تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 102 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 102

101

نفي الحب كناية عن البغض، وقراءة الجمهور 148- "إلا من ظلم" على البناء للمجهول. وقرأ زيد بن أسلم وابن أبي إسحاق والضحاك وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب "إلا من ظلم" على البناء للمعلوم، وهو على القراءة الأولى استثناء متصل بتقدير مضاف محذوف: أي إلا جهر من ظلم، وقيل: إنه على القراءة الأولى أيضاً منقطع: أي لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان. واختلف أهل العلم في كيفية الجهر بالسوء الذي يجوز لمن ظلم، فقيل: هو أن يدعو على من ظلمه، وقيل: لا بأس أن يجهر بالسوء من القول على من ظلمه بأن يقول: فلان ظلمني أو هو ظالم أو نحو ذلك، وقيل معناه: إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو نحوه فهو مباح له، والآية على هذا في الإكراه، وكذا قال قطرب، قال: ويجوز أن يكون على البدل كأنه قال لا يحب الله إلا من ظلم: أي لا يحب الظالم بل يحب المظلوم. والظاهر من الآية أنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه، ويؤيده الحديث الثابت في الصحيح بلفظ "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته"، وأما على القراءة الثانية فالاستثناء منقطع: أي: إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له. وقال قوم: معنى الكلام: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول، لكن من ظلم فإنه يحهر بالسوء ظلماً وعدواناً وهو ظالم في ذلك، وهذا شأن كثير من الظلمة فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم على من ظلموه وينالون من عرضه. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى إلا من ظلم فقال سوءاً، فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه ويكون استثناء ليس من الأول "وكان الله سميعاً عليماً" هذا تحذير للظالم بأن الله يسمع ما يصدر منه ويعلم به، ثم بعد أن أباح للمظلوم أن يجهر بالسوء ندب إلى ما هو الأولى والأفضل.
فقال 149- "إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء" تصابون به "فإن الله كان عفواً" عن عباده "قديراً" على الانتقام منهم بما كسبت أيديهم فاقتدوا به سبحانه فإنه يعفو مع القدرة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول" قال: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً فإنه رخص له أن يدعو على من ظلمه وإن يصبر فهو خير له. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في الآية قال: نزلت في رجل ضاف رجلاً بفلاة من الأرض فلم يضفه، ثم ذكر أنه لم يضفه لم يزد على ذلك. وأخرج ابن المنذر عن إسماعيل "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم" قال: كان الضحاك بن مزاحم يقول: هذا على التقديم والتأخير، يقول الله ما فعل بعذابكم إن شكرتم وآمنتم إلا من ظلم، وكان يقرأها كذلك، ثم قال "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول" أي: على كل حال هكذا قال، وهو قريب من التحريف لمعنى الآية. وقد أخرج ابن أبي شيبة والترمذي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا على من ظلمه فقد انتصر". وروى نحوه أبو داود عنها من وجه آخر. وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتسابان ما قالاه، فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم".
لما فرغ من ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، لأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك كالكفر بجميع الرسل والكتب المنزلة، والكفر بذلك كفر بالله، وينبغي حمل قوله 150- " إن الذين يكفرون بالله ورسله " على أنه استلزم ذلك كفرهم ببعض الكتب والرسل لا أنهم كفروا بالله ورسله جميعاً، فإن أهل الكتاب لم يكفروا بالله ولا بجميع رسله، لكنهم لما كفروا بالبعض كان ذلك كفر بالله وبجميع الرسل. ومعنى: "ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله" أنهم كفروا بالرسل بسبب كفرهم ببعضهم وآمنوا بالله، فكان ذلك تفريقاً بين الله وبين رسله "ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض" هم اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد، كذلك النصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد "ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً" أي: يتخذوا بين الإيمان والكفر ديناً متوسطاً بينهما، فالإشارة بقوله "ذلك" إلى قوله: نؤمن ونكفر.
151- "أولئك هم الكافرون" أي: الكاملون في الكفر. وقوله "حقاً" مصدر مؤكد لمضمون الجملة: أي حق ذلك حقاً، أو هو صفة لمصدر الكافرين: أي كفراً حقاً.
قوله 152- "ولم يفرقوا بين أحد منهم" بأن يقولوا: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ودخول بين على أحد لكونه عاماً في المفرد مذكراً ومؤنثاً ومثناهما وجمعهما. وقد تقدم تحقيقه، والإشارة بقوله "أولئك" إلى الذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية، قال "أولئك" أعداء الله اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى وكفروا بالقرآن ومحمد، اتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله وتركوا الإسلام، وهو دين الله الذي بعث به رسله. وأخرج ابن جرير عن السدي وابن جريج نحوه.
قوله 153- "يسألك أهل الكتاب" هم اليهود سألوه صلى الله عليه وسلم أن يرقى إلى السماء وهم يرونه، فينزل عليهم كتاباً مكتوباً فيما يدعيه يدل على صدقه دفعة واحدة كما أتى موسى بالتوراة تعنتاً منهم، أبعدهم الله، فأخبره الله عز وجل بأنهم قد سألوا موسى سؤالاً أكبر من هذا السؤال، فقالوا "أرنا الله جهرة" أي: عياناً، وقد تقدم معناه في البقرة، وجهرة نعت لمصدر محذوف: أي رؤية جهرة. وقوله "فقد سألوا" جواب شرط مقدر: أي إن استكبرت هذا السؤال منهم لك فقد سألوا موسى أكبر من ذلك. قوله "فأخذتهم الصاعقة" هي النار التي نزلت عليهم من السماء فأهلكتهم، والباء في قوله "بظلمهم" لسببية: أي بسبب ظلمهم في سؤالهم الباطل لامتناع الرؤية عياناً في هذه الحالة، وذلك لا يستلزم امتناعها يوم القيامة، فقد جاءت بذلك لامتناع الرؤية عياناً في هذه الحالة، وذلك لا يستلزم امتناعها يوم القيامة، فقد جاءت بذلك الأحاديث المتواترة. ومن استدل بهذه الآية على امتناع الرؤية يوم القيامة فقد غلط غلطاً بيناً، ثم لم يكتفوا بهذا السؤال الباطل الذي نشأ منهم بسبب ظلمهم بعد ما رأوا المعجزات، بل ضموا إليه ما هو أقبح منه وهو عبادة العجل. وفي الكلام حذف والتقدير: فأحييناهم فاتخذوا العجل. والبينات: البراهين والدلائل، والمعجزات من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها "فعفونا عن ذلك" أي: عما كان منهم من التعنت وعبادة العجل "وآتينا موسى سلطاناً مبيناً" أي: حجة بينة وهي الآيات التي جاء بها، وسميت سلطاناً، لأن من جاء بها قهر خصمه، ومن ذلك أمر الله سبحانه له بأن يأمرهم بقتل أنفسهم توبة عن معصيتهم، فإنه من جملة السلطان الذي قهرهم به.
154- "ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم" أي: بسبب ميثاقهم ليعطوه، لأنه روي أنهم امتنعوا من قبول شريعة موسى فرفع الله عليهم الطور فقبلوها، وقيل: إن المعنى بسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ منهم، وهو العمل بما في التوراة وقد تقدم رفع الجبل في البقرة، وكذلك تفسير دخولهم الباب سجداً "وقلنا لهم لا تعدوا في السبت" فتأخذوا ما أمرتم بتركه فيه من الحيتان، وقد تقدم تفسير ذلك، وقرئ لا تعتدوا وتعدوا بفتح العين وتشديد الدال "وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً" مؤكداً وهو العهد الذي أخذه عليهم في التوراة، وقيل إنه عهد مؤكداً باليمين، فسمي غليظاً لذلك.