تفسير الطبري تفسير الصفحة 127 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 127
128
126
 الآية : 114
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمّ رَبّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مّنَ السّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأوّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ }..
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم أنه أجاب القوم إلى ما سألوه من مسألة ربه مائدة تنزل عليهم من السماء.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: تَكُونُ لَنا عِيدا لأَوّلِنا وآخِرِنا فقال بعضهم: معناه: نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا. ذكر من قال ذلك:
10201ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: تَكُونُ لَنَا عِيدا لأَوّلِنا وآخِرِنا يقول: نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا.
10202ـ حدثنا بشر بن معاذ,قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: تَكُونُ لَنا عِيدا لاِءَوّلِنا وآخِرِنا قال: أرادوا أن تكون لعقبهم من بعدهم.
10203ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: أنْزِلْ عَلَيْنا مائِدةً مِنَ السّماءِ تَكُونُ لَنا عِيدا لأَوّلِنا قال: الذين هم أحياء منهم يومئذ وآخِرِنا مَن بعدهم منهم.
10204ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: قال سفيان: تَكُونُ لَنا عِيدا قالوا: نصلي فيه نزلت مرّتين.
وقال آخرون: معناه: نأكل منها جميعا. ذكر من قال ذلك:
10205ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ليث, عن عقيل, عن ابن عباس, أنه قال: أكل منها يعني من المائدة حين وضعت بين أيديهم آخر الناس كما أكل منها أوّلهم.
وقال آخرون: معنى قوله عِيدا عائدة من الله تعالى علينا حجة وبرهانا.
وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: معناه: تكون لنا عيدا, نعبد ربنا في اليوم الذي تنزل فيه ونصلي له فيه, كما يعيّد الناس في أعيادهم. لأن المعروف من كلام الناس المستعمل بينهم في العيد ما ذكرنا دون القول الذي قاله من قال معناه: عائدة من الله علينا وتوجيه معاني كلام الله إلى المعروف من كلام من خوطب به أولى من توجيهه إلى المجهول منه ما وجد إليه السبيل.
وأما قوله: لأَوّلِنا وآخِرِنا فإن الأولى من تأويله بالصواب قول من قال: تأويله للأحياء منا اليوم ومن يجيء بعدنا منا للعلة التي ذكرناها في قوله: تَكُونُ لَنا عِيدا لأن ذلك هو الأغلب من معناه.
وأما قوله: وآيَةً مِنْكَ فإن معناه: وعلامة وحجة منك يا ربّ على عبادك في وحدانيتك, وفي صدق على أني رسول إليهم بما أرسلتني به. وَارْزُقْنا وأنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ: وأعطنا من عطائك, فإنك يا ربّ خير من يعطي وأجود من تفضّل, لأنه لا يدخل عطاءه منّ ولا نكد.
وقد اختلف أهل التأويل في المائدة, هل أنزلت عليهم أم لا؟ وما كانت؟ فقال بعضهم: نزلت وكانت حوتا وطعاما, فأكل القوم منها, ولكنها رفعت بعد ما نزلت بأحداث منهم أحدثوها فيما بينهم وبين الله تعالى. ذكر من قال ذلك:
10206ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبي إسحاق, عن أبي عبد الرحمن السلمي, قال: نزلت المائدة خبزا وسمكا.
10207ـ حدثني الحسين بن عليّ الصدائي, قال: حدثنا أبي, عن الفضيل, عن عطية, قال: المائدة سمكة فيها طعم كلّ طعام.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبيد الله, عن فضيل, عن مسروق, عن عطية, قال: المائدة: سمك فيه من طعم كلّ طعام.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي عبد الرحمن, قال: نزلت المائدة خبزا وسمكا.
10208ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قال: نزلت على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه خبز وسمك يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاءوا.
10209ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا المنذر بن النعمان, أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله: أنْزِلْ عَلَيْنا مائِدةً مِنَ السّماءِ تَكُونُ لَنا عِيدا قال: نزل عليهم قِرصَة من شعير وأحوات. قال الحسن: قال أبو بكر: فحدّثت به عبد الصمد بن معقل, فقال: سمعت وهبا وقيل له: وما كان ذلك يغني عنهم؟ فقال: لا شيء ولكن الله حثا بين أضعافهنّ البركة, فكان قوم يأكلون ثم يخرجون, ويجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون, حتى أكلوا جميعهم وأفضلوا.
10210ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن أبي يحيى, عن مجاهد, قال: هو الطعام ينزل عليهم حيث نزلوا.
10211ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله تعالى: مائدَةً مِنَ السّماءِ قال: مائدة عليها طعام أبَوْها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا فأبوا أن تنزل عليهم.
10212ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن أبي معشر, عن إسحاق بن عبد الله: أن المائدة نزلت على عيسى ابن مريم, عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات, يأكلون منها ما شاءوا. قال: فسرق بعضهم منها, وقال: لعلها لا تنزل غدا فرفعت.
10213ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا عبد الأعلى, قال: حدثنا داود, عن سماك بن حرب, عن رجل من بني عجل قال: صليت إلى جنب عمار بن ياسر, فلما فرغ, قال: هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل؟ قال: فقلت لا. قال: إنهم سألوا عيسى ابن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد, قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخبئوا أو تخونوا أو ترفعوا, فإن فعلتم فإني أعذّبكم عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين. قال: فما تمّ يومهم حتى خبئوا ورفعوا وخانوا, فعُذّبوا عذابا لم يعذّبه أحدا من العالمين. وإنكم معشر العرب كنتم تتبعون أذناب الإبل والشاء, فبعث الله فيكم رسولاً من أنفسكم تعرفون حسبه ونسبه, وأخبركم على لسان نبيكم أنكم ستظهرون على العرب, ونهاكم أن تكنزوا الذهب والفضة, وايم الله لا يذهب الليل والنهار حتى تكنزوهما ويعذّبكم عذابا أليما
10214ـ حدثنا الحسن بن قزعة البصريّ, قال: حدثنا سفيان بن حبيب, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن حلاس بن عمرو, عن عمار بن ياسر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَزَلَتِ المَائدَةُ خُبْزا ولَحْما, وأُمِرُوا أنْ لا يَخُونُوا وَلا يَدّخِرُوا وَلا يَرْفَعُوا لِغَد, فَخانُوا وَادّخَرُوا وَرَفَعُوا, فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنازِيرَ».
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع, قال: حدثنا يوسف بن خالد, قال: حدثنا نافع بن مالك, عن عكرمة عن ابن عباس في المائدة, قال: كانت طعاما ينزل عليهم من السماء حيثما نزلوا. ذكر من قال ذلك:
10215ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عديّ, عن سعيد, عن قتادة, عن خلاس بن عمرو, عن عمار, قال: نزلت المائدة, وعليها ثمر من ثمر الجنة, فأمروا أن لا يخبئوا ولا يخونوا ولا يدّخروا. قال: فخان القوم وخبئوا وادخروا, فحوّلهم الله قردة وخنازير.
10216ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذكر لنا أنها كانت مائدة ينزل عليها الثمر من ثمار الجنة, وأمروا أن لا يخبئوا ولا يخونوا ولا يدّخروا لغد, بلاء ابتلاهم الله به, وكانوا إذا فعلوا شيئا من ذلك أنبأهم به عيسى, فخان القوم فيه فخبئوا وادّخروا لغد.
وقال آخرون: كان عليها من كلّ طعام إلا اللحم. ذكر من قال ذلك:
10217ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن ميسرة, قال: كانت إذا وضعت المائدة لبني إسرائيل, اختلفت عليها الأيدي بكلّ طعام.
10218ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن عطاء, عن ميسرة وزاذان, قالا: كانت الأيدي تختلف عليها بكل طعام.
حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفيان الثوريّ, عن عطاء بن السائب, عن زاذان وميسرة في: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ قالا: رأوا الأيدي تختلف عليها بكلّ شيء إلا اللحم.
وقال آخرون: لم ينزل الله على بني إسرائيل مائدة: ثم اختلف قائلو هذه المقالة فقال بعضهم: إنما هذا مثل ضربه الله تعالى لخلقه نهاهم به عن مسألة نبيّ الله الاَيات. ذكر من قال ذلك:
10219ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن ليث, عن مجاهد, في قوله: أنْزِلْ عَلَيْنا مائِدةً مِنَ السّماءِ قال: مثل ضرب, لم ينزل عليهم شيء.
وقال آخرون: إن القوم لما قيل لهم: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فإنّي أُعَذّبُهُ عَذَابا لا أعذّبُه أحَدا مِنَ العالَمِينَ استعْفَوا منها فلم تنزل. ذكر من قال ذلك:
10220ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كان الحسن يقول لما قيل لهم: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ.... إلى آخر الاَية, قالوا: لا حاجة لنا فيها فلم تنزل.
حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن منصور بن زاذان, عن الحسن أنه قال في المائدة: لم تنزل.
10221ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا القاسم بن سلام, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قال: مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا, فأبَوْا أن تنزل عليهم.
والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: إن الله تعالى أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألته ذلك ربه. وإنما قلنا ذلك للخبر الذي روينا بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل التأويل من بعدهم غير من انفرد بما ذكرنا عنه. وبعد, فإن الله تعالى لا يخلف وعده ولا يقع في خبره الخلف, وقد قال تعالى مخبرا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم حين سأله ما سأله من ذلك: إنّي مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ, وغير جائز أن يقول تعالى ذكره إني منزلها عليكم, ثم لا ينزلها لأن ذلك منه تعالى خبر, ولا يكون منه خلاف ما يخبر. ولو جاز أن يقول: إني منزلها عليكم, ثم لا ينزلها عليهم, جاز أن يقول: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فإنّي أُعَذّبُهُ عَذَابا لا أُعَذّبُهُ أحَدا مِن العالَمِينَ ثم يكفر منهم بعد ذلك فلا يعذّبه, فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة, وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى بذلك.
وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة, فأن يقال: كان عليها مأكول, وجائز أن يكون كان سمكا وخبزا, وجائز أن يكون كان ثمرا من ثمر الجنة وغير نافع العلم به ولا ضارّ الجهل به إذا أقرّ تالي الاَية بظاهر ما احتمله التنزيل.
الآية : 115
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ اللّهُ إِنّي مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّيَ أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ الْعَالَمِينَ }..
وهذا جواب من الله تعالى القوم فيما سألوا نبيهم عيسى مسألة ربهم من إنزاله مائدة عليهم, فقال تعالى ذكره: إني منزلها عليكم أيها الحواريون فمطعكموها. فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ يقول: فمن يجحد بعد إنزالها عليكم وإطعامكموها منكم رسالتي إليه وينكر نبوّة نبي عيسى صلى الله عليه وسلم ويخالف طاعتي فيما أمرته ونهيته, فإني أعذّبه عذابا لا أعذّبه أحدا من عالمي زمانه. ففعل القوم, فجحدوا وكفروا بعد ما أنزلت عليهم فيما ذكر لنا, فعذّبوا فيما بلغنا بأن مسخوا قردة وخنازير. كالذي:
10222ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّي مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ.... الاَية, ذكر لنا أنهم حوّلوا خنازير.
10223ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الوهاب ومحمد بن أبي عديّ, ومحمد بن جعفر, عن عوف, عن أبي المغيرة القوّاس, عن عبد الله بن عمرو, قال: إن أشدّ الناس عذابا ثلاثة: المنافقون, ومن كفر من أصحاب المائدة, وآل فرعون.
حدثنا الحسن بن عرفة, قال: حدثنا المعتمر بن سليمان, عن عوف, قال: سمعت أبا المغيرة القوّاس يقول: قال عبد الله بن عمرو: إن أشدّ الناس عذابا يوم القيامة: مَنْ كفر من أصحاب المائدة, والمنافقون, وآل فرعون.
10224ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ بعد ما جاءته المائدة, فإنّي أُعَذّبُهُ عَذَابا لا أُعَذّبُهُ أحَدا مِنَ العالَمِينَ يقول: أعذّبه بعذاب لا أعذّبه أحدا من العالمين غير أهل المائدة.
الآية : 116
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَأُمّيَ إِلَـَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيَ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ }..
يقول تعالى ذكره: يوم يجمع الله الرسل, فيقول ماذا أجبتم, إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ وقيل: إن الله قال هذا القول لعيسى حين رفعه إليه في الدنيا. ذكر من قال ذلك:
10225ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَإذْ قالَ اللّه يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مَنْ دُونِ اللّهِ قال: لما رفع الله عيسى ابن مريم إليه, قالت النصارى ما قالت, وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك, فسأله عن قوله, ف قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لي أنْ أقُولَ ما لَيْسَ لي بِحَقَ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إنّكَ أنْتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ.... إلى قوله: وأنْتَ على كُلّ شَيْء شَهِيدٌ.
وقال آخرون: بل هذا خبر من الله تعالى ذكره عن أنه يقول لعيسى ذلك في القيامة. ذكر من قال ذلك:
10226ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: وَإذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيمَ أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قال: والناس يسمعون, فراجعه بما قد رأيت, وأقرّ له بالعبودية على نفسه, فعلم من كان يقول في عيسى ما يقول أنه إنما كان يقول باطلاً.
10227ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن ميسرة, قال: قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيمَ أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ فأرعدت مفاصله, وخشي أن يكون قد قال, ف قَالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقَ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ... الاَية.
10228ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيمَ أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ متى يكون ذلك؟ قال: يوم القيامة, ألا ترى أنه يقول: هَذَا يَومُ يَنْفَعُ الصّادقِينَ صِدْقُهُمْ.
فعلى هذا التأويل الذي تأوّله ابن جريج يجب أن يكون «وإذْ» بمعنى «وإذا», كما قال في موضع آخر: وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا, بمعنى: يفزعون. وكما قال أبو النجم:
ثُمّ جَزَاهُ اللّهُ عَنّا إذْ جَزَىجَنّاتِ عَدْنٍ فِي العَلاليّ العُلا
والمعنى: إذا جزى. وكما قال الأسود:
فالاَنَ إذْ هازَلْتُهُنّ فإنّمَايَقُلْنْ ألا لم يذْهَبِ الشّيخُ مَذْهَبا
بمعنى: إذا هازلتهنّ. وكأنّ من قال في ذلك بقول ابن جريج هذا, وجّه تأويل الاَية إلى: فَمَنْ يَكْفُرْ بعدُ مِنْكُمْ فَإنّي أُعَذّبُهُ عَذَابا لاَ أُعَذّبُهُ أَحَدا مِنَ الْعَالِمينَ في الدنيا وأعذّبه أيضا في الاَخرة, إذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيمَ أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ.
وأولى القولين عندنا بالصواب في ذلك, قول من قال بقول السدّيّ: وهو أن الله تعالى قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه, وأن الخبر خبر عما مضى لعلتين: إحداهما: أن «إذ» إنما تصاحب في الأغلب من كلام العرب المستعمل بينها الماضي من الفعل, وإن كانت قد تدخلها أحيانا في موضع الخبر عما يحدث إذا عرف السامعون معناها وذلك غير فاشٍ ولا فصيح في كلامهم, فتوجيه معاني كلام الله تعالى إلى الأشهر الأعرف ما وجد إليه السبيل أولى من توجيهها إلى الأجهل الأنكر. والأخرى: أن عيسى لم يشكّ هو ولا أحد من الأنبياء أن الله لا يغفر لمشرك مات على شركه, فيجوز أن يتوهم على عيسى أن يقول في الاَخرة مجيبا لربه تعالى: إن تعذّب من اتخذني وأمي إلهين من دونك فإنهم عبادك, وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.
فإن قال قائل: وما كان وجه سؤال الله عيسى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله, وهو العالم بأن عيسى لم يقل ذلك؟ قيل: يحتمل ذلك وجهين من التأويل: أحدهما: تحذير عيسى عن قيل ذلك ونهيه, كما يقول القائل لاَخر: أفعلت كذا وكذا؟ مما يعلم المقول له ذلك أن القائل يستعظم فعل ما قال له: «أفعلته» على وجه النهي عن فعله والتهديد له فيه. والاَخر: إعلامه أن قومه الذين فارقهم قد خالفوا عهده وبدّلوا دينهم بعده, فيكون بذلك جامعا إعلامه حالهم بعده وتحذيره له قيله.
وأما تأويل الكلام: فإنه: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين, أي معبودين تعبدونهما من دون الله؟ قال عيسى: تنزيها لك يا ربّ وتعظيما أن أفعل ذلك أو أتكلم به, ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ يقول: ليس لي أن أقول ذلك لأنهي عبد مخلوق وأمي أمة لك, فهل يكون للعبد والأمة ادّعاء ربوبية؟ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ, يقول: إنك لا يخفى عليك شيء, وأنت عالم أني لم أقل ذلك ولم آمرهم به.
القول في تأويل قوله تعالى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إنّكَ أنْتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم أنه يبرأ إليه مما قالت فيه وفي أمه الكفرة من النصارى أن يكون دعاهم إليه أو أمرهم به, فقال: سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقَ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ثم قال: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي يقول: إنك يا ربّ لا يخفي عليك ما أضمرته نفسي مما لم أنطلق به ولم أظهره بجوارحي, فكيف بما قد نطقت به وأظهرته بجوارحي؟ يقول: لو كنت قد قلت للناس أتخذوني وأمي إلهين من دون الله كنت قد علمته, لأنك تعلم ضمائر النفوس مما لم تنطق به فكيف بما قد نطقت به. وَلا أعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ يقول: ولا أعلم أنا ما أخفيته عني فلم تطلعني عليه, لأني إنما أعلم من الأشياء ما أعلمتنيه إنّكَ أنْتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ يقول: إنك أنت العالم بخفيات الأمور التي لا يطلع عليها سواك ولا يعلمها غيرك.
الآية : 117
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }..
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول عيسى, يقول: ما قلت لهم إلا الذي أمرتني به من القول أن أقوله لهم, وهو أن قلت لهم اعْبُدُوا الله رَبّي ورَبّكُمْ وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا يقول: وكنت على ما يفعلونه وأنا بين أظهرهم شاهدا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم. فَلمّا توفّيْتَني يقول: فلما قبضتني إليك, كُنْتُ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيهِمْ يقول: كنت أنت الحفيظ عليهم دوني, لأني إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم.
وفي هذا تبيان أن الله تعالى إنما عرّفه أفعال القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه وتوفاه بقوله: أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ... وأنْتَ على كُلّ شَيْء شَهِيدٌ يقول: وأنت تشهد على كل شيء, لأنه لا يخفى عليك شيء, وأما أنا فإنما شهدت بعض الأشياء, وذلك ما عاينت وأنا مقيم بين أظَهْرُ القوم, فإنما أنا أشهد على ذلك الذي عاينت ورأيت وشهدت.
وبنحو الذي قلنا في قوله: كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10229ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ أما الرقيب: فهو الحفيظ.
10230ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ قال: الحفيظ.
وكانت جماعة من أهل العلم تقول: كان جواب عيسى الذي أجاب به ربه من الله تعالى توقيفا منه له فيه. ذكر من قال ذلك:
10231ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه: أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقَ قال: الله وقّفه.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو داود الحفري, قال: قرىء على سفيان, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه طاوس, قال: احتجّ عيسى والله وقّفه: أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ... الاَية.
10232ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جريج, عن عطاء, عن ميسرة, قال: قال الله تعالى: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيمَ أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ؟ قال: فأرعدت مفاصله, وخشي أن يكون قد قالها, ف قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقَ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إنّكَ أنْتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ
الآية : 118
القول في تأويل قوله تعالى: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }..
يقول تعالى ذكره: إن تعذّب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة بإماتتك إياهم عليها, فإنهم عبادك, مستسلمون لك, لا يمتنعون مما أردت بهم ولا يدفعون عن أنفسهم ضرّا ولا أمرا تنالهم به. وإن تغفر لهم بهدايتك إياهم إلى التوبة منها فتستر عليهم, فإنك أنت العزيز في انتقامه ممن أراد الانتقام منه لا يقدر أحد يدفعه عنه, الحكيم في هدايته من هدى من خلقه إلى التوبة وتوفيقه من وفق منهم لسبيل النجاة من العقاب. كالذي:
10233ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ في قوله: إنْ تُعَذّبْهُمْ فإنّهُمْ عِبادُكَ وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام, فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ وهذا قول عيسى في الدنيا.
10234ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: إنْ تُعَذّبْهُمْ فإنّهُمْ عِبادُكَ وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ قال: والله ما كانوا طعّانين ولا لعّانين.
الآية : 119
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ اللّهُ هَـَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }..
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ فقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والمدينة: «هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ» بنصب «يوم». وقرأ بعض أهل الحجاز وبعض أهل المدينة وعامّة قرّاء أهل العراق: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ برفع يوم. فمن رفعه رفعه بهذا, وجعل «يوم» اسما, وإن كانت إضافته غير محضة, لأنه صار كالمنعوت. وكان بعض أهل العربية يزعم أن العرب يعملون في إعراب الأوقات مثل اليوم والليلة عملهم فيما بعدها, إن كان ما بعدها رفعا رفعوها, كقولهم: هذا يومُ يركب الأمير, وليلةُ يصدر الحاج, ويومُ أخوك منطلق وإن كان ما بعدها نصبا نصبوها, وكذلك كقولهم: هذا يومَ خرج الجيش وسار الناس, وليلةَ قتل زيد ونحو ذلك, وإن كان معناها في الحالين: «إذ», و«إذا». وكأنّ من قرأ هذا هكذا رفعا وجه الكلام إلى أنه من قيل الله يوم القيامة, وكذلك كان السديّ يقول في ذلك.
10235ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: قالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ هذا فصل من كلام عيسى, وهذا يوم القيامة.
يعني السدي بقوله: «هذا فصل من كلام عيسى» أن قوله: سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقَ... إلى قوله: فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ من خبر الله عزّ وجلّ عن عيسى أنه قاله في الدنيا بعد أن رفعه إليه, وأن ما بعد ذلك من كلام الله لعباده يوم القيامة. وأما النصب في ذلك, فإنه يتوجه من وجهين: أحدهما: أن إضافة «يوم» ما لم تكن إلى اسم تجعله نصبا, لأن الإضافة غير محضة, وإنما تكون الإضافة محضة إذا أضيف إلى اسم صحيح. ونظير اليوم في ذلك الحين والزمان وما أشبههما من الأزمنة, كما قال النابغة:
على حِينَ عاتَبْتُ المَشِيبَ على الصّباوقَلْتُ أَلمّا أصْحُ والشّيْبُ وَازِعُ
والوجه الاَخر: أن يكون مرادا بالكلام هذا الأمر وهذا الشأن, «يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ» فيكون اليوم حينئذ منصوبا على الوقت والصفة, بمعنى: هذا الأمر في يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ.
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب: «هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ» بنصب اليوم على أنه منصوب على الوقت والصفة, لأن معنى الكلام: أن الله تعالى أجاب عيسى حين قال: سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقَ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ.... إلى قوله: فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ فقال له عزّ وجلّ: هذا القول النافع أو هذا الصدق النافع يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ فاليوم وقت القول والصدق النافع.
فإن قال قائل: فما موضع «هذا»؟ قيل رفع فإن قال: فأين رافعه؟ قيل مضمر, وكأنه قال: قال الله عزّ وجلّ: هذا, هذا يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ, كما قال الشاعر:
أما تَرَى السّحابَ كَيْفَ يَجْرِيهَذَا وَلا خَيْلُكَ يا ابْنَ بِشْرِ
يريد: هذا هذا, ولا خيلك.
فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا لما بينا: قال الله لعيسى: هذا القول النافع في يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ في الدنيا صِدْقُهُمْ ذلك في الاَخرة عند الله. لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ يقول: للصادقين في الدنيا جناتٌ تجري من تحتها الأنهار في الاَخرة ثوابا لهم من الله عزّ وجلّ, على ما كان من صدقهم الذي صدقوا الله فيما وعدوه, فوفوا به لله, فوفي الله عزّ وجلّ لهم ما وعدهم من ثوابه. خالِدِينَ فِيها أبَدا يقول: باقين في الجنات التي أعطاهموها أبدا دائما لهم فيها نعيم لا ينتقل عنهم ولا يزول. وقد بينا فيما مضى أن معنى الخلود: الدوام والبقاء.
القول في تأويل قوله تعالى: رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ.
يقول تعالى ذكره: رضي الله عن هؤلاء الصادقين الذين صدقوا في الوفاء له بما وعدوه من العمل بطاعته واجتناب معاصيه, ورَضُوا عَنْهُ يقول: ورضوا هم عن الله تعالى في وفائه لهم بما وعدهم على طاعتهم إياه, فيما أمرهم ونهاهم من جزيل ثوابه. ذلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ يقول: هذا الذي أعطاهم الله من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار, خالدين فيها, مرضيّا عنهم, وراضين عن ربهم, هو الظفر العظيم بالطّلِبة وإدراك الحاجة التي كانوا يطلبونها في الدنيا, ولها كانوا يعملون فيها, فنالوا ما طلبوا وأدركوا ما أملوا.
الآية : 120
القول في تأويل قوله تعالى: {للّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا فِيهِنّ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }..
يقول تعالى ذكره: أيها النصارى لِلّهِ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول: له سلطان السموات والأرض, وَما فِيهِنّ دون عيسى الذين تزعمون أنه إلهكم ودون أمه, ودون جميع من في السموات ومن في الأرض فإن السموات والأرض خلق من خلقه وما فيهنّ وعيسى وأمه من بعض ذلك بالحلول والانتقال, يدلان بكونهما في المكان الذي هما فيه بالحلول فيه والانتقال أنهما عبدان مملوكان لمن له ملك السموات والأرض وما فيهنّ. ينبههم وجميع خلقه على موضع حجته عليهم ليدبروه ويعتبروه, فيعقلوا عنه. وَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول تعالى ذكره: والله الذي له ملك السموات والأرض وما فيهنّ, قادر على إفنائهن وعلى إهلاكهن وإهلاك عيسى وأمه ومن في الأرض جميعا كما ابتدأ خلقهم, لا يعجزه ذلك ولا شيء أراده لأن قدرته القدرة التي لا يشبهها قدرة وسلطانه السلطان الذي لا يشبهه سلطان ولا مملكة.

نهاية تفسير الإمام الطبرى سورة المائدة