تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 127 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 127

126

قوله: 113- "قالوا نريد أن نأكل منها" بينوا به الغرض من سؤالهم نزول المائدة، وكذا ما عطف عليه من قولهم: "وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين" والمعنى: تطمئن قلوبنا بكمال قدرة الله، أو بأنك مرسل إلينا من عنده، أو بأن الله قد أجابنا إل ما سألناه، ونعلم علماً يقيناً بأنك قد صدقتنا في نبوتك، ونكون عليها من الشاهدين عند من لم يحضرها من بني إسرائيل أو من سائر الناس أو من الشاهدين لله بالوحدانية، أو من الشاهدين: أي الحاضرين دون السامعين.
ولما رأى عيسى ما حكوه عن أنفسهم من الغرض بنزول المائدة قال: "اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء" أي كائنة أو نازلة من السماء، وأصل اللهم عند سيبويه وأتباعه: يا الله، فجعلت الميم بدلاً من حرف النداء، وربنا نداء ثان، وليس بوصف، و "تكون لنا عيداً" وصف لمائدة. وقرأ الأعمش يكون لنا عيداً أي يكون يوم نزولها لنا عيداً، وقد كان نزولها يوم الأحد، وهو يوم عيد لهم، والعيد واحد الأعياد، وإنما جميع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد، وقيل للفرق بينه وبين أعواد جمع عود، ذكر معناه الجوهري، وقيل أصله من عاد يعود: أي رجع فهو عود بالواو، وتقلب ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد، فقيل ليوم الفطر والأضحى عيدان، لأنهما يعودان في كل سنة. وقال الخليل: العيد كل يوم جمع كأنهم عادوا إليه. وقوله: "لأولنا وآخرنا" بدل من الضمير في لنا بتكرير العامل: أي لمن في عصرنا ولمن يأتي بعدنا من ذرارينا وغيرهم. قوله: "وآية منك" عطف على "عيداً": أي دلالة وحجة واضحة على كمال قدرتك وصحة إرسالك من أرسلته "وارزقنا" أي أعطنا هذه المائدة المطلوبة، أو ارزقنا رزقاً نستعين به على عبادتك "وأنت خير الرازقين" بل لا رازق في الحقيقة غيرك ولا معطي سواك.
فأجاب الله سبحانه سؤال عيسى عليه السلام فقال: 115- "إني منزلها" أي المائدة "عليكم". وقد اختلف أهل العلم هل نزلت عليهم المائدة أم لا؟ فذهب الجمهور إلى الأول وهو الحق لقوله سبحانه: "إني منزلها عليكم" ووعده الحق وهو لا يخلف الميعاد. وقال مجاهد: ما نزلت وإنما هو ضرب مثل ضربه الله لخلقه نهياً لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه، وقال الحسن: وعدهم بالإجابة، فلما قال: "فمن يكفر بعد منكم" استغفروا الله وقالوا لا نريدها. قوله: "فمن يكفر بعد منكم" أي بعد تنزيلها "فإني أعذبه عذاباً" أي تعذيباً "لا أعذبه" صفة لعذاباً، والضمير عائد إلى العذاب بمعنى التعذيب: أي لا أعذب مثل ذلمك التعذيب "أحداً من العالمين" قيل المراد عالمي زمانهم، وقيل جمع العالمين، وفي هذا من التهديد والترهيب ما لا يقادر قدره. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة قالت: كان الحواريون أعلم بالله من أن يقولوا: "هل يستطيع ربك" إنما قالوا: هل تستطيع أنت ربك أن تدعوه، ويؤيد هذا ما أخرجه الحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل يستطيع ربك " بالتاء يعني الفوقية. وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه قرأها كذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: المائدة الخوان، وتطمئن: توقن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "تكون لنا عيداً" يقول: نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس: أنه كان يحدث عن عيسى ابن مريم أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجر العامل على من عمل له، ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير، قلت لنا إن أجر العامل على من عمل له، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً، ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا " هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة " إلى قوله: "أحداً من العالمين" فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد، فخافوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير" وقد روي موقوفاً على عمار. قال الترمذي: والوقف أصح. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: المائدة سمكة وأريغفة. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عنه قال: نزلت على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه سمك وخبز يأكلون منه أينما تولوا إذا شاءوا. وأخرج ابن جرير نحوه عنه من طريق عكرمة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن عبد الله بن عمرو قال: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون.
قوله: 116- "وإذ قال الله" معطوف على ما قبله في محل نصب بعامله أو بعامل مقدر هنا: أي اذكر. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذا القول منه سبحانه هو يوم القيامة. والنكتة توبيخ عباد المسيح وأمه من النصارى. وقال السدي وقطرب: إنه قال له هذا القول عند رفعه إلى السماء لما قالت النصارى فيه ما قالت، والأول أولى: قيل: "وإذ" هنا بمعنى إذا كقوله تعالى: "ولو ترى إذ فزعوا" أي إذا فزعوا، وقول أبي النجم: ثم جزاك الله عني إذ جزى جنات عدن في السموات العلى أي إذا جزى، وقول الأسود بن جعفر الأسدي: وفي الآن إذ هازلتهن فإنما يقلن ألا لم يذهب الشيخ مذهبا أي إذا هازلتهن تعبيراً عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه. وقد قيل في توجيه هذا الاستفهام منه تعالى إنه لقصد التوبيخ كما سبق، وقيل لقصد تعريف المسيح بأن قومه غيروا بعده وادعوا عليه ما لم يقله. وقوله: "من دون الله" متعلق بقوله: "اتخذوني" على أنه حال: أي متجاوزين الحد، ويجوز أن يتعلق بمحذوف هو صفة لإلهين: أي كائنين من دون الله. قوله: "سبحانك" تنزيه له سبحانه: أي أنزهك تنزيهاً "ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق" أي ما ينبغي لي أن أدعي لنفس ما ليس من حقها "إن كنت قلته فقد علمته" رد ذلك إلى علمه سبحانه، وقد علم أنه لم يقله، فثبت بذلك عدم القول منه. قوله: "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك" هذه الجملة في حكم التعليل لما قبلها: أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، وهذا الكلام من باب المشاكلة كما هو معروف عند علماء المعاني والبيان، وقيل المعنى: تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، وقيل تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه، وقيل تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد.
قوله: 117- "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به" هذه جملة مقررة لمضمون ما تقدم: أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني "أن اعبدوا الله ربي وربكم" هذا تفسير لمعنى "ما قلت لهم" أي ما أمرتهم، وقيل عطف بيان للمضمر في "به" وقيل بدل منه "وكنت عليهم شهيداً" أي حفيظاً ورقيباً أرعى أحوالهم وأمنعهم عن مخالفة أمرك "ما دمت فيهم" أي مدة دوامي فيهم "فلما توفيتني" قيل هذا يدل على أن الله سبحانه توفاه قبل أن يرفعه، وليس بشيء لأن الأخبار قد تظافرت بأنه لم يمت، وأنه باق في السماء على الحياة التي كان عليها في الدنيا حتى ينزل إلى الأرض آخر الزمان، ومنه قوله تعالى: "الله يتوفى الأنفس حين موتها" وبمعنى النوم، ومنه قوله تعالى: "وهو الذي يتوفاكم بالليل" أي ينيمكم، وبمعنى الرفع، ومنه "فلما توفيتني" " إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك " "كنت أنت الرقيب عليهم" أصل المراقبة: المراعاة، أي كنت الحافظ لهم والعالم بهم والشاهد عليهم.
118- "إن تعذبهم فإنهم عبادك" تصنع بهم ما شئت وتحكم فيهم بما تريد "وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" أي القادر على ذلك الحكيم في أفعاله، قيل قاله على وجه الاستعطاف كما يستعطف السيد لعبده. ولهذا لم يقل إن تعذبهم فإنهم عصوك، وقيل قاله على وجه التسليم لأمر الله والانقياد له، ولهذا عدل عن الغفور الرحيم إلى العزيز الحكيم.
قوله: 119- "قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم" أي صدقهم في الدنيا، وقيل في الآخرة، والأول أولى. قرأ نافع وابن محيصن "يوم" بالنصب، وقرأ الباقون بالرفع، فوجه النصب أنه ظرف للقول: أي قال الله هذا القول يوم ينفع الصادقين، ووجه الرفع أنه خبر للمبتدأ هو وما أضيف إليه. وقال الكسائي نصب "يوم" ها هنا لأنه مضاف إلى الجملة، وأنشد: على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع وبه قال الزجاج، ولا يجيز البصريون ما قالاه إلا إذا أضيف الظرف إلى فعل ماض. وقرأ الأعمش "هذا يوم ينفع" بتنوين يوم كما في قوله: "واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً" فكلاهما مقطوع عن الإضافة بالتنوين. وقد تقدم تفسير قوله: "لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً". قوله: "رضي الله عنهم ورضوا عنه" أي رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم وأعلى منازل الكرامة، والإشارة بذلك إلى نيل ما نالوه من دخول الجنة والخلود فيها أبداً، ورضوان الله عنهم. والفوز: الظفر بالمطلوب على أتم الأحوال.
قوله: 120- "لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير" جاء سبحانه بهذه الخاتمة دفعاً لما سبق من إثبات من أثبت إلهية عيسى وأمه، وأخبر بأن ملك السموات والأرض له دون عيسى وأمه ودون سائر مخلوقاته، وأنه القادر على كل شيء دون غيره، وقيل المعنى: أن له ملك السموات والأرض يعطي الجنات للمطيعين، جعلنا الله منهم. وقد أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال: تلقى عيسى حجته والله لقاه في قوله: "وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله". قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلقاه الله سبحانه: "ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق" الآية. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: يقول الله هذا يوم القيامة، ألا ترى أنه يقول: "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: قال الله ذلك لما رفع عيسى إليه، وقالت النصارى ما قالت. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "أن اعبدوا الله ربي وربكم" قال: سيدي وسيدكم. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: "كنت أنت الرقيب عليهم" قال: الحفيظ. وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم" قال: ما كنت فيهم. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس "إن تعذبهم فإنهم عبادك" يقول: عبيدك قد استوجبوا العذاب بمقالتهم "وإن تغفر لهم" أي من تركت منهم ومد في عمره حتى أهبك من السماء إلى الأرض لقتل الدجال، فزالوا عن مقالتهم ووحدوك "فإنك أنت العزيز الحكيم". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم" يقول: هذا يوم ينفع الموحدين توحيدهم.