تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 449 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 449

448

77- "وجعلنا ذريته هم الباقين" وحدهم دون غيرهم كما يشعر به ضمير الفصل، وذلك لأن الله أهلك الكفرة بدعائه ولم يبق منهم باقية، ومن كان معه في السفينة من المؤمنين ماتوا كما قيل ولم يبق إلا أولاده. قال سعيد بن المسيب: كان ولد نوح ثلاثة والناس كلهم من ولد نوح، فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى. وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب: السند، والهند، والنوب، والزنج، والحبشة، والقبط، والبربر وغيرهم. ويافث أبو الصقالب والترك والخرز ويأجوج ومأجوج وغيرهم. وقيل إنه كان لمن مع نوح ذرية كما يدل عليه قوله "ذرية من حملنا مع نوح" وقوله "قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم" فيكون على هذا معنى "وجعلنا ذريته هم الباقين" وذريته وذرية من معه دون ذرية من كفر، فإن الله أغرقهم فلم يبق لهم ذرية.
78- "وتركنا عليه في الآخرين" يعني في الذين يأتون بعده إلى يوم القيامة من الأمم.
والمتروك هذا هو قوله: 79- "سلام على نوح" أي تركنا هذا الكلام بعينه وارتفاعه على الحكاية، والسلام هو الثناء الحسن: أي يثنون عليه ثناءً حسناً ويدعون له ويترحمون عليه. قال الزجاج: تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة، وذلك الذكر هو قوله: "سلام على نوح". قال الكسائي: في ارتفاع سلام وجهان: أحدهما وتركنا عليه في الآخرين يقال سلام على نوح. والوجه الثاني أن يكون المعنى: وأبقينا عليه، وتم الكلام، ثم ابتدأ فقال: سلام على نوح: أي وسلامة له من أن يذكر بسوء في الآخرين. قال المبرد: أي تركنا عليه هذه الكلمة باقية: يعني يسلمون عليه تسليماً ويدعون له، وهو من الكلام المحكي كقوله: "سورة أنزلناها" وقيل إنه ضمن تركنا معنى قلنا. قال الكوفيون: جملة سلام على نوح في العالمين في محل نصب مفعول تركنا، لأنه ضمن معنى قلنا. قال الكسائي: وفي قراءة ابن مسعود سلاماً منصوب بتركنا: أي تركنا عليه ثناءً حسناً، وقيل المراد بالآخرين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي العالمين متعلق بما تعلق به الجار والمجرور الواقع خبراً، وهو على نوح: أي سلام ثابت أو مستمر أو مستقر على نوح في العالمين من الملائكة والجن والإنس، وهذا يدل على عدم اختصاص ذلك بأمة محمد صلى الله عليه وسلم كما قيل.
80- "إنا كذلك نجزي المحسنين" هذه الجملة تعليل لما قبلها من التكرمة لنوح بإجابة دعائه وبقاء الثناء من الله عليه وبقاء ذريته: أي إنا كذلك نجزي من كان محسناً في أقواله وافعاله راسخاً في الإحسان معروفاً به، والكاف في كذلك نعت مصدر محذوف: أي جزاء كذلك الجزاء.
81- "إنه من عبادنا المؤمنين" هذا بيان لكونه من المحسنين وتعليل له بأنه كان عبداً مؤمناً مخلصاً لله.
82- "ثم أغرقنا الآخرين" أي الكفرة الذين لم يؤمنوا بالله ولا صدقوا نوحاً.
ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم وبين أنه ممن شايع نوحا فقال : " وإن من شيعته لإبراهيم " أي من أهل دينه وممن شايعه ووافقه على الدعاء إلى الأعوان وهو مأخوذ من الشياع ، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد ، وقال الفراء : المعنى وإن من شيعته محمد لإبراهيم ، فالهاء في شيعته على هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكذا قال الكلبي . ولا يخفى ما في هذا من الضعف والمخالفة للسياق .
والظرف في قوله: 84- "إذ جاء ربه بقلب سليم" منصوب بفعل محذوف: أي اذكر، وقيل بما في الشيعة من معنى المتابعة. قال أبو حيان: لا يجوز لأن فيه الفصل بي العامل والمعمول بأجنبي، وهو إبراهيم، والأول أن يقال: إن لام الابتداء تمنع ما بعدها من العمل فيما قبلها، والقلب السليم المخلص من الشرك والشك. وقيل هو الناصح لله في خلقه، وقيل الذي يعلم أن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور. ومعنى مجيئه إلى ربه يحتمل وجهين: أحدهما عند دعائه إلى توحيده وطاعته. الثاني عند إلقائه في النار.
وقوله: 85- "إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون" بدل من الجملة الأولى، أو ظرف لسليم، أو ظرف لجاء، والمعنى: وقت قال لأبيه آزر وقومه من الكفار: أي شيء تعبدون.
86- "أئفكا آلهة دون الله تريدون" انتصاب إفكاً على أنه مفعول لأجله، وانتصاب آلهة على أنه مفعول تريدون، والتقدير/ أتريدون آلهة من دون الله للإفك، ودون ظرف لتريدون، وتقديم هذه المعمولات للفعل عليه للاهتمام. وقيل انتصاب إفكاً على أنه مفعول به لتريدون، وآلهة بدل منه، جعلها نفس الإفك مبالغة، وهذا أولى من الوجه الأول. وقيل انتصابه على الحال من فاعل تريدون: أي أتريدون آلهة آفكين أو ذوي إفك. قال المبرد: الإفك أسوأ الكذب، وهو الذي لا يثبت ويضطرب ومنه ائتفكت بهم الأرض.
87- "فما ظنكم برب العالمين" أي ما ظنكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره وما ترونه يصنع بكم؟ وهو تحذير مثل قوله "ما غرك بربك الكريم" وقيل المعنى. أي شيء توهمتموه بالله حتى أشركتم به غيره.
88- " فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم " قال الواحدي: قال المفسرون: كانوا يتعاطون علم النجوم فعاملهم بذلك لئلا ينكروا عليه وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم لتلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه، وأراد أن يتخلف عنهم فاعتل بالسقم: وذلك أنهم كلفوه أن يخرج معهم إلى عيدهم فنظر إلى النجوم يريهم أنه مستدل بهم على حاله، فلما نظر إليها قال إني سقيم أي سأسقم. وقال الحسن: إنهم لما كلفوه أن يخرج معهم تفكر فيما يعمل، فالمعنى على هذا أنه نظر فيما نجم له من الرأي: أي فيما طلع له منه، فعلم أن كل شيء يسقم.
89- "فقال إني سقيم". قال الخليل والمبرد: يقال للرجل إذا فكر في الشيء يدبره: نظر في النجوم. وقيل كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تعتاده فيها الحمى. وقال الضحاك: معنى إني سقيم: سأسقم سقم الموت، لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب ثم يموت، وهذا تورية وتعريض كما قال للملك لما سأله عن سارة هي أختي: يعني أخوة الدين. وقال سعيد بن جبير: أشار لهم إلى مرض يسقم ويعدي وهو الطاعون وكانوا يهربون من ذلك.
ولهذا قال: 90- "فتولوا عنه مدبرين" أي تركوه وذهبوا مخافة العدوى.
91- "فراغ إلى آلهتهم" يقال راغ يروغ روغاً وروغاناً: إذا مال، ومنه طريق رائغ، أي مائل. ومنه قول الشاعر: فيريك من طرف اللسان حلاوة ويروغ عنك كما يروغ الثعلب وقال السدي: ذهب إليهم، وقلا أبو مالك: جاء إليهم، وقال الكلبي: أقبل عليهم، والمعنى متقارب "فقال ألا تأكلون" أي فقال إبراهيم للأصنام التي راغ إليها استهزاءً وسخرية: ألا تأكلون من الطعام الذي كانوا يصنعونه لها، وخاطبها كما يخاطب من يعقل، لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة.
وكذا قوله: 92- "ما لكم لا تنطقون" فإنه خاطبهم خطاب من يعقل، والاستفهام للتهكم بهم قد علم أنها جمادات لا تنطق. قيل إنهم تركوا عند أصنامهم طعامهم للتبرك بها وليأكلوه إذا رجعوا من عيدهم. وقيل تركوه للسدنة، وقيل إن إبراهيم هو الذي قرب إليهم الطعام مستهزئاً بها.
93- "فراغ عليهم ضرباً باليمين" أي فمال عليهم يضربهم ضرباً باليمين فانتصابه على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف، أو هو مصدر لراغ، لأنه بمعنى ضرب. قال الواحدي: قال المفسرون: يعني بيده اليمنى يضربهم بها. وقال السدي: بالقوة والقدرة لأن اليمين أقوى اليدين. قال الفراء وثعلب ضرباً بالقوة، واليمين القوة. وقال الضحاك والربيع بن أنس: المراد باليمين اليمين التي حلفها حين قال: "وتالله لأكيدن أصنامكم" وقيل المراد باليمين هنا العدل كما في قوله: " ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين " أي بالعدل، واليمين كناية عن العدل كما أن الشمال كناية عن الجور، وأول هذه الأقوال أولاها.
94- "فأقبلوا إليه يزفون" أي أقبل إليه عبدة تلك الأصنام يسرعون لما علموا بما صنعه بها، ويزفون في محل نصب على الال من فاعل أقبلوا. قرأ الجمهور "يزفون" بفتح الياء من زف الظليم يزف إذا عدا بسرعة، وقرأ حمزة بضم الياء من أزف يزف: أي دخل في الزفيف، آو يحملون غيرهم على الزفيف. قال الأصمعي: أزففت الإبل: أي حملتها على أن تزف، وقيل هما لغتان، يقال زف القوم وأزفوا، وزفت العروس وأزففتها، حكي ذلك عن الخليل. قال النحاس: زعم أبو حاتم أنه لا يعرف هذه اللغة: يعني يزفون بضم الياء، وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء، وشبهها بقولهم أطردت الرحل: أي صيرته إلى ذلك، وقال المبرد: الزفيف الإسراع. وقال الزجاج: الزفيف أول عدو النعام. وقال قتادة والسدي: ومعنى يزفون يمشون. وقال الضحاك: يسعون. وقال يحيى بن سلام: يرعدون غضباً. وقال مجاهد: يختالون: أي يمشون مشي الخيلاء، وقيل يتسللون تسللاً بين المشي والعدو، والأولى تفسير يزفون بيسرعون، وقرئ يزفون على البناء للمفعول، وقرئ يزفون كيرمون. وحكى الثعلبي عن الحسن ومجاهد وابن السميفع أنهم قرأوا يرفون بالراء المهملة، وهي ركض بين المشي والعدو.
95- "قال أتعبدون ما تنحتون" لما أنكروا على إبراهيم ما فعله بالأصنام، ذكر لهم الدليل الدال على فساد عبادتها فقال مبكتاً لهم ومنكراً عليهم "أتعبدون ما تنحتون" أي أتعبدون أصناماً أنتم تنحتونها، والنحت النجر والبري، نحته ينحته بالكسر نحتاً: أي براه، والنحاتة البراية.
وجملة 96- "والله خلقكم وما تعملون" في محل نصب على الحال من فاعل تعبدون، وما في وما تعملون موصولة: أي وخلق الذي تصنعونه على العموم ويدخل فيها الأصنام التي ينحتونها دخولاً أولياً، ويكون معنى العمل هنا التصوير والنحت ونحوهما، ويجوز أن تكون مصدرية: أي خلقكم وخلق عملكم، ويجوز أن تكون استفهامية، ومعنى الاستفهام التوبيخ والتقريع: أي وأي شيء تعملون، ويجوز أن تكون نافية، أي إن العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم لا تعملون شيئاً، وقد طول صاحب الكشاف الكلام في رد قول من قال إنها مصدرية، ولكم بما لا طائل تحته، وجعلها موصولة أولى بالمقام وأوفق بسياق الكلام.
97- "قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم" مستأنفة جواب سؤال مقدر كالجملة التي قبلها، قالوا هذه المقالة لما عجزوا عن جواب ما أورده عليهم من الحجة الواضحة، فتشاوروا فيما بينهم أن يبنوا له حائطاً من حجارة ويملأوه حطباً ويضرموه، ثم يلقوه فيه، والجحيم النار الشديدة الاتقاد قال الزجاج وكل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم، واللام في الجحيم عوض عن المضاف إليه: أي في جحيم ذلك البنيان.
ثم لما ألقوه فيها نجاه الله منها وجعلها عليه: برداً وسلاماً، وهو معنى قوله: 98- "فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين" الكيد: المكر والحيلة: أي احتالوا لإهلاكه فجعلناهم الأسفلين المقهورين المغلوبين، لأنها قامت له بذلك عليهم الحجة التي لا يقدرون على دفعها ولا يمكنهم جحدها، فإن النار الشديدة الاتقاد العظيمة الاضطرام المتراكمة الجمار إذا صارت بعد إلقائه عليها برداً وسلاماً، ولم تؤثر فيه أقل تأثير كان ذلك من الحجة بمكان يفهمه كل من له عقل، وصار المنكر له سافلاً ساقط الحجة ظاهر التعصب واضح التعسف وسبحان من يجعل المحن لمن يدعو إلى دينه منحاً، ويسوق إليهم الخير بما هو من صور الضير. ولما انقضت هذه الوقعة وأسفر الصبح لذي عينين، وظهرت حجة الله لإبراهيم، وقامت براهين نبوته، وسطعت أنوار معجزته.
99- "قال إني ذاهب إلى ربي" أي مهاجر من بلد قومي الذين فعلوا ما فعلوا تعصباً للأصنام وكفراً بالله وتكذيباً لرسله إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه. أو إلى حيث أتمكن من عبادته "سيهدين" أي سيهديني إلى المكان الذي أمرني بالذهاب إليه، أو إلى مقصدي. وقيل إن الله سبحانه أمره بالمسير إلى الشام، وقد سبق بيان هذا في سورة الكهف مستوفى.
قال مقاتل: فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال: 100- "رب هب لي من الصالحين" أي ولداً صالحاً من الصالحين يعينني على طاعتك ويؤنسني في الغربة هكذا قال المفسرون، وعللوا ذلك بأن الهبة قد غلب معناها في الولد، فتحمل عند الاطلاق عليه، وإذا وردت مقيدة حملت على ما قيدت به كما في قوله: "ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً". وعلى فرض أنها لم تغلب في طلب الولد.
فقوله: 101- "فبشرناه بغلام حليم" يدل على أنه ما أراد بقوله: "رب هب لي من الصالحين" إلا الولد، ومعنى حليم: أن يكون حليماً عند كبره، فكأنه بشر ببقاء ذلك الغلام حتى يكبر ويصير حليماً، لأن الصغير لا يوصف بالحلم. قال الزجاج: هذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر، وأنه يبقى حتى ينتهي في السن ويوصف بالحلم.
102- "فلما بلغ معه السعي" في الكلام حذف كما تشعر به هذه الفاء الفصيحة والتقدير: فوهبنا له الغلام فنشأ حتى صار إلى السن التي يسعى فيها مع أبيه في أمور دنياه. قال مجاهد: "فلما بلغ معه السعي" أي شب وأدرك سعيه سعي إبراهيم. وقال مقاتل: لما مشى معه. قال الفراء كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة. وقال الحسن: هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة. وقال ابن زيد: هو السعي في العبادة، وقيل هو الاحتلام "قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك" قال إبراهيم لابنه لما بلغ معه ذلك المبلغ: إني رأيت في المنام هذه الرؤيا. قال مقاتل: رأى إبراهيم ذلك ثلاث ليال متتابعات. قال قتادة: رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئاً فعلوه. وقد اختلف أهل العلم في الذبيح؟ هل هو إسحاق أو إسماعيل. قال القرطبي: فقال أكثرهم: الذبيح إسحاق وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب وابن عبد الله، وهو الصحيح عن عبد الله بن مسعود، ورواه أيضاً عن جابر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعمر بن الخطاب، قال: فهؤلاء سبعة من الصحابة. قال: ومن التابعين وغيرهم علقمة والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وكعب الأحبار وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي برزة وعطاء ومقاتل وعبد الرحمن بن سابط والزهري والسدي وعبد الله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس كلهم قالوا الذبيح إسحاق، وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى، واختاره غير واحد، منهم النحاس وابن جرير الطبري وغيرهما. قال وقال آخرون: هو إسماعيل، وممن قال بذلك أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس أيضاً، ومن التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وعلقمة، وعن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعي أين عزب عنك عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة. قال ابن كثير في تفسيره: وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى يقال عن بعض الصحابة وليس في ذلك كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تلقي إلا عن أخبار أهل الكتاب، وأخذ مسلماً من غير حجة، وكتاب الله شاهد مرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، وقال بعد ذلك "وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين" اهـ. واحتج القائلون بأنه إسحاق بأن الله عز وجل قد أخبرهم عن إبراهيم حين فارق قومه، فهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط فقال: "إني ذاهب إلى ربي سيهدين" أنه دعا فقال: "رب هب لي من الصالحين" فقال تعالى "فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب" ولأن الله قال: "وفديناه بذبح عظيم" فذكر أنه في الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم، وإنما بشر بإسحاق، لأنه قال: "وبشرناه بإسحاق" وقال هنا "بغلام حليم" وذلك قبل أن يعرف هاجر، وقبل أن يصير له إسماعيل، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلى إسحاق. قال الزجاج الله أعلم أيهما الذبيح اهـ، وما استدل به الفريقان يمكن الجواب عنه والمناقشة له. ومن جملة ما احتج به من قال إنه إسماعيل بأن الله وصفه بالصبر دون إسحاق كما في قوله: "وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين" وهو صبره على الذبح، ووصفه بصدق الوعد في قوله: "إنه كان صادق الوعد" لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح، فوفى به، ولأن الله سبحانه قال: "وبشرناه بإسحاق نبياً" فكيف يأمره بذبحه، وقد وعده أن يكون نبياً، وأيضاً فإن الله قال: "فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب" فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب، وأيضاً ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة، فدل على أن الذبيح إسماعيل، ولو كان إسحاق لكان الذبح واقعاً ببيت المقدس وكل هذا أيضاً يحتمل المناقشة "فانظر ماذا ترى" قرأ حمزة والكسائي "تري" بضم الفوقية وكسر الراء، والمفعولان محذوفان: أي انظر ماذا تريني إياه من صبرك واحتمالك. وقرأ الباقون من السبعة بفتح التاء والراء من الرأي، وهو مضارع رأيت، وقرأ الضحاك والأعمش، ترى بضم التاء وفتح الراء مبنياً للمفعول: أي ماذا يخيل إليك ويسنح لخاطرك. قال الفراء في بيان معنى القراءة الأولى: انظر ماذا ترى من صبرك وجزعك. قال الزجاج: لم يقل هذا أحد غيره، وإنما قال العلماء ماذا تشير: أي ما تريك نفسك من الرأي، وقال أبو عبيد: إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة وكذا قال أبو حاتم، وغلطهما النحاس وقال: هذا يكون من رؤية العين وغيرها، ومعنى القراءة الثانية ظاهر واضح، وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله، وإلا فرؤيا الأنبياء وحي، وامتثالها لازم لهم متحتم عليهم "قال يا أبت افعل ما تؤمر" أي ما تؤمر به مما أوحي إليك من ذبحي، وما موصولة، وقيل مصدرية على معنى افعل أمرك، والمصدر مضاف إلى المفعول، وتسمية المأمور به أمراً، والأول أولى "ستجدني إن شاء الله من الصابرين" على ما ابتلاني به من الذبح، والتعليق بمشيئة الله سبحانه تبركاً بها منه.