تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 449 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 449


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {وَيَقُولُونَ أَءِنَّا لَتَارِكُوۤا ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ * بَلْ جَآءَ بِٱلْحَقِّ وَصَدَّقَ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو ٱلْعَذَابَ ٱلاٌّلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ * أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَٰكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِى جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ * عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّـٰرِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ * وَعِندَهُمْ قَـٰصِرَٰتُ ٱلطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ * يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ * أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـٰماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ * فَٱطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ * قَالَ تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّى لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا ٱلاٍّولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَـٰمِلُونَ * أَذَٰلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَـٰهَا فِتْنَةً لِّلظَّـٰلِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِىۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَـٰطِينِ * فَإِنَّهُمْ لاّكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى ٱلْجَحِيمِ * إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ * فَهُمْ عَلَىٰ ءَاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ * وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ ٱلاٌّوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ * فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُنذَرِينَ * إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ * وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَـٰقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى ٱلاٌّخِرِينَ * سَلَـٰمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِى ٱلْعَـٰلَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلاٌّخَرِينَ * وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَٰهِيمَ * إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَءِفْكاً ءَالِهَةً دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى ٱلنُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَىٰ ءَالِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ *فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِٱلْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوۤاْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَـٰناً فَأَلْقُوهُ فِى ٱلْجَحِيمِ * فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَـٰهُمُ ٱلاٌّسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّى سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينِ * فَبَشَّرْنَـٰهُ بِغُلَـٰمٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْىَ قَالَ يٰبُنَىَّ إِنِّىۤ أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِىۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَـٰدَيْنَـٰهُ أَن يٰإِبْرَٰهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ * وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى ٱلاٌّخِرِينَ * سَلَـٰمٌ عَلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَـٰهُ بِإِسْحَـٰقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ * وَبَـٰرَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَـٰقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَـٰلِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ}
{وَيَقُولُونَ أَءِنَّا لَتَارِكُوۤا ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ }.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الشعراء»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَٱلشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ}. {لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ }. قد قدّمنا تفسيره مع ذكر الآيات الدالَّة على معناه في سورة «المائدة»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمَا * ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلاْنصَابُ وَٱلاْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وبيَّنا هنا كلام أهل العلم في نجاسة عين خمر الدنيا دون خمر الآخرة، وأن ذلك يشير إلى قوله تعالىٰ: {وَسَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُورا}.
{وَعِندَهُمْ قَـٰصِرٰتُ ٱلطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ}.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث صفات من صفات نساء أهل الجنّة:
الأولى: أنهن {قَـٰصِرٰتُ ٱلطَّرْفِ}، وهو العين، أي: عيونهن قاصرات على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم لشدة اقتناعهن واكتفائهن بهم.
الثانية: أنهن {عِينٌ}، والعين جمع عيناء، وهي واسعة دار العين، وهي النجلاء.
الثالثة: أن ألوانهن بيض بياضًا مشربًا بصفرة؛ لأن ذلك هو لون بيض النعام الذي شبّههن به، ومنه قول امرىء القيس في نحو ذلك:
كبكر المقانات البياض بصفرة غذاها غير الماء نمير المحلّل

لأن معنى قوله: كبكر المقانات البياض بصفرة: أن لون المرأة المذكورة كلون البيضة البكر المخالط بياضها بصفرة، وهذه الصفات الثلاث المذكورة هنا، جاءت موضحة في غير هذا الموضع مع غيرها من صفاتهن الجميلة، فبيَّن كونهن قاصرات الطرف على أزواجهن، بقوله تعالىٰ في «صۤ»: {وَعِندَهُمْ قَـٰصِرٰتُ ٱلطَّرْفِ أَتْرَابٌ}، وكون المرأة قاصرة الطرف من صفاتها الجميلة، وذلك معروف في كلام العرب، ومنه قول امرىء القيس: من القاصرات الطرف لو دبّ محمول من الذرّ فوق الأتب منها لأثرا

وذكر كونهن عينًا في قوله تعالىٰ فيهن: {وَحُورٌ عِينٌ}، وذكر صفا ألوانهنّ وبياضها في قوله تعالىٰ: {كَأَمْثَـٰلِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ}، وقوله تعالىٰ: {كَأَنَّهُنَّ ٱلْيَاقُوتُ وَٱلْمَرْجَانُ}، وصافتهن كثيرة معروفة في الآيات القرءانية.
واعلم أن اللَّه أثنىٰ عليهن بنوعين من أنواع القصر:
أحدهما: أنهن {قَـٰصِرٰتُ ٱلطَّرْفِ}، والطرف العين، وهو لا يجمع ولا يثنّى لأن أصله مصدر، ولم يأتِ في القرءان إلا مفردًا؛ كقوله تعالىٰ: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء}، وقوله تعالىٰ: {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ}، ومعنى كونهن {قَـٰصِرٰتُ ٱلطَّرْفِ} هو ما قدّمنا من أنهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن بخلاف نساء الدنيا.
والثاني من نوعي القصر: كونهن مقصورات في خيامهن، لا يخرجن منها؛ كما قال تعالىٰ لأَزواج نبيّه صلى الله عليه وسلم: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ}، وذلك في قوله تعالىٰ: {حُورٌ مَّقْصُورٰتٌ فِى ٱلْخِيَامِ}، وكون المرأة مقصورة في بيتها لا تخرج منه من صفاتها الجميلة، وذلك معروف في كلام العرب؛ ومنه قوله: من كان حربًا للنساء فإنني سلم لهنه
فإذا عثرن دعونني وإذا عثرت دعوتهنه
وإذا برزن لمحفل فقصارهن ملاحهنه

فقوله:
قصارهن، يعني: المقصورات منهن في بيوتهن اللاتي لا يخرجن إلا نادرًا، كما أوضح ذلك كثير عزّة في قوله: وأنت التي حببت كل قصيره إلى وما تدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد قصار الخطا شر النساء البحاتر

والحجال: جمع حجلة، وهي البيت الذي يزين للعروس، فمعنى قصيرات الحجال: المقصورات في حجالهن. وذكر بعضهم أن رجلاً سمع آخر، قال: لقد أجاد الأعشى في قوله: غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها مرّ السحابة لا ريث ولا عجل
ليست كمن يكره الجيران طلعتها ولا تراها لسر الجار تختتل

فقال له: قاتلك اللَّه، تستحسن غير الحسن هذه الموصوفة خراجة ولاجة، والخراجة الولاجة لا خير فيها ولا ملاحة لها، فهل لا قال كما قال أبو قيس بن الأسلت: وتكسل عن جاراتها قيزنها وتعتل من إنيانهن فتعذر
قوله تعالىٰ: {أَذَٰلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ }. قد قدّمنا إيضاحه بالقرءان في سورة «الفرقان»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {قُلْ أَذٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ ٱلْخُلْدِ ٱلَّتِى وَعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ}. {إِنَّا جَعَلْنَـٰهَا فِتْنَةً لِّلظَّـٰلِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِىۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ }. قد قدّمنا إيضاحه في سورة «بني إسرٰئيل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءيَا ٱلَّتِى أَرَيْنَـٰكَ إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِى ٱلْقُرْءانَ}. {فَإِنَّهُمْ لاّكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ }. ما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفار في النار يأكلون من شجرة الزقوم، فيملؤون منها بطونهم، ويجمعون معها: {لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ}، أي: خلطًا من الماء البالغ غاية الحرارة، جاء موضحًا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالىٰ في«الواقعة»: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضَّالُّونَ ٱلْمُكَذّبُونَ * لاَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ فَشَـٰرِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ * فَشَـٰرِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ}. وقوله: {شُرْبَ ٱلْهِيمِ}، الهيم: جمع أهيم وهيماء وهي الناقة مثلاً التي أصابها الهيام، وهو شدّة العطش بحيث لا يرويها كثرة شراب الماء فهي تشرب كثيرًا من الماء، ولا تزال مع ذلك في شدّة العطش. ومنه قول غيلان ذي الرمّة: فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد صداها ولا يقضى عليها هيامها

وقوله تعالىٰ في «الواقعة»: {فَشَـٰرِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ * فَشَـٰرِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ}، يدلّ على أن الشوب، أي: الخلط من الحميم المخلوط لهم بشجرة الزقوم المذكور هنا في «الصافّات»، أنه شوب كثير من الحميم لا قليل.
وقال أبو عبد اللَّه القرطبي في تفسير هذه الآية: {لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ}، الشوب: الخلط، والشوب والشوب لغتان، كالفقر والفقر، والفتح أشهر. قال الفراء: شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشىء يشوبهما شوبًا وشيابة، انتهى منه. {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ * فَهُمْ عَلَىٰ ءَاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ }. ما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من أن الكفار الذين أرسل إليهم نبيّنا صلى الله عليه وسلم: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءابَاءهُمْ}، أي: وجدوهم على الكفر، وعبادة الأوثان، {فَهُمْ عَلَىٰ ءاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ}، أي: يتبعونهم في ذلك الضلال والكفر مسرعين فيه، جاء موضحًا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالىٰ عنهم: {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا}، وقوله عنهم: {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا}، وقوله عنهم: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ}، وقوله عنهم: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى ٱللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن}. وردّ اللَّه عليهم في الآيات القرءانية معروف؛ كقوله تعالىٰ: {أَوْ * لَّوْ كَانَ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ}، وقوله: {أَوْ * لَّوْ كَانَ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ * يأَيُّهَا}، وقوله تعالىٰ: {قَالَ أُوْحِى لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءابَاءكُمْ}.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {فَهُمْ عَلَىٰ ءاثَارِهِمْ}، أي: فهم على اتّباعهم والاقتداء بهم في الكفر والضلال؛ كما قال تعالىٰ عنهم: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن}.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {يُهْرَعُونَ}، قد قدّمنا في سورة «هود»، أن معنى: {يُهْرَعُونَ}: يسرعون ويهرولون، وأن منه قول مهلهل:
فجاءوا يهرعون وهم أسارى تقودهم على رغم الأنوف
قوله تعالىٰ: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ ٱلاْوَّلِينَ}. قد قدّمنا الآيات التي بمعناه في سورة «يۤس»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ}، وفي سورة «الأنعام»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلاْرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ}. {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَـٰقِينَ }. تقدّم إيضاحه بالآيات القرءانية، وتفسيره في سورة «الأنبياء»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَنُوحاً إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ}. {إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَءِفْكاً ءَالِهَةً دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ }. قد قدّمنا إيضاحه بالآيات القرءانية بكثرة في سورة «مريم»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ إِبْرٰهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً * إِذْ قَالَ لاِبِيهِ يٰأَبَتِ * يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئ}. {وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّى سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينِ فَبَشَّرْنَـٰهُ بِغُلَـٰمٍ حَلِيمٍ }، إلى قوله تعالىٰ: {وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ }. اعلم أوّلاً: أن العلماء اختلفوا في هذا الغلام الذي أمر إبرٰهيم في المنام بذبحه، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم لمّا باشر عمل ذبحه امتثالاً للأمر، فداه اللَّه بذبح عظيم، هل هو إسمٰعيل أو إسحٰق؟ وقد وعدنا في سورة «الحجر»، بأنا نوضح ذلك بالقرءان في سورة «الصافّات»، وهذا وقت إنجاز الوعد.
اعلم، وفّقني اللَّه وإياك، أن القرءان العظيم قد دلّ في موضعين، على أن الذبيح هو إسمٰعيل لا إسحٰق أحدهما في «الصافّات»، والثاني في «هود».
أمّا دلالة آيات «الصافّات» على ذلك، فهي واضحة جدًا من سياق الآيات، وإيضاح ذلك أنه تعالىٰ قال عن نبيّه إبرٰهيم: {وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبّى سَيَهْدِينِ * رَبّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينِ * فَبَشَّرْنَـٰهُ بِغُلَـٰمٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْىَ قَالَ يٰبُنَىَّ بَنِى إِنّى أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰأَبَتِ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ ٱلاْوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ * فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُنذَرِينَ * إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ * وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَـٰقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى ٱلاْخِرِينَ * سَلَـٰمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِى ٱلْعَـٰلَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ}، قال بعد ذلك عاطفًا على البشارة الأولى: {وَبَشَّرْنَـٰهُ بِإِسْحَـٰقَ نَبِيّاً مّنَ * ٱلصَّـٰلِحِينَ}، فدلّ ذلك على أن البشارة الأولى شىء غير المبشّر به في الثانية؛ لأنه لا يجوز حمل كتاب اللَّه على أن معناه:
فبشرناه بإسحٰق، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضًا: {وَبَشَّرْنَـٰهُ بِإِسْحَـٰقَ}، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزّه عنه كلام اللَّه، وهو واضح في أن الغلام المبشر به أوّلاً الذي فدي بالذبح العظيم، هو إسمٰعيل، وأن البشارة بإسحٰق نصّ اللَّه عليها مستقلّة بعد ذلك.
وقد أوضحنا في سورة «النحل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيّبَةً}، أن المقرّر في الأصول: أن النص من كتاب اللَّه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا احتمل التأسيس والتأكيد معًا وجب حمله على التأسيس، ولا يجوز حمله على التأكيد، إلا لدليل يجب الرجوع إليه.
ومعلوم في اللغة العربية، أن العطف يقتضي المغايرة، فآية «الصافّات» هذه، دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسمٰعيل لا إسحٰق، ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحٰق يقينًا عبّر عنه في كلّها بالعلم لا الحلم، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم.
وأمّا الموضع الثاني الدالّ على ذلك الذي ذكرنا أنه في سورة «هود»، فهو قوله تعالىٰ: {وَٱمْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَـٰهَا بِإِسْحَـٰقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَـٰقَ يَعْقُوبَ}؛ لأن رسل اللَّه من الملائكة بشَّرتها بإسحٰق، وأن إسحٰق يلد يعقوب، فكيف يعقل أن يؤمر إبرٰهيم بذبحه، وهو صغير، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب.
فهذه الآية أيضًا دليل واضح على ما ذكرنا، فلا ينبغي للمنصف الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلّة القرءانية على ذلك، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
تنبيــه
اعلم أن قصّة الذبيح هذه تؤيّد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول في حكمة التكليف، هل هي للامتثال فقط، أو هي متردّدة بين الامتثال والابتلاء؟ لأنه بيّن في هذه الآية الكريمة أن حكمة تكليفه لإبرٰهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل، لأنه لم يرد ذبحه كونًا وقدرًا، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرّد الابتلاء والاختبار، هل يصمّم على امتثال ذلك أو لا؟ كما صرّح بذلك في قوله تعالىٰ: {إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَء ٱلْمُبِينُ * وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}، فتبيّن بهذا أن التحقيق أن حكمة التكليف متردّدة بين الامتثال والابتلاء. وإلى الخلاف المذكور أشار في «مراقي السعود»، بقوله: للامتثال كلف الرقيب فموجب تمكنا مصيب
أو بينه والابتلا تردّدًا شرط تمكن عليه انفقدا

وقد أشار بقوله: فموجب تمكنا مصيب، وقوله: شرط تمكن عليه انفقدا، إلى أن شرط التمكّن من الفعل في التكليف، مبني على الخلاف المذكور، فمن قال: إن الحكمة في التكليف هي الامتثال فقط اشترط في التكليف التمكّن من الفعل، لأنه لا امتثال إلا مع التمكن من الفعل، ومن قال إن الحكمة متردّدة بين الامتثال والابتلاء، لم يشترط من الفعل؛ لأن حكمة الابتلاء تتحقّق مع عدم التمكّن من الفعل، كما لا يخفى. ومن الفروع المبنيّة على هذا الخلاف أن تعلم المرأة بالعادة المطردة أنها تحيض بعد الظهر غدًا من نهار رمضان، ثم حصل لها الحيض بالفعل، فتصبح مفطرة قبل إتيان الحيض، فعلى أن حكمة التكليف الامتثال فقط، فلا كفّارة عليها، ولها أن تفطر؛ لأنها عالمة بأنها لا تتمكّن من الامتثال، وعلى أن الحكمة تارة تكون الامتثال، وتارة تكون الابتلاء، فإنها يجب عليها تبييت الصوم، ولا يجوز لها الإفطار إلاّ بعد مجيء الحيض بالفعل، وإن أفطرت قبله كفَّرت. وكذلك من أفطر لحمى تصيبه غدًا، وقد علم ذلك بالعادة، فهو أيضًا ينبني على الخلاف المذكور. {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَـٰلِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ}. قد قدّمنا الكلام عليه في سورة «البقرة»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّـٰلِمِينَ}.