تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 116 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 116

115

قوله: 46- "وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم" هذا شروع في بيان حكم الإنجيل بعد بيان حكم التوراة: أي جعلنا عيسى ابن مريم يقفو آثارهم: أي آثار النبيين الذين أسلموا من بني إسرائيل، يقال قفيته مثل عقبته: إذا أتبعته، ثم يقال قفيته بفلان وعقبته به فيتعدى إلى الثاني بالباء، والمفعول الأول محذوف استغناء عنه بالظرف، وهو على آثارهم لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه، وانتصاب "مصدقاً" على الحال من عيسى "وآتيناه الإنجيل" عطف على قفنا، ومحل الجملة أعني "فيه هدى" النصب على الحال من الإنجيل "ونور" عطف على هدى. وقوله: "ومصدقاً" معطوف على محل "فيه هدى" أي أن الإنجيل أوتيه عيسى حال كونه مشتملاً على الهدى والنور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، وقيل إن مصدقاً معطوف على مصدقاً الأول فيكون حالاً من عيسى مؤكداً للحال الأول ومقرراً له. والأول أولى لأن التأسيس خير من التأكيد. قوله: "وهدى وموعظة للمتقين" عطف على مصدقاً داخل تحت حكمه منضماً إليه: أي مصدقاً وهادياً وواعظاً للمتقين.
قوله: 47- "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه" هذا أمر لأهل الإنجيل بأن يحكموا بما أنزل الله فيه، فإنه قبل البعثة المحمدية حق، وأما بعدها فقد أمروا في غير موضع بأن يعملوا بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الناسخ لكل الكتب المنزلة. وقرأ الأعمش وحمزة بنصب الفعل من يحكم على أن اللام لام كي، وقرأ الباقون بالجزم على أن اللام للأمر فعلى القراءة الأولى تكون اللام متعلقة بقوله: وآتيناه الإنجيل ليحكم أهله بما أنزل الله فيه، وعلى القراءة الثانية هو كلام مستأنف. قال مكي: والاختيار الجزم، لأن الجماعة عليه، ولأن ما بعده من الوعيد والتهديد يدل على أنه إلزام من الله لأهل الإنجيل. وقال النحاس: والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان لأن الله سبحانه لم ينزل كتاباً إلا ليعمل بما فيه.
قوله: 48- "وأنزلنا إليك الكتاب" خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، والكتاب القرآن والتعريف للعهد، و "بالحق" متعلق بمحذوف وقع حالاً: أي متلبساً بالحق، وقيل هو حال من فاعل أنزلنا، وقيل من ضمير النبي صلى الله عليه وسلم و "مصدقاً لما بين يديه" حال من الكتاب، والتعريف في الكتاب أعني قوله: "مصدقاً لما بين يديه من الكتاب" للجنس: أي أنزلنا إليك يا محمد القرآن حال كونه متلبساً بالحق وحال كونه مصدقاً لما بين يديه من كتب الله المنزلة لكونه مشتملاً على الدعوة إلى الله والأمر بالخير والنهي عن الشر، كما اشتمل عليه قوله: "ومهيمناً عليه" عطف على مصدقاً، والضمير في عليه عائد إلى الكتاب الذي صدقه القرآن وهيمن عليه، والمهيمن الرقيب، وقيل الغالب المرتفع، وقيل الشاهد: وقيل الحافظ، وقيل المؤتمن. قال المبرد: أصله مؤيمن أبدل من الهمزة هاء، كما قيل في أرقت الماء هرقت، وبه قال الزجاج وأبو علي الفارسي. وقال الجوهري: هو من أمن غيره من الخوف، وأصله أأمن فهو مؤأمن بهمزتين قلبت الثانية ياء كراهة لاجتماعهما فصار مؤيمن ثم صيرت الأولى هاء، كما قالوا هراق الماء وأراقه، يقال هيمن على الشيء يهيمن: إذا كان له حافظاً، فهو له مهيمن كذا عن أبي عبيد. وقرأ مجاهد وابن محيصن مهيمناً عليه بفتح الميم، أي هيمن عليه الله سبحانه. والمعنى على قراءة الجمهور: أن القرآن صار شاهداً بصحة الكتب المنزلة ومقرراً لما فيها مما لم ينسخ وناسخاً لما خالفه منها، ورقيباً عليها وحافظاً لما فيها من أصول الشرائع، وغالباً لها لكونه المرجع في المحكم منها والمنسوخ، ومؤتمناً عليها لكونه مشتملاً على ما هو معمول به منها وما هو متروك. قوله: "فاحكم بينهم بما أنزل الله" أي بما أنزله إليك في القرآن لاشتماله على جميع ما شرعه الله لعباده في جميع الكتب السابقة عليه "ولا تتبع أهواءهم" أي أهواء أهل الملل السابقة. وقوله: "عما جاءك من الحق" متعلق بلا تتبع على تضمينه معنى لا تعدل أو لا تنحرف "عما جاءك من الحق" متبعاً لأهوائهم، وقيل متعلق بمحذوف: أي لا تتبع أهواءهم عادلاً أو منحرفاً عن الحق. وفيه النهي له صلى الله عليه وسلم عن أن يتبع أهوية أهل الكتاب ويعدل عن الحق الذي أنزله الله عليه، فإن كل ملة من الملل تهوى أن يكون الأمر على ما هم عليه وما أدركوا عليه سلفهم وإن كان باطلاً منسوخاً أو محرفاً عن الحكم الذي أنزله الله على الأنبياء، كما وقع في الرجم ونحوه مما حرفوه من كتب الله. قوله: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً" الشرعة والشريعة في الأصل: الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء، ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده من الدين. والمنهاج: الطريقة الواضحة البينة. وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد الشريعة: ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستمر. ومعنى الآية: أنه جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة" بشريعة واحدة وكتاب واحد ورسول واحد "ولكن ليبلوكم" أي ولكن لم يشأ ذلك الاتحاد ، بل شاء الإبتلاء لكم باختلاف الشرائع ، فيكون " ليبلوكم " متعلقاً بمحفوظ دل عليه سياق الكلام وهو ما ذكرنا، ومعنى " في ما آتاكم " فيما أنزله عليكم من الشرائع المختلفة باختلاف الأوقات والأشخاص. قوله: "فاستبقوا الخيرات" أي إذا كان المشيئة قد قضت باختلاف الشرائع فاستبقوا إلى فعل ما أمرتم بفعله وترك ما أمرتم بتركه. والاستباق: المسارعة "إلى الله مرجعكم جميعاً" لا إلى غيره وهذه الجملة كالعلة لما قبلها.
قوله: 49- "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم". عطف على الكتاب : أي أنزلنا عليك الكتاب والحكم بما فيه . وقد استدل بهذا على نسخ التخير المتقدم في قوله : " أو أعرض عنهم " وقد تقدم تفسير " ولا تتبع أهواءهم " . قوله: "واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك" أي يضلوك عنه ويصرفوك بسبب أهوائهم التي يريدون منك أن تعمل عليها وتؤثرها " فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم " أي إن أعرضوا عن قبول حكمك بما أنزل الله عليك فذلك لما أراده الله من تعذيبهم ببعض ذنوبهم وهو ذنب التولي عنك والإعراض عما جئت به "وإن كثيراً من الناس لفاسقون" متمردون عن قبول الحق خارجون عن الإنصاف.
قوله: 50- "أفحكم الجاهلية يبغون" الاستفهام للإنكار والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدر كما في نظائره. والمعنى: أيعرضون عن حكمك بما أنزل الله عليك ويتولون عنه ويبتغون حكم الجاهلية، والاستفهام في "ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" للإنكار أيضاً: أي لا أحسن من حكم الله عند أهل اليقين لا عند أهل الجهل والأهواء. وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس "كتبنا عليهم فيها" في التوراة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عنه، قال: كتب عليهم هذا في التوراة، وكانوا يقتلون الحر بالعبد فيقولون كتب علينا أن النفس بالنفس. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر في قوله: "فمن تصدق به فهو كفارة له" قال: يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به. وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله "فهو كفارة له" قال: للمجروح. وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يصاب بشيء في جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس "ومهيمناً عليه" قال: مؤتمناً عليه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عنه قال: المهيمن الأمين، والقرآن أمين على كل كتاب قبله. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه في قوله: "شرعة ومنهاجاً" قال: سبيلاً وسنة. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا أن نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود، وإن بينا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك، وأنزل الله فيهم: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله" إلى قوله: "لقوم يوقنون". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "أفحكم الجاهلية يبغون" قال: يهود. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: هذا في قتيل اليهود.