تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 383 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 383


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَـٰلِحاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يٰقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُواْ ٱطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ ٱللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ * وَكَانَ فِى ٱلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى ٱلاٌّرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ * قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ * وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَـٰهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوۤاْ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لاّيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ٱلْفَـٰحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * أَءِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَخْرِجُوۤاْ ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَـٰهَا مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ * قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَـٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَىٰ ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ ٱلاٌّرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءِلـٰهٌ مَّعَ ٱلله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ ٱلاٌّرْضِ أَءِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ أَءِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ تَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وٱلاٌّرْضِ أَءِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ * قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وٱلاٌّرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ٱدَٰرَكَ عِلْمُهُمْ فِى ٱلاٌّخِرَةِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً وَءَابَآؤُنَآ أَءِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَـٰذَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلاٌّوَّلِينَ * قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلاٌّرْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ * وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ * قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ ٱلَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِى ٱلسَّمَآءِ وَٱلاٌّرْضِ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ * إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ أَكْثَرَ ٱلَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ * إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ * فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّكَ عَلَى ٱلْحَقِّ ٱلْمُبِينِ}
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَـٰلِحاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ }.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أرسل نبيّه صالحًا إلى ثمود، {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ}، ولم يبيّن هنا خصومة الفريقين، ولكنّه بيّن ذلك في سورة «الأعراف»، في قوله تعالىٰ: {قَالَ ٱلْمَلاَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَـٰلِحاً مُّرْسَلٌ مّن رَّبّهِ قَالُواْ إِنَّا}، فهذه خصومتهم وأعظم أنواع الخصومة، الخصومة في الكفر والإيمان. {قَالَ يٰقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ}. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الرعد»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلَـٰتُ}. {قَالُواْ ٱطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ ٱللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ }. قوله: {ٱطَّيَّرْنَا بِكَ}، أي: تشاءمنا بك، وكان قوم صالح إذا نزل بهم قحط أو بلاء أو مصائب، قالوا: ما حاءنا هذا إلا من شؤم صالح، ومن آمن به. والتطيّر: التشاؤم، وأصل اشتقاقه من التشاؤم بزجر الطير.
وقد بيَّنا كيفية التشاؤم والتيامن بالطير في سورة «الأنعام»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}، وقوله تعالىٰ: {قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ ٱللَّهِ}، قال بعض أهل العلم: أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشرّكم عند اللَّه، فالشر الذي أصابكم بذنوبكم لا بشؤم صالح، ومن آمن به من قومه.
وقد قدّمنا معنى طائر الإنسان في سورة «بني إسرٰئيل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَكُلَّ إِنْسَـٰنٍ أَلْزَمْنَـٰهُ طَـئِرَهُ فِى عُنُقِهِ}، وما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من تشاؤم الكفار بصالح ومن معه من المؤمنين، جاء مثله موضحًا في آيات أُخر من كتاب اللَّه؛ كقوله تعالىٰ في تشاؤم فرعون وقومه بموسى: {فَإِذَا جَاءتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّا}، وقوله تعالىٰ في تطيّر كفار قريش بنبيّنا صلى الله عليه وسلم: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ}، والحسنة في الآيتين: النعمة كالرزق والخصب والعافية، والسيّئة: المصيبة بالجدب والقحط، ونقص الأموال، والأنفس، والثمرات؛ وكقوله تعالىٰ: {قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ طَـٰئِرُكُم مَّعَكُمْ}، أي: بليتكم جاءتكم من ذنوبكم وكفركم.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}، قال بعض العلماء: تختبرون. وقال بعضهم: تعذبون؛ كقوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ}، وقد قدّمنا أن أصل الفتنة في اللغة، وضع الذهب في النار ليختبر بالسبك أزائف هو أم خالص؟ وأنها أطلقت في القرءان على أربعة معان:
الأول: إطلاقها على الإحراق بالنار؛ كقوله تعالىٰ: {يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ}، وقوله تعالىٰ: {إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ}، أي: حرّقوهم بنار الأخدود على أحد التفسيرين، وقد اختاره بعض المحقّقين..
المعنى الثاني: إطلاق الفتنة على الاختبار، وهذا هو أكثرها استعمالاً؛ كقوله تعالىٰ: {وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً}، وقوله تعالىٰ: {وَأَلَّوِ ٱسْتَقَـٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَـٰهُم مَّاء غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
الثالث: إطلاق الفتنة على نتيجة الاختبار إن كانت سيّئة خاصة، ومن هنا أطلقت الفتنة على الكفر والضلال؛ كقوله تعالىٰ: {وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}، أي: لا يبقى شرك، وهذا التفسير الصحيح، دلَّ عليه الكتاب والسنّة.
أمّا الكتاب، فقد دلَّ عليه قوله بعده في «البقرة»: {وَيَكُونَ ٱلدّينُ للَّهِ}، وفي «الأنفال»: {وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ}، فإنه يوضح أن معنى: {لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}، أي: لا يبقى شرك؛ لأن الدين لا يكون كلّه للَّه، ما دام في الأرض شرك، كما ترى.
وأمّا السنة: ففي قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إلٰه إلاّ اللَّه»، الحديث. فقد جعل صلى الله عليه وسلم الغاية التي ينتهي إليها قتاله للناس، هي شهادة ألا إلٰه إلاّ اللَّه، وأنّ محمّداً رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو واضح في أن معنى: {لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}: لا يبقى شرك، فالآية والحديث كلاهما دالّ على أن الغاية التي ينتهي إليها قتال الكفاء هي ألا يبقى في الأرض شرك، إلاّ أنّه تعالىٰ في الآية عبّر عن هذا المعنى بقوله: {حَتَّىٰ تَكُونَ فِتْنَةً}، وقد عبّر صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: «حتى يشهدوا ألا إلٰه إلاّ اللَّه»، فالغاية في الآية والحديث واحدة في المعنى، كما ترى.
الرابع: هو إطلاق الفتنة على الحجّة، في قوله تعالىٰ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، أي: لم تكن حجتهم، كما قاله غير واحد، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. قوله تعالىٰ: {قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ}. قد دلَّت هذه الآية الكريمة على أن نبيّ اللَّه صالحًا عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام نفعه اللَّه بنصرة وليّه، أي: أوليائه؛ لأنه مضاف إلى معرفة، ووجه نصرتهم له: أن التسعة المذكورين في قوله تعالىٰ: {وَكَانَ فِى ٱلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى ٱلاْرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ * قَالُواْ تَقَاسَمُوا}، أي: تحالفوا باللَّه، {لَنُبَيّتَنَّهُ}، أي: لنباغتنه بياتًا، أي: ليلاً فنقتله ونقتل أهله معه، {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ}، أي: أوليائه وعصبته، {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ}، أي: ولا مهلكه هو، وهذا يدلّ على أنهم لا يقدرون أن يقتلوه علنًا، لنصرة أوليائه له، وإنكارهم شهود مهلك أهله دليل على خوفهم من أوليائه، والظاهر أن هذه النصرة عصبية نسبية لا تمتّ إلى الدين بصلة، وأن أولياءه ليسوا مسلمين.
وقد قدّمنا الآيات الموضحة لهذا المعنى في سورة «هود»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {قَالُواْ يأَبَانَا * شُعَيْبٌ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـٰكَ}، وفي سورة «بني إسرٰئيل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ}. وقوله تعالىٰ في هذه الآية: {تَقَاسَمُوا}، التحقيق أنه فعل أمر محكي بالقول. وأجاز الزمخشري، وابن عطية أن يكون ماضيًا في موضع الحال، والأوّل هو الصواب إن شاء اللَّه، ونسبه أبو حيان للجمهور، وقوله في هذه الآية: {وِإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ}، التحقيق فيه أنهم كاذبون في قولهم: {وِإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ}، كما لا يخفى، وبه تعلم أن ما تكلفه الزمخشري في «الكشاف»، من كونهم صادقين لا وجه له، كما نبّه عليه أبو حيان وأوضحه، وقرأ عامة السبعة غير حمزة والكسائي {لَنُبَيّتَنَّهُ} بالنون المضمومة بعد اللام، وفتح الفوقية المثناة التي بعد التحتية المثناة، وقرأ حمزة والكسائي: {لَنُبَيّتَنَّهُ} بالتاء الفوقية المضمومة بعد اللام، وضمّ التاء الفوقية التي بعد الياء التحتية، وقرأ عامة السبعة أيضاً غير حمزة والكسائي: {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ}، بالنون المفتوحة موضع التاء، وفتح اللام الثانية، وقرأ حمزة والكسائي: {ثُمَّ}، بفتح التاء الفوقية بعد اللام الأولى، وضمّ اللام الثانية، وقرأ عاصم: {شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} بفتح الميم، والباقون بضمّها، وقرأ حفص عن عاصم: {مُهْلِكَ} بكسر اللام، والباقون بفتحها.
فتحصل أن حفصًا عن عاصم قرأ {مُهْلِكَ} بفتح الميم وكسر اللام، وأن أبا بكر ــ أعني شعبة ــ قرأ عن عاصم: {مُهْلِكَ} بفتح الميم واللام، وأن غير عاصم قرأ: {مَهْلِكَ أَهْلِهِ}، بضم الميم وفتح اللام، فعلى قراءة من قرأ {مُهْلِكَ} بفتح الميم، فهو مصدر ميمي من هلك الثلاثي، ويحتمل أن يكون اسم زمان أو مكان، وعلى قراءة من قرأ {مُهْلِكَ} بضم الميم، فهو مصدر ميمي من أهلك الرباعي، ويحتمل أن يكون أيضًا اسم مكان أو زمان. قوله تعالىٰ: {فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَـٰهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوۤاْ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لاّيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}. ذكر جلَّ وعلا في هذه الآيات الكريمة، ثلاث أمور:
الأول: أنه دمّر جميع قوم صالح، ومن جملتهم تسعة رهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وذلك في قوله: {أَنَّا دَمَّرْنَـٰهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}، أي: وهم قوم صالح ثمود، {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً}، أي: خالية من السكان لهلاك جميع أهلها، {بِمَا ظَلَمُو}، أي: بسبب ظلمهم الذي هو كفرهم وتمرّدهم وقتلهم ناقة اللَّه التي جعلها آية لهم، وقال بعضهم: {خَاوِيَةٍ}، أي: ساقطًا أعلاها على أسفلها.
الثاني: أنه جلَّ وعلا جعل إهلاكه قوم صالح آية، أي: عبرة يتّعظ بها من بعدهم، فيحذر من الكفر، وتكذيب الرسل، لئلا ينزل به ما نزل بهم من التدمير، وذلك في قوله: {إِنَّ فِى ذٰلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
الثالث: أنه تعالىٰ أنجى الذين آمنوا وكانوا يتّقون من الهلاك والعذاب، وهو نبيّ اللَّه صالح ومن آمن به من قومه، وذلك في قوله تعالىٰ: {وَأَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}، وهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها جلَّ وعلا هنا، جاءت موضحة في آيات أُخر.
أما إنجاؤه نبيّه صالحًا، ومن آمن به وإهلاكه ثمود، فقد أوضحه جلَّ وعلا في مواضع من كتابه؛ كقوله في سورة «هود»: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَـٰلِحاً وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْقَوِىُّ ٱلْعَزِيزُ وَأَخَذَ}. وآية «هود» هذه، قد بيَّنت أيضًا التدمير المجمل في آية «النمل» هذه، فالتدمير المذكور في قوله تعالىٰ: {أَنَّا دَمَّرْنَـٰهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}، بيّنت آية «هود» أنه الإهلاك بالصيحة، في قوله تعالىٰ: {وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَـٰثِمِينَ}، أي: وهم موتى. وأمّا كونه جعل إهلاكه إياهم أية، فقد أوضحه أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالىٰ فيهم: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَـٰدِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ}، وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {أَنَّا دَمَّرْنَـٰهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}، قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: {أَنَّا دَمَّرْنَـٰهُمْ} بكسرة همزة {أَنَ} على الاستئناف، وقرأه الكوفيون وهم: عاصم وحمزة والكسائي: {أَنَّا دَمَّرْنَـٰهُمْ}، بفتح همزة {أَنَ}. وفي إعراب المصدر المنسبك من أن وصلتها على قراءة الكوفيين أوجه، منها: أنه بدل من عاقبة مكرهم، ومنها: أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره هي، أي: عاقبة مكرهم تدميرنا إياهم.
وهذان الوجهان هما أقرب الأوجه عندي للصواب، ولذا تركنا غيرهما من الأوجه، والضمير في قوله: {مَكْرِهِمْ}، وفي قوله: {دَمَّرْنَـٰهُمْ}، راجع إلى التسعة المذكورين في قوله: {وَكَانَ فِى ٱلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ}، وقوله: {خَاوِيَةٍ} حال في بيوتهم، والعامل فيه الإشارة الكامنة في معنى تلك. قوله تعالىٰ: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ٱلْفَـٰحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} إلى قوله تعالى {فَسَآءَ مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ}. قد قدّمنا الآيات التي فيها إيضاح قصة لوط وقومه في سورة «هود»، في الكلام على قصة لوط وقومه، وبيّنا هناك كلام أهل العلم ومناقشة أدلّتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط، وذكرنا الآيات المبيّنة لها أيضًا في سورة «الحجر»، في الكلام على قصة لوط وقومه، وذكرنا بعض ذلك في سورة «الفرقان». وقوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّ}. وقوله تعالىٰ: {أَمَّن جَعَلَ ٱلاٌّرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَار}. قد أوضحنا ما تضمُّنته من البراهين على البعث في أوّل سورة «البقرة»، وأوّل سورة «النحل». قوله تعالىٰ: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وٱلاٌّرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الأنعام»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}، وفي مواضع أُخر. قوله تعالىٰ: {بَلِ ٱدَٰرَكَ عِلْمُهُمْ فِى ٱلاٌّخِرَةِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ}. أظهر أقوال أهل العلم عندي في هذه الآية الكريمة أن المعنى: {بَلِ ٱدرَكَ عِلْمُهُمْ}، أي: تكامل علمهم في الآخرة حين يعاينونها، أي: يعلمون في الآخرة علمًا كاملاً، ما كانوا يجهلونه في الدنيا، وقوله: {بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ}، أي: في دار الدنيا، فهذا الذي كانوا يشكّون فيه في دار الدنيا، ويعمون عنه مما جاءتهم به الرسل، يعلمونه في الآخرة علمًا كاملاً لا يخالجه شكّ، عند معاينتهم لما كانوا ينكرونه منه البعث والجزاء.
وإنما اخترنا هذا القول دون غيره من أقوال المفسّرين في الآية، لأن القرءان دلَّ عليه دلالة واضحة في آيات متعدّدة؛ كقوله تعالىٰ: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَـٰكِنِ ٱلظَّـٰلِمُونَ ٱلْيَوْمَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ}، فقوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا}، بمعنى: ما أسمعهم وما أبصرهم للحق الذي كانوا ينكرونه يوم يأتوننا، أي: يوم القيامة، وهذا يوضح معنى قوله: {بَلِ ٱدرَكَ عِلْمُهُمْ فِى ٱلاْخِرَةِ}، أي: تكامل علمهم فيها لمبالغتهم في سمع الحق وإبصاره في ذلك الوقت، وقوله: {لَـٰكِنِ ٱلظَّـٰلِمُونَ ٱلْيَوْمَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ}، يوضح معنى قوله: {بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ}، لأن ضلالهم المبيّن اليوم، أي: في دار الدنيا، هو شكّهم في الآخرة، وعماهم عنها؛ وكقوله تعالىٰ: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ}، أي: علمك اليوم بما كنت تنكره في الدنيا مما جاءتك به الرسل حديد، أي: قوي كامل.
وقد بيَّنا في كتابنا «دفع إبهام الاضطراب عن آيات الكتاب»، في سورة «الشورى»، في الجواب عمّا يتوهم من التعارض بين قوله تعالىٰ: {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ}، وقوله تعالىٰ: {فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ}، أن المراد بحدّة البصر في ذلك اليوم: كما العلم وقوّة المعرفة. وقوله تعالىٰ: {وَلَوْ تَرَى ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}، فقوله: {إِنَّا مُوقِنُونَ} أي: يوم القيامة، يوضح معنى قوله هنا: {بَلِ ٱدرَكَ عِلْمُهُمْ فِى ٱلاْخِرَةِ}، وكقوله تعالىٰ: {وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبّكَ صَفَّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً}، فعرضهم على ربهم صفًّا يتدارك به علمهم، لما كانوا ينكرونه، وقوله: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا}، صريح في أنهم في الدنيا كانوا في شكّ وعمى عن البعث والجزاء كما ترى، إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن قوله: {بَلِ ٱدرَكَ}، فيه اثنتا عشرة قراءة اثنتان منها فقط سبعيّتان، فقد قرأه عامّة السبعة، غير ابن كثير وأبي عمرو: {بَلِ ٱدرَكَ} بكسر اللام من {بَلِ} وتشديد الدال بعدها ألف والألف التي قبل الدال همزة وصل، وأصله: تدارك بوزن: تفاعل، وقد قدّمنا وجه الإدغام، واستجلاب همزة الوصل في تفاعل وتفعل وأمثلة ذلك في القرءان، وبعض شواهده العربية في سورة «طه»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو: {بَلِ ٱدرَكَ} بسكون اللام من {بَلِ}، وهمزة قطع مفتوحة، مع سكون الدال على وزن: أفعل.
والمعنى على قراءة الجمهور: {بَلِ ٱدرَكَ عِلْمُهُمْ}، أي: تدارك بمعنى تكامل؛ كقوله: {حَتَّى إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا}، وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو: {بَلِ ٱدرَكَ}.
قال البغوي: أي بلغ ولحق، كما يقال: أدرك علمي إذا لحقه وبلغه، والإضراب في قوله تعالىٰ: {بَلِ ٱدرَكَ}، {بْل هُمْ فَى شَكّ}، {بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ}، إضراب انتقالي، والظاهر أن من في قوله تعالىٰ: {بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ}، بمعنى: عن، و {عَمُونَ} جمع عم، وهو الوصف من عمى يعمي فهو أعمى وعم، ومنه قوله تعالىٰ: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ}، وقول زهير في معلّقته: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غدعم
قوله تعالىٰ: {إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ أَكْثَرَ ٱلَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. ومن ذلك اختلافهم في عيسى، فقد قدَّمنا في سورة «مريم»، ادّعاءهم على أُمّه الفاحشة، مع أن طائفة منهم آمنت به؛ كما يشير إليه قوله تعالىٰ: {يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ أَنصَـٰرَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنَّصَـٰرِى إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوٰرِيُّونَ نَحْنُ}،والطائفة التي آمنت قالت الحق في عيسى، والتي كفرت افترت عليه وعلى أُمّه، كما تقدّم إيضاحه في سورة «مريم».
وقد قصّ اللَّه عليهم في سورة «مريم» و سورة «النساء» وغيرهما، حقيقة عيسى ابن مريم، وهي أنه {عَبْدُ ٱللَّهِ} ورسوله {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَـٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ}، ولمّا بيَّن لهم حقيقة أمره مفصّلة في سورة «مريم»، قال: {ذٰلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ ٱلْحَقّ ٱلَّذِى فِيهِ يَمْتُرُونَ}، وذلك يبيّن بعض ما دلّ عليه قوله تعالىٰ هنا: {إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ أَكْثَرَ ٱلَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. قوله تعالىٰ: {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ}. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في أوّل سورة «الكهف»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَـٰبَ}.