تفسير الطبري تفسير الصفحة 102 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 102
103
101
 الآية : 148
القول في تأويل قوله تعالى:
{لاّ يُحِبّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً }.
اختلف القراء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار بضمّ الظاء.
وقرأه بعضهم: «إلاّ مَنْ ظَلَمَ» بفتح الظاء. ثم اختلف الذين قرءوا ذلك بضمّ الظاء في تأويله فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحب الله تعالى ذكره أنيجهر أحدنا بالدعاء على أحد, وذلك عندهم هو الجهر بالسوء إلاّ مَنْ ظُلِم يقول: إلا من ظُبم فيدعو على ظالمه, فإن الله جلّ ثناؤه لا يكره له ذلك, لأنه قد رخص له في ذلك. ذكر مَن قال ذلك:
8546ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: لا يُحبّ الله الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ يقول: لا يحبّ الله أنيدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما, فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظَلَمَه, وذلك قوله: إلاّ مَنْ ظُلِمَ وإن صبر فهو خير له.
8547ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: لا يُحِبّ ا, الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلَمَ فإنه يحبّ الجهر بالسوء من القول.
8548ـ حدثنا بشر ين معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: لايُحِبّ الله الجِهْرَ بالسّوءِ منَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ وكانَ الله سَمِعَا عَليما عذر الله المظلوم كما تسمعون أن يدعو.
8549ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا أبو عبيد, قال: ثناهشيم, عن يونس, عن الحسن, قال: هو الرجل يظلم الرجل, فلا يدْعُ عليه, ولكن ليقل: اللهمّ أعنيعليه اللهمّ استخرج لي حقي اللهمّ حل بينه وبين ما يريد ونحوه من الدعاء.
ف «مَنْ» على قول ابن عباس هذا في موضع رفع, لأنه وجه إلى أن الجهر بالسوء في معنى الدعاء, واستثنى المظلوم منه, فكان معنى الكلام على قوله: لا يحبّ الله أن يجهر بالسوء من القول, إلا المظلوم فلا حرج عليهخ في الجهر به. وهذا مذهب يراه أهل العربية خطأ في العربية, وذلك أن «مَنُ» لا يجوز أن يكون رفعا عندهم باجهر,لأنها في صلة «أنْ», وأنْ لم ينله الجحد فال يجوز العطف عليه من الخطإ عندهم أن يقال: لا يعجبني أن يقوم إلا ريد. وقد يحتمل أن تكون «مَنْ» نصبا على تأويل قول ابن عباس, ويكون قوله: لا يُحِبّ الله الجَهْرِ بالسّوءِ منَ القَوْلِ لاما تامّا, ثم قيل: إلاّ مَنْ ظُلِمَ فلا حرد عليه, فيكون «مَنْ» استثناء من الغعل, وإن لم يكن قبل الاستثناء شيء ظاهر يستثنى منه, كما قال جلّ ثناؤه: لَسْتُ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ.
إلاّ مَنْ تَوَلى وكَفَرَ وكقولهم: إني لأكره الخصومة والمراء, اللهمّ إلا رجلاً يريد الله بذلك. ولم يذكر قبله شيء من الأسماء. و«مَنْ» على قول الحسن هذا نصب على أنه مستثنى من معنى الكلام, لا من الاسم كما ذكرنا قبلُ في تأويل الله خيرا فعل كذا وكذا.
وقال آخرون: بل معنىذلك: لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول, إلا من ظُلم فيُخبر بما نيل منه. ذكر من قال ذلك:
8550ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو معاوية, عن محمد بن إسحاق, عن ابن أبي نجيع, عن مجاهد, قال: هو الرجل ينزل بالرجل, فلا يحسن ضيافته, فيخرج من عنده, فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن.
8551ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال: إلا من أثَر ما قيل له.
حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج بن المنهال, قال: حدثنا حماد, عن محمد بن إسحاق, عن عبد الله بن أبي نجيع, عن مجاهد: لايُحِبّ الله الجِهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال: هو الضيف المحوّل رحله, فإنه يجهر لصاحيه بالسوء من القول.
وقال آخرون: عنى بذلك الرجل ينزل بالرجل فلا يَقرِيه, فينال من الذب لم يَقْرِه. ذكر من قال لك:
8552ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيع, عن مجاهد في قوله: إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال: من ظُلم فانتصر يجهر بالسوء.
حدثني المثنى, قال: ثن أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيع, مثله.
8553ـ وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيع, عن إبراهيم بن أبي بكر, عن مجاهد. وعن حميد الأعرج, عن مجاهد: لا يُهِبّ الله الجَهْرَ بالسّوء مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ. قال: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن إليه, فقد رخص الله له أنَ يقول فيه.
حدثنيأحمد بن حماد الدّولابيّ, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيع, عن إبراهيم بن أبي بكر,عن مجاهد: لا يُحِبّ الله الجَهْرِ بالسّوءِ منَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال: هو في الضيافة يأتي الرجل القوم فينزل عليهم فلا يضيفونه, رخص الله له أن يقول فيهم. حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الـمثنى بن الصبـاح, عن مـجاهد فـي قوله: لا يُحِبّ اللّهُ الـجَهْرَ بـالسّوءِ مِنَ القَوْلِ... الاَية, قال: ضاف رجل رجلاً, فلـم يؤدّ إلـيه حقّ ضيافته, فلـما خرج أخبر الناس, فقال: ضفت فلانا فلـم يودّ حقّ ضيافتـي, فذلك جهر بـالسوء إلاّ مَنْ ظُلِـمَ حين لـم يودّ إلـيه ضيافته.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال مـجاهد: إلا من ظلـم فـانتصر يجهر بسوء. قال مـجاهد: نزلت فـي رجل ضاف رجلاً بفلاة من الأرض فلـم يضفه, فنزلت إلاّ مَنْ ظُلِـمَ ذكر أنه لـم يضفه, لا يزيد علـى ذلك.
وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من ظُلـم فـانتصر من ظالـمه, فإن الله قد أذن له فـي ذلك. ذكر من قال ذلك:
8554ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: لا يُحِبّ اللّهُ الـجَهْرَ بـالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِـمَ يقول: إن الله لا يحبّ الـجهر بـالسوء من أحدٍ من الـخـلق, ولكن من ظلـم فـانتصر بـمثل ما ظلـم, فلـيس علـيه جناح.
ف «مَنْ» علـى هذه الأقوال التـي ذكرناها سوى قول ابن عبـاس فـي موضع نصب علـى انقطاعه من الأول, والعرب من شأنها أن تنصب ما بعد إلا فـي الاستثناء الـمنقطع فكان معنى الكلام علـى هذه الأقوال سوى قول ابن عبـاس: لا يحبّ الله الـجهر بـالسوء من القول, ولكن من ظُلـم فلا حرج علـيه أن يخبر بـما نـيـل منه أو ينتصر مـمن ظلـمه.
وقرأ ذلك آخرون بفتـح الظاء: «إلاّ مَنْ ظَلَـمَ» وتأوّلوه: لا يحبّ الله الـجهر بـالسوء من القول, إلا من ظَلـم, فلا بأس أن يُجهر له بـالسوء من القول. ذكر من قال ذلك:
8555ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: كان أبـي يقرأ: «لا يُحِبّ اللّهُ الـجَهْرَ بـالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظَلَـمَ» قال ابن زيد: يقول: إلا من أقام علـى ذلك النفـاق فـيجهر له بـالسوء حتـى ينزع. قال: وهذه مثل: وَلا تَنابَزُوا بـالألْقابِ بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ أن تسميه بـالفسق بَعْدَ الإيـمانِ بعد إذ كان مؤمنا, وَمَنْ لَـمْ يَتُبْ من ذلك العمل الذي قـيـل له, فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِـمُونَ قال: هو أشرّ مـمن قال ذلك له.
8556ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: «لا يُحِبّ اللّهُ الـجَهْرَ بـالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظَلَـمَ» فقرأ: إنّ الـمُنافِقِـينَ فِـي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ حتـى بلغ: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الُـمؤْمِنِـينَ أجْرا عَظِيـما ثم قال بعد ما قال: هم فـي الدرك الأسفل من النار. ما يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُـمْ وآمَنْتُـمْ وكانَ اللّهُ شاكِرا عَلـيـما «لا يُحِبّ اللّهُ الـجَهْرَ بـالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظَلَـمَ» قال: لا يحبّ الله أن يقول لهذا: ألست نافقت؟ ألست الـمنافق الذي ظلـمت وفعلت وفعلت؟ من بعد ما تاب, «إلاّ مَنْ ظَلَـم», إلا من أقام علـى النفـاق. قال: وكأن أبـي يقول ذلك له ويقرؤها: «إلاّ مَنْ ظَلَـمَ».
«مَنْ» علـى هذا التأويـل نصب لتعلقه بـالـجهر. وتأويـل الكلام علـى قول قائل هذا القول. لا يحبّ الله أن يجهر أحد لأحد من الـمنافقـين بـالسوء من القول «إلاّ مَنْ ظَلَـمَ» منهم, فأقام علـى نفـاقه فإنه لا بأس بـالـجهر له بـالسوء من القول.
قال أبو جعفر: وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك قراءة من قرأ: إلاّ مَنْ ظُلِـمَ بضمّ الظاء, لإجماع الـحجة من القرّاء وأهل التأويـل علـى صحتها, وشذوذ قراءة من قرأ ذلك بـالفتـح. فإذ كان ذلك أولـى القراءتـين بـالصواب, فـالصواب فـي تأويـل ذلك: لا يحبّ الله أيها الناس أن يجهر أحد لأحد بـالسوء من القول إلاّ مَنْ ظُلِـمَ بـمعنى: إلا من ظُلـم فلا حرج علـيه أن يخبر بـما أسيء إلـيه. وإذا كان ذلك معناه, دخـل فـيه إخبـار من لـم يُقْرَ أو أسيء قِرَاه, أو نـيـل بظلـم فـي نفسه أو ماله عَنوة من سائر الناس, وكذلك دعاؤه علـى من ناله بظلـم أن ينصره الله علـيه, لأن فـي دعائه علـيه إعلاما منه لـمن سمع دعاءه علـيه بـالسوء له. وإذ كان ذلك كذلك, ف «مَنْ» فـي موضع نصب, لأنه منقطع عما قبله, وأنه لا أسماء قبله يستثنى منها, فهو نظير قول: لَسْتَ عَلَـيْهِمْ بِـمُسَيْطِرٍ إلاّ مَنْ تَوَلـىّ وكَفَرَ.
وأما قوله: وكانَ اللّهُ سَمِيعا عَلِـيـما فإنه يعنـي: وكان الله سميعا لـمِا يجهرون به من سوء القول لـمن يجهرون له به, وغير ذلك من أصواتكم وكلامكم, علـيـما بـما تـخفون من سوء قولكم وكلامكم لـمن تـخفون له به, فلا تـجهرون له به, مـحصٍ كلّ ذلك علـيكم حتـى يجازيَكم علـى ذلك كله جزاءكم الـمسيء بـاساءته والـمـحسن بإحسانه.
الآية : 149
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً }.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه إنْ تُبْدُوا أيها الناس خيرا يقول: إن تقولوا جميلاً من القول لـمن أحسن إلـيكم, فتظهروا ذلك شكرا منكم له علـى ما كان منه من حسن إلـيكم, أوْ تُـخْفُوهُ يقول: أو تتركوا إظهار ذلك فلا تبدوه, أوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ يقول: أو تصفحوا لـمن أساء إلـيكم عن إساءته, فلا تـجهروا له بـالسوء من القول الذي قد أذنت لكم أن تـجهروا له به. فإنّ اللّهَ كانَ عَفُوّا يقول: لـم يزل ذا عفو عن خـلقه, يصفح لهم عمن عصاه وخالف أمره. قَدِيرا يقول: ذا قدرة علـى الانتقام منهم. وإنـما يعنـي بذلك: أن الله لـم يزل ذا عفو عن عبـاده مع قدرته علـى عقابهم علـى معصيتهم إياه. يقول: فـاعفوا أنتـم أيضا أيها الناس عمن أتـى إلـيكم ظلـما, ولا تـجهروا له بـالسوء من القول وإن قدرتـم علـى الإساءة إلـيه, كما يعفو عنكم ربكم مع قدرته علـى عقابكم وأنتـم تعصونه وتـخالفون أمره. وفـي قوله جلّ ثناؤه: إنْ تُبْدُوا خَيْرا أوْ تُـخْفُوهُ أوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فإنّ اللّهَ كانَ عَفُوّا قَدِيرا الدلالة الواضحة علـى أن تأويـل قوله: لا يُحِبّ اللّهُ الـجَهْرَ بـالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِـمَ بخلاف التأويـل الذي تأوّله زيد ابن أسلـم فـي زعمه أن معناه: لا يحبّ الله الـجهر بـالسوء من القول لأهل النفـاق, إلا من أقام علـى نفـاقه, فإنه لا بأس بـالـجهر له بـالسوء من القول. وذلك أنه جلّ ثناؤه قال عقـيب ذلك: إنْ تُبْدُوا خَيْرا أوْ تُـخْفُوهُ أوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ ومعقول أن الله جلّ ثناؤه لـم يأمر الـمؤمنـين بـالعفو عن الـمنافقـين علـى نفـاقهم, ولا نهاهم أن يُسَمّوا من كان منهم معلن النفـاق منافقا, بل العفو عن ذلك مـما لا وجه له معقول, لأن العفو الـمفهوم إنـما هو صفح الـمرء عما له قِبَل غيره من حقّ, وتسمية الـمنافق بـاسمه لـيس بحقّ لأحد قِبله فـيؤمر بعفوه عنه, وإنـما هو اسم له, وغير مفهوم الأمر بـالعفو عن تسمية الشيء بـما هو اسمه.
الآية : 150-151
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً }.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بـاللّهِ وَرُسُلِهِ من الـيهود والنصارى, وَيُرِيدُون أنْ يُفَرّقُوا بـينَ اللّهِ وَرُسُلِهِ بأن يكذّبوا رسل الله الذين أرسلهم إلـى خـلقه بوحيه, ويزعمون أنهم افتروا علـى ربهم, وذلك هو معنى إرادتهم التفريقَ بـين الله ورسله, بنـحلتهم إياهم الكذب والفرية علـى الله, وادّعائهم علـيهم الأبـاطيـل. وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ يعنـي أنهم يقولون: نصدّق بهذا ونكذّب بهذا, كما فعلت الـيهود من تكذيبهم عيسى ومـحمدا صلـى الله علـيهما وسلـم وتصديقهم بـموسى وسائر الأنبـياء قَبله بزعمهم, وكما فعلت النصارى من تكذيبهم مـحمدا صلى الله عليه وسلم وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبـياء قَبله بزعمهم. وَيُرِيدُونَ أنَ يَتّـخِذُوا بـينَ ذَلِكَ سَبِـيلاً يقول: ويريد الـمفرقون بـين الله ورسله, الزاعمون أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض, أن يتـخذوا بـين أضعاف قولهم: نؤمن ببعض الأنبـياء ونكفر ببعض, سبـيلاً: يعنـي طريقا إلـى الضلالة التـي أحدثوها والبدعة التـي ابتدعوها, يدعون أهل الـجهر من الناس إلـيه. فقال جلّ ثناؤه لعبـاده, منبها لهم علـى ضلالتهم وكفرهم: أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقّا يقول: أيها الناس هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم هم أهل الكفربـي, الـمستـحقون عذابـي والـخـلودَ فـي ناري حقّا, فـاستـيقنوا ذلك, ولا يشككنكم فـي أمرهم انتـحالهم الكذب ودعواهم أنهم يقرّون بـما زعموا أنهم به مقرون من الكتب والرسل, فإنهم فـي دعواهم ما ادّعوا من ذلك كَذَبةٌ. وذلك أن الـمؤمن بـالكتب والرسل, هو الـمصدّق ببعض ذلك وكذّب ببعض, فهو لنبوّة من كذّب ببعض ما جاء به جاحد, ومن جحد نبوّة نبـيّ فهو به مكذّب. وهؤلاء الذين جحدوا نبوّة بعض الأنبـياء وزعموا أنهم مصدّقون ببعض, مكذّبون من زعموا أنهم به مؤمنون, لتكذيبهم ببعض ما جاءهم به من عند ربهم, فهم بـالله وبرسله الذين يزعمون أنهم بهم مصدّقون, والذين يزعمون أنهم بهم مكذّبون كافرون, فهم الـجاحدون وحدانـية الله ونبوّة أنبـيائه, حقّ الـجحود الـمكذّبون بذلك حقّ التكذيب, فـاحذروا أن تغترّوا بهم وببدعتهم, فإنا قد أعتدنا لهم عذابـا مهينا.
وأما قوله: وَأعْتَدْنا للكافِرِينَ عَذَابـا مُهِينا فإنه يعنـي: وأعتدنا لـمن جحد بـالله ورسوله جحود هؤلاء الذين وصفت لكم أيها الناس أمرهم من أهل الكتاب ولغيرهم من سائر أجناس الكفـار عذابـا فـي الاَخرة مهينا, يعنـي: يهين من عذّب به بخـلوده فـيه.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
8557ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بـاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أنْ يُفَرّقُوا بـينَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أنْ يَتّـخِذُوا بـينَ ذَلكَ سَبِـيلاً أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقّا وأعْتَدْنا للْكافِرِينَ عَذَابـا مُهِينا أولئك أعداء الله الـيهود والنصارى, آمنت الـيهود بـالتوراة وموسى وكفروا بـالإنـجيـل وعيسى وآمنت النصارى بـالإنـجيـل وعيسى وكفروا بـالقرآن وبـمـحمد صلى الله عليه وسلم, فـاتـخذوا الـيهودية والنصرانـية, وهما بدعتان لـيستا من الله, وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رسله.
8558ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بـاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أنْ يُفَرّقُوا بـينَ اللّهِ وَرُسُلِهِ يقولون: مـحمد لـيس برسولٍ لله وتقول الـيهود: عيسى لـيس برسولٍ لله, فقد فرّقوا بـين الله وبـين رسله. وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ فهؤلاء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
8559ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قوله: إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بـاللّهِ وَرُسُلِهِ... إلـى قوله: بـينَ ذَلِكَ سَبِـيلاً قال: الـيهود والنصارى: آمنت الـيهود بعزير وكفرت بعيسى, وآمنت النصارى بعيسى وكفرت بعُزَير, وكانوا يؤمنون بـالنبـيّ ويكفرون بـالاَخر. وَيُرِيدُونَ أنْ يَتّـخِذُوا بـينَ ذَلِكَ سَبِـيلاً قال: دِينا يدينون به الله.
الآية : 152
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ أُوْلَـَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً }.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: والذين صدّقوا بوحدانـية الله, وأقرّوا بنبوّة رسله أجمعين, وصدّقوهم فـيـما جاءوهم به من عند الله من شرائع دينه ولَـمْ يُفَرّقُوا بـينَ أحَدٍ مِنْهُمْ يقول: ولـم يكذّبوا بعضهم, ويصدّقوا بعضهم, ولكنهم أقرّوا أن كلّ ما جاءوا به من عند ربهم حقّ. أولَئِكَ يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم من الـمؤمنـين بـالله ورسله, سَوْفَ يُؤْتِـيهِمْ يقول: سوف يعطيهم أُجُورَهُمْ يعنـي: جزاءهم, وثوابهم علـى تصديقهم الرسل فـي توحيد الله وشرائع دينه وما جاءت به من عند الله. وكانَ اللّهُ غَفُورا يقول: يغفر لـمن فعل ذلك من خـلقه ما سلف له من آثامه, فـيستر علـيه بعفوه له عنه وتركه العقوبة علـيه, فإنه لـم يزل لذنوب الـمنـيبـين إلـيه من خـلقه غَفُورا رَحِيـما, يعنـي: ولـم يزل بهم رحيـما بتفضله علـيهم الهداية إلـى سبـيـل الـحقّ وتوفـيقه إياهم لـما فـيه خلاص رقابهم من النار.
الآية : 153
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىَ أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوَاْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمّ اتّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَىَ سُلْطَاناً مّبِيناً }.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: يَسْئَلكَ يا مـحمد أهْلُ الكِتابِ يعنـي بذلك: أهل التوراة من الـيهود, أنْ تُنَزّلَ عَلَـيْهِمْ كِتابـا مِنَ السّماءِ.
واختلف أهل التأويـل فـي الكتاب الذي سأل الـيهود مـحمدا صلى الله عليه وسلم أن ينزل علـيهم من السماء, فقال بعضهم: سألوه أن ينزل علـيهم كتابـا من السماء مكتوبـا, كما جاء موسى بنـي إسرائيـل بـالتوراة مكتوبة من عند الله. ذكر من قال ذلك:
8560ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَـيْهِمْ كِتابـا مِنَ السّماءِ قالت الـيهود: إن كنت صادقا أنك رسول الله, فأتنا كتابـا مكتوبـا من السماء كما جاء به موسى.
8561ـ حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو معشر, عن مـحمد بن كعب القرظي, قال: جاء أناس من الـيهود إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: إن موسى جاء بـالألواح من عند الله, فأتنا بـالألواح من عند الله حتـى نصدّقك فأنزل الله: يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَـيْهِمْ كِتابـا مِنَ السّماءِ... إلـى قوله: وَقَوْلِهِمْ علـى مَرْيَـمَ بُهْتانا عَظِيـما.
وقال آخرون: بل سألوه أن ينزّل علـيهم كتابـا خاصة لهم. ذكر من قال ذلك:
8562ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَـيْهِمْ كِتابـا مِنَ السّماءِ أي كتابـا خاصة فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقالُوا أرِنا اللّهَ جَهْرَةً.
وقال آخرون: بل سألوه أن ينزّل علـى رجال منهم بأعيانهم كتبـا بـالأمر بتصديقه واتبـاعه. ذكر من قال ذلك:
8563ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قوله: يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَـيْهِمْ كِتابـا مِنَ السّماءِ وذلك أن الـيهود والنصارى أتوُا النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقالوا: لن نتابعك علـى ما تدعونا إلـيه, حتـى تأتـينا بكتاب من عند الله إلـى فلان أنك رسول الله, وإلـى فلان بكتاب أنك رسول الله قال الله جلّ ثناؤه: يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَـيْهِمْ كِتابـا مِنَ السّماءِ فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنَ ذَلِكَ فقالُوا أرِنا الله جَهْرَةً.
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن أهل التوراة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه أن ينزّل علـيهم كتابـا من السماء آية, معجزة جميع الـخـلق عن أن يأتوا بـمثلها, شاهدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بـالصدق, آمرة لهم بـاتبـاعه. وجائز أن يكون الذي سألوه من ذلك كتابـا مكتوبـا ينزل علـيهم من السماء إلـى جماعتهم, وجائز أن يكون ذلك كتبـا إلـى أشخاص بأعينهم. بل الذي هو أولـى بظاهر التلاوة أن تكون مسألتهم إياه ذلك كانت مسألة لـينزل الكتاب الواحد إلـى جماعتهم لذكر الله تعالـى فـي خبره عنهم الكتاب بلفظ الواحد, بقوله: يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَـيْهِمْ كِتابـا مِنَ السّماءِ ولـم يقل: «كتبـا».
وأما قوله: فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فإنه توبـيخ من الله جلّ ثناؤه سائلـي الكتاب الذي سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزّله علـيهم من السماء فـي مسألتهم إياه ذلك, وتقريع منه لهم. يقول لنبـيه صلى الله عليه وسلم: يا مـحمد لا يعظمنّ علـيك مسألتهم ذلك, فإنهم من جهلهم بـالله وجراءتهم علـيه واغترارهم بحلـمه, لو أنزلتُ علـيهم الكتاب الذي سألوك أن تنزله علـيهم, لـخالفوا أمر الله كما خالفوه بعد إحياء الله أوائلهم من صَعْقتهم, فعبدوا العجل, واتـخذوه إلها يعبدونه من دون خالقهم وبـارئهم الذي أراهم من قدرته وعظيـم سلطانه ما أراهم لأنهم لن يعدوا أن يكونوا كأوائلهم وأسلافلهم. ثم قصّ الله من قصتهم وقصة موسى ما قصّ, يقول الله: فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ يعنـي: فقد سأل أسلاف هؤلاء الـيهود وأوائلهم موسى علـيه السلام أعظم مـما سألوك من تنزيـل كتاب علـيهم من السماء فقالوا له أرِنا اللّهَ جَهْرَةً: أي عيانا نعاينه وننظر إلـيه. وقد أتـينا علـى معنى الـجهرة بـما فـي ذلك من الرواية والشواهد علـى صحة ما قلنا فـي معناه فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
وقد ذكر عن ابن عبـاس أنه كان يقول فـي ذلك بـما:
8564ـ حدثنـي به الـحرث, قال: حدثنا أبو عبـيد, قال: حدثنا حجاج, عن هارون بن موسى, عن عبد الرحمن بن إسحاق, عن عبد الرحمن بن معاوية, عن ابن عبـاس فـي هذه الاَية, قال: إنهم إذا رأوه فقد رأوه, إنـما قالوا: جَهْرَةً أرِنا اللّهَ قال: هو مقدّم ومؤخّر.
وكان ابن عبـاس يتأوّل ذلك أن سؤالهم موسى كان جهرة.
وأما قوله: فَأخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ فإنه يقول: فصعقوا بظلـمهم أنفسهم, وظلـمهم أنفسهم كان مسألتهم موسى أن يريهم ربهم جهرة, لأن ذلك مـما لـم يكن لهم مسألته. وقد بـيّنا معنى الصاعقة فـيـما مضى بـاختلاف الـمختلفـين فـي تأويـلها والدلـيـل علـى أولـى ما قـيـل فـيها بـالصواب.
وأما قوله: ثُمّ اتّـخَذُوا العِجْلَ فإنه يعنـي: ثم اتـخذ هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوه من رؤية ربهم جهرة, بعد ما أحياهم الله, فبعثهم من صعقتهم, العِجْلَ الذي كان السامريّ نبذ فـيه ما نبذ من القبضة التـي قبضها من أثر فرس جبريـل علـيه السلام, إلها يعبدونه من دون الله. وقد أتـينا علـى ذكر السبَب الذي من أجله اتـخذوا العجل وكيف كان أمرهم وأمره فـيـما مضى بـما فـيه الكفـاية.
وقوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ يعنـي: من بعد ما جاءت هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوا البـيناتُ من الله, والدلالاتُ الواضحات بأنهم لن يروا الله عيانا جهارا. وإنـما عنى بـالبـينات: أنها آيات تبـين عن أنهم لن يروا الله فـي أيام حياتهم فـي الدنـيا جهرة, وكانت تلك الاَيات البـينات لهم علـى أن ذلك كذلك, إصعاق الله إياهم عند مسألتهم موسى أن يريهم ربه جهرة, ثم إحياءه إياهم بعد مـماتهم مع سائر الاَيات التـي أراهم الله دلالة علـى ذلك. يقول الله مقبحا إلـيهم فعلَهم ذلك وموضحا لعبـاده جهلهم ونقصَ عقولهم وأحلامهم: ثم أقرّوا للعجل بأنه لهم إله, وهم يرونه عيانا وينظرون إلـيه جهارا, بعد ما أراهم ربهم من الاَيات البـينات ما أراهم, أنهم لا يرون ربهم جهرة وعيانا فـي حياتهم الدنـيا, فعكفوا علـى عبـادته مصدّقـين بألوهته.
وقوله: فَعَفَوْنا عَنْ ذَلِكَ يقول: فعفونا لعَبَدَة العجل عن عبـادتهم إياه, وللـمصدّقـين منهم بأنه إلههم, بعد الذي أراهم الله أنهم لا يرون ربهم فـي حياتهم من الاَيات ما أراهم عن تصديقهم بذلك بـالتوبة التـي تابوها إلـى ربهم بقتلهم أنفسَهم وصبرهم فـي ذلك علـى أمر ربهم. وآتَـيْنا مُوسَى سُلْطانا مُبِـينا يقول: وآتـينا موسى حجة تبـين عن صدقه وحقـية نبوّته, وتلك الـحجة هي الاَيات البـينات التـي آتاه الله إياها.
الآية : 154
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقاً غَلِيظاً }..
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطّورَ يعنـي: الـجبل, وذلك لـما أمتنعوا من العمل بـما فِـي التوراة, وقبول ما جاءهم به موسى فـيها. بِـمِيثاقِهِمْ يعنـي: بـما أعطوا الله الـميثاق والعهد: لنعملنّ بـما فـي التوراة. وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا يعنـي: بـاب حطة, حين أُمروا أن يدخـلوا منه سجودا, فدخـلوا يزحفون علـى أستاههم. وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِـي السّبْتِ يعنـي بقوله: لا تَعْدُوا فِـي السّبْتِ: لا تتـجاوزوا فـي يوم السبت ما أبـيح لكم إلـى ما لـم يبح لكم. كما:
8565ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُـلوا البـابَ سُجّدا قال: كنا نـحدّث أنه بـاب من أبواب بـيت الـمقدس.
وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِـي السّبْتِ أمر القوم أن لا يأكلوا الـحيتان يوم السبت ولا يعرضوا لها, وأحلّ لهم ما وراء ذلك.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء أمصار الإسلام: لا تَعْدُوا فِـي السّبْتِ بتـخفـيف العين من قول القائل: عدوت فـي الأمر: إذا تـجاوزت الـحقّ فـيه, أعدو عَدْوا وعُدْوانا وعَدَاءً. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الـمدينة: «وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدّوا» بتسكين العين وتشديد الدال والـجمع بـين ساكنـين, بـمعنى: «تعتدوا» ثم تدغم التاء فـي الدال فتصير دالاً مشددة مضمومة, كما قرأ من قرأ: أمْ مّنْ لا يَهْدّي بتسكين الهاء. وقوله وأخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقا غَلِـيظا يعنـي: عهدا مؤكدا شديدا, بأنهم يعملون بـما أمرهم الله به وينتهون عما نهاهم الله عنه مـما ذكره فـي هذه الاَية ومـما فـي التوراة. وقد بـينا فـيـما مضى السبب الذي من أجله كانوا أمروا بدخول البـاب سجدا, وما كان من أمرهم فـي ذلك, وخبرهم وقصتهم, وقصة السبت, وما كان اعتداؤهم فـيه, بـما أغنى عن إعادته لفـي هذا الـموضع.
الآية : 155
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً }..
يعنـي جلّ ثناؤه: فبنقض هؤلاء الذين وصفت صفتهم من أهل الكتاب ميثاقهم, يعنـي عهودهم التـي عاهدوا الله أن يعملوا بـما فـي التوراة. وكُفْرِهِمْ بآياتِ اللّهِ يقول: وجحودهم بآيات الله, يعنـي: بأعلام الله وأدلته التـي احتـجّ بها علـيهم فـي صدق أنبـيائه ورسله, وحقـية ما جاءوهم به من عنده. وَقَتْلِهِمُ الأنْبِـياءَ بغيرِ حَقَ يقول: وبقتلهم الأنبـياء بعد قـيام الـحجة علـيهم بنبوّتهم بغير حقّ, يعنـي: بغير استـحقاق منهم ذلك لكبـيرة أتوها ولا خطيئة استوجبوا القتل علـيها. وقولهم: قُلُوبُنا غُلْفٌ يعنـي: وبقولهم: قلوبنا غلف, يعنـي يقولون: علـيها غشاوة وأغطية عما تدعونا إلـيه, فلا نَفْقَهُ ما تقول, ولا نعقله. وقد بـينا معنى الغلف, وذكرنا ما فـي ذلك من الرواية فـيـما مضى قبل. بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَـيْها بِكُفْرِهِمْ يقول جلّ ثناؤه: كذبوا فـي قولهم قلوبنا غلف, ما هي بغلف ولا علـيها أغطية ولكن الله جلّ ثناؤه جعل علـيها طابعا بكفرهم بـالله. وقد بـينا صفة الطبع علـى القلب فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته. فَلا يُؤْمِنونَ إلاّ قَلِـيلاً يقول: فلا يؤمن هؤلاء الذين وصف الله صفتهم لطبعه علـى قلوبهم, فـيصدّقوا بـالله ورسله وما جاءتهم به من عند الله إلا إيـمانا قلـيلاً, يعنـي: تصديقا قلـيلاً. وإنـما صار قلـيلاً لأنهم لـم يصدقوا علـى ما أمرهم الله به, ولكن صدّقوا ببعض الأنبـياء وببعض الكتب وكذّبوا ببعض, فكان تصديقهم بـما صدّقوا به قلـيلاً, لأنهم وإن صدّقوا به من وجه, فهم به مكذّبون من وجه آخر. وذلك من وجه تكذيبهم من كذّبوا به من الأنبـياء وما جاءوا به من كتب الله ورسل الله يصدّق بعضهم بعضا, وبذلك أمر كلّ نبـيّ أمته, وكذلك كتب الله يصدّق بعضها بعضا ويحقق بعض بعضا, فـالـمكذّب ببعضها مكذّب بجميعها من جهة جحوده ما صدّقه الكتاب الذي يقرّ بصحته, فلذلك صار إيـمانهم بـما آمنوا من ذلك قلـيلاً.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
8566ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فـي قوله: فَبِـما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ يقول: فبنقضهم ميثاقَهم لعناهم وَقَوْلهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ: أي لا نفقه, بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَـيْها بِكُفْرِهِمْ ولعنهم حين فعلوا ذلك.
واختلف فـي معنى قوله: فَبِـما نَقْضِهِمْ... الاَية, هل هو مواصل لـما قبله من الكلام, أو هو منفصل منه؟ فقال بعضهم: هو منفصل مـما قبله, ومعناه: فبنقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبـياء بغير حقّ وَقَوْلهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَـيْها بكُفْرِهِمْ ولعنهم. ذكر من قال ذلك:
8567ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِـيلاً لـما ترك القوم أمر الله, وقتلوا رسله, وكفروا بآياته, ونقضوا الـميثاق الذي أخذ علـيهم. طَبَعَ اللّهُ عَلَـيْها بِكُفْرِهِمْ ولعنهم.
وقال آخرون: بل هو مواصل لـما قبله قالوا: ومعنى الكلام: فأخذتهم الصاعقة بظلـمهم, فبنقضهم ميثاقَهم, وكفرهم بآيات الله, وبقتلهم الأنبـياء بغير حقّ وبكذا وكذا أخذتهم الصاعقة. قالوا: فتبع الكلام بعضه بعضا, ومعناه مردود إلـى أوّله. وتفسير ظلـمهم الذي أخذتهم الصاعقة من أجله بـما فسر به تعالـى ذكره مِن نقضهم الـميثاق, وقتلهم الأنبـياء, وسائر ما بـين من أمرهم الذي ظلـموا فـيه أنفسهم.
والصواب من القول فـي ذلك أن قوله: فَبِـما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وما بعده منفصل معناه من معنى ما قبله وأنّ معنى الكلام: فبـما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله, وبكذا وبكذا, لعنّاهم وغضبنا علـيهم, فترك ذكر «لعناهم» لدلالة قوله: بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَـيْها بِكُفْرِهِمْ علـى معنى ذلك, إذ كان مَن طبع علـى قلبه فقد لُعن وسُخط علـيه.
وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصواب, لأن الذين أخذتهم الصاعقة إنـما كانوا علـى عهد موسى والذين قتلوا الأنبـياء والذين رَمَوْا مريـم بـالبهتان العظيـم, وقالوا: قتلنا الـمسيحَ, كانوا بعد موسى بدهر طويـل, ولـم يدرك الذين رَمَوْا مريـم بـالبهتان العظيـم زمان موسى ولا مَن صُعِق من قومه. وإذ كان ذلك كذلك, فمعلوم أن الذين أخذتهم الصاعقة لـم تأخذهم عقوبة لِرَميهم مريـم بـالبهتان العظيـم, ولا لقولهم: إنا قتلنا الـمسيح عيسى ابن مريـم. وإذ كان ذلك كذلك, فبـين أن القوم الذين قالوا هذه الـمقالة, غير الذين عوقبوا بـالصاعقة. وإذا كان ذلك كذلك, كان بـينا انفصال معنى قوله: فَبِـما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ من معنى قوله: فَأخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْـمِهِمْ