تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 70 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 70

 {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ * وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَـٰباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلاٌّخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى ٱلشَّـٰكِرِينَ * وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِىۤ أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ * فَأاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلاٌّخِرَةِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ * يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَـٰسِرِينَ * بَلِ ٱللَّهُ مَوْلَـٰكُمْ وَهُوَ خَيْرُ ٱلنَّـٰصِرِينَ * سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَـٰناً وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَىٰ ٱلظَّـٰلِمِينَ *وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَـٰزَعْتُمْ فِى ٱلاٌّمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلاٌّخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِىۤ أُخْرَاكُمْ فَأَثَـٰبَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَـٰبَكُمْ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ظَنَّ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلاٌّمْرِ مِن شَىْءٍ قُلْ إِنَّ ٱلاٌّمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِىۤ أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلاٌّمْرِ شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَـٰهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ ٱللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ * إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ أنكر اللَّه في هذه الآية ، على من ظن أنه يدخل الجنة دون أن يبتلى بشدائد التكاليف التي يحصل بها الفرق بين الصابر المخلص في دينه ، وبين غيره وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة كقوله : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ} ، وقوله : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} ، وقوله : {الم * أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ} .
وفي هذه الآيات سر لطيف وعبرة وحكمة ، وذلك أن أبانا ءَادم كان في الجنة يأكل منها رغدًا حيث شاء في أتم نعمة وأكمل سرور ، وأرغد عيش . كما قال له ربه : {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ} ، ولو تناسلنا فيها لكنا في أرغد عيش وأتم نعمة ، ولكن إبليس عليه لعائن اللَّه احتال بمكره وخداعه على أبوينا حتى أخرجهما من الجنة ، إلى دار الشقاء والتعب .
وحينئذ حكم اللَّه تعالىٰ أن جنته لا يدخلها أحد إلا بعد الابتلاء بالشدائد وصعوبة التكاليف . فعلى العاقل منا معاشر بني ءادم أن يتصور الواقع ويعلم أننا في الحقيقة سبي سباه إبليس بمكره وخداعه من وطنه الكريم إلى دار الشقاء والبلاء ، فيجاهد عدوه إبليس ونفسه الأمّارة بالسوء حتى يرجع إلى الوطن الأول الكريم ، كما قال ابن القيم : ولكننا سبي العدو فهل ترى نرد إلى أوطاننا ونسلم

ولهذه الحكمة أكثر اللَّه تعالىٰ في كتابه من ذكر قصة إبليس مع ءَادم لتكون نصب أعيننا دائمًا .
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} ، هذه الآية الكريمة على قراءة من قرأ قتل بالبناء للمفعول يحتمل نائب الفاعل فيها أن يكون لفظة ربيون وعليه فليس في قتل ضمير أصلاً ، ويحتمل أن يكون نائب الفاعل ضميرًا عائدًا إلى النبيّ ، وعليه فمعه خبر مقدم وربيون مبتدأ مؤخر سوغ الابتداء به اعتماده على الظرف قبله ووصفه بما بعده والجملة حالية والرابط الضمير ، وسوغ إتيان الحال من النكرة التي هي نبي وصفه بالقتل ظلمًا ، وهذا هو أجود الأعاريب المذكورة في الآية على هذا القول ، وبهذين الاحتمالين في نائب الفاعل المذكور يظهر أن في الآية إجمالاً . والآيات القرآنية مبينة أن النبيّ المقاتل غير مغلوب بل هو غالب ، كما صرّح تعالىٰ بذلك في قوله : {كَتَبَ ٱللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} ، وقال قبل هذا : {أُوْلَـئِكَ فِى ٱلاْذَلّينَ} ، وقال بعده : {إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} .
وأغلب معاني الغلبة في القرءَان الغلبة بالسيف والسنان كقوله : {إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَـٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُو} ، وقوله : {إِن يَكُن مّنكُمْ * مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ} ، وقوله : {الم * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ فِى أَدْنَى ٱلاْرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ} ، وقوله : {كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً} ،
وقوله : {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} ، إلى غير ذلك من الآيات .
وبيّن تعالىٰ أن المقتول ليس بغالب بل هو قسم مقابل للغالب بقوله : {وَمَن يُقَـٰتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ} ، فاتضح من هذه الآيات أن القتل ليس واقعًا على النبيّ المقاتل ؛ لأن اللَّه كتب وقضى له في أزله أنه غالب ، وصرّح بأن المقتول غير غالب .
وقد حقق العلماء أن غلبة الأنبياء على قسمين ، غلبة بالحجة والبيان ، وهي ثابتة لجميعهم ، وغلبة بالسيف والسنان ، وهي ثابتة لخصوص الذين أمروا منهم بالقتال في سبيل اللَّه ؛ لأن من لم يؤمر بالقتال ليس بغالب ولا مغلوب ؛ لأنه لم يغالب في شىء وتصريحه تعالىٰ ، بأنه كتب إن رسله غالبون شامل لغلبتهم من غالبهم بالسيف ، كما بيّنا أن ذلك هو معنى الغلبة في القرءَان ، وشامل أيضًا لغلبتهم بالحجة والبيان ، فهو مبين أن نصر الرسل المذكور في قوله : {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَ} ، وفي قوله : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ} ، أنه نصر غلبة بالسيف والسنان للذين أمروا منهم بالجهاد ؛ لأن الغلبة التي بيّن أنها كتبها لهم أخص من مطلق النصر ؛ لأنها نصر خاص ، والغلبة لغة القهر والنصر لغة إعانة المظلوم ، فيجب بيان هذا الأعم بذلك الأخص .
وبهذا تعلم أن ما قاله الإمام الكبير ابن جرير رحمه اللَّه ومن تبعه في تفسير قوله : {إِنَّا لَنَنصُرُ} ، من أنه لا مانع من قتل الرسول المأمور بالجهاد ، وأن نصره المنصوص في الآية ، حينئذ يحمل على أحد أمرين :
أحدهما : أن اللَّه ينصره بعد الموت ، بأن يسلط على من قتله من ينتقم منه ، كما فعل بالذين قتلوا يحيىٰ وزكرياء وشعيا من تسليط بختنصر عليهم ، ونحو ذلك . الثاني : حمل الرسل في قوله : {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَ} ، على خصوص نبيّنا صلى الله عليه وسلم وحده ، أنه لا يجوز حمل القرءَان عليه لأمرين :
أحدهما : أنه خروج بكتاب اللَّه عن ظاهره المبتادر منه بغير دليل من كتاب ، ولا سنة ولا إجماع ، والحكم بأن المقتول من المتقاتلين هو المنصور بعيد جدًا ، غير معروف في لسان العرب ، فحمل القرءَان عليه بلا دليل غلط ظاهر ، وكذلك حمل الرسل على نبيّنا وحده صلى الله عليه وسلم فهو بعيد جدًا أيضًا ، والآيات الدالّة على عموم الوعد بالنصر لجميع الرسل كثيرة ، لا نزاع فيها .
الثاني : أن اللَّه لم يقتصر في كتابه على مطلق النصر الذي هو في اللغة إعانة المظلوم ، بل صرح بأن ذلك النصر المذكور للرسل نصر غلبة بقوله : {كَتَبَ ٱللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} ، وقد رأيت معنى الغلبة في القرءَان ومر عليك أن اللَّه جعل المقتول قسمًا مقابلاً للغالب في قوله : {وَمَن يُقَـٰتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ} ، وصرح تعالىٰ بأن ما وعد به رسله لا يمكن تبديله بقوله جلّ وعلا : {وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ * اتِيهِمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَـٰتِ ٱللَّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ} ، ولا شكّ أن قوله تعالىٰ : {كَتَبَ ٱللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} ، من كلماته التي صرّح بأنها لا مبدل لها وقد نفى جلّ وعلا عن المنصور أن يكون مغلوبًا نفيًا باتًّا بقوله : {إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} ، وذكر مقاتل أن سبب نزول قوله تعالىٰ : {كَتَبَ ٱللَّهُ لاَغْلِبَنَّ} ، أن بعض الناس قال : أيظن محمد وأصحابه أن يغلبوا الروم ، وفارس ، كما غلبوا العرب زاعمًا أن الروم وفارس لا يغلبهم النبيّ صلى الله عليه وسلم لكثرتهم وقوّتهم فأنزل اللَّه الآية ، وهو يدل على أن الغلبة المذكورة فيها غلبة بالسيف والسنان ؛ لأن صورة السبب لا يمكن إخراجها ، ويدل له قوله قبله : {أُوْلَـئِكَ فِى ٱلاْذَلّينَ} ، وقوله بعده : {إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} .
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب ، أننا نستشهد للبيان بالقراءة السبعية بقراءة شاذّة ، فيشهد للبيان الذي بيّنا به ، أن نائب الفاعل ربيون ، وأن بعض القراء غير السبعة قرأ قتل معه ربيون بالتشديد ؛ لأن التكثير المدلول عليه بالتشديد يقتضي أن القتل واقع على الربيين .
ولهذه القراءة رجح الزمخشري ، والبيضاوي ، وابن جني ؛ أن نائب الفاعل ربيون ، ومال إلى ذلك الألوسي في « تفسيره » مبيّنًا أن دعوى كون التشديد لا ينافي وقوع القتل على النبيّ ؛ لأن : { كَأَيِّن} إخبار بعدد كثير أي : كثير من أفراد النبيّ قتل خلاف الظاهر ، وهو كما قال ، فإن قيل : قد عرفنا أن نائب الفاعل المذكور محتمل لأمرين ، وقد ادعيتم أن القرءَان دل على أنه ربيون لا ضمير النبي لتصريحه بأن الرسل غالبون ، والمقتول غير غالب ، ونحن نقول دل القرءَان في آيات أُخر ، على أن نائب الفاعل ضمير النبيّ ، لتصريحه في آيات كثيرة بقتل بعض الرسل كقوله : {فَرِيقاً * كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} ، وقوله : {قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِٱلْبَيّنَـٰتِ وَبِٱلَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} ، فما وجه ترجيح ما استدللتم به على أن النائب ربيون ، على ما استدللنا به على أن النائب ضمير النبيّ فالجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن ما استدللنا به أخص مما استدللتم به ، والأخص مقدم على الأعم ، ولا يتعارض عام وخاص ، كما تقرر في الأصول ، وإيضاحه أن دليلنا في خصوص نبي أمر بالمغالبة في شىء ، فنحن نجزم بأنه غالب فيه تصديقًا لربنا في قوله : {كَتَبَ ٱللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} ، سواء أكانت تلك المغالبة في الحجّة والبيان ، أم بالسيف والسنان ، ودليلكم فيما هو أعم من هذا ؛ لأن الآيات التي دلّت على قتل بعض الرسل ، لم تدلّ على أنه في خصوص جهاد ، بل ظاهرها أنه في غير جهاد ، كما يوضحه .
الوجه الثاني : وهو أن جميع الآيات الدالّة على أن بعض الرسل قتلهم أعداء اللَّه كلها في قتل بني إسرٰئيل أنبياءهم ، في غير جهاد ، ومقاتله إلا موضع النزاع وحده .
الوجه الثالث : أن ما رجحناه من أن نائب الفاعل ربيون ، تتفق عليه آيات القرءَان اتفاقًا واضحًا ، لا لبس فيه على مقتضى اللسان العربي في أفصح لغاته ، ولم تتصادم منه آيتان ، حيث حملنا الرسول المقتول على الذي لم يؤمر بالجهاد ، فقتله إذن لا إشكال فيه ، ولا يؤدي إلى معارضة آية واحدة من كتاب اللَّه ؛ لأن اللَّه حكم للرسل بالغلبة ، والغلبة لا تكون إلا مع مغالبة ، وهذا لم يؤمر بالمغالبة في شىء ، ولو أمر بها في شىء لغلب فيه ، ولو قلنا بأن نائب الفاعل ضمير النبي لصار المعنى أن كثيرًا من الأنبياء المقاتلين قتلوا في ميدان الحرب ، كما تدل عليه صيغة {وَكَأَيّن} المميزة بقوله : {مّن نَّبِىٍّ} ، وقتل الأعداء هذا العدد الكثير من الأنبياء المقاتلين في ميدان الحرب مناقض مناقضة صريحة لقوله : {كَتَبَ ٱللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} ، وقد عرفت معنى الغلبة في القرءَان ، وعرفت أنه تعالىٰ ، بين أن المقتول غير الغالب ، كما تقدم ، وهذا الكتاب العزيز ما أنزل ليضرب بعضه بعضًا ، ولكن أنزل ليصدق بعضه بعضًا ، فاتضح أن القرءَان دلّ دلالة واضحة على أن نائب الفاعل ربيون ، وأنه لم يقتل رسول في جهاد ، كما جزم به الحسن البصري وسعيد بن جبير ، والزجاج ، والفراء ، وغير واحد ، وقصدنا في هذا الكتاب البيان بالقرءَان ،
لا بأقوال العلماء ، ولذا لم ننقل أقوال من رجح ما ذكرنا .
وما رجح به بعض العلماء كون نائب الفاعل ضمير النبي من أن سبب النزول يدل على ذلك ؛ لأن سبب نزولها أن الصائح صاح قتل محمّد صلى الله عليه وسلم وأن قوله : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} ، يدلّ على ذلك وأن قوله : {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ} ، يدلّ على أن الربيين لم يقتلوا ؛ لأنهم لو قتلوا لما قال عنهم : {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ} ، فهو كلام كله ساقط وترجيحات لا معول عليها فالترجيح بسبب النزول فيه أن سبب النزول لو كان يقتضي تعيين ذكر قتل النبيّ لكانت قراءة الجمهور قاتل بصيغة الماضي من المفاعلة جارية على خلاف المتعين وهو ظاهر السقوط كما ترى والترجيح بقوله : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} ، ظاهر السقوط ؛ لأنهما معلقان بأداة الشرط والمعلق بها لا بدل على وقوع نسبة أصلاً لا إيجابًا ، لا سلبًا حتى يرجح بها غيرها .
وإذا نظرنا إلى الواقع في نفس الأمر وجدنا نبيهم صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لم يقتل ولم يمت والترجيح بقوله : {فَمَا وَهَنُو} ، سقوطه كالشمس في رابعة النهار وأعظم دليل قطعي على سقوطه قراءة حمزة والكسائي : {وَلاَ تُقَـٰتِلُوهُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَـٰتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ} ، كل الأفعال من القتل لا من القتال وهذه القراءة السبعية المتواترة فيها . فإن قتلوكم بلا ألف بعد القاف فعل ماض من القتل فاقتلوهم أفتقولون هذا لا يصح ؛ لأن المقتول لا يمكن أن يؤمر بقتل قاتله . بل المعنى قتلوا بعضكم وهو معنى مشهور في اللغة العربية يقولون : قتلونا وقتلناهم ، يعنون وقوع القتل على البعض كما لا يخفى . وقد أشرنا إلى هذا البيان في كتابنا « دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب » ، والعلم عند اللَّه تعالىٰ .
{يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَٰنِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى ٱلاٌّرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ يُحْيىِ وَيُمِيتُ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَٰنِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى ٱلاٌّرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا مات بعض إخوانهم يقولون لو أطاعونا فلم يخرجوا إلى الغزو ما قتلوا ، ولم يبيّن هنا هل يقولون لهم ذلك قبل السفر إلى الغزو ليثبطوهم أو لا ؟ ونظير هذه الآية : قوله تعالىٰ : {ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوٰنِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُو} ، ولكنه بيّن في آيات أُخر أنهم يقولون لهم ذلك قبل الغزو ليثبطوهم كقوله : {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى ٱلْحَرّ} ، وقوله : {قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَٱلْقَائِلِينَ لإِخْوٰنِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَ} ، وقوله : {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ} ، إلى غير ذلك من الآيات .
{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى ٱلله تُحْشَرُونَ }
، وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ذكر في هذه الآية الكريمة أن المقتول في الجهاد والميت كلاهما ينال مغفرة من اللَّه ورحمة خيرًا له مما يجمعه من حطام الدنيا وأوضح وجه ذلك في آية أخرى بيّن فيها أن اللَّه اشترى منه حياة قصيرة فانية منغصة بالمصائب والآلام بحياة أبدية لذيذة لا تنقطع ولا يتأذى صاحبها بشىء واشترى منه مالاً قليلاً فانيًا بملك لا ينفذ ولا ينقضي أبدًا ، وهي قوله : {إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّ} ، وقال تعالىٰ : {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِير} ، وبيّن في آية أخرى أن فضل اللَّه ورحمته خير مما يجمعه أهل الدنيا من حطامها وزاد فيها الأمر بالفرح بفضل اللَّه ورحمته دون حطام الدنيا ، وهي قوله تعالىٰ : {قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} ، وتقديم المعمول يؤذن بالحصر أعني قوله : {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُو} ، أي : دون غيره فلا يفرحوا بحطام الدنيا الذي يجمعونه .
وقال تعالىٰ : {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ} .