوله تعالى:
{وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَـٰهَا لَكُمْ مِّن شَعَـٰئِرِ ٱللَّهِ} فذهبوا إلى تخصيص ما يقع عليه اسم البدن، قال: ويرد هذا قوله تعالى {هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ} وأجمع المسلمون على أن في الظبي شاة، فوقع عليها اسم هدي.
قلت: قد احتج بذلك ابن عباس، فأخرج الطبري بإسناد صحيح إلى عبد الله بن عبيد بن عمير قال: قال ابن عباس: الهدي شاة. فقيل له في ذلك، فقال: أنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تقرون به ما في الظبي، قالوا: شاة، قال: فإن الله يقول {هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ} ا هـ من فتح الباري.
وقد قدمنا في سورة البقرة: أنه ثبت في الصحيحين، عن عائشة أنها قالت «أهدي صلى الله عليه وسلم مرة غنماً» وهو نص صحيح عنها صريح في تسمية الغنم هدياً كما ترى.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أنه هو الصواب في هدي التمتع، الذي نص الله في كتابه على أنه ما استيسر من الهدي: أنه شاة، أو بدنة، أو بقرة. ويكفي في ذلك سبع البدنة وسبع البقرة، عن المتمتع الواحد، وتكفي البدنة عن سبعة متمتعين لثبوت الروايات الصحيحة بذلك، ولم يقم من كتاب الله، ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم: نص صريح في محل النزاع يقاومها، ورواية جابر: أن البدنة تكفي في الهدي، عن سبعة أخص في محل النزاع من حديث رافع بن خديج «أنه صلى الله عليه وسلم جعل البعير في القسمة يعدل عشراً من الغنم» لأن هذا هو في القسمة، وحديث جابر في خصوص الهدي، والأخص في محل النزاع مقدم على الأعم، والعلم عند الله تعالى.
ومما يوضح ذلك ما ذكره ابن حجر في الفتح في شرح حديث رافع المذكور، وقد أورده البخاري في كتاب الذبائح، عن رافع بن خديج بلفظ قال «كنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فأصبنا إبلاً وغنماً، وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس فعجلوا فنصبوا القدور، فدفع النَّبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأمر بالقدور فأكفئت، ثم قسم فعدل عشراً من الغنم ببعير فند منها بعير» الحديث.
ونص كلام ابن حجر في هذا الحديث، وهذا محمول على أن هذا كان قيمة الغنم إذ ذاك، فلعل الإبل كانت قليلة، أو نفيسة، والغنم كانت كثيرة، أو هزيلة بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه، ولا يخالف ذلك القاعدة في الأضاحي، من أن البعير يجزىء عن سبع شياه، لأن ذلك هو الغالب في قيمة الشاة والبعير المعتدلين. وأما هذه القسمة، فكانت واقعة عين، فيحتمل أن يكون التعديل لما ذكر من نفاسه الإبل، دون الغنم.
وحديث جابر عند مسلم صريح في الحكم حيث قال فيه «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر، كل سبعة منا في بدنة» والبدنة تطلق على الناقة، والبقرة.
وأما حديث ابن عباس «كنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقرة تسعة وفي البدنة عشرة» فحسنه الترمذي وصححه ابن حبان، وعضده بحديث رافع بن خديج هذا. والذي يتحرر في هذا: أن الأصل أن البعير بسبع ما لم يعرض عارض من نفاسة، ونحوها، فيتغير الحكم بحسب ذلك، وبهذا تجتمع الأخبار الواردة في ذلك، ثم الذي يظهر من القسمة المذكورة، أنها وقعت فيما عدا ما طبخ وأريق من الإبل والغنم، التي كانوا غنموها، ويحتمل إن كانت الواقعة تعددت أن تكون القصة التي ذكرها ابن عباس، أتلف فيها اللحم لكونه كان قطع للطبخ، والقصة التي في حديث رافع طبخت الشياه صحاحاً مثلاً، فلما أريق مرقها ضمت إلى الغنم لتقسم، ثم يطبخها من وقعت في سهمه، ولعل هذا هو النكتة في انحطاط قيمة الشياه، عن العادة والله أعلم. انتهى كلام ابن حجر.
وكون اللحم رد ليطبخه من وقع في سهمه مرة أخرى، غير ظاهر عندي والله أعلم.
وحديث رافع المذكور: أخرجه أيضاً مسلم في كتاب: الصيد والذبائح، ولفظ المراد منه عن رافع قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة فأصبنا غنماً وإبلاً فعجل القوم فأغلوا بها القدور فأمر بها فكفئت، ثم عدل عشراً من الغنم بجزور».
والحاصل: أن أخص شيء في محل النزاع وأصرحه فيه، وأوضحه فيه حديث جابر، الذي ذكرنا روايته عند مسلم. أما حديث رافع، فهو في قسمة الغنيمة لا في الهدي. وأما حديث ابن عباس، فظاهره أنه في الضحايا، وعلى كل حال: فحديث جابر أصح منه، فالذي يظهر أن المتمتع يكفيه سبع بدنة، وأن النص الصريح الوارد بذلك ينبغي تقديمه، على أنه يكفيه عشر بدنة، وقد رأيت أدلة القولين. والعلم عند الله تعالى.
فإذا علمت أقوال أهل العلم في تعيين القدر المجزىء في هدي التمتع، والقران، وأن أظهر الأقوال: أن أقله شاة، أو سبع بدنة أو بقرة، وأن إجزاء البدنة الكاملة، لا نزاع فيه.
فاعلم: أن أهل العلم اختلفوا في وقت وجوبه، ووقت نحره، وهذه تفاصيل أقوالهم وأدلتها، وما يرجحه الدليل منها.
أما مذهب مالك فالتحقيق فيه: أن هدي التمتع والقران لا يجب وجوباً تاماً إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة، لأن ذبحه في ذلك الوقت هو الذي فعله صلى الله عليه وسلم، وقال «لتأخذوا عني مناسككم» ولذا لو مات المتمتع يوم النحر، قبل رمي جمرة العقبة، لا يلزم إخراج هدي التمتع من تركته، لأنه لم يتم وجوبه، وهذا هو الصحيح المشهور في مذهب مالك، وقد كنت قلت في نظمي في فروع مالك، وفي الفرائض على مقتضى مذهبه في الكلام على ما يخرج من تركة الميت، قبل ميراث الورثة بعد أن ذكرت قضاء ديونه:
وأتبعن دينه بهدي تمتع إن مات بعد الرمي

واعلم: أن قول من قال من المالكية: إنه يجب بإحرام الحج، وأنه يجزىء قبله كما هو ظاهر قول خليل في مختصره المالكي الذي قال في ترجمته مبيناً لما به الفتوى: ودم التمتع يجب بإحرام الحج، وأجزأ قبله، قد اغتر به بعض من لا تحقيق عنده بالمذهب المالكي، والتحقيق أن الوجوب عندهم برمي جمرة العقبة، وبه جزم ابن رشد وابن العربي، وصاحب الطراز وابن عرفة، قال ابن عرفة: سمع ابن القاسم إن مات. يعني: المتمتع قبل رمي جمرة العقبة، فلا دم عليه.
ابن رشد: لأنه إنما يجب في الوقت، الذي يتعين فيه نحره، وهو بعد رمي جمرة العقبة، فإن مات قبله لم يجب عليه.
ابن عرفة: قلت: ظاهره لو مات يوم النحر قبل رميه: لم يجب، وهو خلاف نقل النوادر، عن كتاب محمد عن ابن القاسم، وعن سماع عيسى: من مات يوم النحر، ولم يرم فقد لزمه الدم، ثم قال ابن عرفة: فقول ابن الحاجب: يجب بإحرام الحج يوهم وجوبه على من مات قبل وقوفه، ولا أعلم في سقوطه خلافاً.
ولعبد الحق، عن ابن الكاتب، عن بعض أصحابنا: من مات بعد وقوفه، فعليه الدم. ا هـ من الحطاب.
فأصح الأقوال الثلاثة وهو المشهور: أنه لا يجب على من مات، إلا إذا كان موته بعد رمي جمرة العقبة، وفيه قول: بلزومه، إن مات يوم النحر قبل الرمي، وأضعفها أنه يلزمه، إن مات يعد الوقوف بعرفة. أما لو مات قبل الوقوف بعرفة، فلم يقل أحد بوجوب الدم عليه من عامة المالكية، وقول من قال منهم: إنه يجب بإحرام الحج لا يتفرع عليه من الأحكام شيء، إلا جواز إشعاره وتقليده، وعليه فلو أشعره، أو قلده قبل إحرام الحج، كان هدي تطوع، فلا يجزىء عن هدي التمتع، فلو قلده، وأشعره بعد إحرام الحج أجزأه، لأنه قلده بعد وجوبه: أي بعد انعقاد الوجوب في الجملة، وعن ابن القاسم: أنه لو قلده وأشعره قبل إحرام الحج، ثم أخر ذبحه إلى وقته: أنه يجزئه عن هدي التمتع، وعليه فالمراد يقول خليل: وأجزأ قبله أي أجزأ الهدي الذي تقدم تقليده، وإشعاره على إحرام الحج هذا هو المعروف عند عامة علماء المالكية. فمن ظن أن المجزىء هو نحره قبل إحرام الحج، أو بعده قبل وقت النحر. فقد غلط غلطاً فاحشاً.
قال الشيخ المواق في شرحه: قول خليل: وأجزأ قبله ما نصه: ابن عرفة: يجزىء تقليده، وإشعاره بعد إحرام حجه، ويجوز أيضاً قبله على قول ابن القاسم. ا هـ منه.
وقال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره: ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله ما نصه:
فإن قلت: إذا كان هدي التمتع إنما ينحر بمنى، إن وقف به بعرفة، أو بمكة بعد ذلك على ما سيأتي فما فائدة الوجوب هنا؟
قلت: يظهر في جواز تقليده، وإشعاره بعد الإحرام بالحج، وذلك أنه لو لم يجب الهدي حينئذ مع كونه يتعين بالتقليد، لكان تقليده إذ ذاك قبل وجوبه، فلا يجزىء إلا إذا قلد بعد كمال الأركان.
وقال الشيخ الحطاب أيضاً: والحاصل: أن دم التمتع والقران، يجوز تقليدهما قبل وجوبهما على قول ابن القاسم، ورواية عن مالك، وهو الذي مشى عليه المصنف. فإذا علم ذلك فلم يبق للحكم بوجوب دم التمتع بإحرام الحج فائدة تعم على القول، بأنه لا يجزئه ما قلده قبل الإحرام بالحج تظهر ثمرة الوجوب في ذلك، ويكون المعنى: أنه يجب بإحرام الحج، وجوباً غير متحتم، لأنه معرض للسقوط بالموت، والفوات، فإذا رمى جمرة العقبة تحتم الوجوب، فلا يسقط بالموت. كما نقول في كفارة الظهار، أنها تجب بالعود وجوباً، غير متحتم بمعنى أنها تسقط بموت الزوجة وطلاقها فإن وطىء تحتم الوجوب ولزمت الكفارة، ولو ماتت الزوجة، أو طلقها إلى أن قال: بل تقدم في كلام ابن عبد السلام في شرح المسألة الأولى: أن هدي التمتع إنما ينحر بمنى، إن وقف به بعرفة، أو بمكة بعد ذلك إلى آخره، وهو يدل: على أنه لا يجزىء نحره قبل ذلك. والله أعلم ونصوص أهل المذهب شاهدة لذلك.
قال القاضي عبد الوهاب في المعونة: ولا يجوز نحر هدي التمتع والقران، قبل يوم النحر، خلافاً للشافعي لقوله تعالى {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ} وقد ثبت أن الحلق، لا يجوز قبل يوم النحر، فدل على أن الهدي، لم يبلغ محله إلا يوم النحر، وله نحو ذلك في شرح الرسالة. وقال في التلقين: الواجب لكل واحد من التمتع والقران هدي ينحره بمنى، ولا يجوز تقديمه قبل فجر يوم النحر، وله مثله في مختصر عيون المجالس، ثم قال الحطاب رحمه الله: فلا يجوز الهدي عند مالك، حتى يحل، وهو قول أبي حنيفة وجوزه الشافعي: من حين يحرم بالحج. واختلف قوله فيما بعد التحلل من العمرة قبل الإحرام بالحج.
ودليلنا أن الهدي متعلق بالتحلل، وهو المفهوم من قوله تعالى {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ} ا هـ منه. وكلام علماء المالكية بنحو هذا كثير معروف.
والحاصل: أنه لا يجوز ذبح دم التمتع، والقران عند مالك، وعامة أصحابه قبل يوم النحر وفيه قول ضعيف، بجوازه بعد الوقوف بعرفة، وهو لا يعول عليه، وأن قولهم: أنه يجب بإحرام الحج، لا فائدة فيه إلا جواز إشعار الهدي وتقليده بعد إحرام الحج، لا شيء آخر فما نقل عن عياض وغيره من المالكية، مما يدل على جواز نحره قبل يوم النحر كله غلط. إما من تصحيف الإشعار، والتقليد وجعل النحر بدل ذلك غلطاً، وإما من الغلط في فهم المراد عند علماء المالكية، كما لا يخفى على من عنده علم بالمذهب المالكي، فاعرف هذا التحقيق، ولا تغتر بغيره.
ومذهب الإمام أحمد في وقت وجوبه فيه خلاف، فقيل: وقت وجوبه، هو وقت الإحرام بالحج. قال في المغني: وهو قول أبي حنيفة، والشافعي. لأن الله تعالى قال {فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} وهذا قد فعل ذلك، ولأن ما جعل غاية فوجود أوله كاف كقوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ} إلى أن قال: وعنه أنه يجب إذا وقف بعرفة. قال: وهو قول مالك، واختيار القاضي ووجه في المغني هذا القول، بأنه قبل الوقوف، لا يعلم أيتم حجه أو لا، لأنه قد يعرض له الفوات، فلا يكون متمتعاً، فلا يجب عليه دم، وذكر عن عطاء وجوبه برمي جمرة العقبة.
وعن أبي الخطاب يجب إذا طلع فجر يوم النحر، ثم قال في المغني: فأما وقت إخراجه فيوم النحر، وبه قال مالك، وأبو حنيفة: لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز فيه ذبح الأضحية، فلا يجوز فيه ذبح هدي التمتع، ثم قال: وقال أبو طالب: سمعت أحمد قال في الرجل: يدخل مكة في شوال، ومعه هدي قال: ينحر بمكة، وإن قدم قبل العشر ينحره لا يضيع أو يموت أو يسرق. وكذلك قال عطاء: وإن قدم في العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدموا في العشر، فلم ينحروا، حتى نحروا بمنى، ومن جاء قبل ذلك نحره عن عمرته، وأقام على إحرامه، وكان قارناً ا هـ محل الغرض منه. وسترى ما يرد هذا إن شاء الله تعالى.
وقال صاحب الإنصاف: يلزم دم التمتع، والقران بطلوع فجر يوم النحر على الصحيح من المذهب، وجزم به القاضي في الخلاف، ورد ما نقل عنه خلافه إليه وجزم به في البلغة، وقدمه في الهداية والمستوعب والخلاصة، والتلخيص، والفروع، والرعايتين، والحاويين، وعنه يلزم الدم إذا أحرم بالحج، وأطلقهما في المذهب، ومسبوك الذهب وعنه يلزم الدم بالوقوف وذكره المصنف والشارح اختيار القاضي.
قال الزركشي: ولعله في المجرد وأطلقها، والتي قبلها في الكافي، ولم يذكر غيرها، وكذا قال المغني والشرح، وقال ابن الزاغوني في الواضح: يجب دم القران بالإحرام. قال في الفروع: كذا قال، وعنه يلزم بإحرام العمرة لنية التمتع، إذ قال في الفروع: ويتوجه أن يبني عليها، ما إذا مات بعد سبب الوجوب، يخرج عنه من تركته.
وقال بعض الأصحاب: فائدة الروايات إذا تعذر الدم، وأراد الانتقال إلى الصوم، فمتى يثبت العذر فيه الروايات، ثم قال في الإنصاف: هذا الحكم المتقدم في لزوم الدم. وأما وقت ذبحه فجزم في الهداية، والمذهب ومسبوك الذهب والمستوعب، والخلاصة، والهادي، والتلخيص، والبلغة، والرعايتين والحاويين وغيرهم: أنه لا يجوز ذبحه قبل وجوبه.
قال في الفروع: وقال القاضي وأصحابه: لا يجوز قبل فجر يوم النحر، ثم ذكر صاحب الإنصاف، عن بعضهم ما يدل على جواز ذبحه قبل ذلك، وذكر رده، ورده الذي ذكر هو الصحيح.
ومن جملة ما رده به فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، لأنهم لم يذبحوا قبل يوم النحر قارنهم ومتمتعهم جميعاً، ثم قال: وقد جزم في المحرر والنظم، والحاوي، والفائق وغيرهم: أن وقت دم المتعة والقران: وقت دم الأضحية على ما يأتي في بابه، ثم قال: واختار أبو الخطاب في الانتصار يجوز له نحره بإحرام العمرة، وأنه أولى من الصوم، لأنه بدل، وحمل رواية ابن منصور بذبحه يوم النحر على وجوبه يوم النحر، ثم قال:
ونقل أبو طالب إن قدم قبل العشر ومعه هدي: ينحره لا يضيع، أو يموت، أو يسرق. قال في الفروع وهذا ضعيف.
قال في الكافي: وإن قدم قبل العشر نحره، وإن قدم به في العشر لم ينحره، حتى ينحره بمنى استدل بهذه الرواية، واقتصر عليه. انتهى محل الغرض من الإنصاف.
وقد رأيت في كلامه أن الروايات بتحديد وقت الوجوب يبني عليها لزوم الهدي في تركته، إن مات بعد الوجوب، وتحقق وقت العذر المبيح، للانتقال إلى الصوم، إن لم يجد الهدى، لا أن المراد بوقت الوجوب استلزام جواز الذبح، لأنهم يفردون وقت الذبح بكلام مستقل، عن وقت الوجوب.
وأن الصحيح المشهور من مذهبه: أنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر، واختيار أبي الخطاب: جواز ذبحه بإحرام المتعة.
ورواية أبي طالب: جواز ذبحه إن قدم به. قبل العشر كلاهما ضعيف لا يعول عليه، ولا يعضده دليل، والتعليل بخوف الموت والضياع، والسرقة منتقض بما إذا قدم به في العشر، لأن العشر يحتمل أن يموت فيها، أو يضيع، أو يسرق كما ترى والتحديد بنفس العشر، لا دليل عليه من نص ولا قياس، فبطلانه واضح لعدم اعتضاده بشيء غير احتمال الموت والضياع والسرقة، وذلك موجود في الهدي الذي قدم به العشر، مع أن الأصل في كليهما السلامة، والعلم عند الله تعالى.
ومذهب الشافعي في هذه المسألة: هو أن وقت وجوب دم التمتع، هو وقت الإحرام بالحج.
قال النووي في شرح المهذب: وبه قال أبو حنيفة، وداود، وقال عطاء: لا يجب حتى يقف بعرفات.
وقال مالك: لا يجب حتى يرمي جمرة العقبة، وأما وقت جواز ذبحه عند الشافعية ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز قبل الإحرام بالحج، قالوا: لأن الذبح قربة تتعلق بالبدن، فلا تجوز قبل وجوبها، كالصلاة والصوم.
والقول الثاني: يجوز بعد الفراغ من العمرة لأنه حق مالي يجب بسببين، فجاز تقديمه على أحدهما، كالزكاة بعد ملك النصاب وقبل الحول، أما جواز ذبحه بعد الإحرام بالحج، فلا خلاف فيه عند الشافعية، كما أن ذبحه قبل الإحرام بالعمرة، لا يجوز عندهم، بلا خلاف.
وقد قدمنا نقل النووي، عن أبي حنيفة: أن وقت وجوبه: هو وقت الإحرام بالحج، أما وقت نحره فهو عند أبي حنيفة، وأصحابه: يوم النحر فلا يجوز تقديمه عليه عند الحنفية، وإن قدمه لم يجزئه، وينبغي تحقيق الفرق بين وقت الوجوب، ووقت النحر، لأن وقت الوجوب إنما تظهر فائدته، فيما لو مات المحرم هل يخرج الهدي من تركته بعد موته، ويتعين به وقت ثبوت العذر المجيز للانتقال إلى الصوم، ولا يلزم من دخول وقت الوجوب، جواز الذبح.
ومن فوائد ذلك: أنه إن فاته الحج بعد وجوبه بالإحرام، عند من يقول بذلك، لا يتعين لزوم الدم. لأنه بفوات الحج انتفى عنه اسم المتمتع: فلا دم تمتع عليه، وإنما عليه دم الفوات. كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في وقت ذبح دم التمتع، والفران فدونك أدلتهم، ومناقشتها، وبيان الحق الذي يعضده الدليل منها.
اعلم: أن من قال بجوازه قبل يوم النحر: كالشافعية، وأبي الخطاب من الحنابلة، ورواية ضعيفة، عن أحمد: إن جاء به صاحبه قبل عشر ذي الحجة فقد احتجوا، واحتج لهم بأشياء. أما رواية أبي طالب عن أحمد: بجواز تقديم ذبحه، إن قدم به صاحبه، قبل العشر. فقد ذكرنا تضعيف صاحب الفروع لها، وبينا أنها لا مستند لها لأن مستندها مصلحة مرسلة مخالفة لسنة ثابتة.
وأما قول أبي الخطاب: إنه يجوز بإحرام العمرة، فلا مستند له من كتاب، ولا سنة ولا قياس. والظاهر: أنه يرى أن هدي التمتع له سببان، وهما العمرة والحج في تلك السنة، فإن أحرم بالعمرة انعقد السبب الأول في الجملة فجاز الإتيان بالمسبب، كوجوب قضاء الحائض أيام حيضها من رمضان، لأن انعقاد السبب الأول الذي هو وجود شهر رمضان كفى في وجوب الصوم، وإن لم تتوفر الأسباب الأخرى، ولم تنتف الموانع، لأن قضاء الصوم فرع عن وجوب سابق في الجملة، كما أوضحناه في غير هذا الموضع. ولا يخفى سقوط هذا، كما ترى. وأما الشافعية: فقد ذكروا لمذهبهم أدلة.
منها: أن هدي التمتع حق مالي، يجب بسببين: هما الحج، والعمرة.
فجاز تقديمه على أحدهما قياساً، على الزكاة بعد ملك النصاب، وقبل حلول الحلول.
ومنها: قوله تعالى {فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} قالوا:
قوله {فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} أي عليه ما استيسر من الهدي، وبمجرد الإحرام بالحج يسمى متمتعاً، فوجب حينئذ، لأنه معلق على التمتع: وقد وجد. قالوا: ولأن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله كقوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ} فالصيام ينتهي بأول جزء من الليل، فكذلك التمتع، يحصل بأول جزء من الحج وهو الإحرام.
ومنها: أن شروط التمتع وجدت عند الإحرام بالحج، فوجد التمتع، وذبح الهدى معلق على التمتع، وإذا حصل المعلق عليه حصل المعلق.
ومنها: أن الصوم الذي هو بدل الهدي عند العجز عنه، يجوز تقديم يعضه على يوم النحر، وهو الأيام الثلاثة المذكورة في قوله {فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ} وتقديم البدل، يدل على تقديم المبدل منه.
ومنها: أنه دم جبران، فجاز بعد وجوبه قبل يوم النحر كدم فدية الطيب واللباس.
ومنها: ظواهر بعض الأحاديث التي قد يفهم منها الذبح قبل يوم النحر، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه في باب الاشتراك في الهدي.
وحدثني محمد بن حاتم حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج، أخبرنا: أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن حجة النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي، ويجتمع النفر منا في الهدية» وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث. انتهى بلفظه من صحيح مسلم. وقال النووي في شرحه لهذا الحديث: وفيه دليل لجواز ذبح هدي التمتع، بعد التحلل من العمرة، وقبل الإحرام بالحج. وفي المسألة خلاف، وتفصيل إلى آخر كلام النووي.
ومن ذلك أيضاً ما رواه الحاكم في المستدرك: أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى بن إبراهيم، ثنا أحمد بن النضر بن عبد الوهاب، ثنا يحيى بن أيوب، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وعطاء، عن جابر بن عبد الله، قال: كثرت القالة من الناس، فخرجنا حجاماً، حتى لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل، أمرنا بالإحلال الحديث. وفيه: قال عطاء قال ابن عباس رضي الله عنهما «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنماً فأصاب سعدَ بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت يدي ناقته فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم: اصرخ أيها الناس، هل تدرون أي شهر هذا» إلى آخر الحديث، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وفيه ألفاظ من ألفاظ حديث جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه، عن جابر أيضاً، وفيه أيضاً زيادة ألفاظ كثيرة ا هـ. وأقره الحافظ الذهبي على تصحيح الحديث المذكور، وقوله في هذا الحديث «فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه فلما وقف بعرفة» إلخ. قد يتوهم منه، أن ذبح سعد لتيسه كان قبل الوقوف بعرفة.
هذا هو حاصل ما استدل به القائلون بجواز ذبح هدي التمتع قبل يوم النحر، وغيره مما زعموه أدلة تركناه لوضوح سقوطه، ولأنه لا يحتاج في سقوطه، إلى دليل.
وأما الجمهور القائلون: بأنه لا يجوز ذبح دم التمتع والقران قبل يوم النحر فاستدلوا بأدلة واضحة، وأحاديث كثيرة صحيحة صريحة، في أن أول وقت نحر الهدي: هو يوم النحر، وكان صلى الله عليه وسلم قارناً كما قدمنا، ما يدل على الجزم بذلك، سواء قلنا: إذا بدأ إحرامه، قارناً أو أدخل العمرة على الحج، وأن ذلك خاص به كما تقدم. وكانت أزواجه كلهن متمتعات كما هو ثابت في الأحاديث الصحيحة، إلا عائشة فإنها كانت قارنة على التحقيق كما قدمنا إيضاحه بالأدلة الصحيحة الصريحة، ولم ينحر عن نفسه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أزواجه، إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة، وكذلك كل من كان معه من المتمتعين، وهم أكثر أصحابه والقارنين الذين ساقوا الهدي، لم ينحر أحد منهم ألبتة، قبل يوم النحر، وعلى ذلك جرى عمل الخلفاء الراشدين، والمهاجرين، والأنصار، وعامة المسلمين فلم يثبت عن أحد من الصحابة، ولا من الخلفاء: أنه نحر هدي تمتعه، أو قرانه قبل يوم النحر البتة. فإن قيل: فعله صلى الله عليه وسلم لا يتعين به الوجوب، لإمكان أن يكون سنة لا فرضاً، لأن الفعل لا يقع في الخارج إلا شخصياً، فلا عموم له، ولذلك كانت أفعال هيئات صلاة الخوف كلها جائزة، ولم ينسخ الأخير منها الأول، وإذا فلا مانع من أن يكون هو ذبح يوم النحر، مع جواز الذبح قبله.
فالجواب من وجهين، الأول: هو ما تقرر في الأصول، من أن فعله صلى الله عليه وسلم، إذا كان بياناً لنص فهو محمول على الوجوب، إن كان الفعل المبين واجباً كما أطبق عليه الأصوليون. وقد قدمنا إيضاحه فقطعه السارق من الكوع مبيناً به المراد من اليد في قوله {فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَ} يقتضي الوجوب، فلا يجوز لأحد القطع من غير الكوع، وأفعاله في جميع مناسك الحج مبينة للآيات الدالة على الحج، ومن ذلك الذبائح، وأوقاتها لأنها من جملة المناسك المذكورة في القرآن المبينة بالسنة. ولذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «لتأخذوا عني مناسككم» وإذاً يجب الاقتداء به في فعله في نوعه وزمانه، ومكانه ما لم يكن هنالك قول منه أعم من الفعل كبيانه أن عرفة كلها موقف، وأن مزدلفة كلها موقف، وأن منى كلها منحر، ونحو ذلك، فلا يختص الحكم بنفس محل موقفه أو نحره.
قال صاحب جمع الجوامع عاطفاً على ما تعرف به جهة فعله صلى الله عليه وسلم من وجوب أو ندب ما نصه: ووقوعه بياناً إلخ. يعني: أن وقوع الفعل بياناً لنص مجمل إن كان مدلول النص واجباً، فالفعل المبين به ذلك النص واجب بلا خلاف، وإن كان مندوباً فمندوب. سواء كان الفعل المبين للنص، دل على كونه بياناً قرينة أو قول.
قال شارحه صاحب الضياء اللامع ما نصه: الثاني: أن يكون فعله بياناً لمجمل إما بقرينة حال مثل القطع من الكوع، فإنه بيان لقوله تعالى {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَ} وإما بقول مثل قوله «صلوا كما رأيتموني أصلي» فإن الصلاة فرضت على الجملة، ولم تبين صفاتها فبينها بفعله، وأخبر بقوله أن ذلك الفعل بيان، وكذا قوله «خذوا عني مناسككم» وحكم هذا القسم وجوب الاتباع. ا هـ محل الغرض منه، وهو واضح فيما ذكرنا ولا أعلم فيه خلافاً فجميع أفعال الحج، والصلاة التي بين بها صلى الله عليه وسلم آيات الصلاة والحج يجب حمل كل شيء منها، على الوجوب إلا ما أخرجه دليل خاص يجب الرجوع إليه. وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي: مسألة فعله صلى الله عليه وسلم، ما أوضح فيه أمر الجبلة، كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب، أو تخصيصه، كالضحى، والوتر، والتهجد، والمشاورة، والتخيير، والوصال والزيادة على أربع فواضح، وما سواهما إن وضع أنه بيان بقول أو قرينة مثل: صلوا، وخذوا، وكالقطع من الكوع والغسل إلى المرافق، اعتبر اتفاقاً انتهى محل الغرض منه. ومعنى قوله: اعتبر اتفاقاً: أنه إن كان المبين باسم المفعول واجباً، فالفعل المبين باسم الفاعل واجب، لأن المبين بحسب المبين وقال شارحه العضد: فإن عرف أنه بيان لنص على جهته من الوجوب، والندب، والإباحة اعتبر على جهة المبين من كونه خاصاً وعاماً اتفاقاً، ومعرفة كونه بياناً إما بقول، وإما بقرينة، فالقول نحو «خذوا عني مناسككم» «وصلوا كما رأيتموني أصلي» والقرينة مثل: أن يقع الفعل، بعد إجمال، كقطع يد السارق من الكوع، دون المرفق، والعضد بعد ما نزل قوله {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَ} والغسل إلى المرافق، بإدخال المرافق، أو إخراجها بعد ما نزلت {فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ} ا هـ محل الغرض منه، وهو واضح فيما ذكرنا من أن الفعل المبين لنص دال على واجب، يكون واجباً لأن البيان به بيان لواجب، كما هو واضح. وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله: من غير تخصيص وبالنص يرى وبالبيان وامتثال ظهرا

ومحل الشاهد منه قوله: وبالبيان، فيكون حكمه حكم المبين ا هـ منه، وهو واضح، والمبين بصيغة اسم المفعول في آيات الحج، وهدي التمتع واجب، لأن الحج واجب إجماعاً، وهدي التمتع واجب إجماعاً، فالفعل المبين لهما يكون واجباً على ما قررناه، وعليه عامة أهل الأصول، إلا ما أخرجه دليل خاص وبه تعلم أن ذبحه صلى الله عليه وسلم هديه يوم النحر، وهو قارن وذبحه عن أزواجه يوم النحر، وهن متمتعات، وعن عائشة وهي قارنة: فعل مبين لنص واجب، فهو واجب، ولا تجوز مخالفته في نوع الفعل، ولا في زمانه، ولا في مكانه إلا فيما أخرجه دليل خاص، كغير المكان الذي ذبح فيه من منى، لأنه بين أن منى كلها منحر، ولم يبين أن الزمن كله وقت نحر، ومما يؤيد ذلك ما اختاره بعض أهل الأصول، من أن فعله صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن بياناً لمجمل، ولم يعلم هل فعله على سبيل الوجوب، أو على سبيل الندب أنه يحمل على الوجوب، لأنه أحوط وأبعد من لحوق الإثم، إذ على احتمال الندب، والإباحة لا يقتضي ترك الفعل إثماً، وعلى احتمال الوجوب يقتضي الترك الإثم، وإلى هذا أشار في مراقي السعود في مبحث أفعاله صلى الله عليه وسلم بقوله: وكل ما الصفة فيه تجهل فللوجوب في الأصح يجعل

وقال في شرحه لمراقي السعود المسمى: نشر البنود: يعني أن ما كان من أفعاله صلى الله عليه وسلم مجهول الصفة: أي مجهول الحكم، فإنه يحمل على الوجوب إلى أن قال: وكونه للوجوب هو الأصح، وهو الذي ذهب إليه الإمام مالك، والأبهري وابن القصار وبعض الشافعية، وأكثر أصحابنا وبعض الحنفية، وبعض الحنابلة. ا هـ محل الغرض منه.
وقال صاحب الضياء اللامع: وبهذا قال مالك في رواية أبي الفرج، وابن خويز مقداد وقال به الأبهري، وابن القصار، وأكثر أصحابنا، وبعض الشافعية، وبعض الحنفية، وبعض الحنابلة، وبعض المعتزلة. واستدل أهل هذا القول بأدلة.
منها قوله تعالى {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلاٌّخِرَ} قالوا: معناه: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فله فيه أسوة حسنة، ويستلزم أن من ليس له فيه أسوة حسنة، فهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وملزوم الحرام حرام ولازم الواجب واجب. وقالوا أيضاً: وهو مبالغة في التهديد، على عدم الأسوة فتكون الأسوة واجبة، ولا شك أن من الأسوة اتباعه في أفعاله.
ومنها: قوله تعالى: {وَمَآ ءَاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُو} قالوا: وما فعله فقد آتاناه، لأنه هو المشرع لنا بأقواله وأفعاله. وتقريره.
ومنها: قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ}.
ومن اتباعه التأسي به في فعله، قالوا: وصيغة الأمر في قوله {فَٱتَّبِعُونِى} للوجوب.
ومنها: أن الصحابة لما اختلفوا، في وجوب الغسل من الوطء، بدون إنزال سألوا عائشة، فأخبرتهم أنها هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاً ذلك، فاغتسلا فحملوا ذلك الفعل الذي هو الغسل، من الوطء، بدون إنزال على الوجوب.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه في الصلاة، خلعوا نعالهم، فلما سألهم: لم خلعوا نعالهم؟ قالوا: رأيناك خلعت نعليك، فخلعنا نعالنا، فحملوا مطلق فعله على الوجوب، فخلعوا لما خلع، وأقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك قالوا: فلو كان الفعل الذي لم يعلم حكمه لا يدل على الوجوب، لبين لهم أنه لا يلزم من خلعه، أن يخلعوا، ولكنه أقرهم على خلع نعالهم، وأخبرهم أن جبريل أخبره: أَن في باطنهما قذراً والقصة في ذلك ثابتة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عند أحمد، وأبي داود، والحاكم وغيرهم. وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: رواه أبو داود بإسناد صحيح، ورواه الحاكم في المستدرك. وقال: هو صحيح على شرط مسلم، وقال الشوكاني في نيل الأوطار في شرحه لحديث أبي سعيد المذكور في المنتقى بعد أن قال المجد في المنتقى: رواه أحمد وأبو داود ا هـ الحديث: أخرجه أيضاً الحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان واختلف في وصله وإرساله ورجح أبو حاتم في العلل الموصول، ورواه الحاكم من حديث أنس، وابن مسعود إلى آخر كلامه. ومعلوم أن المخالفين القائلين: بأن الفعل الذي لم يكن بياناً لمجمل، ولم يعلم حكمه من وجوب لا يحمل على الوجوب، بل على الندب، أو الإباحة إلى آخر أقوالهم ناقشوا الأدلة التي ذكرنا مناقشة معروفة في الأصول قالوا قوله {وَمَآ ءَاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ} أي ما أمركم به بدليل قوله {وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ} فهي في الأمر، والنهي لا في مطلق الفعل، ولا يخفى أن تخصيص: وما آتاكم، بالأمر تخصيص لا دليل عليه، وذكر النهي بعده لا يعينه وقالوا {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى} إنما يكون الاتباع واجباً فيما علم أنه واجب، أما إذا كان فعله مندوباً فالاتباع فيه مندوب، ولا يتعين أن الفعل واجب، على الأمة بالاتباع إلا إذا علم أنه صلى الله عليه وسلم، فعله على سبيل الوجوب. أما لو كان فعله على سبيل الندب وفعلته الأمة على سبيل الوجوب، فلم يتحقق الاتباع بذلك قالوا: وكذلك يقال في قوله تعالى {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فلا تتحقق الأسوة، إذا كان هو صلى الله عليه وسلم فعله، على سبيل الندب، وفعلته أمته على سبيل الوجوب، بل لا بد في الأسوة من علم جهة الفعل، الذي فيه التأسي قالوا: وخلعهم نعالهم لا دليل فيه، لأنه فعل داخل في نفس الصلاة: وإنما أخذوه من قوله صلى الله عليه وسلم «صلوا كما رأيتموني أصلي» لأن خلع النعال كأنه في ذلك الوقت من هيئة أفعال الصلاة، قالوا: وإنما أخذوا وجوب الغسل من الفعل، الذي أخبرتهم به عائشة، لأنه صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وجوب الغسل من التقاء الختانين، أو لأنه فعل مبين لقوله {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُو} والفعل المبين لإحمال النص، لا خلاف فيه كما تقدم إيضاحه. قالوا: والاحتياط في مثل هذا: لا يلزم، لأن الاحتياط لا يلزم إلا فيما يثبت وجوبه أو كان وجوبه، هو الأصل كليلة الثلاثين من رمضان، إن حصل غيم يمنع رؤية
الهلال عادة أما غير ذلك، فلا يلزم فيه الاحتياط، كما لو حصل الغيم المانع من رؤية هلال رمضان ليلة ثلاثين من شعبان: فلا يجوز صوم يوم الشك، ولا يحتاط فيه، لأنه لم يثبت له وجوب ولم يكن وجوبه هو الأصل إلى آخر أدلتهم ومناقشاتها. فلم نطل بجميعها الكلام، ولا شك: أن الأدلة التي ذكرها الفريق الأول كقوله {فَٱتَّبِعُونِى} وقوله {وَمَآ ءَاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وقوله {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وإن لم تكن مقنعة بنفسها في الموضوع، فلا تقل عن أن تكون عاضدة لما قدمنا من وجوب الفعل الواقع به البيان، وما سنذكره من غير ذلك وهو الوجه الثاني من وجهي الجواب اللذين ذكرنا: وهو أن ذلك الفعل الذي هو ذبح هدي التمتع، والقران يوم النحر، هو الذي مشى عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين. ودلت عليه الأحاديث ولن يصلح آخر هذه الأمة، إلا ما أصلح أولها، ومن أوضح الأدلة الثابتة في ذلك الأحاديث المتفق عليها التي لا مطعن فيها بوجه أنه صلى الله عليه وسلم، أمر أصحابه بفسخ حجهم في عمرة، وأن يحلوا منها الحل كله، ثم يحرموا بالحج، وتأسف على أنه لم يفعل مثل فعلهم وقال «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة» وفي تلك النصوص الصحيحة: التصريح بأمرهم بفسخ الحج في العمرة ومعناه: أنه هو صلى الله عليه وسلم، يجوز له أن يفسخ الحج في العمرة، كما أمر أصحابه بذلك. وقد صرح في الأحاديث الصحيحة، بأن الذي منعه من ذلك. أنه ساق الهدي، فلو كان هدي التمتع يجوز ذبحه بعد الإحلال من العمرة لجعل الحج عمرة، وأحل منها، ونحر الهدي بعد الإحلال منها. ولكن المانع الذي منعه من ذلك هو عدم جواز النحر في ذلك الوقت. والحلق الذي لا يصح الإحلال دونه، معلق على بلوغ الهدي محله كما قال {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ}.
والثاني: قوله تعالى {وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ} وقد قدمنا أنه التسمية عند نحرها تقرباً لله، ثم قال بعد النحر الذي هو معنى الآية {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} ومن قضاء تفثهم: الحلق، أو التقصير. وقد ثبت في الصحيح «أنه صلى الله عليه وسلم حلق قبل أن ينحر وأمر بذلك» كما قدمناه في سورة البقرة مستوفى، ولكنه صلى الله عليه وسلم بين أن من قدم الحلق، على النحر: لا شيء عليه. ولا خلاف أن كل الواقع من ذلك في حجته، أنه كان يوم النحر كما هو معروف. وقد دلت آية الحج على أن كل هدي له تعلق بالحج، ويدخل فيه التمتع دخولاً أولياً أن وقت ذبحه مخصص بأيام معلومات، دون غيرها من الأيام، وذلك في قوله تعالى {وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍلِّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ} لأن معنى الآية الكريمة: أذن فيهم بالحج، يأتوك مشاة، وركباناً لأجل أن يشهدوا منافع لهم، ولأجل أن يذكروا اسم الله في أيام معلومات، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام: أي ولأجل أن يتقربوا بدماء الأنعام في خصوص تلك الأيام المعلومات وهو واضح كما ترى. وقد قدمنا أن هذه الأنعام التي يتقرب بها في هذه الأيام المعلومات، ويسمى عليها الله عند تذكيتها، أنها أظهر في الهدايا من الضحايا، لأن الضحايا لا تحتاج أن يؤذن فيها للمضحين، ليأتوا رجالاً وركباناً، ويذبحوا ضحاياهم كما ترى، والأحاديث الصحيحة الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً ونحر هديه يوم النحر، وأنه ما منعه من فسح الحج في العمرة إلا سوق الهدي، وأن الهدي لو كان يجوز ذبحه بعد الإحلال من العمرة، لأحل بعمرة، وذبح هدي التمتع عند الإحلال منها، أو عند الإحرام بالحج كما يقول من ذكرنا: أنه جائز، وقد قدمنا كثيراً منها موضحاً بأسانيده، وسنعيد طرفاً منه هنا إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك حديث حفصة زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم المتفق عليه قال البخاري في صحيحه: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك، وحدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع عن ابن عمر عن حفصة رضي الله عنها زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت «يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأن الناس حلوا بعمرة، ولم تتحلل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحره» ا هـ من صحيح البخاري، وقوله: حتى أنحر يعني يوم النحر، فلو جاز نحر هدي التمتع قبل ذلك، لأحل بعمرة، ونحر.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن حفصة رضي الله عنهم، زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم قالت «يا رسول الله ما شأن الناس حلوا، ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر» وفي لفظ له عنها قالت قال «إني قلدت هديي فلا أحل حتى أحل من الحج» وفي لفظ له عنها «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع، قالت حفصة: قلت ما يمنعك أن تحل؟ قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر هديي» ا هـ.
ففي هذه الروايات الصحيحة ما يدل على أن الهدي الذي معه مانع من الحل، ولو كان النحر قبل يوم النحر جائزاً لتحلل بعمرة ثم نحر، وفيه أن أزواجه صلى الله عليه وسلم متمتعات، وقد نحر عنهن البقر يوم النحر.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمٰن قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة، لا نرى إلا الحج، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل. قالت: فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه» قال يحيى: فذكرته للقاسم بن محمد فقال: أتتك بالحديث على وجهه، انتهى من صحيح البخاري.
وقال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير عن جابر قال «ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن عائشة بقرة يوم النحر» وفي لفظ لمسلم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال «نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه» وفي حديث أبي بكر عن عائشة بقرة في حجته. انتهى من صحيح مسلم، وقد تركنا ذكر اختلاف الروايات، هل ذبح عن جميعهن بقرة واحدة، أو عن كل واحدة بقرة، كما جاء التصريح به في حديث مسلم، هذا بالنسبة إلى عائشة، وعلى كل حال فهذه الروايات الصحيحة، وأمثالها الكثيرة التي قدمنا كثيراً منها: تدل على أنه صلى الله عليه وسلم نحر عمن تمتع من أزواجه، ومن قرن في خصوص يوم النحر، وأنه هو صلى الله عليه وسلم كذلك فعل عن نفسه، وكان قارناً مع أنه كان يتمنى أن يعتمر، ويحل منها، ثم يحرم بالحج، كما أمر أصحابه بفعل ذلك، وصرح في الروايات الصحيحة: بأن المانع له من ذلك سوق الهدي، فلو كان الهدي يجوز نحره قبل يوم النحر لتحلل ونحر كما أوضحناه، وفعله هذا كالتفسير لقوله تعالى {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ} فبين بفعله: أن بلوغه محله يوم النحر بمنى، بعد رمي جمرة العقبة، فمن أجاز ذبح هدي التمتع قبل ذلك، فقد خالف فعله صلى الله عليه وسلم المبين لإجمال القرآن، وخالف ما كان عليه أصحابه من بعده وجرى عليه عمل عامة المسلمين، ولا يثبت بنص صحيح عن صحابي واحد أنه نحر هدي تمتع أو قران قبل يوم النحر، فلا يجوز العدول عن هذا الذي فعله صلى الله عليه وسلم مبيناً به إجمال الآيات القرآنية، وأكده بقوله «لتأخذوا عني مناسككم» كما ترى.
فإذا عرفت مما ذكرنا: أن الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة، وفعل الخلفاء الراشدين، وغيرهم من كافة علماء المسلمين: هو أنه لا يجوز نحر هدي التمتع والقران، قبل يوم النحر. فدونك الأجوبة التي أجيب بها عن أدلة المخالفين القائلين: بجواز ذبحه عند إحرام الحج، أو عند الإحلال من العمرة.
أما استدلالهم بأن هدي التمتع له سببان، فجاز بأحدهما قياساً على الزكاة، بعد ملك النصاب، وقبل حلول الحول، فهو مردود بكونه فاسد الاعتبار، وفساد الاعتبار من القوادح المجمع على القدح بها، وهو بالنسبة إلى القياس أن يكون القياس مخالفاً لنص من كتاب، أو سنة، أو إجماع، وهذا القياس مخالف للسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم التي هي النحر يوم النحر، كما قدمنا إيضاحه، وعرف في مراقي السعود فساد الاعتبار بقوله في مبحث القوادح. والخلف للنص أو إجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعى

واستدلالهم بأن شروط التمتع وجدت عند الإحرام بالحج، فوجد التمتع بوجود شروطه، وذبح الهدي معلق على وجود التمتع في الآية. وإذا حصل المعلق عليه، حصل المعلق مردود من وجهين:
الأول: أن وجود التمتع لم يحقق بإحرام الحج، لاحتمال أن يفوته الحج بسبب عائق عن الوقوف بعرفة وقته، لأنه لو فاته الحج، لم يوجد منه التمتع، فدل ذلك على أن الإحرام بالحج لا يتحقق به وجود حقيقة التمتع التي علق على وجودها ما استيسر من الهدي.
الثاني: أن الهدي الواجب بالتمتع له محل معين، لا بد من بلوغه في زمن معين، كما دل عليه قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ}. وقد بين صلى الله عليه وسلم بفعله الثابت ثبوتاً لا مطعن فيه. وقوله: «إني لبدت رأسي وقلدت هديي» الحديث المتقدم: أن محله هو منى يوم النحر كما تقدم إيضاحه، واستدلالهم بأن الصوم الذي هو بدل الهدي، عند العجز عنه يجوز تقديم بعضه على يوم النحر، وهو الأيام الثلاثة المذكورة في قوله {فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ} فجاز تقديم الهدي على يوم النحر، قياساً على بدله مردود من وجهين:
الأول: أنه قياس مخالف لسنة النَّبي صلى الله عليه وسلم التي فعلها مبيناً بها القرآن.
وقال: «لتأخذوا عني مناسككم» فهو قياس فاسد الاعتبار، كما قدمنا إيضاحه قريباً.
الوجه الثاني: أنه قياس مع وجود فوارق تمنع من إلحاق الفرع بالأصل.
منها: أن الهدي يترتب على ذبحه قضاء التفث، كما يدل عليه قوله في ذبح الهدايا: {وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ} ثم رتب على ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} وهذا الحكم الموجود في الأصل منتف عن الفرع، لأن الصوم لا يترتب عليه قضاء تفث.
ومنها: أن الهدي يختص بمكان، وهذا الوصف منتف عن الفرع، وهو الصوم، فإنه لا يختص بمكان.
ومنها: أن الصوم إنما يؤدي جزؤه الأكبر بعد الرجوع إلى الأهل في قوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} وهذا منتف عن الأصل الذي هو الهدي، فلا يفعل منه شيء بعد الرجوع إلى الأهل كما ترى. واستدلالهم: بأنه دم جبران، فجاز بعد وجوبه قبل يوم النحر قياساً على فدية الطيب واللباس مردود من وجهين أيضاً.
اعلم أولاً: أنا قدمنا أقوال أهل العلم، ومناقشة أدلتهم مناقشة دقيقة في هدي التمتع هل هو دم جبران، أو دم النسك كالأضحية؟ فعلى: أنه دم نسك فسقوط الاستدلال المذكور واضح، وعلى: أنه دم جبران، فقياسه على فدية الطيب واللباس يمنعه أمران.
الأول: أنه قياس فاسد الاعتبار لمخالفته السنة الثابتة، عنه صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنه لم يثبت نص صحيح من كتاب، ولا سنة على وجوب الهدي في الطيب واللباس، حتى يقاس عليه هدي التمتع، والعلماء إنما أوجبوا الفدية في الطيب، واللباس قياساً على الحلق المنصوص في آية الفدية، والقياس على حكم مثبت بالقياس فيه خلاف معروف بين أهل الأصول. فذهبت جماعة منهم إلى أن حكم الأصل المقيس عليه، لا بد أن يكون ثابتاً بنص، أو اتفاق الخصمين. وذهب آخرون إلى جواز القياس على الحكم الثابت بالقياس، كأن تقول هنا: من لبس أو تطيب في إحرامه، لزمته فدية الأذى، قياساً على الحلق المنصوص عليه في قوله تعالى {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} بجامع ارتكاب المحظور، ثم تقول: ثبت بهذا القياس أن في الطيب واللباس، فدية فتجعل الطيب واللباس الثابت حكمها بالقياس أصلاً ثانياً، فتقيس عليهما هدي التمتع في جواز التقديم بجامع أن الكل دم جبران، وكأن تقول: يحرم الربا في الذرة، قياساً على البر بجامع الاقتيات، والادخار، أو الكيل مثلاً ثم تقول: ثبت تحريم الربا في الربا في الذرة بالقياس على البر، فتجعل الذرة أصلاً ثانياً، فتقيس عليها الأرز، ونحو ذلك فعلى أن مثل هذا لا يصح به القياس، فسقوط الاستدلال المذكور واضح وعلى القول بصحة القياس عليه، وهو الذي درج عليه في مراقي السعود بقوله:
وحكم الأصل قد يكون محلقا لما من اعتبار الأدنى حققا

فهو قياس مختلف في صحته أصلاً، وهو فاسد الاعتبار أيضاً، لمخالفته لسنته صلى الله عليه وسلم.
واستدلالهم بقوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} قائلين: إنه بمجرد الإحرام بالحج يسمى متمتعاً، فيجب الهدي بإحرام الحج، لأن اسم التمتع يحصل به، والهدي معلق عليه قالوا: ولأن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله كقوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ} مردود أيضاً.
أما كون التمتع بوجد بإحرام الحج، والهدي معلق عليه فيلزم وجوده بوجوده، فقد بينا رده من وجهين بإيضاح قريباً فأغنى عن إعادته هنا.
وقولهم: إن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله يعنون أن قوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ} جعل فيه الحج غاية بحرف الغاية الذي هو إلى، فيجب تعلق الحكم الذي هو ذبح الهدي بأول الغاية، وهو الحج وأوله الإحرام، فيجب الذبح بالإحرام كقوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ} فإن حكم إتمام الصيام ينتهي بأول جزء من الليل، الذي هو الغاية لإتمامه مردود من وجهين.
الأول: أن هذا غير مطرد، فلا يلزم تعلق الحكم بأول ما جعل غاية.
ومن النصوص التي لم يتعلق الحكم فيها بأول ما جعل غاية قوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فنكاحها زوجاً غيره جعل غاية لعدم حليتها له، مع أن أول هذه الغاية الذي هو عقد النكاح، لا يتعلق به الحكم، بل لا بد من بلوغ آخر الغاية: وهو الجماع، ولذا قال صلى الله عليه وسلم «لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» فعلم أن التعلق بأول الغاية: لا يلزم على كل حال.
الوجه الثاني: أن سنة النَّبي الثابتة عنه من فعله، ومفهوم قوله: بينت أن هذا الحكم، لا يتعلق بأول الغاية، وإنما يتعلق بآخرها وهو الإحلال الأول: لأنه لم ينحر هدي تمتع، ولا قران إلا بعد رمي جمرة العقبة، وفعله فيه البيان الكافي للمراد من الغاية التي يترتب عليها {فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} والله يقول {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلاٌّخِرَ} ففعله مبين لقوله {فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} لأنه ذبح عن أزواجه المتمتعات يوم النحر، وأمر أصحابه المتمتعين بذلك، وخير ما يبين به القرآن بعد القرآن السنة، والله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، وهو صلى الله عليه وسلم يبين المناسك بأفعاله، موضحاً بذلك المراد من القرآن، ويقول «لتأخذوا عني مناسككم».
الثالث: أنه لو جاز له ذبحه قبل يوم النحر، لجاز الحلق قبل يوم النحر، وذلك باطل فالحلق لا يجوز، حتى يبلغ الهدي محله. كما هو صريح القرآن، والحلق لم يجز قبل يوم النحر، فالهدي لم يبلغ محله قبل يوم النحر، وهو واضح كما ترى، ولذا لم يأذن صلى الله عليه وسلم في حجته، لمن ساق هدياً أن يحل ويحلق، وإنما أمر بفسخ الحج في العمرة من لم يسق هدياً، ولا شك أن ذلك عمل منه بقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ}.
واستدلالهم بحديث جابر المتقدم عند مسلم قال: «فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية» وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم مردود بالقادح المسمى في اصطلاح أهل الأصول بالقلب، لأن حديث جابر المذكور حجة عليهم، لا لهم وذلك هو عين القلب وإيضاحه أن لفظ الحديث «وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم» والإشارة في قوله: وذلك راجعة إلى الأمر بالهدية، والاشتراك فيها، والحديث صريح في أن ذلك حين إحلالهم من حجهم. وذلك إنما وقع يوم النحر، لأنه لا إحلال من حج ألبتة قبل يوم النحر.
والغريب من الشيخ النووي أنه قال في حديث جابر هذا: وفيه دليل لجواز ذبح هدي التمتع بعد التحلل من العمرة، وقبل الإحرام بالحج، لأن لفظ الحديث مصرح بأن ذلك عند الأمر بالإحلال من الحج، وهو يستدل به على وقوعه قبل الإحرام بالحج.
والظاهر أن هذا سهو منه أو أنه ذهب ذهنه إلى أنه أمرهم بذلك حين تحللهم من العمرة، وظن أن اسم الحج لا ينافي ذلك. لأن أصل الإحرام بالحج، ففسخوه في عمرة، فلما أحلوا منها صاروا كأنهم محلون من الحج الذي فسخوه فيها، وهذا محتمل ولكنه بعيد جداً من ظاهر اللفظ لأن الحج الذي أحرموا به لما فسخوه في عمرة زال اسمه بالكلية، وصار الإحلال من عمرة لا من حج كما ترى، فحمل لفظ الإحلال من الحج على الإحلال من العمرة حمل للفظ الحديث، على ما لا يدل عليه بحسب الوضع العربي من غير دليل يجب الرجوع إليه.
ولو سلمنا جدلياً: أن المراد في حديث جابر المذكور بالإحلال من الحج: هو الإحلال من العمرة التي فسخوا فيها الحج كما هو رأي النووي، فلا دليل في الحديث أيضاً، لأن غاية ما دل عليه الحديث على التفسير المذكور: أنه أمرهم عند الإحلال من العمرة بالهدي وذلك لا يستلزم أنهم ذبحوه في ذلك الوقت، بل الأحاديث الصحيحة الكثيرة الدالة على أنهم لم يذبحوا شيئاً من هداياهم، قبل يوم النحر، كما تقدم إيضاحه.
واستدلالهم بحديث ابن عباس المتقدم عند الحاكم «أنه صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنماً فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة» إلى آخر الحديث المتقدم، لا دليل فيه، لأنه محمول على أنه لم يذبحه إلا يوم النحر، كما فعل جميع الصحابة. وجاء في مسند الإمام أحمد التصريح بذلك فصارت رواية أحمد المصرحة، بأن ذلك وقع يوم النحر مفسرة لرواية الحاكم.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد ما نصه: باب تفرقة الهدي عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قسم غنماً يوم النحر في أصحابه وقال: اذبحوا لعمرتكم فإنها تجزىء عنكم فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس» رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. ا هـ منه.
وهذه الرواية الصحيحة مبينة أن ذبحهم عن عمرتهم، إنما كان يوم النحر، وأن ذلك هو المراد في الرواية التي رواها الحاكم، لأن الروايات يفسر بعضها بعضاً، كما هو معلوم في علم الحديث والأصول، ولقد صدق الهيثمي في أن رجاله رجال الصحيح، لأن أحمد رواه عن حجاج بن محمد المصيصي الأعور أبي محمد مولى سليمان بن مجالد، وهو ترمذي الأصل سكن بغداد ثم تحول إلى المصيصة، أخرج له الجميع. وقال فيه ابن حجر في التقريب: ثقة ثبت، لكنه اختلط في آخر عمره، لما قدم بغداد قبل موته وقال فيه في تهذيب التهذيب بعد أن ذكر ثناء عليه كثيراً من نقاد رجال الحديث: كان ثقة صدوقاً إن شاء الله، وكان قد تغير في آخر عمره حين رجع إلى بغداد. والظاهر أن الإمام أحمد إنما أخذ عنه قبل اختلاطه لأنه كان في بغداد قبل المصيصة، ثم رجع من المصيصة إلى بغداد في حاجة له، فمات بها واختلاطه في رجوعه الأخير كما يعلمه من نظر ترجمته في كتب الرجال، وحجاج المذكور رواه عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وقد أخرج له الجميع وهو ثقة فقيه فاضل معروف وكان يدلس ويرسل، ولكنه في هذا الحديث صرح بالإخبار عن عكرمة، عن ابن عباس وراوي الحديث عن أحمد ابنه، عبد الله وجلالته معروفة، فظهر صحة الإسناد المذكور كما قاله في مجمع الزوائد، والعلم عند الله تعالى وقد رأيت مما ذكرنا أدلة من قال: بجواز ذبح هدي التمتع عند الإحرام بالحج، ومن قال: بجوازه عند الفراغ من العمرة، وأدلة من قال: لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر ومناقشتها.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله أعلم: أنه لا يجوز ذبح هدي التمتع، والقران قبل يوم النحر لأدلة متعددة، أوضحناها غاية الإيضاح قريباً.
منها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل فلم يذبح عن أزواجه المتمتعات ولاَ عَنْ عائشة القارئة إلا يوم النحر، وكذلك فعل وهو وجميع أصحابه المتمتعين بأمره، واستمر على ذلك عمل الأمة، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة. وقد أمرنا أن نأخذ عنه مناسكنا، ومن مناسكنا: وقت ذبح الهدايا، ولا شك أن القرآن العظيم دل على أن كل هدي له تعلق بالحج أن ذبحه في أيام معلومات، لا في أيام مجهولات كما أوضحناه مراراً لأنه تعالى قال {وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ لِّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ} لأن مضمون الآية الكريمة: أذن فيهم بالحج يأتوك حجاجاً مشاة وركباناً، لأجل أن يشهدوا منافع لهم، ولأجل أن يذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام: أي وليتقربوا إلى الله بدماء ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ذاكرين اسم الله عليها عند التذكية.
فقد صرح بأن ذلك التقرب بدماء الأنعام الذي هو من جملة ما دعوا إلى الحج من أجله، أنه في أيام معلومات لا في زمن مطلق مجهول كما ترى.
وقد بينا الأيام المعلومات في أول هذا البحث، وقد بين صلى الله عليه وسلم أول وقتها، فذكر اسم الله على ما رزقه من بهيمة الأنعام: وقت تذكيتها يوم النحر، ويوضح أن ذكر اسم الله عليها إنما هو عند تذكيتها تقرباً لله تعالى بدمائها قوله تعالى {وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَـٰهَا لَكُمْ مِّن شَعَـٰئِرِ ٱللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ} أي ذكوها قائمة صواف على ثلاثة أرجل كما هو معلوم.
ولا شك أن الله جل وعلا في محكم كتابه بين أن الهدي له محل معروف لا يجوز التحلل بحلق الرأس، قبل بلوغه إياه، وذلك في قوله {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ}، وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي لا مطعن فيها: أنه صلى الله عليه وسلم أمر من لم يسق هدياً من أصحابه بفسخ حجه في عمرة، والإحلال من العمرة، وتأسف هو صلى الله عليه وسلم أنه لم يفعل ذلك وقال «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة».
ولا شك أن المانع له من فسخ الحج في العمرة أنه لا يمكنه التحلل، وحلق الرأس، حتى يبلغ الهدي محله.
ومن الضروري البديهي أن هدي التمتع، لو كان يجوز ذبحه عند الإحلال من العمرة، أو الإحرام بالحج أنه صلى الله عليه وسلم يتحلل بعمرة، ويذبح هديه عندما تحلل منها، فيكون متمتعاً ذابحاً عند الفراغ من العمرة، أو عند الإحرام بالحج، فلما صرح بامتناع هذا وعلله بأنه قلد هديه، وعلم أنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر كما هو واضح.
وقد أوضحنا أن جميع أفعاله في الحج، ويدخل فيها الذبح ووقته كلها بيان لإجمال آيات القرآن كقوله {حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ} وقوله {وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ} كما أنه بيان لقوله {وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ}. ولذا قال صلى الله عليه وسلم مبيناً: أن أفعاله في الحج، بيان للقرآن «لتأخذوا عني مناسككم» وقد قدمنا اتفاق الأصوليين، على أن فعله صلى الله عليه وسلم الذي هو بيان لإجمال نص يقتضي الوجوب: أنه واجب إلى آخر ما قدمناه من الأدلة.
وقد علمت مما ذكرنا أن القائلين بجواز ذبح هدي التمتع عند الإحرام بالحج، أو بعد الفراغ من العمرة كالشافعي وأبي الخطاب من الحنابلة، ليس معهم حجة واضحة من كتاب الله، ولا من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا فعل أحد من الصحابة وأن تمسكهم بآية {فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ} وبعض الأحاديث ليس في شيء منه حجة ناهضة، يجب الرجوع إليها، هذا ما ظهر لنا في هذه المسألة، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
اعلم أن ما يفعله كثير من الحجاج الذين يزعمون التقرب بالهدي، يوم النحر من ذبح الغنم في أماكن متفرقة من منى لا يقدر الفقراء على الوصول إليها، والتمكن منها، وتركها مذبوحة ليس بقربها فقير ينتفع بها، وتضيع تلك الغنم بكثرة وتنتفخ وينتشر نتن ريحها في أقطار منى، حتى يعم أرجاءها النتن كأنه نتن الجيف أن كل ذلك لا يجوز وهو إلى المعصية أقرب منه إلى الطاعة. ولا يجوز لمن بسط الله يده إقرارهم على ذلك، لأنه فساد وأذية لسائر الحجاج بالأرواح المنتنة، وإضاعة للمال، وإفساد له باسم التقرب إلى الله، ودواء ذلك الداء المنتشر في منى كل سنة أن يعلم كل مهد وكل مضح: أنه يلزمه إيصال لحم ما يتقرب به إلى الفقراء، فعليه إذا ذبحها أن يؤجر من يسلخها طرية حتى ذبحها أو يسلخها هو، ويحملها بنفسه أو بأجرة، حتى يوصلها إلى المستحقين، لأن الله يقول {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ} ويقول {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَـٰنِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ} ولا يمكنه إطعام أحد ممن أمره الله بإطعامهم إلا بإيصال ذلك إليهم، ولو اجتهد في إيصاله إليهم، لأمكنه ذلك لأنه قادر عليه وعلى من بسط الله يده، أن يعين الحجاج المتقربين بالدماء على طريق الإيصال إلى الفقراء بالطرق الكفيلة بتيسير ذلك كتهيئة عدد ضخم من العاملين للإيجار يوم النحر على سلخ الهدايا والضحايا طرية، وحمل لحومها إلى الفقراء في أماكنهم، وكتعدد مواضع الذبح في أرجاء منى، وفجاج مكة، ونحو ذلك من الطرق المعينة على إيصال الحقوق لمستحقيها.
واعلم: أن التحقيق أن فقراء الحرم هم الموجودون فيه وقت نحر الهدايا منى الآفاقيين، وحاضري المسجد الحرام، فإن ذبح في موضع فيه فقراء، وخلى بينهم وبين الذبيحة أجزأه ذلك لأنه يسر لهم الأكل منها بطريق لا كلفة عليهم فيها، فكأنه أطعمهم بالفعل، والعلم عند الله تعالى.
ومعلوم أن المتمتع إذا لم يجد هدياً أنه ينتقل إلى الصوم كما قال تعالى {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}.
وأظهر قولي أهل العلم عندي أن معنى قوله في الحج: أي في حالة التلبس بإحرام الحج، لأن الظاهر من اسم الحج هو الدخول في نفس الحج، وذلك بالإحرام وقال بعض أهل العلم: المراد بالحج أشهره، واستدل بقوله تعالى {ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ} ولا دليل في الآية عندي، لأن الكلام على حذف مضاف: أي زمن الحج أشهر معلومات. وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أسلوب عربي كما أشار له في الخلاصة بقوله: وما يلي المضاف يأتي خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا

وعليه فينبغي أن يحرم بحجه، قبل يوم التروية ليتم الثلاثة. قبل يوم النحر لأن صومه لا يجوز.
وكره بعض أهل العلم للحاج صوم يوم عرفة، واستحب أن يفرغ من صوم الثلاثة قبله، وجزم به صاحب المهذب والتحقيق: أن السبعة إنما يصومها بعد الرجوع إلى أهله، ووصوله إلى بلده، وأنه ليس المراد أنه يصومها في طريقه في رجوعه. وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر: أن المراد الرجوع إلى أهله وهو ظاهر القرآن. فلا يجوز العدول عنه. والظاهر أن الأيام الثلاثة والأيام السبعة: لا يجب التتابع في واحد منهما، لعدم الدليل على ذلك قال في المغني: ولا نعلم فيه خلافاً، وإن فاته صومها قبل يوم النحر، فهل يجوز له أن يصوم أيام التشريق الثلاثة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:
أحدهما: أنه لا يجوز صوم أيام التشريق للمتمتع.
والثاني: يجوز له صومها، وفيها قول ثالث: أنها يجوز صومها مطلقاً، ولا يخفى بعد هذا القول وسقوطه. أما حجة من قال: إنها لا يجوز صومها للمتمتع، ولا غيره فهو ما رواه مسلم في صحيحه. وحدثنا سريج بن يونس، حدثنا هشيم، أخبرنا خالد، عن أبي المليح، عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيام التشريق أيام أكل الشرب» وفي لفظ عند مسلم عنه زيادة «وذكر الله».
وقال مسلم في صحيحه أيضاً: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن سابق، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه أنه حدثه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق، فنادى: أنه لا يدخل الجنة، إلا مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشرب» وفي لفظ عند مسلم: «فناديا» ا هـ منه قالوا: فهذا الحديث الصحيح الذي رواه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم صحابيان: هما كعب بن مالك، ونبيشة بن عبد الله الهذلي، فيه التصريح من النَّبي صلى الله عليه وسلم بأن أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذلك يدل على أنها لا يجوز صومها. وظاهر الحديث الإطلاق في المتمتع وغيره. وفي الحديث المذكور: الرد على من أجاز صومها مطلقاً، ومما يؤيد ذلك حديث عمرو بن العاص أنه قال لابنه عبد الله في أيام التشريق: إنها الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومهن، وأمر بفطرهن. قال ابن حجر في الفتح: أخرجه أبو داود، وابن المنذر وصححه ابن خزيمة والحاكم.
وأما حجة من قال بجواز صوم أيام التشريق الثلاثة للمتمتع الذي فاته صومها قبل يوم النحر، فهي ما رواه البخاري في صحيحه قال: باب صيام أيام التشريق، قال أبو عبد الله: قال لي محمد بن المثنى: حدثنا يحيى، عن هشام قال: أخبرني أبي كانت عائشة رضي الله عنها تصوم أيام منى، وكان أبوها يصومها.
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة: سمعت عبد الله بن عيسى عن الزهري عن عروة، عن عائشة، وعن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهم قالا: لم يرخص في أيام التشريق، أو يصمن، إلا لمن لم يجد الهدي. انتهى منه قالوا: فهذا الحديث له حكم الرفع وفيه التصريح بالترخيص في صوم أيام التشريق للمتمتع، الذي لم يجد هدياً، والروايات الصحيحة التي رواها الحفاظ من أصحاب شعبة، لم يرخص بضم الياء وفتح الخاء مبيناً للمفعول.
قال في الفتح: ووقع في رواية يحيى بن سلام عن شعبة عند الدارقطني، واللفظ له، والطحاوي: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق، وقال: إن يحيى بن سلام، ليس بالقوي، ولم يذكر طريق عائشة، وأخرجه من وجه آخر ضعيف عن الزهري، عن عروة عن عائشة، وإذا لم تصح هذه الطرق المصرحة بالرفع، بقي الأمر على الاحتمال.
وقد اختلف علماء الحديث في قول الصحابي: أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا، هل له حكم الرفع؟ على أقوال:
ثالثها: إن أضافه إلى عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم فله حكم الرفع، وإلا فلا. واختلف في الترجيح فيما إذا لم يضفه، ويلتحق به رخص لنا في كذا وعزم علينا ألا نفعل كذا كل في الحكم سواء، فمن يقول: إن له حكم الرفع فغاية ما وقع في رواية يحيى بن سلام، أنه روى بالمعنى. لكن قال الطحاوي: إن قول ابن عمر وعائشة أخذاه من عموم قوله تعالى {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ} لأن قوله: في الحج يعم ما قبل النحر، وما بعده، فتدخل أيام التشريق فعلى هذا، فليس بمرفوع بل هو بطريق الاستنباط منهما، عما فهماه من عموم الآية. وقد ثبت نهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق، وهو عام في حق المتمتع وغيره. وعلى هذا فقد تعارض عموم الآية المشعر بالإذن، وعموم الحديث المشعر بالنهي، وفي تخصيص عموم المتواتر الآحاد نظر لو كان الحديث مرفوعاً، فكيف وفي كونه مرفوعاً نظر، فعلى هذا يترجح القول بالجواز، وإلى هذا جنح البخاري والله أعلم. انتهى كلام ابن حجر في الفتح وتراه فيه يجعل: أمرنا ونهينا، ورخص لنا وعزم علينا كلها سواء في الخلاف المذكور هل لها حكم الرفع أو الوقف، وممن قال: بصوم أيام التشريق للمتمتع: ابن عمر، وعائشة، وعروة، وعبيد بن عمير، والزهري، ومالك، والأوزاعي وإسحاق، والشافعي في أحد قوليه، وأحمد في إحدى الروايتين، وممن روى عنه عدم صوم المتمتع لها: الشافعي في القول الثاني، وأحمد في الرواية الثالثة، وروي نحوه عن علي والحسن، وعطاء وهو قول ابن المنذر قاله في المغني.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: مسألة صوم أيام التشريق للمتمتع يظهر لي فيها أنها بالنسبة إلى النصوص الصريحة، يترجح فيها، عدم جواز صومها وبالنظر إلى صناعة علم الحديث يترجح فيها جواز صومها، وإيضاح هذا أن عدم صومها: دل عليه حديث نبيشة الهذلي، وكعب بن مالك في صحيح مسلم، كما قدمنا وكلا الحديثين صريح في أن كونها: أيام أكل وشرب. من لفظ النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهو نص صحيح صريح في عدم صومها، فظاهره الإطلاق في المتمتع، الذي لم يجد هدياً وفي غيره.
ولم يثبت نص صريح من لفظ النَّبي صلى الله عليه وسلم ولا من القرآن: يدل على جواز صومها للمتمتع، الذي لم يجد هدياً، وما ذكره ابن حجر عن الطحاوي من أن ابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم أخذا جواز صومها من ظاهر عموم قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ} ليس بظاهر، والظاهر سقوطه والله أعلم لإجماع جميع المسلمين: أن الحاج إذا طاف طواف الإفاضة، بعد رمي جمرة العقبة، والحلق: أنه يحل له كل شيء حرم عليه بالحج من النساء، والصيد، والطيب، وكل شيء. فقد زال عنه الإحرام بالحج بالكلية، وصار حلالاً حلاً تاماً كل التمام. وذلك ينافي كونه يطلق عليه أنه في الحج، فإن صام أيام التشريق فقد صامها في غير الحج، لأنه تحلل من حجه، وقضى مناسكه.
ومن أصرح الأدلة في ذلك: أن الله صرح بأنه لا رفث في الحج، وأيام التشريق يجوز فيها الرفث بالجماع، فما دونه فدل على أن ذلك الرافث فيها ليس في الحج، وأما الرمي في أيام التشريق فهو من السنن الواقعة بعد تمام الحج تابعة له، وكذلك النحر فيها إن لم ينحر يوم النحر.
أما كونه في أيام التشريق: يصدق عليه أنه في الحج بعد إحلاله منه، وفراغه منه، حتى يتناوله عموم الآية، فليس بظاهر عندي. والله تعالى أعلم.
وأما بالنظر إلى صناعة علم الحديث فالذي يترجح هو جواز صوم أيام التشريق للمتمتع، الذي لم يجد هدياً، لأن المشهور الذي عليه جمهور المحدثين: أن قول الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو رخص لنا في كذا، أو أحل لنا كذا له كله حكم الرفع، فهو موقوف لفظاً مرفوع حكماً.
قال ابن الصلاح في علوم الحديث الثاني: قول الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا من نوع المرفوع، والمسند عند أصحاب الحديث، وهو قول أكثر أهل العلم، وخالف في ذلك فريق منهم: أبو بكر الإسماعيلي، والأول هو الصحيح، لأن مطلق ذلك ينصرف بظاهره إلى من إليه الأمر والنهي، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى محل الغرض منه
وقد قال بعد هذا: ولا فرق بين أن يقول ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعده.
وقال النووي في تقريبه: الثاني قول الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو من السنة كذا، أو أمر بلال أن يشفع الأذان وما أشبهه، كله مرفوع على الصحيح الذي قاله الجمهور. وقيل: ليس بمرفوع، ولا فرق بين قوله في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعده انتهى منه، وعلى هذا درج العراقي في ألفيته في قوله: قول الصحابي من السنة أو نحو أمرنا حكمه الرفع ولو
بعد النَّبي قاله بأعصر على الصحيح وهو قول الأكثر

وفي علوم الحديث مناقشات في هذه المسألة معروفة، والصحيح عندهم الذي عليه الأكثر: أن ذلك له حكم الرفع وبه تعلم أن حديث ابن عمر، وعائشة عند البخاري لم يرخص في أيام التشريق، أن ضمن الحديث له حكم الرفع. وإذا قلنا: إنه حديث صحيح مرفوع عن صحابيين، فلا إشكال في أنه يخصص به عموم حديث نبيشة، وكعب بن مالك، ولو كان ظاهر الآية، يدل على صومها، كما ذكره ابن حجر عن الطحاوي، فلا مانع من تخصيص عمومها بالحديث المرفوع.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن التحقيق، جواز تخصيص عموم المتواتر، بأخبار الآحاد كما هو معلوم، لأن التخصيص بيان، والبيان يجوز بكل ما يزيل اللبس، ولذا كان جمهور العلماء على جواز بيان المتواتر، بأخبار الآحاد، كتخصص عموم {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وهو متواتر بحديث «لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها» وهو خبر آحاد، وقد أكثرنا من أمثلته في هذا الكتاب المبارك، وكذلك أجاز الجمهور تخصيص المنطوق بالمفهوم كتخصيص عموم: «في أربعين شاة شاة» وهو منطوق بمفهوم المخالفة في حديث «في الغنم السائمة زكاة» عند من يقول بذلك.
والحاصل: أن المبين باسم الفاعل، يجوز أن يكون دون المبين باسم المفعول في السند، وفي الدلالة، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله: وبين القاصر من حيث السند أو الدلالة على ما يعتمد

وقد أوضحنا هذا، وذكرنا كلام أهل العلم فيه في ترجمة هذا الكتاب المبارك.
وقد يترجح عند الناظر عدم صومها للمتمتع من وجهين:
الأول: أن عدم صومها مرفوع رفعاً صريحاً، وصومها موقوف لفظاً، مرفوع حكماً على المشهور، والمرفوع صريحاً أولى بالتقديم من المرفوع حكماً.
والثاني: أن الجواز والنهي، إذا تعارضا قدم النهي، لأن ترك مباح أهون من ارتكاب منهي عنه، وقد يحتج المخالف، بأن دليل الجواز خاص بالمتمتع، ودليل النهي عام، والخاص يقضي على العام، والعلم عند الله تعالى. فإن أخر صوم الأيام الثلاثة، عن يوم عرفة فقد فات وقتها على القول، بأن أيام التشريق لا يصومها المتمتع، وعلى القول بأنه يصومها إنما يخرج وقتها بانتهاء أيام التشريق وهل عليه قضاؤها بعد ذلك؟ لا أعلم في ذلك نصاً من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والعلماء مختلفون في ذلك فقال بعضهم: يقضيها فيصوم عشرة، ومن قال بهذا القول، من أهل العلم اختلفوا، هل يفرقها، فيفصل بين الثلاثة، والعشرة، بمقدار ما وجب التفريق بينهما في الأداء، لو لم تفت في وقتها بناء على أن تقديم الثلاثة على السبعة لا يتعلق بالوقت، فلم يسقط كترتيب أفعال الصلاة، أو ليس عليه تفريقها، بل يجوز أن يصوم العشرة كلها متوالية، بناء على أن التفريق وجب بحكم الوقت المعين، وقد فات، فسقط كالتفريق بين الصلوات التي فاتت أوقاتها، فإنها تقضي متوالية، لا متفرقة على أوقاتها حسب الأداء لو لم تفت، والتفريق بين الثلاثة والسبعة في الصوم هو مذهب الشافعي، وعدمه: مذهب أحمد، وعلى قول من قالوا: بلزوم قضاء الأيام الثلاثة، بعد خروج وقتها.
فبعضهم يقول: لا دم على المتمتع، لأنه قضى ما فات، وهو مذهب الشافعي. وقيل: عليه دم مع القضاء، لأجل التأخير، وجزم به الخرقي وهو مروي عن أحمد. وقال القاضي: إن أخره لعذر، فليس عليه إلا القضاء، ولا دم. وعن أحمد لا دم مع القضاء بحال.
وقيل: لا تقضي الأيام الثلاثة، بعد خروج وقتها، ويلزم الدم لسقوط قضائها بفوات وقتها، ولا يجوز صوم السبعة بعد ذلك، لأنها تابعة للثلاثة التي سقطت، ويتعين الدم، وهذا مذهب أبي حنيفة، وآخر وقت الثلاثة عنده يوم عرفة.
واعلم: أن أبا حنيفة وأحمد يقولان: إن صوم الثلاثة للعاجز عن الهدي، يجوز قبل التلبس بإحرام الحج، فمذهب أبي حنيفة: أن أول وقت صومها في أشهر الحج، بين الإحرامين، والأفضل عنده: أن يؤخرها إلى آخر وقتها، فيصوم السابع، ويوم التروية، ويوم عرفة. وبعض الحنفية يروي هذا عن علي رضي الله عنه. وعند أحمد: يجوز صومها، عند الإحرام بالعمرة، وعنه: إذا حل من العمرة، وهذه الأقوال مبنية على أن قوله: في الحج يراد به: أشهره. وقد بينا عدم ظهوره، وعند مالك والشافعي: لا يجوز صومها إلا بعد التلبس بإحرام الحج، وهذا أقرب لظاهر القرآن، وهما يقولان: ينبغي تقديمها قبل يوم النحر، والشافعي: يستحب إنهاءها قبل يوم عرفة، فإن لم يصم إلى يوم النحر، أفطر يوم النحر، وصام عند مالك أيام التشريق، فإن لم يصمها، حتى رجع إلى بلده وله به مال: لزمه أن يبعث بالهدي، إلى الحرم، ولا يجزئه الصوم عنده، وليس له أن يؤخر الصيام، ليهدي من بلده، وفي صوم أيام التشريق، للمتمتع عند الشافعية: قولان. وعن أحمد: روايتان فيهما. وقد علمت أن أبا حنيفة لا يجيز صومها. وأن مالكاً يجيزه ويكفي عنده في صوم السبعة الرجوع من منى.
وقد قدمنا أن التحقيق أن صومها بعد الرجوع إلى أهله لحديث ابن عمر الثابت في الصحيح: فما يروى عن مالك وأبي حنيفة، والشافعي، وغيرهم مما يخالف ذلك من الروايات لا ينبغي التعويل عليه، لمخالفته الحديث الصحيح. ولفظه: «فمن لم يجد هدياً فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» الحديث هذا لفظ مسلم في صحيحه، ولفظ البخاري «فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» فلفظة: إذا رجع إلى أهله في الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعاً إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهو تفسير منه لقوله تعالى {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} وإذا ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، من حديث ابن عمر: تفسير الرجوع في الآية برجوعه إلى أهله، فلا وجه للعدول عنه.
وفي صحيح البخاري، من حديث ابن عباس بلفظ «وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم» وكل ذلك يدل على أن صوم السبعة بعد رجوعه، إلى أهله، لا في رجوعه إلى مكة، ولا في طريقه كما هو ظاهر النصوص، التي ذكرنا، بل صريحها، والعدول عن النص، بلا دليل يجب الرجوع إليه لا يجوز، والعلم عند الله تعالى.
والأظهر عندي: أنه إن صام السبعة قبل يوم النحر، لا يجزئه ذلك، فما ذلك اللخمي من المالكية: من أنه يرى إجزاءها لا وجه له. والله أعلم.
بل لو قال قائل: بمقتضى النصوص، وقال لا تجزىء قبل رجوعه إلى أهله، لكان له وجه من النظر واضح لأن من قدمها قبل الرجوع إلى أهله، فقد خالف لفظ النَّبي صلى الله عليه وسلم، الثابت في الصحيحين عن ابن عمر وهو لفظ منه صلى الله عليه وسلم، في معرض تفسير آية {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} والعدول عن لفظه الصريح، المبين لمعنى القرآن. لو قيل: بأنه لا يجزىء فاعله، لكان له وجه، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن العاجز عن الهدي في حجه ينتقل إلى الصوم ولو غنياً في بلده هذا هو الظاهر، وإن عجز وابتدأ صوم الثلاثة ثم وجد الهدي، بعد أن صام يوماً منها أو يومين، فالأظهر عندي فيه: أنه لا يلزمه الرجوع إلى الحج، لأنه دخل في الصوم بوجه جائز وأنه ينبغي له أن ينتقل إلى الهدي، واستحباب الانتقال إلى الهدي هو مذهب مالك، ومن وافقه. وممن وافقه الحسن، وقتادة والشافعي وأحمد. وعن ابن أبي نجيح، وحماد، والثوري، والمزني: إن وجد الهدي، قبل أن يكمل صوم الثلاثة، فعليه الهدي. وقيل: متى قدر على الهدي قبل يوم النحر انتقل إليه صام، أو لم يصم، والأظهر ما قدمنا والله أعلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي: أنه إن فاته صوم الثلاثة في وقتها، إلى ما بعد أيام التشريق أنه يجري على القاعدة الأصولية التي هي: هل يستلزم الأمر المؤقت القضاء، إذا فات وقته، أو لا يستلزمه؟ وقد قدمنا الكلام على تلك المسألة مستوفى في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَـوٰةَ}.
فعلى القول: بأن الأمر يستلزم القضاء فلا إشكال في قضاء الثلاثة، بعد وقتها وعلى القول: بأنه لا يستلزم القضاء يحتمل أن يقال: بوجوب القضاء لعموم حديث: «فدين الله أحق أن يقضى» ويحتمل أن يقال بعدمه، بناء على أن صوم الثلاثة في الحج، ليكون ذلك مسوغاً لقضاء التفث، لأن الدم مسوغ لقضاء التفث، ممن عنده هدي فلا يبعد أن يكون بعض الصوم، قدم لينوب عن الدم في تسويغ قضاء التفث. وعلى هذا الاحتمال: لا يظهر القضاء، ولا يبعد لزوم الدم للإخلال بالصوم في وقته، والعلم عند الله تعالى.
أما لزوم صوم السبعة بعد الرجوع، إلى أهله، فالذي يظهر لي: لزومه لمن لم يجد الهدي مطلقاً: وأنه لا يسقط بحال لأن وجوبه ثابت بالقرآن فلا يمكن إسقاطه، إلا بدليل واضح، يجب الرجوع إليه. فجعل الدم بدلاً منه إن فات صوم الثلاثة في وقتها، ليس عليه دليل يوجب ترك العمل بصريح القرآن في قوله: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}.
تنبيه
إذا أخر الحاج طواف الإفاضة، عن أيام التشريق إلى آخر ذي الحجة مثلاً، فهل يجزئه حينئذ صوم الأيام الثلاثة لأنه لم يزل في الحج، لبقاء ركن منه، ولأنه لا يجوز له الرفث إلى النساء، لأنه لم يزل في الحج، أو لا يجوز له صومها نظراً إلى أن وقت الطواف، الذي بينه النَّبي صلى الله عليه وسلم وقال «لتأخذوا عني مناسككم» قد فات؟ وهذا التأخير مخالف للسنة، فلا عبرة به، وهذا أظهر عندي. والله تعالى أعلم.
وبنحوه جزم النووي في شرح المهذب قائلاً: إن تأخير الطواف بعيد فلا يحمل عليه قوله تعالى في الحج وذكر عن بعض الشافعية وجهاً آخر غير هذا. وإن مات المتمتع العاجز، عن الصوم قبل أن يصوم فقال بعض أهل العلم: يتصدق عما أمكنه صومه، عن كل يوم بمد من حنطة، وهو مروي عن الشافعي. وقيل: يهدي عنه. وقيل: لا هدي عنه، ولا إطعام. والله تعالى أعلم.
واختلف أهل العلم: إن وجب عليه الصوم فلا يشرع فيه، حتى قدر على الهدي هل ينتقل إلى الهدي، لأن الصوم إنما لزم للعجز عن الهدي، وقد زال بوجوده، وهذا إن وقع قبل يوم النحر، لا ينبغي أن يختلف فيه. أما إن وجد الهدي، بعد فوات وقت الأيام الثلاثة، فهو محل القولين، وهما روايتان، عن أحمد، وقد قدمنا كلام أهل العلم في ذلك، ولا نص فيه.
والأظهر: أن صوم السبعة الذي لم يعين له وقت لا ينبغي العدول عنه، إلى غيره، كما تقدم خلافاً لمن قال بغير ذلك، والعلم عند الله تعالى.
هذا هو حاصل ما يتعلق بالدماء الواجبة، بغير النذر مع كونها منصوصاً عليها في القرآن.
أما الدماء التي لم يذكر حكمها في القرآن، وقد قاسها العلماء على المذكورة في القرآن، فمنها: دم الفوات. فقد روى مالك في الموطأ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه أمر أبا أيوب الأنصاري، وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج، وأتيا يوم النحر: أن يحلا بعمرة، ثم يرجعا حلالاً ثم يحجان عاماً قابلاً، ويهديان، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله. انتهى محل الغرض منه.
فقد قاس عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دم الفوات على دم التمتع حيث قال: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وقول عمر ثلاثة أيام في الحج، لا يظهر في الفوات، لأن الفوات لا يتحقق إلا بانتهاء ليلة النحر، اللهم إلا إذا كان عاقه عائق، وهو بعيد، بحيث لو سار ثلاثة أيام لم يدرك عرفة ليلة النحر، فحينئذ قد يصومها وكأنه في الحج، لأنه لم يحصل له الفوات فعلاً، وإن كان الفوات محققاً وقوعه في المستقبل، ووجه قياس: دم الفوات على دم التمتع، حتى صار بدله من الصوم كبدله. ذكره ابن قدامة في المغني قائلاً: إن هدي التمتع، إنما وجب للترفه بترك أحد السفرين وقضائه النسكين في سفر واحد، فيقاس عليه دم من فاته الحج بجامع أنه ترك بعض ما اقتضاه إحرامه، فصار كالتارك. لأحد السفرين انتهى محل الغرض منه. ولا يظهر عندي كل الظهور.
ثم قال في المغني: فإن قيل: فهلا ألحقتموه بهدي الإحصار فإنه أشبه به، إذ هو حلال من إحرامه قبل إتمامه. قلنا: الهدي فيهما سواء. وأما البدل، فإن الإحصار ليس بمنصوص على البدل فيه، وإنما ثبت قياساً، فقياس هذا على الأصل المنصوص عليه أولى من قياسه على فرعه، على أن الصيام ها هنا مثل الصيام، عن دم الإحصار، وهو عشرة أيام أيضاً، إلا أن صيام الإحصار: يجب أن يكون قبل حله، وهذا يجوز فعله قبل حله وبعده، وهو أيضاً مفارق لصوم المتعة، لأن الثلاثة في المتعة: يستحب أن يكون آخرها يوم عرفة، وهذا يكون بعد فوات عرفة. والخرقي، إنما جعل الصوم عن هدي الفوات مثل الصوم، عن جزاء الصيد، عن كل مد يوماً. والمروي عن عمر وابنه مثل ما ذكرنا، ويقاس عليه أيضاً: كل دم وجب لترك واجب، كدم القران وترك الإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، والمبيت بمزدلفة، والرمي، والمبيت ليالي منى بها، وطواف الوداع. فالواجب فيه: ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام، وأما من أفسد حجه بالجماع، فالواجب فيه بدنة بقول الصحابة المنتشر الذي لم يظهر خلافه، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع، كصيام المتعة. كذا قال عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو رواه عنهم الأثرم، ولم يظهر في الصحابة خلافهم، فيكون إجماعاً، فيكون بدله مقيساً على بدل دم المتعة.
وقال أصحابنا: يقوم البدنة بدراهم، ثم يشتري بها طعاماً، فيطعم كل مسكين مداً أو يصوم عن كل مد يوماً، فتكون ملحقة بالبدنة الواجبة في جزاء الصيد،
ويقاس على فدية الأذى ما وجب بفعل محظور، يترفه به كتقليم الأظافر، واللبس، والطيب وكل استمتاع من النساء: كالوطء في العمرة، أو في الحج بعد رمي جمرة العقبة، فإنه في معنى فدية الأذى من الوجه الذي ذكرنا، فيقاس عليه، ويلحق به، فقد قال ابن عباس: لامرأة وقع عليها زوجها قبل أن تقصر: عليك فدية من صيام. أو صدقة. أو نسك انتهى بطوله من المغني.
وهذه الأمور المذكورة لا نص فيها من كتاب ولا سنة.
وقد قدمنا في سورة البقرة أقوال أهل العلم في المحصر إن عجز عن الهدي هل يلزمه بدله، أو لا يلزمه شيء بدلاً منه. وأقوال من قالوا: يلزمه البدل في البدل. هل هو الصوم. أو الإطعام. بما أغنى عن إعادته هنا.
وقد علمت من كلام صاحب المغني: أن المشهور في مذهب أحمد: هو قياس دم الفوات على دم التمتع، كما فعل عمر رضي الله عنه، وأن الخرقي من الحنابلة قاسه قاسه على دم جزاء الصيد فجعل الصوم عند دم الفوات، كالصوم عن جزاء الصيد، وأن مذهب أحمد أيضاً، قياس كل دم وجب لترك واجب على دم التمتع. فيصوم عند العجز عنه عشرة أيام، وذلك كدم القران، وترك الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، والمبيت بمزدلفة والرمي والمبيت ليالي منى بها. وطواف الوداع. وكذلك قياس صوم من عجز عن البدنة في حال إفساد حجه بالجماع، فهو عند أحمد: عشرة أيام قياساً على التمتع. وقد قدمنا نقل صاحب المغني لذلك عن بعض الصحابة وعدم مخالفة غيرهم لهم.
وعن بعض الحنابلة: تقويم بدنة المجامع العاجز بالدراهم، فيشتري بها طعاماً إلى آخر ما تقدم. وأن مذهب أحمد: قياس كل دم وجب بفعل محظور، كاللبس، والطيب، وتقليم الأظافر، ونحو ذلك على فدية الأذى. وقد قدمنا أن قياس تلك الأشياء على فدية الأذى، مجمع عليه من الأئمة الأربعة، إلا أن أبا حنيفة. يخصصه بما فعل للعذر، ويوجب الدم دون غيره، فيما فعل من ذلك لا لعذر كما تقدم إيضاحه.
وأما مذهب الشافعي في دم الفوات، ففيه طريقان أصحهما: قياسه على دم التمتع، في الترتيب، والتقدير، وسائر الأحكام.
والطريق الثاني: على قولين أحدهما: أنه كدم التمتع أيضاً. والثاني: أنه كدم الجماع في الأحكام، إلا أن هذا شاة، والجماع بدنة لاشتراك الصورتين في وجوب القضاء، وقد قدمنا حكم المجامع العاجز عن البدنة في مذهب الشافعي ماذا يلزمه، ومذهب الشافعي في الدم الواجب بسبب ترك بعض المأمورات كالإحرام من الميقات، والرمي والوقوف بعرفة إلى الغروب، والمبيت بمزدلفة ليلة النحر، وبمنى ليالي منى، وطواف الوداع هو أن في ذلك أربعة أوجه أصحها: أنه كدم التمتع أيضاً في الترتيب، والتقدير، فإن عجز عن الهدي، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
الوجه الثاني: أنه إن عجز عن الهدي قوم شاة الهدي دراهم، واشترى بها طعاماً وتصدق به، فإن عجز صام عن كل مد يوماً، والوجهان الآخران عند الشافعية تركناهما لضعفهما وشذوذهما، كما قاله علماء الشافعية. ومذهب الشافعي في الدم اللازم. بسبب الاستمتاع: كالطيب واللباس، ومقدمات الجماع: أن فيه عندهم أربعة أوجه، وقد قدمناها.
وقدمنا أن أصحها أنه كفدية الأذى المنصوصة في آية الفدية. ودم الجماع فيه، عند الشافعية طرق واختلاف منتشر، والمذهب المشهور عندهم: أنه بدنة، فإن عجز عنها فبقرة، فإن عجز فسبع شياه، فإن عجز قوم البدنة بدراهم، والدراهم بطعام ثم تصدق به، فإن عجز صام عن كل مد يوماً. وقيل: إن عجز عن الغنم قوم البدنة وصام، فإن عجز أطعم، فيقدم الصيام على الإطعام ككفارة الظهار ونحوها. وقيل: لا مدخل للإطعام والصيام، بل إذا عجز عن الغنم ثبت الفداء في ذمته. وقيل: إنه يتخير بين البدنة، والبقرة، والغنم، فإن عجز عنها، فالإطعام ثم الصوم. وقيل: يتخير بين البدنة، والبقرة والشياه، والإطعام والصيام وكل هذه الأقوال لا دليل على شيء منها من كتاب ولا سنة ولا قياس جلي.
وقول الظاهرية: إن كل ما لم يثبت من هذه المذكورات من صيام، ودم لا يجب، لأن كل ما سكت عنه الوحي فهو عفو له وجه من النظر، والعلم عند الله تعالى.
وقد قدمنا أن مذهب مالك هو قياس الطيب واللبس ونحو ذلك على فدية الأذى كغيره، من الأئمة.
وأما دم الفوات والفساد، وترك الرمي وتعدي الميقات، وترك المبيت بمزدلفة، فكل ذلك يقيس بدله على بدل التمتع، فإن عجز عن الهدي صام عشرة أيام، وإنما يصوم الثلاثة في الحج عندهم المتمتع، والقارن ومتعدي الميقات، ومفسد الحج ومن فاته الحج.
وأما من لزمه ذلك لترك جمرة أو النزول بمزدلفة، فيصوم متى شاء، لأنه يقضي في غير حج، فيصوم في غير حج. ا هـ من المواق.
وقد قدمنا في مسائل الحج التي ذكرناها في الكلام على آية الحج: بعض المسائل التي يتعدد فيها الدم، وبعض المسائل التي لا يتعدد فيها في مواضع متفرقة، مع عدم النص في ذلك من كتاب أو سنة.
والأظهر عندي: أن الدماء إن اختلفت أسبابها كمن جاوز الميقات غير محرم، ودفع من عرفة قبل غروب الشمس عند من يقول حجه صحيح، وعليه دم، وترك المبيت بمزدلفة وترك المبيت بمنى أيام منى، أنه تتعدد عليه الدماء، بتعدد أسبابها مع اختلافها. أما إن كانت الأسباب المتعددة من نوع واحد، كأن ترك رمي يوم، ثم ترك رمي آخر أو بات ليلة من ليالي منى في غير منى ثم كرر ذلك، فللتعدد وجه وللاتحاد وجه، وقد قدمنا أقوال أهل العلم في ذلك في محله. والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن من اعتمر في أشهر الحج، وأحل من عمرته، وهو يريد التمتع ثم كرر العمرة في أشهر الحج: لا يلزمه إلا هدي تمتع واحد، ولا ينبغي أن يختلف في ذلك، والعلم عند الله تعالى.
وقد قدمنا أن أقل الهدي واجباً كان للتمتع والقران ونحوهما، أو غير واجب شاة تجزىء ضحية أو شرك في دم، كسبع بدنة أو بقرة على التحقيق، كما تقدم إيضاحه، ولا عبرة بخلاف من خالف في الاشتراك فيه لثبوته بالنص الصحيح.
واعلم: أن من أحرم بعمرة في أشهر الحج له أن يدخل عليها الحج، فيكون قارناً، وعليه دم القران ما لم يفتتح الطواف بالبيت، وإن افتتح الطواف: ففي جواز إدخاله عليها حينئذ، خلاف بين أهل العلم.
قال النووي: فجوزه مالك ومنعه عطاء، والشافعي، وأبو ثور.
واختلفوا أيضاً في إدخال العمرة على الحج، فيكون قارناً، وعليه دم القران، وقد قدمنا أن الشافعية والمالكية يقولون: إن ذلك هو الذي فعله النَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأكثرهم يقول: هو لا يجوز لغيره، بل جوازه خاص به صلى الله عليه وسلم كما قدمنا.
وقال النووي في شرح المهذب: واختلفوا في إدخال العمرة على الحج، فقال أصحابنا: يجوز، ويصير قارناً وعليه دم القران، وهو قول قديم للشافعي ومنعه الشافعي في مصر، ونقل منعه عن أكثر من لقيه. ا هـ محل الغرض منه.
والظاهر: أن المحرم المتمتع إذا أحل من عمرته، يستحب له ألا يحرم بالحج، إلا يوم التروية لأن ذلك هو الذي فعله أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم، بأمره في حجة الوداع، ومحل هذا إن كان واجداً هدي التمتع، فإن كان عاجزاً عنه ويريد أن يصوم، استحب له تقديم الإحرام، ليصوم الأيام الثلاثة في إحرام الحج، وقد قدمنا أقوال من قال من أهل العلم: إنه ينبغي أن يكون آخرها يوم عرفة، وقول من كره صوم يوم عرفة واستحب انتهاءها قبل يوم عرفة. والله
تعالى أعلم.
تنبيه
إذا فرغ المتمتع من عمرته، وكان لم يسق هدياً فإن له التحلل التام، فله مس الطيب والاستمتاع بالنساء، وكل شيء حرم عليه بإحرامه، فإن كان ساق الهدي ففيه للعلماء قولان:
أحدهما: أن له التحلل أيضاً، لأن الله يقول في التمتع {فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ} ولا يمنعه سوق الهدي من ذلك، لأنه متمتع.
والقول الثاني: أنه لا يجوز له الإحلال حتى يبلغ الهدي محله يوم النحر، واستدل من قال بهذا بحديث: حفصة رضي الله عنها، الذي قدمناه أنها قالت له صلى الله عليه وسلم: ما شأن الناس حلوا، ولم تحلل أنت من عمرتك؟ فقال «إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر» وكلا القولين قال به جماعة من الأئمة رضي الله عنهم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي: أن له أن يحل من إحرامه، ولكنه يؤخر ذبح هدي تمتعه، حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر، كما قدمنا إيضاحه. والاحتجاج بحديث حفصة المذكور لا ينهض كل النهوض لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً، فحديثها ليس في محل النزاع، لأن النزاع فيمن أحرم بعمرة يريد التحلل منها. والإحرام بالحج بعد ذلك. هل يمنعه سوق الهدي من التحلل؟ وحديث حفصة في القران، والقران ليس محل نزاع، وقولها: ولم تحلل أنت من عمرتك. تعني: عمرته المقرونة مع الحج، لا عمرة مفردة بإحرام، دون الحج كما هو معلوم، وكما تقدم إيضاحه.
ومما يوضحه أنه صلى الله عليه وسلم قال «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة» فدل على أنه لم يجعلها عمرة مفردة الذي هو محل النزاع، لأن ظاهره أنها لو كانت مفردة لكان له الإحلال منها مطلقاً، ولا حجة في قوله «لما سقت الهدي» لأنه ساقه لقران لا لعمرة مفردة عن الحج.
وقال النووي: فإن قيل: قد ثبت في صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة، حتى قدمنا مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يتحلل حتى ينحر هديه، ومن أهل بحجة فليتم حجه».
فالجواب: أن هذه الرواية مختصرة من روايتين ذكرهما مسلم قبل هذه الرواية، وبعدها قالت «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً» فهذه الرواية مفسرة للأولى ويتعين هذا التأويل، لأن القصة واحدة فصحت الروايات. انتهى منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ومما يؤيد ما ذكرنا عن النووي: أن رواية حديث عائشة المذكورة التي قال: إنها يجب تأويلها بتفسيرها بالروايات الصحيحة الأخرى فيها ما لفظه: ومن أهل بحجة فليتم حجه. لكثرة الروايات الصحيحة المتفق عليها عن جماعة من الصحابة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كل من أحرم بحج مفرداً، ولم يسق هدياً أن يفسخ حجه في عمرة، ويحل منها الحل كله، فعلم أن قولها: ومن أهل بحجة فليتم حجته: يجب تأويله، وتفسيره بالروايات الأخرى الصحيحة، كما قال النووي. وقول من قال: إن سوق الهدي في عمرته يمنعه من الإحلال منها، حتى ينحر يوم النحر له وجه قوي من النظر لدخوله في ظاهر عموم قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ}، وهذا المعتمر المتمتع الذي ساق معه هدي التمتع إن حل من عمرته حلق قبل أن يبلغ هديه محله، والعلم عند الله تعالى. ولنكتف هنا بما ذكرنا من أحكام الدماء الواجبة بغير النذر.
أما الهدي الذي ليس بواجب: وهو هدي التطوع، وهو مستحب فيستحب لمن قصد مكة حاجاً أو معتمراً أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام، وينحره ويفرقه «لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة وهو قارن» ويكفي لدم القران بدنة واحدة، بل شاة واحدة، وبقية المائة تطوع منه صلى الله عليه وسلم: ويستحب أن يكون ما يهديه سميناً حسناً لقوله تعالى: {ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَـٰئِرَ ٱللَّهِ}. وعن ابن عباس رضي الله عنهما تعظيمها الاستسمان والاستحسان والاستعظام، ويؤيده قوله تعالى {وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَـٰهَا لَكُمْ مِّن شَعَـٰئِرِ ٱللَّهِ}. ومعلوم: أن أقل الهدي: شاة تجزىء، ضحية أو سبع بدنة أو بقرة كما تقدم إيضاحه، ولا يكون من الحيوان إلا من بهيمة الأنعام، وقد تقدم إيضاح الأنعام، وأنها الأزواج الثمانية المذكورة في آيات من كتاب الله: وهي الجمل والناقة، والبقرة والثور، والنعجة، والكبش، والعنز، والتيس.
واعلم: أن التحقيق أن الهدي والإطعام يختص بهما فقراء الحرم المكي، وأن الصوم لا يختص به مكان دون مكان، مع اختلاف في الطعام كما تقدم إيضاحه في سورة المائدة.
وأظهر قولي أهل العلم أنه يلزمه ذبح الهدي في الحرم، وتفريقه، في الحرم أيضاً، خلافاً لمن زعم جواز الذبح في الحل، إن كان تفريق اللحم في الحرم، والتحقيق أن البدن يسن تقليدها، وإشعارها فيقلدها نعلين. ومعنى إشعارها: هو جرحها في صفحة سنامها، ويسلت الدم عنها. والجمهور على أن الإشعار في صفحة السنام اليمنى، كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس خلافاً لمالك القائل: إنه في الصفحة اليسرى.
واعلم: أن التحقيق أن الإشعار المذكور سنة لثبوته عنه صلى الله عليه وسلم، خلافاً لأبي حنيفة القائل: بالنهي عنه، معللاً: بأنه مثلة وهي منهي عنها. وروي مثله عن النخعي، لأن الأحاديث الصحيحة الواردة بالإشعار تخصص عموم النهي عن المثلة ولأنه لا يسلم أنه مثلة، فهو جرح لمصلحة كالقصد والختان والحجامة والكي والوسم.
واعلم: أن الهدي من الغنم يسن تقليده، عند عامة أهل العلم، وخالف مالك وأصحابه الجمهور، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة «أنه صلى الله عليه وسلم أهدى غنماً فقلدها» وقال بعض أهل العلم: لا تقلد بالنعال لضعفها، وإنما تقلد بنحو عرى القرب، ولا تشعر الغنم إجماعاً، والظاهر أن مالكاً لم يبلغه حديث تقليد الغنم، ولو بلغه لعمل به، لأنه صحيح متفق عليه، وإشعار البقر إن كان له سنام لا نص فيه، وقاسه جماعة من أهل العلم على إشعار الإبل. والمقصود من الإشعار والتقليد وتلطيخ الهدي بالدم، هو أن يعلم كل من رآه أنه هدي، لأنه قد يختلط بغيره، فإذا أشعر وقلد تميز عن غيره، وربما شرد فيعرف أنه هدي فيرد، وهذه العلة موجودة في البقر، فمقتضى القياس: إشعاره إن كان له سنام.
وقال بعض أهل العلم: الحكمة في تقليده النعلين: أن المنتعل عندهم كالراكب لكون النعل تقي صاحبها الأذى من الحر والبرد والشوك، والقذر ونحو ذلك فكأن المهدي خرج لله عن مركوبه الحيواني، وغير الحيواني، وظاهر صنيع البخاري أنهم قلدوا البقر في حجة الوداع حيث قال: باب فتل القلائد للبدن والبقر. ثم ساق حديث حفصة المتقدم، وفيه قال: «إني لبدت رأسي وقلدت هديي». الحديث وحديث عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدي من المدينة، فأفتل قلائد هديه» الحديث، فترى البخاري قال في الترجمة هذه: باب فتل القلائد للبدن والبقر.
وقال ابن حجر. وترجمة البخاري صحيحه لأنه إن كان المراد بالهدي في الحديث الإبل والبقر معاً فلا كلام وإن كان المراد الإبل خاصة، فالبقر في معناها. ا هـ محل الغرض منه وهو كما قال.
والأظهر: أن الصواب إن شاء الله أن البقر والإبل والغنم كلها تقلد إن كانت هدياً، وأن الغنم لا تشعر قولاً واحداً، وأن السنة الصحيحة ثابتة بإشعار الإبل، ومقتضى القياس أن البقر كذلك إن كان له سنام. والله تعالى أعلم.
واعلم: أن التحقيق أن من أهدى إلى الحرم هدياً وهو مقيم في بلده ليس بحاج ولا معتمر، لا يحرم عليه شيء بإرسال الهدي كما هو ثابت في الصحيح، عن عائشة رضي الله عنها ثبوتاً لا مطعن فيه فلا ينبغي أن يعول على ما خالفه، والعلم عند الله تعالى، ولذا ثبت في صحيح البخاري: أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة رضي الله عنها أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: من أهدي هدياً حرم عليه ما يحرم على الحاج، حتى ينحر هديه قالت: عمرة. فقالت عائشة رضي الله عنها: ليس كما قال ابن عباس: فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله حتى نحر الهدي. وحديث عائشة المذكور عند البخاري: أخرجه مسلم بألفاظ كثيرة معناها واحد، إلا أن فيه: أن الذي سأل عائشة ابن زياد.
والصواب ما في البخاري من أن الذي كتب إليها يسألها هو زياد بن أبي سفيان المعروف بزياد ابن أبيه، كما نبه عليه غير واحد، فما في مسلم من كونه ابن زياد، وهم من بعض الرواة، وقد قدمنا مراراً أن السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا مطعن فيه يجب تقديمها على قول كل عالم، ولو بلغ ما بلغ من العلم والدين، وبه تعلم أن التحقيق أن من بعث بهدي، وأقام في بلده لا يحرم عليه شيء بإرسال هديه، وأن ما خالف ذلك لا يلتفت إليه، وإن زعم جماعة أنه مروي عن عمر وابنه، وعلي وقيس بن سعد بن عبادة، وسعيد بن جبير وابن سيرين، وعطاء، والنخعي، ومجاهد، لأن السنة الصحيحة مقدمة على أقوال كل العلماء وكذلك ما قاله سعيد بن المسيب: من أنه لا يجتنب إلا الجماع ليلة جمع: وهي ليلة النحر، لا يلتفت إليه. للحديث الصحيح المتفق عليه المذكور آنفاً، والحديث الذي رواه الطحاوي وغيره من طريق عبد الملك بن جابر، عن أبيه: الدال على أنه يحرم عليه ما يحرم على الحاج ضعيف، كما ذكره الحافظ في الفتح، فلا يعارض به الحديث المتفق عليه. وذكر ابن حجر في الفتح عن الزهري: ما يدل على أن الأمر استقر على حديث عائشة لما بينت به سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم ورجع الناس عن فتوى ابن عباس، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن التحقيق الذي عليه جمهور أهل العلم: أن من أراد النسك لا يصير محرماً بمجرد تقليد الهدي، ولا يجب عليه بذلك شيء خلافاً لما حكاه ابن المنذر عن الثوري وأحمد وإسحاق، من أنه يصير محرماً بمجرد تقليد الهدي، وخلافاً لأصحاب الرأي في قولهم: إن من ساق الهدي، وأم البيت ثم قلد وجب عليه الإحرام، لأن إيجاب الإحرام يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه.
وقد دلت النصوص: على أنه لا يجب، إلا إذا بلغ الميقات وأراد مجاوزته كما هو معلوم، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
الظاهر: أن التحقيق أنه لا يشترط في الهدي أن يجمع به بين الحل والحرم، فلو اشتراه من منى ونحره بها من غير أن يخرجه إلى الحل أجزأه. قال النووي في شرح المهذب: وهو مذهبنا، وبه قال ابن عباس، وأبو حنيفة وأبو ثور والجمهور. وقال ابن عمر وسعيد بن جبير: لا هدي إلا ما أحضر عرفات. وقال ابن قدامة في المغني: وليس من شرط الهدي أن يجمع فيه بين الحل، والحرم، ولا أن يقفه بعرفة لكن يستحب ذلك. وروي هذا عن ابن عباس وبه قال الشافعي، وأبو ثور وأصحاب الرأي، وكان ابن عمر لا يرى الهدي إلا ما عرف به ونحوه، عن سعيد بن جبير ا هـ محل الغرض منه.
ومعلوم أن مذهب مالك: أنه لا يذبح هدي التمتع والقران بمنى، إلا إذا وقف به بعرفة، وإن لم يقف به بعرفة ذبحه في مكة، ولا بد عنده في الهدي أن يجمع به بين الحل والحرم، فإن اشتراه في الحرم. لزمه إخراجه إلى الحل والرجوع به إلى الحرم وذبحه فيه، وإنما قلنا: إن الظاهر لنا في هذه المسألة عدم اشتراط جمع الهدي، بين الحل والحرم لثلاثة أمور.
الأول: أنه لم يرد نص بذلك يجب الرجوع إليه.
الثاني: أن المقصود من الهدي نفع فقراء الحرم، ولا فائدة لهم في جمعه بين الحل والحرم.
الثالث: أنه قول أكثر أهل العلم. وقال جماعة من أهل العلم: يستحب أن يكون الهدي معه من بلده، فإن لم يفعل فشراؤه من الطريق أفضل من شرائه من مكة، ثم من مكة، ثم من عرفات، فإن لم يسقه أصلاً بل اشتراه من منى جاز، وحصل الهدي ا هـ.
وهذا هو الظاهر واحتج من قال: بأنه لا بد أن يجمع بين الحل والحرم، بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يهد هدياً إلا جامعاً بين الحل والحرم، لأنه يساق من الحل إلى الحرم وأن ذلك هو ظاهر قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ}. وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره: أن ابن عمر اشترى هديه من الطريق، ونحو ذلك من الأدلة، ولا شك أن سوق الهدي من الحل إلى الحرم: أفضل ولا يقل عن درجة الاستحباب، كما ذكرنا عن بعض أهل العلم. أما كونه لا يجزىء بدون ذلك، فإنه يحتاج إلى دليل خاص، ولا دليل يجب الرجوع إليه يقتضي ذلك، لأن الذي دل عليه الشرع أن المقصود التقرب إلى الله بما رزقهم من بهيمة الأنعام، في مكان معين في زمن معين والغرض المقصود شرعاً حاصل، ولو لم يجمع الهدي بين حل وحرم، وجمع هديه صلى الله عليه وسلم بين الحل والحرم، محتمل للأمر الجبلي، فلا يتمحض لقصد التشريع، لأن تحصيل الهدي أسهل عليه من بلده، ولأن الإبل التي قدم بها علي من اليمن تيسر له وجودها هناك، والله جل وعلا أعلم. فحصول الهدي في الحل يشبه الوصف الطردي، لأنه لم يتضمن مصلحة كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
ولا خلاف بين أهل العلم: في أن المهدي إن اضطر لركوب البدنة المهداة في الطريق، أن له أن يركبها لما ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال: اركبها. قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها بدنة، فقال: اركبها ويلك في الثانية أو في الثالثة» هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري فقال «اركبها فقال: إنها بدنة فقال: اركبها، قال: إنها بدنة فقال: اركبها، ويلك في الثانية أو في الثالثة» وروى مسلم نحوه عن أنس، وجابر رضي الله عنهما.
واعلم: أن أهل العلم اختلفوا في ركوب الهدي، فذهب بعضهم إلى أنه يجوز للضرورة دون غيرها، وهو مذهب الشافعي، قال النووي: وبه قال ابن المنذر، وهو رواية عن مالك، وقال عروة بن الزبير، ومالك، وأحمد وإسحاق: له ركوبه من غير حاجة، بحيث لا يضره. وبه قال أهل الظاهر، وقال أبو حنيفة: لا يركبه، إلا إن لم يجد منه بداً، وحكى القاضي عن بعض العلماء: أنه أوجب ركوبها لمطلق الأمر ولمخالفة ما كانت الجاهلية عليه، من إهمال السائبة والبحيرة والوصيلة والحام.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر الأقوال دليلاً عندي في ركوب الهدي، واجباً أو غير واجب: هو أنه إن دعته ضرورة لذلك جاز وإلا فلا، لأن أخص النصوص الواردة في ذلك بمحل النزاع. وأصرحها فيه ما رواه مسلم في صحيحه. وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج: أخبرني أبو الزبير قال: سمعت جابر بن عبد الله، سئل عن ركوب الهدي؟ فقال: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا» وفي رواية عنه في صحيح مسلم: «اركبها بالمعروف حتى تجد ظهرا» ا هـ. فهذا الحديث الصحيح فيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن ركوب الهدي إنما يجوز بالمعروف، إذا ألجأت إليه الضرورة، فإن زالت الضرورة بوجود ظهر يركبه غير الهدي: ترك ركوب الهدي، فهذا القيد الذي في هذا الحديث تقيد به جميع الروايات الخالية عن القيد، لوجوب حمل المطلق على المقيد، عند جماهير أهل العلم. ولا سيما إن اتحد الحكم، والسبب كما هنا.
أما حجة من قال: بوجوب ركوب الهدي، فهي ظاهرة السقوط، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يركب هديه كما هو معلوم. وأما حجة: من أجاز الركوب مطلقاً، فهو قوله صلى الله عليه وسلم «ويلك اركبها» وقوله تعالى {لَكُمْ فِيهَا مَنَـٰفِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} (الحج: 33) على أحد التفسيرين، ولا تنهض به الحجة فيما يظهر، لأنه محمول على كونه تدعوه الضرورة إلى ذلك، بدليل حديث جابر عند مسلم الذي ذكرناه آنفاً فهو أخص نص في محل النزاع، فلا ينبغي العدول عنه، والعلم عند الله تعالى، والظاهر أن شرب ما فضل من لبنها، عن ولدها لا بأس به، لأنه لا ضرر فيه عليها ولا على ولدها. وقال بعض أهل العلم: إن ركبها الركوب المباح للضرورة ونقصها ذلك: فعليه قيمة النقص يصدق بها. وله وجه من النظر. والعلم عند الله تعالى.
وإنما قلنا: إن الظاهر أنه لا فرق في الحكم المذكور بين الهدي الواجب وغيره، لأنه صلى الله عليه وسلم قال لصاحب البدنة «اركبها» وهي مقلدة نعلاً، وقد صرح له تصريحاً مكرراً بأنها بدنة، ولم يستفصله النَّبي صلى الله عليه وسلم، هل تلك البدنة من الهدي الواجب أو غيره، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال كما تقدم إيضاحه مراراً. وقد أشار إليه في مراقي السعود بقوله:
ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في الأقوال

مسألة في حكم الهدي إذا عطب في الطريق أو بعد بلوغ محله† اعلم أولاً أن الصواب الذي لا ينبغي العدول عنه: أن من بعث معه هدي إلى الحرم فعطب في الطريق، قبل بلوغ محله: أنه ينحره ثم يصبغ نعليه في دمه، ويضرب بالنعل المصبوغ بالدم صفحة سنامها، ليعلم من مر بها أنها هدي ويخلى بينها وبين الناس، ولا يأكل منها هو، ولا أحد من أهل رفقته المرافقين له في سفره.
وإنما قلنا: إن هذا هو الصواب الذي لا ينبغي العدول عنه: لثبوته عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح، فقد روى مسلم في صحيحه، عن ابن عباس رضي الله عنهما ما لفظه «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بست عشرة بدنة، مع رجل وامرأة فيها قال: فمضى ثم رجع فقال: يا رسول الله، كيف أصنع بما أبدع على منها؟ قال: انحرها، ثم اصبغ نعليها في دمها ثم اجعله على صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك» انتهى من صحيح مسلم.
وفي رواية في صحيح مسلم، عن ابن عباس «أن ذؤيباً أبا قبيصة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه بالبدن ثم يقول: إن عطب شيء منها فخشيت عليه موتاً فانحرها، ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب بها صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك» انتهى منه. وقوله: كيف أصنع بما أبدع منها: هو بضم الهمزة، وإسكان الباء، وكسر الدال بصيغة المبني للمفعول: أي كل وأعيى حتى وقف من الإعياء، فهذا النص الصحيح،
لا يلتفت معه إلى قول من قال: إن رفقته لهم الأكل مع جملة المساكين، لأنه مخالف للنص الصحيح، ولا قول أحد مع السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، كما أوضحناه مراراً. والظاهر أن علة منعه ومنع رفقته: هو سد الذريعة لئلا يتوصل هو أو بعض رفقته إلى نحره، بدعوى أنه عطب أو بالتسبب له في ذلك للطمع في أَكل لحمه، لأنه صار للفقراء، وهم يعدون أنفسهم من الفقراء، ولو لم يبلغ محله. والظاهر: أنه لا يجوز الأكل منه للأغنياء، بل للفقراء والله أعلم.
فإن قيل: روى أصحاب السنن عن ناجية الأسلمي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بهدي فقال: إن عطب فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه، ثم خل بينه وبين الناس» ا هـ وظاهر قوله «وبين الناس» يشمل بعمومه سائق الهدي ورفقته.
فالجواب: أن حديث مسلم أصح وأخص، والخاص يقضي على العام. لأن حديث مسلم أخرج السائق ورفقته من عموم حديث أصحاب السنن. ومعلوم: أن الخاص يقضي على العام.
واعلم أن للعلماء تفاصيل في حكم ما عطب من الهدي، قبل نحره بمحل النحر، سنذكر أرجحها عندنا إن شاء الله من غير استقصاء للأقوال والحجج، لأن مسائل الحج أطلنا عليها الكلام طولاً يقتضي الاختصار في بعضها خوف الإطالة المملة.
اعلم أولاً: أن الهدي إما واجب، وإما تطوع، والواجب إما بالنذر، أو بغيره، والواجب بالنذر، إما معين، أو غير معين، فالظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه: أن الهدي الواجب بغير النذر كهدي التمتع والقران والدماء الواجبة بترك واجب، أو فعل محظور، والواجب بالنذر في ذمته كأن يقول: علي لله نذر أن أهدي هدياً، أن لجميع ذلك حالتين.
الأولى: أن يكون ساق ما ذكر من الهدي ينوي به الهدي الواجب عليه، من غير أن يعينه بالقول، كأن يقول: هذا الهدي سقته أريد به أداء الهدي الواجب علي.
والحالة الثانية: هي أن يسوقه ينوي به الهدي المذكور مع تعيينه بالقول، فإن نواه، ولم يعينه بالقول. فالظاهر: أنه لا يزال في ضمانه ولا يزول ملكه عنه، إلا بذبحه ودفعه إلى مستحقيه، ولذا إن عطب في الطريق فله التصرف فيه بما شاء من أكل وبيع، لأنه لم يزل في ملكه، وهو مطالب بأداء الهدي الواجب عليه بشيء آخر غير الذي عطب، لأنه عطب في ضمانه، فهو بمنزلة من عليه دين فحمله إلى مستحقه بقصد دفعه إليه، فتلف قبل أن يوصله إليه: فعليه قضاء الدين بغير التالف، لأنه تلف في ذمته وإن تعيب الهدي المذكور قبل بلوغه محله، فعليه بدله سليماً ويفعل بالذي تعيب ما شاء، لأنه لم يزل في ملكه، وضمانه. والذي يظهر أن له التصرف فيه، ولو لم يعطب، ولم يتعيب، لأن مجرد نية إهدائه عن الهدي الواجب لا ينقل ملكه عنه، والهدي المذكور لازم له في ذمته، حتى يوصله إلى مستحقه. والظاهر: أن له نماءه.
وأما الحالة الثانية: وهي ما إذا نواه وعينه بالقول كأن يقول: هذا هو الهدي الواجب علي. والظاهر: أن الإشعار والتقليد كذلك. فالظاهر: أنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة، فليس له التصرف فيه ما دام سليماً، وإن عطب أو سرق أو ضل أو نحو ذلك لم يجزه، وعاد الوجوب إلى ذمته. فيجب عليه هدي آخر، لأن الذمة لا تبرأ بمجرد التعيين بالنية والقول أو التقليد والإشعار. والظاهر: أنه إن عطب فعل به ما شاء، لأن الهدي لازم في ذمته، وهذا الذي عطب صار كأنه شيء من ماله لا حق فيه لفقراء الحرم، لأن حقهم باق في الذمة، فله بيعه وأكله، وكل ما شاء. وعلى هذا جمهور أهل العلم. وعن مالك يأكل ويطعم من شاء من الأغنياء والفقراء، ولا يبيع من شيئاً، وإن بلغ الهدي محله فذبحه وسرق: فلا شيء عليه عند أحمد.
قال في المغني: وبهذا قال الثوري وابن القاسم صاحب مالك، وأصحاب الرأي. وقال الشافعي: عليه الإعادة، لأنه لم يوصل الحق إلى مستحقه، فأشبه ما لو لم يذبحه. ولنا أنه أدى الواجب عليه، فبرىء منه كما لو فرقه. ودليل أنه أدى الواجب: أنه لم يبق إلا التفرقة، وليست واجبة، بدليل أنه لو خلى بينه، وبين الفقراء أجزأه. ولذلك لما نحر النَّبي صلى الله عليه وسلم البدنات قال: «من شاء اقتطع». انتهى محل الغرض من المغني.
وأظهر القولين عندي: أنه لا تبرأ ذمته بذبحه: حتى يوصله إلى المستحقين، لأن المستحقين إن لم ينتفعوا به، لا فرق عندهم بين ذبحه وبين بقائه حياً، ولأن الله تعالى يقول {وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ} (الحج: 82) ويقول {وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَـٰنِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ} (الحج: 63) والآيتان تدلان على لزوم التفرقة، والتخلية بينه، وبين الفقراء يقتسمونه تفرقة ضمنية، لأن الإذن لهم في ذلك، وهو متيسر لهم كإعطائهم إياه بالفعل والعلم عند الله تعالى. وقول من قال: إن الهدي المذكور إن تعيب في الطريق فعليه نحره، ونحر هدي آخر غير معيب لا يظهر كل الظهور، إذ لا موجب لتعدد الواجب عليه وهو لم يجب عليه إلا واحد. وحجة من قال بذلك: أنه لما عينه متقرباً به إلى الله لا يحسن انتفاعه به بعد ذلك، ولو لم يجزئه.
وأما الواجب المعين بالنذر، كأن يقول: نذرت لله إهداء هذا الهدي المعين، فالظاهر أنه يتعين بالنذر، ولا يكون في ذمته، فإن عطب أو سرق: لم يلزمه بدله، لأن حق الفقراء إذا تعلق بعينه، لا بذمة المهدي. والظاهر أنه ليس له الأكل منه سواء عطب في الطريق أو بلغ محله.
وحاصل ما ذكرنا: راجع إلى أن ما عطب بالطريق من الهدي إن كان متعلقاً بذمته سليماً فالظاهر: أن له الأكل منه، والتصرف فيه، لأنه يلزمه بدله سليماً، وقيل: يلزم الذي عطب والسليم معاً لفقراء الحرم، وأن ما تعلق الوجوب فيه بعين الهدى كالنذر المعين للمساكين، ليس له تصرف فيه، ولا الأكل منه إذا عطب ولا بعد نحره، إن بلغ محله على الأظهر.
واعلم: أن مالكاً وأصحابه يقولون: إن كل هدي، جاز الأكل منه للمهدي له، أن يطعم منه من شاء من الأغنياء والفقراء، وكل هدي لا يجوز له الأكل منه، فلا يجوز إطعامه إلا للفقراء الذين لا تلزمه نفقتهم، وكره عندهم إطعام الذميين منه. وستأتي تفاصيل ما يجوز الأكل منه، وما لا يجوز إن شاء الله تعالى في الكلام على آية {فَكُلُواْ مِنْهَ}.
وأما هدي التطوع: فالظاهر أنه إن عطب في الطريق ألقيت قلائده في دمه، وخلى بينه وبين الناس، وإن كان له سائق مرسل معه لم يأكل منه هو ولا أحد من رفقته، كما تقدم إيضاحه، وليس لصاحبه الأكل منه عند مالك وأصحابه. وهو ظاهر مذهب أحمد، وليس عليه بدله لأنه معين لم يتعلق بذمته. وأما مذهب الشافعي، وأصحابه: فهو أن هدي التطوع باق على ملك صاحبه، فله ذبحه، وأكله، وبيعه وسائر التصرفات فيه. ولو قلده لأنه لم يوجد منه إلا نية ذبحه والنية لا تزيل ملكه عنه، حتى يذبحه بمحله، فلو عطب في الطريق فلمهديه أن يفعل به ما شاء من بيع وأكل وإطعام، لأنه لم يزل في ملكه ولا شيء عليه في شيء من ذلك. وأما مذهب أبي حنيفة في هدي التطوع إذا عطب في الطريق قبل بلوغ محله: فهو أنه لا يجوز لمهديه الأكل منه ولا لغني من الأغنياء، وإنما يأكله الفقراء. ووجه قول من قال إن هدي التطوع إذا عطب في الطريق، لا يجوز لمهديه أن يأكل منه: هو أن الإذن له في الأكل، جاء النص به بعد بلوغه محله، أما قبل بلوغه محله فلم يأت الإذن بأكله، ووجه خصوص الفقراء به، لأنه حينئذ يصير صدقة، لأن كونه صدقة خير من أن يترك للسباع تأكله. هكذا قالوا: والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
الأظهر عندي أنه إذا عين هدياً بالقول، أو التقليد، والإشعار ثم ضل ثم نحر هدياً آخر مكانه ثم وجد الهدي الأول الذي كان ضالاً: أن عليه أن ينحره أيضاً، لأنه صار هدياً للفقراء. فلا ينبغي أن يرده لملكه، مع وجوده، وكذلك إن عين بدلاً عنه، ثم وجد الضال، فإنه ينحرهما معاً.
قال ابن قدامة في المغني: وروي ذلك عن عمر وابنه، وابن عباس، وفعلته عائشة رضي الله عنهم. وبه قال مالك، والشافعي، وإسحاق، ويتخرج على قولنا فيما إذا تعيب الهدي، فأبدله فإن له أن يصنع ما شاء أن يرجع إلى ملك أحدهما، لأنه قد ذبح ما في الذمة، فلم يلزمه شيء آخر، كما لو عطب المعين وهذا قول أصحاب الرأي.
ووجه الأول: ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أنها أهدت هديين، فأضلتهما، فبعث إليها ابن الزبير هديين فنحرتهما، ثم عاد الضالان فنحرتهما، وقالت: هذه سنة الهدي رواه الدارقطني. وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه تعلق حق الله بهما بإيجابهما أو ذبح أحدهما، وإيجاب الآخر. انتهى محل الغرض من المغني. وليس في المسألة شيء مرفوع. والأحوط: ذبح الجميع كما ذكرنا أنه الأظهر، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن الهدي إن كان معيناً بالنذر من الأصل، بأن قال: نذرت إهداء هذا الهدي بعينه أو معيناً تطوعاً، إذا رآه صاحبه في حالة يغلب على الظن: أنه سيموت، فإنه تلزمه ذكاته، وإن فرط فيها حتى مات كان عليه ضمانه، لأنه كالوديعة عنده.
أما لو مات بغير تفريطه، أو ضل أو سرق، فليس عليه بدل عنه كما أوضحناه، لأنه لم يتعلق الحق بذمته بل بعين الهدي.
والأظهر عندي: إن لزمه بدله بتفريطه أنه يشتري هدياً مثله، وينحره بالحرم بدلاً عن الذي فرط فيه، وإن قيل: أنه يلزمه التصدق بقيمته على مساكين الحرم، فله وجه من النظر. والله أعلم.
ولا نص في ذلك ولنكتف بما ذكرنا هنا من أحكام الهدي، وسيأتي إن شاء الله تفصيل ما يجوز الأكل منه، وما لا يجوز من الهدايا.
تنبيه
قد قدمنا في سورة البقرة: أن القرآن دل في موضعين، على أن نحر الهدي قبل الحلق، والتقصير يوم النحر، وبينا أنه لو قدم الحلق على النحر لا شيء عليه، وأوضحنا ذلك في الكلام على قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ}.
والحاصل: أن الحاج مفرداً كان أو قارناً أو متمتعاً إن رمى جمرة العقبة ونحر ما معه من الهدي: فعليه الحلق أو التقصير، وقد قدمنا أن التحقيق: أن الحلق نسك وأنه أفضل من التقصير، لقوله صلى الله عليه وسلم «رحم الله المحلقين قالوا: يا رسول الله: والمقصرين. قال: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين؟ فقال: والمقصرين» في الرابعة، أو الثالثة كما تقدم إيضاحه. فدل دعاؤه للمحلقين بالرحمة مراراً: على أن الحلق نسك لأنه لو لم يكن قربة لله تعالى لما استحق فاعله دعاء النَّبي صلى الله عليه وسلم له بالرحمة، ودل تأخير الدعاء للمقصرين، إلى الثالثة أو الرابعة: أن التقصير مفضول، وأن الحلق أفضل منه، والتقصير مع كونه مفضولاً: يجزىء بدلالة الكتاب، والسنة والإجماع، لأن الله تعالى يقول {لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} وقد روى الشيخان، وغيرهما: التقصير عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
فمن ذلك حديث جابر: أنه حج مع النَّبي صلى الله عليه وسلم وقد أهلوا بالحج مفرداً، فقال لهم: «أحلوا من إحرامكم بطواف البيت، وبين الصفا والمروة، وقصروا. وفي الصحيحين، عن ابن عمر قال: «حلق النَّبي صلى الله عليه وسلم وحلق طائفة من أصحابه وقصر بعضهم»، وقد قدمنا حديث معاوية الثابت في الصحيحين، قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة وحديث: «رحم الله المحلقين»، ثم قال بعد ذلك: «والمقصرين» إلى غير ذلك من الأحاديث.
وقد أجمع جميع علماء الأمة على أن التقصير مجزىء ولكنهم اختلفوا في القدر الذي يكفي في الحلق والتقصير، فقال الشافعي، وأصحابه: يكفي فيهما حلق ثلاث شعرات فصاعداً، أو تقصيرها، لأن ذلك يصدق عليه أنه حلق أو تقصير، لأن الثلاث جمع.
وقال أبو حنيفة: يكفي حلق ربع الرأس، أو تقصير ربعه بقدر الأنملة.
وقال مالك، وأحمد وأصحابهما: يجب حلق جميع الرأس، أو تقصير جميعه، ولا يلزمه في التقصير تتبع كل شعرة، بل يكفيه أن يأخذ من جميع جوانب الرأس، وبعضهم يقول: يكفيه قدر الأنملة، والمالكية يقولون: يقصره إلى القرب من أصول الشعر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر الأقوال عندي: أنه يلزم حلق جميع الرأس، أو تقصير جميعه، ولا يلزم تتبع كل شعرة في التقصير، لأن فيه مشقة كبيرة، بل يكفي تقصير جميع جوانب الرأس مجموعة أو مفرقة، وأنه لا يكفي الربع، ولا ثلاث شعرات خلافاً للحنفية والشافعية، لأن الله تعالى يقول {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} ولم يقل: بعض رؤوسكم {وَمُقَصِّرِينَ} أي: رؤوسكم لدلالة ما ذكر قبله عليه، وظاهره حلق الجميع أو تقصيره، ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا لدليل يجب الرجوع إليه، ولأن النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». فمن حلق الجميع أو قصره ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، ومن اقتصر على ثلاث شعرات أو على ربع الرأس، لم يدع ما يريبه، إذ لا دليل يجب الرجوع إليه، من كتاب، ولا سنة على الاكتفاء بواحد منهما، ولأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما حلق في حجة الوداع، حلق جميع رأسه وأعطى شعر رأسه لأبي طلحة ليفرقه على الناس. وفعله في الحلق بيان للنصوص الدالة على الحلق كقوله: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ}. وقوله: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ}.
وقد قدمنا أن فعله صلى الله عليه وسلم: إذا كان بياناً لنص مجمل يقتضي وجوب حكم: أن ذلك الفعل المبين لذلك النص المجمل واجب. ولا خلاف في ذلك بين من يعتد به من أهل الأصول.
تنبيه آخر
اعلم: أن محل كون الحلق أفضل من التقصير، إنما هو بالنسبة إلى الرجال خاصة. أما النساء: فليس عليهن حلق وإنما عليهن التقصير.
والصواب عندنا: وجوب تقصير المرأة جميع رأسها ويكفيها قدر الأنملة، لأنه يصدق عليه أنه تقصير من غير منافاة لظواهر النصوص، ولأن شعر المرأة من جمالها، وحلقه مثلة وتقصيره جداً إلى قرب أصول الشعر نقص في جمالها، وقد جاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أن النساء لا حلق عليهن، وإنما عليهن التقصير.
قال أبو داود في سننه: حدثنا محمد بن الحسن العتكي، ثنا محمد بن بكر، ثنا ابن جريج، قال: بلغني عن صفية بنت شيبة بن عثمان، قالت: أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان: أن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير».
حدثنا أبو يعقوب البغدادي ثقة، ثنا هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن صفية بنت شيبة، قالت: أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير» انتهى منه.
وقال النووي في شرح المهذب: في حديث ابن عباس: هذا رواه أبو داود بإسناد حسن. وقال صاحب نصب الراية في حديث ابن عباس المذكور: قال ابن القطان في كتابه: هذا ضعيف ومنقطع.
أما الأول: فانقطاعه من جهة ابن جريج، قال: بلغني عن صفية، فلم يعلم من حدثه به.
وأما الثاني: فقول أبي داود: حدثنا رجل ثقة، يكنى أبا يعقوب، وهذا غير كاف. وإن قيل: إنه أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل، فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه. وأما ضعفه: فإن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها. انتهى محل الغرض من نصب الراية للزيلعي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: حديث ابن عباس المذكور: في أن على النساء التقصير لا الحلق، أقل درجاته الحسن. فقول النووي: إنه حديث رواه أبو داود بإسناد حسن أصوب مما نقله الزيلعي عن ابن القطان في كتابه، وسكت عليه من أن الحديث المذكور ضعيف ومنقطع، فقول ابن القطان: وأما ضعفه فإن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها فيه قصور ظاهر جداً لأن أم عثمان المذكورة من الصحابيات المبايعات، وقد روت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس فدعوى أنها لا يعرف حالها ظاهرة السقوط كما ترى. وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: أم عثمان بنت سفيان القرشية الشيبية العبدرية، أم بني شيبة الأكابر، كانت من المبايعات. روت عنها صفية بنت شيبة، وروى عبد الله بن مسافع عن أمه عنها. انتهى منه.
وقال ابن حجر في الإصابة: أم عثمان بنت سفيان، والدة بني شيبة الأكابر، وكانت من المبايعات. قاله أبو عمر إلى آخر كلامه، وقد أورد فيه حديثاً روته عن النبي صلى الله عليه وسلم، في السعي بين الصفا والمروة، وقد قدمناه.
وذكر ابن حجر في الإصابة عن أبي نعيم: حديثاً أخرجه، وفيه: أن أم عثمان بنت سفيان هي أم بني شيبة الأكابر، وقد بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ا هـ. وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب: أم عثمان بنت سفيان. ويقال: بنت أبي سفيان: هي أم ولد شيبة بن عثمان. روت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس. وروت عنها صفية بنت شيبة ا هـ.
ومعلوم أن الصحابة كلهم عدول بتزكية الكتاب والسنة لهم، كما أوضحناه في غير هذا الموضع، فتبين أن قول ابن القطان: إن الحديث ضعيف، لأنها لم يعلم حالها قصور منه رحمه الله كما ترى. وأما قوله: إن توثيق أبي داود لأبي يعقوب غير كاف، وأن أبا يعقوب المذكور، إن قيل: إنه إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه.
فجوابه: أن أبا يعقوب المذكور هو إسحاق بن إبراهيم واسم إبراهيم أبو إسرائيل، وقد وثقه أبو داود وأثنى عليه غير واحد من أجلاء العلماء بالرجال. وقال فيه الذهبي في الميزان: حافظ شهير قال: ووثقه يحيى بن معين، والدارقطني: وقال صالح جزرة صدوق، إلا أنه كان يقف في القرآن، ولا يقول: غير مخلوق بل يقول: كلام الله. وقال فيه أيضاً: قال عبدوس النيسابوري: كان حافظاً جداً لم يكن مثله أحد في الحفظ والورع واتهم بالوقف. وقال فيه ابن حجر في تهذيب التهذيب، قال ابن معين: ثقة. وقال أيضاً: من ثقات المسلمين ما كتب حديثاً قط، عن أَحد من الناس، إلا ما خطه هو في ألواحه أو كتابه. وقال أيضاً: ثقة مأمون أثبت من القواريري وأكيس، والقواريري ثقة صدوق، وليس هو مثل إسحاق، وذكر غير هذا من ثناء ابن معين عليه، وتفضيله على بعض الثقات المعروفين، ثم قال: وقال الدارقطني: ثقة. وقال البغوي: كان ثقة مأموناً، إلا أنه كان قليل العقل، وثناء أئمة الرجال عليه في الحفظ، والعدالة كثير مشهور وإنما نقموا عليه أنه كان يقول: القرآن كلام الله، ويسكت عندها ولا يقول: غير مخلوق، ومن هنا جعلوه واقفياً، وتكلموا في حديثه، كما قال فيه صالح جزرة: صدوق في الحديث إلا أنه يقول: القرآن كلام الله ويقف.
وقال الساجي: تركوه لموضع الوقف، وكان صدوقاً. وقال أحمد: إسحاق بن أبي إسرائيل واقفي مشؤوم، إلا أنه كان صاحب حديث كيساً.
وقال السراج: سمعته يقول: هؤلاء الصبيان يقولون كلام الله غير مخلوق ألا قالوا كلام الله وسكتوا. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى بن معين فقال: ثقة قال عثمان: لم يكن أظهر الوقف حين سألت يحيى عنه ويوم كتبنا عنه كان مستوراً وقال عبدوس النيسابوري: كان حافظاً جداً، ولم يكن مثله في الحفظ والورع، وكان لقي المشايخ فقيل: كان يتهم بالوقف قال: نعم أتهم وليس بمتهم. وقال مصعب الزبيري: ناظرته فقال: لم أقل على الشك، ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي.
والحاصل: أنهم متفقون على ثقته، وأمانته بالنسبة إلى الحديث إلا أنهم كانوا يتهمونه بالوقف، وقد رأيت قول من نفى عنه التهمة، وقول من ناظره أنه قال له: لم أقل على الشك. ولكني سكت كما سكت القوم قبلي، ومعنى كلامه: أنه لا يشك في أن القرآن غير مخلوق، ولكنه يقتدي بمن لم يخض في ذلك، ولما حكى الذهبي في الميزان قول الساجي: إنهم تركوا الأخذ عنه لمكان الوقف، قال بعده ما نصه: قلت: قل من ترك الأخذ عنه ا هـ، وهو تصريح منه
بأن الأكثرين على قبوله فحديثه لا يقل عن درجة الحسن، وروايته عند أبي داود الذي وثقه تعتضد بالرواية المذكورة قبلها، وقول ابن جريج فيها: بلغني عن صفية بنت شيبة تفسره الرواية الثانية التي بين فيها ابن جريج: أن من بلغه عن صفية المذكورة: هو عبد الحميد بن جبير بن شيبة، وهو ثقة معروف.
فإن قيل: ابن جريج روى عنه بالعنعنة، وهو مدلس، والرواية بالعنعنة لا تقبل من المدلس بل لا بد من تصريحه، بما يدل على السماع.
والجواب: أنا قدمنا أن مشهور مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد هو الاحتجاج بالمرسل، ومن يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس، من باب أولى كما نبه عليه غير واحد من الأصوليين.
وقد قدمنا موضحاً مراراً في هذا الكتاب المبارك مع اعتضاد هذه الرواية بالأخرى واعتضادها بغيرها.
قال الزيلعي في نصب الراية: بعد ذكره كلام ابن القطان في تضعيف حديث ابن عباس المذكور في تقصير النساء، وعدم حلقهن الذي ناقشنا تضعيفه له كما رأيت ما نصه: وأخرجه الدارقطني في سننه والطبراني في معجمه، عن أبي بكر بن عياش، من يعقوب بن عطاء، عن صفية بنت شيبة به، وأخرجه الدارقطني أيضاً، والبزار في مسنده، عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن عبد الحميد بن جبير، عن صفية به. وقال البزار: لا نعلمه يروي عن ابن عباس، إلا من هذا الوجه انتهى، وأخرجه الدارقطني في سننه، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر قال في المحرمة: تأخذ من شعرها قدر السبابة. انتهى، وليث هذا الظاهر أنه ابن أبي سليم، وهو ضعيف. انتهى من نصب الراية.
فتبين من جميع ما ذكر: أن حديث ابن عباس في أن على النساء المحرمات إذا أردن قضاء التفث التقصير، لا الحلق أنه لا يقل عن درجة الحسن، كما جزم النووي بأن إسناده عند أبي داود حسن وقد رأيت اعتضاده، بما ذكرنا من الروايات المتابعة له بواسطة نقل الزيلعي، عند الطبراني، والدارقطني: والبزار ويعتضد عدم حلق النساء رؤوسهن بخمسة أمور غير ما ذكرنا.
الأول: الإجماع على عدم حلقهن في الحج، ولو كان الحلق يجوز لهن لشرع في الحج.
الثاني: أحاديث جاءت بنهي النساء عن الحلق.
الثالث: أنه ليس من عملنا، ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد.
الرابع: أنه تشبه بالرجال، وهو حرام.
الخامس: أنه مثلة والمثلة لا تجوز.
أما الإجماع، فقد قال النووي في شرح المهذب، قال ابن المنذر: أجمعوا على ألا حلق على النساء، وإنما عليهن التقصير، ويكره لهن الحلق لأنه بدعة في حقهن، وفيه مثلة.
واختلفوا في قدر ما تقصره، فقال ابن عمر والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: تقصر من كل قرن مثل الأنملة، وقال قتادة: تقصر الثلث أو الربع، وقالت حفصة بنت سيرين: إن كانت عجوزاً من القواعد أخذت نحو الربع، وإن كانت شابة فلتقلل، وقال مالك: تأخذ من جميع قرونها أقل جزء ولا يجوز من بعض القرون. انتهى محل الغرض منه، وتراه نقل عن ابن المنذر الإجماع على أن النساء: لا حلق عليهن في الحج، ولو كان الحلق يجوز لهن لأمرن به في الحج، لأن الحلق نسك على التحقيق، كما تقدم إيضاحه.
وأما الأحاديث الواردة في ذلك فسأنقلها بواسطة نقل الزيلعي، في نصب الراية لأنه جمعها فيه في محل واحد قال: فنهى النساء عن الحلق فيه أحاديث.
منها: ما رواه الترمذي في الحج، والنسائي في الزينة، قالا، حدثنا محمد بن موسى الحرشي، عن أبي داود الطيالسي، عن همام، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها» انتهى ثم رواه الترمذي، عن محمد بن بشار، عن أبي داود الطيالسي به، عن خلاس عن النبي مرسلاً، وقال: هذا حديث فيه اضطراب، وقد روي عن حماد بن سلمة عن قتادة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً انتهى، وقال عبد الحق في أحكامه: هذا حديث يرويه همام عن يحيى، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي وخالفه هشام الدستوائي، وحماد بن سلمه فروياه عن قتادة، عن النبي مرسلاً.
حديث آخر أخرجه البزار في مسنده عن معلى بن عبد الرحمٰن الواسطي. ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تحلق المرأة رأسها» انتهى. قال البزار، ومعلى بن عبد الرحمٰن الواسطي: روى عن عبد الحميد أحاديث، لم يتابع عليها، ولا نعلم أحداً تابعه على هذا الحديث. انتهى، ورواه ابن عدي في الكامل، وقال: أرجو أنه لا بأس به، قال عبد الحق: وضعفه أبو حاتم وقال: إنه متروك الحديث انتهى. وقال ابن حبان في كتاب الضعفاء: يروي عن عبد الحميد بن جعفر المقلوبات، لا يجوز الاحتجاج به، إذا تفرد حديث آخر رواه البزار في مسنده أيضاً: حدثنا عبد الله بن يوسف الثقفي، ثنا روح بن عطاء بن أبي ميمونة، ثنا أبي، عن وهب بن عمير قال: سمعت عثمان يقول: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها» انتهى قال البزار: ووهب بن عمير لا نعلمه روى غير هذا الحديث، ولا نعلم روى عنه إلا عطاء بن أبي ميمونة، وروح ليس بالقوي. انتهى كلام الزيلعي في نصب الراية.
وهذه الروايات التي ذكرنا في نهي المرأة عن حلق رأسها، عن علي، وعثمان، وعائشة: يعضد بعضها بعضاً كما تعتضد بما تقدم، وبما سيأتي إن شاء الله، وأما كون حلق المرأة رأسها ليس من عمل نساء الصحابة، فمن بعدهم، فهو أمر معروف، لا يكاد يخالف فيه إلا مكابر، فالقائل: بجواز الحلق للمرأة قائل بما ليس من عمل المسلمين المعروف، وفي الحديث الصحيح: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» فالحديث يشمل عمومه الحلق بالنسبة للمحرمة بلا شك، وإذا لم يبح لها حلقه في حال النسك، فغيره من الأحوال أولى، وأما كون حلق المرأة رأسها تشبها بالرجال، فهو واضح، ولا شك أن الحالقة رأسها متشبهة بالرجال، لأن الحلق من صفاتهم الخاصة بهم دون الإناث عادة. وقد قدمنا الحديث الصحيح في لعن المتشبهات من النساء بالرجال في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى {إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} وأما كون حلق رأس المرأة مثلة، فواضح، لأن شعر رأسها من أحسن أنواع جمالها وحلقه تقبيح لها وتشويه لخلقتها، كما يدركه الحس السليم، وعامة الذين يذكرون محاسن النساء في أشعارهم، وكلامهم مطبقون على أن شعر المرأة الأسود من أحسن زينتها لا نزاع في ذلك بينهم في جميع طبقاتهم وهو في أشعارهم مستفيض استفاضة يعلمها كل من له أدنى إلمام، وسنذكر هنا منه أمثلة قليلة تنبيهاً بها على غيرها قال امرؤ القيس في معلقته:
وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل
غدائره مستشزرات إلى العلى تضل المداري في مثنى ومرسل

فتراه جعل كثرة شعر رأسها وسواده وطوله من محاسنها، وهو كذلك. وقال الأعشى ميمون بن قيس:
غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل

فقوله فرعاء يعني أن فرعها أي شعر رأسها تام في الطول والسواد والحسن وقال عمر بن أبي ربيعة:
تقول يا أمتا كفى جوانبه ويلي بليت وأبلى جيدي الشعر
مثل الأساود قد أعيى مواشطه تضل فيه مداريها وتنكسر

فلو لم تكن كثرة الشعر وسواده من الجمال عندهم، لما تعبوا في خدمته هذا التعب الذي ذكره هذا الشاعر ونظيره قول الآخر:
وفرع يصير الجيد وحف كأنه على الليث قنوان الكروم الدوالح

لأن قوله: يصير الجيد أي يميل العنق لكثرته، وقد بالغ من قال:
بيضاء تسحب من قيام فرعها وتغيب فيه وهو وجف أسحم
فكأنها فيه نهار ساطع وكأنه ليل عليها مظلم
وأمثال هذا أكثر من أن تنحصر، وقصدنا مطلق التمثيل، وهو يدل على أن حلق المرأة شعر رأسها نقص في جمالها، وتشويه لها، فهو مثلة وبه تعلم: أن العرف الذي صار جارياً في كثير من البلاد، بقطع المرأة شعر رأسها إلى قرب أصوله سنة أفرنجية مخالفة لما كان عليه نساء المسلمين ونساء العرب قبل الإسلام، فهو من جملة الانحرافات التي عمت البلوى بها في الدين والخلق، والسمت وغير ذلك.
فإن قيل: جاء عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ما يدل على حلق المرأة رأسها، وتقصيرها إياه، فما دل على الحلق، فهو ما رواه ابن حبان في صحيحه في النوع الحادي عشر من القسم الخامس، من حديث وهب بن جرير ثنا أبي سمعت أبا فزارة، يحدث عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة «أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً وبنى بها وماتت بسرف فدفنها في الظلة التي بنى بها فيها فنزلنا قبرها أنا وابن عباس فلما وضعناها في اللحد مال رأسها فأخذت ردائي فوضعته تحت رأسها فاجتذبه ابن عباس فألقاه وكانت قد حلقت رأسها في الحج فكان رأسها محجماً» انتهى بواسطة نقل صاحب نصب الراية. فهذا الحديث يدل على أن ميمونة حلقت رأسها، ولو كان حراماً ما فعلته، وأما التقصير فما رواه مسلم في صحيحه.
وحدثني عبيد الله بن معاذ العنبري قال: حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة عن أبي بكر بن حفص، عن أبي سلمة بن عبد الرحمٰن قال: دخلت على عائشة أنا وأخوها من الرضاع، فسألها عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الحنابلة فدعت بإناء قدر الصاع، فاغتسلت، وبيننا وبينها ستر، وأفرغت على رأسها ثلاثاً. قال: وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يأخذن من رؤوسهن حتى تكون كالوفرة. ا هـ من صحيح مسلم.
فالجواب، عن حديث ميمونة على تقدير صحته: أن فيه أن رأسها كان محجماً، وهو يدل على أن الحلق المذكور لضرورة المرض، لتتمكن آلة الحجم من الرأس، والضرورة يباح لها ما لا يباح بدونها وقد قال تعالى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا ٱضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}.
وأما الجواب: عن حديث مسلم فعلى القول، بأن الوفرة أطول من اللمة التي هي ما ألم بالمنكبين من الشعر، فلا إشكال، لأن ما نزل عن المنكبين طويل طولاً يحصل به المقصود. قال النووي في شرح مسلم: والوفرة أشبع، وأكثر من اللمة. واللمة ما يلم بالمنكبين من الشعر. قاله الأصمعي. انتهى محل الغرض من النووي.
وأما على القول الصحيح المعروف عند أهل اللغة: من أنها لا تجاوز الأذنين. قال في القاموس: والوفرة: الشعر المجتمع على الرأس، أو ما سال على الأذنين منه أو ما جاوز شحمة الأذن، ثم الجمة، ثم اللمة ا هـ منه.
وقال الجوهري في صحاحه: والوفرة: الشعر إلى شحمة الأذن، ثم الجمة ثم اللمة: وهي التي ألمت بالمنكبين. وقال ابن منظور في اللسان: والوفرة: الشعر المجتمع على الرأس، وقيل: ما سال على الأذنين من الشعر. والجمع وفار. قال كثير عزة: كأن وفار القوم تحت رحالها إذا حسرت عنها العمائم عنصل

وقيل: الوفرة أعظم من الجمة. قال ابن سيده: وهذا غلط إنما هي وفرة، ثم جمة، ثم لمة، والوفرة: ما جاوز شحمة الأذنين، واللمة: ما ألم بالمنكبين. التهذيب، والوفرة: الجمة من الشعر إذا بلغت الأذنين، وقيل: الوفرة الشعرة إلى شحمة الأذن، ثم الجمة ثم اللمة، إلى أن قال: والوفرة شعر الرأس، إذا وصل شحمة الأذن. انتهى من اللسان.
فالجواب: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصرن رؤوسهن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، لأنهن كن يتجملن له في حياته، ومن أجمل زينتهن شعرهن. أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فلهن حكم خاص بهن لا تشاركهن فيه امرأة واحدة من نساء جميع أهل الأرض، وهو انقطاع أملهن انقطاعاً كلياً من التزويج، ويأسهن منه اليأس، الذي لا يمكن أن يخالطه طمع، فهن كالمعتدات المحبوسات بسببه صلى الله عليه وسلم إلى الموت. قال تعالى {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيم} واليأس من الرجال بالكلية، قد يكون سبباً للترخيص في الإخلال بأشياء من الزينة، لا تحل لغير ذلك السبب. وقال النووي في شرح مسلم في الكلام علي هذا الحديث: قال عياض رحمه الله تعالى: والمعروف أن نساء العرب إنما كن يتخذون القرون، والذوائب، ولعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعلن هذا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لتركهن التزين، واستغنائهن عن تطويل الشعر وتخفيفاً لمؤنة رؤوسهن، وهذا الذي ذكره القاضي عياض من كونهن فعلته، بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، لا في حياته. كذا قاله أيضاً غيره، وهو متعين ولا يظن بهن فعله في حياته صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء. انتهى كلام النووي. وقوله: وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء، فيه عندي نظر لما قدمنا من أزواج النبي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا يقاس عليهن غيرهن، لأن قطع طمعهن في الرجال بالكلية خاص بهن دون غيرهن، وهو قد يباح له من الإخلال ببعض الزينة ما لا يباح لغيره حتى إن العجوز من غيرهن لتزين للخطاب، وربما تزوجت لأن كل ساقطة لها لاقطة. وقد يحب بعضهم العجوز كما قال القائل: أبى القلب إلا أم عمرو وحبها عجوزاً ومن يحبب عجوزاً يفتد
كثوب اليماني قد تقادم عهده ورقعته ما شئت في العين واليد

وقال الآخر: ولو أصبحت ليلى تدب على العصا لكان هوى ليلى جديداً أوائله

والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ}. الضمير في قوله: منها. راجع إلى بهيمة الأنعام المذكورة في قوله تعالى {وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ} وهذا الأكل الذي أمر به هنا منها وإطعام البائس الفقير منها، أمر بنحوه في خصوص البدن أيضاً في قوله تعالى {وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَـٰهَا لَكُمْ مِّن شَعَـٰئِرِ ٱللَّهِ} إلى قوله {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَـٰنِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ} ففي الآية الأولى: الأمر بالأكل من جميع بهيمة الأنعام الصادق بالبدن، وبغيرها، وقد بينت الآية الأخيرة أن البدن داخلة في عموم الآية الأولى.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يرد نص عام، ثم يرد نص آخر يصرح بدخول بعض أفراده في عمومه، ومثلنا لذلك بعض الأمثلة وفي الآية العامة هنا أمر بالأكل، وإطعام البائس الفقير، وفي الآية الخاصة بالبدن: أمر بالأكل، وإطعام القانع والمعتر.
وفي هاتين الآيتين الكريمتين مبحثان.
الأول: حكم الأكل المأمور به في الآيتين هل هو الوجوب لظاهر صيغة الأمر، أو الندب والاستحباب؟
المبحث الثاني: فيما يجوز الأكل منه لصاحبه، وما لا يجوز له الأكل منه، ومذاهب أهل العلم في ذلك.
أما المبحث الأول: فجمهور أهل العلم على أن الأمر بالأكل في الآيتين: للاستحباب، والندب، لا للوجوب، والقرينة الصارفة عن الوجوب في صيغة الأمر: هي ما زعموا من أن المشركين، كانوا لا يأكلون هداياهم فرخص للمسلمين في ذلك.
وعليه فالمعنى: فكلوا إن شئتم ولا تحرموا الأكل على أنفسكم كما يفعله المشركون، وقال ابن كثير في تفسيره: إن القول بوجوب الأكل غريب، وعزا للأكثرين أن الأمر للاستحباب قال: وهو اختيار ابن جرير في تفسيره، وقال القرطبي في تفسيره: فكلوا منها: أمر معناه: الندب عند الجمهور، ويستحب للرجل، أن يأكل من هديه وأضحيته، وأن يتصدق بالأكثر مع تجويزهم الصدقة بالكل، وأكل الكل وشذت طائفة، فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «فكلوا وادخروا وتصدقوا» قال الكيا قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُو} يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه، ولا التصدق بجميعه. انتهى كلام القرطبي.
ومعلوم: أن بيع جميعه لا وجه لحليته، بل ولا بيع بعضه، كما هو معلوم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أقوى القولين دليلاً: وجوب الأكل والإطعام من الهدايا والضحايا، لأن الله تعالى قال: {فَكُلُواْ مِنْهَ} في موضعين. وقد قدمنا أن الشرع واللغة دلا على أن صيغة أفعل: تدل على الوجوب إلا لدليل صارف، عن الوجوب، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك كقوله {فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وأوضحنا جميع أدلة ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، منها آية الحج التي ذكرنا عندها مسائل الحج.
ومما يؤيد أن الأمر في الآية يدل على وجوب الأكل وتأكيده: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر مائة من الإبل فأمر بقطعة لحم من كل واحدة، منها فأكل منها وشرب من مرقها». وهو دليل واضح على أنه أراد ألا تبقى واحدة، من تلك الإبل الكثيرة إلا وقد أكل منها أو شرب من مرقها، وهذا يدل على أن الأمر في قوله: {فَكُلُواْ مِنْهَ} ليس لمجرد الاستحباب والتخيير، إذ لو كان كذلك لاكتفى بالأكل من بعضها، وشرب مرقه دون بعض، وكذلك الإطعام فالأظهر فيه الوجوب.
والحاصل: أن المشهور عند الأصوليين: أن صيغة أفعل: تدل على الوجوب إلا لصارف عنه، وقد أمر بالأكل من الذبائح مرتين، ولم يقم دليل يجب الرجوع إليه صارف عن الوجوب وكذلك الإطعام، هذا هو الظاهر بحسب الصناعة الأصولية، وقد دلت عليها أدلة الوحي، كما قدمنا إيضاحه. وقال أبو حيان في البحر المحيط: والظاهر وجوب الأكل والإطعام وقيل باستحبابهما. وقيل: باستحباب الأكل، ووجوب الإطعام. والأظهر أنه: لا تحديد للقدر الذي يأكله والقدر الذي يتصدق به، فيأكل ما شاء ويتصدق بما شاء، وقد قال بعض أهل العلم: يتصدق بالنصف، ويأكل النصف، واستدل لذلك بقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ} قال: فجزأها نصفين نصف له، ونصف للفقراء، وقال بعضهم: يجعلها ثلاثة أجزاء، يأكل الثلث ويتصدق بالثلث، ويهدي الثلث، واستدل بقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَـٰنِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ} فجزأها ثلاثة أجزاء، ثلث له، وثلث للقانع، وثلث للمعتر. هكذا قالوا وأظهرها الأول، والعلم عند الله تعالى، والبائس: هو الذي أصابه البؤس، وهو الشدة. قال الجوهري في صحاحه: وبئس الرجل بيأس بؤساً وبئساً: اشتدت حاجته، فهو بائس وأنشد أبو عمرو: لبيضاء من أهل المدينة لم تذق بئيساً ولم تتبع حمولة مجحد

وهو اسم وضع موضع المصدر ا هـ منه يعني: أن البئيس في البيت لفظه لفظ الوصف، ومعناه المصدر، والفقير معروف، والقاعدة عند علماء التفسير: أن الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وعلى قولهم: فالفقير هنا يشمل المسكين، لأنه غير مذكور معه هنا، وذلك هو مرادهم، بأنهما إذا افترقا اجتمعا، ومعلوم خلاف العلماء في الفقير والمسكين في آية الصدقة أيهما أشد فقراً، وقد ذكرنا حجج الفريقين وناقشناها في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة البلد، ومما استدل به القائل: إن الفقير أحوج من المسكين، وأن المسكين من عنده شيء لا يقوم بكفايته قوله تعالى: {أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَـٰكِينَ يَعْمَلُونَ فِى ٱلْبَحْرِ}، قالوا: فسماهم مساكين، مع أن عندهم سفينة عاملة للإيجار.
ومما استدل به القائلون بأن المسكين أحوج من الفقير: أن الله قال في المسكين: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} قالوا: ذا متربة: أي لا شيء عنده. حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر، ليس له مأوى إلا التراب.
قال ابن عباس: هو المطروح على الطريق الذي لا بيت له. وقال مجاهد: هو الذي لا يقيه من التراب لباس، ولا غيره انتهى من القرطبي. وعضدوا هذا بأن العرب تطلق الفقير على من عنده مال لا يكفيه، ومنه قول راعي نمير: أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد

فسماه فقيراً مع أن له حلوبة قدر عياله.
وقد ناقشنا أدلة الفريقين مناقشة تبين الصواب في الكتاب المذكور، فأغناها ذلك عن إعادته هنا، والعلم عند الله تعالى.
وأما المبحث الثاني: وهو ما يجوز الأكل منه، وما لا يجوز فقد اختلف فيه أهل العلم، وهذه مذاهبهم وما يظهر رجحانه بالدليل منها: فذهب مالك رحمه الله، وأصحابه إلى جواز الأكل من جميع الهدي واجبه وتطوعه إذا بلغ محله إلا ثلاثة أشياء: جزاء الصيد، وفدية الأذى، والنذر الذي هو للمساكين وقال اللخمي: كل هدي واجب في الذمة، عن حج أو عمرة من فساد أو متعة أو قران، أو تعدي ميقات، أو ترك النزول بعرفة نهاراً، أو ترك النزول بمزدلفة أو ترك رمي الجمار أو أخر الحلق يجوز الأكل منه قبل بلوغ محله وبعده. أما جزاء الصيد، وفدية الأذى فيؤكل منهما قبل بلوغها محلهما، ولا يؤكل منهما بعده. وأما النذر المضمون، إذا لم يسمه للمساكين: فإنه يأكل منه بعد بلوغه محله، وإن كان منذوراً معيناً، ولم يسمه للمساكين، أو قلده، وأشعره من غير نذر أكل منه بعد بلوغه محله، ولم يأكل منه قبله وإن عين النذر للمساكين أو نوى ذلك حين التقليد والإشعار لم يأكل منه قبل ولا بعد.
والحاصل: أن النذر المعين للمساكين لا يجوز له الأكل منه مطلقاً، عند مالك وأن النذر المضمون للمساكين، حكمه عند المالكية: حكم جزاء الصيد، وفدية الأذى فيمتنع الأكل منه بعد بلوغه محله، ويجوز قبله، لأنه باقي في الذمة حتى يبلغ محله. وأما النذر المضمون الذي لم يسم للمساكين كقوله: على لله نذر أن أتقرب إليه بنحر هدي، فله عند المالكية: الأكل منه قبل بلوغ محله، وبعده، وقد قدمنا أن هدي التطوع إن عطب في الطريق. لا يجوز له الأكل منه عند المالكية، وأوضحنا دليل ذلك. هذا هو حاصل مذهب مالك في الأكل من الهدايا، ولا خلاف في جواز الأكل من الضحايا. وقد قدمنا قول اللخمي من المالكية: أن كل هدي جاز أن يأكل منه: جاز أن يطعم منه من شاء من غني وفقير، وكل هدي لم يجز له أن يأكل منه، فإنه يطعمه فقيراً، لا تلزمه نفقته كالكفارة. وكره ابن القاسم من أصحاب مالك إطعام الذمي من الهدايا كما تقدم. ومذهب أبي حنيفة رحمه الله: أنه يأكل من هدي التمتع والقران، وهدي التطوع إذا بلغ محله، أما إذا عطب هدي التطوع، قبل بلوغ محله، فليس لصاحبه الأكل منه عند أبي حنيفة كما تقدم إيضاحه. ولا يأكل من غير ذلك، هو ولا غيره من الأغنياء، بل يأكله الفقراء. هذا حاصل مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
وأما مذهب الشافعي رحمه الله: فهو أن الهدي إن كان تطوعاً، فالأكل منه مستحب، واستدل بعضهم لعدم وجوب الأكل بقوله: {وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَـٰهَا لَكُمْ مِّن شَعَـٰئِرِ ٱللَّهِ}. قالوا: فجعلها لنا وما هو للإنسان فهو مخير بين تركه، وأكله، ولا يخفى ما في هذا الاستدلال.
واعلم: أنا حيث قلنا في هذا المبحث: يجوز الأكل، فإنا نعني: الإذن في الأكل الصادق بالاستحباب، وبالوجوب لما قدمنا من الخلاف، في وجوب الأكل والإطعام، واستحبابهما، والفرق بينهما بإيجاب الإطعام دون الأكل، وكل هدي واجب لا يجوز الأكل منه في مذهب الشافعي، كهدي التمتع والقران، والنذر، وجميع الدماء الواجبة، قال النووي: وكذا قال الأوزاعي، وداود الظاهري: لا يجوز الأكل من الواجب. هذا هو حاصل مذهب الشافعي.
وأما مذهب أحمد رحمه الله:
فهو أنه لا يأكل من هدي واجب، إلا هدي التمتع والقران، وأنه يستحب له أن يأكل من هدي التطوع، وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته، وما نحره تطوعاً من غير أن يوجبه هذا هو مشهور مذهب الإمام أحمد. وعنه رواية أنه لا يأكل من المنذور، وجزاء الصيد ويأكل مما سواهما.
قال في المغني: وهو قول ابن عمر وعطاء والحسن وإسحاق، لأن جزاء الصيد بدل والنذر جعله الله تعالى بخلاف غيرهما.
وقال ابن أبي موسى: لا يأكل أيضاً من الكفارة، ويأكل مما سوى هذه الثلاثة، ونحوه مذهب مالك، لأن ما سوى ذلك لم يسمه للمساكين، ولا مدخل للإطعام فيه فأشبه التطوع. وقال الشافعي: لا يأكل من واجب، لأنه هدي واجب بالإحرام فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة. انتهى من المغني.
فقد رأيت مذاهب الأربعة فيما يجوز الأكل منه، وما لا يجوز.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يرجحه الدليل في هذه المسألة: هو جواز الأكل من هدي التطوع وهدي التمتع والقران دون غير ذلك والأكل من هدي التطوع لا خلاف فيه بين العلماء بعد بلوغه محله، وإنما خلافهم في استحباب الأكل منه، أو وجوبه ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة في حجة الوداع «أنه أهدى مائة من الإبل» ومعلوم أن ما زاد على الواحدة منها تطوع، وقد أكل منها وشرب من مرقها جميعاً.
وأما الدليل على الأكل من هدي التمتع والقران، فهو ما قدمنا مما ثبت في الصحيح «أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ذبح عنهن صلى الله عليه وسلم بقراً ودخل عليهن بلحمه وهن متمتعات وعائشة منهن قارنة وقد أكلن جميعاً مما ذبح عنهن في تمتعهن وقرانهن بأمره صلى الله عليه وسلم» وهو نص صحيح صريح في جواز الأكل من هدي التمتع والقران. أما غير ما ذكرنا من الدماء فلم يقم دليل يجب الرجوع إليه على الأكل منه، ولا يتحقق دخوله في عموم {فَكُلُواْ مِنْهَ} لأنه لترك واجب أو فعل محظور، فهو بالكفارات أشبه، وعدم الأكل منه أظهر وأحوط. والعلم عند الله تعالى.
مسألة في الأضحية
لا يخفى أن كلامنا في الهدي وأن الآية التي نحن بصددها ظاهرها أنها في الهدي، ولما كان عمومها قد تدخل فيه الأضحية. أردنا هذا أن نشير إلى بعض أحكام الأضحية باختصار.
اعلم أولاً: أن الأضحية فيها أربع لغات: أضحية بضم الهمزة، وإضحية بكسرها، وجمعهما أضاحي بتشديد الياء وتخفيفها، وضحية، وجمعها ضحايا، وأضحاة وجمعها: أضحى كأرطاة، وأرطى.
واعلم أنه لا خلاف في مشروعية الأضحية. قال بعض أهل العلم: وقد دل على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ} على ما قاله بعض أهل التفسير، من أن المراد به: ذبح الأضحية بعد صلاة العيد، ولا يخفى أن صلاة العيد داخلة في عموم {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} وأن الأضحية داخلة في عموم قوله {وَٱنْحَرْ}.
وأما الإجماع: فقد أجمع جميع المسلمين على مشروعية الأضحية. وأما السنة فقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة صحيحة في مشروعية الأضحية وسنذكر طرفاً منها فيه كفاية إن شاء الله.
قال البخاري في صحيحه: باب أضحية النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين ويذكر سمينين. وقال يحيى بن سعيد: سمعت أبا أمامة بن سهل، قال: كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون. حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة، حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين» وأنا أضحي بكبشين.
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الوهاب عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انكفأ إلى كبشين أقرنين أملحين فذبحهما بيده» وقال إسماعيل وحاتم بن وردان، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أنس تابعه وهيب عن أيوب، وقال: حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا الليث عن يزيد عن أبي الخير عن عقبة بن عامر «أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنماً يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود، فذكره النبي صلى الله عليه وسلم فقال ضح به أنت» انتهى من صحيح البخاري. وفي لفظ له من حديث أنس رضي الله عنه قال «ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين فرأيته واضعاً قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر فذبحهما بيده» وفي لفظ للبخاري عن أنس أيضاً قال «ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما» وفي لفظ له عن أنس رضي الله عنه أيضاً «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين ويضع رجله على صفاحهما، ويذبحهما بيده» انتهى منه.
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو عوانة عن قتادة، عن أنس قال «ضحى النَّبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما» وفي لفظ له عن أنس رضي الله عنه قال «ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين قال ورأيته يذبحهما بيده ورأيته واضعاً قدمه على صفاحهما قال: وسمى وكبر»، وفي لفظ لمسلم عن أنس عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بمثله غير أنه قال ويقول. «بسم الله والله أكبر». وقال مسلم في صحيحه أيضاً: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا عبد الله بن وهب قال: قال حيوة: أخبرني أبو صخر عن يزيد بن قسيط عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد، وينظر في سواد فأتى به ليضحي به فقال لها: يا عائشة، هلمي المدية ثم قال: أشحذيها بحجر، ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال: باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ثم ضحى به» انتهى من صحيح مسلم، والأحاديث الواردة في مشروعية الأضحية كثيرة، معروفة.
وقد اختلف أهل العلم في حكمها فذهب أكثر أهل العلم: إلى أنها سنة مؤكدة في حق الموسر، ولا تجب عليه وقال النووي في شرح المهذب: وهذا مذهبنا وبه قال أكثر العلماء منهم أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وبلال، وأبو مسعود البدري، وسعيد بن المسيب وعطاء وعلقمة، والأسود، ومالك، وأحمد، وأبو يوسف، وإسحاق، وأبو ثور، والمزني، وداود وابن المنذر، وقال ربيعة والليث بن سعد، وأبو حنيفة، والأوزاعي: هي واجبة على الموسر إلا الحاج بمنى. وقال محمد بن الحسن: هي واجبة على المقيم بالأمصار. والمشهور عن أبي حنيفة: أنه إنما يوجبها على مقيم يملك نصاباً. انتهى كلام النووي.
وقال النووي في شرح مسلم: واختلف العلماء في وجوب الأضحية، على الموسر؟ فقال جمهورهم: هي سنة في حقه إن تركها بلا عذر، لم يأثم، ولم يلزمه القضاء، وممن قال بهذا: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب إلى آخر كلامه قريباً مما ذكرنا عنه في شرح المهذب.
وقال ابن قدامة في المغني: أكثر أهل العلم على أنها سنة مؤكدة غير واجبة: روي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وبلال، وأبي مسعود البدري رضي الله عنهم. وبه قال سويد بن غفلة وسعيد بن المسيب، وعلقمة، والأسود، وعطاء، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر. وقال ربيعة، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والليث، وأبو حنيفة: هي واجبة ونقل ابن قدامة في المغني عن مالك وجوب الأضحية خلاف مذهبه، ومذهبه هو ما نقل عنه النووي: من أنها سنة، ولكنها عنده لا تسن على خصوص الحاج بمنى، لأن ما يذبحه هدي لا أضحية. وقد قدمنا أن آية الحج لا تخلو من دلالة على ما ذهب إليه مالك، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
فإذا رأيت أقوال أهل العلم في حكم الأضحية، فهذه أدلة أقوالهم ومناقشتها، وما يظهر رجحانه بالدليل منها، على سبيل الاختصار.
أما من قال: إنها واجبة فقد استدل بأدلة منها أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعلها والله يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
وقد قدمنا قول من قال من أهل الأصول إن فعله صلى الله عليه وسلم الذي لم تعلم جهته من وجوب أو غيره يحمل على الوجوب. وأوضحنا أدلة ذلك. وذكرنا أن صاحب مراقي السعود ذكره بقوله في كتاب السنة في مبحث أفعال النَّبي صلى الله عليه وسلم: وكل ما الصفة فيه تجهل فللوجوب في الأصح يجعل

وذكرنا مناقشة الأقوال فيه في الحج، وغيره من سور القرآن.
ومن أدلتهم على وجوب الأضحية ما رواه البخاري في صحيحه: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا الأسود بن قيس: سمعت جندب بن سفيان البجلي قال: شهدت النَّبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: «من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح» اهـ. قالوا قوله: فليعد وقوله: فليذبح كلاهما صيغة أمر.
وقد قدمنا أن الصحيح عند أهل الأصول أن الأمر المتجرد عن القرائن، يدل على الوجوب، وبينا أدلة ذلك من الكتاب والسنة، ورجحناه بالأدلة الكثيرة الواضحة كقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}. وقوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى} فسمى مخالفة الأمر معصية، وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ}. فجعل أمره وأمر رسوله مانعاً من الاختيار، موجباً للامتثال، وكقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» الحديث إلى آخر ما قدمنا، وحديث جندب بن سفيان الذي ذكرناه عن البخاري أخرجه أيضاً مسلم في صحيحه بلفظ: «من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي أو نصلي، فليذبح مكانها أخرى ومن كان لم يذبح فليذبح باسم الله» وصيغة الأمر بالذبح في حديثه، واضحة كما بينا دلالتها على الوجوب آنفاً.
ومن أدلتهم على وجوب الأضحية: ما رواه أبو داود في سننه، حدثنا مسدد، ثنا يزيد ح وثنا حميد بن مسعدة، ثنا بشر عن عبد الله بن عون، عن عامر أبي رملة قال: أخبرنا مخنف بن سليم قال: ونحن وقوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات قال: قال: «يا أيها الناس إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة أتدرون ما العتيرة؟ هي: التي يقول عنها الناس: الرجبية» اهـ منه.
وقال النووي في شرح المهذب: في هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، قال الترمذي: حديث حسن. قال الخطابي: هذا الحديث ضعيف المخرج، لأن أبا رملة مجهول. وهو كما قال الخطابي مجهول قال فيه ابن حجر في التقريب: عامر أبو رملة شيخ لابن عون لا يعرف اهـ منه. وقال فيه الذهبي في الميزان: عامر أبو رملة شيخ لابن عون فيه جهالة له عن مخنف بن سليم عن النَّبي صلى الله عليه وسلم : «يا أيها الناس إن على كل بيت في الإسلام أضحية، وعتيرة». قال عبد الحق: إسناده ضعيف، وصدقه ابن القطان لجهالة عامر، رواه عنه ابن عون اهـ منه.
وبه تعلم أن قول ابن حجر في الفتح في حديث مخنف بن سليم أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي، خلاف التحقيق كما ترى. وقد قال أبو داود بعد أن ساق الحديث بسنده ومتنه كما ذكرناه عنه آنفاً. قال أبو داود: العتيرة: منسوخة هذا خبر منسوخ اهـ منه. ولكنه لم يبين الناسخ، ولا دليل النسخ. وعلى كل حال فالحديث ضعيف لا يحتج به، لأن أبا رملة مجهول كما رأيت من قال ذلك.
ومن أدلتهم على وجوبها: ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا» قال ابن حجر في بلوغ المرام: في هذا الحديث رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الحاكم ورجح الأئمة غيره وقفه، وقال ابن حجر في فتح الباري: وأقرب ما يتمسك به لوجوب الأضحية، حديث أبي هريرة، رفعه «من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا» أخرجه ابن ماجه، وأحمد ورجاله ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه والموقوف أشبه بالصواب. قاله الطحاوي وغيره، ومع ذلك فليس صريحاً في الإيجاب اهـ منه.
وذكر النووي في شرح المهذب، من أدلة من أوجبها: ما جاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة يوم عيد» ثم قال رواه البيهقي. وقال: تفرد به محمد بن ربيعة، عن إبراهيم بن يزيد الخوزي وليسا بقويين، ثم قال: وعن عائذ الله المجاشعي، عن أبي داود نفيع عن زيد بن أرقم أنهم قالوا: يارسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما هذه الأضاحي قال: «سنة أبيكم إبراهيم (صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم)، قالوا: ما لنا فيها من الأجر؟ قال: بل كل قطرة حسنة» رواه ابن ماجه، والبيهقي. قال البيهقي: قال البخاري: عائذ الله المجاشعي عن أبي داود لا يصح حديثه، وأبو داود هذا ضعيف، ثم قال النووي: وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نسخ الأضحى كل ذبح، وصوم رمضان كل صوم والغسل من الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة» رواه الدارقطني والبيهقي قال: وهو ضعيف، واتفق الحفاظ على ضعفه، وعن عائشة قالت: قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أستدين وأضحي؟ قال: «نعم فإنه دين مقضي» رواه الدارقطني والبيهقي، وضعفاه قالا: وهو مرسل اهـ كلام النووي. وما ذكره من تضعيف الأحاديث المذكورة: هو الصواب، وقد وردت أحاديث غير ما ذكرنا في الترغيب في الأضحية، وفيها أحاديث متعددة ليست بصحيحة. وهذا الذي ذكرنا هو عمدة من قال: بوجوب الأضحية، واستدلال بعض الحنفية على وجوبها بالإضافة في قولهم: يوم الأضحى قائلاً: إن الإضافة إلى الوقت، لا تحقق إلا إذا كانت موجودة فيه بلا شك، ولا تكون موجودة فيه بيقين، إلا إذا كانت واجبة لا يخفى سقوطه، لأن الإضافة تقع بأدنى ملابسة، فلا تقتضي الوجوب على التحقيق، كما لا يخفى.
وأقوى أدلة من قال بالوجوب: هو ما قدمنا في الصحيحين من حديث جندب بن سفيان البجلي، من أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر من ذبح قبل الصلاة بالإعادة، وأمر من لم يذبح بالذبح. وقد قدمنا دلالة الأمر على الوجوب والحديث المختلف في وقفه ورفعه، الذي قدمنا، لأن قوله فيه «فلا يقربن مصلانا» يفهم منه أن ترك الأضحية مخالفة غير هينة، لمنع صاحبها من قرب المصلى وهو يدل على الوجوب. والفرق بين المسافر والمقيم عند أبي حنيفة لا أعلم له مستنداً من كتاب ولا سنة، وبعض الحنفية يوجهه، بأن أداءها له أسباب تشق على المسافر، وهذا وحده لا يكفي دليلاً، لأنه من المعلوم أن كل واجب عجز عنه المكلف، يسقط عنه لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَ}.
وأما الذين قالوا: بأن الأضحية سنة مؤكدة، وليست بواجبة، فاستدلوا بأدلة منها: ما رواه مسلم في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر المكي، حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، سمع سعيد بن المسيب يحدث عن أم سلمة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً» قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه. قال: لكني أرفعه اهـ وفي لفظ عنها، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم: «إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي فلا يأخذن شعراً ولا يقلمن ظفراً» وفي لفظ له عنها مرفوعاً «إذا أراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره» اهـ.
كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من حديث زوجه أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، ووجه الاستدلال بها، على عدم الوجوب أن ظاهر الرواية: أن الأضحية موكولة إلى إرادة المضحي، ولو كانت واجبة لما كانت كذلك.
قال النووي في شرح المهذب: بعد أن ذكر بعض روايات حديث أم سلمة المذكور ما نصه: قال الشافعي: هذا دليل أن التضحية ليست بواجبة، لقوله صلى الله عليه وسلم، وأراد فجعله مفوضاً إلى إرادته، ولو كانت واجبة لقال: فلا يمس من شعره، حتى يضحي اهـ منه. وقال النووي في شرح المهذب أيضاً: واستدل أصحابنا، يعني لعدم الوجوب بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هن علي فرائض وهن لكم تطوع: النحر، والوتر، وركعتا الضحى» رواه البيهقي بإسناد ضعيف. ورواه في موضع آخر وصرح بضعفه وللحديث المذكور طرق، ولا يخلو شيء منها من الضعف ولم يذكرها النووي. ثم قال النووي: وصح عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: أنهما كانا لا يضحيان، مخافة أن يعتقد الناس وجوبها اهـ كلام النووي. وقال ابن حجر في فتح الباري: قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين. وقد استدل لعدم وجوبها: المجد في المنتقى بحديثين، ولا تظهر دلالتها على ذلك عندي كل الظهور. قال في المنتقى: باب ما احتج به في عدم وجوبها، بتضحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أمته: عن جابر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى، فلما انصرف «أتى بكبش فذبحه فقال: باسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي» وعن علي بن الحسين، عن أبي رافع «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب للناس أوتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: اللهم هذا عني وعن أمتي جميعاً من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ، ثم يؤتي بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول: هذا عن محمد وآل محمد فيطعمهما جميعاً المساكين، ويأكل هو وأهله منهما» فمكثنا سنين ليس لرجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المؤنة برسول الله صلى الله عليه وسلم والغرم رواه أحمد اهـ من المنتقى.
وقال شارحه في نيل الأوطار: ووجه دلالة الحديثين، وما في معناهما على عدم الوجوب: أن تضحيته صلى الله عليه وسلم عن أمته وعن أهله تجزىء كل من لم يضح، سواء كان متمكناً من الأضحية أو غير متمكن، ثم تعقبه بقوله: ويمكن أن يجاب عن ذلك، بأن حديث «على كل أهل بيت أضحية» يدل على وجوبها على كل أهل بيت، يجدونها فيكون قرينة على أن تضحية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غير الواجدين من أمته ولو سلم الظهور المدعي فلا دلالة له على عدم الوجوب، لأن محل النزاع من لم يضح عن نفسه، ولا ضحى عنه غيره، فلا يكون عدم وجوبها على من كان في عصره صلى الله عليه وسلم من الأمة مستلزماً، لعدم وجوبها على من كان في غير عصره صلى الله عليه وسلم منهم اهـ. من نيل الأوطار. وقد رأيت أدلة القائلين بالوجوب، والقائلين بالسنة. والواقع في نظرنا أنه ليس في شيء من أدلة الطرفين، دليل جازم سالم من المعارض على الوجوب، ولا على عدمه لأن صيغة الأمر بالذبح في الحديث الصحيح وبإعادة من ذبح، قبل الصلاة، وإن كان يفهم منه الوجوب على أحد الأقوال، وهو المشهور في صيغة الأمر. فحديث أم سلمة الذي ظاهره: تفويض ذلك إلى إرادة المضحي، وهو في صحيح مسلم يمكن أن يكون قرينة صارفة عن الوجوب في صيغة الأمر المذكور، وكلا الدليلين لا يخلو من احتمال، وحديث «من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا» رجح أكثر الأئمة وقفه، وقد قدمنا أن ابن حجر قال: إنه ليس صريحاً في الإيجاب وأجاب القرطبي في المفهم عن دلالة صيغة الأمر في قوله: فليعد، وقوله: فليذبح وقال: لا حجة في شيء من ذلك، على الوجوب وإنما المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية، لمن أراد أن يفعلها أو من أوقعها على غير الوجه المشروع خطأً أو جهلاً، فبين له وجه تدارك ما فرط منه اهـ محل الغرض منه بواسطة نقل ابن حجر في الفتح.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي في مثل هذا الذي لم تتضح فيه دلالة النصوص على شيء معين إيضاحاً بيناً أنه يتأكد على الإنسان: الخروج من الخلاف فيه، فلا يترك الأضحية مع قدرته عليها، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، فلا ينبغي تركها قادر عليها، لأن أداءها هو الذي يتيقن به براءة ذمته، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الأول: قد علمت: أن أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم على أن الأضحية: سنة لا واجبة، والمالكية يقولون: إن وجوبها خاص به صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن الأحاديث الواردة في ذلك لا تخلو من ضعف، وقد استثنى مالك، وأصحابه الحاج بمنى، قالوا: لا تسن له الأضحية لأن ما يذبحه هدي لا أضحية، وخالفهم جماهير أهل العلم نظراً لعموم أدلة الأمر بالأضحية في الحاج وغيره، ولبعض النصوص المصرحة بمشروعية الأضحية للحاج بمنى. قال البخاري في صحيحه: باب الأضحية للمسافر والنساء: حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وحاضت بسرف قبل أن تدخل مكة، وهي تبكي» الحديث وفيه: «فلما كنا بمنى أتيت بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ قالوا ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بالبقر» اهـ. وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بالحج وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج»، الحديث بطوله، وفيه فقالت: «وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر» اهـ من صحيح مسلم. قالوا: فقد ثبت في الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها: «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه ببقر يوم النحر بمنى»، وهو دليل صحيح على مشروعية الأضحية للحاج بمنى.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين دليلاً عندي في هذا الفرع قول مالك وأصحابه، وإن خالفهم الجمهور، وأن الأضحية لا تسن للحاج بمنى، وأن ما يذبحه هدي لا أضحية، وأن الاستدلال بحديث عائشة المتفق عليه المذكور آنفاً لا تنهض به الحجة على مالك وأصحابه، ووجه كون مذهب مالك: أرجح في نظرنا هنا مما ذهب إليه جمهور أهل العلم، هو أن القرآن العظيم دال عليه، ولم يثبت ما يخالف دلالة القرآن عليه سالماً من المعارض من كتاب أو سنة، ووجه دلالة القرآن على أن ما يذبحه الحاج بمنى: هدي لا أضحية، هو ما قدمناه موضحاً لأن قوله تعالى: {وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍلِّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَ} فيه معنى: أذن في الناس بالحج: يأتوك مشاة وركبانا لحكم. منها: شهودهم منافع لهم، ومنها: ذكرهم اسم الله: {عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ}، عند ذبحها تقرباً إلى الله، والذي يكون من حكم التأذين فيهم بالحج، حتى يأتوا مشاة وركباناً، ويشهدوا المنافع ويتقربوا بالذبح، إنما هو الهدي خاصة دون الأضحية لإجماع العلماء على أن للمضحي: أن يذبح أضحيته في أي مكان شاءه من أقطار الدنيا ولا يحتاج في التقرب بالأضحية، إلى إتيانهم مشاة وركباناً من كل فج عميق. فالآية ظاهرة في الهدي، دون الأضحية، وما كان القرآن أظهر فيه وجب تقديمه على غيره، أما الاحتجاج بحديث عائشة المتفق عليه: «أنه ضحى ببقر عن نسائه يوم النحر صلوات الله وسلامه عليه» فلا تنهض به الحجة، لكثرة الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنهن متمتعات، وأن ذلك البقر هدي واجب،
وهو هدي التمتع المنصوص عليه في القرآن وأن عائشة منهن قارنة والبقرة التي ذبحت عنها: هدي قران، سواء قلنا إنها استقلت بذبح بقرة عنها وحدها، كما قدمناه في بعض الروايات الصحيحة، أو كان بالاشتراك مع غيرها في بقرة، كما قال به بعضهم: وأكثر الروايات ليس فيها لفظ: ضحى، بل فيها: أهدى، وفيها: ذبح عن نسائه وفيها: نحر عن نسائه فلفظ ضحى من تصرف بعض الرواة للجزم، بأن ما ذبح عنهن من البقر يوم النحر بمنى: هدي تمتع بالنسبة لغير عائشة، وهدي قران: بالنسبة إليها، كما هو معلوم بالأحاديث الصحيحة، التي لا نزاع فيها، وبهذا الذي ذكرنا تعلم أن ظاهر القرآن مع مالك، والحديث ليس فيه حجة عليه.
وقال ابن حجر في فتح الباري: في باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن بعد ذكره رواية: ضحى المذكورة ما نصه: والظاهر أن التصرف من الرواة، لأنه في الحديث ذكر النحر، فحمله بعضهم على الأضحية، فإن رواية أبي هريرة صريحة في أن ذلك، كان عمن اعتمر من نسائه فقويت رواية من رواه بلفظ: أهدى، وتبين أنه هدي التمتع، فليس فيه حجة على مالك في قوله: لا ضحايا على أهل منى اهـ محل الغرض من فتح الباري، وهو واضح فيما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني: اعلم أن من ذبح أضحية، قبل أن يصلي إمام المسلمين صلاة العيد، فإن ذبيحته لا تجزئه عن الأضحية، وإنما شاته التي ذبحها شاة لحم يأكلها هو ومن شاء. وليست بشاة نسك، وهذا ثابت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة عن زبيد اليامي، عن الشعبي، عن البراء رضي الله عنه قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما يبدأ به في يومنا هذا أن يصلي، ثم نرجع فننحر، من فعل فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء» اهـ محل الغرض منه. وفي لفظ للبخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «من ذبح قبل الصلاة، فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة. فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين» اهـ. وفي لفظ للبخاري، عن أنس بن مالك أيضاً قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر: «من كان ذبح قبل الصلاة فليعد» الحديث. وفي لفظ للبخاري من حديث البراء، عنه صلى الله عليه وسلم قال: «من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين» اهـ.
وقد قدمنا في حديث جندب بن سفيان البجلي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى» الحديث إلى غير هذا من الروايات بمعناه في صحيح البخاري، وكون الأضحية المذبوحة قبل الصلاة: لا تجزىء صاحبها الذي ذكرنا في صحيح البخاري، أخرجه مسلم أيضاً من حديث جندب بن سفيان البجلي، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك رضي الله عنهم، فهذه الأحاديث المتفق عليها عن جندب والبراء وأنس: نصوص صريحة في أن من ذبح أضحيته قبل صلاة الإمام صلاة العيد: أنها لا تجزئه، وإن كان الإمام الأعظم، هو إمام الصلاة فلا إشكال، وإن كان إمام الصلاة غيره، فالظاهر: أن المعتبر إمام الصلاة، لأن ظاهر الأحاديث: أنها يشترط لصحتها، أن تكون بعد الصلاة، وظاهرها العموم سواء كان إمام الصلاة الإمام الأعظم أو غيره، والعلم عند الله تعالى.
والأظهر: أن من أراد أن يضحي بمحل لا تقام فيه صلاة العيد، أنه يتحرى بذبح أضحيته قدر ما يصلي فيه الإمام صلاة العيد عادة، ثم يذبح. والله تعالى أعلم.
وقد جاء في صحيح مسلم وغيره، ما يدل على عدم إجزاء ما نحر قبل نحره صلى الله عليه وسلم. وظاهره: أنه لا بد لإجزاء الأضحية، من أن تكون بعد الصلاة، وبعد نحر الإمام، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثالث: في سن الأضحية التي تجزىء. والأظهر: أن السن التي تجزىء في الأضحية هي التي تكون مسنة، فإن تعسرت المسنة أجزأته جذعة من الضأن.
قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» اهـ.
وقال النووي في شرح هذا الحديث ما نصه: قال العلماء: المسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم، فما فوقها. وهذا تصريح: بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال. وهذا مجمع عليه على ما نقله القاضي عياض، ونقل العبدري وغيره، من أصحابنا، عن الأوزاعي أنه قال: يجزىء الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن. وحكي هذا عن عطاء. وأما الجذع من الضأن فمذهبنا، ومذهب العلماء كافة: أنه يجزىء سواء وجد غيره أو لا وحكوا عن ابن عمر والزهري: أنهما قالا: لا يجزىء. وقد يحتج لهما بظاهر هذا الحديث. قال الجمهور: هذا الحديث محمول على الاستحباب والأفضل، وتقديره: يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فجذعة ضأن، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن، وأنها لا تجزىء بحال. وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره، لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن، مع وجود غيره وعدمه. وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب والله أعلم. إلى أن قال: والجذع من الضأن: ما له سنة تامة، هذا هو الأصح عند أصحابنا، وهو الأشهر عند أهل اللغة وغيرهم، وقيل ما له ستة أشهر.
وقيل: سبعة، وقيل: ثمانية، وقيل: ابن عشرة. حكاه القاضي، وهو غريب.
وقيل: إن كان متولداً من بين شابين، فستة أشهر، وإن كان من هرمين فثمانية أشهر اهـ محل الغرض منه. وقال في شرح المهذب: ثم الجذع ما استكمل سنة على أصح الأوجه إلى آخر الأوجه التي ذكرها في شرح مسلم. وتقدم نقلها عنه آنفاً. وقال أيضاً: وأما الثني من الإبل فما استكمل خمس سنين،
ودخل في السادسة. وروى حرملة عن الشافعي أنه الذي استكمل ست سنين، ودخل في السابعة.
قال الروياني: وليس هذا قولاً آخر للشافعي، وإن توهمه بعض أصحابنا، ولكنه إخبار عن نهاية سن الثني، وما ذكره الجمهور بيان لابتداء سنه، وأما الثني من البقر فهو ما استكمل سنتين، ودخل في الثالثة.
وروى حرملة عن الشافعي: أنه ما استكمل ثلاث سنين، ودخل في الرابعة. والمشهور من نصوص الشافعي الأول وبه قطع الأصحاب وغيرهم من أهل اللغة وغيرهم. والثني من المعز فيه عندهم وجهان: أصحهما: ما استكمل سنتين. والثاني: ما استكمل سنة اهـ منه.
وقد علمت أن الثني هو المسن. قال ابن الأثير في النهاية في الجذع: هو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والمعز: ما دخل في السنة الثانية، وقيل: البقر في الثالثة ومن الضأن: ما تمت له سنة، وقيل: أقل منها، ومنهم من يخالف بعض هذا في التقدير اهـ منه. وقال ابن الأثير في النهاية أيضاً: الثنية من الغنم ما دخلت في السنة الثالثة، ومن البقر كذلك، ومن الإبل: في السادسة والذكر ثني، وعلى مذهب أحمد بن حنبل: ما دخل من المعز في الثانية، ومن البقر في الثالثة.
وقال ابن الأثير في النهاية في المسنة، قال الأزهري: البقرة والشاة يقع عليهما اسم المسن، إذا أثنيا، ويثنيان في السنة الثالثة.
وقال الجوهري في صحاحه: الجذع، قبل الثني والجمع جذعان وجذاع، والأنثى: جذعة، والجمع: جذعات تقول منه لولد الشاة في السنة الثانية، ولولد البقر والحافر في السنة الثالثة، وللإبل في السنة الخامسة: أجذع والجذع اسم له في زمن ليس بسن تنبت ولا تسقط، وقد قيل: في ولد النعجة: إنه جذع في ستة أشهر، أو تسعة أشهر، وذلك جائز في الأضحية انتهى منه. وفي القاموس: والثنية: الناقة الطاعنة في السادسة، والبعير ثني والفرس الداخلة في الرابعة والشاة في الثالثة كالبقرة. اهـ منه.
وقد علمت مما مر: أن حديث مسلم الثابت فيه دليل على أن الأضحية لا تكون إلا بمسنة، وأنها إن تعسرت فجذعة من الضأن، فمن ضحى بمسنة، أو بجذعة من الضأن عند تعسرها: فضحيته مجزئة إجماعاً.
واختلف أهل العلم فيما سوى ذلك، وهذه مذاهبهم وأدلتها.
فذهب مالك رحمه الله وأصحابه: إلى أن المجزىء في الضحية: جذع الضأن، وثني المعز والبقر، والإبل. وجذع الضأن عندهم: هو ما أكمل سنة على المشهور، وثني المعز عندهم: هو ما أكمل سنة، ودخل في الثانية دخولاً بيناً، فالدخول في السنة الثانية، دخولاً بيناً هو الفرق عندهم بين جذع الضأن، وثني المعز.
ودليل مالك وأصحابه على ما ذكرنا عنهم في سن الأضحية: أن جذع الضأن عندهم، لا فرق بينه وبين جذعة الضأن المنصوص على إجزائها في صحيح مسلم، وأن الثني ثبت إجزاؤه مطلقاً، وتحديدهم له في المعز بما دخل في الثانية دخولاً بيناً من تحقيق المناط، والثني عندهم من البقر ابن ثلاث سنين والأنثى والذكر سواء عندهم. والثني عندهم من الإبل: ابن خمس سنين، والذكر والأنثى سواء.
ومعلوم أن الذكورة، والأنوثة في الضحايا والهدايا، وصفان طرديان، لا أثر لواحد منهما في الحكم فهما سواء. وقال بعض المالكية: إن الثني من البقر: ابن أربع سنين. والظاهر: أنه غير مخالف للقول الأول، وأن المراد به ابن ثلاث ودخل في الرابعة.
وقال ابن حبيب من المالكية: والثني من الإبل ابن ست سنين، والظاهر أيضاً أنه غير مخالف للقول الأول، لأن المراد به ابن خمس، ودخل في السادسة، فإن قيل ظاهر ... سلمنا أن جذعة الضأن المنصوص عليها في حديث جابر عند مسلم: لا فرق بينها، وبين الجذع الذكر، لأن الذكورة والأنوثة في الهدايا والضحايا وصفان طرديان، لا أثر لهما في الحكم.
ولكن ظاهر الحديث، يدل على أن جذعة الضأن الأنثى المذكورة في الحديث، لا يذبحها، إلا من تعسرت عليه المسنة، التي هي الثنية، لأن لفظ الحديث المتقدم «لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن».
فالجواب: أن ظاهر الحديث أن الجذعة من الضأن: لا تجزىء إلا عند تعسر المسنة، وظاهره: أن الجذع الذكر من الضأن: لا يجزىء سواء عسر وجود المسنة، أو لم يعسر، وجمهور أهل العلم خالفوا ظاهر هذا الحديث من الجهتين المذكورتين، إلا ما روي عن ابن عمر، والزهري: من أن الجذع الذكر من الضأن: لا يجزىء مطلقاً لظاهر هذا الحديث.
قال النووي: في شرحه لحديث مسلم: هذا ما نصه: قال العلماء: المسنة هي الثنية: من كل شيء من الإبل والبقر والغنم، فما فوقها وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال، وهذا مجمع عليه على ما نقله القاضي عياض، ونقل العبدري، وغيره من أصحابنا أنه قال: يجوز الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن، وحكي هذا عن عطاء، وأما الجذع من الضأن: فمذهبنا، ومذهب العلماء كافة: أنه يجزىء، سواء وجد غيره أو لا، وحكوا عن ابن عمر والزهري أنهما قالا: تجزىء، وقد يحتج لهما بظاهر الحديث، قال الجمهور: هذا الحديث محمول على الاستحباب، والأفضل وتقديره: يستحب لكم ألا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فجذعة ضأن، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن، وأنها لا تجزىء بحال، وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره، لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر والزهري: يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب والله أعلم. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الحديث ظاهر في أن جذعة الضأن: لا تجزىء إلا إذا تعسر وجود المسنة، لأن قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: «لا تذبحوا إلا مسنة» نهي صريح عن ذبح غير المسنة، التي هي الثنية. والنهي: يقتضي التحريم كما تقرر في الأصول، إلا إذا وجد صارف عنه، وهو دليل ظاهر على أن جذعة الضأن: لا تجزىء إلا عند تعسر المسنة كما ترى، وسيأتي إن شاء الله إيضاح بقية هذا البحث بعد ذكر مذاهب أهل العلم في هذه المسألة، ومناقشة أدلتهم، وأما مذهب الشافعي رحمه الله في هذه المسألة: فهو أن الجذع لا يجزىء إلا من الضأن خاصة، والجذع من الضأن والجذعة عنده سواء، وأما غير الضأن: فلا يجزىء عنده منه إلا الثنية، أو الثني. وقد قدمنا كلام أهل العلم، واللغة في سن الجذع، والثني والجذعة والثنية والوجه الذي حكاه الرافعي: أن جذع المعز يجزىء عند الشافعية غلط كما صرح به النووي. وأما مذهب أبي حنيفة: فهو كمذهب الشافعي، وهو جواز التضحية بالجذع من الضأن خاصة، وبالثني من غير الضأن وهو المعز والإبل والبقر.
وقال صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي ما نصه: والجذع من الضأن: ما تمت له ستة أشهر عند الفقهاء، وذكر الزعفراني: أنه ابن سبعة أشهر. والثني من الضأن، والمعز ابن سنة، ومن البقر: ابن سنتين، ومن الإبل: ابن خمس سنين، وفي القرب: الجذع من البهائم قبل الثني إلا أنه من الإبل قبل السنة الخامسة، ومن البقر والشاة في السنة الثانية، ومن الخيل في الرابعة، وعن الزهري الجذع من المعز لسنة، ومن الضأن لثمانية أشهر. اهـ منه.
والأصح: هو ما قدمنا في سن الجذع والثني عن الفقهاء، وأهل اللغة، ومذهب الإمام أحمد كمذهب أبي حنيفة والشافعي، فلا يجوز عنده الجذع إلا من الضأن خاصة، ولا يجوز من غير الضأن: إلا الثني، والجذع من الضأن عندهم: ما له ستة أشهر، ودخل في السابع، وثني المعز عندهم: إذا تمت له سنة، ودخل في الثانية، وثني البقر عندهم: إذا تمت له سنتان، ودخل في الثالثة، وثني الإبل عندهم: إذا تمت له خمس سنين، ودخل في السادسة. قاله ابن قدامة في المغني: وقال أيضاً قال الأصمعي، وأبو زياد الكلابي، وأبو زيد الأنصاري: إذا مضت السنة الخامسة على البعير، ودخل في السادسة، وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني، ونرى أنه إنما سمي ثنياً، لأنه ألقى ثنيتيه. وأما البقرة فهي التي لها سنتان، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تذبحوا إلا مسنة» ومسنة البقر التي لها سنتان، وقال وكيع: الجذع من الضأن يكون ابن سبعة أشهر. انتهى كلام المغني. وقد عرفت مذاهب الأئمة الأربعة في السن، التي تجزىء ضحية من بهيمة الأنعام، وأنهم متفقون على إجزاء جذع الضأن، والثني من غيره مع بعض الاختلاف، الذي رأيت في سن الجذع والثني.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر عندي: هو ما عليه جمهور أهل العلم منهم الأئمة الأربعة وغيرهم: أنه لا يجزىء في الأضحية: الجذع إلا من الضأن خاصة، ومن غير الضأن وهو المعز، والإبل والبقر: لا يجزىء إلا الثني. فما فوقه. والذكر والأنثى سواء في الهدايا، والأضاحي كما تقدم.
والتأويل الذي قدمنا عن النووي في حديث جابر في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» أنه متعين بحمله على الاستحباب، والأفضل يظهر لي أنه متعين كما قاله النووي، والقرينة الصارفة عن ظاهر حديث جابر المذكور عند مسلم: هي أحاديث أُخر جاءت من طرق عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أن الجذع من الضأن يجزىء، وظاهرها، ولو كان المضحي قادراً على المسنة، وسنذكرها هنا بواسطة نقل المجد في المنتقى، لأنه ذكرها في محل واحد، فمنها ما رواه الإمام أحمد والترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نعم أو نعمت الأضحية: الجذع من الضأن» ومنها: ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه، عن أم بلال بنت هلال، عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يجوز الجذع من الضأن ضحية» ومنها: ما رواه أبو داود وابن ماجه، عن مجاشع بن سليم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن الجذع يوفي مما توفي منه الثنية» ومنها: ما رواه النسائي، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: «ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجذع من الضأن» اهـ. بواسطة نقل المجد في المنتقى.
وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً، فتصلح بمجموعها للاحتجاج، وتعتضد بأن عامة أهل العلم، على العمل بها، إلا ما نقل عن ابن عمر والزهري. وقد دل حديث جابر المذكور عند مسلم: على أن الجذع من غير الضأن لا يجزىء، وهو كذلك، وحديث البراء بن عازب الثابت في الصحيحين أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بردة: «ضح بجذعة من المعز ولن تجزىء عن أحد بعدك» دليل: على أن جذع المعز لا يجزىء في الأضحية. قال البخاري في صحيحه: باب قول النَّبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: «ضح بالجذع من المعز ولن تجزىء عن أحد بعدك». حدثنا مسدد، حدثنا خالد بن عبد الله، حدثنا مطرف، عن عامر عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: ضحى خال لي يقال له أبو بردة، قبل الصلاة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شاتك شاة لحم، فقال: يا رسول الله، إن عندي داجناً جذعة من المعز. قال: اذبحها ولا تصلح لغيرك» اهـ منه. وفي لفظ للبخاري من حديث البراء «ولن تجزىء عن أحد بعدك» وكذلك هي في بعض ألفاظ مسلم في حديث البراء المذكور «ولن تجزىء عن أحد بعدك» وفي لفظ عند مسلم من حديث البراء «ضح بها ولا تصلح لغيرك» وفي لفظ له عنه «ولا تجزىء جذعة من أحد بعدك».
والروايات بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم رخص لأبي بردة في التضحية بعناق جذعة من المعز وصرح: بأنها لا تجزىء عن أحد بعده معروفة في الصحيحين وغيرهما: وهي دليل على أن جذع المعز لا يجزىء. فمن قال من أهل العلم بأنه يجزىء رد قوله بهذا الحديث الصحيح، المصرح بأن جذعة المعز لا تجزىء عن أحد بعد أبي بردة.
فإن قيل: جاء في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنماً يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ضح به أنت» وهذا لفظ البخاري في صحيحه، وفي لفظ لمسلم عن عقبة بن عامر الجهني المذكور رضي الله عنه قال: «قسم النَّبي صلى الله عليه وسلم فينا ضحايا فأصابني جذع، فقلت: يا رسول الله أصابني جذع فقال: ضح به» اهـ منه. وروايات هذا الحديث الصحيح، عن عقبة بن عامر: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يضحي بجذع المعز، لأن العتود لا تطلق إلا على ولد المعز، والروايات مصرحة بأن المذكور جذع. وقال ابن الأثير في النهاية: والعتود من ولد المعز إذا قوي ورعى، وأتى عليه حول. وهذا حديث متفق عليه فيه الدلالة الصريحة: على جواز التضحية بجذع المعز، وذكر ابن حجر في الفتح: أن البيهقي ذكر زيادة في حديث عقبة بن عامر، المذكور عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعقبة: «ولا رخصة فيها لأحد بعدك» وقال ابن حجر: إن الطريق التي روى بها البيهقي الزيادة المذكورة صحيحة: وإن حاول بعضهم تضعيفها.
فالجواب: أن الجمع بين ما وقع لأبي بردة، وعقبة بن عامر أشكل على كثير من أهل العلم، ويزيده إشكالاً، أن الترخيص في الأضحية بجذع المعز ورد عنه صلى الله عليه وسلم لجماعة آخرين. قال ابن حجر في الفتح: فقد أخرج أبو داود وأحمد، وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عتوداً جذعاً فقال: ضح به. فقلت: إنه جذع أفأضحي؟ قال: نعم ضح به فضحيت به» لفظ أحمد إلى أن قال: وفي الطبراني في الأوسط، من حديث ابن عباس «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقاص جذعاً من المعز فأمره أن يضحي به» وأخرجه الحاكم من حديث عائشة، وفي سنده ضعف، ولأبي يعلى، والحاكم من حديث أبي هريرة: أن رجلاً قال: يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم هذا جذع من الضأن مهزول، وهذا جذع من المعز سمين، وهو خيرهما أفأضحي به؟ قال «ضح به فإن لله الخير» انتهى بواسطة نقل ابن حجر في فتح الباري.
وإذا عرفت أن في الأحاديث المذكورة إشكالاً، فاعلم: أن الحافظ في الفتح تصدى لإزالة ذلك الإشكال، فقال في موضع بعد سوقه الأحاديث التي ذكرنا والحق أنه لا منافاة بين هذه الأحاديث، وبين حديثي أبي بردة وعقبة، لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر، ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزىء، واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك. وإنما قلت ذلك: لأن بعض الناس زعم أن هؤلاء شاركوا أبا بردة وعقبة في ذلك، والمشاركة إنما وقعت في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير. انتهى محل الغرض منه بلفظه. ومقصوده: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لأحد ممن رخص لهم في التضحية بجذع المعز «ولن تجزىء عن أحد بعدك» إلا لأبي بردة، وعقبة بن عامر على ما رواه البيهقي، والذين لم يقل لهم، ولن تجزىء عن أحد بعدك، لا إشكال في مسألتهم، لاحتمال أنها قبل تقرر الشرع بعدم إجزاء جذع المعز، فبقي الإشكال بين حديث أبي بردة، وحديث عقبة. وقد تصدى لحله ابن حجر في الفتح أيضاً فقال في موضع: وأقرب ما يقال فيه: إن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد، أو تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني، ولا مانع من ذلك، لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحاً اهـ محل الغرض منه. وقال في موضع آخر: وإن تعذر الجمع الذي قدمته، فحديث أبي بردة أصح مخرجاً اهـ منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما الجمع الذي ذكره ابن حجر، فالظاهر عندي: أنه لا يصح. وقوله: لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع غلط منه رحمه الله، بل وقع في السياق التصريح باستمرار المنع لأن قوله صلى الله عليه وسلم «ولن تجزىء عن أحد بعدك» صريح في استمرار منع الإجزاء عن غيره، لأن لفظة «لن» تدل على نفي الفعل في المستقبل من الزمن، فهي دليل صريح على استمرار عدم الإجزاء عن غيره، في المستقبل من الزمن ويؤيد ذلك أن قوله «عن أحد بعدك» نكرة في سياق النفي، فهي تعم كل أحد في كل وقت كما ترى.
والصواب: الترجيح بين الحديثين، وحديث أبي بردة لا شك أن لفظة «ولن تجزىء عن أحد بعدك» فيه أصح سنداً من زيادة نحو ذلك في حديث عقبة، فيجب تقديم حديث أبي بردة، على حديث عقبة، كما ذكره ابن حجر في كلامه الأخير والله تعالى أعلم.
فإن قيل: ذكر جماعة من علماء العربية أن لفظة: لن: لا تدل على تأبيد النفي. قال ابن هشام في المغني في الكلام على لن: ولا تفيد توكيد النفي، خلافاً للزمخشري في كشافه، ولا تأبيده خلافاً له في أنموذجه، وكلاهما دعوى بلا دليل، قيل: ولو كانت للتأبيد، لم يقيد منفيها باليوم في {فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّ} ولكان ذكر الأبد في {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدً} تكراراً والأصل عدمه اهـ محل الغرض منه.
فالجواب: أن قول الزمخشري بإفادة لن: التأبيد يجب رده، لأنه يقصد به استحالة رؤية الله تعالى يوم القيامة زاعماً أن قوله لموسى: {لَن تَرَانِى} تفيد فيه لفظة: لن تأييد النفي، فلا يرى الله عنده أبداً لا في الدنيا، ولا في الآخرة. وهذا مذهب معتزلي معروف باطل ترده النصوص الصحيحة في القرآن والأحاديث الصحيحة الكثيرة التي لا مطعن في ثبوتها. وقد بينا مراراً أن رؤية الله تعالى بالأبصار: جائزة عقلاً في الدنيا والآخرة. ولو كانت ممنوعة عقلاً في الدنيا لما قال نبي الله موسى {رَبِّ أَرِنِىۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ} لأنه لا يجهل المحال في حق خالقه تعالى، وأنها ممنوعة شرعاً في الدنيا ثابتة الوقوع في الآخرة، وإفادة لن التأبيد التي زعمها الزمخشري في الآية تردها النصوص الصحيحة الصريحة في الرؤية في الآخرة، ولا ينافي ذلك أن تفيد لن: التأبيد في موضع لم يعارضها فيه نص.
وبالجملة فقد اختلف أهل العربية في إفادة لن تأبيد النفي حيث لم يصرف عنه صارف، وعدم إفادتها لذلك، فعلى القول: بأنها تفيد التأبيد فقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: «ولن تجزىء عن أحد بعدك» يدل على تأبيد نفي الإجزاء، كما ذكرنا وعلى عدم اقتضائها التأبيد، فلا تقل عن الظهور فيه، حتى يصرف عنه صارف، وبذلك كله تعلم: أن الجمع بين حديث أبي بردة، وحديث عقبة بن عامر، كالمتعذر فيجب الترجيح، وحديث أبي بردة: أرجح. والعلم عند الله تعالى.
وهذا الذي ذكرنا في هذا الفرع هو حاصل كلام أهل العلم في السن التي تجزىء في الضحايا.
الفرع الرابع: اعلم: أنه لا يجوز في الأضحية إلا بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز بأنواعها، لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلاٌّنْعَامِ} فلا تشرع التضحية بالظباء ولا ببقرة الوحش وحمار الوحش مثلاً.
وقال النووي في شرح المهذب: ولا تجزىء بالمتولد من الظباء والغنم، لأنه ليس من بهيمة الأنعام. اهـ.
والظاهر أنه كذلك كما عليه جماهير أهل العلم، فما روي عن الحسن بن صالح من أن بقرة الوحش تجزىء عن سبعة، والظبي عن واحد، خلاف التحقيق. وعن أصحاب الرأي: أن ولد البقرة الإنسية يجزىء، وإن كان أبوه وحشياً وعن أبي ثور: يجزىء إن كان منسوباً إلى بهيمة الأنعام. والأظهر: أن المتولد من بين ما يجزىء، وما لا يجزىء، لا يجزىء بناء على قاعدة تقديم الحاظر على المبيح. ومعلوم أنها خالف فيها بعض أهل الأصول، وعلى كل حال، فالأحوط أن لا يضحي إلا ببهيمة الأنعام. لظاهر الآية الكريمة.
الفرع الخامس: اعلم: أن أكثر أهل العلم على أن أفضل أنواع الأضحية: البدنة، ثم البقرة، ثم الشاة، والضأن، أفضل من المعز. وسيأتي الكلام على حكم الاشتراك في الأضحية ببدنة، أو بقرة إن شاء الله. وكون الأفضل: البدنة، ثم البقرة، ثم شاة الضأن، ثم شاة المعز. قال النووي في شرح المهذب: هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة، وأحمد، وداود. وقال مالك: أفضلها الغنم ثم البقر، ثم الإبل. قال: والضأن أفضل من المعز وإناثها أفضل من فحول المعز وفحول الضأن خير من إناث المعز، وإناث المعز خير من الإبل، والبقر. وقال بعض أصحاب مالك: الإبل أفضل من البقر.
فإذا عرفت أقوال أهل العلم في أفضل ما يضحى به من بهيمة الأنعام فاعلم أن الجمهور الذين قالوا البدنة أفضل، ثم البقرة، ثم الشاة احتجوا بأدلة:
منها: أن البدنة أعظم من البقرة، والبقرة أعظم من الشاة. والله تعالى يقول: {ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَـٰئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ}.
ومنها: ما قدمنا ثابتاً في الصحيح: أن البقرة والبدنة كلتاهما تجزىء عن سبعة في الهدي، فكل واحدة منهما تعدل سبع شياه. وكونها تعدل سبع شياه، دليل واضح على أنها أفضل من شاة واحدة.
ومنها: ما رواه الشيخان والإمام أحمد وأصحاب السنن، غير ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر» اهـ. قالوا: ففي هذا الحديث الصحيح الدلالة الواضحة، على أن البدنة أفضل، ثم البقرة، ثم الكبش الأقرن، ووجهه ظاهر. واحتج مالك، وأصحابه: على أن التضحية بالغنم: أفضل لأنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالغنم لا بالإبل ولا بالبقر. وقد قدمنا الأحاديث بتضحيته بكبشين أقرنين أملحين، وتضحيته بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، وكلها ثابتة في الصحيح كما قدمنا أسانيدها ومتونها. قالوا: وهو صلى الله عليه وسلم لا يضحي مكرراً ذلك عاماً بعد عام، إلا بما هو الأفضل في الأضحية. فلو كانت التضحية: بالإبل، والبقر أفضل لفعل صلى الله عليه وسلم ذلك الأفضل.
قالوا فإن قيل: أهدى في حجته الإبل، ولم يهد الغنم.
فالجواب: أنه أهدى الغنم أيضاً فبعث بها إلى البيت، ولو سلمنا أن الإبل أفضل في الهدي، فلا نسلم أنها أفضل في الأضحية، والمالكية لا ينكرون أفضلية الإبل في الهدي، وإنما يقولون: إن الغنم أفضل في الأضحية، ولكل من الغنم والإبل فضل من جهة، فالإبل أفضل من حيث كثرة لحمها، والغنم أفضل، من حيث إن لحمها أطيب، وألذ. وعند المالكية: فلا مانع من أن يراعي كل واحد من الوصفين في نوع من أنواع النسك، ودليل الجمهور ظاهر. لكن دليل المالكية أخص في محل النزاع، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يضح إلا بالغنم والخير كله في اتباعه في أقواله، وأفعاله، وما جاء عنه من تفضيل البدنة، ثم البقرة، ثم الكبش الأقرن، لم يأت في خصوص الأضحية. ولكن فعله صلى الله عليه وسلم في خصوص الأضحية والله تعالى يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
والحاصل: أن لكل من القولين وجهاً من النظر. والله تعالى أعلم بالصواب.
واعلم: أن الجمهور أجابوا عن دليل مالك بأن تضحيته صلى الله عليه وسلم بالغنم، لبيان الجواز، أو لأنه لم يتيسر له في ذلك الوقت بدنة ولا بقرة، وإنما تيسرت له الغنم هكذا قالوا. وظاهر الأحاديث تكرر تضحيته صلى الله عليه وسلم بالغنم، وقد يدل ذلك على قصده الغنم دون غيرها، لأنه لو لم يتيسر له إلا الغنم سنة، فقد يتيسر له غيرها في سنة أخرى. والله تعالى أعلم.
فإن قيل: روى البيهقي عن ابن عمر كان صلى الله عليه وسلم يضحي بالجزور أحياناً وبالكبش إذا لم يجد الجزور.
فالجواب: أن الزرقاني في شرح الموطأ قال ما نصه: وحديث البيهقي عن ابن عمر كان صلى الله عليه وسلم يضحي بالجزور أحياناً، وبالكبش إذا لم يجد الجزور. ضعيف. في سنده عبد الله بن نافع، وفيه مقال. اهـ منه. وقد روى البيهقي في السنن الكبرى، عن أبي أمامة، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير الضحايا الكبش الأقرن» اهـ منه. وقد ذكر النووي أن فيه ضعفاً، ولا شك أنه تقويه الأحاديث الصحيحة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم بالمداومة على التضحية بالكبشين الأقرنين، أو الكبش الأقرن. كما تقدم إيضاحه.
الفرع السادس: اعلم: أن جمهور أهل العلم: أجازوا اشتراك سبعة، مضحين في بدنة أو بقرة، بأن يشتروها مشتركة بينهم، ثم يهدوا بها، أو يضحوا بها عن كل واحد سبعها.
وقد قدمنا النصوص الصريحة بذلك في الهدي، والظاهر: عدم الفرق في ذلك بين الهدي، والأضحية.
وخالف مالك وأصحابه الجمهور، فقالوا: لا يجوز ذبح بدنة مشتركة، ولا بقرة، وإنما يملكها واحد فيشرك غيره معه في الأجر. أما اشتراكهم في ملكها، فلا يجزىء عند مالك لا في الأضحية ولا في الهدي الواجب، وكذلك هدي التطوع خلافاً لأشهب من أصحابه.
واعلم: أن مالكاً رحمه الله حمل أحاديث اشتراك السبعة في البدنة والبقرة، على الاشتراك في الأجر، بأن يكون المالك واحداً، ويشرك غيره معه في الأجر لا في ملك الرقبة، وظاهر الأحاديث فيه الدلالة الواضحة على الاشتراك في الملك. وأجاز مالك للرجل: أن يضحي بالشاة الواحدة، ويشرك معه أهله في الأجر.
وقد قدمنا في الصحيح أن النَّبي صلى الله عليه وسلم ذبح كبشاً وقال: «اللهم تقبل من محمد وآل محمد». والحاصل: أن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز اشتراك مالكين في شاة الأضحية، أما كون المالك واحداً فيضحي عن نفسه بالشاة وينوي اشتراك أهل بيته معه في الأجر، وأن ذلك يتأدى به الشعار الإسلامي عنهم جميعاً فلا ينبغي أن يختلف فيه. لدلالة النصوص الصحيحة عليه، كالحديث المذكور آنفاً وغيره، كحديث أبي أيوب الأنصاري: كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه، وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون، حتى تباهي الناس، فصار كما ترى. قال في المنتقى: رواه ابن ماجه، والترمذي، وصححه، وقال شارحه في النيل: وأخرجه مالك في الموطأ إلى غير ذلك من الأحاديث، والاشتراك المذكور في الأجر في الشاة الواحدة يصح ولو كانوا أكثر من سبعة، كما هو ظاهر النص، وكما صرح به المالكية وغيرهم واشترط المالكية لذلك شروطاً ثلاثة. وهي سكناهم مع المضحي، وقرابتهم منه، وإنفاقه عليهم، وإن تبرعاً. ولا أعلم لهذه الشروط مستنداً من الوحي إلا أن يكون يراد بها تحقيق المناط في مسمى الأهل، وأن أهل الرجل هم ما اجتمع فيهم الأوصاف الثلاثة، ولا تساعد على الشروط المذكورة في جميع النسك الأحاديث المتقدمة باشتراك كل سبعة من الصحابة في بدنة أو بقرة في عمرة الحديبية وفي الحج، لأن ذلك الاشتراك عند مالك في الأجر لا في الرقبة، وظاهر الأحاديث أنهم لم تجتمع فيهم الشروط المذكورة، والعلم عند الله تعالى.
وما ذكرنا من التضحية بالشاة الواحدة عن المضحي وأهله. قال ابن قدامة في المغني: نص عليه أحمد، وبه قال مالك، والليث والأوزاعي، وإسحاق، وروي ذلك عن ابن عمر، وأبي هريرة ثم قال: وكره ذلك الثوري، وأبو حنيفة، لأن الشاة لا تجزىء عن أكثر من واحد، فإذا اشترك فيها اثنان لم تجزىء عنهما اهـ منه. والحديث المتفق عليه المذكور: حجة على من خالفه.
الفرع السابع: اعلم: أنا قدمنا وقت الأضحية والهدي وأقوال أهل العلم في ذلك، بما أغنى عن إعادته هنا، وقد قدمنا حديث أم سلمة، عند مسلم المقتضي: أن من أراد أن يضحي لا ينبغي له أن يحلق شيئاً من شعره، ولا أن يقلم شيئاً من أظفاره في عشر ذي الحجة، حتى يضحي، وظاهر الحديث: تحريم ذلك، لأن في لفظ الحديث عند مسلم، عن أم سلمة عنه صلى الله عليه وسلم «فلا يأخذن شعراً، ولا يقلمن ظفراً» وفي لفظ له عنها عنه صلى الله عليه وسلم:
«فلا يمس من شعره وبشره شيئاً» وفي الألفاظ المذكورة في الحديث الصحيح النهي عن حلق الشعر، وتقليم الأظفار في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي، والنهي يقتضي التحريم إلا لصارف عنه يجب الرجوع إليه كما تقرر في الأصول، وقال الشافعية والمالكية، ومن وافقهم: إن الحلق وتقليم الأظفار مكروه كراهة تنزيه لا تحريم، لأن المضحي ليس بمحرم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحريم أظهر لظاهر الحديث، ولأنه صلى الله عليه وسلم يقول: «وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» والتحريم المذكور لظاهر النص وجه للشافعية، قال النووي: حكاه أبو الحسن العبادي في كتابه الرقم، وحكاه الرافعي عنه لظاهر الحديث، وحكى الشيخ المواق في شرحه لخليل، عن أحمد، وإسحاق: تحريم الحلق، وتقليم الأظافر في عشر ذي الحجة لمريد التضحية، وقال ابن قدامة في المغني: قال بعض أصحابنا: بالتحريم، وحكاه ابن المنذر عن أحمد، وإسحاق، وسعيد بن المسيب، وقال القاضي، وجماعة من أصحابنا: هو مكروه غير محرم، وبه قال مالك والشافعي لقول عائشة: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقلدها بيده»، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له، حتى ينحر الهدي متفق عليه، وقال أبو حنيفة: لا يكره ذلك، لأنه لا يحرم عليه الوطء واللباس، فلا يكره له حلق الشعر، وتقليم الأظفار، كما لو لم يرد أن يضحي. اهـ محل الغرض منه بلفظه.
وأظهر شيء في محل النزاع وأصرحه وأخصه فيه: حديث أم سلمة، وظاهره التحريم. وقال النووي في شرح المهذب: مذهبنا أن إزالة الشعر والظفر في العشر لمن أراد التضحية: مكروه كراهة تنزيه، حتى يضحي، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يكره، وقال سعيد بن المسيب، وأحمد، وربيعة، وإسحاق، وداود: يحرم، وعن مالك: أنه يكره، وحكى عنه الدارمي يحرم في التطوع، ولا يحرم في الواجب، ثم ذكر الدليلين المذكورين للقولين.
وقد ذكرنا آنفاً أن أخصهما في محل النزاع ظاهره التحريم: وهو حديث أم سلمة، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثامن: أجمع العلماء: على إجزاء الذكر والأنثى.
واختلفوا أيهما أفضل، وظاهر النصوص الصحيحة: أن ذكور الضأن خير من إناثها، لتضحيته بالكبش، دون النعجة وبعضهم قال: بأفضلية الذكور مطلقاً، وبعضهم قال: بأفضلية الإناث مطلقاً ولم يقم دليل صحيح في غير ذكر الضأن فلا ينبغي أن يختلف في ذكر الضأن أنه أفضل من أنثاه.
الفرع التاسع: اعلم: أن منع ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث منسوخ. فقد دلت الأحاديث الصحيحة، على أنه صلى الله عليه وسلم منع ادخار لحم الأضاحي بعد ثلاث، ومنع المضحي أن يأكل من أضحيته، بعد ثلاث، ثم نسخ ذلك، وصار الأكل والادخار منها مباحاً مطلقاً. وسنذكر هنا إن شاء الله طرفاً من الأحاديث الصحيحة الدالة على المنع المذكور أولاً، وعلى نسخه وإباحة ذلك مطلقاً.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو عاصم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثه، وبقي في بيته منه شيء فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها» وحديث سلمة بن الأكوع، هذا أخرجه أيضاً مسلم في صحيحه قريباً من لفظ البخاري.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني عبد الجبار بن العلاء، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، عن أبي عبيد قال: شهدت العيد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وقال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نأكل من لحوم نسكنا بعد ثلاث» وفي لفظ لمسلم، عن علي أنه قال: «إنه صلى الله عليه وسلم قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوا».
وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يأكل أحد من لحم أضحيته فوق ثلاثة أيام» وفي لفظ له عنه «أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث» ثم قال: قال سالم: فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. وفي لفظ: بعد ثلاث.
وفي لفظ لمسلم، عن عبد الله بن واقد قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة فقالت: صدق سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: دف أهل أبيات من أهل البادية صفرة الأضحى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخروا ثلاثاً، ثم تصدقوا بما بقي فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم، وَيَجْمِلُونَ مِنْهَا الوَدَكَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قالوا نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال: إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا وادخروا وتصدقوا».
وفي لفظ لمسلم عن جابر رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ثم قال بعد: كلوا وتزودوا وادخروا».
وفي لفظ لمسلم عن عطاء، عن جابر أيضاً أنه قال: كنا لا نأكل من لحوم بُدْنِنَا فوق ثلاث في منى فأرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كلوا وتزودوا» قلت لعطاء: قال جابر: حتى جئنا المدينة: قال؟ نعم.
وفي لفظ لمسلم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كنا لا نمسك لحوم الأضاحي، فوق ثلاث، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتزود منها، ونأكل يعني: فوق ثلاث، وفي لفظ له عنه: كنا نتزودها إلى المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي لفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أهل المدينة لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاث» وقال ابن المثنى: ثلاثة أيام، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم عيالاً وَحَشَماً وخدماً فقال: «كلوا وأطعموا واحبسوا وادخروا» قال ابن المثنى: شك عبد الأعلى.
وفي لفظ لمسلم، عن ثوبان رضي الله عنه قال: «ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحية ثم قال: يا ثوبان أصلح لهم هذه، فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة».
وفي بعض ألفاظ حديث ثوبان، هذا عند مسلم أن ذلك في حجة الوداع.
وفي لفظ لمسلم، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فامسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النَّبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً» اهـ منه.
فكل هذه الألفاظ الثابتة بالأسانيد الصحيحة في مسلم وبعضها في البخاري فيها الدلالة الصحيحة الصريحة: أن تحريم الادخار، والأكل من لحوم الأضاحي، فوق ثلاث: أنه منسوخ، وأن ذلك جائز مطلقاً، وفي بعض الروايات: تعليل ذلك النهي الموقت بمجيء بعض الفقراء من البادية، وهم المعبر عنهم في الحديث بالدافة.
قال ابن الأثير في النهاية: الدافة القوم يسيرون جماعة سيراً ليس بالشديد. يقال لهم يدفون دفيفاً، والدافة قوم من الأعراب يردون المصر يريد أنهم قدموا المدينة عند الأضحى، فنهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي، ليفرقوها ويتصدقوا بها، فينتفع أولئك القادمون بها. انتهى من النهاية.
تنبيه
في هذا الحديث دليل لمن قال من أهل الأصول: باشتراط انعكاس العلة في صحتها، لأن علة تحريم ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث: هي وجود دافة فقراء البادية، الذين دفوا عليهم. ولما زالت هذه العلة زال الحكم معها، ودوران الحكم مع علته في العدم، هو المعروف في الاصطلاح بانعكاسها. والمقرر في الأصول: أن محل القدح في العلة بعدم انعكاسها فيما إذا كانت علة الحكم واحدة، لا إن كانت له علل متعددة، فلا يقدح في واحدة منها بعدم العكس، لأنه إذا انعدمت واحدة منها ثبت الحكم بالعلة الأخرى، كالبول، والغائط، لنقض الوضوء مثلاً. فإن البول يكون معدوماً وعلة النقض ثابتة بخروج الغائط، وهكذا. وكذلك مع كونها علة واحدة لا بد أيضاً في القدح فيها، بعدم العكس من عدم ورود دليل ببقاء الحكم مع ذهاب العلة، فإن دل دليل على بقاء الحكم، مع انتفاء العلة، فلا يقدح فيها بعدم العكس، كالرمي في الأشواط الأول، من الطواف، فإن علته هي أن يعلم المشركون: أن الصحابة أقوياء ولم تضعفهم حمى يثرب. وهذه العلة قد زالت مع أن حكمها وهو الرمل في الأشواط المذكورة باق لوجود الدليل على بقائه، لأنه صلى الله عليه وسلم رمى في حجة الوداع، والعلة المذكورة معدومة قطعاً زمن حجة الوداع كما قدمنا إيضاحه، وإلى هذه المسألة أشار صاحب مراقي السعود في مبحث القوادح بقوله: وعدم العكس مع اتحاد يقدح دون النص بالتمادي

الفرع العاشر: أظهر قولي أهل العلم عندي: هو نسخ الأمر بالفرع والعتيرة. ونقل النووي في شرحه لمسلم، عن عياض: أن جماهير العلماء على نسخ الأمر بالفرع، والعتيرة. وذكر النووي أيضاً في شرحه لمسلم: أن الصحيح عند علماء الشافعية: استحباب الفرع والعتيرة قال: وهو نص الشافعي.
والدليل عندنا على أن الأظهر هو نسخهما: هو ثبوت ما يدل على ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه:
حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب قال يحيى: أخبرنا. وقال الآخرون: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ح وحدثني محمد بن رافع وعبد بن حميد قال عبد: أخبرنا. وقال ابن رافع: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا فَرَعَ ولا عتيرة» زاد ابن رافع في روايته: والفرع: أول النتاج، كان ينتج لهم فيذبحونه اهـ من صحيح مسلم. وهذا الإسناد في غاية الصحة من طريقيه كما ترى. وفيه: تصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم، بأنه لا فرع. والعتيرة والفرع بالفاء والراء المفتوحتين بعدهما عين مهملة، جاء تفسيره، عن ابن رافع كما ذكره عنه مسلم فيما رأيت. وقال النووي: قال الشافعي، وأصحابه وآخرون: الفرع: هو أول نتاج البهيمة، كانوا يذبحونه، ولا يملكونه رجاء البركة في الأم، وكثرة نسلها، وهكذا فسره كثيرون من أهل اللغة وغيرهم، وقال كثيرون منهم: هو أول النتاج كانوا يذبحونه لآلهتهم: وهي طواغيتهم. وكذا جاء في هذا التفسير في صحيح البخاري، وسنن أبي داود وقيل: هو أول النتاج لمن بلغت إبله مائة يذبحونه. وقال شمر: قال أبو مالك: كان الرجل إذا بلغت إبله مائة قدم بكراً فنحره لصنمه، ويسمونه الفرع. اهـ محل الغرض منه.
وأما العتيرة بعين مهملة مفتوحة، ثم تاء مثناة من فوق فهي: ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الأول من رجب، ويسمونها الرجبية أيضاً، وحديث مسلم هذا الذي ذكرنا صريح في نسخ الأمر بها، لأن قوله «لا فرع ولا عتيرة» نفي: أريد به النهي فيما يظهر كقوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ} أي لا ترفثوا ولا تفسقوا، وعليه فيكون المعنى: لا تعملوا عمل الجاهلية في ذبح الفرع والعتيرة، ولو قدرنا أن الصيغة نافية، فالظاهر أن المعنى: لا فرع ولا عتيرة مطلوبان شرعاً، ونسخهما هو الأظهر عندنا للحديث الصحيح كما رأيت. ومن زعم بقاء مشروعيتهما، واستحبابهما فقد استدل ببعض الأحاديث، على ذلك، وسنذكر حاصلها بواسط نقل النووي لأنه جمعها في محل واحد، فقال منها: حديث نبيشة رضي الله عنه قال: نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب، فقال: «اذبحوا لله في أي شهر كان وبروا لله وأطعموا» قال: إنا كنا نفرع فرعاً في الجاهلية، فما تأمرنا؟ فقال: «في كل سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمه» رواه أبو داود، وغيره بأسانيد صحيحة. وقال ابن المنذر: هو حديث صحيح. قال أبو قلابة، أحد رواة هذا الحديث: السائمة مائة. ورواه البيهقي بإسناده الصحيح، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرعة من كل خمسين واحدة. وفي رواية: من كل خمسين شاة شاة. قال ابن المنذر: حديث عائشة صحيح، وفي سنن أبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال الراوي: أراه عن جده. قال سئل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الفرع فقال: «الفرع حق وأن تتركوه حتى يكون بكراً شُغْزُبًّا ابن مخاض أو ابن لبون فتعطيه أرملة أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبره وتكفأ إناؤك وتوله ناقتك» قال أبو عبيد في تفسير هذا الحديث: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «الفرع حق» ولكنهم كانوا يذبحونه حين يولد ولا شبع فيه، ولذا قال تذبحه، فيلزق لحمه بوبره، وفيه أن ذهاب ولدها يدفع لبنها، ولهذا قال «خير من أن تكفأ» يعني: أنك إذا فعلت ذلك، فكأنك كفأت إناءك وأرقته.
وأشار به إلى ذهاب اللبن، وفيه: أنه يفجعها بولدها ولهذا قال: وتوله ناقتك فأشار بتركه، حتى يكون ابن مخاض، وهو ابن سنة، ثم يذهب وقد طاب لحمه واستمتع بلبن أمه، ولا تشق عليها مفارقته لأنه استغنى عنها. هذا كلام أبي عبيد. وروى البيهقي بإسناده عن الحارث بن عمر قال: أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، أو قال: بمنى، وسأله رجل عن العتيرة؟ فقال: «من شاء عتر ومن شاء لم يعتر ومن شاء فرع ومن شاء لم يفرع» وعن أبي رزين قال: يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنا كنا نذبح في الجاهلية ذبائح في رجب، فنأكل منها، ونطعم من جاءنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بذلك» وعن أبي رملة، عن مخنف بن سليم قال: كنا وقوفاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات فسمعته يقول: «يا أيها الناس إن على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعتيرة هل تدري ما العتيرة؟ هي: التي تسمى الرجبية» ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن. وقال الخطابي: هذا الحديث ضعيف المخرج، لأن أبا رملة مجهول، هذا مختصر ما جاء من الأحاديث في الفرع والعتيرة اهـ كلام النووي.
وقد قدمنا الكلام مستوفى على حديث مخنف بن سليم المقتضي: أن على كل أهل بيت في كل عام: أضحية وعتيرة، وقد علمت حجج الفريقين في الفرع والعتيرة.
وقد قدمنا أن الأظهر عندنا فيهما: النسخ ويترجح ذلك بأمور:
منها: أن حديث مسلم المصرح بذلك أصح من جميع الأحاديث المذكورة في الباب.
ومنها: أن أكثر أهل العلم على النسخ في ذلك، كما ذكره النووي عن عياض.
ومنها: أن ذلك كان من فعل الجاهلية، وكانوا يتقربون بهما لطواغيتهما، وللمخالف أن يقول في هذا الأخير: إن المسلمين يتقربون بهما لله ويتصدقون بلحومهما. ولم نستقص أقوال أهل العلم في المسألة لقصد الاختصار، لطول الكلام في موضوع آيات الحج هذه.
الفرع الحادي عشر: اعلم: أن المعيبة لا تجوز التضحية بها، ولا تجزىء. والأصل في ذلك ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والبيهقي، والحاكم عن البراء بن عازب رضي الله عنه، وصححه الترمذي. وقال النووي: في حديث البراء: صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم، بأسانيد حسنة قال أحمد بن حنبل: ما أحسنه من حديث. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع لا تجزىء في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والعجفاء التي لا تنقى» وفي رواية «والكسير التي لا تنقى» والتي لا تنقى هي التي لا مخ فيها لأن النقى بكسر النون المشددة، وسكون القاف المخ. فقول العرب: أنقت تنقى إنقاء: إذا كان لها مخ ومنه قول كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه: يبيت الندى يا أم عمرو ضجيعه إذا لم يكن في المنقيات حلوب

وقول الآخر: ولا يسرق الكلب السرو نعالنا ولا ينتقي المخ الذي في الجماجم

وقال ابن الأثير في النهاية: الكسير: التي لا تنقى، أي التي لا مخ فيها لضعفها وهزالها. وقوله في الحديث: البين ضلعها: أي عرجها كما هو واضح، والضلع بفتح الضاد، واللام، وقد جاء في الحديث عن علي رضي الله عنه قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء» قال المجد في المنتقى: ورواه الخمسة، وصححه الترمذي. ومراده بالخمسة الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة،
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: في حديث علي المذكور: أخرجه أيضاً البزار وابن حبان والحاكم والبيهقي. وأعله الدارقطني، والمقابلة والمدابرة: كلتاهما بفتح الباء بصيغة اسم المفعول، والمقابلة: هي التي قطع شيء من مقدم أذنها ولم ينفصل، بل بقي لاصقاً بالأذن متدلياً، والمدابرة: هي التي قطع شيء من مؤخر أذنها على نحو ما ذكرنا فيما قبلها، والخرقاء: التي في أذنها خرق مستدير، والشرقاء: مشقوق الأذن اهـ. وضابط ما يمنع الإجزاء هو ما ينقص اللحم. وقال النووي في شرح المهذب: أجمعوا على أن العمياء لا تجزىء، وكذلك العوراء البيِّن عورها، والعرجاء البيِّن عرجها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء.
واختلفوا في ذاهبة القرن ومكسورته فمذهبنا: أنها تجزىء. قال مالك: إن كانت مكسورة القرن، وهو يدمى لم تجزه، وإلا فتجزئه. وقال أحمد: إن ذهب أكثر من نصف قرنها لم تجزه، سواء دميت أم لا، وإن كان دون النصف أجزأته. وأما مقطوعة الأذن، فمذهبنا: أنها لا تجزىء، سواء قطع كلها أو بعضها. وبه قال مالك، وداود وقال أحمد: إن قطع أكثر من النصف لم تجزه، وإلا فتجزئه. وقال أبو حنيفة: إن قطع أكثر من الثلث لم تجزه وقال أبو يوسف، ومحمد: إن بقي أكثر من نصف أذنها: أجزأت، وأما مقطوعة بعض الألية: فلا تجزىء عندنا، وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة في رواية: إن بقي الثلث أجزأت، وفي رواية: إن بقي أكثرها أجزأت وقال داود: تجزىء بكل حال. انتهى محل الغرض من كلام النووي. ومعلوم أن هناك روايات أخر لم يذكرها عن الأئمة الذين نقل عنهم ولم نستقص هنا أقوال أهل العلم، لأن باب الأضحية جاء في هذا الكتاب استطراداً، مع أن الكلام في آيات الحج طال كثيراً، ولذلك اكتفينا هنا بهذه الجمل التي ذكرنا من أحكام الأضاحي.
مسألة
اعلم أنه لما كانت العمرة قرينة الحج في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وقوله: {فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ} وقوله: {فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ} أردنا أن نذكر هنا حكم العمرة على سبيل الاختصار استطراداً والعمرة في اللغة الزيارة ومنه قول الراجز: لقد سما ابن معمر حين اعتمر مغزى بعيداً من بعيد وخبر

وهي في الشرع: زيارة بيت الله للنسك المعروف المتركب من إحرام، وطواف وسعي وحلق أو تقصير.
واعلم: أن العلماء أجمعوا على أن من أحرم بالعمرة، وجب عليه إتمامها، ولا يجوز له قطعها وعدم إتمامها، لقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ}.
أما حكم استئناف فعلها فقد اختلف فيه أهل العلم، فذهب بعضهم: إلى أنها واجبة في العمر كالحج، وذهب بعضهم: إلى أنها غير واجبة أصلاً، ولكنها سنة في العمر مرة واحدة، وممن قال: بأنها فرض في العمر مرة: الشافعي في الصحيح من مذهبه. قال النووي: وبه قال عمر وابن عباس، وابن عمر وجابر وطاوس، وعطاء، وابن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وابن سيرين، والشعبي، ومسروق، وأبو بردة بن أبي موسى الحضرمي، وعبد الله بن شداد، والثوري، وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وداود.
وممن قال: بأنها سنة في العمر ليست بواجبة: مالك وأصحابه، وأبو حنيفة، وأبو ثور، وحكاه ابن المنذر وغيره، عن النخعي قاله النووي. وقال ابن قدامة في المغني: وتجب العمرة على من يجب عليه الحج في إحدى الروايتين. وروي ذلك عن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت، وابن عمر وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس ومجاهد والحسن، وابن سيرين، والشعبي. وبه قال الثوري، وإسحاق، والشافعي في أحد قوليه. والرواية الثانية ليست بواجبة، وروي ذلك عن ابن مسعود وبه قال مالك، وأبو ثور، وأصحاب الرأي اهـ. محل الغرض منه.
وإذا علمت أقوال العلماء في العمرة: هل هي فرض في العمر، أو سنة؟ فدونك أدلتهم، ومناقشتها باختصار مع بيان ما يظهر رجحانه منها.
أما الذين قالوا: العمرة فرض في العمر، فقد احتجوا بأحاديث:
منها: حديث أبي رزين العقيلي، وقد قدمنا الكلام عليه مستوفى وهو أنه «أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحج، ولا العمرة ولا الظعن، فقال: حج عن أبيك واعتمر» رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي ومحل الدليل منه قوله: واعتمر، لأنه صيغة أمر بالعمرة، مقرونة بالأمر بالحج، فأفادت صيغة الأمر الوجوب كما أوضحنا توجيه ذلك مراراً في هذا الكتاب المبارك، وذكر غير واحد عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثاً أجود من هذا ولا أصح.
ومن أدلتهم على وجوبها قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ} بناء على أن المراد بإتمامها في الآية ابتداء فعلها على الوجه الأكمل، لا إتمامها بعد الشروع، وقد قدمنا الكلام في الآية بما أغنى عن إعادته هنا.
وأن الظاهر أن المتبادر منها: وجوب الإتمام بعد الشروع من غير تعرض إلى حكم ابتداء فعلها.
ومن أدلتهم على وجوبها: ما رواه الدارقطني من حديث زيد بن ثابت «الحج والعمرة فريضتان لا يضرك أيهما بدأت» اهـ.
ومن أدلتهم على وجوب العمرة: ما جاء في بعض روايات حديث في سؤال جبريل: «وأن تحج وتعتمر» أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، وغيرهم. ورواه المجد في المنتقى بلفظ فقال: «يا محمد ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إلٰه إلا الله وأن محمداً رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتم الوضوء وتصوم رمضان» الحديث. وأنه قال: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» ثم قال المجد: رواه الدارقطني وقال: هذا إسناد ثابت صحيح. ورواه أبو بكر الجوزقي في كتابه المخرج على الصحيحين.
ومن أدلتهم على وجوبها: ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هل على النساء من جهاد؟ قال: «نعم عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة» اهـ قال المجد في المنتقى: رواه أحمد وابن ماجه، وإسناده صحيح، ومن أجوبة المخالفين عن هذه الأدلة الدالة على وجوب العمرة أن الحديث الذي قال أحمد: لا أعلم حديثاً أجود في إيجاب العمرة منه، وهو حديث أبي رزين العقيلي، الذي فيه: «حج عن أبيك واعتمر» أن صيغة الأمر في قوله: واعتمر واردة بعد سؤال أبي رزين، وقد قرر جماعة من أهل الأصول أن صيغة الأمر الواردة بعد المنع أو السؤال: إنما تقتضي الجواز لا الوجوب، لأن وقوعها في جواب السؤال، عن الجواز دليل صارف عن الوجوب، إلى الجواز والخلاف في هذه المسألة معروف.
وقد قدمنا الكلام عليه في آيات الحج هذه وأجابوا عن آية {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ} بأن المراد بها: الإتمام بعد الشروع كما تقدم إيضاحه، وأجابوا عن حديث «الحج والعمرة فريضتان» الحديث. بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف لا يحتج به. وقال ابن حجر في التلخيص: ثم هو عن ابن سيرين، عن زيد وهو منقطع ورواه البيهقي موقوفاً، على زيد من طريق ابن سيرين، وإسناده أصح وصححه الحاكم، ورواه ابن عدي والبيهقي من حديث ابن لهيعة،
عن عطاء، عن جابر وابن لهيعة ضعيف. وقال ابن عدي: هو غير محفوظ، عن عطاء انتهى محل الغرض منه وبه تعلم أن حديث زيد بن ثابت المذكور: ليس بصالح للاحتجاج، وأجابوا عما جاء في حديث جبريل، عن عمر مرفوعاً بلفظ «وأن تحج وتعتمر» بجوابين.
أحدهما: أن الروايات الثابتة في صحيح مسلم، وغيره وليس فيها ذكر العمرة وهي أصح، وقد يجاب عن هذا بأن زيادة العدول مقبولة.
والجواب الثاني: هو ما ذكر الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار في شرحه للحديث المذكور، ونص كلامه.
فإن قيل: إن وقوع العمرة في جواب من سأل عن الإسلام: يدل على الوجوب فيقال: ليس كل أمر من الإسلام واجباً. والدليل على ذلك: حديث شعب الإسلام، والإيمان، فإنه اشتمل على أمور ليست بواجبة بالإجماع اهـ منه وله وجه من النظر.
وأجابوا عن حديث عائشة: بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة» بأن لفظة: عليهن: ليست صريحة في الوجوب، فقد تطلق على ما هو سنة مؤكدة، وإذا كان محتملاً لإرادة الوجوب والسنة المؤكدة، لزم طلب الدليل بأمر خارج وقد دل دليل خارج على وجوب الحج، ولم يدل دليل خارج، يجب الرجوع إليه على وجوب العمرة.
هذا هو حاصل أدلة القائلين بوجوب العمرة مرة في العمر ومناقشة مخالفيهم لهم.
أما القائلون: بأن العمرة سنة لا فرض، فقد احتجوا أيضاً بأدلة:
منها: ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه، والبيهقي، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد، عن جابر رضي الله عنه: أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة، أواجبة هي؟ فقال: «لا وأن تعتمر خير لك» وفي رواية: «أولى لك» وقال صاحب نيل الأوطار: وقد رواه البيهقي من حديث سعيد بن عفير عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله، عن جابر بنحوه، ورواه ابن جريج، عن ابن المنكدر، عن جابر وقال ابن حجر في التلخيص، وفي الباب عن أبي صالح، عن أبي هريرة رواه الدارقطني، وابن حزم والبيهقي وإسناده ضعيف. وأبو صالح: ليس هو ذكوان السمان، بل هو: أبو صالح ماهان الحنفي، كذلك رواه الشافعي، عن سعيد بن سالم عن الثوري، عن معاوية بن إسحاق، عن أبي صالح الحنفي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحج جهاد والعمرة تطوع» ورواه ابن ماجه من حديث طلحة، وإسناده ضعيف. والبيهقي من حديث ابن عباس ولا يصح من ذلك شيء.
واستدل بعضهم بما رواه الطبراني من طريق يحيى بن الحارث عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعاً: «من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة، ومن مشى إلى صلاة تطوع فأجره كعمرة».
هذا هو حاصل أدلة من قالوا: بأن العمرة غير واجبة.
وأجاب مخالفوهم عن أدلتهم، قالوا: أما حديث سؤال الأعرابي النَّبي صلى الله عليه وسلم عن وجوب العمرة، وأنه أجابه: بأنها غير واجبة، وأنه إن اعتمر تطوعاً، فهو خير له بأنه حديث ضعيف، وتصحيح الترمذي له مردود، ووجه ذلك أن في إسناده: الحجاج بن أرطاة، وأكثر أهل الحديث على تضعيف الحجاج المذكور كما قدمناه مراراً، وقال ابن حجر في التلخيص: وفي تصحيحه نظر كثير من أجل الحجاج، فإن الأكثر على تضعيفه، والاتفاق على أنه مدلس، وقال النووي: ينبغي ألا يغتر بكلام الترمذي في تصحيحه، فإنه اتفق الحفاظ على تضعيفه وقد نقل الترمذي، عن الشافعي أنه قال: ليس في العمرة شيء ثابت: أنها تطوع. وأفرط ابن حزم فقال: إنه مكذوب باطل. اهـ محل الغرض من كلام ابن حجر. ثم قال بعد هذا في الحديث المذكور: أنه موقوف على جابر، وقال كذلك: رواه ابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر اهـ منه.
هذا هو حاصل حجج من قالوا: إن العمرة سنة لا واجبة.
وقال الشوكاني: في نيل الأوطار، بعد أن ساق الأحاديث، التي ذكرنا في عدم وجوب العمرة ما نصه: قال الحافظ: ولا يصح من ذلك شيء، وبهذا تعرف أن الحديث من قسم الحسن لغيره، وهو محتج به عند الجمهور، ويؤيده ما عند الطبراني: عن أبي أمامة مرفوعاً «من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة، ومن مشى إلى صلاة غير مكتوبة، فأجره كعمرة» إلى أن قال والحق عدم وجوب العمرة، لأن البراءة الأصلية، لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف، ولا دليل يصلح لذلك، لا سيما مع اعتضاده بما تقدم من الأحاديث القاضية: بعدم الوجوب، ويؤيد ذلك اقتصاره صلى الله عليه وسلم على الحج في حديث «بني الإسلام على خمس» واقتصار الله جل جلاله على الحج في قوله: {وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ} انتهى محل الغرض منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أن ما احتج به كل واحد من الفريقين، لا يقل عن درجة الحسن لغيره، فيجب الترجيح بينهما، وقد رأيت الشوكاني: رجح عدم الوجوب بموافقته للبراءة الأصلية، والذي يظهر بمقتضى الصناعة الأصولية: ترجيح أدلة الوجوب، على أدلة عدم الوجوب وذلك من ثلاثة أوجه:
الأول: أن أكثر أهل الأصول يرجحون الخبر الناقل عن الأصل: على الخبر المبقي على البراءة الأصلية، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار المدلول:
وناقل ومثبت والآمر بعد النواهي ثم هذا الآخر

على إباحة ... الخ.
لأن معنى قوله: وناقل أن الخبر الناقل عن البراءة الأصلية مقدم على الخبر المبقي عليها. وعزاه في شرحه المسمى: نشر البنود للجمهور، وهو المشهور عند أهل الأصول.
الثاني: أن جماعة من أهل الأصول: رجحوا الخبر الدال على الوجوب، على الخبر الدال على عدمه. ووجه ذلك: هو الاحتياط في الخروج من عهدة الطلب، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود المذكور آنفاً:
* ثم هذا الآخر .... على إباحة * الخ لأن مراده بالآخر المقدم على الإباحة: هو الخبر الدال على الأمر، فالأول الدال على النهي، لأن درأ المفاسد، مقدم على جلب المصالح، ثم الدال على الأمر للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب، ثم الدال على الإباحة ويشمل غير الواجب، فيدخل فيه المسنون والمندوب، لاشتراك الجميع في عدم العقاب على ترك الفعل.
الثالث: أنك إن عملت بقول من أوجبها فأديتها على سبيل الوجوب برئت ذمتك بإجماع أهل العلم من المطالبة بها، ولو مشيت على أنها غير واجبة فلم تؤدها على سبيل الوجوب بقيت مطالباً بواجب على قول جمع كثير من العلماء. والنَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ويقول: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» وهذا المرجح راجع في الحقيقة لما قبله، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أن جميع السنة وقت للعمرة إلا أيام التشريق. فلا تنبغي العمرة فيها حتى تغرب شمس اليوم الرابع عشر، على ما قاله جمع من أهل العلم.
الفرع الثاني: اعلم أنه قد صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أن عمرة في رمضان، تعدل حجة. وفي بعض روايات الحديث في الصحيح «حجة معي».
الفرع الثالث: اعلم: أن التحقيق أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب بعد الهجرة قطعاً، وأنه لم يعتمر بعد الهجرة، إلا أربع عمر. الأولى: عمرة الحديبية في ذي القعدة، من عام ست، وصده المشركون، وأحل ونحر من غير طواف ولا سعي، كما هو معلوم.
الثانية: عمرة القضاء في ذي القعدة، عام سبع: وهي التي وقع عليها صلح الحديبية.
وقد قدمنا في سورة البقرة وجه تسميتها عمرة القضاء وأوضحناه. الثالثة: عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان، بعد فتح مكة في رمضان عام ثمان. الرابعة: العمرة التي قرنها، مع حجة الوداع. هذا هو التحقيق.
وقد قدمنا الإشارة إليه ولنكتف هنا بما ذكرنا من أحكام العمرة، لأن غالب أحكامها ذكرناه في أثناء كلامنا على مسائل الحج. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} صيغة الأمر في هذه الآية الكريمة: تدل على وجوب الإيفاء بالنذر، كما قدمنا مراراً أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب، على الأصح، إلا لدليل صارف عنه.
ومما يدل من القرآن على لزوم الإيفاء بالنذر: أنه تعالى أشار إلى أنه هو، والخوف من أهوال يوم القيامة، من أسباب الشرب من الكأس الممزوجة بالكافور في قوله تعالى: {إِنَّ ٱلاٌّبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَـٰفُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِير} ثم أشار إلى بعض أسباب ذلك فقال: {يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَـٰفُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِير} فالوفاء بالنذر ممدوح على كل حال، وإن كانت آية الإنسان ليست صريحة في وجوبه، وكذلك قوله في سورة البقرة: {وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُهُ}. وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان بالقرآن، إن لم يكن واقياً بالمقصود أتممناه بالبيان بالسنة. ولذلك سنبين هنا ما تقتضيه السنة من النذر الذي يجب الإيفاء به، والذي لا يجب الإيفاء به.
اعلم أولاً: أن الأمر المنذور له في الجملة حالتان:
الأولى: أن يكون فيه طاعة لله.
والثانية: ألا يكون فيه طاعة لله، وهذا الأخير منقسم إلى قسمين:
أحدهما: ما هو معصية لله.
والثاني: ما ليس فيه معصية في ذاته، ولكنه ليس من جنس الطاعة كالمباح الذي لم يؤمر به.
والذي يجب اعتماده بالدليل في الأقسام الثلاثة المذكورة: أن المنذور إن كان طاعة لله، وجب الإيفاء به، سواء كان في ندب كالذي ينذر صدقة بدراهم على الفقراء، أو ينذر ذبح هدي تطوعاً أو صوم أيام تطوعاً، ونحو ذلك. فإن هذا ونحوه، يجب بالنذر، ويلزم الوفاء به. وكذلك الواجب إن تعلق النذر بوصف، كالذي ينذر أن يؤدي الصلاة في أول وقتها، فإنه يجب عليه الإيفاء بذلك.
أما لو نذر الواجب كالصلوات الخمس، وصوم رمضان، فلا أثر لنذره، لأن إيجاب الله لذلك أعظم من إيجابه بالنذر، وإن كان المنذور معصية لله: فلا يجوز الوفاء به، وإن كان جائزاً لا نهي فيه، ولا أمر فلا يلزم الوفاء به.
أما الدليل على وجوب الإيفاء في نذر الطاعة وعلى منعه في نذر المعصية فهو: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه ذلك.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مالك، عن طلحة بن عبد الملك، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» اهـ. وهو ظاهر في وجوب الإيفاء بنذر الطاعة، ومنع الإيفاء بنذر المعصية.
وقال البخاري أيضاً: حدثنا أبو عاصم، عن مالك، عن طلحة بن عبد الملك، إلى آخر الإسناد والمتن المذكورين آنفاً.
وإذا علمت أن هذا الحديث الصحيح، قد دل على لزوم الإيفاء بنذر الطاعة، ومنعه في نذر المعصية.
فاعلم: أن الدليل على عدم الإيفاء بنذر الأمر الجائز:
هو أنه ثبت أيضاً عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا أيوب، عن عكرمة عن ابن عباس قال: «بينا النَّبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: مره فليتكلم، وليستظل وليقعد، وليتم صومه» اهـ محل الغرض من صحيح البخاري. وفيه التصريح بأن ما كان من نذره من جنس الطاعة، وهو الصوم أمره صلى الله عليه وسلم بإتمامه، وفاء بنذره وما كان من نذره مباحاً لا طاعة، كترك الكلام، وترك القعود، وترك الاستظلال، أمره بعدم الوفاء به، وهو صريح في أنه لا يجب الوفاء به.
واعلم أنا لم نذكر أقوال أهل العلم هنا للاختصار، ولوجود الدليل الصحيح من السنة على ما ذكرنا.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أنه لا نذر لشخص في التقرب بشيء لا يملكه، وقد ثبت ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدثني زهير بن حرب، وعلي بن حجر السعدي واللفظ لزهير قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث بطوله.
وفيه ما نصه: وأسرت امرأة من الأنصار، وأصيبت العضباء فكانت المرأة في الوثاق، وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء، فلم ترغ قال: وناقة منوقة فقعدت في عجزها، ثم زجرتها فانطلقت ونذروا بها فطلبوها، فأعجزتهم قال: ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها. فلما قدمت المدينة، رآها الناس فقالوا: العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال: «سبحان الله بئسما جزتها نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد» الحديث. ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا فيما لا يملك العبد» وهذا نص صحيح صريح فيما ذكرنا، ويؤيده حديث ثابت بن الضحاك: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا وفاء لنذر في معصية الله ولا في قطيعة رحم ولا فيما لا يملك ابن آدم» اهـ.
قال الحافظ في بلوغ المرام: رواه أبو داود والطبراني، واللفظ له، وهو صحيح الإسناد، وله شاهد من حديث كردم عند أحمد.
الفرع الثاني: اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن نذر نذراً لا يلزم الوفاء به هل تلزمه كفارة يمين، أو لا يلزمه شيء؟ وحجة من قال: لا يلزمه شيء: هو حديث نذر أبي إسرائيل، أنه لا يقعد ولا يتكلم، ولا يستظل، وقد أمره النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المذكور آنفاً: أنه لا يفي بهذا النذر، ولم يقل له إن عليه كفارة يمين. وقد قدمنا هذا في سورة مريم موضحاً. وقد قدمنا أن القرطبي قال في قصة أبي إسرائيل: هذه أوضح الحجج للجمهور في عدم وجوب الكفارة، على من نذر معصية، أم ما لا طاعة فيه. فقد قال مالك: لما ذكره ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره بالكفارة، وأما الذين قالوا: إن النذر الذي لا يجب الوفاء به تجب فيه كفارة يمين فقد احتجوا بما رواه مسلم، في صحيحه: وحدثني هارون بن سعيد الأيلي، ويونس بن عبد الأعلى، وأحمد بن عيسى، قال يونس: أخبرنا وقال الآخران: حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كفارة النذر كفارة اليمين» اهـ، وظاهره شموله للنذر الذي لا يجب الوفاء به.
وقال النووي في شرح مسلم: اختلف العلماء في المراد به، فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج، وهو أن يقول إنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلاً: إن كلمت زيداً مثلاً، فلله علي حجة، أو غيرها، فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين، وبين ما التزمه. هذا هو الصحيح في مذهبنا، وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله: علي نذر، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية، كمن نذر أن يشرب الخمر وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث، على جميع أنواع النذر، وقالوا: هو مخير في جميع المنذورات بين الوفاء بما التزم، وبين كفارة يمين والله أعلم اهـ كلام النووي.
ولا يخفى بعد القول الأخير لقوله تعالى: {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} فهو أمر جازم مانع للتخيير بين الإيفاء به، وبين شيء آخر.
والأظهر عندي في معنى الحديث: أن من نذر نذراً مطلقاً كأن يقول: علي لله نذر أنه تلزمه كفارة يمين، لما رواه ابن ماجه، والترمذي وصححه، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين» وروي نحوه أبو داود، وابن ماجه، عن ابن عباس، وفي الحديثين بيان المراد بحديث مسلم، بأن المراد به: النذر المطلق الذي لم يسم صاحبه ما نذره، بل أطلقه والبيان يجوز بكل ما يزيد الإيهام، كما قدمناه مراراً، والمطلق يحمل على المقيد.
ومما يؤيد القول بلزوم الكفارة في نذر اللجاج: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما حرم شرب العسل على نفسه في قصة ممالأة أزواجه عليه. وأنزل الله في ذلك: {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ} قال الله بعد ذلك: {قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـٰنِكُمْ} فدل ذلك على لزوم كفارة اليمين، وكذلك قال ابن عباس وغيره: بلزوم كفارة اليمين، على القول بأنه حرم جاريته، والأقوال فيمن حرم زوجته، أو جاريته، أو شيئاً من الحلال معروفة عند أهل العلم. فغير لزوجة والأمة لا يحرم بالتحريم قولاً واحداً والخلاف في لزوم كفارة اليمين، وعدم لزومها، وظاهر الآية لزومها، وبعض العلماء يقول: لا يلزم فيه شيء وهو مذهب مالك وأصحابه، أما تحريم الرجل امرأته أو جاريته، ففيه لأهل العلم ما يزيد على ثلاثة عشر مذهباً معروفة في محلها، وأجراها على القياس في تحريم الزوجة لزوم كفارة الظهار، لأن من قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فهو بمثابة ما لو قال لها: أنت حرام، والظهار نص الله في كتابه، على أن فيه كفارته المنصوصة في سورة المجادلة.
أما نذر اللجاج فقد قدمنا القول، بأن فيه كفارة يمين، والمراد بنذر اللجاج النذر الذي يراد به الامتناع من أمر لا التقرب إلى الله.
قال ابن قدامة في المغني: وجملته أنه إذا أخرج النذر مخرج اليمين، بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئاً، أو يحث به على شيء مثل أن يقول: إن كلمت زيداً، فلله علي الحج أو صدقة مالي أو صوم سنة، فهذا يمين، حكمه أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه، فلا يلزمه شيء، وبين أن يحنث فيتخير بين فعل المنذور وبين كفارة يمين، ويسمى نذر اللجاج، والغضب، ولا يتعين الوفاء به، ثم قال: وهذا قول عمر وابن عباس، وابن عمر، وعائشة وحفصة، وزينب بنت أبي سلمة، وبه قال عطاء، وطاوس وعكرمة، والقاسم والحسن، وجابر بن زيد، والنخعي، وقتادة وعبد الله بن شريك، والشافعي، والعنبري وإسحاق وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، وقال سعيد بن المسيب: لا شيء في الحلف بالحج، وعن الشعبي، والحارث العكلي وحماد والحكم: لا شيء في الحلف بصدقة ماله، لأن الكفارة إنما تلزم بالحلف بالله لحرمة الاسم، وهذا ما حلف باسم الله ولا يجب ما سماه، لأنه لم يخرجه مخرج القربة، وإنما التزمه على طريق العقوبة، فلم يلزمه. وقال أبو حنيفة ومالك: يلزمه الوفاء بنذره، لأنه نذر فيلزم الوفاء به كنذر البر. وروي نحو ذلك عن الشعبي.
ولنا ما روى عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين» رواه سعيد بن منصور والجوزجاني في المترجم، وعن عائشة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف بالمشي والهدي، أو جعل ماله في سبيل الله أو في المساكين أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة يمين» إلى أن قال: وعن أحمد رواية ثانية: أنه تتعين الكفارة، ولا يجزئه الوفاء بنذره. وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه يمين اهـ محل الغرض من المغني، وروى أبو داود، عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني القسمة، فكل مالي في رتاج الكعبة، فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم وفيما لا تملك» اهـ رواه أبو داود وسعيد بن المسيب: لم يصح سماعه من عمر. قاله بعضهم: وعليه فهو من مراسيل سعيد، وذكر جماعة أنه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه، وعن أحمد ما يدل على سماع سعيد، من عمر وأنه قال: إن لم نقبل سعيداً، عن عمر، فمن يقبل. والظاهر سماعه من عمر كما صدر بما يدل عليه صاحب تهذيب التهذيب، وعن مالك وغيره أنه لم يدرك عمر وحديث سعيد المذكور عن عمر: إما متصل، وإما مرسل من مراسيل سعيد، وقد قدمنا كلام العلماء فيها.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: ولكن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر بن الخطاب، فهو منقطع، وروي نحوه عن عائشة: أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة إن كلم ذا قرابة. فقالت: يكفر عن اليمين. أخرجه مالك، والبيهقي بسند صحيح. وصححه ابن السكن اهـ. ولفظ مالك في الموطأ فقالت عائشة رضي الله عنها: يكفره ما يكفر اليمين، وليس في الموطأ أن فتواها هذه في نذر لجاج بل الذي فيه: أنها سئلت عن رجل قال: مالي في رتاج الكعبة. وهو بابها وهو براء مكسورة، فمثناة فوقية بعدها ألف فجيم.
وهذا الذي ذكرنا هو: حاصل حجة من قال: إن نذر اللجاج فيه كفارة يمين، وهو الأقرب عندي لما ذكرنا، خلافاً لمن قال: لا شيء فيه. وأما نذر المعصية فلا خلاف في أنه حرام، وأن الوفاء به ممنوع، وإنما الخلاف في لزوم الكفارة به فذهب جمهور أهل العلم أنه لا كفارة فيه، وعن أحمد والثوري وإسحاق، وبعض الشافعية، وبعض الحنفية: فيه الكفارة وذكر الترمذي: اختلاف الصحابة في ذلك، واحتج من قال: بأنه ليس فيه كفارة بالأحاديث الصحيحة، الواردة بأنه: لا نذر في معصية، ونفي نذر المعصية مطلقاً: يدل على نفي أثره، فإذا انتفى النذر من أصله انتفت كفارته لأن التابع ينتفي بانتفاء المتبوع. وإن قلنا: إن الصيغة في قوله: لا نذر في معصية، خبر أريد به الإنشاء وهو النهي عن نذر المعصية، فالنهي يقتضي الفساد، وإذا فسد المنذور بالنهي، بطل معه تأثيره في الكفارة. قالوا: والأصل براءة الذمة من الكفارة. قالوا: ومما يؤيد ذلك الأحاديث الواردة بأنه: لا نذر إلا فيما ابتغى به وجه الله. قال المجد في المنتقى: رواه أحمد، وأبو داود وفي لفظ عند أحمد: إنما النذر ما ابتغى به وجه الله، وهو من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده. وفي إسناده مناقشات تركناها اختصاراً، واحتج من قال: بأن في نذر المعصية كفارة ببعض الأحاديث الواردة بذلك.
منها: ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين» قال المجد في المنتقى: رواه الخمسة، واحتج به أحمد، وإسحاق. ومعلوم أن مراده بالخمسة: الإمام أحمد وأصحاب السنن، ولفظ أبي داود في هذا الحديث:
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر، ثنا عبد الله بن المبارك، عن يونس عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين».
حدثنا ابن السرح قال: ثنا وهب عن يونس، عن ابن شهاب بمعناه. وإسناده قال أبو داود: سمعت أحمد بن شَـبُّـوَيه، يقول: قال ابن المبارك: يعني في هذا الحديث: حدث أبو سلمة، فدل ذلك على أن الزهري لم يسمعه من أبي سلمة، وقال أحمد بن محمد: وتصديق ذلك: ما حدثنا أيوب يعني ابن سليمان قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أفسدوا علينا هذا الحديث، قيل له: وصح إفساده عندك، وهل رواه غير ابن أبي أويس؟ قال: أيوب كان أمثل منه، يعني: أيوب بن سليمان بن بلال، وقد رواه أيوب.
حدثنا أحمد بن محمد المروزي، ثنا أيوب بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن ابن أبي عتيق وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سليمان بن أرقم: أن يحيى بن أبي كثير أخبره، عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين» قال أحمد بن محمد المروزي: إنما الحديث حديث علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن الزبير، عن أبيه عن عمران بن حصين، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أراد أن سليمان بن أرقم وهم فيه، وحمله عنه الزهري، وأرسله عن أبي سلمة عن عائشة رحمها الله
قال أبو داود: روى بقية عن الأوزاعي، عن يحيى، عن محمد بن الزبير بإسناد علي بن المبارك مثله اهـ من سنن أبي داود بلفظه. وفيه سوء ظن كثير بالزهري، وهو أنه حذف من إسناد الحديث واسطتين: وهما سليمان بن أرقم، ويحيى بن أبي كثير، وأرسله عن أبي سلمة وكذلك قال الترمذي بعد إخراجه لحديث عائشة المذكور، لا يصح، لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة، ومما يقوي سوء الظن المذكور بالزهري: أن سليمان بن أرقم الذي حذفه من الإسناد متروك لا يحتج بحديثه، فحذف المتروك. ورواية حديثه عمن فوقه من العدول من تدليس التسوية، وهو شر أنواع التدليس وأقبحها، ولا شك أن هذا النوع من التدليس قادح فيمن تعمده. وما ذكره بعضهم: من أن الثوري والأعمش كانا يفعلان هذا النوع من التدليس مجاب عنه بأنهما لا يدلسان إلا عمن هو ثقة عندهما. وإن كان ضعيفاً عند غيرهما. ومن المستبعد أن يكون الزهري يحسن الظن بسليمان بن أرقم مع اتفاق الحفاظ على عدم الاحتجاج به.
والحاصل: أن لزوم الكفارة في نذر المعصية، جاءت فيه أحاديث متعددة، لا يخلو شيء منها من كلام. وقد يقوي بعضها بعضاً.
وقال الشوكاني: قال النووي في الروضة حديث «لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين» ضعيف باتفاق المحدثين. قال الحافظ: قلت: قد صححه الطحاوي، وأبو علي بن السكن، فأين الاتفاق انتهى منه. وقد تركنا تتبع الأحاديث الواردة فيه، ومناقشتها اختصاراً. والأحوط لزوم الكفارة، لأن الأمر مقدم على الإباحة كما تقرر في الأصول للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب. فمن أخرج كفارة عن نذر المعصية، فقد برىء من المطالبة بها باتفاق الجميع ومن لم يخرجها بقي مطالباً بها على قول أحمد، ومن ذكرنا معه.
الفرع الثالث: اعلم أن من نذر شيئاً من الطاعة لا يقدر عليه لا يلزمه الوفاء به، لعجزه عنه.
واختلف فيما يلزمه في ذلك المعجوز عنه، فلو نذر مثلاً أن يحج، أو يعتمر ماشياً على رجليه، وهو عاجز عن المشي: جاز له الركوب لعجزه عن المشي، وإن قدر على المشي: لزمه.
وفي حالة ركوبه عند العجز اختلف العلماء فيما يلزمه فقال بعضهم: لا شيء عليه، لأنه عاجز والله يقول: {لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَ} فقد عجز عما نذر ولا يلزمه شيء غير ما نذر. وقال بعضهم: تلزمه كفارة يمين. وقال بعضهم: يلزمه صوم ثلاثة أيام. وقال بعضهم: تلزمه بدنة. وقال بعضهم: يلزمه هدي.
قال ابن قدامة في المغني: وجملته أن من نذر المشي إلى بيت الله الحرام، لزمه الوفاء بنذره. وبهذا قال مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأبو عبيد، وابن المنذر، ولا نعلم فيه خلافاً، وذلك لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» ولا يجزئه المشي إلا في الحج أو العمرة. وبه يقول الشافعي. ولا أعلم فيه خلافاً، وذلك لأن المشي المعهود في الشرع: هو المشي في حج أو عمرة، فإذا أطلق الناذر حمل على المعهود الشرعي. ويلزمه المشي فيه لنذره، فإن عجزعن المشي: ركب، وعليه كفارة يمين، وعن أحمد رواية أخرى: أنه يلزمه دم، وهو قول الشافعي. وأفتى به عطاء لما روى ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت المشي إلى بيت الله الحرام، فأمرها النَّبي صلى الله عليه وسلم أن تركب، وتهدي هدياً. رواه أبو داود وفيه ضعف ولأنه أخل بواجب في الإحرام فلزمه هدي كتارك الإحرام من الميقات. وعن ابن عمر وابن الزبير قالا: يحج من قابل، بل ويركب ما مشي، ويمشي ما ركب ونحوه. قال ابن عباس وزاد فقال: ويهدي، وعن الحسن مثل الأقوال الثلاثة وعن النخعي روايتان: إحداهما: كقول ابن عمر والثانية: كقول ابن عباس، وهذا قول مالك. وقال أبو حنيفة: عليه هدي سواء عجز عن المشي، أو قدر عليه. وأقل الهدي: شاة، وقال الشافعي: لا يلزمه مع العجز كفارة بحال، إلا أن يكون النذر مشياً إلى بيت الله الحرام، فهل يلزمه هدي؟ فيه قولان. وأما غيره فلا يلزمه مع العجز شيء ا هـ محل الغرض من المغني.
وإذا علمت أقوال أهل العلم: فيما يلزم من نذر شيئاً، وعجز عنه، فهذه أدلة أقوالهم نقلناها ملخصة بواسطة نقل المجد في المنتقى، لأنه جمعها في محل واحد أما من قال: تلزمه كفارة يمين فقد احتج بما رواه أبو داود، وابن ماجه، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نذر نذراً ولم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً لم يطقه فكفارته كفارة يمين» اهـ.
قال الحافظ في بلوغ المرام: في حديث ابن عباس، هذا إسناده صحيح، إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه اهـ كما تقدمت الإشارة إليه.
ومن أدلة أهل هذا القول ما رواه كريب، عن ابن عباس قال: جاءت امرأة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال: «إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً. لتخرج راكبة ولتكفر عن يمينها» رواه أحمد، وأبو داود وقال في نيل الأوطار: في هذا الحديث سكت عنه أبو داود، والمنذري، ورجاله رجال الصحيح. والظاهر المتبادر: أن المراد بالتكفير عن اليمين: هو كفارة اليمين المعروفة، ولقد صدق الشوكاني في أن رجال حديث أبي داود المذكور رجال الصحيح، لأن أبا داود قال: حدثنا حجاج بن أبي يعقوب، ثنا أبو النضر، ثنا شريك عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن كريب عن ابن عباس إلى آخر الحديث المذكور بمتنه فطبقة إسناده الأولى حجاج بن أبي يعقوب وهو حجاج بن الشاعر الذي أكثر مسلم في صحيحه من الإخراج له، وهو ثقة حافظ وطبقته الثانية: أبو النضر وهو هاشم بن القاسم بن مسلم بن مقسم الليثي البغدادي خراساني الأصل، ولقبه قيصر، وهو ثقة ثبت، أخرج له الجميع وطبقته الثالثة هي: شريك، وهو ابن عبد الله بن أبي شريك النخعي، أبو عبد الله الكوفي القاضي. أخرج له البخاري تعليقاً، وهو من رجال مسلم وظاهر كلام ابن حجر في تهذيب التهذيب: أن مسلماً إنما أخرج له في المتابعات، وكلام أهل العلم فيه كثير بين مثن وذاكر غير ذلك، وطبقته الرابعة: محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، وهو من رجال مسلم وهو ثقة. وطبقته الخامسة: كريب بن أبي مسلم الهاشمي، مولى ابن عباس ومعلوم أنه ثقة، وأنه أخرج له الجميع.
هذا هو حاصل حجة من قال: إن على من نذر نذراً، ولم يطقه كفارة يمين، وأما الذين قالوا: عليه صيام ثلاثة أيام، فقد احتجوا بما رواه أحمد، وأصحاب السنن عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن أخته نذرت أن تمشي حافية، غير مختمرة، فسأل النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً، مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام» اهـ بواسطة نقل المجد في المنتقى. قال الشوكاني في هذا الحديث: حسنه الترمذي ولكن في إسناده عبيد الله بن زحر وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة اهـ محل الغرض منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ظاهر كلام أبي داود في عبيد الله بن زحر المذكور: أنه ثقة عنده، لأنه ذكر تزكيته عن يحيى بن سعيد الأنصاري، ولم يتعقب ذلك بشيء.
فقد قال أبو داود في هذا الحديث: حدثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد القطان قال: أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري، أخبرني عبيد الله بن زحر: أن أبا سعيد أخبره أن عبد الله بن مالك أخبره: أن عقبة بن عامر أخبره: أنه سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم، عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة، فقال: «مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام». حدثنا مخلد بن خالد، ثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج قال: كتبت إلى يحيى بن سعيد أخبرني عبيد الله بن زحر، مولى لبني ضمرة، وكان أيما رجل أن أبا سعيد الرعيني، أخبره بإسناد يحيى، ومعناه اهـ من سنن أبي داود، فكتابة يحيى بن سعيد الأنصاري إلى ابن جريج في ابن زحر المذكور. وكان أيما رجل فيه أعظم تزكية، لأن قولهم فكان أيما رجل يدل على أنه من أفاضل الرجال والتفضيل في هذا المقام، إنما هو في الثقة والعدالة، كما ترى ومن هذا القبيل قول الراعي: فأومأت إيماء خفيا لحبتر فلله عيناً حبتر أيما فتى

وقال ابن حجر في التقريب في ابن زحر المذكور: صدوق يخطىء، وكلام أئمة الحديث فيه كثير منهم المثنى ومنهم القادح.
وحجة من قال إن عليه بدنة: هي ما رواه عكرمة، عن ابن عباس: أن عقبة بن عامر سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله غني عن نذر أختك فلتركب ولتهد بدنة» رواه أحمد، وأبو داود. وقال الشوكاني في هذا الحديث: سكت عنه أبو داود والمنذري، ورجاله رجال الصحيح: قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح.
وحجة من قال: إن عليه هدياً هي: ما رواه أبو داود، حدثنا محمد بن المثنى، ثنا أبو الوليد ثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن أخت عقبة بن عامر، نذرت أن تمشي إلى البيت، فأمرها النَّبي صلى الله عليه وسلم أن تركب، وتهدي هدياً. وقال الشوكاني في هذا الحديث: سكت عنه أبو داود والمنذري، ولزوم الهدي المذكور مروي عن مالك في الموطأ وفسر الهدي: ببدنة، أو بقرة، أو شاة، إن لم تجد غيرها.
هذا هو حاصل أدلة أقوال أهل العلم: فيما يلزم من نذر شيئاً، وعجز عن فعله. والقول بالهدي والقول بالبدنة، يمكن الجمع بينهما، لأن البدنة هدي، والخاص يقضي على العام.
وقد ذكرنا كلام الناس في أسانيد الأحاديث الواردة في ذلك وأحوطها: فيمن عجز عن المشي، الذي نذره في الحج: البدنة، لأنها أعظم ما قيل في ذلك، وليس من المستبعد، أن تلزم البدنة، وأنه يجزىء الهدي والصوم وكفارة اليمين، لأن كل الأحاديث الواردة بذلك ليس فيها التصريح بنفي إجزاء شيء آخر. فحديث لزوم كفارة اليمين: لم يصرح بعدم إجزاء البدنة، وحديث الهدي: لم يصرح بعدم إجزاء الصوم مثلاً وهكذا. وقد عرفت أقوال أهل العلم في ذلك مع أن الأحاديث لا يخلو شيء منها من كلام. وظاهر النصوص العامة: أنه لا شيء عليه، لأن الله يقول: {لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَ} ويقول: {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ} ويقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» وقد ثبت في صحيح مسلم: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَ}. قال الله: قد فعلت. وفي رواية: نعم، ويدخل في حكم ذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}.
الفرع الرابع: في حكم الإقدام على النذر مع تعريفه لغة وشرعاً.
اعلم أن الأحاديث الصحيحة، دلت على أن النذر، لا ينبغي وأنه منهي عنه، ولكن إذا وقع وجب الوفاء به، إن كان قربة كما تقدم.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن صالح، حدثنا فليح بن سليمان، حدثنا سعيد بن الحارث: أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقول: أو لم ينهوا عن النذر، إن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخر وإنما يستخرج بالنذر من البخيل» وفي البخاري، عن ابن عمر قال: نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن النذر فقال: «إنه لا يرد شيئاً ولكنه يستخرج به من البخيل» وفي لفظ للبخاري من حديث أبي هريرة قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم يكن قُدِّرَ، ولكن يلقيه النذر إلى القدر قد قُدِّرَ له فيستخرج الله به من البخيل فَيُؤْتِي عليه ما لم يكن يُؤْتِي عليه من قبل» اهـ من صحيح البخاري، وهو صريح في النهي عن النذر، وأنه ليس ابتداء فعله من الطاعات المرغب فيها.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدثني زهير بن حرب، وإسحاق بن إبراهيم، قال إسحاق: أخبرنا. وقال زهير: حدثنا جرير، عن منصور، عن عبد الله بن مرة، عن عبد الله بن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ينهانا عن النذر ويقول: «إنه لا يرد شيئاً وإنما يستخرج به من الشحيح» وفي لفظ لمسلم، عن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخره وإنما يستخرج به من البخيل» وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن النذر، وقال: «إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل».
وقال مسلم في صحيحه أيضاً: وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز، يعني الدراوردي، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل» وفي لفظ لمسلم، عن أبي هريرة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال: «إنه لا يرد من القدر، وإنما يستخرج به من البخيل» وفي لفظ لمسلم، عن أبي هريرة: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئاً لم يكن الله قدره له، ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج» اهـ. من صحيح مسلم.
وهذا الذي ذكرنا من حديث الشيخين، عن ابن عمر وأبي هريرة: فيه الدلالة الصريحة على النهي عن الإقدام على النذر، وأنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل. وفي الأحاديث المذكورة إشكال معروف، لأنه قد دل القرآن على الثناء على الذين يوفون بالنذر، وأنه من أسباب دخول الجنة كقوله تعالى: {إِنَّ ٱلاٌّبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَـٰفُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَـٰفُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِير} وقوله تعالى: {وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُهُ} وقد دل الكتاب والسنة على وجوب الوفاء، بنذر الطاعة، كقوله تعالى في هذه الآية، التي نحن بصددها {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ}. وكقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح، من ذم الذين لم يوفوا بنذورهم.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا مسدد، عن يحيى عن شعبة: حدثني أبو جمرة، حدثنا زهدم بن مضرب، قال: سمعت عمران بن حصين رضي الله عنهما، يحدث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» قال عمران: لا أدري ذكر ثنتين أو ثلاثاً بعد قرنه «ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السمن» اهـ من صحيح البخاري. وهو ظاهر جداً في إثم الذين لا يوفون بنذرهم، وأنهم كالذين يخونون، ولا يؤتمنون. وهذا الحديث أخرجه أيضاً مسلم في صحيحه، عن عمران بن حصين. وقال النووي في شرحه لحديث عمران هذا فيه وجوب الوفاء بالنذر، وهو واجب، بلا خلاف، وإن كان ابتداء النذر منهياً عنه: كما سبق في بابه، اهـ محل الغرض منه.
ولأجل هذا الإشكال المذكور اختلف العلماء في حكم الإقدام على النذر، فذهب المالكية: إلى جواز نذر المندوبات إلا الذي يتكرر دائماً كصوم يوم من كل أسبوع فهو مكروه عندهم، وذهب أكثر الشافعية: إلى أنه مكروه، ونقله بعضهم عن نص الشافعي للأحاديث الدالة على النهي عنه. ونقل نحوه عن المالكية أيضاً، وجزم به عنهم ابن دقيق العيد. وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم، والجزم عن الشافعية بالكراهة. وجزم الحنابلة بالكراهة، وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم، وتوقف بعضهم في صحتها، وكراهته مروية عن بعض الصحابة. اهـ بواسطة نقل ابن حجر في الفتح. وجزم صاحب المغني: بأن النهي عنه نهي كراهة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الظاهر لي في طريق إزالة هذا الإشكال، الذي لا ينبغي العدول عنه: أن نذر القربة على نوعين.
أحدهما: معلق على حصول نفع كقوله: إن شفى الله مريضي، فعلي لله نذر كذا أو إن نجاني الله من الأمر الفلاني المخوف، فعلي لله نذر كذا، ونحو ذلك.
والثاني: ليس معلقاً على نفع للناذر، كأن يتقرب إلى الله تقرباً خالصاً بنذر كذا، من أنواع الطاعة، وأن النهي إنما هو في القسم الأول، لأن النذر فيه لم يقع خالصاً للتقرب إلى الله، بل بشرط حصول نفع للناذر وذلك النفع الذي يحاوله الناذر هو الذي دلت الأحاديث على أن القدر فيه غالب على النذر وأن النذر لا يرد فيه شيئاً من القدر.
أما القسم الثاني: وهو نذر القربة الخالص من اشتراط النفع في النذر، فهو الذي فيه الترغيب والثناء على الموفين به المقتضي أنه من الأفعال الطيبة، وهذا التفصيل قالت به جماعة من أهل العلم.
وإنما قلنا: إنه لا ينبغي العدول عنه لأمرين:
الأول: أن نفس الأحاديث الواردة في ذلك فيها قرينة واضحة، دالة عليه، وهو ما تكرر فيها من أن النذر لا يرد شيئاً من القدر، ولا يقدم شيئاً، ولا يؤخر شيئاً ونحو ذلك. فكونه لا يرد شيئاً من القدر، قرينة واضحة على أن الناذر أراد بالنذر جلب نفع عاجل، أو دفع ضر عاجل فبين صلى الله عليه وسلم أن ما قضى الله به في ذلك واقع لا محالة، وأن نذر الناذر لا يرد شيئاً كتبه الله عليه، ولكنه إن قدر الله ما كان يريده الناذر بنذره، فإنه يستخرج بذلك من البخيل الشيء الذي نذر وهذا واضح جداً كما ذكرنا.
الثاني: أن الجمع واجب إذا أمكن وهذا جمع ممكن بين الأدلة واضح تنتظم به الأدلة، ولا يكون بينها خلاف، ويؤيده أن الناذر الجاهل، قد يظن أن النذر قد يرد عنه ما كتبه الله عليه. هذا هو الظاهر في حل هذا الإشكال. وقد قال به غير واحد. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
فإن قيل: إن النذر المعلق كقوله: إن شفى الله مريضي أو نجاني من كذا، فلله علي نذر كذا، قد ذكرتم أنه هو المنهي عنه، وإذا تقرر أنه منهي عنه لم يكن من جنس القربة، فكيف يجب الوفاء بمنهي عنه.
والجواب: أن النص الصحيح دل على هذا فدل على النهي عنه أولاً، كما ذكرنا الأحاديث الدالة على ذلك، ودل على لزوم الوفاء به بعد الوقوع فقوله صلى الله عليه وسلم: «وإنما يستخرج به من البخيل» نص صريح في أن البخيل يلزمه إخراج ما نذر إخراجه، وهو المصرح بالنهي عنه أولاً، ولا غرابة في هذا، لأن الواحد بالشخص قد يكون له جهتان. فالنذر المنذور له جهة هو منهي عنه من أجلها ابتداء: وهي شرط حصول النفع فيه، وله جهة أخرى هو قربة بالنظر إليها، وهو إخراج المنذور تقرباً لله وصرفه في طاعة الله، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن النذر في اللغة النحب وهو ما يجعله الإنسان نحباً واجباً عليه قضاؤه، ومنه قول لبيد: ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحبٌ فيقضى أم ضلالٌ وباطل

وحاصله: أنه إلزام الإنسان نفسه بشيء لم يكن لازماً لها، فيجعله واجباً عليها وهو في اصطلاح الشرع: التزام المكلف قربة لم تكن واجبة عليه. وقال ابن الأثير في النهاية: يقال: نذرت أنذر وأنذر نذراً إذا أوجبت على نفسي شيئاً تبرعاً من عبادة أو صدقة أو غير ذلك. وقد تكرر في أحاديثه ذكر النهي عنه وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه، وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي يصير معصية. فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعاً، ولا يصرف عنهم ضراً ولا يرد قضاء. فقال: لا تنذروا على أنكم قد تدركون بالنذر شيئاً لم يقدره الله لكم، أو تصرفون به عنكم ما جرى به القضاء عليكم، فإذا نذرتم ولم تعتقدوا هذا فأخرجوا عنه بالوفاء، فإن الذي نذرتموه لازم لكم اهـ الغرض من كلام ابن الأثير. وقد قاله غيره، ولا يساعد عليه ظواهر الأحاديث.
فالظاهر أن الأرجح الذي لا ينبغي العدول عنه هو ما قدمنا من الجمع، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن تعريف المالكية للنذر شرعاً: بأنه التزام مسلم مكلف، ولو غضبان إلى آخره فيه أمران.
الأول: أن اشتراط الإسلام في النذر فيه نظر، لأن ما نذره الكافر من فعل الطاعات قد ينعقد نذره له بدليل أنه يفعله إذا أسلم بعد ذلك، ولو كان لغواً غير منعقد، لما كان له أثر بعد الإسلام.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا عبد الله أخبرنا عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر: أن عمر قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: «أوف بنذرك» انتهى منه. فقوله صلى الله عليه وسلم لعمر في هذا الحديث الصحيح: «أوف بنذرك» مع أنه نذره في الجاهلية صريح في ذلك كما ترى، ولا التفات إلى ما أوله به بعض العلماء من المالكية وغيرهم. وقول المالكية في تعريف النذر، ولو غضبان لا يخفى أن العلماء مختلفون في نذر الغضبان، هل يلزم فيه ما نذر أو هو من نوع اللجاج، تلزم فيه كفارة يمين كما أوضحنا حكمه سابقاً.
الفرع الخامس: اعلم: أنه قد دل الحديث على أن من نذر أن ينحر تقرباً لله في محل معين، فلا بأس بإيفائه بنذره، بأن ينحر في ذلك المحل المعين، إذا لم يتقدم عليه أنه كان به وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية. ومفهومه أنه إن كان قد سبق أن فيه وثناً يعبد، أو عيداً من أعياد الجاهلية: أنه لا يجوز النحر فيه.
قال أبو داود في سننه: حدثنا داود بن رشيد، ثنا شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثني أبو قلابة، قال: حدثني ثابت بن الضحاك، قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم» اهـ منه.
وفيه الدلالة الظاهرة على أن النحر بموضع كان فيه وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية من معصية الله تعالى، وأنه لا يجوز بحال، والعلم عند الله تعالى. وإسناد الحديث صحيح.
الفرع السادس: اعلم: أن الأحاديث الصحيحة دلت على أن من مات وعليه نذر أنه يقضى عنه، وسنقتصر هنا على قليل منها اختصاراً لصحته، وثبوته.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس، أخبره «أن سعد بن عبادة الأنصاري استفتى النَّبي صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه، فتوفيت قبل أن تقضيه، فأفتاه: أن يقضيه عنها فكانت سُنَّةً بَعْدُ» اهـ من صحيح البخاري.
وقد قدمنا بعض الأحاديث الدالة على ذلك فيمن مات وعليه نذر الحج أنه يقضي عنه كما تقدم إيضاحه، والأحاديث في هذا الباب كثيرة معروفة.
تنبيه
اعلم: أن ابن عمر وابن عباس أفتيا بقضاء الصلاة المنذورة عن الميت إذا مات ولم يصل ما نذر. قال البخاري في صحيحه: باب من مات وعليه نذر، وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء فقال: صلِّي عنها. وقال ابن عباس نحوه اهـ من البخاري. وفي الموطأ عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته: أنها حدثته، عن جدته أنها كانت جعلت على نفسها مشياً إلى مسجد قباء، فماتت ولم تقضه، فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها: أن تمشي عنها. قال يحيى: وسمعت مالكاً يقول: لا يمشي أحد عن أحد اهـ من الموطأ. وقال الزرقاني، في شرحه: قال ابن القاسم: أنكر مالك الأحاديث في المشي إلى قباء، ولم يعرف المشي إلا إلى مكة خاصة. قال ابن عبد البر يعني: لا يعرف إيجاب المشي للحالف، والناذر. وأما المتطوع، فقد روى مالك فيما مر أنه صلى الله عليه وسلم، كان يأتي قباء راكباً وماشياً، وأن إتيانه مرغب فيه. اهـ منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي عليه جمهور أهل العلم، وحكى ابن بطال الإجماع عليه أنه لا يصلي أحد عن أحد، أما الصوم والحج عن الميت فقد قدمنا مشروعيتهما. وإن خالف جل أهل العلم في الصوم عن الميت، والعلم عند الله تعالى. وفي الموطأ عن مالك بعد أن ذكر حديث «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» قال يحيى: وسمعت مالكاً يقول: معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام، أو إلى مصر، أو إلى الرَّبَذَةِ، أو ما أشبه ذلك مما ليس لله بطاعة، إن كلم فلاناً أو ما أشبه ذلك فليس عليه في شيء من ذلك شيء إن هو كلمه، أو حنث بما حلف عليه، لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة. وإنما يوفي لله بما له فيه طاعة اهـ. من الموطأ.
الفرع السابع: الأظهر عندي: أن من نذر جميع ماله لله ليصرف في سبيل الله، أنه يكفيه الثلث ولا يلزمه صرف الجميع، وهذا قول مالك وأصحابه وأحمد وأصحابه، والزهري. وفي هذه المسألة للعلماء عشرة مذاهب أظهرها عندنا: هو ما ذكرنا، ويليه في الظهور عندنا قول من قال: يلزمه صرفه كله، وهو مروي عن الشافعي والنخعي، وعن أحمد رواية أخرى: أن عليه كفارة يمين، وعن ربيعة تلزمه الصدقة بقدر الزكاة، وعن جابر بن زيد، وقتادة: إن كان كثيراً وهو ألفان تصدق بعشره، وإن كان متوسطاً وهو ألف تصدق بسبعه، وإن كان قليلاً، وهو خمسمائة تصدق بخمسه، وعن أبي حنيفة: يتصدق بالمال الزكوي كله، وعنه في غيره روايتان.
إحداهما: يتصدق به.
والثانية: لا يلزم منه شيء، وعن النخعي، والبتي، والشافعي: يتصدق بماله كله، وعن الليث: إن كان ملياً لزمه، وإن كان فقيراً فعليه كفارة يمين، ووافقه ابن وهب وزاد وإن كان متوسطاً يخرج قدر زكاة ماله وهذا مروي أيضاً عن أبي حنيفة، وهو قول ربيعة كما تقدم. وعن الشعبي: لا يلزم شيء أصلاً، وقيل: يلزم الكل إلا في نذر اللجاج، فكفارة يمين، وعن سحنون: يلزمه إخراج ما لا يضر به. وعن الثوري والأوزاعي، وجماعة: يلزمه كفارة يمين بغير تفصيل.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة:
فاعلم: أن أكثرها لا يعتضد بدليل، والذي يعتضد بالدليل منها ثلاثة مذاهب:
الأول: هو ما قدمنا أنه أظهرها عندنا، وهو الاكتفاء بالثلث.
والثاني: لزوم الصدقة بالمال كله.
والثالث: قول سحنون: أنه يلزمه إخراج ما لا يضر به. أما الاكتفاء بالثلث الذي هو أقربها عندنا، فقد يستدل له ببعض الأحاديث الصحيحة التي فيها النهي عن التصدق بالمال كله، وفيها أن الثلث كثير.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب إذا أهدى ماله على وجه النذر، والتوبة: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله عن عبد الله بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالك يقول في حديثه: {وَعَلَى ٱلثَّلَـٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُو} فقال في آخر حديثه: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» اهـ.
فظاهر هذا الحديث الصحيح: أن كعباً غير مستشير بل مريد التجرد من جميع ماله على وجه النذر والتوبة، كما في ترجمة الحديث. وقد أمره صلى الله عليه وسلم بأن يمسك بعض ماله، وصرح له بأن ذلك خير له. وقد جاء في بعض الروايات أنه فسر ذلك البعض الذي يمسكه بالثلثين، وأنه يتصدق بالثلث. وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث قوله: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» زاد أبو داود عن أحمد بن صالح بهذا السند، فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر، وهو عند المصنف من وجه آخر عن ابن شهاب، ووقع في رواية ابن إسحاق عن الزهري بهذا السند، عند أبي داود: «إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله لله ورسوله صدقة قال: لا. قلت: فنصفه؟ قال: لا. قلت: فثلثه؟ قال: نعم. قلت: فإني سأمسك سهمي في خيبر».
واعلم أن ابن إسحاق في حديثه هذا عند أبي داود، صرح بالتحديث عن الزهري، فأمن تدليسه ثم قال ابن حجر: وأخرج من طريق ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث وفيه: وإني أنخلع من مالي كله صدقة. قال: «يجزىء عنك الثلث» وفي حديث أبي لبابة، عند أحمد وأبي داود مثله اهـ محل الغرض من فتح الباري.
وقد رأيت الروايات المصرحة بأنه يجزئه الثلث عن جميع المال. وظاهر الحديث أنه جازم غير مستشير فمن زعم من أهل العلم أنه مستشير فهو مخالف لظاهر اللفظ، لأن اللفظ مبدوء بجملة خبرية مؤكدة بحرف التوكيد، الذي هو إن المكسورة في قوله: إن من توبتي أن أنخلع من مالي، واللفظ الذي هذه صفته، لا يمكن حمله على التوقف والاستشارة، كما ترى فقوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك وأبي لبابة: إن الثلث يكفي عن الصدقة بجميع المال. هو الدليل الذي ذكرنا بسببه: أن أقرب الأقوال عندنا الاكتفاء بالثلث. وأما قول من قال: يلزمه التصدق بجميعه، فيستدل له بالحديث الصحيح: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» وهو يدل على إيفائه بنذره، ولو أتى على كل المال، إلا أن دليل ما قبله أخص منه في محل النزاع والأخص مقدم على الأعم.
وأما قول سحنون: يلزمه التصدق بما لا يضر به فيستدل له بقوله تعالى: {وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ}، لأن العفو في أصح التفسيرين، هو ما لا يضر إنفاقه بالمنفق، ولا يجحف به لإمساكه ما يسد خلته الضرورية. وهذا قد يرجع إلى الأول لأن الثلث من العفو الذي لا يجحف به إنفاقه. فأظهرها الأول كما ذكرنا وباقي الأقوال لا أعلم له دليلاً متجهاً من كتاب، ولا سنة، وما وجه به تلك الأقوال بعض أهل العلم لا يتجه عندي، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثامن: اعلم أنه قد دل النص الصحيح، على أن من نذر أن يسافر إلى مسجد ليصلي فيه كمسجد البصرة، أو الكوفة أو نحو ذلك: لا يلزمه السفر إلى مسجد من تلك المساجد، وليصل الصلاة التي نذرها به في موضعه الذي هو به. والنص الصحيح المذكور هو حديث: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد بيت المقدس». والجاري على الأصول: أنه لا يخرج من هذا الحصر الذي صرح به النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح، إلا ما أخرجه نص صحيح يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة. والأظهر أن من نذر السفر لصلاة في مسجد إيلياء، وصلاها في مسجد مكة أو المدينة أجزأته، لأنهما أفضل منه.
وقد قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد أخبرنا حبيب المعلم، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله: أن رجلاً قام يوم الفتح فقال: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين قال: «صل ها هنا ثم أعاد عليه، فقال: صل ها هنا ثم أعاد عليه، فقال: شأنك إذاً» قال أبو داود: وروي نحوه عن عبد الرحمن بن عوف، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ لأبي داود عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن رجال من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي بعث محمداً بالحق لو صليت هنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس» اهـ. والعلم عند الله تعالى.
ولنكتف بما ذكر هنا من مسائل النذر لكثرة ما كتبنا في آيات سورة الحج من الأحكام الشرعية وأقوال أهل العلم فيها، والنذر باب مذكور في كتب الفروع، فمن أراد الإحاطة بجميع مسائله، فلينظرها في كتب فروع المذاهب الأربعة، وقد ذكرنا هنا عيون مسائله المهمة، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ}.
في المراد بالعتيق هنا للعلماء ثلاثة أقوال:
الأول: أن المراد به القديم، لأنه أقدم مواضع التعبد.
الثاني: أن الله أعتقه من الجبابرة.
الثالث: أن المراد بالعتق فيه الكرم، والعرب تسمي القديم عتيقاً وعاتقاً ومنه قول حسان رضي الله عنه: كالمسك تخلطه بماء سحابة أو عاتق كدم الذبيح مدام

لأن مراده بالعاتق الخمر القديمة التي طال مكثها في دنها زمناً طويلاً، وتسمى الكرم عتقاً ومنه قول كعب بن زهير: قنواء في حرتيها للبصير بها عتق مبين وفي الخدين تسهيل

فقوله: عتق مبين: أي كرم ظاهر، ومنه قول المتنبي:
* ويبين عتق الخيل في أصواتها * أي كرمها، والعتق من الجبابرة كالعتق من الرق، وهو معروف.
وإذا علمت ذلك فاعلم: أنه قد دلت آية من كتاب الله، على أن العتيق في الآية بمعنى: القديم الأول وهي قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَك} مع أن المعنيين الآخرين كلاهما حق، ولكن القرآن دل على ما ذكرنا، وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
تنبيهان
الأول: دلت هذه الآية الكريمة، على لزوم طواف الإفاضة وأنه لا صحة للحج بدونه.
الثاني: دلت هذه الآية أيضاً على لزوم الطواف من وراء الحجر الذي عليه الجدار القصير شمال البيت لأن أصله من البيت، فهو داخل في اسم البيت العتيق، كما تقدم إيضاحه.
قوله تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلاٌّنْعَـٰمُ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ}. لم يبين هنا هذا الذي يتلى عليهم المستثنى من حلية الأنعام، ولكنه بينه بقوله في سورة الأنعام: {قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ} وهذا الذي ذكرنا هو الصواب، أما ما قاله جماعات من أهل التفسير من أن الآية التي بينت الإجمال في قوله تعالى هنا: {إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ} أنها قوله تعالى في المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ} فهو غلط، لأن المائدة من آخر ما نزل من القرآن وآية الحج هذه نازلة قبل نزول المائدة بكثير، فلا يصح أن يحال البيان عليها في قوله: {إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ} بل المبين لذلك الإجمال آية الأنعام التي ذكرنا لأنها نازلة بمكة، فيصح أن تكون مبينة لآية الحج المذكورة كما نبه عليه غير واحد.
أما قوله تعالى في المائدة: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلاٌّنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ} فيصح بيانه بقوله في المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ}. كما أوضحنا في أول المائدة والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلاٌّوْثَـٰنِ}. «من» في هذه الآية بيانية.
والمعنى: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان: أي عبادتها والرجس القذر الذي تعافه النفوس، وفي هذه الآية الكريمة الأمر باجتناب عبادة الأوثان، ويدخل في حكمها، ومعناها عبادة كل معبود من دون الله كائناً من كان. وهذا الأمر باجتناب عبادة غير الله المذكور هنا، جاء مبيناً في آيات كقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ} وبيَّن تعالى أن ذلك شرط في صحة إيمانه بالله في قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ} وأثنى الله على مجتنبي عبادة الطاغوت المنيبين لله، وبين أن لهم البشرى، وهي ما يسرهم عند ربهم في قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ}. وقد سأل إبراهيم ربه أن يرزقه اجتناب عبادة الطاغوت، في قوله تعالى: {وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلاٌّصْنَامَ} والأصنام، تدخل في الطاغوت دخولاً أولياً.
قوله تعالى: {وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِحُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}. أمر في هذه الآية الكريمة باجتناب قول الزور، وهو الكذب والباطل كقولهم: إن الله حرم البحيرة والسائبة، ونحو ذلك، وكادعائهم له الأولاد والشركاء، وكل قول مائل عن الحق فهو زور، لأن أصل المادة التي هي الزور من الازورار بمعنى الميل، والاعوجاج، كما أوضحناه في الكلام على قوله: {تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ}.
واعلم أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها، أن يذكر لفظ عام، ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه، وتقدمت لذلك أمثلة. وسيأتي بعض أمثلته في الآيات القريبة من سورة الحج هذه.
وإذا علمت ذلك فاعلم أنه هنا قال: {وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ} بصيغة عامة، ثم بين في بعض المواضع بعض أفراد قول الزور المنهي عنه كقوله تعالى في الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُور} فصرح بأن قولهم هذا من الظلم والزور. وقال في الذين يظاهرون من نسائهم، ويقول الواحد منهم لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُور} فصرح بأن قولهم ذلك، منكر وزور، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي بكرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت» اهـ وقد جمع تعالى هنا بين قول الزور والإشراك به تعالى في قوله:
{وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِحُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} وكما أنه جمع بينهما هنا، فقد جمع بينهما أيضاً في غير هذا الموضع كقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْىَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَـٰناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} لأن قوله: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} هو قول الزور. وقد أتى مقروناً بقوله: {وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَـٰن} وذلك يدل على عظمة قول الزور، لأن الإشراك بالله قد يدخل في قول الزور، كادعائهم الشركاء، والأولاد لله. وكتكذيبه صلى الله عليه وسلم فكل ذلك الزور فيه أعظم الكفر والإشراك بالله. نعوذ بالله من كل سوء.
ومعنى حنفاء: قد قدمناه مراراً مع بعض الشواهد العربية، فأغنى عن إعادته هنا.
قوله تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ}. بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن من أشرك بالله غيره أي ومات ولم يتب من ذلك فقد وقع في هلاك، لا خلاص منه بوجه ولا نجاة معه بحال، لأنه شبهه بالذي خر: أي سقط من السماء إلى الأرض، فتمزقت أوصاله، وصارت الطير تتخطفها وتهوي بها الريح فتلقيها في مكان سحيق: أي محل بعيد لشدة هبوبها بأوصاله المتمزقة، ومن كانت هذه صفته فإنه لا يرجى له خلاص ولا يطمع له في نجاة، فهو هالك لا محالة، لأن من خر من السماء إلى الأرض لا يصل الأرض عادة إلا متمزق الأوصال، فإذا خطفت الطير أوصاله وتفرق في حواصلها، أو ألقته الريح في مكان بعيد فهذا هلاك محقق لا محيد عنه. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من هلاك من أشرك بالله وأنه لا يرجى له خلاص، جاء موضحاً في مواضع أخر كقوله: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ}. وكقوله: {قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ} وقوله: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} في الموضعين من سورة النساء، والخطف الأخذ بسرعة والسحيق البعيد. ومنه قوله تعالى: {فَسُحْقًا لاًّصْحَـٰبِ ٱلسَّعِيرِ} أي بعداً لهم.
وقد دلت آيات أخر على أن محل هذا الهلاك الذي لا خلاص منه بحال الواقع بمن يشرك بالله، إنما هو في حق من مات على ذلك الإشراك، ولم يتب منه قبل حضور الموت. أما من تاب من شركه قبل حضور الموت، فإن الله يغفر له، لأن الإسلام يجبّ ما قبله.
والآيات الدالة على ذلك متعددة كقوله: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} وقوله: {وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ} إلى قوله: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـٰلِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ} وقوله في الذين: {قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَـٰلِثُ ثَلَـٰثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَٰحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقوله: {وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحَ}. إلى غير ذلك من الآيات. وأما إن كانت توبته من شركه عند حضور الموت، فإنها لا تنفعه.
وقد دلت على ذلك آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَـٰتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ ٱلاٌّنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} فقد دلت الآية على التسوية بين الموت على الكفر والتوبة منه، عند حضور الموت وكقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـٰنُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَ} وكقوله في فرعون: {حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِى ءَامَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَٰءِيلَ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَءَاأنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ} وقرأ هذا الحرف نافع فتخطفه بفتح الخاء وتشديد الطاء أصله فتتخطفه الطير بتاءين فحذفت إحداهما وقرأه غيره من السبعة فتخطفه الطير بإسكان الخاء وتخفيف الطاء مضارع خطفه بالكسر.