سورة النساء | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 101 من المصحف
قوله 141- "الذين يتربصون بكم" أي: ينتظرون بكم ما يتجدد ويحدث لكم من خير أو شر، والموصول في محل نصب على أنه صفة للمنافقين أو بدل منهم فقط دون الكافرين لأن التربص المذكور هو من المنافقين دون الكافرين، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم، " فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم " هذه الجملة والجملة التي بعدها حكاية لتربصهم: أي إن حصل لكم فتح من الله بالنصر على من يخالفكم من الكفار "قالوا" لكم "ألم نكن معكم" في الاتصاف بظاهر الإسلام والتزام أحكامه والمظاهرة والتسويد وتكثير العدد "وإن كان للكافرين نصيب" من الغلب لكم والظفر بكم "قالوا" للكافرين "ألم نستحوذ عليكم" أي: ألم نقهركم ونغلبكم ونتمكن منكم ولكن أبقينا عليكم. وقيل المعنى: إنهم قالوا للكفار الذين ظفروا بالمسلمين ألم نستحوذ عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم؟ والأول أولى، فإن معنى الاستحواذ: الغلب، يقال استحوذ على كذا: أي غلب عليه، ومنه قوله تعالى "استحوذ عليهم الشيطان" ولا يصح أن يقال: ألم نغلبكم حتى هابكم المسلمون، ولكن المعنى: ألم نغلبكم يا معشر الكافرين ونتمكن منكم فتركناكم وأبقينا عليكم حتى حصل لكم هذا الظفر بالمسلمين "ونمنعكم من المؤمنين" بتخذيلهم وتثبيطهم عنكم حتى ضعفت قلوبهم عن الدفع لكم وعجزوا عن الانتصاف منكم، والمراد أنهم يميلون مع من له الغلب والظفر من الطائفتين ويظهرون لهم أنهم كانوا معهم على الطائفة المغلوبة، وهذا شأن المنافقين أبعدهم الله، وشأن من حذا حذوهم من أهل الإسلام من التظهر لكل طائفة بأنه معها على الأخرى، والميل إلى من معه الحظ من الدنيا في مال أو جاه فيلقاه بالتملق والتودد والخضوع والذلة، ويلقى من لاحظ له من الدنيا بالشدة والغلظة وسوء الخلق ويزدري به ويكافحه بكل مكروه، فقبح الله أخلاق أهل النفاق وأبعدها. قوله "فالله يحكم بينكم يوم القيامة" بما انطوت عليه ضمائرهم من النفاق والبغض للحق وأهله، ففي هذا اليوم تنكشف الحقئق وتظهر الضمائر وإن حقنوا في الدنيا دماءهم وحفظوا أموالهم بالتكلم بكلمة الإسلام نفاقاً "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً"، هذا في يوم القيامة إذا كان المراد بالسبيل النصر والغلب، أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة. قال ابن عطية: قال جميع أهل التأويل: إن المراد بذلك يوم القيامة. قال ابن العربي: وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه، وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله يعني قوله "فالله يحكم بينكم يوم القيامة" وذلك يسقط فائدته، إذ يكون تكراراً هذا معنى كلامه، وقيل المعنى: إن الله لا يجعل للكافرين سبيلاً على المؤمنين يمحو به دولتهم ويذهب آثارهم ويستبيح بيضتهم كما يفيده الحديث الثابت في الصحيح "وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً" وقيل: إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين ما داموا عاملين بالحق غير راضين بالباطل ولا تاركين للنهي عن المنكر كما قال تعالى "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم" قال ابن العربي: وهذا نفيس جداً، وقيل: إن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً شرعاً، فإن وجد فبخلاف الشرع. هذا خلاصة ما قاله أهل العلم في هذه الآية، وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله "إن الذين آمنوا ثم كفروا" الآية، قال: هم اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت، وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه في الآية قال: هؤلاء اليهود آمنوا بالتوراة ثم كفروا، ثم ذكر النصارى فقال "ثم آمنوا ثم كفروا" يقول: آمنا بالإنجيل ثم كفروا، "ثم ازدادوا كفراً" بمحمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: هؤلاء المنافقون آمنوا مرتين ثم كفروا مرتين ثم ازدادوا كفراً بعد ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن عباس في قوله "ثم ازدادوا كفراً" قال: تموا على كفرهم حتى ماتوا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي وائل قال: إن الرجل ليتكلم في المجلس بالكلمة من الكذب ليضحك بها جلساءه فيسخط الله عليهم جميعاً، فذكروا ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: صدق أبو وائل، أو ليس ذلك في كتاب الله؟ " فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ". وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: أنزل في سورة الأنعام "حتى يخوضوا في حديث غيره" ثم ينزل التشديد في سورة النساء "إنكم إذاً مثلهم". وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير أن الله جامع المنافقين من أهل المدينة والكافرين من أهل مكة الذين خاضوا واستهزأوا بالقرآن في جهنم جميعاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد "الذين يتربصون بكم" قال: هم المنافقون يتربصون بالمؤمنين "فإن كان لكم فتح من الله" إن أصاب المسلمين من عدوهم غنيمة قال المنافقون "ألم نكن" قد كنا "معكم" فأعطونا من الغنيمة مثل ما تأخذون "وإن كان للكافرين نصيب" يصيبونه من المسلمين قال المنافقون للكفار " ألم نستحوذ عليكم " ألم نبين لكم أنا على أما أنتم عليه، قد كنا نثبطهم عنكم. وأخرج ابن جرير عن السدي "ألم نستحوذ عليكم" قال: نغلب عليكم. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه عن علي أنه قيل له: أرأيت هذه الآية "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً" وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون، فقال: ادنه ادنه، ثم قال "فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً". وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: في الآخرة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي مالك نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير عن السدي "سبيلاً" قال: حجة.
قوله 142- "إن المنافقين يخادعون الله" هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض قبائح المنافقين وفضائحهم، وقد تقدم معنى الخدع في البقرة، ومخادعتهم لله هي أنهم يفعلون فعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر، ومعنى كون الله خادعهم: أنه صنع بهم صنع من يخادع من خادعه، وذلك أنه تركهم على ما هم عليه من التظهر بالإسلام في الدنيا، فعصم به أموالهم ودماءهم، وأخر عقوبتهم إلى الدار الآخرة، فجازهم على خداعهم بالدرك الأسفل من النار. قال في الكشاف: والخادع اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه. والكسالى بضم الكاف جمع كسلان. وقرئ بفتحها، والمراد أنهم يصلون وهم متكاسلون متثاقلون لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً. والرياء إظهار الجميل ليراه الناس، لا لاتباع أمر الله، وقد تقدم بيانه، والمراءاة المفاعلة. قوله "ولا يذكرون الله إلا قليلاً" معطوف على يراؤون: أي لا يذكرونه سبحانه إلا ذكراً قليلاً أو لا يصلون إلا صلاة قليلة، ووصف الذكر بالقلة لعدم الإخلاص، أو لكونه غير مقبول أو لكونه قليلاً في نفسه، لأن الذي يفعل الطاعة لقصد الرياء، إنما يفعلها في المجامع ولا يفعلها خالياً كالمخلص.
قولبه 143- "مذبذبين بين ذلك" المذبذب المتردد بين أمرين، والذبذبة الاضطراب، يقال: ذبذبه فتذبذب، ومنه قول النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب قال ابن الجني: المذبذب القلق الذي لا يثبت على حال، فهؤلاء المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين لا مخلصين الإيمان ولا مصرحين بالكفر. قال في الكشاف: وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين: أي يذاد ويدفع فلا يقر في جانب واحد، كما يقال: فلان يرمي به الرجوان، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب، كأن المعنى: كلما مال إلى جانب ذب عنه انتهى. وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح الذالين. وقرأ ابن عباس بكسر الذال الثانية، وفي حرف أبي متذبذبين وقرأ الحسن بفتح الميم والذالين، وانتصاب "مذبذبين" إما على الحال أو على الذم، والإشارة بقوله بين ذلك إلى الإيمان والكفر. قوله "لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء" أي: لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين، ومحل الجملة النصب على الحال، أو على البدل من مذبذبين أو على التفسير له "ومن يضلل الله" أي: يخذله ويسلبه التوفيق "فلن تجد له سبيلاً" أي: طريقاً يوصله إلى الحق.
قوله 144- "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين" أي: لا تجعلوهم خاصة لكم وبطانة توالونهم من دون إخوانكم من المؤمنين كما فعل المنافقون من موالاتهم للكافرين "أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً" الاستفهام للتقريع والتوبيخ: أي أتريدون أن تجعلوا الله عليكم حجة بينة يعذبكم بها بسبب ارتكابكم لما نهاكم عنه من موالاة الكافرين.
145- "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" قرأ الكوفيون "الدرك" بسكون الراء، وقرأ غيرهم بتحريكها. قال أبو علي: هما لغتان والجمع أدراك، وقيل: جمع المحرك أدراك مثل جمل وأجمال، وجمع الساكن أدرك مثل فلس وأفلس. قال النحاس: والتحريك أفصح. والدرك: الطبقة. والنار دركات سبع، فالمنافق في الدرك الأسفل منها، وهي الهاوية، لغلظ كفره وكثرة غوائله، وأعلى الدركات جهنم، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وقد تسمى جميعها باسم الطبقة العليا، أعاذنا الله من عذابها "ولن تجد لهم نصيراً" يخلصهم من ذلك الدرك والخطاب لكل من يصلح له أو للنبي صلى الله عليه وسلم.
146- "إلا الذين تابوا" استثناء من المنافقين: أي إلا الذين تابوا عن النفاق "وأصلحوا" ما أفسدوا من أحوالهم "وأخلصوا دينهم لله" أي: جعلوه خالصاً له غير مشوب بطاعة غيره. والاعتصام بالله: التمسك به والوثوق بوعده، والإشارة بقوله "أولئك" إلى الذين تابوا واتصفوا بالصفات السابقة. قوله "مع المؤمنين" قال الفراء: أي من المؤمنين يعني الذين لم يصدر منهم نفاق أصلاً. قال القتيبي: حاد عن كلامهم غضباً عليهم فقال "فأولئك مع المؤمنين" ولم يقل هم المؤمنون انتهى. والظاهر أن معنى مع معتبر هنا: أي فأولئك مصاحبون للمؤمنين في أحكام الدنيا والآخرة. ثم بين ما أعد الله للمؤمنين الذين هؤلاء معهم فقال "وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً" وحذفت الياء من يؤت في الخط كما حذفت في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله "يوم يدع الداع" و"سندع الزبانية" "يوم يناد المناد" ونحوها فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين.
قوله 147- "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم" هذه الجملة متضمنة لبيان أنه لا غرض له سبحانه في التعذيب إلا مجرد المجازاة للعصاة. والمعنى: أي منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم، فإن ذلك لا يزيد في ملكه كما أن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه "وكان الله شاكراً عليماً" أي: يشكر عباده على طاعته فيثيبهم عليها ويتقبلها منهم. والشكر في اللغة: الظهور، يقال شكور: إذا ظهر من سمنها فوق ما تعطى من العلف. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن الحسن في قوله "إن المنافقين يخادعون الله" الآية، قال: يلقي على مؤمن ومنافق نور يمشون به يوم القيامة حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين ومضى المؤمنون بنورهم فتلك خديعة الله إياهم. وأخرج ابن جرير عن السدي نحوه. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد وسعيد بن جبير نحوه أيضاً، ولا أدري من أين جاء لهم هذا التفسير، فإن مثله لا ينقل إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في الآية قال: نزلت في عبد الله بن أبي وأبي عامر بن النعمان. وقد ورد في الأحاديث الصحيحة وصف صلاة المنافق، وأنه يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر فيها إلا قليلاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله "مذبذبين بين ذلك" قال: هم المنافقون "لا إلى هؤلاء" يقول: لا إلى أصحاب محمد "ولا إلى هؤلاء" اليهود، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن مثل المنافق مثل الشاة الغائرة بين الغنمين تغير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة فلا تدري أيهما تتبع؟". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله "أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً" قال: إن الله السلطان على خلقه ولكنه يقول عذراً مبيناً. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة والله سبحانه أعلم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" قال: في توابيت من حديد مقفلة عليهم، وفي لفظ مبهمة عليهم: أي مغلقة لا يهتدى لمكان فتحها. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن مسعود نحوه أيضاً. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم" الآية، قال: إن الله لا يعذب شاكراً ولا مؤمناً.
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 101
100قوله 141- "الذين يتربصون بكم" أي: ينتظرون بكم ما يتجدد ويحدث لكم من خير أو شر، والموصول في محل نصب على أنه صفة للمنافقين أو بدل منهم فقط دون الكافرين لأن التربص المذكور هو من المنافقين دون الكافرين، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم، " فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم " هذه الجملة والجملة التي بعدها حكاية لتربصهم: أي إن حصل لكم فتح من الله بالنصر على من يخالفكم من الكفار "قالوا" لكم "ألم نكن معكم" في الاتصاف بظاهر الإسلام والتزام أحكامه والمظاهرة والتسويد وتكثير العدد "وإن كان للكافرين نصيب" من الغلب لكم والظفر بكم "قالوا" للكافرين "ألم نستحوذ عليكم" أي: ألم نقهركم ونغلبكم ونتمكن منكم ولكن أبقينا عليكم. وقيل المعنى: إنهم قالوا للكفار الذين ظفروا بالمسلمين ألم نستحوذ عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم؟ والأول أولى، فإن معنى الاستحواذ: الغلب، يقال استحوذ على كذا: أي غلب عليه، ومنه قوله تعالى "استحوذ عليهم الشيطان" ولا يصح أن يقال: ألم نغلبكم حتى هابكم المسلمون، ولكن المعنى: ألم نغلبكم يا معشر الكافرين ونتمكن منكم فتركناكم وأبقينا عليكم حتى حصل لكم هذا الظفر بالمسلمين "ونمنعكم من المؤمنين" بتخذيلهم وتثبيطهم عنكم حتى ضعفت قلوبهم عن الدفع لكم وعجزوا عن الانتصاف منكم، والمراد أنهم يميلون مع من له الغلب والظفر من الطائفتين ويظهرون لهم أنهم كانوا معهم على الطائفة المغلوبة، وهذا شأن المنافقين أبعدهم الله، وشأن من حذا حذوهم من أهل الإسلام من التظهر لكل طائفة بأنه معها على الأخرى، والميل إلى من معه الحظ من الدنيا في مال أو جاه فيلقاه بالتملق والتودد والخضوع والذلة، ويلقى من لاحظ له من الدنيا بالشدة والغلظة وسوء الخلق ويزدري به ويكافحه بكل مكروه، فقبح الله أخلاق أهل النفاق وأبعدها. قوله "فالله يحكم بينكم يوم القيامة" بما انطوت عليه ضمائرهم من النفاق والبغض للحق وأهله، ففي هذا اليوم تنكشف الحقئق وتظهر الضمائر وإن حقنوا في الدنيا دماءهم وحفظوا أموالهم بالتكلم بكلمة الإسلام نفاقاً "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً"، هذا في يوم القيامة إذا كان المراد بالسبيل النصر والغلب، أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة. قال ابن عطية: قال جميع أهل التأويل: إن المراد بذلك يوم القيامة. قال ابن العربي: وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه، وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله يعني قوله "فالله يحكم بينكم يوم القيامة" وذلك يسقط فائدته، إذ يكون تكراراً هذا معنى كلامه، وقيل المعنى: إن الله لا يجعل للكافرين سبيلاً على المؤمنين يمحو به دولتهم ويذهب آثارهم ويستبيح بيضتهم كما يفيده الحديث الثابت في الصحيح "وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً" وقيل: إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين ما داموا عاملين بالحق غير راضين بالباطل ولا تاركين للنهي عن المنكر كما قال تعالى "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم" قال ابن العربي: وهذا نفيس جداً، وقيل: إن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً شرعاً، فإن وجد فبخلاف الشرع. هذا خلاصة ما قاله أهل العلم في هذه الآية، وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله "إن الذين آمنوا ثم كفروا" الآية، قال: هم اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت، وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه في الآية قال: هؤلاء اليهود آمنوا بالتوراة ثم كفروا، ثم ذكر النصارى فقال "ثم آمنوا ثم كفروا" يقول: آمنا بالإنجيل ثم كفروا، "ثم ازدادوا كفراً" بمحمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: هؤلاء المنافقون آمنوا مرتين ثم كفروا مرتين ثم ازدادوا كفراً بعد ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن عباس في قوله "ثم ازدادوا كفراً" قال: تموا على كفرهم حتى ماتوا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي وائل قال: إن الرجل ليتكلم في المجلس بالكلمة من الكذب ليضحك بها جلساءه فيسخط الله عليهم جميعاً، فذكروا ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: صدق أبو وائل، أو ليس ذلك في كتاب الله؟ " فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ". وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: أنزل في سورة الأنعام "حتى يخوضوا في حديث غيره" ثم ينزل التشديد في سورة النساء "إنكم إذاً مثلهم". وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير أن الله جامع المنافقين من أهل المدينة والكافرين من أهل مكة الذين خاضوا واستهزأوا بالقرآن في جهنم جميعاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد "الذين يتربصون بكم" قال: هم المنافقون يتربصون بالمؤمنين "فإن كان لكم فتح من الله" إن أصاب المسلمين من عدوهم غنيمة قال المنافقون "ألم نكن" قد كنا "معكم" فأعطونا من الغنيمة مثل ما تأخذون "وإن كان للكافرين نصيب" يصيبونه من المسلمين قال المنافقون للكفار " ألم نستحوذ عليكم " ألم نبين لكم أنا على أما أنتم عليه، قد كنا نثبطهم عنكم. وأخرج ابن جرير عن السدي "ألم نستحوذ عليكم" قال: نغلب عليكم. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه عن علي أنه قيل له: أرأيت هذه الآية "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً" وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون، فقال: ادنه ادنه، ثم قال "فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً". وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: في الآخرة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي مالك نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير عن السدي "سبيلاً" قال: حجة.
قوله 142- "إن المنافقين يخادعون الله" هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض قبائح المنافقين وفضائحهم، وقد تقدم معنى الخدع في البقرة، ومخادعتهم لله هي أنهم يفعلون فعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر، ومعنى كون الله خادعهم: أنه صنع بهم صنع من يخادع من خادعه، وذلك أنه تركهم على ما هم عليه من التظهر بالإسلام في الدنيا، فعصم به أموالهم ودماءهم، وأخر عقوبتهم إلى الدار الآخرة، فجازهم على خداعهم بالدرك الأسفل من النار. قال في الكشاف: والخادع اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه. والكسالى بضم الكاف جمع كسلان. وقرئ بفتحها، والمراد أنهم يصلون وهم متكاسلون متثاقلون لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً. والرياء إظهار الجميل ليراه الناس، لا لاتباع أمر الله، وقد تقدم بيانه، والمراءاة المفاعلة. قوله "ولا يذكرون الله إلا قليلاً" معطوف على يراؤون: أي لا يذكرونه سبحانه إلا ذكراً قليلاً أو لا يصلون إلا صلاة قليلة، ووصف الذكر بالقلة لعدم الإخلاص، أو لكونه غير مقبول أو لكونه قليلاً في نفسه، لأن الذي يفعل الطاعة لقصد الرياء، إنما يفعلها في المجامع ولا يفعلها خالياً كالمخلص.
قولبه 143- "مذبذبين بين ذلك" المذبذب المتردد بين أمرين، والذبذبة الاضطراب، يقال: ذبذبه فتذبذب، ومنه قول النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب قال ابن الجني: المذبذب القلق الذي لا يثبت على حال، فهؤلاء المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين لا مخلصين الإيمان ولا مصرحين بالكفر. قال في الكشاف: وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين: أي يذاد ويدفع فلا يقر في جانب واحد، كما يقال: فلان يرمي به الرجوان، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب، كأن المعنى: كلما مال إلى جانب ذب عنه انتهى. وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح الذالين. وقرأ ابن عباس بكسر الذال الثانية، وفي حرف أبي متذبذبين وقرأ الحسن بفتح الميم والذالين، وانتصاب "مذبذبين" إما على الحال أو على الذم، والإشارة بقوله بين ذلك إلى الإيمان والكفر. قوله "لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء" أي: لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين، ومحل الجملة النصب على الحال، أو على البدل من مذبذبين أو على التفسير له "ومن يضلل الله" أي: يخذله ويسلبه التوفيق "فلن تجد له سبيلاً" أي: طريقاً يوصله إلى الحق.
قوله 144- "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين" أي: لا تجعلوهم خاصة لكم وبطانة توالونهم من دون إخوانكم من المؤمنين كما فعل المنافقون من موالاتهم للكافرين "أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً" الاستفهام للتقريع والتوبيخ: أي أتريدون أن تجعلوا الله عليكم حجة بينة يعذبكم بها بسبب ارتكابكم لما نهاكم عنه من موالاة الكافرين.
145- "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" قرأ الكوفيون "الدرك" بسكون الراء، وقرأ غيرهم بتحريكها. قال أبو علي: هما لغتان والجمع أدراك، وقيل: جمع المحرك أدراك مثل جمل وأجمال، وجمع الساكن أدرك مثل فلس وأفلس. قال النحاس: والتحريك أفصح. والدرك: الطبقة. والنار دركات سبع، فالمنافق في الدرك الأسفل منها، وهي الهاوية، لغلظ كفره وكثرة غوائله، وأعلى الدركات جهنم، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وقد تسمى جميعها باسم الطبقة العليا، أعاذنا الله من عذابها "ولن تجد لهم نصيراً" يخلصهم من ذلك الدرك والخطاب لكل من يصلح له أو للنبي صلى الله عليه وسلم.
146- "إلا الذين تابوا" استثناء من المنافقين: أي إلا الذين تابوا عن النفاق "وأصلحوا" ما أفسدوا من أحوالهم "وأخلصوا دينهم لله" أي: جعلوه خالصاً له غير مشوب بطاعة غيره. والاعتصام بالله: التمسك به والوثوق بوعده، والإشارة بقوله "أولئك" إلى الذين تابوا واتصفوا بالصفات السابقة. قوله "مع المؤمنين" قال الفراء: أي من المؤمنين يعني الذين لم يصدر منهم نفاق أصلاً. قال القتيبي: حاد عن كلامهم غضباً عليهم فقال "فأولئك مع المؤمنين" ولم يقل هم المؤمنون انتهى. والظاهر أن معنى مع معتبر هنا: أي فأولئك مصاحبون للمؤمنين في أحكام الدنيا والآخرة. ثم بين ما أعد الله للمؤمنين الذين هؤلاء معهم فقال "وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً" وحذفت الياء من يؤت في الخط كما حذفت في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله "يوم يدع الداع" و"سندع الزبانية" "يوم يناد المناد" ونحوها فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين.
قوله 147- "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم" هذه الجملة متضمنة لبيان أنه لا غرض له سبحانه في التعذيب إلا مجرد المجازاة للعصاة. والمعنى: أي منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم، فإن ذلك لا يزيد في ملكه كما أن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه "وكان الله شاكراً عليماً" أي: يشكر عباده على طاعته فيثيبهم عليها ويتقبلها منهم. والشكر في اللغة: الظهور، يقال شكور: إذا ظهر من سمنها فوق ما تعطى من العلف. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن الحسن في قوله "إن المنافقين يخادعون الله" الآية، قال: يلقي على مؤمن ومنافق نور يمشون به يوم القيامة حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين ومضى المؤمنون بنورهم فتلك خديعة الله إياهم. وأخرج ابن جرير عن السدي نحوه. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد وسعيد بن جبير نحوه أيضاً، ولا أدري من أين جاء لهم هذا التفسير، فإن مثله لا ينقل إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في الآية قال: نزلت في عبد الله بن أبي وأبي عامر بن النعمان. وقد ورد في الأحاديث الصحيحة وصف صلاة المنافق، وأنه يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر فيها إلا قليلاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله "مذبذبين بين ذلك" قال: هم المنافقون "لا إلى هؤلاء" يقول: لا إلى أصحاب محمد "ولا إلى هؤلاء" اليهود، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن مثل المنافق مثل الشاة الغائرة بين الغنمين تغير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة فلا تدري أيهما تتبع؟". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله "أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً" قال: إن الله السلطان على خلقه ولكنه يقول عذراً مبيناً. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة والله سبحانه أعلم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" قال: في توابيت من حديد مقفلة عليهم، وفي لفظ مبهمة عليهم: أي مغلقة لا يهتدى لمكان فتحها. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن مسعود نحوه أيضاً. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم" الآية، قال: إن الله لا يعذب شاكراً ولا مؤمناً.
الصفحة رقم 101 من المصحف تحميل و استماع mp3