تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 98 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 98

 {لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِىِّ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً }
، لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِىِّ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لم يبيّن هنا شيئًا من أمانيهم ، ولا من أماني أهل الكتاب ، ولكنّه أشار إلى بعض ذلك في مواضع أُخر كقوله في أماني العرب الكاذبة : {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوٰلاً وَأَوْلَـٰداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} ، وقوله عنهم : {إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} ، ونحو ذلك من الآيات . وقوله في أماني أهل الكتاب : {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} ، وقوله : {وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَاء ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} ، ونحو ذلك من الآيات .
وما ذكره بعض العلماء من أن سبب نزول الآية أن المسلمين وأهل الكتاب تفاخروا ، فقال أهل الكتاب : نبيّنا قبل نبيّكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن أولى باللَّه منكم ، وقال المسلمون : نحن أولى باللَّه منكم ، ونبيّنا خاتم النبيّين ، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله ، فأنزل اللَّه : {لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيّكُمْ} ، لا ينافي ما ذكرنا ؛ لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفاً وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَٰهِيمَ خَلِيلاً * وَللَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطاً }
، وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ ذكر تعالىٰ في هذه الآية الكريمة أنه لا أحد أحسن دينًا ممن أسلم وجهه للَّه في حال كونه محسنًا ؛ لأن استفهام الإنكار مضمن معنى النفي ، وصرّح في موضع آخر أن من كان كذلك فقد استمسك بالعروة الوثقى ، وهو قوله تعالىٰ : {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ} ، ومعنى إسلام وجهه للَّه إطاعته وإذعانه ، وانقياده لَّله تعالىٰ بامتثال أمره ، واجتناب نهيه في حال كونه محسنًا ، أي : مخلصًا عمله للَّه لا يشرك فيه به شيئًا مراقبًا فيه للّهِ كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه فاللَّه تعالىٰ يراه ، والعرب تطلق إسلام الوجه ، وتريد به الإذعان والإنقياد التامّ ، ومنه قول زيد بن نفيل العدويّ :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبًا زلالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرًا ثقالا

{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى ٱلنِّسَآءِ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ فِى يَتَـٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّلَـٰتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلْوِلْدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَـٰمَىٰ بِٱلْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً }
، وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ فِى يَتَـٰمَى ٱلنِّسَآءِ لم يبيّن هنا هذا الذي يتلىٰ عليهم في الكتاب ما هو ، ولكنّه بيّنه في أول السورة وهو قوله تعالىٰ : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء} ، كما قدّمناه عن أُمّ المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها فقوله هنا : {وَمَا يُتْلَىٰ} ، في محل رفع معطوفًا على الفاعل الذي هو لفظه الجلالة ، وتقرير المعنى :{قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} ، أيضًا : {مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ * فِى ٱلْكِتَـٰبِ فِى يَتَـٰمَى ٱلنّسَاء} ، وذلك قوله تعالىٰ : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ}، ومضمون ما أفتى به هذا الذي يتلى علينا في الكتاب هو تحريم هضم حقوق اليتيمات فمن خاف أن لا يقسط في اليتيمة التي في حجره فيتركها ولينكح ما طاب له سواها ، وهذا هو التحقيق في معنى الآية كما قدمنا ، وعليه فحرف الجر المحذوف في قوله : {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} ، هو عن أي : ترغبون عن نكاحهن لقلة مالهنّ وجمالهنّ ، أي : كما أنكم ترغبون عن نكاحهن إن كن قليلات مال وجمال ، فلا يحلّ لكم نكاحهن إن كن ذوات مال وجمال إلا بالإقساط إليهن في حقوقهن ، كما تقدم عن عائشة رضي اللَّه عنها .
وقال بعض العلماء : الحرف المحذوف هو «في» أي : ترغبون في نكاحهن إن كن متصفات بالجمال وكثرة المال مع أنكم لا تقسطون فيهن ، والذين قالوا بالمجاز واختلفوا في جواز محل اللفظ على حقيقته ومجازه معًا أجازوا ذلك في المجاز العقلي كقولك : أغناني زيد وعطاؤه ، فإسناد الإغناء إلى زيد حقيقة عقلية ، وإسناده إلى العطاء مجاز عقلي فجاز جمعها ، وكذلك إسناد الإفتاء إلى اللَّه حقيقي ، وإسناده إلى ما يتلى مجاز عقلي عندهم لأنه سببه فيجوز جمعهما .
وقال بعض العلماء : إن قوله : {وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ} ، في محل جر معطوفًا على الضمير ، وعليه فتقرير المعنى :{قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} ويفتيكم فيما يتلى عليكم ، وهذا الوجه يضعفه أمران :
الأول : أن الغالب أن اللَّه يفتي بما يتلى في هذا الكتاب ، ولا يفتي فيه لظهور أمره .
الثاني : أن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ضعفه غير واحد من علماء العربية ، وأجازه ابن مالك مستدلاً بقراءة حمزة ، {وَٱلاْرْحَامَ} بالخفض عطفًا على الضمير من قوله : {تَسَاءلُونَ بِهِ} ، وبوروده في الشعر كقوله : فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب

بجر الأيام عطفًا على الكاف ونظيره قول الآخر : نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب مهوى نفانف

بجر الكعب معطوفًا على الضمير قبله وقول الآخر : وقد رام آفاق السماء فلم يجد له مصعدًا فيها ولا الأرض مقعدا

فقوله :
ولا الأرض بالجر معطوفًا على الضمير وقول الآخر : أمر على الكتيبة لست أدري أحتفي كان فيها أم سواها

فسواها في محل جر بالعطف على الضمير . وأجيب عن الآية بجواز كونها قسمًا ، واللَّه تعالىٰ له أن يقسم بما شاء من خلقه ، كما أقسم بمخلوقاته كلها في قوله تعالىٰ : {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} ، وعن الأبيات بأنها شذوذ يحفظ ، ولا يقاس عليه وصحح ابن القيم جواز العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ، وجعل منه قوله تعالىٰ : {حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} ، فقال إن قوله : {وَمِنْ} في محل جر عطفًا على الضمير المجرور في قوله : {حَسْبَكَ} ، وتقرير المعنى عليه: {حَسْبَكَ ٱللَّهُ} ، أي : كافيك ، وكافي من اتبعك من المؤمنين ، وأجاز ابن القيم والقرطبي في قوله : {وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ} ، أن يكون منصوبًا معطوفًا على المحل ؛ لأن الكاف مخفوض في محل نصب ونظيره قول الشاعر : إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاكَ سيف مهند

بنصب الضحاك كما ذكرنا ، وجعل بعض العلماء منه قوله تعالىٰ : {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـٰيِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرٰزِقِينَ} ، فقال : {وَمِنْ} عطف على ضمير الخطاب في قوله {لَكُمْ} وتقرير المعنى عليه ، وجعلنا لكم ولمن لستم له برازقين فيها معايش ، وكذلك إعراب {وَمَا يُتْلَىٰ} بأنه مبتدأ خبره محذوف أو خبره في الكتاب ، وإعرابه منصوبًا على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره ، ويبيّن لكم ما يتلى ، وإعرابه مجرورًا على أنه قسم ، كل ذلك غير ظاهر .
وقال بعض العلماء : إن المراد بقوله : {وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ} ، آيات المواريث ؛ لأنهم كانوا لا يورثون النساء فاستفتوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأنزل اللَّه آيات المواريث .
وعلى هذا القول ، فالمبين لقوله : {وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ}، هو قوله : {يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِى أَوْلَـٰدِكُمْ} . وقوله في آخر السورة : {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى ٱلْكَلَـٰلَةِ} ، والظاهر أن قول أم المؤمنين أصح وأظهر .
تنبيــه
المصدر المنسبك من «أن» وصلتها في قوله : {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} ، أصله مجرور بحرف محذوف ، وقد قدمنا الخلاف هل هو «عن» ، وهو الأظهر ، أو هو«في» وبعد حذف حرف الجر المذكور فالمصدر في محل نصب على التحقيق ، وبه قال الكسائي والخليل : وهو الأقيس لضعف الجار عن العمل محذوفًا .
وقال الأخفش : هو في محل جر بالحرف المحذوف بدليل قول الشاعر : وما زرت ليلى أن تكون حبيبة إليّ ولا دينٍ بها أنا طالبه

بجر «دين» عطفًا على محل «أن تكون» أي : لكونها حبيبة ولا لدين ، وردّ أهل القول الأول الاحتجاج بالبيت بأنه من عطف التوهم ، كقول زهير : بدا لي أني لست مدرك ما مضى ولا سابقٍ شيئًا إذا كان جائيا

بجر « سابق » لتوهم دخول الباء على المعطوف عليه الذي هو خبر ليس ، وقول الآخر : مشائم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا ببين غرابها

واعلم أن حرف الجر لا يطرد حذفه إلا في المصدر المنسبك من ، «أن»،بجر «ناعب» لتوهم الباء وأجاز سيبويه الوجهين. وصلتهما عند الجمهور خلافًا لعلي بن سليمان الأخفش القائل بأنه مطرد في كل شىء عند أمن اللبس ، وعقده ابن مالك في «الكافية» بقوله : وابن سليمٰن اطراده رأى إن لم يخف لبس كمن زيد نأى

وإذا حذف حرف الجر مع غير «أن» ، وأن نقلاً على مذهب الجمهور ، وقياسًا عند أمن اللبس في قول الأخفش فالنصب متعين ، والناصب عند البصريين الفعل ، وعند الكوفيين نزع الخافض كقوله : تمرون الديار ولن تعوجوا كلامكم عليّ إذن حرام

وبقاؤه مجرورًا مع حذف الحرف شاذ ، كقول الفرزدق : إذا قيل أي الناس شر قبيلة أشارت كليب بالأكف الأصابع

أي : أشارت الأصابع بالأكف ، أي : مع الأكف إلى كليب .
وقوله تعالىٰ : {مِنَ ٱلْوِلْدَٰنِ وَأَن تَقُومُو} ، القسط : العدل ، ولم يبيّن هنا هذا القسط الذي أمر به لليتامى ، ولكنه أشار له في مواضع أُخر كقوله : {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} ، وقوله : {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوٰنُكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ} ، وقوله : {فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} ، وقوله : {لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ} ، ونحو ذلك من الآيات ، فكل ذلك فيه القيام بالقسط لليتامى .