تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 97 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 97

 {لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتَغَآءَ مَرْضَـٰتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً * وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً * إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلاً بَعِيداً }
، لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ ذكر في هذه الآية الكريمة أن كثيرًا من مناجاة الناس فيما بينهم لا خير فيه .
ونهى في موضع آخر عن التناجي بما لا خير فيه ، وبيّن أنه من الشيطان ليحزن به المؤمنين ، وهو قوله تعالىٰ : {ٱلْمَصِيرُ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَـٰجَوْاْ بِٱلإثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَـٰجَوْاْ بِٱلْبِرّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَ} .
وقوله في هذه الآية الكريمة : {أَوْ إِصْلَـٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ} ، لم يبيّن هنا هل المراد بالناس المسلمون دون الكفار أو لا .
ولكنه أشار في مواضع أُخر أن المراد بالناس المرغب في الإصلاح بينهم هنا المسلمون خاصة كقوله تعالىٰ : {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} ، وقوله : {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَ} ، فتخصيصه المؤمنين بالذكر يدلّ على أن غيرهم ليس كذلك كما هو ظاهر ، وكقوله تعالىٰ : {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} .
وقال بعض العلماء : إن الأمر بالمعروف المذكور في هذه الآية في قوله : {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} ، يبيّنه قوله تعالىٰ : {وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ} ، وقوله : {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاب} ، والآية الأخيرة فيها أنها في الآخرة ، والأمر بالمعروف المذكور إنما هو في الدنيا ، والعلم عند اللَّه تعالىٰ .
{إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَـٰثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَـٰناً مَّرِيداً }
، وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَـٰناً مَّرِيداً المراد في هذه الآية بدعائهم الشيطان المريد عبادتهم له ، ونظيره قوله تعالىٰ : {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى بَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ} ، وقوله عن خليله إبراهيم مقررًا له : {سَوِيّاً يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَـٰنَ} ، وقوله عن الملائكة: {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ}، وقوله : {وَكَذٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَـٰدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} ، ولم يبيّن في هذه الآيات ما وجه عبادتهم للشيطان ، ولكنّه بيّن في آيات أُخر أن معنى عبادتهم للشيطان إطاعتهم له واتباعهم لتشريعه وإيثاره على ما جاءت به الرسل من عند اللَّه تعالىٰ ، كقوله : {وَإِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَـٰدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ، وقوله : {ٱتَّخَذُواْ أَحْبَـٰرَهُمْ وَرُهْبَـٰنَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ٱللَّهِ} ، فإن عدي بن حاتم رضي اللَّه عنه لما قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : كيف اتخذوهم أربابًا ؟ قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنهم أحلوا لهم ما حرّم اللَّه ، وحرّموا عليهم ما أحلّ اللَّه فاتبعوهم » ، وذلك هو معنى اتخاذهم إياهم أربابًا . ويفهم من هذه الآيات بوضوح لا لبس فيه أن من اتبع تشريع الشيطان مؤثرًا له على ما جاءت به الرسل ، فهو كافر باللَّه ، عابد للشيطان ، متّخذ الشيطان ربًّا ، وإن سمّى أتباعه للشيطان بما شاء من الأسماء ؛ لأن الحقائق لا تتغير بإطلاق الألفاظ عليها ، كما هو معلوم .
{لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَقَالَ لاّتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً }
، وَقَالَ لاّتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً بيّن هنا فيما ذكر عن الشيطان كيفية اتخاذه لهذا النصيب المفروض ، بقوله : {وَلاَضِلَّنَّهُمْ وَلامَنّيَنَّهُمْ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ عَنْ ٱلاْنْعَـٰمِ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ} ، والمراد بتبتيك آذان الأنعام شق أذن البحيرة مثلاً وقطعها ليكون ذلك سمة وعلامة لكونها بحيرة أو سائبة ، كما قاله قتادة والسدي وغيرهما ، وقد أبطله تعالىٰ بقوله : {مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ} ، والمراد ببحرها شقّ أذنها كما ذكرنا ، والتبتيك في اللغة : التقطيع ، ومنه قول زهير : حتى إذا ما هوت كف الوليد لها طارت وفي كفه من ريشها بتك

أي : قطع ، كما بيّن كيفية اتخاذه لهذا النصيب المفروض في آيات أُخر كقوله : {لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ} ، وقوله : {قَالَ أَرَءيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ لاحْتَنِكَنَّ} ، ولم يبيّن هنا هل هذا الظن الذي ظنْه إبليس ببني ءادم أنه يتخذ منهم نصيبًا مفروضًا وأنه يضلهم تحقق لإبليس أو لا ، ولكنّه بيّن في آية أخرى أن ظنه هذا تحقق
له ، وهي قوله : {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} ، ولم يبيّن هنا الفريق السالم من كونه من نصيب إبليس ، ولكنّه بيّنه في مواضع أُخر كقوله : {لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ}ز ، وقوله : {إِنَّمَا سُلْطَـٰنُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} ، إلى غير ذلك من الآيات ولم يبيّن هنا هل نصيب إبليس هذا هو الأكثر أو لا ، ولكنّه بيّن في مواضع أُخر أنه هو الأكثر ، كقوله : {وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} ، وقوله : {وَمَا أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} ، وقوله : {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلاْرْضِ يُضِلُّوكَ} ، وقوله : {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ ٱلاْوَّلِينَ} . وقد ثبت في الصحيح أن نصيب الجنة واحد من الألف والباقي في النار .
{وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلاّمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلاٌّنْعَـٰمِ وَلاّمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَـٰنَ وَلِيّاً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُوراً * أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً * وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاٌّنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً }
. وَلاّمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ قال بعض العلماء : معنى هذه الآية أن الشيطان يأمرهم بالكفر وتغيير فطرة الإسلام التي خلقهم اللَّه عليها ، وهذا القول يبيّنه ويشهد له قوله تعالىٰ : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ} ، إذ المعنى على التحقيق لا تبدلوا فطرة اللَّه التي خلقكم عليها بالكفر . فقوله : {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ} ، خبر أريد به الإنشاء إيذانًا بأنه لا ينبغي ألا أن يمتثل ، حتى كأنه خبر واقع بالفعل لا محالة ، ونظيره قوله تعالىٰ : {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} ، أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ويشهدا لهذا ما ثبت في « الصحيحين » من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تجدون فيها من جدعاء » ، وما رواه مسلم في « صحيحه » عن عياض بن حمار بن أبي حمار التميمي ، قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : « إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم » .
وأما على القول بأن المراد في الآية بتغيير خلق اللَّه خصاء الدواب ، والقول بأن المراد به الوشم ، فلا بيان في الآية المذكورة ، وبكل من الأقوال المذكورة . قال جماعة من العلماء : وتفسير بعض العلماء لهذه الآية بأن المراد بها خصاء الدواب يدل على عدم جوازه ؛ لأنه مسوق في معرض الذم واتباع تشريع الشيطان ، أما خصاء بني ءادم فهو حرام إجماعًا ؛ لأنه مثلة وتعذيب وقطع عضو ، وقطع نسل من غير موجب شرعي ، ولا يخفى أن ذلك حرام .
وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت به المنفعة إما لسمن أو غيره ، وجمهور العلماء على أنه لا بأس أن يضحى بالخصي ، واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن من غيره ، ورخّص في خصاء الخيل عمر بن عبد العزيز ، وخصى عروة بن الزبير بغلاً له ، ورخّص مٰلك في خصاء ذكور الغنم ، وإنما جاز ذلك ؛ لأنه لا يقصد به التقرب إلى غير اللَّه ، وإنما يقصد به تطييب لحم ما يؤكل وتقوية الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى ، ومنهم من كره ذلك لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون » . قاله القرطبي ، واختاره ابن المنذر قال : لأن ذلك ثابت عن ابن عمر وكان يقول هو : نماء خلق اللَّه ، وكره ذلك عبد الملك بن مروان .
وقال الأوزاعي : كانوا يكرهون خصاء كل شىء له نسل .
وقال ابن المنذر : وفيه حديثان :
أحدهما : عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن خصاء الغنم والبقر والإبل والخيل » .
والآخر : حديث ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن صبر الروح وخصاء البهائم » ، والذي في « الموطأ » من هذا الباب ما ذكره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره الإخصاء ، ويقول : فيه تمام الخلق .
قال أبو عمر ، يعني في ترك الإخصاء : تمام الخلق ، وروي نماء الخلق .
قال القرطبي : بعد أن ساق هذا الكلام الذي ذكرنا قلت : أسند أبو محمد عبد الغني من حديث عمر بن إسماعيل ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : « لا تخصوا ما ينمي خلق اللَّه » ، رواه عن الدارقطني شيخه قال : حدثنا عباس بن محمد ، حدثنا قراد ، حدثنا أبو مالك النخعي عن عمر بن إسماعيل فذكره .
قال الدارقطني : ورواه عبد الصمد بن النعمان عن أبي مٰلك .اهـ. من القرطبي بلفظه ، وكذلك على القول بأن المراد بتغيير خلق اللَّه الوشم ، فهو يدلّ أيضًا على أن الوشم حرام .
وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أنه قال : لعن اللَّه الواشمات والمستوشمات والنامصات والمنتمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق اللَّه عزّ وجلّ ، ثم قال : ألا ألعن من لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب اللَّه عزّ وجلّ ، يعني قوله تعالىٰ : {وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُو} .
وقالت طائفة من العلماء : المراد بتغيير خلق اللَّه في هذه الآية هو أن اللَّه تعالىٰ خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات للاعتبار وللانتفاع بها ، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة .
وقال الزجاج : إن اللَّه تعالىٰ خلق الأنعام لتركب وتؤكل ، فحرموها على أنفسهم وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس ، فجعلوها آلهة يعبدونها ، فقد غيروا ما خلق اللَّه .
وما روى عن طاوس رحمه اللَّه من أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود ، ويقول : هذا من قول اللَّه تعالىٰ : {فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ}، فهو مردود بأن اللفظ وإن كان يحتمله ، فقد دلّت السنّة على أنه غير مراد بالآية فمن ذلك إنفاذه صلى الله عليه وسلم نكاح مولاه زيد بن حارثة رضي اللَّه عنه وكان أبيض بظئره بركة أم أسامة، وكانت حبشيية سواء ، ومن ذلك إنكاحه صلى الله عليه وسلم أُسامة بن زيد فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية وأسامة أسود ، وكانت تحت بلال أخت عبد الرحمٰن بن عوف من بني زهرة بن كلاب ، وقد سها طاوس رحمه اللَّه مع علمه وجلالته عن هذا .
قال مقيده عفا اللَّه عنه : ويشبه قول طاوس هذا في هذه الآية ما قال بعض علماء المالكية من أن السوداء تزوج بولاية المسلمين العامة بناء على أن مٰلكًا يجيز تزويج الدنية بولاية عامة مسلم إن لم يكن لها وليّ خاص مجبر . قالوا : والسوداء دنية مطلقًا ؛ لأن السواد شوه في الخلقة وهذا القول مردود عند المحققين من العلماء ، والحق أن السوداء قد تكون شريفة ، وقد تكون جميلة ، وقد قال بعض الأدباء : وسوداء الأديم تريك وجهًا ترى ماء النعيم جرى عليه
رآها ناظري فرنا إليها وشكل الشىء منجذب إليه

وقال آخر : ولي حبشية سلبت فؤادي ونفسي لا تتوق إلى سواها
كأن شروطها طرق ثلاث تسير بها النفوس إلى هواها

وقال آخر في سوداء :
أشبهك المسك وأشبهته قائمة في لونه قاعدة
لا شك إذ لونكما واحد أنكما من طينة واحدة

وأمثاله في كلام الأدباء كثيرة .
وقوله : {وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ ٱلاْنْعَـٰمِ} ، يدلّ على أن تقيطع آذان الأنعام لا يجوز وهو كذلك . أما قطع أذن البحيرة والسائبة تقربًا بذلك للأصنام فهو كفر باللَّه إجماعًا ، وأما تقطيع آذان البهائم لغير ذلك فالظاهر أيضًا أنه لا يجوز ، ولذا أمرنا صلى الله عليه وسلم : « أن نستشرف العين ، والأذن ، ولا نضحى بعوراء ، ولا مقابلة ، ولا مدابرة ، ولا خرقاء ، ولا شرقاء » . أخرجه أحمد ، وأصحاب السنن الأربع ، والبزار ، وابن حبان ، والحاكم ، والبيهقي من حديث علي رضي اللَّه عنه وصححه الترمذي ، وأعلّه الدارقطني ، والمقابلة المقطوعة طرف الأذن ، والمدابرة المقطوعة مؤخر الأذن ، والشرقاء مشقوقة الأذن طولاً ، والخرقاء التي خرقت أذنها خرقًا مستديرًا ، فالعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء .
قال مالك : والليث المقطوعة الأذن لا تجزىء ، أو جلّ الأذن قاله القرطبي ، والمعروف من مشهور مذهب مالك أن الذي يمنع الإجزاء قطع ثلث الأذن فما فوقه لا ما دونه فلا يضر ، وإن كانت سكاء وهي التي خلقت بلا أذن . فقال مالك ، والشافعي : لا تجزىء ، وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت ، وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك ، وإن كانت مشقوقة الأذن للميسم أجزأت عند الشافعي ، وجماعة الفقهاء ، قاله القرطبي في تفسير هذه الآية ، والعلم عند اللَّه تعالىٰ .