تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 335 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 335

334

24- "وهدوا إلى الطيب من القول" أي أرشدوا إليه، قيل هو لا إله إلا الله وقيل الحمد لله، وقيل القرآن، وقيل هو ما يأتيهم من الله سبحانه من البشارات. وقد ورد في القرآن ما يدل على هذا القول المجمل هنا، وهو قوله سبحانه: "الحمد لله الذي صدقنا وعده" الحمد لله الذي هدانا لهذا "الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن" ومعنى "وهدوا إلى صراط الحميد" أنهم أرشدوا إلى الصراط المحمود وهو طريق الجنة، أو صراط الله الذي هو دينه القويم، وهو الإسلام. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "والصابئين" قال: هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون القبلة، ويقرأون الزبور "والمجوس" عبدة الشمس والقمر والنيران، "والذين أشركوا" عبدة الأوثان "إن الله يفصل بينهم" قال: الأديان ستة، فخمسة للشيطان، ودين الله عز وجل. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال: فصل قضاءه بينهم فجعل الخمسة مشتركة وجعل هذه الأمة واحدة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: الذين هادوا: اليهود، والصابئون: ليس لهم كتاب، والمجوس: أصحاب الأصنام والمشركون: نصارى العرب. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر أنه كان يقسم قسماً أن هذه الآية "هذان خصمان" الآية نزلت في الثلاثة والثلاثة الذين بارزوا يوم بدر، وهم حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث، وعلي بن أبي طالب وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، قال علي: وأنا أول من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة. وأخرج البخاري وغيره من حديث علي. وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس بنحوه، وهكذا روي عن جماعة من التابعين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "قطعت لهم ثياب من نار" قال: من نحاس، وليس من الآنية شيء إذا حمى أشد حراً منه، وفي قوله: "يصب من فوق رؤوسهم الحميم" قال: النحاس يذاب على رؤوسهم، وقوله: "يصهر به ما في بطونهم" قال: تسيل أمعاؤهم "والجلود" قال: تتناثر جلودهم. وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن أبي هريرة أنه تلا هذه الآية "يصب من فوق رؤوسهم الحميم" فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يصهر به ما في بطونهم" قال: يمشون وأمعاءهم تتساقط وجلودهم. وفي قوله: "ولهم مقامع من حديد" قال: يضربون بها، فيقع كل عضو على حياله فيدعون بالويل والثبور. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: يسقون ماء إذا دخل في بطونهم أذابها والجلود مع البطون. وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن مقمعاً من حديد وضع في الأرض فاجتمع الثقلان ما أقلوه من الأرض، ولو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان". وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن سلمان قال: النار سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها، ثم قرأ "كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها". وفي الصحيحين وغيرهما عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ليس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وهدوا إلى الطيب من القول" قال: ألهموا. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال. هدوا إلى الطيب من القول في الخصومة إذ قالوا: الله مولانا ولا مولى لكم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن إسماعيل ابن أبي خالد في الآية قال: القرآن "وهدوا إلى صراط الحميد" قال: الإسلام. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال: الإسلام. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله الذي قال "إليه يصعد الكلم الطيب".
قوله: 25- "إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله" عطف المضارع على الماضي، لأن المراد بالمضارع ما مضى من الصد، ومثل هذا قوله "الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله"، أو المراد بالصد ها هنا الاستمرار لا مجرد الاستقبال، فصح بذلك عطفه على الماضي، ويجوز أن تكون الواو في ويصدون واو الحال: أي كفروا والحال أنهم يصدون. وقيل الواو زائدة والمضارع خبر إن والأولى أن يقدر خبر إن بعد قوله: "والباد" وذلك نحو خسروا أو هلكوا. وقال الزجاج: إن الخبر ونذقه من عذاب أليم. ورد بأنه لو كان خبراً لأن لم يجزم وأيضاً لو كان خبراً لإن لبقي الشرط وهو ومن يرد بغير جواب فالأولى أنه محذوف كما ذكرنا والمراد بالصد المنع وسبيل الله دينه: أي يمنعون من أراد الدخول في دين الله والمسجد الحرام، معطوف على سبيل الله قيل المراد به المسجد نفسه كما هو الظاهر من هذا النظم القرآني وقيل الحرم كله، لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عند يوم الحديبية، وقيل المراد به مكة بدليل قوله: "الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد" أي جعلناه للناس على العموم يصلون فيه ويطوفون به مستوياً فيه العاكف، وهو المقيم فيه الملازم له والباد أي الواصل من البادية، والمراد به الطارئ عليه من غير فرق بين كونه من أهل البادية أو من غيرهم وانتصاب سواء على أنه المفعول الثاني لجعلناه، وهو بمعنى مستوياً، والعاكف مرتفع به، وصف المسجد الحرام بذلك لزيادة التقريع والتوبيخ للصادين عنه، ويحتمل أن يكون انتصاب سواء على الحال. وهذا على قراءة النصب، وبها قرأ حفص عن عاصم، وهي قراءة الأعمش، وقرأ الجمهور برفع "سواء" على أنه مبتدأ وخبره العاكف أو على أنه خبر مقدم، والمبتدأ العاكف أي العاكف فيه والبادي سواء، وقرئ بنصب "سواء" وجر العاكف على أنه صفة للناس: أي جعلناه للناس العاكف والبادي سواء، وأثبت الياء في البادي ابن كثير وصلاً ووقفاً، وحذفها أبو عمرو في الوقف، وحذفها نافع في الوصل والوقف. قال القرطبي: وأجمع الناس على الاستواء في المسجد الحرام نفسه. واختلفوا في مكة فذهب مجاهد ومالك إلى أن دور مكة ومنازلها يستوي فيها المقيم والطارئ. وذهب عمر بن الخطاب وابن عباس وجماعة إلى أن للقادم أن ينزل حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاه أم أبى. وذهب الجمهور إلى أن دور مكة ومنازلها ليست كالمسجد الحرام، ولأهلها منع الطارئ من النزول فيها. والحاصل أن الكلام في هذا راجع إلى أصلين: الأصل الأول ما في هذه الآية هل المراد بالمسجد الحرام المسجد نفسه. أو جميع الحرم، أو مكة على الخصوص. والثاني هل كان فتح مكة صلحاً أو عنوة؟ وعلى فرض أن فتحها كان عنوة هل أقرها النبي صلى الله عليه وسلم في يد أهلها على الخصوص؟ أو جعلها لمن نزل بها على العموم؟ وقد أوضحنا هذا في شرحنا على المنتقي بما لا يحتاج الناظر فيه إلى زيادة "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم" مفعول برد محذوف لقصد التعميم، والتقدير: ومن يرد فيه مراداً: أي مراد بإلحاد: أي بعدول عن القصد، والإلحاد في اللغة الميل إلا أنه سبحانه بين هنا أنه الميل بظلم. وقد اختلف في هذا الظلم ماذا هو؟ فقيل هو الشرك، وقيل الشرك والقتل، وقيل صيد خيواناته وقطع أشجاره، وقيل هو الحلف فيه بالأيمان الفاجرة، وقيل المراد المعاصي فيه على العموم، وقيل المراد بهذه الآية أنه يعاقب بمجرد الإرادة للمعصية في ذلك المكان. وقد ذهب إلى هذا ابن مسعود وابن عمر والضحاك وابن زيد وغيرهم حتى قالوا لو هم الرجل في الحرم بقتل رجل بعدن لعذبه الله. والحاصل أن هذه الآية دلت على أن من كان في البيت الحرام مأخوذاً بمجرد الإرادة للظلم، فهي مخصصة لما ورد من أن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها إلا أن يقال إن الإرادة فيها زيادة على مجرد حديث النفس، وبالجملة فالبحث عن هذا وتقرير الحق فيه على وجه يجمع بين الأدلة ويرفع الإشكال يطول جداً، ومثل هذه الآية حديث "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه" فدخل النار هنا بسبب مجرد حرصه على قتل صاحبه. وقد أفردنا هذا البحث برسالة مستقلة، والباء في قوله بإلحاد إن كان مفعول يرد محذوفاً كما ذكرنا فليست بزائدة، وقيل إنها زائدة هنا كقول الشاعر: نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج أي نرجو الفرج، ومثله: ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد أي ما لاقت، ومن القائلين بأنها زائدة الأخفش، والمعنى عنده: ومن يرد فيه إلحاداً بظلم، وقال الكوفيون: دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد، والباء مع أن تدخل وتحذف، ويجوز أن يكون التقدير: ومن يرد الناس بإلحاد. وقيل إن يرد مضمن معنى بهم، والمعنى: ومن يهم فيه بإلحاد. وأما الباء في قوله بظلم فهي للسببية، والمعنى: ومن يرد فيه بإلحاد بسبب الظلم، ويجوز أن يكون بظلم بدلاً من بإلحاد بإعادة الجار ويجوز أن يكونا حالين مترادفين.
26- "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" أي واذكر وقت ذلك، يقال بوأته منزلاً وبوأت له كما يقال مكنتك ومكنت لك. قال الزجاج: معناه جعلنا مكان البيت مبوأ لإبراهيم، ومعنى بوأنا: بينا له مكان البيت، ومثله قول الشاعر: كم من أخ لي ماجد بوأته بيدي لحدا وقال الفراء: إن اللام زائدة ومكان ظرف: أي أنزلناه فيه " أن لا تشرك بي شيئا " قيل إن هذه هي مفسرة لبوأنا لتضمنه معنى تعبدنا، لأن التبوئة هي للعبادة. وقال أبو حاتم: هي مصدرية: أي لأن لا تشرك بي. وقيل هي المخففة من الثقيلة، وقيل هي زائدة، وقيل معنى الآية: وأوحينا إليه أن لا تعبد غيري. قال المبرد: كأنه قيل له وحدني في هذا البيت، لأن معنى لا تشرك بي وحدي "وطهر بيتي" من الشرك وعبادة الأوثان. وفي الآية طعن على ما أشرك من قطان البيت: أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعده وأنتم فلم تفوا بل أشركتم. وقالت فرقة: الخطاب بقوله: ألا تشرك لمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا ضعيف جداً. ومعنى "وطهر بيتي" تطهيره من الكفر والأوثان والدماء وسائر النجاسات، وقيل عنى به التطهير عن الأوثان فقط، وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت، وقد مر في سورة براءة ما فيه كفاية في هذا المعنى،والمراد بالقائمين هنا هم المصلون "و" ذكر "الركع السجود" بعده لبيان أركان الصلاة دلالة على عظم شأن هذه العبادة، وقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا في البيت، فالطواف عنده والصلاة إليه.
27- "وأذن في الناس بالحج" قرأ الحسن وابن محيصن " وأذن " بتخفيف الذال والمد. وقرأ الباقون بتشديد الذال، والأذان الإعلام، وقد تقدم في براءة. قال الواحدي: قال جماعة المفسرين: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت جاءه جبريل فأمره أن يؤذن في الناس بالحج، فقال: يا رب من يبلغ صوتي؟ فقال الله سبحانه: أذن وعلي البلاغ، فعلا المقام فأشرف به حتى صار كأعلى الجبال، فأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يميناً أو شمالاً وشرقاً وغرباً وقال: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت فأجيبوا ربكم، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك. وقيل إن الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أعلمهم يا محمد بوجوب الحج عليهم، وعلى هذا فالخطاب لإبراهيم انتهى عند قوله: "والركع السجود" وقيل إن خطابه انقضى عند قوله: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" وأن قوله: "أن لا تشرك بي" وما بعده خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقرأ الجمهور "بالحج" بفتح الحاء، وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها "يأتوك رجالاً" هذا جواب الأمر، وعد الله إجابة الناس له إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، فمعنى رجالاً مشاة جمع راجل، وقيل جمع رجل. وقرأ ابن أبي إسحاق رجالاً بضم الراء وتخفيف الجيم، وقرأ مجاهد رجالى على وزن فعالى مثل كسالى، وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي، وقال: يأتوك وإن كانوا يأتون البيت، لأن من أتى الكعبة حاجاً فقد أتى إبراهيم، لأنه أجاب نداءه "وعلى كل ضامر" عطف على رجالاً: أي وركباناً على كل بعير، والضامر البعير المهزول الذي أتعبه السفر، ويقال ضمر يضمر ضموراً، ووصف الضامر بقوله يأتين باعتبار المعنى، لأن الضامر في معنى ضوامر، وقرأ أصحاب ابن مسعود وابن أبي عبلة والضحاك يأتون على أنه صفة لرجالاً. والفج الطريق الواسع الجمع فجاج، والعميق البعيد.
واللام في 28- "ليشهدوا منافع لهم" متعلقة بقوله، يأتوك وقيل بقوله وأذن، والشهود الحضور، والمنافع هي تعم منافع الدنيا والآخرة. وقيل المراد به المناسك، وقيل المغفرة، وقيل التجارة كما في قوله "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" "ويذكروا اسم الله في أيام معلومات" أي يذكروا عند ذبح الهدايا والضحايا اسم الله، وقيل إن هذا الذكر كناية عن الذبح لأنه لا ينفك عنه. والأيام المعلومات هي أيام النحر كما يفيد ذلك قوله: "على ما رزقهم من بهيمة الأنعام" وقيل عشر ذي الحجة. وقد تقدم الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات في البقرة فلا نعيده، والكلام في وقت ذبح الأضحية معروف في كتب الفقه وشروح الحديث، ومعنى: على ما رزقهم: على ذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، وبهيمة الأنعام هي الأنعام فالإضافة في هذا كالإضافة في قولهم: مسجد الجامع وصلاة الأولى "فكلوا منها" الأمر هنا للندب عند الجمهور، وذهبت طائفة إلى أن الأمر للوجوب، وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب "وأطعموا البائس الفقير" البائس ذو البؤس وهو شدة الفقر فذكر الفقير بعده لمزيد الإيضاح، والأمر هنا للوجوب، وقيل للندب.
29- "ثم ليقضوا تفثهم" المراد بالقضاء هنا هو التأدية: أي ليؤدوا إزالة وسخهم، لأن التفث هو الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار، وقد أجمع المفسرون كما حكاه النيسابوري على هذا. قال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعرفون التفث. وقال أبو عبيدة: لم يأت في الشعر ما يحتج به في معنى التفث. وقال المبرد: أصل التفث في اللغة كل قاذورة تلحق الإنسان. وقيل قضاؤه ادهانه لأن الحاج مغبر شعث لم يدهن ولم يستحد، فإذا قضى نسكه وخرج من إحرامه حلق شعره وليس ثيابه، فهذا هو قضاء التفث. قال الزجاج: كأنه خروج من الإحرام إلى الحلال "وليوفوا نذورهم" أي ما ينذرون به من البر في حجهم، والأمر للوجوب، وقيل المراد بالنذور هنا أعمال الحج "وليطوفوا بالبيت العتيق" هذا الطواف هو طواف الإفاضة. قال ابن جرير: لا خلاف في ذلك بين المتأولين، والعتيق القديم كما يفيده قوله سبحانه: "إن أول بيت وضع للناس" الآية، وقد سمي العتيق لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار، وقيل لأن الله يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب، وقيل لأنه أعتق من غرق الطوفان وقيل العتيق الكريم. وقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله: "والمسجد الحرام" قال: الحرم كله، وهو المسجد الحرام "سواء العاكف فيه والباد" قال: خلق الله في سواء. وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: هم في منازل مكة سواء، فينبغي لأهل مكة أن يوسعوا لهم حتى يقضوا مناسكهم. وقال البادي وأهل مكة سواء، يعني في المنزل والحرم. وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو قال: من أخذ من أجور بيوت مكة إنما يأكل في بطونه ناراً. وأخرج ابن سعد عن عمر بن الخطاب أن رجلاً قال له عند المروة: يا أمير المؤمنين أقطعني مكاناً لي ولعقبي، فأعرض عنه عمر وقال: هو حرم الله سواء العاكف فيه والباد. وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: كان عمر يمنع أهل مكة أن يجعلوا لها أبواباً حتى ينزل الحاج في عرصات الدور. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله ""سواء العاكف فيه والباد" قال: سواء المقيم والذي يدخل". وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مكة مباحة لا تؤجر بيوتها ولا تباع رباعها". وأخرج ابن أبي شيبة وابن ماجه عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حفرة عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة فذكره. وأخرج الدارقطني عن ابن عمر مرفوعاً "من أكل كراء بيوت مكة أكل ناراً". وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن راهويه وأحمد وعبد بن حميد والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن مسعود رفعه في قوله: "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم" قال: لو أن رجلاً هم فيه بإلحاد وهو بعدن أبين لأذاقه الله عذاباً أليماً. قال ابن كثير: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري، ووقفه أشبه من رفعه، ولهذا صمم شعبة على وقفه. وأخرج سعيد بن منصور والطبراني عن ابن مسعود في الآية قال: من هم بخطيئة فلم يعملها في سوى البيت لم تكتب عليه حتى يعملها، ومن هم بخطيئة في البيت لم يمته الله من الدنيا حتى يذيقه من عذاب أليم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أنيس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين، أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام وهرب إلى مكة، فنزلت فيه "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم" يعني من لجأ إلى الحرم بإلحاد، يعني بميل عن الإسلام. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قول "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم" قال: يشرك. وأخرج عبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن يعلى بن أمية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه". وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في تاريخه وابن المنذر عن عمر بن الخطاب قال: احتكار الطعام بمكة إلحاد بظلم. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: بيع الطعام بمكة إلحاد. وأخرج البيهقي في الشعب عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "احتكار الطعام بمكة إلحاد". وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن علي قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت خرج معه إسماعيل وهاجر، وذلك حين يقول الله: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء "والقائمين" قال: المصلين عنده. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة معناه. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في السنن عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: رب قد فرغت، فقال: "أذن في الناس بالحج" قال رب وما يبلغ صوتي؟ قال أذن وعلي البلاغ، قال: رب كيف أقول؟ قال: قل: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فسمعه من في السماء والأرض، ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يلبون. وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "ليشهدوا منافع لهم" قال: أسواقاً كانت لهم، ما ذكر الله منافع إلا الدنيا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة، فأما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فمما يصيبون من لحوم البدن في ذلك اليوم والذبائح والتجارات. وأخرج أبو بكر المرزوي في كتاب العيدين عنه أيضاً قال: الأيام المعلومات: يوم النحر وثلاثة أيام بعده. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: الأيام المعلومات: يوم النحر وثلاثة أيام بعده. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: أيام التشريق. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضاً في الأيام المعلومات قال: قبل يوم التروية بيوم، ويوم التروية ويوم عرفة. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: البائس الزمن. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر قال: التفث المناسك كلها. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: التفث خلق الرأس والأخذ من العارضين ونتف الإبط وحلق العانة والوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار وقص الأظفار وقص الشارب والذبح. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه "وليطوفوا بالبيت العتيق" هو طواف الزيارة يوم النحر، وورد في وجه تسمية البيت بالعتيق آثار عن جماعة من الصحابة، وقد أشرنا إلى ذلك سابقاً، وورد في فضل الطواف أحاديث ليس هذا موضع ذكرها.
محل 30- "ذلك" الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي الأمر ذلك، أو مبتدأ خبره محذوف أو في محل نصب بفعل محذوف: أي افعلوا ذلك، والمشار إليه هو ما سبق من أعمال الحج، وهذا وأمثاله يطلق للفصل بين الكلامين أو بين طرفي كلام واحد، والحرمات جمع حرمة. قال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه، وهي في هذه الآية ما نهي عنها ومنه من الوقوع فيها. والظاهر من الآية عموم كل حرمة في الحج وغيره كما يفيده اللفظ وإن كان السبب خاصاً، وتعظيمها ترك ملابستها "فهو خير له" أي فالتعظيم خبر له "عند ربه" يعني في الآخرة من التهاون بشيء منها. وقيل إن صيغة التفضيل هنا لا يراد بها معناها الحقيقي، بل المراد أن ذلك التعظيم خير ينتفع به، فهي عدة بخير "وأحلت لكم الأنعام" وهي الإبل والبقر والغنم "إلا ما يتلى عليكم" أي في الكتاب العزيز من المحرمات، وهي الميتة وما ذكر معها في سورة المائدة. وقيل في قوله " إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم ". "فاجتنبوا الرجس من الأوثان" الرجس: القذر، والوثن: التمثال، وأصله من وثن الشيء: أي أقام في مقامه، وسمي الصليب وثنا لأنه ينصب ويركز في مقامه، فلا يبرح عنه والمراد اجتناب عبادة الأوثان، وسماها رجساً لأنها سبب الرجس وهو العذاب. وقيل جعلها سبحانه رجساً حكماً، والرجس النجس، وليست النجاسة وصفاً ذاتياً لها ولكنها وصف شرعي، فلا تزول إلا بالإيمان كما أنها لا تزول النجاسة الحسية إلا بالماء. قال الزجاج: من هنا لتلخيص جنس من أجناس: أي فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن "واجتنبوا قول الزور" الذي هو الباطل، وسمي زوراً لأنه مائل عن الحق، ومنه قوله تعالى: "تزاور عن كهفهم" وقولهم مدينة زوراء: أي مائلة، والمراد هنا قول الزور على العموم، وأعظمه الشرك بالله بأي لفظ كان. وقال الزجاج: المراد بقول الزور ها هنا تحليلهم بعض الأنعام وتحريمهم بعضها، وقولهم هذا حلال وهذا حرام، وقيل المراد به شهادة الزور.