تفسير الطبري تفسير الصفحة 449 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 449
450
448
 الآية : 78 - 82
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الاَخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَىَ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمّ أَغْرَقْنَا الاَخَرِينَ }.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَتَركْنا عَلَـيْهِ فِـي الاَخِرِينَ وأبقـينا علـيه, يعنـي علـى نوح ذكرا جميلاً, وثناء حسنا فـي الاَخِرين, يعنـي: فـيـمن تأخّر بعده من الناس يذكرونه به. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22551ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَتَركْنا عَلَـيْهِ فِـي الاَخِرِينَ يقول: يُذْكَر بخير.
22552ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: وَتَرَكْنا عَلَـيْهِ فِـي الاَخِرِينَ يقول: جعلنا لسان صدق للأنبـياء كُلّهم.
22553ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَتَرَكْنا عَلَـيْهِ فِـي الاَخِرِينَ قال: أبقـى الله علـيه الثناء الـحسن فـي الاَخرين.
22554ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: وَتَرَكْنا عَلَـيْهِ فِـي الاَخِرِينَ قال: الثناء الـحسن.
وقوله: سَلامٌ عَلـى نُوحٍ فـي العالَـمِينَ يقول: أَمَنَة من الله لنوحٍ فـي العالـمين أن يَذْكُره أحد بسوء وسلام مرفوع بعلـى. وقد كان بعض أهل العربـية من أهل الكوفة يقول: معناه: وتركنا علـيه فـي الاَخرين, سَلامٌ عَلـى نُوحٍ أي تركنا علـيه هذه الكلـمة, كما تقول: قرأت من القرآن الـحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالِـمِينَ فتكون الـجملة فـي معنى نصب, وترفعها بـاللام, كذلك سلام علـى نوح ترفعه بعلـى, وهو فـي تأويـل نصب, قال: ولو كان: تركنا علـيه سلاما, كان صوابـا.
وقوله: إنّا كَذلكَ نَـجْزِي الـمُـحْسَنِـينَ يقول تعالـى ذكره: إنا كما فعلنا بنوح مـجازاة له علـى طاعتنا وصبره علـى أذى قومه فـي رضانا فأَنْـجَيْناهُ وأهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيـمِ وَجَعَلْنا ذُرّيّتَهُ هُمُ البـاقِـينَ, وأبقـينا علـيه ثناءً فـي الاَخرين كَذلكَ نَـجْزِي الذين يُحْسنون فـيطيعوننا, وينتهون إلـى أمرنا, ويصبرون علـى الأذى فـينا. وقوله: إنّهُ مِنْ عِبـادِنا الـمُؤْمِنِـينَ يقول: إن نوحا من عبـادنا الذين آمنوا بنا, فوحدونا, وأخـلصوا لنا العبـادة, وأفردونا بـالألوهة. وقوله: ثُمّ أغْرَقْنا الاَخَرِينَ يقول تعالـى ذكره: ثم أغرقنا حين نـجّينا نوحا وأهله من الكرب العظيـم من بَقِـيَ من قومه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22555ـ حدثنا بشر, قال: يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ثُمّ أغْرَقْنا الاَخَرِينَ قال: أنـجاه الله ومن معه فـي السفـينة, وأغرق بقـية قومه.

الآية : 83 - 86
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِنّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَآءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللّهِ تُرِيدُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وإن من أشياع نوح علـى مِنهاجه وملته والله لإَبراهيـمَ خـلـيـلَ الرحمن. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22556ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنا معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَإنّ مِنْ شِيعَتِهِ لإَبْرَاهِيـمَ يقول: من أهل دينه.
22557ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بَزّة, عن مـجاهد, فـي قوله: وَإنّ مِنْ شِيعَتِهِ لإَبْرَاهِيـمَ قال: علـى مِنهاج نوح وسنته.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَإنّ مِنْ شِيعَتِهِ لإَبراهِيـمَ قال: علـى مِنهاجه وسنته.
22558ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَإنّ مِنْ شِيَعَتِهِ لإَبْراهِيـمَ قال: علـى دينه ومِلته.
22559ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, فـي قوله: وَإنّ مِنْ شِيعَتِهِ لإَبْرَاهِيـمَ قال: من أهل دينه.
وقد زعم بعض أهل العربـية أن معنى ذلك: وإن من شيعة مـحمد لإبراهيـم, وقال: ذلك مثل قوله: وآيَةٌ لَهُمْ أنّا حَمَلْنا ذُرّيّتَهُمْ بـمعنى: أنا حملنا ذريةٍ من هم منه, فجعلها ذرّية لهم, وقد سبقتهم.
وقوله: إذْ جاءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِـيـمٍ يقول تعالـى ذكره: إذ جاء إبراهيـمُ ربّه بقلب سلـيـم من الشرك, مخـلص له التوحيد, كما:
22560ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إذْ جاءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِـيـمٍ والله من الشرك.
22561ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, فـي قوله: إذْ جاءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِـيـمٍ قال: سلـيـم من الشرك.
22562ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن لـيث, عن مـجاهد بِقَلْبٍ سَلِـيـمٍ قال: لا شكّ فـيه. وقال آخرون فـي ذلك بـما:
22563ـ حدثنا أبو كريب, قلا: حدثنا عَثّام بن علـيّ, قال: حدثنا هشام, عن أبـيه, قال: يا بنـيّ لا تكونوا لعّانـين, ألـم تروا إلـى إبراهيـم لـم يـلعن شيئا قطّ, فقال الله: إذْ جاءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِـيـمٍ.
وقوله: إذْ قالَ لأَبِـيهِ وَقَوْمِهِ ماذَا تَعْبُدُونَ يقول حين قال: يعنـي إبراهيـم لأبـيه وقومه: أيّ شيء تعبدون.
وقوله: أئِفْكا آلِهَةً دُونَ اللّهِ تُرِيدُونَ؟ يقول: أكذبـا معبودا غير الله تريدون.

الآية : 87 - 92
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَمَا ظَنّكُم بِرَبّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النّجُومِ * فَقَالَ إِنّي سَقِيمٌ * فَتَوَلّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَىَ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ }.
يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل إبراهيـم لأبـيه وقومه: فَما ظَنّكُمْ بِرَبّ العالَـمِينَ؟ يقول: فأيّ شيء تظنون أيها القوم أنه يصنع بكم إن لقـيتـموه وقد عبدتـم غيره, كما:
22564ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَمَا ظَنّكُمْ بِرَبّ العالَـمِينَ يقول: إذا لقـيتـموه وقد عبدتـم غيره.
وقوله: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِـي النّـجُومِ فَقالَ إنّـي سَقِـيـمٌ ذكر أن قومه كانوا أهل تنـجيـم, فرأى نـجما قد طلع, فعصب رأسه وقال: إنـي مَطْعُون, وكان قومه يهربُون من الطاعون, فأراد أن يتركوه فـي بـيت آلهتهم, ويخرجوا عنه, لـيخالفهم إلـيها فـيكسرها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22565ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِـي النّـجُومِ فَقالَ إنّـي سَقِـيـمٌ قال: قالوا له وهو فـي بـيت آلهتهم: اخرج, فقال: إنـي مَطْعون, فتركوه مخافة الطاعون.
22566ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن عُلَـيّة, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن الـمسيب فَنَظَرَ نَظْرَةً فِـي النّـجُومِ فَقالَ إنّـي سَقِـيـمٌ رأى نـجما طَلَع.
22567ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن الـمسيب, أنه رأى نـجما طلع فقال إنّى سَقِـيـمٌ قال: كايَد نبـيّ الله عن دينه, فقال: إنـي سقـيـم.
22568ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِـي النّـجُومِ فَقالَ إنّـي سَقِـيـمٌ قالوا لأبراهيـم وهو فـي بـيت آلهتهم: اخرج معنا, فقال لهم: إنـي مطعون, فتركوه مخافة أن يعديهم.
22569ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, عن أبـيه, فـي قول الله: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِـي النّـجُومِ فَقالَ إنّـي سَقِـيـمٌ قال: أَرسلَ إلـيه ملكهم, فقال: إن غَدا عيدنا, فـاحضر معنا, قال: فنظر إلـى نـجم فقال: إن ذلك النـجم لـم يطلع قط إلا طلع بسقم لـي, فقال: إنّـي سَقِـيـمٌ.
22570ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق فَنَظَرَ نَظْرَةً فِـي النّـجُوم فَقالَ إنّـي سَقِـيـمٌ يقول الله: فَتَوَلّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ. وقوله: إنّـي سَقِـيـمٌ: أي طعين, أو لسقم كانوا يهربون منه إذا سمعوا به, وإنـما يريد إبراهيـم أن يخرجوا عنه, لـيبلغ من أصنامهم الذي يريد.
واختلف فـي وجه قـيـل إبراهيـم لقومه: إنّـي سَقِـيـمٌ وهو صحيح, فرُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَـمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيـمُ إلاّ ثَلاثَ كَذَبـاتٍ» ذكر من قال ذلك:
22571ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا أبو أسامة, قال: ثنـي هشام, عن مـحمد, عن أبـي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَـمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيـمُ غَيَرَ ثَلاثِ كَذَبـاتٍ, ثِنْتَـيْنِ فِـي ذاتِ اللّهِ, قوله: إنّـي سَقِـيـمٌ, وقَولِهِ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِـيرُهُمْ هَذَا, وقوْلِهِ فِـي سارّةَ: هِيَ أُخْتِـي».
حدثنا سعيد بن يحيى, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي أبو الزناد, عن عبد الرحمن الأعرج, عن أبـي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَـمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيـمُ فِـي شَيْءٍ قَطّ إلاّ فِـي ثَلاَثٍ» ثم ذكر نـحوه.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الـمسيب بن رافع, عن أبـي هريرة, قال: «ما كذب إبراهيـم غير ثلاث كذبـات, قوله: إنـي سَقِـيـمٌ, وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِـيرُهُمْ هَذَا, وإنـما قاله موعظة, وقوله حين سأله الـملك, فقال أختـي لسارّة, وكانت امرأته».
حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن أيوب, عن مـحمد, قال: «إن إبراهيـم ما كذب إلا ثلاث كذبـات, ثنتان فـي الله, وواحدة فـي ذات نفسه فأما الثنتان فقوله: إنـي سَقِـيـمٌ, وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِـيرُهُمْ هَذَا وقصته فـي سارة, وذكر قصتها وقصة الـملك».
وقال آخرون: إن قوله إنّـي سَقِـيـمٌ كلـمة فـيها مِعْراض, ومعناها أن كلّ من كان فـي عقبة الـموت فهو سقـيـم, وإن لـم يكن به حين قالها سقم ظاهر, والـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف هذا القول, وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الـحقّ دون غيره. قوله: فَتَوَلّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ يقول: فتولوا عن إبراهيـم مدبرين عنه, خوفـا من أن يعدِيَهُم السقم الذي ذكر أنه به, كما:
22572ـ حُدثت عن يحيى بن زكريا, عن بعض أصحابه, عن حكيـم بن جُبَـير, عن سعيد بن جُبَـير, عن ابن عبـاس إنّـي سَقِـيـمٌ يقول: مطعون فتولّوا عنه مدبرين, قال سعيد: إن كان الفرار من الطاعون لقديـما.
22573ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد عن قتادة فَتَوَلّوْا فنكصوا عنه مُدْبِرِينَ منطلقـين.
وقوله: فَرَاغَ إلـى آلِهَتِهمْ يقول تعالـى ذكره: فمال إلـى آلهتهم بعد ما خرجوا عنه وأدبروا وأرى أن أصل ذلك من قولهم: راغ فلان عن فلان: إذا حاد عنه, فـيكون معناه إذا كان كذلك: فراغ عن قومه والـخروج معهم إلـى آلهتهم كما قال عديّ بن زيد:
حِينَ لا يَنْفَعُ الرّوَاغُ وَلا يَنْفَعُ إلاّ الـمُصَادِقُ النّـحْرِيرُ
يعنـي بقوله: «لا ينفع الرّواغ»: الـحِياد. أما أهل التأويـل فإنهم فسّروه بـمعنى فمَال. ذكر من قال ذلك:
22574ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَرَاغَ إلـى آلِهَتِهِم: أي فمال إلـى آلهتهم, قال: ذهب.
22575ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدّيّ قوله: فَرَاغَ إلـى آلِهَتِهِمْ قال: ذهب.
وقوله: فَقالَ ألاَ تأكُلُونَ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ هذا خبر من الله عن قـيـل إبراهيـم للاَلهة وفـي الكلام مـحذوف استغنـي بدلالة الكلام علـيه من ذكره, وهو: فقرّب إلـيها الطعام فلـم يرها تأكل, فقال لها: ألا تَأْكُلُونَ فلـما لـم يرها تأكل قال لها: مالكم لا تأكلون, فلـم يرها تنطق, فقال لها: ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ مستهزئا بها, وكذلك ذكر أنه فعل بها, وقد ذكرنا الـخبر بذلك فـيـما مضى قبلُ. وقال قتادة فـي ذلك ما:
22576ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَقالَ ألاَ تَأْكُلونَ يستنطقهم مالَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟.


الآية : 93 - 96
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوَاْ إِلَيْهِ يَزِفّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: فمال علـى آلهة قومه ضربـا لها بـالـيـمين بفأس فـي يده يكسرهنّ, كما:
22577ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قال: لـما خلا جعل يضرب آلهتهم بـالـيـمين.
22578ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك, فذكر مثله.
22579ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَرَاغَ عَلَـيْهِمْ ضَرْبـا بـالـيَـمِينِ فأقبل علـيهم يكسرهم.
22580ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: ثم أقبل علـيهم كما قال الله ضربـا بـالـيـمين, ثم جعل يكسرهنّ بفأس فـي يده.
وكان بعض أهل العربـية يتأوّل ذلك بـمعنى: فراغ علـيهم ضربـا بـالقوّة والقدرة, ويقول: الـيـمين فـي هذا الـموضع: القوّة: وبعضهم كان يتأوّل الـيـمين فـي هذا الـموضع: الـحلف, ويقول: جعل يضربهنّ بـالـيـمين التـي حلف بها بقوله: وَتاللّهِ لأَكِيدَنّ أصْنامَكُمْ بَعْدَ أنْ تُوَلّوا مُدْبِرِينَ.
وذُكر أن ذلك فـي قراءة عبد الله: «فَرَاغَ عَلَـيْهِمْ صَفْقا بـالـيَـمِينِ». ورُوي نـحو ذلك عن الـحسن.
22581ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا خالد بن عبد الله الـجُشَمِي, قال: سمعت الـحسن قرأ: «فَرَاغَ عَلَـيْهِمْ صَفْقا بـالـيَـمِينِ»: أي ضربـا بـالـيـمين.
وقوله: فأَقْبَلُوا إلَـيْهِ يَزِفّونَ اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة, وبعض قرّاء الكوفة: فأَقْبَلُوا إلَـيْهِ يَزِفّونَ بفتـح الـياء وتشديد الفـاء من قولهم: زَفّتِ النعامة, وذلك أوّل عدوها, وآخر مشيها ومنه قول الفرزدق:
وَجاءَ قَرِيعُ الشّوْلِ قَبْلِ إفـالِهَايَزِفّ وَجاءَتْ خَـلْفَهُ وَهْي زُفّفُ
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة: «يُزِفّونَ» بضم الـياء وتشديد الفـاء من أزف فهو يزف. وكان الفرّاء يزعم أنه لـم يسمع فـي ذلك إلا زفَفْت, ويقول: لعلّ قراءة من قرأه: «يَزِفّونَ» بضم الـياء من قول العرب: أطْرَدتُ الرجل: أي صيرته طريدا, وطردته: إذا أنت خسأته إذا قلت: اذهب عنا فـيكون يزفون: أي جاؤوا علـى هذه الهيئة بـمنزلة الـمزفوفة علـى هذه الـحالة, فتدخـل الألف. كما تقول: أحمدت الرجل: إذا أظهرت حمده, وهو مـحمد: إذا رأيت أمره إلـى الـحمد, ولـم تنشر حمده قال: وأنشدنـي الـمفضّل:
تَـمَنّى حُصَيْنٌ أنْ يَسُودَ جِذاعَهُفأَمْسَى حُصَيْنٌ قَدْ أذَلّ وأقْهَرا
فقال: أقْهَر, وإنـما هو قُهِر, ولكنه أراد صار إلـى حال قهر. وقرأ ذلك بعضهم: «يَزِفُونَ» بفتـح الـياء وتـخفـيف الفـاء من وَزَفَ يَزِف. وذُكر عن الكسائي أنه لا يعرفها, وقال الفرّاء: لا أعرفها إلا أن تكون لغة لـم أسمعها. وذُكر عن مـجاهد أنه كان يقول: الوَزْف: النّسَلان.
22582ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: إلَـيْهِ يَزِفّوزنَ قال: الوزيف: النّسَلان.
والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا قراءة من قرأه بفتـح الـياء وتشديد الفـاء, لأن ذلك هو الصحيح الـمعروف من كلام العرب, والذي علـيه قراءة الفصحاء من القرّاء.
وقد اختف أهل التأويـل فـي معناه, فقال بعضهم: معناه: فأقبل قوم إبراهيـم إلـى إبراهيـم يَجْرُون. ذكر من قال ذلك:
22583ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: فأقْبَلُوا إلَـيْهِ يَزِفّونَ: فأقبلوا إلـيه يجرون.
وقال آخرون: أقبلوا إلـيه يَـمْشُون. ذكر من قال ذلك:
22584ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, فـي قوله: فأقْبَلُوا إلَـيْهِ يَزِفّونَ قال: يَـمْشُون.
وقال آخرون: معناه: فأقبلوا يستعجلون. ذكر من قال ذلك:
22585ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, عن أبـيه فَأَقْبَلُوا إلَـيْهِ يَزِفّونَ قال: يستعجلون, قال: يَزِفّ: يستعجل.
وقوله: قالَ أتَعْبُدونَ ما تَنْـحِتُونَ يقول تعالـى ذكره: قال إبراهيـم لقومه: أتعبدون أيها القوم ما تنـحتون بأيديكم من الأصنام, كما:
22586ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قالَ أتَعْبُدُونَ ما تَنْـحِتُونَ الأصنام.
وقوله: وَاللّهُ خَـلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل إبراهيـم لقومه: والله خـلقكم أيها القوم وما تعملون. وفـي قوله: وَما تَعْمَلُونَ وجهان: أحدهما: أن يكون قوله: «ما» بـمعنى الـمصدر, فـيكون معنى الكلام حينئذٍ: والله خـلقكم وعملكم. والاَخر أن يكون بـمعنى «الذي», فـيكون معنى الكلام عند ذلك: والله خـلقكم والذي تعملونه: أي والذي تعملون منه الأنصام, وهو الـخشب والنـحاس والأشياء التـي كانوا ينـحِتون منها أصنامهم. وهذا الـمعنى الثانـي قصد إن شاء الله قتادةُ بقوله الذي:
22587ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَاللّهُ خَـلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ: بأيْدِيكُمْ.

الآية : 97 - 100
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إِلَىَ رَبّي سَيَهْدِينِ * رَبّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينِ }.
يقول تعالـى ذكره: قال قوم إبراهيـم لـما قال لهم إبراهيـم: أتَعْبُدُونَ ما تَنْـحِتُونَ وَاللّهُ خَـلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ابنُوا لإبراهيـم بنـيانا ذُكر أنهم بنوا له بنـيانا يشبه التّنّور, ثم نقَلوا إلـيه الـحطب, وأوقدوا علـيه فأَلْقُوهُ فـي الـجَحِيـمِ والـجحيـم عند العرب: جمر النار بعضُه علـى بعض, والنار علـى النار.
وقوله: فأَرَادُوا بِهِ كَيْدا يقول تعالـى ذكره: فأراد قوم إبراهيـم بإبراهيـم كيدا, وذلك ما كانوا أرادوا من إحراقه بـالنار. يقول الله: فَجَعَلْناهُمْ أي فجعلنا قوم إبراهيـم الأسْفَلِـين يعنـي الأذلّـين حُجّة, وغَلّبنا إبراهيـم علـيهم بـالـحجة, وأنقذناه مـما أرادوا به من الكيد, كما:
22588ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وأرَادُوا بِهِ كَيْدا فَجَعَلْناهُمُ الأَسْفَلِـينَ قال: فما ناظرهم بعد ذلك حتـى أهلكهم.
وقوله: وَقالَ إنّـي ذَاهِبٌ إلـى رَبّـي سَيَهْدِينِ يقول: وقال إبراهيـم لـما أفْلَـجَه الله علـى قومه ونـجاه من كيدهم: إنّـي ذاهِبٌ إلـى رَبّـي يقول: إنـي مهاجِرٌ من بلدة قومي إلـى الله: أي إلـى الأرض الـمقدّسة, ومفـارقهم, فمعتزلهم لعبـادة الله. وكان قتادة يقول فـي ذلك ما:
22589ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَقالَ إنّـي ذاهِبٌ إلـى رَبّـي سَيَهْدِينِ: ذاهب بعمله وقلبه ونـيته.
وقال آخرون فـي ذلك: إنـما قال إبراهيـم إنّـي ذاهِبٌ إلـى رَبّـي حنـي أرادوا أن يُـلْقُوه فـي النار. ذكر من قال ذلك:
22590ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي إسحاق, قال: سمعت سلـيـمان بن صُرَدَ يقول: لـما أرادوا أن يُـلْقوا إبراهيـم فـي النار قالَ إنّـي ذاهِبٌ إلـى رَبّـي سَيَهْدِينِ فجمع الـحطب, فجاءت عجوز علـى ظهرها حطب, فقـيـل لها: أين تريدين؟ قالت: أريد أذهب إلـى هذا الرجل الذي يُـلْقَـى فـي النار فلـما أُلقـي فـيها, قال: حَسْبِـيَ الله علـيه توكلت, أو قال: حسبـي الله ونعم الوكيـل, قال: فقال الله: يا نارُ كُونِـي بَرْدا وَسَلاما علـى إبْرَاهِيـمَ قال: فقال ابن لُوط, أو ابن أخي لوط: إن النار لـم تـحرقه من أجلـي, وكان بـينهما قرابة, فأرسل الله علـيه عُنُفـا من النار فأحرقته.
وإنـما اخترت القول الذي قلت فـي ذلك, لأن الله تبـارك وتعالـى ذكر خبره وخبر قومه فـي موضع آخر, فأخبر أنه لـما نـجاه مـما حاول قومه من إحراقه قال إنّـي مُهاجِرٌ إلـى رَبّـي ففسر أهل التأويـل ذلك أن معناه: إنـي مهاجر إلـى أرض الشام, فكذلك قوله: إنّـي ذَاهِبٌ إلـى رَبّـي لأنه كقوله: إنّـي مُهاجِرٌ إلـى رَبّـي. وقوله: سَيَهْدِينِ يقول: سيثبتنـي علـى الهدى الذي أبصرته, ويعيننـي علـيه.
وقوله: رَبّ هَبْ لـي مِنَ الصّالِـحِينَ وهذا مسألة إبراهيـم ربه أن يرزقه ولدا صالـحا يقول: قال: يا ربّ هب لـي منك ولدا يكون من الصالـحين الذين يطيعونك, ولا يعصُونك, ويصلـحون فـي الأرض, ولا يفسدون, كما:
22591ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, فـي قوله: رَبّ هَبْ لِـي مِنَ الصّالِـحِينَ قال: ولدا صالـحا.
وقال: من الصالـحين, ولـم يَقُلْ: صالـحا من الصالـحين, اجتزاءً بـمن ذكر من الـمتروك, كما قال عزّ وجلّ: وكانُوا فِـيهِ مِنَ الزّاهِدِينَ بـمعنى زاهدين من الزاهدين.

الآية : 101 - 102
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَبَشّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ * فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قَالَ يَبُنَيّ إِنّيَ أَرَىَ فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىَ قَالَ يَأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيَ إِن شَآءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: فبشّرنا إبراهيـم بغلام حلـيـم, يعنـي بغلام ذي حِلْـم إذا هو كَبِر, فأما فـي طفولته فـي الـمهد, فلا يوصف بذلك. وذُكر أن الغلام الذي بَشّر الله به إبراهيـم إسحاق. ذكر من قال ذلك:
22592ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الـحسين, عن يزيد, عن عكرمة: فَبَشّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِـيـمٍ قال: هو إسحاق.
22593ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَبَشّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِـيـمٍ بشر بإسحاق, قال: لـم يُثْنَ بـالـحلـم علـى أحد غير إسحاق وإبراهيـم.
وقوله: فَلَـمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ يقول: فلـما بلغ الغلام الذي بشر به إبراهيـم معَ إبراهيـم العملَ, وهو السعي, وذلك حين أطاق معونته علـى عمله.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك, فقال بعضهم نـحو الذي قلنا فـيه. ذكر من قال ذلك:
22594ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: فَلَـمَا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ يقول: العمل.
22595ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: فَلَـمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قال: لـما شبّ حتـى أدرك سعيُه سَعْيَ إبراهيـمَ فـي العمل.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله, إلا أنه قال: لـما شبّ حين أدرك سعيه.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن شعبة, عن الـحكم, عن مـجاهد فَلَـمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قال: سعي إبراهيـم.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا سهل بن يوسف, عن شعبة, عن الـحكم, عن مـجاهد فَلَـمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ: سَعَي إبراهيـم.
22596ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فَلَـمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قال: السّعْيُ ها هنا العبـادة.
وقال آخرون: معنى ذلك: فلـما مشى مع إبراهيـم. ذكر من قال ذلك:
22597ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَلَـمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ: أي لـما مشى مع أبـيه.
وقوله: قالَ يا بُنَـيّ إنّـي أرَى فِـي الـمَنامِ أنّـي أذْبَحُكَ يقول تعالـى ذكره: قال إبراهيـم خـلـيـل الرحمن لابنه: يا بُنَـيّ إنّـي أرَى فِـي الـمَنامِ أنّـي أذْبَحُكَ وكان فـيـما ذكر أن إبراهيـم نذر حين بشّرته الـملائكة بإسحاق ولدا أن يجعله إذا ولدته سارّة لله ذبـيحا فلـما بلغ إسحاقُ مع أبـيه السّعْي أُرِي إبراهيـم فـي الـمنام, فقـيـل له: أوف لله بنذرك, ورؤيا الأنبـياء يقـين, فلذلك مضى لـما رأى فـي الـمنام, وقال له ابنه إسحاق ما قال. ذكر من قال ذلك:
22598ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: قال جبرائيـل لسارَة: أبشري بولد اسمه إسحاق, ومن وراء إسحاق يعقوب, فضربت جبهتها عَجَبـا, فذلك قوله: فَصَكّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ يا وَيْـلَتَـي أأَلِدُو وأنا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِـي شَيْخا إنّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ إلـى قوله: حَمِيدٌ مَـجِيدٌ قالت سارَة لـجبريـل: ما آية ذلك؟ فأخذ بـيده عودا يابسا, فلواه بـين أصابعه, فـاهتزّ أخضر, فقال إبراهيـم: هو لله إذن ذَبـيح فلـما كبر إسحاق أُتِـيَ إبراهيـمُ فـي النوم, فقـيـل له: أوفِ بنذرك الذي نَذَرْتَ, إن الله رزقك غلاما من سارَة أن تذبحه, فقال لإسحاق: انطلق نقرّب قُرْبـانا إلـى الله, وأخذ سكينا وحبلاً, ثم انطلق معه حتـى إذا ذهب به بـين الـجبـال قال له الغلام: يا أبت أين قُرْبـانُك؟ قالَ يا بنـيّ أرَى فـي الـمَنامِ أنّـي أذْبحُكَ فَـانْظُرْ ماذَا تَرَى قالَ يا أبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَـجِدُنِـي إنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ فقال له إسحاق: يا أَبَتِ اشْدُد رِبـاطي حتـى لا أضطرب, واكففْ عنـي ثـيابك حتـى لا ينتضح علـيها من دمي شيء, فتراه سارَة فتـحْزَن, وأسْرعْ مرّ السكين علـى حَلْقـي لـيكون أهون للـموت علـيّ, فإذا أتـيتَ سارَة فـاقرأ علـيها منـي السلام فأقبل علـيه إبراهيـم يقبله وقد ربطه وهو يبكي وإسحاق يبكي, حتـى استنقع الدموع تـحت خدّ إسحاق, ثم إنه جرّ السكين علـى حلقه, فلـم تَـحِكِ السكين, وضرب الله صفـيحة من نـحاس علـى حلق إسحاق فلـما رأى ذلك ضرب به علـى جبـينه, وحزّ من قـفـاه, فذلك قوله: فَلَـمّا أسْلَـما يقول: سلّـما لله الأمر وَتَلّهُ للْـجَبِـينِ فنودي يا إبراهيـم قد صدّقت الرؤيا بـالـحقّ فـالتفت فإذا بكبش, فأخذه وخَـلّـى عن ابنه, فأكبّ علـى ابنه يقبله, وهو يقول: الـيوم يا بنـيّ وُهِبْتَ لِـي فلذلك يقول الله: وَفَديْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيـمٍ فرجع إلـى سارَة فأخبرها الـخبر, فجَزِعت سارَة وقالت: يا إبراهيـم أردت أن تذبح ابنـي ولا تُعِلـمْنـي.
22599ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يا بُنَـيّ إنّـي أرَى فِـي الـمَنامِ أنّـي أذْبَحُكَ قال: رؤيا الأنبـياء حقّ إذا رأوا فـي الـمنام شيئا فعلوه.
22600ـ حدثنا مـجاهد بن موسى, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة, عن عمرو بن دينار, عن عبـيد بن عمير, قال: رؤيا الأنبـياء وَحْي, ثم تلا هذه الاَية: إنّـي أرَى فِـي الَـمنامِ أنّـي أذْبَحُكَ.
قوله: فـانْظُرْ ماذَا تَرَى: اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: ماذَا تَرَى, فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة, وبعض قرّاء أهل الكوفة: فـانْظُرْ ماذَا تَرَى؟ بفتـح التاء, بـمعنى: أيّ شيء تأمر, أو فـانظر ما الذي تأمر, وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: ماذَا تُرَى بضم التاء, بـمعنى: ماذا تُشير, وماذا تُرَى من صبرك أو جزعك من الذبح؟.
والذي هو أولـى القراءتـين فـي ذلك عندي بـالصواب قراءة من قرأه: ماذَا تَرَى بفتـح التاء, بـمعنى: ماذا ترى من الرأي.
فإن قال قائل: أَوَ كان إبراهيـم يؤامر ابنه فـي الـمضي لأمر الله, والانتهاء إلـى طاعته؟ قـيـل: لـم يكن ذلك منه مشاورة لابنه فـي طاعة الله, ولكنه كان منه لـيعلـم ما عند ابنه من العَزْم: هل هو من الصبر علـى أمر الله علـى مثل الذي هو علـيه, فـيسرّ بذلك أم لا, وهو فـي الأحوال كلها ماض لأمر الله.
وقوله: قالَ يا أبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ يقول تعالـى ذكره: قال إسحاق لأبـيه: يا أبت افعل ما يأمرك به ربك من ذبحي سَتَـجِدُنِـي إنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ يقول: ستـجدنـي إن شاء الله صابرا من الصابرين لـما يأمرنا به ربنا, وقال: افعل ما تؤمر, ولـم يقل: ما تؤمر به, لأن الـمعنى: افعل الأمر الذي تؤمره, وذُكر أن ذلك فـي قراءة عبد الله: «إنـي أرى فـي الـمنام: افعل ما أُمِرْت به»