تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 419 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 419


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظاً * لِّيَسْأَلَ ٱلصَّـٰدِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلاٌّبْصَـٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ * هُنَالِكَ ٱبْتُلِىَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يٰأَهْلَ .يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ لاّتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُواْ عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلاٌّدْبَـٰرَ وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً * قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِى يَعْصِمُكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَٰنِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِى يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَـٰلَهُمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً * يَحْسَبُونَ ٱلاٌّحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ ٱلاٌّحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى ٱلاٌّعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً * لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلاٌّخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً * وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلاٌّحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً *مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً * لِّيَجْزِىَ ٱللَّهُ ٱلصَّـٰدِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَـٰهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـٰرَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيراً * يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لاٌّزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلاٌّخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَـٰتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً * يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـٰحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَـٰلِحاً نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً * يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلاٍّولَىٰ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَـوٰةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيــراً * وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِى بُيُوتِكُـنَّ مِنْ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْــمَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً * إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَـٰتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْقَـٰنِتِينَ وَٱلْقَـٰنِتَـٰتِ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلصَّـٰدِقَـٰتِ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰبِرَٰتِ وَٱلْخَـٰشِعِينَ وَٱلْخَـٰشِعَـٰتِ وَٱلْمُتَصَدِّقِينَ وَٱلْمُتَصَدِّقَـٰتِ وٱلصَّـٰئِمِينَ وٱلصَّـٰئِمَـٰتِ وَٱلْحَـٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَٱلْحَـٰفِـظَـٰتِ وَٱلذَٰكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً * وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلاً مُّبِيناً * وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِىۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـٰهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَـٰكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِىۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً * مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِى ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً * ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالـٰتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً * مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيم}
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظاً }.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أخذ من النبيّين ميثاقهم، ثم خصّ منهم بذلك خمسة: هم أولوا العزم من الرسل، وهم محمّد صلى الله عليه وسلم، ونوح، وإبرٰهيم، وموسى، وعيسى. ولم يبيّن هنا الميثاق الذي أخذه عليهم، ولكنه جلَّ وعلا بيَّن ذلك في غير هذا الموضع؛ فبيّن الميثاق المأخوذ على جميع النبيّين بقوله تعالىٰ في سورة «آل عمران»: {وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـٰبٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ}. وقد قدّمنا الكلام على هذه الآية في سورة «مريم»، في الكلام على قصة الخضر، وقد بيَّن جلَّ وعلا الميثاق الذي أخذه على خصوص الخمسة الذين هم أُولوا العزم من الرسل في سورة «الشورى»، في قوله تعالىٰ: {شَرَعَ لَكُم مّنَ ٱلِدِينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ * إِبْرٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ}.
وبما ذكرنا تعلم أن آية «آل عمران»، وآية «الشورى»، فيهما بيان لآية «الأحزاب» هذه.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} من عطف الخاص على العام، وقد تكلّمنا عليه مرارًا، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَ}. أمر اللَّه جلَّ وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة أن يذكروا نعمته عليهم حين جاءتهم جنود وهم جيش الأحزاب، فأرسل جلَّ وعلا عليهم ريحًا وجنودًا لم يرها المسلمون، وهذه الجنود التي لم يروها التي امتنّ عليهم بها هنا في سورة «الأحزاب»، بيَّن أنه منّ عليهم بها أيضًا في غزوة حنين، وذلك في قوله تعالىٰ: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلارْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا}، وهذه الجنود هي الملائكة، وقد بيَّن جلَّ وعلا ذلك في «الأنفال»، في الكلام على غزوة بدر، وذلك في قوله تعالىٰ: {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلَـئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلاعْنَـٰقِ}، وهذه الجنود التي لم يروها التي هي الملائكة، قد بيَّن اللَّه جلَّ وعلا في «براءة»، أنّه أيَّد بها نبيّه صلى الله عليه وسلم وهو في الغار، وذلك في قوله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا}. {وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلاٌّحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً }. ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين لما رأوا الأحزاب يعني جنود الكفار الذين جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، في غزوة الخندق، قالوا: {هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ}، ولم يبيّن هنا الآية التي وعدهم إياه فيها، ولكنّه بيّن ذلك في سورة «البقرة»، في قوله تعالىٰ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ}،وممن قال إن آية «البقرة» المذكورة مبيّنة لآية «الأحزاب» هذه: ابن عباس، وقتادة وغير واحد، وهو ظاهر.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانً}، صريح في أن الإيمان يزيد، وقد صرّح اللَّه بذلك في آيات من كتابه، فلا وجه للاختلاف فيه مع تصريح اللَّه جلَّ وعلا به في كتابه، في آيات متعدّدة؛ كقوله تعالىٰ: {لِيَزْدَادُواْ إِيمَـٰناً مَّعَ إِيمَـٰنِهِمْ}، وقوله تعالىٰ: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ}، إلى غير ذلك من الآيات. {وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ}. ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ردّ الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا، وأنه كفى المؤمنين القتال، وهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ولم يبيّن هنا السبب الذي ردّ به الذين كفروا وكفى به المؤمنين القتال، ولكنه جلَّ وعلا بيَّن ذلك بقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا}، أي: وبسبب تلك الريح وتلك الجنود ردّهم بغيظهم وكفاكم القتال، كما هو ظاهر. {يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـٰحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}. قد قدّمنا الآية الموضحة له في آخر سورة «النمل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَمَن جَاء بِٱلسَّيّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى ٱلنَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، وفي سورة «بني إسرٰئيل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {إِذًا لأَذَقْنَـٰكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَوٰةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ}. {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَـٰلِحاً نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ}. ذكر اللَّه جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن من قنت من نساء نبيّه صلى الله عليه وسلم للَّه ولرسوله، وعمل عملاً صالحًا أن اللَّه جلَّ وعلا يؤتها أجرها مرّتين. والقنوت: الطاعة. وما وعد اللَّه به جلَّ وعلا من أطاع منهن بإيتائها أجرها مرتين في هذه الآية الكريمة، جاء الوعد بنظيره لغيرهن في غير هذا الموضع، فمن ذلك وعده لمن آمن من أهل الكتاب بنبيّه، ثم آمن بمحمّد صلى الله عليه وسلم بإتيائه أجره مرّتين، وذلك في قوله تعالىٰ: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَـئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ}.
ومن ذلك وعده لجميع المطيعين من أُمّته صلى الله عليه وسلم بإيتائهم كفلين من رحمته تعالىٰ، وذلك في قوله جلَّ وعلا: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}.
واعلم: أن ظاهر هذه الآية الكريمة من سورة «الحديد»، الذي لا ينبغي العدول عنه، أن الخطاب بقوله تعالىٰ: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ}، عام لجميع هذه الأُمّة كما ترى. وليس في خصوص مؤمني أهل الكتاب، كما في آية «القصص» المذكورة آنفًا، وكونه عامًا هو التحقيق إن شاء اللَّه؛ لظاهر القرءان المتبادر الذي لم يصرف عنه صارف، فما رواه النسائي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما من حمله آية «الحديد» هذه على خصوص أهل الكتاب، كما في آية «القصص»، خلاف ظاهر القرءان، فلا يصح الحمل عليه إلاّ بدليل يجب الرجوع إليه، وإن وافق ابن عباس في ذلك الضحاك، وعتبة بن أبي حكيم وغيرهما، واختاره ابن جرير الطبري.
والصواب في ذلك إن شاء اللَّه هو ما ذكرنا، لأن المعروف عند أهل العلم: أن ظاهر القرءان المتبادر منه، لا يجوز العدول عنه، إلا لدليل يجب الرجوع إليه.
وقال ابن كثير: وقال سعيد بن جبير: لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين، أنزل اللَّه تعالىٰ على نبيّه هذه الآية في حقّ هذه الأُمّة: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ}، أي: ضعفين {مّن رَّحْمَتِهِ}، وزادهم {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}، ففضلهم بالنور والمغفرة، اهــ. نقله عنه ابن جرير، وابن كثير، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيــراً }. قد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمّنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في نفس الآية قرينة تدلّ على عدم صحة ذلك القول، وذكرنا لذلك أمثلة متعدّدة في الترجمة، وفي مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبارك.
ومما ذكرنا من أمثلة ذلك في الترجمة قولنا فيها: ومن أمثلته قول بعض أهل العلم: إن أزواجه صلى الله عليه وسلم لا يدخلن في أهل بيته، في قوله تعالىٰ: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيــرا}، فإن قرينة السياق صريحة في دخولهن؛ لأن اللَّه تعالىٰ قال: {قُل لاْزْوٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ}، ثم قال في نفس خطابه لهن: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ}، ثم قال بعده: {وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِى بُيُوتِكُـنَّ}.
وقد أجمع جمهور علماء الأصول على أن صورة سبب النزول قطعية الدخول، فلا يصح إخراجها بمخصص، وروي عن مٰلك أنها ظنيّة الدخول، وإليه أشار في «مراقي السعود»، بقوله: واجزم بإدخال ذوات السبب واروِ عن الإمام ظنًّا تصب

فالحق أنهن داخلات في الآية، اهــ. من ترجمة هذا الكتاب المبارك.
والتحقيق إن شاء اللَّه: أنهن داخلات في الآية، وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت.
أمّا الدليل على دخولهن في الآية، فهو ما ذكرناه آنفًا من أن سياق الآية صريح في أنها نازلة فيهنّ.
والتحقيق: أن صورة سبب النزول قطعية الدخول؛ كما هو مقرّر في الأصول.
ونظير ذلك من دخول الزوجات في اسم أهل البيت، قوله تعالىٰ في زوجة إبرٰهيم: {قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ رَحْمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَـٰتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ}.
وأمّا الدليل على دخول غيرهن في الآية، فهو أحاديث جاءت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنّه قال في عليّ وفاطمة والحسن والحسين رضي اللَّه عنهم: «إنهم أهل البيت»، ودعا لهم اللَّه أن يذهب عنهم الرجس ويطهّرهم تطهيرًا. وقد روى ذلك جماعة من الصحابة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم أُمّ المؤمنين أُمّ سلمة رضي اللَّه عنها، وأبو سعيد، وأنس، وواثلة بن الأسقع، وأُمّ المؤمنين عائشة، وغيرهم رضي اللَّه عنهم.
وبما ذكرنا من دلالة القرءان والسنة، تعلم أن الصواب شمول الآية الكريمة لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولعليّ وفاطمة والحسن والحسين، رضي اللَّه عنهم كلّهم.
تنبيـــه
فإن قيل: إن الضمير في قوله: {لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرّجْسَ}، وفي قوله: {وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيــرا}، ضمير الذكور، فلو كان المراد نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم لقيل: ليذهب عنكن ويطهركن.
فالجواب من وجهين:
الأول: هو ما ذكرنا من أن الآية الكريمة شاملة لهنّ ولعليّ والحسن والحسين وفاطمة، وقد أجمع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجموع ونحوها، كما هو معلوم في محله.
الوجه الثاني: هو أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرءان أن زوجة الرجل يطلق عليها اسم الأهل، وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر، ومنه قول تعالىٰ في موسى: {فَقَالَ لاِهْلِهِ ٱمْكُثُوا}، وقوله: {سَـئَاتِيكُمْ}، وقوله: {لَّعَـلّى ءاتِيكُمْ}، والمخاطب امرأته؛ كما قاله غير واحد، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر: فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخًا ولا بردا

وبما ذكرنا تعلم أن قول من قال: إن نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم لسن داخلات في الآية، يردّ عليه صريح سياق القرءان، وأن من قال: إن فاطمة وعليًّا والحسن والحسين ليسوا داخلين فيها، تردّ عليه الأحاديث المشار إليها.
وقال بعض أهل العلم: إن أهل البيت في الآية هم من تحرم عليهم الصدقة، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ}، يعني: أنه يذهب الرجس عنهم، ويطهرهم بما يأمر به من طاعة اللَّه، وينهى عنه من معصيته؛ لأن من أطاع اللَّه أذهب عنه الرجس، وطهّره من الذنوب تطهيرًا.
وقال الزمخشري في «الكشاف»: ثم بيّن أنه إنما نهاهنّ وأمرهن ووعظهن لئلا يقارف أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المآثم، وليتصوّنوا عنها بالتقوى، واستعار للذنوب الرجس، وللتقوى الطهر؛ لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوّث بها ويتدنّس كما يلتوّث بدنة بالأرجاس. وأمّا الحسنات فالعرض منها نقي مصون كالثوب الطاهر، وفي هذه الاستعارة ما ينفر أُولي الألباب عما كرهه اللَّه لعباده، ونهاهم عنه، ويرغّبهم فيما يرضاه لهم، وأمرهم به. وأهل البيت نصب على النداء أو على المدح، وفي هذا دليل بيّن على أن نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم من أهل بيته.
تنبيــه
اعلم أنه يكثر في القرءان العظيم، وفي اللغة إتيان اللام المكسورة منصوبًا بعدها المضارع بعد فعل الإرادة؛ كقوله هنا: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرّجْسَ}، وقوله: {يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ}، وقوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ}، وقوله تعالىٰ: {مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ}، إلى غير ذلك من الآيات. وكقول الشاعر: أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل

وللعلماء في اللام المذكورة أقوال، منها: أنها مصدرية بمعنى أن، وهو قول غريب. ومنها: أنها لام كي، ومفعول الإرادة محذوف، والتقدير: إنما يريد اللَّه أن يأمركم وينهاكم، لأجل أن يذهب عنكم الرجس، والرجس كل مستقذر تعافه النفوس، ومن أقذر المستقذرات معصية اللَّه تعالىٰ. {وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ}. قد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمّنها بيان الإجمال الواقع بسبب الإبهام في صلة موصول، وذكرنا أن من أمثلة ذلك قوله تعالىٰ: {وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ}، لأن جملة: {ٱللَّهُ مُبْدِيهِ} صلة الموصول الذي هو {مَ}. وقد قلنا في الترجمة المذكورة: فإنه هنا أبهم هذا الذي أخفاه صلى الله عليه وسلم في نفسه وأبداه اللَّه، ولكنه أشار إلى أن المراد به زواجه صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي اللَّه عنها، حيث أوحى إليه ذلك، وهي في ذلك الوقت تحت زيد بن حارثة؛ لأن زواجه إياها هو الذي أبداه اللَّه بقوله: {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَـٰكَهَ}، وهذا هو التحقيق في معنى الآية الذي دلَّ عليه القرءان، وهو اللائق بجنابه صلى الله عليه وسلم.
وبه تعلم أن ما يقوله كثير من المفسّرين من أن ما أخفاه في نفسه صلى الله عليه وسلم وأبداه اللَّه وقوع زينب في قلبه ومحبّته لها، وهي تحت زيد، وأنها سمعته، قال: «سبحان مقلب القلوب» إلى آخر القصّة، كله لا صحة له، والدليل عليه أن اللَّه لم يبدِ من ذلك شيئًا، مع أنه صرّح بأنه مبدي ما أخفاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، انتهى محل الغرض من كلامنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك.
وقال القرطبي رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية: واختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة، وابن زيد، وجماعة من المفسّرين، منهم: الطبري. وغيره: إلى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش وهي في عصمة زيد، وكان حريصًا على أن يطلقها زيد فيتزوّجها هو، إلى أن قال: وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف، يعني قوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}، اهــ. ولا شكّ أن هذا القول غير صحيح، وأنه غير لائق به صلى الله عليه وسلم.
ونقل القرطبي نحوه عن مقاتل، وابن عباس أيضًا، وذكر القرطبي عن علي بن الحسين أن اللَّه أوحى إلى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن زيدًا سيطلق زينب، وأن اللَّه يزوجها رسوله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن علم هذا بالوحي. قال لزيد: «أمسك عليك زوجك». وأن الذي أخفاه في نفسه، هو أن اللَّه سيزوّجه زينب رضي اللَّه عنها، ثم قال القرطبي، بعد أن ذكر هذا القول: قال علماؤنا رحمة اللَّه عليهم: وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية. وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسّرين، والعلماء الراسخين، كالزهري، والقاضي بكر بن العلاء القشيري، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم، إلى أن قال: فأمّا ما روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم هوى زينب امرأة زيد، وربما أطلق بعض المجان لفظ عشق، فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبيّ صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا أو مستخفّ بحرمته.
قال الترمذي الحكيم في نوارد الأصول، وأسند إلى عليّ بن الحسين قوله: فعلي بن الحسين جاء بهذا من خزانة العلم جوهرًا من الجواهر ودرًّا من الدرر أنه إنما عتب اللَّه عليه في أنه قد أعلمه، أن ستكون هذه من أزواجم، فكيف قال بعد ذلك لزيد: «أمسك عليك زوجك»، وأخذتك خشية الناس أن يقولوا: تزوّج امرأة ابنه، واللَّه أحق أن تخشاه، انتهى محل الغرض منه.
وقال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية: ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هٰهنا آثارًا عن بعض السلف رضي اللَّه عنهم، أحببنا أن نضرب عنها صفحًا لعدم صحتها، فلا نوردها إلى آخر كلامه، وفيه كلام علي بن الحسين الذي ذكرنا آنفًا.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : التحقيق إن شاء اللَّه في هذه المسألة، هو ما ذكرنا أن القرءان دلَّ عليه، وهو أن اللَّه أعلم نبيّه صلى الله عليه وسلم بأن زيدًا يطلّق زينب، وأنه يزوّجها إيّاه صلى الله عليه وسلم، وهي في ذلك الوقت تحت زيد، فلما شكاها زيد إليه صلى الله عليه وسلم قال له: «أمسك عليك زوجك واتق اللَّه»، فعاتبه اللَّه على قوله: «أمسك عليك زوجك» بعد علمه أنها ستصير زوجته هو صلى الله عليه وسلم، وخشي مقالة الناس أن يقولوا: لو أظهر ما علم من تزويجه إياها أنه يريد تزويج زوجة ابنه في الوقت الذي هي فيه في عصمة زيد.
والدليل على هذا أمران:
الأول: هو ما قدّمنا من أن اللَّه جلَّ وعلا، قال: {وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ}، وهذا الذي أبداه اللَّه جلَّ وعلا، هو زواجه إياها في قوله: {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَـٰكَهَا}، ولم يبدِ جلَّ وعلا شيئًا ممّا زعموه أنه أحبها، ولو كان ذلك هو المراد لأبداه اللَّه تعالى، كما ترى.
الأمر الثاني: أن اللَّه جلَّ وعلا صرّح بأنه هو الذي زوّجه إياها، وأن الحكمة الإلٰهية في ذلك التزويج هي قطع تحريم أزواج الأدعياء في قوله تعالىٰ: {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَـٰكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}، فقوله تعالىٰ: {لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ}، تعليل صريح لتزويجه إياها لما ذكرنا، وكون اللَّه هو الذي زوّجه إياها لهذه الحكمة العظيمة صريح في أن سبب زواجه إياها ليس هو محبّته لها التي كانت سببًا في طلاق زيد لها كما زعموا، ويوضحه قوله تعالىٰ: {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَرا} الآية؛ لأنه يدلّ على أن زيدًا قضى وطره منها، ولم تبقَ له بها حاجة، فطلّقها باختياره، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.