تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 120 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 120

119

قوله: 71- " وحسبوا أن لا تكون فتنة " أي حسب هؤلاء الذين أخذ الله عليهم الميثاق أن لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد اغتراراً بقولهم: "نحن أبناء الله وأحباؤه". قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي "تكون" بالرفع على أن هي المخففة من الثقيلة، وحسب بمعنى علم، لأن أن معناها التحقيق. وقرأ الباقون بالنصب على أن ناصبة للفعل، وحسب بمعنى الظن، قال النحاس: والرفع عند النحويين في حسبت وأخواتها أجواد، ومثله: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يشهد اللهو أمثالي قوله: "فعموا وصموا" أي عموا عن إبصار الهدى، وصموا عن استماع الحق، وهذه إشارة إلى ما وقع من بني إسرائيل في الابتداء من مخالفة أحكام التوراة، وقتل شعيا، ثم تاب الله عليهم حين تابوا، فكشف عنهم القحط "ثم عموا وصموا كثير منهم" وهذا إشارة إلى ما وقع منهم بعد التوبة من قتل يحيى بن زكريا وقصدهم لقتل عيسى، وارتفاع "كثير" على البدل من الضمير في الفعلين. قال الأخفش: كما تقول رأيت قومك ثلاثتهم، وإن شئت كان على إضمار مبتدأ: أي العمي والصم كثير منهم، ويجوز أن يكون كثير مرتفعاً على الفاعلية على لغة من قال: أكلوني البراغيث، ومنه قول الشاعر: ولكن دفافي أبـــوه وأمه بحوران يعصرن السليط أقاربه وقرئ "عموا وصموا" بالبناء للمفعول: أي أعماهم الله وأصمهم.
قوله: 72- "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم" هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض فضائح أهل الكتاب، والقائلون بهذه المقالة هم فرقة منهم: يقال لهم اليعقوبية، وقيل هم الملكانية، قالوا: إن الله عز وجل حل في ذات عيسى، فرد الله عليهم بقوله: "وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم" أي والحال أنه قد قال المسيح هذه المقالة، فكيف يدعون الإلهية لمن يعترف على نفسه بأنه عبد مثلهم؟ قوله: "إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة" الضمير للشأن، وهذا كلام مبتدأ يتضمن بيان أن الشرك يوجب تحريم دخول الجنة، وقيل هو من قول عيسى: "وما للظالمين من أنصار" ينصرونهم فيدخلونهم الجنة أو يخلصونهم من النار.
قوله: 73- "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة" وهذا كلام أيضاً مبتدأ لبيان بعض مخازيهم، والمراد بثالث ثلاثة واحد من ثلاثة، ولهذا يضاف إلى ما بعده، ولا يجوز التنوين كا قال الزجاج وغيره، وإنما ينون وينصب ما بعده إذا كان ما بعده دونه بمرتبة نحو ثالث اثنين ورابع ثلاثة، والقائل بأنه سبحانه وتعالى ثالث ثلاثة هم النصارى، والمراد بالثلاثة: الله سبحانه، وعيسى، ومريم كما يدل عليه قوله: "أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين" وهذا هو المراد بقولهم ثلاثة أقانيم: إقنيم الأب وإقنيم الابن، وإقنيم روح القدس، وقد تقدم في سورة النساء كلام في هذا، ثم رد الله سبحانه عليهم هذه الدعوى الباطلة فقال: " وما من إله إلا الله الواحد " أي ليس في الوجود إلا الله سبحانه، وهذه الجملة حالية، والمعنى: قالوا تلك المقالة، والحال أنه لا موجود إلا الله، ومن في قوله: "من إله" لتأكيد الاستغراق المستفاد من النفي "وإن لم ينتهوا عما يقولون" من الكفر "ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم" جواب قسم محذوف ساد مسد جواب الشرط، ومن في "منهم" بيانية أو تبعيضية.
74- "أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه" الفاء للعطف على مقدر، والهمزة للإنكار.
قوله: 75- "ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" أي هو مقصور على الرسالة، لا يجاوزها كما زعمتم. وجملة "قد خلت من قبله الرسل" صفة لرسول: أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله، وما وقع منه من المعجزات لا يوجب كونه إلهاً، فقد كان لمن قبله من الرسل مثلها، فإن الله أحيا العصا في يد موسى وخلق آدم من غير أب، فكيف جعلتم إحياء عيسى للموتى ووجوده من غير أب يوجبان كونه إلهاً، فإن كان كما تزعمون إلهاً لذلك فمن قبله الرسل الذين جاءوا بمثل ما جاء به آلهة، وأنتم لا تقولون بذلك. قوله: "وأمه صديقة" عطف على المسيح: أي وما أمه إلا صديقة: أي صادقة فيما تقوله أو مصدقة لما جاء به ولدها من الرسالة، وذلك لا يستلزم الإلهية لها، بل هي كسائر من يتصف بهذا الوصف من النساء. قوله: "كانا يأكلان الطعام" استئناف يتضمن التقرير لما أشير إليه من أنهما كسائر أفراد البشر: أي من كان يأكل الطعام كسائر المخلوقين فليس برب، بل هو عبد مربوب ولدته النساء، فمتى يصلح لأن يكون رباً؟ وأما قولكم إنه كان يأكل الطعام بناسوته لا بلاهوته، فهو كلام باطل يستلزم اختلاط الإله بغير الإله واجتماع الناسوت واللاهوت، ولو جاز اختلاط القديم بالحادث لجاز أن يكون القديم حادثاً، ولو صح هذا في حق عيسى لصح في حق غيره من العباد "انظر كيف نبين لهم الآيات" أي الدلالات، وفيه تعجيب من حال هؤلاء الذين يجعلون تلك الأوصاف مستلزمة للإلهية ويغفلون عن كونها موجودة في زمن لا يقولون بأنه إله "ثم انظر أنى يؤفكون" أي كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان؟ يقال: أفكه يأفكه إذا صرفه، وكرر الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب، وجاء بثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: "جاء نافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حرملة فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله حق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكفرتم منها بما أمرتم أن تبينوه للناس، فبرئت من أحداثكم، قالوا: فإنا نؤخذ بما في أيدينا وإنا على الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا نتبعك، فأنزل الله فيهم: "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل" إلى قوله: "القوم الكافرين"". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: " وحسبوا أن لا تكون فتنة " قال: بلاء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة" قال: النصارى يقولون إن الله ثالث ثلاثة وكذبوا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: تفرقت بنو إسرائيل ثلاث فرق في عيسى، فقالت فرقة هو الله، وقالت فرقة هو ابن الله، وقالت فرقة هو عبد الله وروحه، وهي المقتصدة وهي مسلمة أهل الكتاب.
أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول إلزاماً لهم وقطعاً لشبهتهم: أي أتعذبون من دون الله متجاورين إياه ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً؟ بل هو عبد مأمور، وما جرى على يده من النفع، أو دفع من الضر فهو بإقدار الله له وتمكينه منه، وأما هو فهو يعجز عن أن يملك لنفسه شيئاً من ذلك فضلاً عن أن يملكه لغيره، ومن كان لا ينفع ولا يضر فكيف تتخذونه إلهاً وتعبدونه، وأي سبب يقتضي ذلك؟ والمراد هنا المسيح عليه السلام، وقدم سبحانه الضر على النفع لأن دفع المفاسد أهم من جلب المصالح 76- "والله هو السميع العليم" أي كيف تعبدون ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً، والحال أن الله هو السميع العليم، ومن كان كذلك فهو القادر على الضر والنفع لإحاطته بكل مسموع ومعلوم، ومن جملة ذلك مضاركم ومنافعكم.