تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 131 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 131

130

قوله: 28- "بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل" هذا إضراب عما يدل عليه التمني من الوعد بالإيمان والتصديق: أي لم يكن ذلك التمني منهم عن صدق نية وخلوص اعتقاد بل هو لسبب آخر، وهو أنه بدا لهم ما كانوا يخفون: أي يجحدون من الشرك وعرفوا أنهم هالكون بشركهم فعدلوا إلى التمني والمواعيد الكاذبة، وقيل: بدا لهم ما كانوا يخفون من النفاق والكفر بشهادة جوارحهم عليهم، وقيل: بدا لهم ما كانوا يكتمون من أعمالهم القبيحة كما قال تعالى: "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون". وقال المبرد: بدا لهم جزاء كفرهم الذي كانوا يخفونه وهو مثل القول الأول، وقيل المعنى: أنه ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفون عنهم من أمر البعث والقيامة "ولو ردوا" إلى الدنيا حسبما تمنوا "لعادوا" لفعل ما نهوا عنه من القبائح التي رأسها الشرك كما عاين إبليس ما عاين من آيات الله ثم عاند "وإنهم لكاذبون" أي متصفون بهذه الصفة لا ينفكون عنها بحال من الأحوال ولو شاهدوا ما شاهدوا، وقيل المعنى: وإنهم لكاذبون فيما أخبروا به عن أنفسهم من الصدق والإيمان. وقرأ يحيى بن وثاب "ولو ردوا" بكسر الراء لأن الأصل رددوا فنقلت كسرة الدال إلى الراء، وجملة "وإنهم لكاذبون" معترضة بين المعطوف وهو وقالوا، وبين المعطوف عليه وهو لعادوا: أي لعادوا إلى ما نهوا عنه.
29- "وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا" أي ما هي إلا حياتنا الدنيا "وما نحن بمبعوثين" بعد الموت، وهذا من شدة تمردهم وعنادهم حيث يقولون هذه المقالة على تقدير أنهم رجعوا إلى الدنيا بعد مشاهدتهم للبعث.
قوله: 30- "ولو ترى إذ وقفوا على ربهم" قد تقدم تفسيره في قوله: "ولو ترى إذ وقفوا على النار" أي حبسوا على ما يكون من أمر ربهم فيهم، وقيل على بمعنى عند، وجواب لو محذوف: أي لشاهدت أمراً عظيماً، والاستفهام في "أليس هذا بالحق" للتقريع والتوبيخ: أي أليس هذا البعث الذي ينكرونه كائناً موجوداً، وهذا الجزاء الذي يجحدونه حاضراً. "قالوا بلى وربنا" اعترفوا بما أنكروا وأكدوا اعترافهم بالقسم "قال فذوقوا العذاب" الذي تشاهدونه وهو عذاب النار "بما كنتم تكفرون" أي بسبب كفركم به أو بكل شيء مما أمرتم بالإيمان به في دار الدنيا. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ثم لم تكن فتنتهم" قال: معذرتهم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه "ثم لم تكن فتنتهم" قال: حجتهم "إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين" يعني المنافقين والمشركين قالوا وهم في النار: هلم فلنكذب فلعله أن ينفعنا، فقال الله: "انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم" في القيامة "ما كانوا يفترون" يكذبون في الدنيا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله: "والله ربنا ما كنا مشركين" ثم قال: "ولا يكتمون الله حديثاً" قال: بجوارحهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة "انظر كيف كذبوا على أنفسهم" قال: باعتذارهم الباطل "وضل عنهم ما كانوا يفترون" قال: ما كانوا يشركون. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ومنهم من يستمع إليك" قال: قريش، وفي قوله: "وجعلنا على قلوبهم أكنة" قال: كالجعبة للنبل. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً" قال: يسمعونه بآذانهم ولا يعون منه شيئاً، كمثل البهيمة التي لا تسمع النداء ولا تدري ما يقال لها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال: الغطاء أكن قلوبهم أن يفقهوه، والوقر الصمم، و "أساطير الأولين" أساجيع الأولين. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: أساطير الأولين: أحاديث الأولين. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: أساطير الأولين: كذب الأولين وباطلهم. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "وهم ينهون عنه وينأون عنه" قال: نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يردوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتباعد عما جاء به. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن القاسم بن مخيمرة نحوه. وأخرج ابن جرير عن عطاء نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: ينهون عنه الناس أن يؤمنوا به، "وينأون عنه": يتباعدون. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عنه قال: لا يلقونه ولا يدعون أحداً يأتيه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن الحنفية في الآية. قال: كفار مكة كانوا يدفعون الناس عنه ولا يجيبونه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: ينهون عن القرآن وعن النبي صلى الله عليه وسلم، "وينأون عنه" يتباعدون عنه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال في الآية قال: نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية، وأشد الناس عليه في السر. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل" قال: من أعمالهم "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه" يقول: ولو وصل الله لهم دنيا كدنياهم التي كانوا فيها لعادوا إلى أعمالهم أعمال السوء التي كانوا نهوا عنها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى، فقال: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه" أي ولو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حيل بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا.
قوله: 31- "قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله" هم الذين تقدم ذكرهم. والمراد من تكذيبهم بلقاء الله تكذيبهم بالبعث، وقيل تكذيبهم بالجزاء. والأول أولى، لأنهم الذين قالوا قريباً "إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين" "حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة" أي القيامة، وسميت ساعة لسرعة الحساب فيها. ومعنى بغتة: فجأة، يقال: بغتهم الأمر يبغتهم بغتاً وبغتة. قال سيبويه: وهي مصدر في موضع الحال، قال: ولا يجوز أن يقاس عليه، فلا يقال: جاء فلان سرعة، و "حتى" غاية للتكذيب لا للخسران، فإنه لا غاية له "قالوا يا حسرتنا" هذا جواب إذا جاءتهم أوقعوا النداء على الحسرة، وليست بمنادى في الحقيقة ليدل ذلك على كسرة تحسرهم. والمعنى: يا حسرتنا احضري فهذا أوانك، كذا قال سيبويه في هذا النداء وأمثاله كقولهم: يا للعجب ويا للرجل، وقيل هو تنبيه للناس على عظم ما يحل بهم من الحسرة، كأنهم قالوا: يا أيها الناس تنبهوا على عظيم ما بنا من الحسرة، والحسرة: الندم الشديد "على ما فرطنا فيها" أي على تفريطنا في الساعة: أي في الاعتداد لها، والاحتفال بشأنها، والتصديق بها. ومعنى فرطنا ضيعنا، وأصله التقدم، يقال فرط فلان: أي تقدم وسبق إلى الماء، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "وأنا فرطكم على الحوض"، ومنه الفارط: أي المتقدم فكأنه أرادوا بقولهم: "على ما فرطنا" أي على ما قدمنا من عجزنا عن التصديق بالساعة والاعتداد لها. وقال ابن جرير الطبري: إن الضمير في فرطنا فيها يرجع إلى الصفقة، وذلك أنهم لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الإيمان بالكفر، والدنيا بالآخرة "قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا" في صفقتنا، وإن لم تذكر في الكلام فهو دال عليها، لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة، وقيل الضمير راجع إلى الحياة: أي على ما فرطنا في حياتنا. قوله: "وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم" هذه الجملة حالية: أي يقولون تلك المقالة، والحال أنهم "يحملون أوزارهم على ظهورهم" أي ذنوبهم، جمع وزر: يقال وزر يزر، فهو وازر وموزور، وأصله من الوزر. قال أبو عبيدة: يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع: احمل وزرك: أي ثقلك، ومنه الوزير، لأنه يحمل أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية. والمعنى: أنها لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها، وجعلها محمولة على الظهور تمثيل "ألا ساء ما يزرون" أي بئس ما يحملون.
قوله: 32- "وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو" أي وما متاع الدنيا إلا لعب ولهو على تقدير حذف مضاف، أو ما الدنيا من حيث هي إلا لعب ولهو. والقصد بالآية تكذيب الكفار في قولهم: "ما هي إلا حياتنا الدنيا" واللعب معروف، وكذلك اللهو، وكل ما يشغلك فقد ألهاك، وقيل أصله الصرف عن الشيء. ورد بأن اللهو بمعنى الصرف لامه ياء، يقال: لهيت عنه، ولام اللهو واو، يقال: لهوت بكذا "وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون" سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا: أي هي خير للذين يتقون الشرك والمعاصي، أفلا تعقلون ذلك. قرأ ابن عامر "ولدار الآخرة" بلام واحدة وبالإضافة وقرأ الجمهور باللام التي للتعريف معها، وجعل الآخرة نعتاً لها والخبر خير، وقرئ "تعقلون" بالفوقية والتحتية.
قوله: 33- "قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون" هذه اللام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما ناله من الغم والحزن بتكذيب الكفار له، ودخول قد للتكثير فإنها قد تأتي لإفادته كما تأتي رب والضمير في "إنه" للشأن، وقرئ بفتح الياء من يحزنك وضمها، وقرئ "يكذبونك" مشدداً ومخففاً، واختار أبو عبيد قراءة التخفيف. قال النحاس: وقد خولف أبو عبيد في هذا. ومعنى "يكذبونك" على التشديد: ينسبونك إلى الكذب ويردون عليك ما قلته. ومعنى المخفف: أنهم لا يجدونك كذاباً. يقال أكذبته: وجدته كذاباً، وأبخلته: وجدته بخيلاً. وحكى الكسائي عن العرب: أكذبت الرجل: أخبرت أنه جاء بالكذب، وكذبته: أخبرت أنه كاذب. وقال الزجاج: كذبته إذا قلت له كذبت، وأكذبته: إذا أردت أن ما أتى به كذب. والمعنى: أن تكذيبهم ليس يرجع إليك فإنهم يعترفون لك بالصدق، ولكن تكذيبهم راجع إلى ما جئت به، ولهذا قال: "ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون" ووضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التوبيخ لهم والإزراء عليهم، ووصفهم بالظلم لبيان أن هذا الذي وقع منهم ظلم بين.
قوله: 34- "ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا" هذا من جملة التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أن هذا الذي وقع من هؤلاء إليك ليس هو بأول ما صنعه الكفار مع من أرسله الله إليهم، بل قد وقع التكذيب لكثير من الرسل المرسلين من قبلك فاقتد بهم ولا تحزن واصبر كما صبروا على ما كذبوا به وأوذوا حتى يأتيك نصرنا كما أتاهم فإنا لا نخلف الميعاد و "لكل أجل كتاب" "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا" "ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين" "إنهم لهم المنصورون" "وإن جندنا لهم الغالبون" "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي". "ولا مبدل لكلمات الله" بل وعده كائن وأنت منصور على المكذبين، ظاهر عليهم. وقد كان ذلك ولله الحمد "ولقد جاءك من نبإ المرسلين" ما جاءك من تجري قومهم عليهم في الابتداء وتكذيبهم لهم ثم نصرهم عليهم في الانتهاء، وأنت ستكون عاقبة هؤلاء المكذبين لك كعاقبة المكذبين للرسل فيرجعون إليك ويدخلون في الدين الذي تدعوهم إليه طوعاً أو كرهاً.
قوله: 35- "وإن كان كبر عليك إعراضهم" كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر عليه إعراض قومه ويتعاظمه ويحزن له فبين له الله سبحانه أن هذا الذي وقع منهم من توليهم عن الإجابة له، والإعراض عما دعا إليه هو كائن لا محالة لما سبق في علم الله عز وجل، وليس في استطاعته وقدرته إصلاحهم وإجابتهم قبل أن يأذن الله بذلك، ثم علق ذلك بما هو محال، فقال: " فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية " "أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية" منها فافعل، ولكنك لا تستطيع ذلك فدع الحزن و "لا تذهب نفسك عليهم حسرات". و " لست عليهم بمصيطر " والنفق: السرب والمنفذ، ومنه النافقاء لجحر اليربوع، ومنه المنافق. وقد تقدم في البقرة ما يغني عن الإعادة. والسلم: الدرج الذي يرتقي عليه، وهو مذكر لا يؤنث، وقال الفراء: إنه يؤنث. قال الزجاج: وهو مشتق من السلامة، لأنه يسلك به إلى موضع الأمن، وقيل: إن الخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد به أمته، لأنها كانت تضيق صدورهم بتمرد الكفرة وتصميمهم على كفرهم ولا يشعرون أن لله سبحانه في ذلك حكمة لا تبلغها العقول ولا تدركها الأفهام، فإن الله سبحانه لو جاء لرسوله صلى الله عليه وسلم بآية تضطرهم إلى الإيمان لم يبق للتكليف الذي هو الابتلاء والامتحان معنى، ولهذا قال: "ولو شاء الله لجمعهم على الهدى" جمع إلجاء وقسر، ولكنه لم يشأ ذلك ولله الحكمة البالغة "فلا تكونن من الجاهلين" فإن شدة الحرص والحزن لإعراض الكفار عن الإجابة قبل أن يأذن الله بذلك هو صنيع أهل الجهل ولست منهم، فدع الأمور مفوضة إلى عالم الغيب والشهادة فهو أعلم بما فيه المصلحة، ولا تحزن لعدم حصول ما يطلبونه من الآيات التي لو بدا لهم بعضها لكان إيمانهم بها اضطراراً.