تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 121 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 121

120

قوله: 77- "تغلوا في دينكم" لما أبطل سبحانه جميع ما تعلقوا به من الشبه الباطلة نهاهم عن الغلو في دينهم وهو المجاوزة للحد كإثبات الإلهية لعيسى، كما يقوله النصارى، أو حطه عن مرتبته العلية كما يقوله اليهود فإن كل ذلك من الغلو المذموم وسلوك طريقة الإفراط أو التفريط واختيارهما على طريق الصواب. "وغير" منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف: أي غلواً غير غلو الحق، وأما الغلو في الحق بإبلاغ كلية الجهد في البحث عنه واستخراج حقائقه فليس بمذموم، وقيل إن النصب على الاستثناء المتصل، وقيل على المنقطع "ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل" وهم أسلاف أهل الكتاب من طائفتي اليهود والنصارى: أي قبل البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم "وأضلوا كثيراً" من الناس "وضلوا عن سواء السبيل" أي عن قصدهم طريق محمد صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، والمراد أن أسلافهم ضلوا من قبل البعثة وأضلوا كثيراً من الناس إذ ذاك، وضلوا من بعد البعثة، إما بأنفسهم، أو جعل ضلال من أضلوه ضلالاً لهم لكونهم سنوا لهم ذلك ونهجوه لهم، وقيل المراد بالأول كفرهم بما يقتضيه العقل، وبالثاني كفرهم بما يقتضيه الشرع.
قوله: 78- "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل" أي لعنهم الله سبحانه "على لسان داود وعيسى ابن مريم" أي في الزبور والإنجيل على لسان داود وعيسى بما فعلوه من المعاصي كاعتدائهم في السبت وكفرهم بعيسى. قوله: "ذلك بما عصوا" جملة مستأنفة جواب عن سؤال مقدر، والإشارة بذلك إلى اللعن: أي ذلك اللعن بسبب المعصية والاعتداء لا بسبب آخر.
ثم بين سبحانه المعصية والاعتداء بقوله: 79- "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه" فأسند الفعل إليهم لكون فاعله من جملتهم وإن لم يفعلوه جميعاً. والمعنى: أنهم كانوا لا ينهون العاصي عن معاودة معصية قد فعلها، أو تهيأ لفعلهان ويحتمل أن يكون وصفهم بأنهم قد فعلوا المنكر باعتبار حالة النزول لا حالة ترك الإنكار، وبيان العصيان والاعتداء بترك التناهي عن المنكر لأن من أخل بواجب النهي عن المنكر فقد عصى الله سبحانه وتعدى حدوده. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإسلامية وأجل الفرائض الشرعية، ولهذا كان تاركه شريكاً لفاعل المعصية ومستحقاً لغضب الله وانتقامه كما وقع لأهل السبت، فإن الله سبحانه مسخ من لم يشاركهم في الفعل ولكن ترك الإنكار عليهم، كما مسخ المعتدين فصاروا جميعاً قردة وخنازير "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد" ثم إن الله سبحانه قال مقبحاً لعدم التناهي عن المنكر "لبئس ما كانوا يفعلون" أي من تركهم لإنكار ما يجب عليهم إنكاره.
80- "ترى كثيراً منهم" أي من اليهود مثل كعب بن الأشرف وأصحابه "يتولون الذين كفروا" أي المشركين وليسوا على دينهم "لبئس ما قدمت لهم أنفسهم" أي سولت وزينت، أو ما قدموه لأنفسهم ليردوا عليه يوم القيامة، والمخصوص بالذم هو "أن سخط الله عليهم" أي موجب سخط الله عليهم على حذف مضاف أو هو سخط الله عليهم على حذف مبتدأ، وقيل هو: أي أن سخط الله عليهم بدل من ما.
81- "ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي" أي نبيهم "وما أنزل إليه" من الكتاب "ما اتخذوهم" أي المشركين "أولياء" لأن الله سبحانه ورسوله المرسل إليهم وكتابه المنزل عليهم قد نهوهم عن ذلك "ولكن كثيراً منهم فاسقون" أي خارجون عن ولاية الله وعن الإيمان به وبرسوله وبكتابه. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "لا تغلوا في دينكم" يقول: لا تبتدعوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: كانوا مما غلوا فيه أن دعوا لله صاحبة وولداً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وضلوا عن سواء السبيل" قال: يهود. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود" إلى قوله: "فاسقون" ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً". وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً فلا نطول بذكرها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود" يعني في الزبور "وعيسى ابن مريم" يعني في الإنجيل. وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي مالك الغفاري في الآية قال: لعنوا على لسان داود فجعلوا قردة، وعلى لسان عيسى فجعلوا خنازير. وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعاً: قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار، فقام مائة وإثنا عشر رجلاً من عبادهم فأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً في آخر النهار، فهم الذين ذكر الله "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل" الآيات. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: " لبئس ما قدمت لهم أنفسهم" قال: ما أمرتهم. وأخرج ابن أبي حاتم والخرائطي في مساوي الأخلاق وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر المسلمين إياكم والزنا، فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، فأما التي في الدنيا: فذهاب البهاء، ودوام الفقر، وقصر العمر، وأما التي في الآخرة: فسخط الله، وسوء الحساب، والخلود في النار، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون"". قال ابن كثير في تفسيره: هذا الحديث ضعيف على كل حال. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء" قال: المنافقون.
قوله: 82- "لتجدن" إلخ هذه جملة مستأنفة مقررة لما فيها من تعداد مساوئ اليهود وهناتهم، ودخول لام القسم عليها يزيدها تأكيداً وتقريراً، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز. والمعنى في الآية: أن اليهود والمشركين لعنهم الله أشد جميع الناس عداوة للمؤمنين وأصلبهم في ذلك، وأن النصارى أقرب الناس مودة للمؤمنين، واللام في "للذين آمنوا" في الموضعين متعلقة بمحذوف وقع صفة لعداوة ومودة، وقيل هو متعلق بعداوة ومودة، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى كونهم أقرب مودة، والباء في "بأن منهم قسيسين" للسببية: أي ذلك بسبب أن منهم قسيسين، وهو جمع قس وقسيس قاله قطرب. والقسيس: العالم، وأصله من قس: إذا تتبع الشيء وطلبه. قال الراجز: يصبحن عن قس الأذى غوافلاً وتقسست أصواتهم بالليل تسمعتها والقس: النميمة. والقس أيضاً: رئيس النصارى في الدين والعلم، وجمعه قسوس أيضاً، وكذلك القسيس: مثل الشر والشرير، ويقال في جمع قسيس تكسيراً قساوسة بإبدال إحدى السينين واواً، والأصل قساسة، فالمراد بالقسيسين في الآية: المتبعون للعلماء والعباد، وهو إما عجمي خلطته العرب بكلامها، أو عربي. والرهبان: جمع راهب كركبان وراكب، والفعل رهب الله يرهبه: أي خافه. والرهبانية والترهب: التعبد في الصوامع. قال أبو عبيد: وقد يكون رهبان للواحد والجمع. قال الفراء: ويجمع رهبان إذا كان للمفرد رهبان وهابين كقربان وقرابين. وقد قال جرير في الجمع: رهبان مدين لو رأوك ترهبوا وقال الشاعر في استعمال رهبان مفرداً: لو أبصرت رهبان دير في الجبل لانحدر الرهبان يسعى ونزل
ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم لا يستكبرون عن قول الحق، بل هم متواضعون، بخلاف اليهود فإنهم على ضد ذلك، وهذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها 83- "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول" معطوف على جملة "وأنهم لا يستكبرون". "تفيض من الدمع" أي تمتلئ فتفيض، لأن الفيض لا يكون إلا بعد الامتلاء، جعل الأعين تفيض، والفائض: إنما هو الدمع قصداً للمبالغة كقولهم دمعت عينه. قال امرؤ القيس: ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بل دمعي محملي قوله: "مما عرفوا من الحق" من الأولى لابتداء الغاية، والثانية بيانية: أي كان ابتداء الفيض ناشئاً من معرفة الحق، ويجوز أن تكون الثانية تبعيضية، وقرئ "ترى أعينهم" على البناء للمجهول. وقوله: "يقولون ربنا آمنا" استئناف مسوق لجواب سؤال مقدر، كأنه قيل فما حالهم عند سماع القرآن؟ فقال: "يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين" أي آمنا بهذا الكتاب النازل من عندك على محمد وبمن أنزلته عليه فاكتبنا مع الشاهدين على الناس يوم القيامة من أمة محمد أو مع الشاهدين بأنه حق، أو مع الشاهدين بصدق محمد وأنه رسولك إلى الناس.