تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 143 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 143

142

والاستفهام في 119- " وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه " للإنكار: أي ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه بعد أن أذن الله لكم بذلك "و" الحال أن "قد فصل لكم ما حرم عليكم" أي بين لكم بياناً مفصلاً يدفع الشك ويزيل الشبهة بقوله: " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما " إلى آخر الآية، ثم استثنى فقال: "إلا ما اضطررتم إليه" أي من جميع ما حرمه عليكم فإن الضرورة تحلل الحرام، وقد تقدم تحقيقه في البقرة. قرأ نافع ويعقوب "وقد فصل لكم ما حرم عليكم" بفتح الفعلين على البناء للفاعل، وهو الله سبحانه. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالضم فيهما على البناء للمفعول. وقرأ عطية العوفي فصل بالتخفيف: أي أبان وأظهر. قوله: "وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم" هم الكفار الذين كانوا يحرمون البحيرة والسائبة ونحوهما، فإنهم بهذه الأفعال المبنية على الجهل كانوا يضلون الناس فيتبعونهم ولا يعلمون أن ذلك جهل وضلالة لا يرجع إلى شيء من العلم.
120- "وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون" ثم أمرهم الله أن يتركوا ظاهر الإثم وباطنه. والظاهر: ما كان يظهر كأفعال الجوارح، والباطن: ما كان لا يظهر كأفعال القلب، وقيل: ما أعلنتم وما أسررتم: وقيل: الزنا الظاهر والزنا المكتوم. وأضاف الظاهر والباطن إلى الإثم لأنه يتسبب عنهما، ثم توعد الكاسبين للإثم بالجزاء بسبب افترائهم على الله سبحانه. وقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنا نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله فأنزل الله: "فكلوا مما ذكر اسم الله عليه" إلى قوله: "وإن أطعتموهم إنكم لمشركون". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير "فكلوا مما ذكر اسم الله عليه" فإنه حلال "إن كنتم بآياته" يعني القرآن "مؤمنين" قال: مصدقين: " وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه " يعني الذبائح "وقد فصل لكم ما حرم عليكم" يعني ما حرم عليكم من الميتة "وإن كثيراً" يعني من مشركي العرب "ليضلون بأهوائهم بغير علم" يعني في أمر الذبائح. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "إلا ما اضطررتم إليه" أي من الميتة والدم ولحم الخنزير. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "وذروا ظاهر الإثم" قال: هو نكاح الأمهات والبنات "وباطنه" قال: هو الزنا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: الظاهر منه "لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" و "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم" الآية، والباطن: الزنا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: علانيته وسره.
نهى الله سبحانه عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بعد أن أمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه. وفيه دليل على تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه. وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فذهب ابن عمر ونافع مولاه والشعبي وابن سيرين وهو رواية عن مالك وأحمد بن حنبل، وبه قال أبو ثور وداود الظاهري: أن ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح حرام من غير فرق بين العامد والناسي لهذه الآية، ولقوله تعالى في آية الصيد: "فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه" ويزيد هذا الاستدلال تأكيداً قوله سبحانه في هذه الآية 121- "وإنه لفسق". وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الأمر بالتسمية في الصيد وغيره. وذهب الشافعي وأصحابه وهو رواية عن مالك ورواية عن أحمد أن التسمية مستحبة لا واجبة، وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء بن أبي رباح، وحمل الشافعي الآية على من ذبح لغير الله وهو تخصيص للآية بغير مخصص. وقد روى أبو داود في المرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكر". وليس في هذا المرسل ما يصلح لتخصيص الآية، نعم حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن قوماً يأتوننا بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقالوا: سموا أنتم وكلوا" يفيد أن التسمية عند الأكل تجزئ مع التباس وقوعها عند الذبح. وذهب مالك وأحمد في المشهور عنهما وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق بن راهويه أن التسمية إن تركت نسياناً لم تضر، وإن تركت عمداً لم يحل أكل الذبيحة. وهو مروي عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس والحسن البصري وأبي مالك وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد وربيعة بن أبي عبد الرحمن، واستدلوا بما أخرجه البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكله" وهذا الحديث رفعه خطأ، وإنما هو من قول ابن عباس. وكذا أخرجه من قوله: عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر، نعم يمكن الاستدلال لهذا المذهب بمثل قوله تعالى: "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" كما سبق تقريره، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" وأما حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن عدي "أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اسم الله على كل مسلم" فهو حديث ضعيف قد ضعفه البيهقي وغيره. قوله: "وإنه لفسق" الضمير يرجع إلى "ما" بتقدير مضاف: أي وإن أكل ما لم يذكر لفسق، ويجوز أن يرجع إلى مصدر تأكلوا: أي فإن الأكل لفسق. وقد تقدم تحقيق الفسق. وقد استدل من حمل هذه الآية على ما ذبح لغير الله بقوله: "وإنه لفسق" ووجه الاستدلال أن الترك لا يكون فسقاً، بل الفسق الذبح لغير الله. ويجاب عنه بأن إطلاق اسم الفسق على تارك ما فرضه الله عليه غير ممتنع شرعاً "وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم" أي يوسوسون لهم بالوساوس المخالفة للحق المباينة للصواب قاصدين بذلك أن يجادلكم هؤلاء الأولياء بما يوسوسون لهم "وإن أطعتموهم" فيما يأمرونكم به وينهونكم عنه "إنكم لمشركون" مثلهم. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: المشركون، وفي لفظ: قال اليهود: لا تأكلوا مما قتل الله وتأكلوا مما قتلتم أنتم، فأنزل الله: "ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه". وأخرج ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عنه قال: لما نزلت: "ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه" أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمداً، فقالوا له: ما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال، وما ذبح الله بشمشار من ذهب يعني الميتة فهو حرام، فنزلت: "وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم" قال: الشياطين من فارس وأولياؤهم من قريش. وقد روي نحو ما تقدم في حديث ابن عباس الأول من غير طريق. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عنه أيضاً في قوله: "وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم" قال: إبليس أوحى إلى مشركي قريش. وأخرج أبو داود وابن مردويه والبيهقي في سننه عنه أيضاً في قوله: "ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق" فنسخ، واستثني من ذلك فقال: "وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم". وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: كلوا ذبائح المسلمين وأهل الكتاب مما ذكر اسم الله عليه. وروى ابن أبي حاتم عن مكحول نحو قول ابن عباس في النسخ.
قوله: 122- "أو من كان ميتاً فأحييناه". قرأ الجمهور بفتح الواو بعد همزة الاستفهام. وقرأ نافع وابن أبي نعيم بإسكانها، قال النحاس: يجوز أن يكون محمولاً على المعنى: أي انظروا وتدبروا "أفغير الله أبتغي حكماً" "أو من كان ميتاً فأحييناه" والمراد بالميت هنا الكافر أحياه الله بالإسلام، وقيل معناه: كان ميتاً حين كان نطفة فأحييناه بنفخ الروح فيه. والأول أولى، لأن السياق يشعر بذلك لكونه في تنفير المسلمين عن اتباع المشركين، وكثيراً ما تستعار الحياة للهداية والعلم، ومنه قول القائل: وفي الجهل قبل الموت موت لأهله فأجسامهم قبل القبور قبور وإن امرأ لم يحي بالعـــــلم ميــت فليس له حتى النشور نشور والنور عبارة عن الهداية والإيمان، وقيل: هو القرآن، وقيل: الحكمة، وقيل: هو النور المذكور في قوله تعالى: "يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم" والضمير في به راجع إلى النور "كمن مثله في الظلمات" أي كمن صفته في الظلمات، ومثله مبتدأ والظلمات خبره، والجملة صفة لمن، وقيل: مثل زائدة، والمعنى: كمن في الظلمات كما تقول: أنا أكرم من مثلك: أي منك، ومثله "فجزاء مثل ما قتل من النعم" "ليس كمثله شيء". وقيل المعنى: كمن مثله مثل من هو في الظلمات، و "ليس بخارج منها" في محل نصب على الحال: أي حال كونه ليس بخارج منها بحال من الأحوال.
قوله: 123- "وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها" أي مثل ذلك الجعل جعلنا في كل قرية، والأكابر جمع أكبر، قيل: هم الرؤساء والعظماء، وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد، والمكر: الحيلة في مخالفة الاستقامة، وأصله القتل، فالماكر يفتل عن الاستقامة: أي يصرف عنها "وما يمكرون إلا بأنفسهم" أي وبال مكرهم عائد عليهم "وما يشعرون" بذلك لفرط جهلهم.
124- "وإذا جاءتهم آية" من الآيات "قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله" يريدون أنهم لا يؤمنون حتى يكونوا أنبياء، وهذا نوع عجيب من جهالاتهم الغريبة وعجرفتهم العجيبة، ونظيره "يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة". والمعنى: إذا جاءت الأكابر آية قالوا هذه المقالة، فأجاب الله عنهم بقوله: " الله أعلم حيث يجعل رسالته " أي إن الله أعلم بمن يستحق أن يجعله رسولاً ويكون موضعاً لها وأميناً عليها، وقد اختار أن يجعل الرسالة في محمد صفيه وحبيبه، فدعوا طلب ما ليس من شأنكم، توعدهم بقوله: "سيصيب الذين أجرموا صغار" أي ذل وهوان، وأصله من الصغر كأن الذل يصغر إلى المرء نفسه، وقيل: الصغار هو الرضا بالذل، روي ذلك عن ابن السكيت. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس "أو من كان ميتاً فأحييناه" قال: كان كافراً ضالاً فهديناه "وجعلنا له نوراً" هو القرآن "كمن مثله في الظلمات" الكفر والضلالة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال: نزلت في عمار بن ياسر. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس" يعني عمر بن الخطاب "كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها" يعني أبا جهل بن هشام. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم في الآية قال: نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل بن هشام كانا ميتين في ضلالتهما فأحيا الله عمر بالإسلام وأعزه، وأقر أبا جهل في ضلالته وموته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فقال: "اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب". وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن كرمة في قوله: "وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها" قال: نزلت في المستهزئين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد قال: "أكابر مجرميها" عظماءها. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: "وإذا جاءتهم آية" الآية. قال: قالوا لمحمد حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه من الحق: لو كان هذا حقاً لكان فينا من هو أحق أن يؤتى به من محمد "وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "سيصيب الذين أجرموا" قال: أشركوا "صغار" قال: هوان.