سورة الأنعام | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الطبري تفسير الصفحة 143 من المصحف
تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 143
144
142
الآية : 119
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُواْ مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصّلَ لَكُمْ مّا حَرّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنّ كَثِيراً لّيُضِلّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ }.
اختلف أهل العلم بكلام العرب في تأويل قوله: وَما لَكُمْ أنْ لا تَأْكُلُوا فقال بعض نحويي البصريين: معنى ذلك: وأيّ شيء لكم في أن لا تأكلوا, قال: وذلك نظير قوله: وَما لَنا أنْ لا نُقاتِلَ يقول: أيّ شيء لنا في ترك القتال؟ قال: ولو كانت لا زائدة لا يقع الفعل, ولو كانت في معنى: وما لنا وكذا, لكانت: وما لنا وأن لا نقاتل. وقال غيره: إنما دخلت لا للمنع, لأن تأويل «ما لك», و«ما منعك» واحد, ما منعك لا تفعل ذلك, وما لك لا تفعل واحد, فلذلك دخلت «لا». قال: وهذا الموضع تكون فيه «لا» وتكون فيه «أن» مثل قوله: يُبَيّنَ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا و«أن لا تضلوا»: يمنعكم من الضلال بالبيان.
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي قول من قال: معنى قوله: وَما لَكُمْ في هذا الموضع: وأيّ شيء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه, وذلك أن الله تعالى ذكره تقدّم إلى المؤمنين بتحليل ما ذكر اسم الله عليه وإباحة أكل ما ذبح بدينه أو دين من كان يدين ببعض شرائع كتبه المعروفة, وتحريم ما أهلّ به لغيره من الحيوان, وزجرهم عن الإصغاء لما يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض من زخرف القول في الميتة, والمنخنقة, والمتردية, وسائر ما حرّم الله من المطاعم. ثم قال: وما يمنعكم من أكل ما ذبح بديني الذي ارتضيته, وقد فصلت لكم الحلال من الحرام فيما تَطعمون, وبينته لكم بقوله: حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ المَيْتَةُ وَالدّمُ وَلحْمُ الخِنْزِيرِ وَما أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ... إلى قوله: فَمَنِ اضْطُرّ فِي مَخُمَصَةٍ غيرَ مُتَجانِفٍ لإِثْمٍ فلا لبس عليكم في حرام ذلك من حلاله, فتمتنعوا من أكل حلاله حذرا من مواقعة حرامه. فإذ كان ذلك معناه فلا وجه لقول متأوّلي ذلك: وأيّ شيء لكم في أن لا تأكلوا لأن ذلك إنما يقال كذلك لمن كان كفّ عن أكله رجاء ثواب بالكفّ عن أكله, وذلك يكون ممن آمن بالكفّ فكفّ اتباعا لأمر الله وتسليما لحكمه, ولا نعلم أحدا من سلف هذه الأمة كفّ عن أكل ما أحل الله من الذبائح رجاء ثواب الله على تركه ذلك, واعتقادا منه أن الله حرّمه عليه. فبَيّنٌ بذلك إذ كان الأمر كما وصفنا أن أولى التأويلين في ذلك بالصواب ما قلنا.
وقد بينا فيما مضى قبل أن معنى قوله: «فصّل», و«فصلنا» و«فُصّل»: بيّن, أو بُيّن, بما يغني عن إعادته في هذا الموضع. كما:
10806ـ حدثني محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَقَدْ فَصّلَ لَكُمْ ما حَرّمَ عَلَيْكُمْ يقول: قد بَيّن لكم ما حرّم عليكم.
10807ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, عن ابن زيد, مثله.
واختلفت القرّاء في قول الله جلّ ثناؤه: وَقَدْ فَصّلَ لَكُمْ ما حَرّمَ عَلَيْكُمْ فقرأه بعضهم بفتح أول الحرفين من «فصّل» و«حَرّم»: أي فصّل ما حرّمه من مطاعمكم, فبينه لكم. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: وَقَدْ فَصّل بفتح فاء فصّل وتشديد صاده, «ما حُرّم» بضم حائه وتشديد رائه, بمعنى: وقد فصّل الله لكم المحرّم عليكم من مطاعمكم. وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين: «وَقَدْ فُصّلَ لَكُمْ» بضمّ فائه وتشديد صاده «ما حُرّمَ عَلَيْكُمْ» بضمّ حائه وتشديد رائه, على وجه ما لم يسمّ فاعله في الحرفين كليهما. ورُوِي عن عطية العوفي أنه كان يقرأ ذلك: «وَقَدْ فَصَلَ» بتخفيف الصاد وفتح الفاء, بمعنى: وقد أتاكم حكم الله فيما حرّم عليكم.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن كلّ هذه القراءات الثلاث التي ذكرناها سوى القراءة التي ذكرنا عن عطية قراءات معروفة مستفيضة القراءة بها في قرّاء الأمصار, وهن متفقات المعاني غير مختلفات, فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب فيه الصواب.
وأما قوله: إلاّ ما اضْطُرِرِتُمْ إلَيْهِ فإنه يعني تعالى ذكره: أن ما اضطررنا إليه من المطاعم المحرّمة التي بيّن تحريمها لنا في غير حال الضرورة لنا حلال ما كنا إليه مضطّرين, حتى تزول الضرورة. كما:
10808ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: إلاّ ما اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ من الميتة.
القول في تأويل قوله تعالى: وَإنّ كَثِيرا لَيُضِلّونَ بأهْوَائِهمْ بغيرِ عِلْمٍ إنّ رَبّكَ هُوَ أعْلَمُ بالمُعْتَدِينَ.
يقول تعالى ذكره: وإنّ كَثِيرا من الناس الذين يجادلونكم في أكل ما حرّم الله عليكم أيها المؤمنون بالله من الميتة لَيُضِلّونَ أتباعهم بأهْوَائِهِمْ بغير عِلْم منهم بصحة ما يقولون, ولا برهان عندهم بما فيه يجادلون, إلا ركوبا منهم لأهوائهم, واتباعا منهم لدواعي نفوسهم, اعتداءً وخلافا لأمر الله ونهيه, وطاعة للشياطين. إنّ رَبّكَ هُوَ أعْلَمُ بالمُعْتَدِينَ يقول: إن ربك يا محمد الذي أحلّ لك ما أحلّ وحرّم عليك ما حرّم, هو أعلم بمن اعتدى حدوده فتجاوزها إلى خلافها, وهو لهم بالمرصاد.
واختلفت القرّاء فِي قراءة قوله: لَيُضِلّونَ فقرأته عامة أهل الكوفة: لَيُضِلّونَ بمعنى: أنهم يضلون غيرهم. وقرأ ذلك بعض البصريين والحجازيين: «لَيَضِلّونَ» بمعنى: أنهم هم الذين يضلون عن الحقّ فيجورون عنه.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك, قراءة من قرأ: وإنّ كَثِيرا لَيُضِلّونَ بأهْوَائِهِمْ بمعنى: أنهم يضلون غيرهم وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم عن إضلالهم من تبعهم ونهاه عن طاعتهم واتباعهم إلى ما يدعونه إليه, فقال: وَإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ثم أخبر أصحابه عنهم بمثل الذي أخبره عنهم, ونهاهم من قبول قولهم عن مثل الذي نهاه عنه, فقال لهم: وَإنّ كَثِيرا منهم لَيُضِلّونَكم بأهْوَائِهمْ بغيرِ عِلْمِ نظير الذي قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ.
الآية : 120
القول في تأويل قوله تعالى: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنّ الّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ودعوا أيها الناس علانية الإثم وذلك ظاهره, وسرّه وذلك باطنه. كذلك:
10809ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ أي قليله وكثيره وسرّه وعلانيته.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ قال: سرّه وعلانيته.
10810ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس, في قوله: وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ يقول: سره وعلانتيه, وقوله: ما ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قال: سرّه وعلانيته.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثمِ وَباطَنهُ قال: نهى الله عن ظاهر الإثم وباطنه أن يُعمل به سرّا, أو علانية, وذلك ظاهره وباطنه.
10811ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ معصية الله في السرّ والعلانية.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ قال: هو ما ينوي مما هو عامل.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالظاهر من الإثم والباطن منه في هذا الموضع, فقال بعضهم: الظاهر منه: ما حرّم جلّ ثناؤه بقوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ, قوله: حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهاتُكُمْ... الاَية, والباطن منه الزنا. ذكر من قال ذلك:
10812ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج, قال: حدثنا حماد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, في قوله: وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ قال: الظاهر منه: لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ والأمهات, والبنات والأخوات. والباطن: الزنا.
وقال آخرون: الظاهر: أولات الرايات من الزواني. والباطن: ذوات الأخدان. ذكر من قال ذلك:
10813ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ أما ظاهره: فالزواني في الحوانيت. وأما باطنه: فالصديقة يتخذها الرجل فيأتيها سرّا.
10814ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: ثني عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَلا تَقْرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْهَا وَما بَطَنَ كان أهل الجاهلية يستسّرون بالزنا, ويرون ذلك حلالاً ما كان سرّا, فحرّم الله السرّ منه والعلانية. ما ظهر مها: يعني العلانية, وما بطن: يعني السرّ.
10815ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن أبي مكين وأبيه, عن خصيف, عن مجاهد: لا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قال: ما ظهر منها: الجمع بين الأختين, وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده. وما بطن: الزنا.
وقال آخرون: الظاهر: التعرّي والتجرّد من الثياب وما يستر العورة في الطواف. والباطن: الزنا. ذكر من قال ذلك:
10816ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قال: ظاهره العُريْةُ التي كانوا يعملون بها حين يطوفون بالبيت. وباطنه: الزنا.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره تقدّم إلى خلقه بترك ظاهر الإثم وباطنه وذلك سرّه وعلانيته, والإثم: كلّ ما عصى الله به من محارمه, وقد يدخل في ذلك سرّ الزنا وعلانيته, ومعاهرة أهل الرايات وأولات الأخدان منهنّ, ونكاح حلائل الاَباء والأمهات والبنات, والطواف بالبيت عريانا, وكلّ معصية لله ظهرت أو بطنت. وإذ كان ذلك كذلك, وكان جميع ذلك إثما, وكان الله عمّ بقوله: وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ جميع ما ظهر من الإثم وجميع ما بطن, لم يكن لأحد أن يخصّ من ذلك شيئا دون شيء إلا بحجة للعذر قاطعة. غير أنه لو جاز أن يوجه ذلك إلى الخصوص بغير برهان, كان توجيهه إلى أنه عني بظاهر الإثم وباطنه في هذا الموضع: ما حرّم الله من المطاعم والمآكل من الميتة والدم, وما بين الله تحريمه في قوله: حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ المَيْتَةُ... إلى آخر الاَية, أوْلى, إذ كان ابتداء الاَيات قبلها بذكر تحريم ذلك جرى وهذه في سياقها, ولكنه غير مستنكر أن يكون عنى بها ذلك, وأدخل فيها الأمر باجتناب كلّ ما جانسه من معاصي الله, فخرج الأمر عامّا بالنهي عن كلّ ما ظهر أو بطن من الإثم.
القول في تأويل قوله تعالى: إنّ الّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثمَ سَيُجزّوْنَ بِمَا كانُوا يَقْتَرِفُونَ.
يقول تعالى ذكره: إن الذين يعملون بما نهاهم الله عنه ويركبون معاصي الله ويأتون ما حرّم الله, سَيُجْزَوْنَ يقول: سيثيبهم الله يوم القيامة بما كانوا في الدنيا يعملون من معاصيه.
الآية : 121
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنّهُ لَفِسْقٌ وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىَ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ: لا تأكلوا أيها المؤمنون مما مات فلم تذبحوه أنتم أو يذبحه موحد يدين لله بشرائع شرعها له في كتاب منزّل فإنه حرام عليكم, ولا ما أهلّ به لغير الله مما ذبحه المشركون لأوثانهم, فإن أكْلَ ذلك فسق, يعني: معصية كفر. فكنى بقوله: «وإنه» عن «الأكل», وإنما ذكر الفعل, كما قال: الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمانا يراد به: فزاد قولهم ذلك إيمانا, فكنى عن القول, وإنما جرى ذكره بفعل. وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائهِمْ: اختلف أهل التأويل في المعنّي بقوله: وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْليائهمْ فقال بعضهم: عنى بذلك: شياطين فارس ومن على دينهم من المجوس إلى أوْلِيَائِهِمْ من مَرَدِةِ مشركي قريش, يوحون إليهم زخرف القول بجدال نبيّ الله وأصحابه في أكل الميتة. ذكر من قال ذلك:
10817ـ حدثني عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري, قال: حدثنا موسى بن عبد العزيز القنباري, قال: حدثنا الحكم بن أبان, عن عكرمة, لما نزلت هذه الاَية بتحريم الميتة, قال: أوحت فارس إلى أوليائها من قريش أن خاصِموا محمدا وكانت أولياءهم في الجاهلية وقولوا له: إن ما ذبحت فهو حلال, وما ذبح الله قال ابن عباس: بشمشار من ذهب فهو حرام, فأنزل الله هذه الاَية: وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ قال: الشياطين: فارس, وأولياؤهم: قريش.
10818ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال عمرو بن دينار, عن عكرمة: أن مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم, وكاتبتهم فارس, وكتبت فارس إلى مشركي قريش أن محمدا وأصحابه يزعمون أنه يتبعون أمر الله, فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه للميتة وأما ما ذبحوا هم يأكلون. وكتب بذلك المشركون إلى أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام, فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء, فنزلت: وَإنّهُ لَفِسْقٌ وَإنّ الشّياطِينَ ليَوُحُونَ... الاَية, ونزلت: يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا.
وقال آخرون: إنما عني بالشياطين الذين يغرون بني آدم أنهم أوحوا إلى أوليائهم من قريش. ذكر من قال ذلك:
10819ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن سماك, عن عكرمة, قال: كان مما أوحى الشياطين إلى أوليائهم من الإنس: كيف تعبدون شيئا لا تأكلون مما قتل, وتأكلون أنتم ما قتلتم؟ فرُوي الحديث حتى بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم, فنزلت: وَلا تأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ.
10820ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس, قوله: وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائهِمْ قال: إبليس الذي يوحي إلى مشركي قريش. قال ابن جريج عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس, قال: شياطين الجنّ يوحون إلى شياطين الإنس, يوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم. قال ابن جريج, عن عبد الله بن كثير, قال: سمعت أن الشياطين يوحون إلى أهل الشرك يأمرونهم أن يقولوا: ما الذي يموت وما الذي تذبحون إلا سواء يأمرونهم أن يخاصموا بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم, وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنّكُمْ لَمُشْرِكُونَ قال: قول المشركين: أما ما ذبح الله للميتة فلا تأكلون, وأما ما ذبحتم بأيديكم فحلال.
10821ـ حدثنا محمد بن عمار الرازي, قال: حدثنا سعيد بن سليمان, قال: حدثنا شريك, عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس أن المشركين قالوا للمسلمين: ما قتل ربكم فلا تأكلون, وما قتلتم أنتم تأكلونه فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قال: لما حرّم الله الميتة أمر الشيطانُ أولياءه, فقال لهم: ما قتل الله لكم خير مما تذبحون أنتم بسكاكينكم, فقال الله: وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ.
حدثنا يحيى بن داود الواسطي, قال: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق, عن سفيان, عن هارون بن عنترة, عن أبيه, عن ابن عباس, قال: جادل المشركون المسلمين, فقالوا: ما بال ما قتل الله لا تأكلونه وما قتلتم أنتم أكلتموه, وأنتم تتبعون أمر الله فأنزل الله: وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّهُ لَفِسْقٌ... إلى آخر الاَية.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عبد الله, عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس, في قوله: وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه, وما ذبحتم أنتم فكلوه فأنزل الله: وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ.
10822ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد, عن عكرمة: أن ناسا من المشركين دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال: «اللّهُ قَتَلَها». قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنتَ وأصحابُك حلال, وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله: وَلا تأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ.
10823ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, عن الحضرميّ: أن ناسا من المشركين, قالوا: أما ما قتل الصقر والكلب فتأكلونه, وأما ما قتل الله فلا تأكلونه.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ بآياته مؤمِنِينَ قال: قالوا: يا محمد, أما ما قتلتم وذبحم فتأكلونه, وأما ما قتل ربكم فتحرّمونه فأنزل الله: وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّهُ لَفِسْقٌ وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنّكُمْ لَمُشْركُونَ وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه, إنكم إذن لمشركون.
10824ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك, قال: قال المشركون: ما قتلتم فتأكلونه, وما قتل ربكم لا تأكلونه فنزلت: وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ.
10825ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنّكُمْ لَمُشْركُونَ قول المشركين: أما ما ذَبَحَ الله للميتة فلا تأكلون منه, وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
10826ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ قال: جادلهم المشركون في الذبيحة, فقالوا: أما ما قتلتم بأيديكم فتأكلونه, وأما ما قتل الله فلا تأكلونه يعنون: الميتة. فكانت هذه مجادلتهم إياهم.
10827ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلا تَأْكُلُوا ممّا لَمْ يُذكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّه لَفِسْقٌ... الاَية, يعني: عدوّ الله إبليس, أوحى إلى أوليائه من أهل الضلالة, فقال لهم: خاصموا أصحاب محمد في الميتة, فقولوا: أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون, وأما ما قتل الله فلا تأكلون, وأنتم تزعمون أنكم تتبعون أمر الله فأنزل الله على نبيه: وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنّكُمْ لَمُشْركُونَ وإنا والله ما نعلمه كان شرك قط إلا بإحدى ثلاث: أن يدعو مع الله إلها آخر, أو يُسجد لغير الله, أو يُسمى الذبائحَ لغير الله.
10828ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: وَلا تَأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إن المشركين قالوا للمسلمين: كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله, وما ذبح الله فلا تأكلونه, وما ذبحتم أنتم أكتلموه؟ فقال الله: لَئِنْ أطَعْتُمُوهُمْ فأكلتم الميتة إنّكُمْ لَمُشْركُونَ.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس, في قوله: وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ قال: كانوا يقولون: ما ذُكِرَ الله عليه وما ذبحتم فكلوا فنزلت: وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّهُ لَفِسْقٌ وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: وَلا تَأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ... إلى قوله: لِيُجادِلُوكُمْ قال: يقول: يوحي الشياطين إلى أوليائهم: تأكلون ما قتلتم, ولا تأكلون مما قتل الله؟ فقال: إن الذي قتلتم يذكر اسم الله عليه, وإن الذي مات لم يذكر اسم عليه.
10829ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك, في قوله: وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ هذا في شأن الذبيحة, قال: قال المشركون للمسلمين: تزعمون أن الله حرّم عليكم الميتة, وأحلّ لكم ما تذبحون أنتم بأيديكم, وحرّم عليكم ما ذبح هو لكم وكيف هذا وأنتم تعبدونه؟ فأنزل الله هذه الاَية: وَلا تأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ... إلى قوله: المُشْرِكُونَ.
وقال آخرون: كان الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قوما من اليهود. ذكر من قال ذلك:
10830ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى وسفيان بن وكيع, قالا: حدثنا عمران بن عيينة, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال ابن عبد الأعلى: خاصمت اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال ابن وكيع: جاءت اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: نأكل ما قتلنا, ولا نأكل ما قتل الله فأنزل الله: وَلا تأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّهُ لَفِسْقٌ.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب, أن يقال: إن الله أخبر أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم ليجادلوا المؤمنين في تحريمهم أكل الميتة بما ذكرنا من جدالهم إياهم. وجائز أن يكون الموحون كانوا شياطين الإنس يوحون إلى أوليائهم منهم, وجائز أن يكونوا شياطين الجن أوحوا إلى أوليائهم من الإنس, وجائز أن يكون الجنسان كلاهما تعاونا على ذلك, كما أخبر الله عنهما في الاَية الأخرى التي يقول فيها: وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنّ, يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا, بل ذلك الأغلب من تأويله عندي, لأن الله أخبر نبيه أنه جعل له أعداء من شياطين الجنّ والإنس, كما جعل لأنبيائه مِن قبله يوحي بعضهم إلى بعض المزيّنَ من الأقوال الباطلة, ثم أعلمه أن أولئك الشياطين يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوه ومن تبعه من المؤمنين فيما حرّم الله من الميتة عليهم.
واختلف أهل التأويل في الذي عني الله جل ثناؤه بنهيه عن أكله مما لم يذكر اسم الله عليه, فقال بعضهم: هو ذبائح كانت العرب تذبحها لاَلهتها. ذكر من قال ذلك:
10831ـ حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار, قالا: حدثنا أبو عاصم, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: قلت لعطاء: ما قوله: فَكُلُوا مِمّا ذُكر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ؟ قال: يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح. قلت لعطاء: فما قوله: وَلا تَأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ؟ قال: ينهي عن ذبائح كانت في الجاهلية على الأوثان كانت تذبحها العرب وقريش.
وقال آخرون: هي الميتة. ذكر من قال ذلك:
10832ـ حدثنا ابن حميد وابن وكيع, قالا: حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: وَلا تَأكُلُوا مِمّا لِمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهُ عَلَيْهِ قال: الميتة.
وقال آخرون: بل عنى بذلك كلّ ذبيحة لم يذكر اسم الله عليها. ذكر من قال ذلك:
10833ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن حميد بن يزيد, قال: سئل الحسن, سأله رجل قال له: أتيت بطير كذا, فمنه ما ذبح, فذكر اسم الله عليه, ومنه ما نسيب أن يذكر اسم الله عليه واختلط الطير؟ فقال الحسن: كلْه كلّه قال: وسألت محمد بن سيرين, فقال: قال الله: وَلا تَأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ.
10834ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج, قال: حدثنا حماد, عن أيوب وهشام, عن محمد بن سيرين, عن عبد الله يزيد الخطميّ, قال: كلوا من ذبائح أهل الكتاب والمسلمين, ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه.
10835ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن أشعث, عن ابن سيرين, عن عبد الله بن يزيد, قال: كنت أجلس إليه في حلقة, فكان يجلس فيها ناس من الأنصار هو رأسهم, فإذا جاء سائل فإنما يسأله ويسكتون. قال: فجاءه رجل فسأله, فقال: رجل ذبح فنسي أن يسمي؟ فتلا هذه الاَية: وَلا تَأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ حتى فرغ منها.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عني بذلك: ما ذبح للأصنام والاَلهة, وما مات أو ذبحه من لا تحلّ ذبيحته. وأما من قال: عنى بذلك ما ذبحه المسلم فنسي ذكر اسم الله, فقول بعيد من الصواب لشذوذه, وخروجه عما عليه الحجة مجمعة من تحليله, وكفى بذلك شاهدا على فساده. وقد بيّنا فساده من جهة القياس في كتابنا المسمى «لطيف القول في أحكام شرائع الدين» فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله لَفِسقٌ فإنه يعني: وإنّ أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة وما أهلّ به لغير الله لفسق.
واختلف أهل التأويل في معنى الفسق في هذا الموضع, فقال بعضهم: معناه: المعصية. فتأويل الكلام على هذا: وإنّ أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لمعصية لله وإثم. ذكر من قال ذلك:
10836ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَإنّهُ لَفِسْقٌ قال: الفسق: المعصية.
وقال آخرون: معنى ذلك: الكفر.
وأما قوله: وَإنّ الشيّاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ فقد ذكرنا اختلاف المختلفين في المعنيّ بقوله: وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ. والصواب من القول فيه. وأما إيحاؤهم إلى أوليائهم, فهو إشارتهم إلى ما أشاروا لهم إليه, إما بقول, وإما برسالة, وإما بكتاب. وقد بيّنا معنى الوحي فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد:
10837ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا عكرمة, عن أبي زميل, عن أبي زميل, قال: كنت قاعدا عند ابن عباس, فجاءه رجل من أصحابه, فقال: يا أبا عباس, زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة يعني المختار بن أبي عبيد فقال ابن عباس: صدق فنفرت فقلت: يقول ابن عباس صدق؟ فقال ابن عباس: هما وحيان: وحي الله, ووحي الشيطان فوحي الله إلى محمد, ووحي الشياطين إلى أوليائهم. ثم قال: وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائهِمْ.
وأما الأولياء: فهم النصراء والظهراء في هذا الموضع.
ويعني بقوله: لِيُجادِلُوكُمْ ليخاصموكم, بالمعني الذي قد ذكرت قبل.
وأما قوله: وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنّكُمْ لَمُشْرِكُونَ فإنه يعني: وإن أطعتموهم في أكل الميتة وما حرم عليكم ربكم كما:
10838ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ يقول: وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه.
10839ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ فأكلتم الميتة.
وأما قوله: إنّكُمْ لَمُشْركُونَ يعني: إنكم إذا مثلهم, إذ كان هؤلاء يأكلون الميتة استحلالاً, فإذا أنتم أكلتموها كذلك فقد صرتم مثلهم مشركين.
واختلف أهل العلم في هذه الاَية: هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء وهي محكمة فيما عُنيت به, وعلى هذا قول عامة أهل العلم. ورُوى عن الحسن البصري وعكرمة, ما:
10840ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين بن واقد, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصريّ قالا: قال: فَكُلُوا ممّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ بآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّهُ لَفِسْقٌ فنسخ واستثنى من ذلك, فقال: وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلّ لَهُمْ.
والصواب من القول في ذلك عندنا, أن هذه الاَية محكمة فيما أنزلت لم ينسخ منها شيء, وأن طعام أهل الكتاب حلال وذبائحهم ذكية. وذلك مما حرّم الله على المؤمنين أكله بقوله: وَلا تأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ بمعزل, لأن الله إنما حرّم علينا بهذه الاَية الميتة وما أهلّ به للطواغيت, وذبائح أهل الكتاب ذكية سَمّوْا عليها أو لم يسموا لأنهم أهل توحيد وأصحاب كتب لله يدينون بأحكامها, يذبحون الذبائح بأديانهم كما ذبح المسلم بدينه, سمى الله على ذبيحته أو لم يسمه, إلا أن يكون ترك من ذكر تسمية الله على ذبيحته على الدينونة بالتعطيل, أو بعبادة شيء سوى الله, فيحرم حينئذٍ أكل ذبيحته سمى الله عليها أو لم يسمّ.
الآية : 122
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
وهذا الكلام من الله جلّ ثناؤه يدلّ على نهيه المؤمنين برسوله يومئذٍ عن طاعة بعض المشركين الذين جادلوهم في أكل الميتة بما ذكرنا عنهم من جدالهم إياهم به, وأمره إياهم بطاعة مؤمن منهم كان كافرا, فهداه جلّ ثناؤه لرشده ووفّقه للإيمان, فقال لهم: إطاعة من كان ميتا, يقول: من كان كافرا. فجعله جلّ ثناؤه لانصرافه عن طاعته وجهله بتوحيده وشرائع دينه وتركه الأخذ بنصيبه من العمل لله بما يؤديه إلى نجاته, بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة ولا يدفع عنها من مكروه نازلة فأحْيَيْنَاهُ يقول: فهديناه للإسلام, فأنعشناه, فصار يعرف مضارّ نفسه ومنافعها, ويعمل في خلاصها من سخط الله وعقابه في معاده, فجعل إبصاره الحقّ تعالى ذكره بعد عماه عنه ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك حياة وضياء يستضيء به, فيمشي على قصد السبيل ومنهج الطريق في الناس. كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظّلُماتِ لا يدري كيف يتوجه وأيّ طريق يأخذ لشدّة ظلمة الليل وإضلاله الطريق, فكذلك هذا الكافر الضالّ في ظلمات الكفر لا يبصر رشدا ولا يعرف حقّا, يعني في ظلمات الكفر. يقول: أفطاعة هذا الذي هديناه للحقّ وبصرناه الرشاد كطاعة من مثله مثل من هو في الظلمات متردّد لا يعرف المخرج منها في دعاء هذا إلى تحريم ما حرّم الله وتحليل ما أحلّ وتحليل هذا ما حرّم الله وتحريمه ما أحلّ؟.
وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت في رجلين بأعيانهما معروفين, أحدهما مؤمن, والاَخر كافر.
ثم اختلف أهل التأويل فيهما, فقال بعضهم: أما الذي كان ميتا فأيحاه الله فعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها: فأبو جهل بن هشام. ذكر من قال ذلك:
10841ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: أخبرنا سليمان بن أبي هوذة, عن شعيب السراج, عن أبي سنان عن الضحاك, في قوله: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه. كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظّلُماتِ قال: أبو جهل بن هشام.
وقال آخرون: بل الميت الذي أحياه الله عمار بن ياسر رضي الله عنه وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها: فأبو جهل بن هشام. ذكر من قال ذلك:
10842ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن بشر بن تيم, عن رجل, عن عكرمة: أوْ مَنْ كانَ مَيْتا فَأحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي الناسِ قال: نزلت في عمار بن ياسر.
10843ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن بشر, عن تيم, عن عكرمة: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ عمار بن ياسر. كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ أبو جهل بن هشام.
وبنحو الذي قلنا في الاَية قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10844ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ قال: ضالاّ فهديناه, وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي للنّاسِ قال: هدى, كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها قال: في الضلالة أبدا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فَأحْيَيْناهُ هديناه, وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ في الضلالة أبدا.
10845ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ قال: ضالاّ فهديناه.
10846ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ يعني: من كان كافرا فهديناه, وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ يعني بالنور: القرآن من صدّق به وعمل به, كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ يعني بالظلمات: الكفر والضلالة.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ يقول: الهدى يمشي به في الناس, يقول: فهو الكافر يهديه الله للإسلام, يقول: كان مشركا فهديناه, كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها.
10847ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ هذا المؤمن معه من الله نور وبينة يعمل بها ويأخذ وإليها ينتهي, كتاب الله. كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ لَيْسَ بِخارجٍ مِنْها وهذا مثل الكافر في الضلالة متحير فيها متسكع, لا يجد مخرجا ولا منفذا.
10848ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط عن السديّ: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ يقول: من كان كافرا فجعلناه مسلما وجلعنا له نورا يمشي به في الناس وهو الإسلام, يقول: هذا كمن هو في الظلمات, يعني الشرك.
10849ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ قال: الإسلام الذي هداه الله إليه. كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ ليس من أهل الإسلام. وقرأ: اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظلُماتِ إلى النّورِ قال: والنور يستضيء به ما في بيته ويبصره, وكذلك الذي آتاه الله هذا النور يستضيء به في دينه ويعمل به في نوره كما يستضيء صاحب هذا السراج. قال: كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظّلُماتِ لا يدري ما يأتي ولا ما يقع عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: كَذَلِكَ زُينَ للكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
يقول تعالى ذكره: كما خذلت هذا الكافر الذي يجادلكم أيها المؤمنون بالله ورسوله في أكل ما حرّمت عليكم من المطاعم عن الحقّ, فزينت له سوء عمله, فرآه حسنا ليستحقّ به ما أعددت له من أليم العقاب, كذلك زينت لغيره ممن كان على مثل ما هو عليه من الكفر بالله وآياته ما كانوا يعملون من معاصي الله, ليستوجبوا بذلك من فعلهم ما لهم عند ربهم من النكال.
وفي هذا أوضح البيان على تكذيب الله الزاعمين أن الله فوّض الأمور إلى خلقه في أعمالهم فلا صنع له في أفعالهم, وأنه قد سوّى بين جميعهم في الأسباب التي بها يصلون إلى الطاعة والمعصية لأن ذلك لو كان كما قالوا, لكان قد زين لأنبيائه وأوليائه من الضلالة والكفر نظير ما زين من ذلك لأعدائه وأهل الكفر به. وزين لأهل الكفر به من الإيمان به نظير الذي زين منه لأنبيائه وأوليائه. وفي إخباره جلّ ثناؤه أنه زين لكلّ عامل منهم عمله ما ينبىء عن تزيين الكفر والفسوق والعصيان, وخصّ أعداءه وأهل الكفر بتزيين الكفر لهم والفسوق والعصيان, وكرّه إليهم الإيمان به والطاعة.
الآية : 123
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }.
يقول جلّ ثناؤه: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون, كذلك جعلنا بكلّ قرية عظماءها مجرميها, يعني: أهل الشرك بالله والمعصية له لِيَمْكُرُوا فِيها بغرور من القول أو بباطل من الفعل بدين الله وأنبيائه. وَما يَمْكُرُونَ: أي ما يحيق مكرهم ذلك, إلاّ بأنْفُسِهِمْ, لأن الله تعالى ذكره من وراء عقوبتهم على صدّهم عن سبيله. وهم لا يشعرون, يقول: لا يدرون ما قد أعدّ الله لهم من أليم عذابه, فهم في غيهم وعتوّهم على الله يتمادون.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10850ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: أكابِرَ مُجْرِمِيها قال: عظماءها.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
10851ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: أكابِرَ مُجْرِمِيها قال: عظماءها.
10852ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: نزلت في المستهزئين. قال ابن جريج: عن عمرو, عن عطاء, عن عكرمة: أكابِرَ مُجْرِمِيها... إلى قوله: بِمَا كانُوا يَمْكُرُونَ بدين الله وبنبيه عليه الصلاة والسلام وعباده المؤمنين.
والأكابر: جمع أكبر, كما الأفاضل: جمع أفضل. ولو قيل: هو جمع كبير, فجمع أكابر, لأنه قد يقال أكبر, كما قيل: قُلْ هُلْ أُنَبّئُكُمْ بالأخْسَرِينَ أعَمالاً واحدهم الخاسر لكان صوابا. وحُكي عن العرب سماعا: الأكابرة والأصاغرة, والأكابر والأصاغر بغير الهاء على نية النعت, كما يقال: هو أفضل منك. وكذلك تفعل العرب بما جاء من النعوت على «أفعل» إذا أخرجوها إلى الأسماء, مثل جمعهم الأحمر والأسود: الأحامر والأحامرة, والأساود والأساودة ومنه قول الشاعر:
إنّ الأحامِرَةَ الثّلاثَةَ أهْلَكَتْمالي وكنتُ بِهِنّ قِدْما مُولَعَا
الخَمْرُ واللّحْمُ السّمِينُ أُدِيمُهُوالزّعفرانُ فلَنْ أزالَ مُبَقّعَا
وأما المكر: فإنه الخديعة والاحتيال للممكور به بالقدر ليورّطه الماكر به مكروها من الأمر.
الآية : 124
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نّؤْمِنَ حَتّىَ نُؤْتَىَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وإذا جاءت هؤلاء المشركين الذين يجادلون المؤمنين بزخرف القول فيما حرم الله عليهم ليصدّوا عن سبيل الله آيةٌ يعني: حجة من الله على صحة ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله وحقيقته, قالوا لنبيّ الله وأصحابه: لَنْ نُؤْمِنَ يقول: يقولون: لن نصدّق بما دعانا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان به, وبما جاء به من تحريم ما ذكر أن الله حرّمه علينا حتى نُؤْتَى يعنون: حتى يعطيهم الله من المعجزات مثل الذي أعطى مسوى من فلق البحر, وعيسى من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. يقول تعالى ذكره: اللّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ يعني بذلك جلّ ثناؤه: أن آيات الأنبياء والرسل لم يعطَها من البشر إلاّ رسول مرسل, وليس العادلون بربهم الأوثان والأصنام منهم فيعطوها. يقول جلّ ثناؤه: فأنا أعلم بمواضع رسالاتي ومن هو لها أهل, فليس لكم أيها المشركون أن تتخيروا ذلك عليّ أنتم, لأن تخير الرسول إلى المرسِل دون المرسَل إليه, والله أعلم إذا أرسل رسالة بموضع رسالاته.
القول في تأويل قوله تعالى: سَيُصِيبُ الّذِينَ أجَرمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كانُوا يَمْكُرُونَ.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, معلمه ما هو صانع بهؤلاء المتمرّدين عليه: سيصيب يا محمد الذي اكتسبوا الإثم بشركهم بالله وعبادتهم غيره صَغَارٌ يعني: ذلة وهوان. كما:
10853ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: سَيُصِيبُ الّذِينَ أجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللّهِ قال: الصغار: الذلة.
وهو مصدر من قول القائل: صَغِرَ يَصْغَرُ صَغارا وَصَغَرا, وهو وأشدّ الذلّ.
وأما قوله: صَغارٌ عِنْدَ اللّهِ فإن معناه: سيصيبهم صغارٌ من عند الله, كقول القائل: سيأتيني رزقي عند الله, بمعنى: من عند الله, يراد بذلك: سيأتيني الذي لي عند الله. وغير جائز لمن قال: «سيصيبهم صغار عند الله» أن يقول: «جئت عند عبد الله» بمعنى: جئت من عند عبد الله, لأن معنى «سيصيبهم صغار عند الله»: سيصيبهم الذي عند الله من الذلّ بتكذيبهم رسوله فليس ذلك بنظير «جئت من عند عبد الله».
وقوله: وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ يقول: يصيب هؤلاء المكذّبين بالله ورسوله المستحلين ما حرّم الله عليهم من الميتة مع الصغار, عذاب شديد بما كانوا يكيدون للإسلام وأهله بالجدال بالباطل والزخرف من القول غرورا لأهل دين الله وطاعته
144
142
الآية : 119
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُواْ مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصّلَ لَكُمْ مّا حَرّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنّ كَثِيراً لّيُضِلّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ }.
اختلف أهل العلم بكلام العرب في تأويل قوله: وَما لَكُمْ أنْ لا تَأْكُلُوا فقال بعض نحويي البصريين: معنى ذلك: وأيّ شيء لكم في أن لا تأكلوا, قال: وذلك نظير قوله: وَما لَنا أنْ لا نُقاتِلَ يقول: أيّ شيء لنا في ترك القتال؟ قال: ولو كانت لا زائدة لا يقع الفعل, ولو كانت في معنى: وما لنا وكذا, لكانت: وما لنا وأن لا نقاتل. وقال غيره: إنما دخلت لا للمنع, لأن تأويل «ما لك», و«ما منعك» واحد, ما منعك لا تفعل ذلك, وما لك لا تفعل واحد, فلذلك دخلت «لا». قال: وهذا الموضع تكون فيه «لا» وتكون فيه «أن» مثل قوله: يُبَيّنَ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا و«أن لا تضلوا»: يمنعكم من الضلال بالبيان.
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي قول من قال: معنى قوله: وَما لَكُمْ في هذا الموضع: وأيّ شيء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه, وذلك أن الله تعالى ذكره تقدّم إلى المؤمنين بتحليل ما ذكر اسم الله عليه وإباحة أكل ما ذبح بدينه أو دين من كان يدين ببعض شرائع كتبه المعروفة, وتحريم ما أهلّ به لغيره من الحيوان, وزجرهم عن الإصغاء لما يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض من زخرف القول في الميتة, والمنخنقة, والمتردية, وسائر ما حرّم الله من المطاعم. ثم قال: وما يمنعكم من أكل ما ذبح بديني الذي ارتضيته, وقد فصلت لكم الحلال من الحرام فيما تَطعمون, وبينته لكم بقوله: حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ المَيْتَةُ وَالدّمُ وَلحْمُ الخِنْزِيرِ وَما أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ... إلى قوله: فَمَنِ اضْطُرّ فِي مَخُمَصَةٍ غيرَ مُتَجانِفٍ لإِثْمٍ فلا لبس عليكم في حرام ذلك من حلاله, فتمتنعوا من أكل حلاله حذرا من مواقعة حرامه. فإذ كان ذلك معناه فلا وجه لقول متأوّلي ذلك: وأيّ شيء لكم في أن لا تأكلوا لأن ذلك إنما يقال كذلك لمن كان كفّ عن أكله رجاء ثواب بالكفّ عن أكله, وذلك يكون ممن آمن بالكفّ فكفّ اتباعا لأمر الله وتسليما لحكمه, ولا نعلم أحدا من سلف هذه الأمة كفّ عن أكل ما أحل الله من الذبائح رجاء ثواب الله على تركه ذلك, واعتقادا منه أن الله حرّمه عليه. فبَيّنٌ بذلك إذ كان الأمر كما وصفنا أن أولى التأويلين في ذلك بالصواب ما قلنا.
وقد بينا فيما مضى قبل أن معنى قوله: «فصّل», و«فصلنا» و«فُصّل»: بيّن, أو بُيّن, بما يغني عن إعادته في هذا الموضع. كما:
10806ـ حدثني محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَقَدْ فَصّلَ لَكُمْ ما حَرّمَ عَلَيْكُمْ يقول: قد بَيّن لكم ما حرّم عليكم.
10807ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, عن ابن زيد, مثله.
واختلفت القرّاء في قول الله جلّ ثناؤه: وَقَدْ فَصّلَ لَكُمْ ما حَرّمَ عَلَيْكُمْ فقرأه بعضهم بفتح أول الحرفين من «فصّل» و«حَرّم»: أي فصّل ما حرّمه من مطاعمكم, فبينه لكم. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: وَقَدْ فَصّل بفتح فاء فصّل وتشديد صاده, «ما حُرّم» بضم حائه وتشديد رائه, بمعنى: وقد فصّل الله لكم المحرّم عليكم من مطاعمكم. وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين: «وَقَدْ فُصّلَ لَكُمْ» بضمّ فائه وتشديد صاده «ما حُرّمَ عَلَيْكُمْ» بضمّ حائه وتشديد رائه, على وجه ما لم يسمّ فاعله في الحرفين كليهما. ورُوِي عن عطية العوفي أنه كان يقرأ ذلك: «وَقَدْ فَصَلَ» بتخفيف الصاد وفتح الفاء, بمعنى: وقد أتاكم حكم الله فيما حرّم عليكم.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن كلّ هذه القراءات الثلاث التي ذكرناها سوى القراءة التي ذكرنا عن عطية قراءات معروفة مستفيضة القراءة بها في قرّاء الأمصار, وهن متفقات المعاني غير مختلفات, فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب فيه الصواب.
وأما قوله: إلاّ ما اضْطُرِرِتُمْ إلَيْهِ فإنه يعني تعالى ذكره: أن ما اضطررنا إليه من المطاعم المحرّمة التي بيّن تحريمها لنا في غير حال الضرورة لنا حلال ما كنا إليه مضطّرين, حتى تزول الضرورة. كما:
10808ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: إلاّ ما اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ من الميتة.
القول في تأويل قوله تعالى: وَإنّ كَثِيرا لَيُضِلّونَ بأهْوَائِهمْ بغيرِ عِلْمٍ إنّ رَبّكَ هُوَ أعْلَمُ بالمُعْتَدِينَ.
يقول تعالى ذكره: وإنّ كَثِيرا من الناس الذين يجادلونكم في أكل ما حرّم الله عليكم أيها المؤمنون بالله من الميتة لَيُضِلّونَ أتباعهم بأهْوَائِهِمْ بغير عِلْم منهم بصحة ما يقولون, ولا برهان عندهم بما فيه يجادلون, إلا ركوبا منهم لأهوائهم, واتباعا منهم لدواعي نفوسهم, اعتداءً وخلافا لأمر الله ونهيه, وطاعة للشياطين. إنّ رَبّكَ هُوَ أعْلَمُ بالمُعْتَدِينَ يقول: إن ربك يا محمد الذي أحلّ لك ما أحلّ وحرّم عليك ما حرّم, هو أعلم بمن اعتدى حدوده فتجاوزها إلى خلافها, وهو لهم بالمرصاد.
واختلفت القرّاء فِي قراءة قوله: لَيُضِلّونَ فقرأته عامة أهل الكوفة: لَيُضِلّونَ بمعنى: أنهم يضلون غيرهم. وقرأ ذلك بعض البصريين والحجازيين: «لَيَضِلّونَ» بمعنى: أنهم هم الذين يضلون عن الحقّ فيجورون عنه.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك, قراءة من قرأ: وإنّ كَثِيرا لَيُضِلّونَ بأهْوَائِهِمْ بمعنى: أنهم يضلون غيرهم وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم عن إضلالهم من تبعهم ونهاه عن طاعتهم واتباعهم إلى ما يدعونه إليه, فقال: وَإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ثم أخبر أصحابه عنهم بمثل الذي أخبره عنهم, ونهاهم من قبول قولهم عن مثل الذي نهاه عنه, فقال لهم: وَإنّ كَثِيرا منهم لَيُضِلّونَكم بأهْوَائِهمْ بغيرِ عِلْمِ نظير الذي قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ.
الآية : 120
القول في تأويل قوله تعالى: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنّ الّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ودعوا أيها الناس علانية الإثم وذلك ظاهره, وسرّه وذلك باطنه. كذلك:
10809ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ أي قليله وكثيره وسرّه وعلانيته.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ قال: سرّه وعلانيته.
10810ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس, في قوله: وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ يقول: سره وعلانتيه, وقوله: ما ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قال: سرّه وعلانيته.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثمِ وَباطَنهُ قال: نهى الله عن ظاهر الإثم وباطنه أن يُعمل به سرّا, أو علانية, وذلك ظاهره وباطنه.
10811ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ معصية الله في السرّ والعلانية.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ قال: هو ما ينوي مما هو عامل.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالظاهر من الإثم والباطن منه في هذا الموضع, فقال بعضهم: الظاهر منه: ما حرّم جلّ ثناؤه بقوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ, قوله: حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهاتُكُمْ... الاَية, والباطن منه الزنا. ذكر من قال ذلك:
10812ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج, قال: حدثنا حماد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, في قوله: وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ قال: الظاهر منه: لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ والأمهات, والبنات والأخوات. والباطن: الزنا.
وقال آخرون: الظاهر: أولات الرايات من الزواني. والباطن: ذوات الأخدان. ذكر من قال ذلك:
10813ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ أما ظاهره: فالزواني في الحوانيت. وأما باطنه: فالصديقة يتخذها الرجل فيأتيها سرّا.
10814ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: ثني عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَلا تَقْرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْهَا وَما بَطَنَ كان أهل الجاهلية يستسّرون بالزنا, ويرون ذلك حلالاً ما كان سرّا, فحرّم الله السرّ منه والعلانية. ما ظهر مها: يعني العلانية, وما بطن: يعني السرّ.
10815ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن أبي مكين وأبيه, عن خصيف, عن مجاهد: لا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قال: ما ظهر منها: الجمع بين الأختين, وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده. وما بطن: الزنا.
وقال آخرون: الظاهر: التعرّي والتجرّد من الثياب وما يستر العورة في الطواف. والباطن: الزنا. ذكر من قال ذلك:
10816ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قال: ظاهره العُريْةُ التي كانوا يعملون بها حين يطوفون بالبيت. وباطنه: الزنا.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره تقدّم إلى خلقه بترك ظاهر الإثم وباطنه وذلك سرّه وعلانيته, والإثم: كلّ ما عصى الله به من محارمه, وقد يدخل في ذلك سرّ الزنا وعلانيته, ومعاهرة أهل الرايات وأولات الأخدان منهنّ, ونكاح حلائل الاَباء والأمهات والبنات, والطواف بالبيت عريانا, وكلّ معصية لله ظهرت أو بطنت. وإذ كان ذلك كذلك, وكان جميع ذلك إثما, وكان الله عمّ بقوله: وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ جميع ما ظهر من الإثم وجميع ما بطن, لم يكن لأحد أن يخصّ من ذلك شيئا دون شيء إلا بحجة للعذر قاطعة. غير أنه لو جاز أن يوجه ذلك إلى الخصوص بغير برهان, كان توجيهه إلى أنه عني بظاهر الإثم وباطنه في هذا الموضع: ما حرّم الله من المطاعم والمآكل من الميتة والدم, وما بين الله تحريمه في قوله: حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ المَيْتَةُ... إلى آخر الاَية, أوْلى, إذ كان ابتداء الاَيات قبلها بذكر تحريم ذلك جرى وهذه في سياقها, ولكنه غير مستنكر أن يكون عنى بها ذلك, وأدخل فيها الأمر باجتناب كلّ ما جانسه من معاصي الله, فخرج الأمر عامّا بالنهي عن كلّ ما ظهر أو بطن من الإثم.
القول في تأويل قوله تعالى: إنّ الّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثمَ سَيُجزّوْنَ بِمَا كانُوا يَقْتَرِفُونَ.
يقول تعالى ذكره: إن الذين يعملون بما نهاهم الله عنه ويركبون معاصي الله ويأتون ما حرّم الله, سَيُجْزَوْنَ يقول: سيثيبهم الله يوم القيامة بما كانوا في الدنيا يعملون من معاصيه.
الآية : 121
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنّهُ لَفِسْقٌ وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىَ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ: لا تأكلوا أيها المؤمنون مما مات فلم تذبحوه أنتم أو يذبحه موحد يدين لله بشرائع شرعها له في كتاب منزّل فإنه حرام عليكم, ولا ما أهلّ به لغير الله مما ذبحه المشركون لأوثانهم, فإن أكْلَ ذلك فسق, يعني: معصية كفر. فكنى بقوله: «وإنه» عن «الأكل», وإنما ذكر الفعل, كما قال: الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمانا يراد به: فزاد قولهم ذلك إيمانا, فكنى عن القول, وإنما جرى ذكره بفعل. وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائهِمْ: اختلف أهل التأويل في المعنّي بقوله: وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْليائهمْ فقال بعضهم: عنى بذلك: شياطين فارس ومن على دينهم من المجوس إلى أوْلِيَائِهِمْ من مَرَدِةِ مشركي قريش, يوحون إليهم زخرف القول بجدال نبيّ الله وأصحابه في أكل الميتة. ذكر من قال ذلك:
10817ـ حدثني عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري, قال: حدثنا موسى بن عبد العزيز القنباري, قال: حدثنا الحكم بن أبان, عن عكرمة, لما نزلت هذه الاَية بتحريم الميتة, قال: أوحت فارس إلى أوليائها من قريش أن خاصِموا محمدا وكانت أولياءهم في الجاهلية وقولوا له: إن ما ذبحت فهو حلال, وما ذبح الله قال ابن عباس: بشمشار من ذهب فهو حرام, فأنزل الله هذه الاَية: وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ قال: الشياطين: فارس, وأولياؤهم: قريش.
10818ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال عمرو بن دينار, عن عكرمة: أن مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم, وكاتبتهم فارس, وكتبت فارس إلى مشركي قريش أن محمدا وأصحابه يزعمون أنه يتبعون أمر الله, فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه للميتة وأما ما ذبحوا هم يأكلون. وكتب بذلك المشركون إلى أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام, فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء, فنزلت: وَإنّهُ لَفِسْقٌ وَإنّ الشّياطِينَ ليَوُحُونَ... الاَية, ونزلت: يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا.
وقال آخرون: إنما عني بالشياطين الذين يغرون بني آدم أنهم أوحوا إلى أوليائهم من قريش. ذكر من قال ذلك:
10819ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن سماك, عن عكرمة, قال: كان مما أوحى الشياطين إلى أوليائهم من الإنس: كيف تعبدون شيئا لا تأكلون مما قتل, وتأكلون أنتم ما قتلتم؟ فرُوي الحديث حتى بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم, فنزلت: وَلا تأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ.
10820ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس, قوله: وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائهِمْ قال: إبليس الذي يوحي إلى مشركي قريش. قال ابن جريج عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس, قال: شياطين الجنّ يوحون إلى شياطين الإنس, يوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم. قال ابن جريج, عن عبد الله بن كثير, قال: سمعت أن الشياطين يوحون إلى أهل الشرك يأمرونهم أن يقولوا: ما الذي يموت وما الذي تذبحون إلا سواء يأمرونهم أن يخاصموا بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم, وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنّكُمْ لَمُشْرِكُونَ قال: قول المشركين: أما ما ذبح الله للميتة فلا تأكلون, وأما ما ذبحتم بأيديكم فحلال.
10821ـ حدثنا محمد بن عمار الرازي, قال: حدثنا سعيد بن سليمان, قال: حدثنا شريك, عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس أن المشركين قالوا للمسلمين: ما قتل ربكم فلا تأكلون, وما قتلتم أنتم تأكلونه فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قال: لما حرّم الله الميتة أمر الشيطانُ أولياءه, فقال لهم: ما قتل الله لكم خير مما تذبحون أنتم بسكاكينكم, فقال الله: وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ.
حدثنا يحيى بن داود الواسطي, قال: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق, عن سفيان, عن هارون بن عنترة, عن أبيه, عن ابن عباس, قال: جادل المشركون المسلمين, فقالوا: ما بال ما قتل الله لا تأكلونه وما قتلتم أنتم أكلتموه, وأنتم تتبعون أمر الله فأنزل الله: وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّهُ لَفِسْقٌ... إلى آخر الاَية.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عبد الله, عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس, في قوله: وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه, وما ذبحتم أنتم فكلوه فأنزل الله: وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ.
10822ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد, عن عكرمة: أن ناسا من المشركين دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال: «اللّهُ قَتَلَها». قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنتَ وأصحابُك حلال, وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله: وَلا تأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ.
10823ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, عن الحضرميّ: أن ناسا من المشركين, قالوا: أما ما قتل الصقر والكلب فتأكلونه, وأما ما قتل الله فلا تأكلونه.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ بآياته مؤمِنِينَ قال: قالوا: يا محمد, أما ما قتلتم وذبحم فتأكلونه, وأما ما قتل ربكم فتحرّمونه فأنزل الله: وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّهُ لَفِسْقٌ وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنّكُمْ لَمُشْركُونَ وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه, إنكم إذن لمشركون.
10824ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك, قال: قال المشركون: ما قتلتم فتأكلونه, وما قتل ربكم لا تأكلونه فنزلت: وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ.
10825ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنّكُمْ لَمُشْركُونَ قول المشركين: أما ما ذَبَحَ الله للميتة فلا تأكلون منه, وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
10826ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ قال: جادلهم المشركون في الذبيحة, فقالوا: أما ما قتلتم بأيديكم فتأكلونه, وأما ما قتل الله فلا تأكلونه يعنون: الميتة. فكانت هذه مجادلتهم إياهم.
10827ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلا تَأْكُلُوا ممّا لَمْ يُذكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّه لَفِسْقٌ... الاَية, يعني: عدوّ الله إبليس, أوحى إلى أوليائه من أهل الضلالة, فقال لهم: خاصموا أصحاب محمد في الميتة, فقولوا: أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون, وأما ما قتل الله فلا تأكلون, وأنتم تزعمون أنكم تتبعون أمر الله فأنزل الله على نبيه: وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنّكُمْ لَمُشْركُونَ وإنا والله ما نعلمه كان شرك قط إلا بإحدى ثلاث: أن يدعو مع الله إلها آخر, أو يُسجد لغير الله, أو يُسمى الذبائحَ لغير الله.
10828ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: وَلا تَأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إن المشركين قالوا للمسلمين: كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله, وما ذبح الله فلا تأكلونه, وما ذبحتم أنتم أكتلموه؟ فقال الله: لَئِنْ أطَعْتُمُوهُمْ فأكلتم الميتة إنّكُمْ لَمُشْركُونَ.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس, في قوله: وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ قال: كانوا يقولون: ما ذُكِرَ الله عليه وما ذبحتم فكلوا فنزلت: وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّهُ لَفِسْقٌ وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: وَلا تَأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ... إلى قوله: لِيُجادِلُوكُمْ قال: يقول: يوحي الشياطين إلى أوليائهم: تأكلون ما قتلتم, ولا تأكلون مما قتل الله؟ فقال: إن الذي قتلتم يذكر اسم الله عليه, وإن الذي مات لم يذكر اسم عليه.
10829ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك, في قوله: وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ هذا في شأن الذبيحة, قال: قال المشركون للمسلمين: تزعمون أن الله حرّم عليكم الميتة, وأحلّ لكم ما تذبحون أنتم بأيديكم, وحرّم عليكم ما ذبح هو لكم وكيف هذا وأنتم تعبدونه؟ فأنزل الله هذه الاَية: وَلا تأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ... إلى قوله: المُشْرِكُونَ.
وقال آخرون: كان الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قوما من اليهود. ذكر من قال ذلك:
10830ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى وسفيان بن وكيع, قالا: حدثنا عمران بن عيينة, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال ابن عبد الأعلى: خاصمت اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال ابن وكيع: جاءت اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: نأكل ما قتلنا, ولا نأكل ما قتل الله فأنزل الله: وَلا تأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّهُ لَفِسْقٌ.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب, أن يقال: إن الله أخبر أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم ليجادلوا المؤمنين في تحريمهم أكل الميتة بما ذكرنا من جدالهم إياهم. وجائز أن يكون الموحون كانوا شياطين الإنس يوحون إلى أوليائهم منهم, وجائز أن يكونوا شياطين الجن أوحوا إلى أوليائهم من الإنس, وجائز أن يكون الجنسان كلاهما تعاونا على ذلك, كما أخبر الله عنهما في الاَية الأخرى التي يقول فيها: وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنّ, يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا, بل ذلك الأغلب من تأويله عندي, لأن الله أخبر نبيه أنه جعل له أعداء من شياطين الجنّ والإنس, كما جعل لأنبيائه مِن قبله يوحي بعضهم إلى بعض المزيّنَ من الأقوال الباطلة, ثم أعلمه أن أولئك الشياطين يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوه ومن تبعه من المؤمنين فيما حرّم الله من الميتة عليهم.
واختلف أهل التأويل في الذي عني الله جل ثناؤه بنهيه عن أكله مما لم يذكر اسم الله عليه, فقال بعضهم: هو ذبائح كانت العرب تذبحها لاَلهتها. ذكر من قال ذلك:
10831ـ حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار, قالا: حدثنا أبو عاصم, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: قلت لعطاء: ما قوله: فَكُلُوا مِمّا ذُكر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ؟ قال: يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح. قلت لعطاء: فما قوله: وَلا تَأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ؟ قال: ينهي عن ذبائح كانت في الجاهلية على الأوثان كانت تذبحها العرب وقريش.
وقال آخرون: هي الميتة. ذكر من قال ذلك:
10832ـ حدثنا ابن حميد وابن وكيع, قالا: حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: وَلا تَأكُلُوا مِمّا لِمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهُ عَلَيْهِ قال: الميتة.
وقال آخرون: بل عنى بذلك كلّ ذبيحة لم يذكر اسم الله عليها. ذكر من قال ذلك:
10833ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن حميد بن يزيد, قال: سئل الحسن, سأله رجل قال له: أتيت بطير كذا, فمنه ما ذبح, فذكر اسم الله عليه, ومنه ما نسيب أن يذكر اسم الله عليه واختلط الطير؟ فقال الحسن: كلْه كلّه قال: وسألت محمد بن سيرين, فقال: قال الله: وَلا تَأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ.
10834ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج, قال: حدثنا حماد, عن أيوب وهشام, عن محمد بن سيرين, عن عبد الله يزيد الخطميّ, قال: كلوا من ذبائح أهل الكتاب والمسلمين, ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه.
10835ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن أشعث, عن ابن سيرين, عن عبد الله بن يزيد, قال: كنت أجلس إليه في حلقة, فكان يجلس فيها ناس من الأنصار هو رأسهم, فإذا جاء سائل فإنما يسأله ويسكتون. قال: فجاءه رجل فسأله, فقال: رجل ذبح فنسي أن يسمي؟ فتلا هذه الاَية: وَلا تَأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ حتى فرغ منها.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عني بذلك: ما ذبح للأصنام والاَلهة, وما مات أو ذبحه من لا تحلّ ذبيحته. وأما من قال: عنى بذلك ما ذبحه المسلم فنسي ذكر اسم الله, فقول بعيد من الصواب لشذوذه, وخروجه عما عليه الحجة مجمعة من تحليله, وكفى بذلك شاهدا على فساده. وقد بيّنا فساده من جهة القياس في كتابنا المسمى «لطيف القول في أحكام شرائع الدين» فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله لَفِسقٌ فإنه يعني: وإنّ أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة وما أهلّ به لغير الله لفسق.
واختلف أهل التأويل في معنى الفسق في هذا الموضع, فقال بعضهم: معناه: المعصية. فتأويل الكلام على هذا: وإنّ أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لمعصية لله وإثم. ذكر من قال ذلك:
10836ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَإنّهُ لَفِسْقٌ قال: الفسق: المعصية.
وقال آخرون: معنى ذلك: الكفر.
وأما قوله: وَإنّ الشيّاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ فقد ذكرنا اختلاف المختلفين في المعنيّ بقوله: وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ. والصواب من القول فيه. وأما إيحاؤهم إلى أوليائهم, فهو إشارتهم إلى ما أشاروا لهم إليه, إما بقول, وإما برسالة, وإما بكتاب. وقد بيّنا معنى الوحي فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد:
10837ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا عكرمة, عن أبي زميل, عن أبي زميل, قال: كنت قاعدا عند ابن عباس, فجاءه رجل من أصحابه, فقال: يا أبا عباس, زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة يعني المختار بن أبي عبيد فقال ابن عباس: صدق فنفرت فقلت: يقول ابن عباس صدق؟ فقال ابن عباس: هما وحيان: وحي الله, ووحي الشيطان فوحي الله إلى محمد, ووحي الشياطين إلى أوليائهم. ثم قال: وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائهِمْ.
وأما الأولياء: فهم النصراء والظهراء في هذا الموضع.
ويعني بقوله: لِيُجادِلُوكُمْ ليخاصموكم, بالمعني الذي قد ذكرت قبل.
وأما قوله: وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنّكُمْ لَمُشْرِكُونَ فإنه يعني: وإن أطعتموهم في أكل الميتة وما حرم عليكم ربكم كما:
10838ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ يقول: وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه.
10839ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ فأكلتم الميتة.
وأما قوله: إنّكُمْ لَمُشْركُونَ يعني: إنكم إذا مثلهم, إذ كان هؤلاء يأكلون الميتة استحلالاً, فإذا أنتم أكلتموها كذلك فقد صرتم مثلهم مشركين.
واختلف أهل العلم في هذه الاَية: هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء وهي محكمة فيما عُنيت به, وعلى هذا قول عامة أهل العلم. ورُوى عن الحسن البصري وعكرمة, ما:
10840ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين بن واقد, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصريّ قالا: قال: فَكُلُوا ممّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ بآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنّهُ لَفِسْقٌ فنسخ واستثنى من ذلك, فقال: وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلّ لَهُمْ.
والصواب من القول في ذلك عندنا, أن هذه الاَية محكمة فيما أنزلت لم ينسخ منها شيء, وأن طعام أهل الكتاب حلال وذبائحهم ذكية. وذلك مما حرّم الله على المؤمنين أكله بقوله: وَلا تأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ بمعزل, لأن الله إنما حرّم علينا بهذه الاَية الميتة وما أهلّ به للطواغيت, وذبائح أهل الكتاب ذكية سَمّوْا عليها أو لم يسموا لأنهم أهل توحيد وأصحاب كتب لله يدينون بأحكامها, يذبحون الذبائح بأديانهم كما ذبح المسلم بدينه, سمى الله على ذبيحته أو لم يسمه, إلا أن يكون ترك من ذكر تسمية الله على ذبيحته على الدينونة بالتعطيل, أو بعبادة شيء سوى الله, فيحرم حينئذٍ أكل ذبيحته سمى الله عليها أو لم يسمّ.
الآية : 122
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
وهذا الكلام من الله جلّ ثناؤه يدلّ على نهيه المؤمنين برسوله يومئذٍ عن طاعة بعض المشركين الذين جادلوهم في أكل الميتة بما ذكرنا عنهم من جدالهم إياهم به, وأمره إياهم بطاعة مؤمن منهم كان كافرا, فهداه جلّ ثناؤه لرشده ووفّقه للإيمان, فقال لهم: إطاعة من كان ميتا, يقول: من كان كافرا. فجعله جلّ ثناؤه لانصرافه عن طاعته وجهله بتوحيده وشرائع دينه وتركه الأخذ بنصيبه من العمل لله بما يؤديه إلى نجاته, بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة ولا يدفع عنها من مكروه نازلة فأحْيَيْنَاهُ يقول: فهديناه للإسلام, فأنعشناه, فصار يعرف مضارّ نفسه ومنافعها, ويعمل في خلاصها من سخط الله وعقابه في معاده, فجعل إبصاره الحقّ تعالى ذكره بعد عماه عنه ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك حياة وضياء يستضيء به, فيمشي على قصد السبيل ومنهج الطريق في الناس. كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظّلُماتِ لا يدري كيف يتوجه وأيّ طريق يأخذ لشدّة ظلمة الليل وإضلاله الطريق, فكذلك هذا الكافر الضالّ في ظلمات الكفر لا يبصر رشدا ولا يعرف حقّا, يعني في ظلمات الكفر. يقول: أفطاعة هذا الذي هديناه للحقّ وبصرناه الرشاد كطاعة من مثله مثل من هو في الظلمات متردّد لا يعرف المخرج منها في دعاء هذا إلى تحريم ما حرّم الله وتحليل ما أحلّ وتحليل هذا ما حرّم الله وتحريمه ما أحلّ؟.
وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت في رجلين بأعيانهما معروفين, أحدهما مؤمن, والاَخر كافر.
ثم اختلف أهل التأويل فيهما, فقال بعضهم: أما الذي كان ميتا فأيحاه الله فعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها: فأبو جهل بن هشام. ذكر من قال ذلك:
10841ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: أخبرنا سليمان بن أبي هوذة, عن شعيب السراج, عن أبي سنان عن الضحاك, في قوله: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه. كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظّلُماتِ قال: أبو جهل بن هشام.
وقال آخرون: بل الميت الذي أحياه الله عمار بن ياسر رضي الله عنه وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها: فأبو جهل بن هشام. ذكر من قال ذلك:
10842ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن بشر بن تيم, عن رجل, عن عكرمة: أوْ مَنْ كانَ مَيْتا فَأحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي الناسِ قال: نزلت في عمار بن ياسر.
10843ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن بشر, عن تيم, عن عكرمة: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ عمار بن ياسر. كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ أبو جهل بن هشام.
وبنحو الذي قلنا في الاَية قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10844ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ قال: ضالاّ فهديناه, وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي للنّاسِ قال: هدى, كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها قال: في الضلالة أبدا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فَأحْيَيْناهُ هديناه, وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ في الضلالة أبدا.
10845ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ قال: ضالاّ فهديناه.
10846ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ يعني: من كان كافرا فهديناه, وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ يعني بالنور: القرآن من صدّق به وعمل به, كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ يعني بالظلمات: الكفر والضلالة.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ يقول: الهدى يمشي به في الناس, يقول: فهو الكافر يهديه الله للإسلام, يقول: كان مشركا فهديناه, كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها.
10847ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ هذا المؤمن معه من الله نور وبينة يعمل بها ويأخذ وإليها ينتهي, كتاب الله. كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ لَيْسَ بِخارجٍ مِنْها وهذا مثل الكافر في الضلالة متحير فيها متسكع, لا يجد مخرجا ولا منفذا.
10848ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط عن السديّ: أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ يقول: من كان كافرا فجعلناه مسلما وجلعنا له نورا يمشي به في الناس وهو الإسلام, يقول: هذا كمن هو في الظلمات, يعني الشرك.
10849ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ قال: الإسلام الذي هداه الله إليه. كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ ليس من أهل الإسلام. وقرأ: اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظلُماتِ إلى النّورِ قال: والنور يستضيء به ما في بيته ويبصره, وكذلك الذي آتاه الله هذا النور يستضيء به في دينه ويعمل به في نوره كما يستضيء صاحب هذا السراج. قال: كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظّلُماتِ لا يدري ما يأتي ولا ما يقع عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: كَذَلِكَ زُينَ للكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
يقول تعالى ذكره: كما خذلت هذا الكافر الذي يجادلكم أيها المؤمنون بالله ورسوله في أكل ما حرّمت عليكم من المطاعم عن الحقّ, فزينت له سوء عمله, فرآه حسنا ليستحقّ به ما أعددت له من أليم العقاب, كذلك زينت لغيره ممن كان على مثل ما هو عليه من الكفر بالله وآياته ما كانوا يعملون من معاصي الله, ليستوجبوا بذلك من فعلهم ما لهم عند ربهم من النكال.
وفي هذا أوضح البيان على تكذيب الله الزاعمين أن الله فوّض الأمور إلى خلقه في أعمالهم فلا صنع له في أفعالهم, وأنه قد سوّى بين جميعهم في الأسباب التي بها يصلون إلى الطاعة والمعصية لأن ذلك لو كان كما قالوا, لكان قد زين لأنبيائه وأوليائه من الضلالة والكفر نظير ما زين من ذلك لأعدائه وأهل الكفر به. وزين لأهل الكفر به من الإيمان به نظير الذي زين منه لأنبيائه وأوليائه. وفي إخباره جلّ ثناؤه أنه زين لكلّ عامل منهم عمله ما ينبىء عن تزيين الكفر والفسوق والعصيان, وخصّ أعداءه وأهل الكفر بتزيين الكفر لهم والفسوق والعصيان, وكرّه إليهم الإيمان به والطاعة.
الآية : 123
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }.
يقول جلّ ثناؤه: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون, كذلك جعلنا بكلّ قرية عظماءها مجرميها, يعني: أهل الشرك بالله والمعصية له لِيَمْكُرُوا فِيها بغرور من القول أو بباطل من الفعل بدين الله وأنبيائه. وَما يَمْكُرُونَ: أي ما يحيق مكرهم ذلك, إلاّ بأنْفُسِهِمْ, لأن الله تعالى ذكره من وراء عقوبتهم على صدّهم عن سبيله. وهم لا يشعرون, يقول: لا يدرون ما قد أعدّ الله لهم من أليم عذابه, فهم في غيهم وعتوّهم على الله يتمادون.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10850ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: أكابِرَ مُجْرِمِيها قال: عظماءها.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
10851ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: أكابِرَ مُجْرِمِيها قال: عظماءها.
10852ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: نزلت في المستهزئين. قال ابن جريج: عن عمرو, عن عطاء, عن عكرمة: أكابِرَ مُجْرِمِيها... إلى قوله: بِمَا كانُوا يَمْكُرُونَ بدين الله وبنبيه عليه الصلاة والسلام وعباده المؤمنين.
والأكابر: جمع أكبر, كما الأفاضل: جمع أفضل. ولو قيل: هو جمع كبير, فجمع أكابر, لأنه قد يقال أكبر, كما قيل: قُلْ هُلْ أُنَبّئُكُمْ بالأخْسَرِينَ أعَمالاً واحدهم الخاسر لكان صوابا. وحُكي عن العرب سماعا: الأكابرة والأصاغرة, والأكابر والأصاغر بغير الهاء على نية النعت, كما يقال: هو أفضل منك. وكذلك تفعل العرب بما جاء من النعوت على «أفعل» إذا أخرجوها إلى الأسماء, مثل جمعهم الأحمر والأسود: الأحامر والأحامرة, والأساود والأساودة ومنه قول الشاعر:
إنّ الأحامِرَةَ الثّلاثَةَ أهْلَكَتْمالي وكنتُ بِهِنّ قِدْما مُولَعَا
الخَمْرُ واللّحْمُ السّمِينُ أُدِيمُهُوالزّعفرانُ فلَنْ أزالَ مُبَقّعَا
وأما المكر: فإنه الخديعة والاحتيال للممكور به بالقدر ليورّطه الماكر به مكروها من الأمر.
الآية : 124
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نّؤْمِنَ حَتّىَ نُؤْتَىَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وإذا جاءت هؤلاء المشركين الذين يجادلون المؤمنين بزخرف القول فيما حرم الله عليهم ليصدّوا عن سبيل الله آيةٌ يعني: حجة من الله على صحة ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله وحقيقته, قالوا لنبيّ الله وأصحابه: لَنْ نُؤْمِنَ يقول: يقولون: لن نصدّق بما دعانا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان به, وبما جاء به من تحريم ما ذكر أن الله حرّمه علينا حتى نُؤْتَى يعنون: حتى يعطيهم الله من المعجزات مثل الذي أعطى مسوى من فلق البحر, وعيسى من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. يقول تعالى ذكره: اللّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ يعني بذلك جلّ ثناؤه: أن آيات الأنبياء والرسل لم يعطَها من البشر إلاّ رسول مرسل, وليس العادلون بربهم الأوثان والأصنام منهم فيعطوها. يقول جلّ ثناؤه: فأنا أعلم بمواضع رسالاتي ومن هو لها أهل, فليس لكم أيها المشركون أن تتخيروا ذلك عليّ أنتم, لأن تخير الرسول إلى المرسِل دون المرسَل إليه, والله أعلم إذا أرسل رسالة بموضع رسالاته.
القول في تأويل قوله تعالى: سَيُصِيبُ الّذِينَ أجَرمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كانُوا يَمْكُرُونَ.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, معلمه ما هو صانع بهؤلاء المتمرّدين عليه: سيصيب يا محمد الذي اكتسبوا الإثم بشركهم بالله وعبادتهم غيره صَغَارٌ يعني: ذلة وهوان. كما:
10853ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: سَيُصِيبُ الّذِينَ أجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللّهِ قال: الصغار: الذلة.
وهو مصدر من قول القائل: صَغِرَ يَصْغَرُ صَغارا وَصَغَرا, وهو وأشدّ الذلّ.
وأما قوله: صَغارٌ عِنْدَ اللّهِ فإن معناه: سيصيبهم صغارٌ من عند الله, كقول القائل: سيأتيني رزقي عند الله, بمعنى: من عند الله, يراد بذلك: سيأتيني الذي لي عند الله. وغير جائز لمن قال: «سيصيبهم صغار عند الله» أن يقول: «جئت عند عبد الله» بمعنى: جئت من عند عبد الله, لأن معنى «سيصيبهم صغار عند الله»: سيصيبهم الذي عند الله من الذلّ بتكذيبهم رسوله فليس ذلك بنظير «جئت من عند عبد الله».
وقوله: وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ يقول: يصيب هؤلاء المكذّبين بالله ورسوله المستحلين ما حرّم الله عليهم من الميتة مع الصغار, عذاب شديد بما كانوا يكيدون للإسلام وأهله بالجدال بالباطل والزخرف من القول غرورا لأهل دين الله وطاعته
الصفحة رقم 143 من المصحف تحميل و استماع mp3