تفسير الطبري تفسير الصفحة 116 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 116
117
115
 الآية : 46
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَفّيْنَا عَلَىَ آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ }..
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وقَـفّـيْنا علـى آثارِهِمْ أتبعنا, يقول: أتبعنا عيسى ابن مريـم علـى آثار النبـيـين الذين أسلـموا من قبلك يا مـحمد, فبعثناه نبـيا مصدّقا لكتابنا الذي أنزلناه إلـى موسى من قبله أنه حقّ وأن العمل بـما لـم ينسخه الإنـجيـل منه فرض واجب. وآتَـيْناهُ الإنـجيـلَ يقول: وأنزلنا إلـيه كتابنا الذي اسمه الإنـجيـل. فِـيهِ هُدًى وَنُورٌ يقول: فـي الإنـجيـل هدى, وهو بـيان ما جهله الناس من حكم الله فـي زمانه, وَنُورٌ يقول: وضياء من عمي الـجهالة, وَمُصَدّقا لِـمَا بـينَ يَدَيْهِ يقول: أوحينا إلـيه ذلك, وأنزلناه إلـيه بتصديق ما كان قبله من كتب الله التـي كان أنزلها علـى كل أمة أنزل إلـى نبـيها كتاب للعمل بـما أنزل إلـى نبـيهم فـي ذلك الكتاب من تـحلـيـل ما حلل وتـحريـم ما حرّم. وَهُدًى وَمَوْعِظَةً يقول: أنزلنا الإنـجيـل إلـى عيسى مصّدقا للكتب التـي قبله, وبـيانا لـحكم الله الذي ارتضاه لعبـاده الـمتقـين فـي زمان عيسى وموعظة لهم, يقول: وزجرا لهم عما يكرهه الله إلـى ما يحبه من الأعمال, وتنبـيها لهم علـيه. والـمتقون: هم الذين خافوا الله وحذروا عقابه, فـاتقوه بطاعته فـيـما أمرهم وحَذِروه بترك ما نهاهم عن فعله, وقد مضى البـيان عن ذلك بشواهده قبل فأغنـي ذلك عن إعادته.
الآية : 47
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }..
اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: وَلْـيَحْكُمْ أهْلُ الإنْـجِيـلِ فقرأ قرّاء الـحجاز والبصرة وبعض الكوفـيـين: ولْـيَحْكُمْ بتسكين اللام علـى وجه الأمر من الله لأهل الإنـجيـل أن يحكموا بـما أنزل الله فـيه من أحكامه. وكأنّ من قرأ ذلك كذلك أراد: وآتـيناه الإنـجيـل فـيه هدى ونور, ومصدّقا لـما بـين يديه من التوراة, وأمرنا أهله أن يحكموا بـما أنزل الله فـيه. فـيكون فـي الكلام مـحذوف ترك استغناء بـما ذكر عما حذف.
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة: «وَلِـيَحْكُمَ أهْلُ الإنْـجيـلِ» بكسر اللام من «لـيحكم», بـمعنى: كي يحكم أهل الإنـجيـل. وكأن معنى من قرأ ذلك كذلك: وآتـيناه الإنـجيـل فـيه هدى ونور, ومصدّقا لـما بـين يديه من التوراة, وكي يحكم أهله بـما فـيه من حكم الله. والذي يتراءى فـي ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا الـمعنى, فبأيّ ذلك قرأ قارىء فمصيب فـيه الصواب وذلك أن الله تعالـى لـم ينزل كتابـا علـى نبـيّ من أنبـيائه إلا لـيعمل بـما فـيه أهله الذين أمروا بـالعمل بـما فـيه, ولـم ينزله علـيهم إلا وقد أمرهم بـالعمل بـما فـيه, فللعمل بـما فـيه أنزله, وأمر بـالعمل بـما فـيه أهله. فكذلك الإنـجيـل, إذ كان من كتب الله التـي أنزلها علـى أنبـيائه, فللعمل بـما فـيه أنزله علـى عيسى, وأمر بـالعمل به أهله. فسواء قرىء علـى وجه الأمر بتسكين اللام أو قرىء علـى وجه الـخبر بكسرها لاتفـاق معنـيـيهما. وأما ما ذكر عن أبـيّ بن كعب من قراءته ذلك: «وإنِ أحْكُمْ» علـى وجه الأمر, فذلك مـما لـم يصحّ به النقل عنه, ولو صحّ أيضا لـم يكن فـي ذلك ما يوجب أن تكون القراءة بخلافه مـحظورة, إذ كان معناها صحيحا, وكان الـمتقدمون من أئمة القرّاء قد قراءوا بها. وإذا كان الأمر فـي ذلك ما بـينا, فتأويـل الكلام إذا قرىء بكسر اللام من «لِـيحكم»: وآتـينا عيسى ابن مريـم الإنـجيـل, فـيه هدى ونور, ومصدّقا لـما بـين يديه من التوراة, وأمرنا أهله أن يحكموا بـما أنزلنا فـيه, فلـم يطيعونا فـي أمرنا إياهم بـما أمرناهم به فـيه, ولكنهم خالفوا أمرنا الذي أمرناهم به فـيه هم الفـاسقون. وكان ابن زيد يقول: الفـاسقون فـي هذا الـموضع وفـي غيره: هم الكاذبون.
9530ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَلـيَحْكُمْ أهْلُ الإنْـجِيـلِ بِـمَا أنْزَلَ اللّهُ فِـيهِ وَمَنْ لَـمْ يَحْكُمْ بِـمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفـاسِقُون قال: ومن لـم يحكم من أهل الإنـجيـل أيضا بذلك, فأولئك هم الفـاسقون قال: الكاذبون بهذا. قال: وقال ابن زيد: كلّ شيء فـي القرآن إلا قلـيلاً «فـاسق» فهو كاذب وقرأ قول الله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فـاسِقٌ بِنَبَأٍ قال: الفـاسق ههنا: كاذب.
وقد بـينا معنى الفسق بشواهده فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
الآية : 48
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَـَكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىَ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }..
وهذا خطاب من الله تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم, يقول تعالـى ذكره: وأنْزَلْنا إلَـيْكَ يا مـحمد الكِتابَ, وهو القرآن الذي أنزله علـيه. ويعنـي بقوله: بـالـحَقّ: بـالصدق, ولا كذب فـيه, ولا شكّ أنه من عند الله. مُصَدّقا لِـمَا بـينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ يقول: أنزلناه بتصديق ما قبله من كتب الله التـي أنزلها إلـى أنبـيائه. وَمُهَيْـمِنا عَلَـيْهِ يقول: أنزلنا الكتاب الذي أنزلناه إلـيك يا مـحمد مصدقا للكتب قبله, وشهيدا علـيها أنها حقّ من عند الله, أمينا علـيها, حافظا لها. وأصل الهيـمنة: الـحفظ والارتقاب, يقال إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده: قد هيـمن فلان علـيه, فهو يهيـمن هيـمنة, وهو علـيه مهيـمن.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. إلا أنهم اختلفت عبـاراتهم عنه, فقال بعضهم: معناه: شهيدا. ذكر من قال ذلك:
9531ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: وَمُهَيْـمِنا عَلَـيْهِ يقول: شهيدا.
9532ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وَمُهَيْـمِنا عَلَـيْهِ قال: شهيدا علـيه.
9533ـ حدثنـي بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وأنْزَلْنا إلَـيْكَ الكِتابَ بـالـحَقّ مُصَدّقا لِـما بـينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ يقول: الكتب التـي خـلت قبله, وَمُهَيْـمِنا عَلَـيْهِ: أمينا وشاهدا علـى الكتب التـي خـلت قبله.
9534ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: وَمُهَيْـمِنا عَلَـيْهِ: مؤتـمنا علـى القرآن وشاهدا ومصدّقا. وقال ابن جريج وآخرون: القرآن أمين علـى الكتب فـيـماإذا أخبرنا أهل الكتاب فـي كتابهم بأمر إن كان فـي القرآن فصدَقوا, وإلا فكذَبوا.
وقال بعضهم: معناه: أمين علـيه. ذكر من قال ذلك:
9535ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, وحدثنا هناد بن السريّ, قال: حدثنا وكيع جميعا, عن سفـيان, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمي, عن ابن عبـاس: وَمُهَيْـمِنا عَلَـيْهِ قال: مؤتـمنا علـيه.
حدثنا مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـيّ, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن أبـي إسحاق, عن التـميـميّ, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَمُهَيْـمِنا عَلَـيْهِ قال: مؤتَـمنا علـيه.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا سفـيان وإسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمي, عن ابن عبـاس, مثله.
حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان وإسرائيـل, عن أبـي إسحاق بإسناده, عن ابن عبـاس, مثله.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن عطية, قال: حدثنا إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمي, عن ابن عبـاس, مثله.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمي, عن ابن عبـاس, مثله.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو,عن مطرّف, عن أبـي إسحاق, عن رجل من تـميـم, عن ابن عبـاس, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: وَمُهَيْـمِنا عَلَـيْهِ قال: والـمهيـمن: الأمين, قال: القرآن أمين علـى كلّ كتاب قبله.
9536ـ حدثنـي مـحمد بن سعد,قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وأنْزَلْنا إلَـيْكَ الكِتابَ بـالـحَقّ مُصَدّقا لِـمَا بَـينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ وهو القرآن, شاهد علـى التوراة والإنـجيـل, مصدقا لهما. مُهَيْـمِنا عَلَـيْهِ يعنـي: أمينا علـيه, يحكم علـى ما كان قبله من الكتب.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حميد بن عبد الرحن, عن قـيس, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمي, عن ابن عبـاس: وَمُهَيْـمِنا عَلَـيْهِ قال: مؤتـمنا علـيه.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن زهير, عن أبـي إسحاق, عن رجل من بنـي تـميـم, عن ابن عبـاس: وَمُهَيْـمِنا عَلَـيْهِ قال: مؤتـمنا علـيه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا يحيى الـحمانـيّ, قال: حدثنا شريك, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمي, عن ابن عبـاس, مثله.
9537ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان وإسرائيـل, عن علـيّ بن بذيـمة, عن سعيد بن جبـير: وَمُهَيْـمِنا عَلَـيْهِ قال: مؤتـمنا علـى ما قبله من الكتب.
9538ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن أبـي رجاء, قال: سألت الـحسين, عن قوله: وأنْزَلْنا لَـيْكَ الكِتابَ بـالـحَقّ مَصَدّقا لـمَا بـينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ وَمُهَيْـمِنا عَلَـيْهِ قال: مصدّقا لهذه الكتب وأمينا علـيها. وسئل عنها عكرمة وأنا أسمع, فقال: مؤتـمنا علـيه.
وقال آخرون: معنى الـمهيـمن الـمصدّق. ذكر من قال ذلك:
9539ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَمُهَيْـمِنا عَلَـيْهِ قال: مصدّقا علـيه. كلّ شيء أنزله الله من توراة أو إنـجيـل أو زبور فـالقرآن مصدّق علـى ذلك, وكلّ شيء ذكر الله فـي القرآن فهو مصدّق علـيها وعلـى ما حدّث عنها أنه حقّ.
وقال آخرون: عنى بقوله: مُصَدّقا لِـمَا بـينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ وَمُهَيْـمِنا عَلَـيْهِ نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
9540ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَمُهَيْـمِنا عَلَـيْهِ مـحمد صلى الله عليه وسلم, مؤتـمن علـى القرآن.
حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَمُهَيْـمِنا عَلَـيْهِ قال: مـحمد صلى الله عليه وسلم, مؤتـمن علـى القرآن.
فتأويـل الكلام علـى ما تأوله مـجاهد: وأنزلنا الكتاب مصدّقا الكتب قبله إلـيك, مهيـمنا علـيه. فـيكون قوله «مصدّقا» حالاً من الكتاب وبعضا منه, ويكون التصديق من صفة الكتاب, والـمهيـمن حالاً من الكاف التـي فـي «إلـيك», وهي كناية عن ذكر اسم النبـيّ صلى الله عليه وسلم, والهاء فـي قوله: عَلَـيْهِ عائدة علـى الكتاب. وهذا التأويـل بعيد من الـمفهوم فـي كلام العرب, بل هو خطأ, وذلك أن الـمهيـمن عطف علـى الـمصدّق, فلا يكون إلا من صفة ما كان الـمصدّق صفة له, ولو كان معنى الكلام ما رُوي عن مـجاهد لقـيـل: وأنزلنا إلـيك مصدّقا لـما بـين يديه من الكتاب مهيـمنا علـيه لأنه متقدّم من صفة الكاف التـي فـي «إلـيك», ولـيس بعدها شيء يكون مهيـمنا علـيه عطفـا علـيه, وإنـما عطف به علـى الـمصدّق, لأنه من صفة «الكتاب» الذي من صفته «الـمصدّق».
فإن ظنّ ظانّ أن الـمصدّق علـى قول مـجاهد وتأويـله هذا من صفة الكاف التـي فـي «إلـيك», فإن قوله: لِـمَا بـينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ يبطل أن يكون تأويـل ذلك كذلك, وأن يكون الـمصدّق من صفة الكاف التـي فـي «إلـيك», لأن الهاء فـي قوله: بـينَ يَدَيْهِ كناية اسم غير الـمخاطب, وهو النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي قوله «إلـيك», ولو كان الـمصدّق من صفة الكاف لكان الكلام: وأنزلنا إلـيك الكاب مصدقا لـما بـين يديك من لكتاب ومهيـمنا علـيه, فـيكون معنى الكلام حينئذٍ كذلك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فـاحْكُمْ بَـيْنَهُمْ بِـمَا أنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الـحَقّ.
وهذا أمر من الله تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم أن يحكم بـين الـمـحتكمين إلـيه من أهل الكتاب وسائر أهل الـملل, بكتابه الذي أنزله إلـيه, وهو القرآن الذي خصه بشريعته. يقول تعالـى ذكره: احكم يا مـحمد بـين أهل الكتاب والـمشركين بـما أنزل إلـيك من كتابـي وأحكامي, فـي كلّ ما احتـمكوا فـيه إلـيك من الـحدود والـجروح والقود والنفوس, فـارجم الزانـي الـمـحصن, واقتل النفس القاتلة بـالنفس الـمقتولة ظلـما, وافقأ العين بـالعين, واجدع الأنف بـالأنف, فإن أنزلت إلـيك القرآن مصدّقا فـي ذلك ما بـين يديه من الكتب, ومهيـمنا علـيه, رقـيبـا يقضي علـى ما قبله من سائر الكتب قبله. ولا تتبع أهواء هؤلاء الـيهود الذين يقولون: إن أوتـيتـم الـجلد فـي الزانـي الـمـحصن دون الرجم, وقتل الوضيع بـالشريف إذا قتله, وترك قتل الشريف بـالوضيع إذا قتله, فخذوه, وإن لـم تُؤتوه فـاحذروا عن الذي جاءك من عند الله من الـحقّ, وهو كتاب الله الذي أنزله إلـيك. يقول له: اعمل بكتابـي الذي أنزلته إلـيك إذا احتكموا إلـيك, فـاختر الـحكم علـيهم, ولا تتركن العمل بذلك اتبـاعا منك أهواءهم وإيثارا لها علـى الـحقّ الذي أنزلته إلـيك فـي كتابـي. كما:
9541ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس: فـاحْكُمْ بَـيْنَهُمْ بِـمَا أنْزَلَ اللّهُ يقول: بحدود الله, وَلا تَتَبِعْ أهْوَاءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الـحَقّ.
9542ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا هارون, عن عنبسة, عن جابر, عن عامر, عن مسروق: أنه كان يحلّف الـيهودي والنصرانـي بـالله ثم قرأ: وأنِ احْكُمْ بَـيْنَهُمْ بِـمَا أنْزَلَ اللّهُ وأنزل الله: أنْ لا يُشْرِكُوا بِه شَيْئا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لِكُلّ جَعَلنْا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا.
يقول تعالـى ذكره: لكلّ قوم منكم جعلنا شرعة. والشرعة: هي الشريعة بعينها, تـجمع الشرعة شراعا, والشريعة شرائع, ولو جمعت الشرعة شرائع كان صوابـا, لأن معناها ومعنى الشريعة واحد, فـيردّها عند الـجمع إلـى لفظ نظيرها. وكلّ ما شرعت فـيه من شيء فهو شريعة, ومن ذلك قـيـل لشريعة الـماء: شريعة, لأنه يشرع منها إلـى الـماء, ومنه سميت شرائع الإسلام شرائع, لشروع أهله فـيه, ومنه قـيـل للقوم إذا تساووا فـي الشيء: هم شَرَعٌ سواء. وأما الـمنهاج, فإن أصله: الطريق البـين الواضح, يقال منه: هو طريق نَهْجٌ ومَنْهجٌ بـيّن, كما قال الراجز:
مَنْ يَكُ فِـي شَكَ فَهَذَا فَلْـجٌماءٌ رَوَاءٌ وَطَرِيقٌ نَهْجٌ
ثم يستعمل فـي كلّ شيء كان بـينا واضحا يعمل به.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي الـمنىّ بقوله: لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ فقال بعضهم: عنـي بذلك أهل الـملل الـمختلفة, أي أن الله جعل لكلّ ملة شريعة ومنهاجا. ذكر من قال ذلك:
9543ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا يقول سبـيلاً وسنة. والسنن مختلفة: للتوراة شريعة, وللإنـجيـل شريعة, وللقرآن شريعة, يحلّ الله فـيها ما يشاء ويحرّم ما يشاء بلاءً, لـيعلـم من يطيعه مـمن يعصيه, ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل.
9544ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قوله: لكلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال: الدين واحد, والشريعة مختلفة.
9545ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن هاشم, قال: أخبرنا سيف بن عمر, عن أبـي روق, عن أبـي أيوب, عن علـيّ, قال: الإيـمان منذ بعث الله تعالـى ذكره آدم صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إله إلا الله, والإقرار بـما جاء من عند الله, لكلّ قوم ما جاءهم من شرعة أو منهاج, فلا يكون الـمقرّ تاركا ولكنه مطيع.
وقال آخرون: بل عنـي بذلك أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم. وقالوا: إنـما معنى الكلام: قد جعلنا الكتاب الذي أنزلناه إلـى نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم أيها الناس لكلكم: أي لكلّ من دخـل فـي الإسلام وأقرّ بـمـحمد صلى الله عليه وسلم أنه لـي نبـيّ, شِرعة ومنهاجا. ذكر من قال ذلك:
9546ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قوله: لِكُلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال: سنة ومنهاجا السبـيـل لكلكم, من دخـل فـي دين مـحمد صلى الله عليه وسلم, فقد جعل الله له شرعة ومنهاجا, يقول: القرآن هو له شرعة ومنهاج.
وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب قول من قال: معناه: لكلّ أهل ملة منكم أيها الأمـم جعلنا شرعة ومنهاجا.
وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصواب لقوله: وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَـجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً ولو كان عنـي بقوله: لِكُلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ أمة مـحمد وهم أمة واحدة, لـم يكن لقوله: وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَـجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وقد فعل ذلك فجعلهم أمة واحدة معنى مفهوم, ولكن معنى ذلك علـى ما جرى به الـخطاب من الله لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم أنه ذكر ما كتب علـى بنـي إسرائيـل فـي التوراة, وتقدّم إلـيهم بـالعمل بـما فـيها. ثم ذكر أنه قـفـى بعيسى ابن مريـم علـى آثار الأنبـياء قبله, وأنزل علـيه الإنـجيـل, وأمر من بعثه إلـيه بـالعمل بـما فـيه. ثم ذكر نبـينا مـحمدا صلى الله عليه وسلم, وأخبرها أنه أنزل إلـيه الكتاب مصدّقا لـما بـين يديه من الكتاب, وأمره بـالعمل بـما فـيه والـحكم بـما أنزل إلـيه فـيه دون ما فـي سائر الكتب غيره وأعلـمه أنه قد جعل له ولأمته شريعة غير شرائع الأنبـياء والأمـم قبله الذين قصّ علـيهم قصصهم, وإن كان دينه ودينهم فـي توحيد الله والإقرار بـما جاءهم به من عنده والانتهاء إلـى أمره ونهيه واحدا, فهم مختلفو الأحوال فـيـما شرع لكلّ واحد منهم, ولأمته فـيـما أحلّ لهم وحرم علـيهم.
وبنـحو الذي قلنا فـي الشرعة والـمنهاج من التأويـل قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9547ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا مسعر, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمّي, عن ابن عبـاس: لِكُلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال: سنة وسبـيلاً.
حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان وإسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمي, عن ابن عبـاس: لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال: سنة وسبـيلاً.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان وإسرائيـل وأبـيه, عن أبـي إسحاق, عن التـميـميّ, عن ابن عبـاس, مثله.
حدثنا هناد, قال: حدثنا أبو يحيى الرازي, عن أبـي شيبـان, عن أبـي إسحاق, عن يحيى بن وثاب, قال: سألت ابن عبـاس عن قوله: لِكُلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال: سنة وسبـيلاً.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: حدثنا إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن التـميـميّ, عن ابن عبـاس: شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال: سنة وسبـيلاً.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن مطرف, عن أبـي إسحاق, عن رجل من بنـي تـميـم, عن ابن عبـاس, بـمثله.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمي, عن ابن عبـاس, مثله.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: لِكلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا يعنـي: سبـيلاً وسنة.
9548ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن سفـيان بن حسين, قال: سمعت الـحسن يقول: الشرعة: السنة.
9549ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى, عن إسرائيـل, عن أي يحيى القتات, عن مـجاهد, قال: سنة وسبـيلاً.
حدثنـي مـحمد عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله تعالـى ذكله: شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال: الشرعة: السنة, ومنهاجا, قال: السبـيـل.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد بنـحوه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: لِكُلَ جَعَلنْا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا يقول: سبـيلاً وسنة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحوضي, قال: حدثنا شعبة, قال: حدثنا أبو إسحاق, قال: سمعت رجلاً من بنـي تـميـم, عن ابن عبـاس بنـحوه.
9550ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدّي: شِرْعَةً وَمِنْهاجا يقول: سبـيلاً وسنة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: السنة والسبـيـل.
9551ـ حدثنا بشرب بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: قوله: لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا يقول: سبـيلاً وسنة.
9552ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد, قال: أخبرنـي عبـيد بن سلـمان قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال: سبـيلاً وسنة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَـجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِـيَبْلُوَكُمْ فِـيـما آتاكُمْ.
يقول تعالـى ذكره: ولو شاء ربكم لـجعل شرائعك واحدة, ولـم يجعل لكلّ أمة شريعة ومنهاجا غير شرائع الأمـم الأخر ومنهاجهم, فكنتـم تكونون أمة واحدة, لا تـختلف شرائعكم ومنهاجكم. ولكنه تعالـى ذكره يعلـم ذلك, فخالف بـين شرائعك لـيختبركم فـيعرف الـمطيع منكم من العاصي والعامل بـما أمره فـي الكتاب الذي أنزله إلـى نبـيه صلى الله عليه وسلم من الـمخالف. والابتلاء: هو الاختبـار, وقد ثبت ذلك بشواهده فـيـما مضى قبل. وقوله فِـيـما آتاكُمْ يعنـي: فـيـما أنزل علـيكم من الكتب. كما:
9553ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: وَلَكِنْ لِـيَبْلُوكُمْ فِـيـما آتاكُمْ قال عبد الله بن كثـير: لا أعلـمه إلا قال: لـيبلوكم فـيـما آتاكم من الكتب.
فإن قال قائل: وكيف قال: لـيبلوكم فـيـما آتاكم, ومن الـمخاطب بذلك, وقد ذكرت أن الـمعنى: لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا لكلّ نبـيّ مع الأنبـياء الذين مضوا قبله وأمـمهم الذين قبل نبـينا صلى الله عليه وسلم, والـمخاطب النبـيّ وحده؟ قـيـل: إن الـخطاب وإن كان لنبـينا صلى الله عليه وسلم, فإنه قد أريد به الـخبر عن الأنبـياء قبله وأمـمهم, ولكن العرب من شأنها إذا خاطبت إنسانا وضمت إلـيه غائبـا فأرادت الـخبر عنه أن تغلّب الـمخاطب فـيخرج الـخبر عنهما علـى وجه الـخطاب, فلذلك قال تعالـى ذكره: لِكُلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فـاسْتَبِقُوا الـخَيْرَاتِ إلـى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَميعا فَـيُنَبّئُكُمْ بِـمَا كُنْتُـمْ فِـيهِ تَـخْتَلِفُونَ.
يقول تعالـى ذكره: فبـادروا أيها الناس إلـى الصلـحات من الأعمال والقرب إلـى ربكم بإدمان العمل بـما فـي كتابكم الذي أنزله إلـى نبـيكم, فإنه إنـما أنزله امتـحانا لكم وابتلاء, لـيتبـين الـمـحسن منكم من الـمسيء, فـيجازي جميعكم علـى عمله جزاءه عند مصيركم إلـيه, فإن مصيركم إلـيه جميعا, فـيخبر كلّ فريق منكم بـما كان يخالف فـيه الفرق الأخرى, فـيفصل بـينهم بفصل القضاء, ويبـين الـمـحقّ بـمـجازاته إياه بجناته من الـمسيء بعقابه إياه بـالنار, فـيتبـين حينئذٍ كلّ حزب عيانا, الـمـحقّ منهم من الـمبطل.
فإن قال قائل: أو لـم ينبئنا ربنا فـي الدنـيا قبل مرجعنا إلـيه ما نـحن فـيه مختلفون؟ قـيـل: إنه بـين ذلك فـي الدنـيا بـالرسل والأدلة والـحجج, دون الثواب والعقاب عيانا, فمصدّق بذلك ومكذّب. وأما عند الـمرجع إلـيه, فإنه ينبئهم بذلك بـالـمـجازاة التـي لا يشكون معها فـي معرفة الـمـحقّ والـمبطل, ولا يقدرون علـى إدخال اللبس معها علـى أنفسهم, فكذلك خبره تعالـى ذكره أنه يبنئنا عند الـمرجع إلـيه بـما كنا فـيه نـختلف فـي الدنـيا. وإنـما معنى ذلك: إلـى الله مرجعكم جميعا, فتعرفون الـمـحقّ حينئذٍ من الـمبطل منكم. كما:
9554ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا زيد بن حبـاب, عن أبـي سنان, قال: سمعت الضحاك يقول: فـاسْتَبِقُوا الـخَيْرَاتِ إلـى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعا قال: أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم البرّ والفـاجر.
الآية : 49
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلّوْاْ فَاعْلَمْ أَنّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنّ كَثِيراً مّنَ النّاسِ لَفَاسِقُونَ }..
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وأن احكم بـينهم بـما أنزل الله وأنزلنا إلـيك يا مـحمد الكتاب, مصدّقا لـما بـين يديه من الكتاب, وأن احكم بـينهم ف«أنْ» فـي موضع نصب بـالتنزيـل. ويعنـي بقوله: بِـمَا أنْزَلَ اللّهُ: بحكم الله الذي أنزله إلـيك فـي كتابه.
وأما قوله: وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءَهُمْ فإنه نهي من الله نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم أن يتبع أهواء الـيهود الذين احتكموا إلـيه فـي قتـيـلهم وفـاجِرَيْهم, وأمْرٌ منه له بلزوم العمل بكتابه الذي أنزله إلـيه. وقوله: وَاحْذَرْهُمْ أنْ يفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أنْزَلَ اللّهُ إلَـيْكَ يقول تعالـى ذكره لنبـيه صلى الله عليه وسلم: واحذر يا مـحمد هؤلاء الـيهود الذين جاءوك مـحتكمين إلـيك أن يفتنوك, فـيصدّوك عن بعض ما أنزل الله إلـيك من حكم كتابه, فـيحملوك علـى ترك العمل به واتبـاع أهوائهم. وقوله: فإنْ تَوَلّوْا فـاعْلَـمْ أنّـمَا يُرِيدُ الله أنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهمْ يقول تعالـى ذكر: فإن تولـى هؤلاء الـيهود الذين اختصموا إلـيك عنك, فتركوا العمل بـما حكمت به علـيهم, وقضيت فـيهم, فـاعلـم أنـما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم, يقول: فـاعلـم أنهم لـم يتولوا عن الرضا بحكمك وقد قضيت بـالـحقّ إلا من أجل أن الله يريد أن يتعجل عقوبتهم فـي عاجل الدنـيا ببعض ما قد سلف من ذنوبهم. وَإنّ كَثـيرا مِنَ النّاسِ لفَـاسِقُونَ يقول: وإن كثـيرا من الـيهود لفـاسقون, يقول: لتاركوا العمل بكتاب الله, ولـخارجون عن طاعته إلـى معصيته.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك جاءت الرواية عن أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9555ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, قال: ثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: قال كعب بن أسد وابن صوريا وشأس بن قـيس بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلـى مـحمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا: يا مـحمد إنك قد عرفت أنا أحبـار يهود وأشرافهم وساداتهم, وأنا إن اتبعناك اتبعَنا يهود ولـم يخالفونا, وإنّ بـيننا وبـين قومنا خصومة, فنـحاكمهم إلـيك, فتقضيَ لنا علـيهم ونؤمِن لك ونصدّقك فأبـي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله فـيهم: وأنِ احْكُمْ بَـيْنَهُمْ بِـمَا أنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أنْزَلَ اللّهُ إلَـيْكَ... إلـى قوله: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
9556ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَاحْذَرْهُم أنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أنْزَلَ اللّهُ إلَـيْكَ قال: أن يقولوا فـي التوراة كذا, وقد بـينا لك ما فـي التوراة. وقرأ: وكَتَبْنا عَلَـيْهِمْ فِـيها أنّ النّفْسَ بـالنّفسِ وَالعَيْنَ بـالعَيْنِ والأنْفَ بـالأنْفِ والأُذُنَ بـالأُذُنِ وَالسّنّ بـالسّنّ والـجُرُوحَ قِصَاصٌ بعضها ببعض.
9557ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, عن مغيرة, عن الشعبـيّ, قال: دخـل الـمـجوس مع أهل الكتاب فـي هذه الاَية: وأنِ احْكُمْ بَـيْنَهُمْ بِـمَا أنْزَلَ اللّهُ.
الآية : 50
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: أيبغي هؤلاء الـيهود الذين احتكموا إلـيك فلـم يرضوا بحكمك, وقد حكمت فـيهم بـالقسط حكم الـجاهلـية, يعنـي أحكام عبدة الأوثان من أهل الشرك, وعندهم كتاب الله فـيه بـيان حقـيقة الـحكم الذي حكمت به فـيهم, وإنه الـحقّ الذي لا يجوز خلافه. ثم قال تعالـى ذكره موبخا لهؤلاء الذين أبوا قبول حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم علـيهم ولهم من الـيهود, ومستـجهلاً فعلهم ذلك منهم: ومن هذا الذي هو أحسن حكما أيها الـيهود من الله تعالـى ذكره عند من كان يوقن بوحدانـية الله ويقرّ بربوبـيته, يقول تعالـى ذكره: أيّ حكم أحسن من حكم الله إن كنتـم موقنـين أن لكم ربـا وكنتـم أهل توحيد وإقرار به. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال مـجاهد.
9558ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: أفَحُكْمَ الـجاهِلِـيّةِ يَبْغُونَ قال: يهود.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: أفَحُكْمَ الـجاهِلِـيّةِ يَبْغُونَ: يهود.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا شيخ, عن مـجاهد: أفَحُكْمَ الـجاهِلِـيّةِ يَبْغُونَ قال: يهود