تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 343 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 343


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى ٱلاٌّرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَـٰدِرُونَ * فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّـٰتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـٰبٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَٰكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلأَكِلِيِنَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِى ٱلاٌّنْعَـٰمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَـٰفِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَقَالَ ٱلْمَلَؤُا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لاّنزَلَ مَلَـٰئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِىۤ ءَابَآئِنَا ٱلاٌّوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ * قَالَ رَبِّ ٱنصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ * فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسْلُكْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ * فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى نَجَّانَا مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ * وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ * إِنَّ فِى ذٰلِكَ لأَيَـٰتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ * ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * وَقَالَ ٱلْمَلأ مِن قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱلاٌّخِرَةِ وَأَتْرَفْنَـٰهُمْ فِى ٱلْحَيـوٰةِ ٱلدُّنْيَا مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَـٰسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظـٰماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ ٱفتَرَىٰ عَلَىٰ ٱللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبِّ ٱنْصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ * قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَـٰدِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ بِٱلْحَقِّ فَجَعَلْنَـٰهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ * ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءَاخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَايَسْتَأخِرُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَـٰهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَـٰرُونَ بِأايَـٰتِنَا وَسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ * إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَـٰلِينَ * فَقَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَـٰبِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ ٱلْمُهْلَكِينَ * وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَـٰبَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً وَءَاوَيْنَـٰهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}
قوله تعالى:
{وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى ٱلاٌّرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَـٰدِرُونَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أنزل من السماء ماء معظماً نفسه جل وعلا بصيغة الجمع المراد بها التعظيم وأن ذلك الماء الذي أنزله من السماء أسكنه في الأرض لينتفع به الناس في الآبار، والعيون، ونحو ذلك. وأنه جل وعلا قادر على إذهابه لو شاء أن يذهبه فيهلك جميع الخلق بسبب ذهاب الماء من أصله جوعاً وعطشاً وبين أنه أنزله بقدر أي بمقدار معين عنده يحصل به نفع الخلق ولا يكثره عليهم، حتى يكون كطوفان نوح لئلا يهلكهم، فهو ينزله بالقدر الذي فيه المصلحة، دون المفسدة سبحانه جل وعلا ما أعظمه وما أعظم لطفه بخلقه. وهذه المسائل الثلاث التي ذكرها في هذه الآية الكريمة، جاءت مبينة في غير هذا الموضع.
الأولى: التي هي كونه: أنزله بقدر أشار إليها في قوله: {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ}.
والثانية: التي هي إسكانه الماء المنزل من السماء في الأرض بينها في قوله جل وعلا {أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى ٱلاٌّرْضِ} والينبوع: الماء الكثير وقوله: {فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَـٰزِنِينَ} على ما قدمنا في الحجر.
والثالثة: التي هي قدرته على إذهابه أشار لها في قوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} ويشبه معناها قوله تعالى: {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَـٰهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} لأنه إذا صار ملحاً أجاجاً لا يمكن الشرب منه، ولا الانتفاع به صار في حكم المعدوم، وقد بين كيفية إنزاله الماء من السماء في قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} فصرح بأن الودق الذي هو المطر يخرج من خلال السحاب الذي هو المزن، وهو الوعاء الذي فيه الماء وبين أن السحابة تمتلىء من الماء حتى تكون ثقيلة لكثرة ما فيها من الماء في قوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَـٰهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} فقوله: ثقالاً جمع تقيلة، وثقلها إنما هو بالماء الذي فيها وقوله تعالى: {وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ} جمع سحابة ثقيلة.
وهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله يجمع الماء في المزن، ثم يخرجه من خلال السحاب، وخلال الشيء ثقوبه وفروجه التي هي غير مسدودة، وبين جل وعلا أنه هو الذي ينزله ويصرفه بين خلقه كيف يشاء، فيكثر المطر في بلاد قوم سنة، حتى يكثر فيها الخصب وتتزايد فيها النعم، ليبتلي أهلها في شكر النعمة، وهل يعتبرون بعظم الآية في إنزال الماء، ويقل المطر عليهم في بعض السنين، فتهلك مواشيهم من الجدب ولا تنبت زروعهم، ولا تثمر أشجارهم، ليبتليهم بذلك، هل يتوبون إليه، ويرجعون إلى ما يرضيه.
وبين أنه مع الإنعام العام على الخلق بإنزال المطر بالقدر المصلح وإسكان مائة في الأرض ليشربوا منه هم، وأنعامهم، وينتفعوا به أبى أكثرهم إلا الكفر به، وذلك في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لِّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَـٰماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَـٰهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُور}.
ولا شك أن من جملة من أبى منهم إلا كفوراً الذين يزعمون أن المطر لم ينزله منزل هو فاعل مختار، وإنما نزل بطبيعته، فالمنزل له عندهم: هو الطبيعة، وأن طبيعة الماء التبخر، إذا تكاثرت عليه درجات الحرارة من الشمس أو الاحتكاك بالريح، وأن ذلك البخار يرتفع بطبيعته. ثم يجتمع، ثم يتقاطر. وأن تقاطره ذلك أمر طبيعي لا فاعل له، وأنه هو المطر. فينكرون نعمة الله في إنزاله المطر وينكرون دلالة إنزاله على قدرة منزله، ووجوب الإيمان به واستحقاقه للعبادة وحده، فمثل هؤلاء داخلون في قوله {فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُور} بعد قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَـٰهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُو}. وقد صرح في قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَـٰهُ} أنه تعالى، هو مصرف الماء، ومنزلة حيث شاء كيف شاء. ومن قبيل هذا المعنى: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية في أثر السماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر بي: فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» هذا لفظ مسلم رحمه الله في صحيحه، ولا شك أن من قال: مطرنا ببخار كذا مسنداً ذلك للطبيعة، أنه كافر بالله مؤمن بالطبيعة والبخار. والعرب كانوا يزعمون أن بعض المطر أصله من البحر، إلا أنهم يسندون فعل ذلك الفاعل المختار جل وعلا، ومن أشعارهم في ذلك قول طرفة بن العبد:
لا تلمني إنها من نسوة رقد الصيف مقاليت نزر
كبنات البحر يمأدن إذا أنبت الصيف عساليج الخضر

فقوله: بنات البحر يعني: المزن التي أصل مائها من البحر.
وقول أبي ذؤيب الهذلي. سقى أم عمرو كل آخر ليلة حناتم غرماؤهن نجيج
شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج

ولا شك أن خالق السموات والأرض جل وعلا، هو منزل المطر على القدر الذي يشاء كيف يشاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
قوله تعالى: {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّـٰتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـٰبٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَٰكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}. قد قدمنا الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية الكريمة في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَـٰبَ} وغيرها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلأَكِلِيِنَ}. قوله: وشجرة: معطوف على: جنات من عطف الخاص على العام. وقد قدمنا مسوغه مراراً: أي فأنشأنا لكم به جنات، وأنشأنا لكم به شجرة تخرج من طور سيناء وهي شجرة الزيتون، كما أشار له تعالى بقوله {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ زَيْتُونَةٍ}، والدهن الذي تنبت به: هو زيتها المذكور في قوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىۤءُ} ومع الاستضاءة منها، فهي صبغ للآكلين: أي إدام يأتدمون به، وقرأ هذا الحرف: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: سيناء بكسر السين، وقرأ الباقون: بفتحها، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: تنبت بضم التاء، وكسر الباء الموحدة مضارع أنبت الرباعي، وقرأ الباقون: تنبت بفتح التاء، وضم الباء مضارع: نبت الثلاثي، وعلى هذه القراءة، فلا إشكال في حرف الباء في قوله: بالدهن: أي تنبت مصحوية بالدهن الذي يستخرج من زيتونها، وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو، ففي الباء إشكال، وهو أن أنبت الرباعي يتعدى بنفسه، ولا يحتاج إلى الباء وقد قدمنا النكتة في الإتيان بمثل هذه الباء في القرآن، وأكثرنا من أمثلته في القرآن، وفي كلام العرب في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى {وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ}، ولا يخفى أن أنبت الرباعي، على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو هنا: لازمة لا متعدية المفعول، وأنبت تتعدى، وتلزم فمن تعديها قوله تعالى:{يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ} وقوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـٰتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ} ومن لزومها قراءة ابن كثير، وأبي عمرو المذكورة، ونظيرها من كلام العرب قول زهير: رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطيناً بها حتى إذا أنبت البقل

فقوله: أنبت البقل لازم بمعنى: نبت، وهذا هو الصواب في قراءة: تنبت بضم التاء. خلافاً لمن قال: إنها مضارع أنبت المتعدي: وأن المفعول محذوف: أي تنبت زيتوتها، وفيه الزيت. وقال ابن كثير: الطور: هو الجبل، وقال بعضهم: إنما يسمى طوراً إذا كان فيه شجر، فإن عرى عن الشجر، سمي جبلاً لا طوراً. والله أعلم. وطور سيناء: هو طور سنين، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام، وما حوله من الجبال، التي فيها شجر الزيتون ا هـ محل الغرض من كلام ابن كثير.
وفي حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة» رواه أحمد ورواه الترمذي، وغيره عن عمر، والظاهر أنه لا يخلو من مقال، وقال فيه العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن عمر وابن ماجه فقط عن أبي هريرة، وصححه الحاكم على شرطهما ثم قال: وفي الباب عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. ا هـ منه والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِى ٱلاٌّنْعَـٰمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَـٰفِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}. قد قدمنا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية، وما يستفاد منها من الأحكام الفقيهة في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِى ٱلاٌّنْعَـٰمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهَ} مع بيان أوجه القراءة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}. الضمير في قوله: عليها راجع إلى الأنعام المذكورة في قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِى ٱلاٌّنْعَـٰمِ} وقد بين تعالى في هذه الآية: أنه يحمل خلقه على الأنعام، والمراد بها هنا الإبل، لأن الحمل عليها هو الأغلب، وعلى الفلك: وهي السفن ولفظ الفلك، يطلق على الواحد والجمع من السفن، وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة من الامتنان على خلقه بما يسر لهم من الركوب والحمل، على الأنعام والسفن جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى {ٱللَّهُ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاٌّنْعَـٰمَ لِتَرْكَـبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَامَنَـٰفِعُ وَلِتَـبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} وقوله في الأنعام {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعـٰماً فَهُمْ لَهَا مَـٰلِكُونَ * وَذَلَّلْنَـٰهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} وقوله فيها {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَـٰلِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} وقوله في الفلك والأنعام معاً {وَٱلَّذِى خَلَقَ ٱلأَزْوَٰجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلاٌّنْعَـٰمِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} وقوله في السفن {وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} وقوله: {سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلاٌّرْضِ وَٱلْفُلْكَ تَجْرِى فِى ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} وقوله تعالى: {وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} والآيات بمثل هذا كثيرة، وهذا من نعمه وآياته، وقرن الأنعام بالفلك في الآيات المذكورة لأن الإبل سفائن البر، كما قال ذو الرمة: ألا خيلت مني وقد نام صحبتي فما نفر التهويم إلا سلامها
طروقاً وجلب الرحل مشدودة بها سفينة بر تحت خدي زمامها

فتراه سمى ناقته سفينة بر وجلب الرحل بالضم والكسر عيدانه أو الرحل بما فيه:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوح} إلى قوله {وَمَا يَسْتَأخِرُونَ}. قد تقدمت الإشارة إلى ما فيه من الآيات، التي لها بيان في مواضع متعددة فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَـٰهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}. بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه بعد إرسال نوح والرسول المذكور بعده أرسل رسله تترى: أي متواترين واحداً بعد واحداً، وكل متتابع متتال تسميه العرب متواتراً، ومنه قول لبيد في معلقته: يعلو طريقة متنها متواتر في ليلة كفر النجوم غمامها

يعني: مطراً متتابعاً، أو غبار ريح متتابعاً، وتاء تترى مبدلة من الواو، وأنه كل ما أرسل رسولاً إلى أمة كذبوه فأهلكهم، وأتبع بعضهم بعضاً في الإهلاك المتسأصل بسبب تكذيب الرسل. وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة: جاء موضحاً في آيات كثيرة. وقد بينت آية استثناء أمة واحدة من هذا الإهلاك المذكور.
أما الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية فهي كثيرة جداً كقوله تعالى {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـٰفِرُونَ} وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَـٰرِهِم مُّقْتَدُونَ} وقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّبِىٍّ إِلاَ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً} والآيات بمثل هذا كثيرة جداً.
أما الآية التي بينت استثناء أمة واحدة من هذه الأمم فهي قوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَ}. وظاهر آية الصافات أنهم آمنوا إيماناً حقاً، وأن الله عاملهم به معاملة المؤمنين، وذلك في قوله في يونس {وَأَرْسَلْنَـٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَأامَنُواْ فَمَتَّعْنَـٰهُمْ إِلَىٰ حِينٍ} لأن ظاهر إطلاق قوله:
فآمنوا، يدل على ذلك. والعلم عند الله تعالى. ومن الأمم التي نص على أنه أهلكها وجعلها أحاديث سبأ، لأنه تعالى قال فيهم: {فَجَعَلْنَـٰهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَـٰهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} وقوله {فَجَعَلْنَـٰهُمْ أَحَادِيثَ} أي أخباراً وقصصاً يسمر بها، ويتعجب منها، كما قال ابن دريد في مقصورته: وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى

وقرأ هذا الحرف ابن كثير، وأبو عمرو: تترا بالتنوين: وهي لغة كنانة، والباقون بألف التأنيث المقصورة من غير تنوين: وهي لغة أكثر العرب، وسهل نافع وابن كثير وأبو عمرو والهمزة الثانية من قوله: جاء أمة، وقرأها الباقون بالتحقيق، كما هو معلوم وقوله {فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} مصدر لا يظهر عامله، وقد بعد بعداً بفتحتين، وبعداً بضم فسكون: أي هلك فقوله: بعدا: أي هلاكا مستأصلاً، كما قال تعالى {أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} قال الشاعر: قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا قول الأحبة لا تبعد وقد بعدا

وقد قال سيبويه: إن بعداً وسحقاً ودفراً أي نتنا من المصادر المنصوبة بأفعال لا تظهر. ا هـ ومن هذا القبيل قولهم: سقيا ورعيا، كقول نابغة ذبيان: نبئت نعما على الهجران عاتية سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري

والأحاديث في قوله: فجعلناهم أحاديث في مفرده وجهان معروفان.
أحدهما: أنه جمع حديث كما تقول: هذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، تريد بالأحاديث جمع حديث، وعلى هذا فهو من الجموع الجارية على غير القياس المشار لها بقول ابن مالك في الخلاصة: وحائد عن القياس كل ما خالف في البابين حكماً رسما

يعني بالبابين: التكسير والتصغير، كتكسير حديث على أحاديث وباطل على أباطيل، وكتصغير مغرب، على مغيربان، وعشية على عشيشية. وقال بعضهم: إنها اسم جمع للحديث.
الوجه الثاني: أن الأحاديث جمع أحدوثة التي هي مثل: أضحوكة، وألعوبة، وأعجوبة بضم الأول، وإسكان الثاني: وهي ما يتحدث به الناس تلهياً، وتعجباً ومنه بهذا المعنى قول توبة بن الحمير: من الخفرات البيض ود جليسها إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها

وهذا الوجه أنس هنا لجريان الجمع فيه على القياس، وجزم به الزمخشري. والعلم عند الله تعالى.