تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 173 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 173

172

قوله: 171- "وإذ" منصوب بفعل مقدر معطوف على ما قبله: أي واسألهم إذ نتقنا الجبل: أي رفعنا الجبل "فوقهم" و "كأنه ظلة" أي كأنه لارتفاعه سحابة تظلهم، والظلة: اسم لكل ما أظل، وقرئ طلة بالطاء من أطل عليه إذا أشرف "وظنوا أنه واقع بهم" أي ساقط عليهم. قيل: الظن هنا بمعنى العلم، وقيل: هو على بابه "خذوا ما آتيناكم بقوة" هو على تقدير القول: أي وقلنا لهم خذوا، والقوة: الجد والعزيمة: أي أخذاً كائناً بقوة "واذكروا ما فيه" من الأحكام التي شرعها الله لكم ولا تنسوه "لعلكم تتقون" رجاء أن تتقوا ما نهيتهم عنه وتعملوا بما أمرتم به، وقد تقدم تفسير ما هنا في البقرة مستوفى فلا نعده. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإذ نتقنا الجبل" يقول: رفعناه، وهو قوله: "ورفعنا فوقهم الطور" فقال: "خذوا ما آتيناكم بقوة" وإلا أرسلته عليكم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال: رفعته الملائكة فوق رؤوسهم، فقيل لهم: "خذوا ما آتيناكم بقوة" فكانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا: سمعنا وأطعنا، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا: سمعنا وعصينا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أيضاً قال: إني لأعلم لم تسجد اليهود على حرف قال الله: "وإذ نتقنا الجبل فوقهم" قال: لتأخذن أمري أو لأرمينكم به، فسجدوا وهم ينظرون إليه مخافة أن يسقط عليهم، وكانت سجدة رضيها الله سبحانه فاتخذوها سنة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة "وإذ نتقنا الجبل" قال: انتزعه الله من أصله، ثم جعله فوق رؤوسهم، ثم قال: لتأخذن أمري أو لأرمينكم به.
قوله: 172- "وإذ" منصوب بفعل مقدر معطوف على ما قبله كما تقدم. قوله: "من بني آدم" استدل بهذا على أن المراد بالمأخوذين هنا: هم ذرية بني آدم، أخرجهم الله من أصلابهم نسلاً بعد نسل. وقد ذهب إلى هذا جماعة من المفسرين، قالوا: ومعنى "أشهدهم على أنفسهم" دلهم بخلقه على أنه خالقهم فقامت هذه الدلالة مقام الإشهاد، فتكون هذه الآية من باب التمثيل كما في قوله تعالى: "فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين". وقيل المعنى: أن الله سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وأنه جعل فيها من المعرفة ما فهمت من خطابه سبحانه، وقيل المراد ببني آدم هنا: آدم نفسه كما وقع في غير هذا الموضع. والمعنى: أن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره فاستخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد، وهؤلاء هم عالم الذر، وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه ولا المصير إلى غيره لثبوته مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفاً على غيره من الصحابة ولا ملجئ للمصير إلى المجاز، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وسنذكر آخر هذا البحث إن شاء الله بعض ما ورد في ذلك. قوله: "من ظهورهم" هو بدل من بني آدم بدل بعض من كل، وقيل: بدل اشتمال قوله: "ذرياتهم"، قرأ الكوفيون وابن كثير "ذريتهم" بالتوحيد، وهي تقع على الواحد والجمع، وقرأ الباقون "ذرياتهم" بالجمع "وأشهدهم على أنفسهم" أي أشهد كل واحد منهم "ألست بربكم" أي قائلاً: ألست بربكم فهو على إرادة القول "قالوا بلى شهدنا" أي على أنفسنا بأنك ربنا. قوله: "أن تقولوا"، قرأ أبو عمرو بالياء التحتية في هذا. وفي قوله: " أن يقولوا " على الغيبة كما كان فيما قبله على الغيبة، وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب. والمعنى: كراهة أن يقولوا أو لئلا يقولوا: أي فعلنا ذلك الأخذ والإشهاد كراهة أن يقولوا: "يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين" أي عن كون الله ربنا وحده لا شريك له.
قوله: 173- "أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل" معطوف على "تقولوا" الأول أي فعلنا ذلك كراهة أن تعتذروا بالغفلة أو تنسبوا الشرك إلى آبائكم دونكم، و "أو" لمنع الخلو دون الجمع، فقد يعتذرون بمجموع الأمرين "من قبل" أي من قبل زماننا "وكنا ذرية من بعدهم" لا نهتدي إلى الحق ولا نعرف الصواب "أفتهلكنا بما فعل المبطلون" من آبائنا ولا ذنب لنا لجهلنا وعجزنا عن النظر واقتفائنا آثار سلفنا بين الله سبحانه في هذه الحكمة التي لأجلها أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم على أنفسهم، وأنه فعل ذلك بهم لئلا يقولوا هذه المقالة يوم القيامة، ويعتلوا بهذه العلة الباطلة ويعتذروا بهذه المعذرة الساقطة.
174- "وكذلك" أي ومثل ذلك التفصيل "نفصل الآيات ولعلهم يرجعون" إلى الحق ويتركون ما هم عليه من الباطل. وقد أخرج مالك في الموطأ وأحمد في المسند وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه، وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه، وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات، والضياء في المختارة: أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية "وإذ أخذ ربك" الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها فقال: "إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار". وأخرج أحمد والنسائي وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذراها فنشرها بين يديه، ثم كلمهم فقال: "ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا" إلى قوله: "المبطلون"" وإسناده لا مطعن فيه. وقد أخرجه ابن أبي حاتم موقوفاً على ابن عباس. وأخرج ابن جرير وابن منده في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم، قال: أخذهم من ظهره كما يؤخذ المشط من الرأس، فقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، قالت الملائكة: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين" وفي إسناده أحمد بن أبي ظيبة أبو محمد الجرجاني قاضي قومس كان أحد الزهاد. وأخرج له النسائي في سننه. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه. وقال ابن عدي: حدث بأحاديث كثيرة غرائب. وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمر، وهؤلاء أئمة ثقات. وأخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء، فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين، فقال: يا أصحاب اليمين، فاستجابوا له فقالوا: لبيك ربنا وسعديك، قال: ألست بربكم قالوا: بلى" الحديث والأحاديث في هذا الباب كثيرة بعضها مقيد بتفسير هذه الآية، وبعضها مطلق يشتمل على ذكر إخراج ذرية آدم من ظهره، وأخذ العهد عليهم كما في حديث أنس مرفوعاً في الصحيحين وغيرهما. وأما المروي عن الصحابة في تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من صلبه في عالم الذر وأخذ العهد عليهم وإشهادهم على أنفسهم فهي كثيرة، منها عن ابن عباس عند عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله: "وإذ أخذ ربك من بني آدم" الآية قال: خلق الله آدم وأخذ ميثاقه أنه ربه وكتب أجله ورزقه، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر، فأخذ مواثيقهم أنه ربهم وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم. وأخرج نحوه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم. وأخرج نحوه عنه أيضاً ابن جرير وابن المنذر. وأخرج نحوه عنه عبد الرزاق وابن المنذر. وأخرج نحوه عنه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن منده، وهذا المعنى مروي عنه من طرق كثيرة غير هذه موقوفة عليه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الله بن عمر في قوله: "وإذ أخذ ربك من بني آدم" الآية قال: أخذهم كما يأخذ المشط من الرأس. وأخرج ابن عبد البر في التمهيد عن ابن مسعود وناس من الصحابة في تفسير الآية نحوه. وأخرج عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد بن حنبل في رواية المسند وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن منده وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات والضياء في المختارة وابن عساكر في تاريخه عن أبي بن كعب في قوله: "وإذ أخذ ربك من بني آدم" الآية قال: جمعهم جميعاً فجعلهم أرواحاً في صورهم، ثم استنطقهم فتكلموا، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق، ثم أشهدهم على أنفسهم. وقد روي عن جماعة ممن بعد الصحابة تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من ظهره، وفيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيرها مما قدمنا ذكره ما يغني عن التطويل.
قوله: 175- "واتل" معطوف على الأفعال المقدرة في القصص السابقة: وإيراد هذه القصة منه سبحانه وتذكير أهل الكتاب بها لأنها كانت مذكورة عندهم في التوراة. وقد اختلف في هذا الذي أوتي الآيات "فانسلخ منها" فقيل: هو بلعم بن باعوراء، وكان قد حفظ بعض الكتب المنزلة، وقيل: كان قد أوتي النبوة وكان مجاب الدعوة، بعثه الله إلى مدين يدعوهم إلى الإيمان، فأعطوه الأعطية الواسعة فاتبع دينهم وترك ما بعث به، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل لقتال الجبارين، سأل الجبارون بلعم بن باعوراء أن يدعو على موسى، فقام ليدعو عليه فتحول لسانه بالدعاء على أصحابه، فقيل له في ذلك فقال: لا أقدر على أكثر مما تسمعون، واندلع لسانه على صدره فقال: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة وسأمكر لكم، وإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم فإن الله يبغض الزنا، فإن وقعوا فيه هلكوا، فوقع بنو إسرائيل في الزنا، فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفاً، وقيل: إن هذا الرجل اسمه باعم وهو من بني إسرائيل، وقيل: المراد به أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك، فلما أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به، وقيل: هو أبو عامر بن صيفي وكان يلبس المسوح في الجاهلية، فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: نزلت في قريش آتاهم الله آياته التي أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا بها، وقيل: نزلت في اليهود والنصارى انتظروا خروج محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به. قوله: "فانسلخ منها" أي من هذه الآيات التي أوتيها كما تنسلخ الشاة عن جلدها فلم يبق له بها اتصال "فأتبعه الشيطان" عند انسلاخه عن الآيات: أي لحقه فأدركه وصار قريناً له، أو فأتبعه خطواته، وقرئ فاتبعه بالتشديد بمعنى تبعه "فكان من الغاوين" المتمكنين في الغواية وهم الكفار.
قوله: 176- "ولو شئنا لرفعناه بها" الضمير يعود إلى الذي أوتي الآيات، والمعنى: لو شئنا رفعه: بما آتيناه من الآيات لرفعناه بها: أي بسببها، ولكن لم نشأ ذلك لانسلاخه عنها وتركه للعمل بها، وقيل المعنى: ولو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة بها: أي بالعمل بها "ولكنه أخلد إلى الأرض" أصل الإخلاد اللزوم، يقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ولزمه، والمعنى هنا: أنه مال إلى الدنيا ورغب فيها وآثرها على الآخرة "واتبع هواه" أي اتبع ما يهواه وترك العمل بما يقتضيه العلم الذي علمه الله وهو حطام الدنيا، وقيل: كان هواه مع الكفار، وقيل: اتبع رضا زوجته، وكانت هي التي حملته على الانسلاخ من آيات الله. قوله: "فمثله كمثل الكلب" أي فصار لما انسلخ عن الآيات ولم يعمل بها منحطاً إلى أسفل رتبة مشابهاً لأخس الحيوانات في الدناءة مماثلاً له في أقبح أوصافه، وهو أنه يلهث في كلا حالتي قصد الإنسان له وتركه، فهو لاهث سواء زجر أو ترك، طرد أو لم يطرد، شد عليه أو لم يشد عليه، وليس بعد هذا في الخسة والدناءة شيء، وجملة "إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" في محل نصب على الحال: أي مثله كمثل الكلب حال كونه متصفاً بهذه الصفة، والمعنى: أن هذا المنسلخ عن الآيات لا يرعوي عن المعصية في جميع أحواله سواء وعظه الواعظ وذكره المذكر وزجره الزاجر أو لم يقع شيء من ذلك. قال القتيبي: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة وحال المرض، وحال الصحة، وحال الري، وحال العطش، فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته، فقال: إن وعظته ضل وإن تركته ضل، فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث كقوله تعالى: "وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون" واللهث: إخراج اللسان لتعب أو عطش أو غير ذلك. قال الجوهري: لهث الكلب بالفتح يلهث لهثاً ولهاثاً بالضم إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش، وكذلك الرجل إذا أعيا. قيل معنى الآية: أنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هارباً، وإن تركته شد عليك ونبح، فيتعب نفسه مقبلاً علي ومدبراً عنك، فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان، والإشارة بقوله ذلك إلى ما تقدم من التمثيل بتلك الحالة الخسيسة. وهو مبتدأ وخبره "مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا" أي ذلك المثل الخسيس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا من اليهود بعد أن علموا بها وعرفوها فحرفوا وبدلوا وكتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبوا بها "فاقصص القصص" أي فاقصص عليهم هذا القصص الذي هو صفة الرجل المنسلخ عن الآيات فإن مثله المذكور كمثل هؤلاء القوم المكذبين من اليهود الذي تقص عليهم "لعلهم يتفكرون" في ذلك ويعملون فيه أفهامهم فينزجرون عن الضلال ويقبلون على الصواب.
قوله: 177- "ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا" هذه الجملة متضمنة لبيان حال هؤلاء القوم البالغة في القبح إلى الغاية: يقال: ساء الشيء قبح، فهو لازم، وساءه يسوؤه مساءة: فهو متعد وهو من أفعال الذم: كبئس، وفاعله ضمير مستتر فيه، ومثلاً تمييز مفسر له والمخصوص بالذم هو الذين كذبوا بآياتنا، ولا بد من تقدير مضاف محذوف لأجل المطابقة أي ساء مثلاً مثل القوم الذين كذبوا. وقال الأخفش: جعل المثل القوم مجازاً، والقوم مرفوع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ التقدير: ساء المثل مثلاً هو مثل القوم، كذا قال. وقدره أبو علي الفارسي: ساء مثلاً مثل القوم كما قدمنا. وقرأ الجحدري والأعمش " ساء مثلا القوم ". قوله: "وأنفسهم كانوا يظلمون" أي ما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم لا يتعداها ظلمهم إلى غيرها ولا يتجاوزها، والجملة معطوفة على التي قبلها على معنى أنهم جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم.
178- "من يهد الله فهو المهتدي" لما أمر به وشرعه لعباده "ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون" الكاملون في الخسران، من هداه فلا مضل له، ومن أضله فلا هادي له: ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقد أخرج الفريابي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا" قال: هو رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم بن آبز. وأخرج ابن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: هو بلعم بن باعوراء، وفي لفظ: بلعام بن باعر الذي أوتي الاسم كان في بني إسرائيل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا" قال: هو رجل من مدينة الجبارين يقال له: بلعم، تعلم اسم الله الأكبر، فلما نزل بهم موسى أتاه بنو عمه وقومه فقالوا: إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه، قال: إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه مضت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا الله فسلخ ما كان فيه. وفي قوله: "إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" قال: إن حمل الحكمة لم يحملها، وإن ترك لم يهت لخير كالكلب إن كان رابضاً لهث وإن يطرد لهث. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في الآية قال: هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت: اجعل لي منها واحدة، قال: فلك واحدة فما الذي تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا الله فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئاً آخر، فدعا الله أن يجعلها كلبة فصارت كلبة، فذهبت دعوتان، فجاء بنوها فقالوا: ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليه فدعا الله فعادت كما كانت فذهبت الدعوات الثلاث وسميت البسوس. وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو في الآية قال: هو أمية بن أبي الصلت الثقفي، وفي لفظ: نزلت في صاحبكم أمية بن أبي الصلت. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عنه نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الشعبي في هذه الآية قال: قال ابن عباس: هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعام بن باعوراء، وكانت الأنصار تقول: هو ابن الراهب الذي بنى له مسجد الشقاق، وكانت ثقيف تقول: هو أمية بن أبي الصلت. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هو صيفي بن الراهب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله: "فانسلخ منها" قال: نزع منه العلم. وفي قوله: "ولو شئنا لرفعناه بها" قال: رفعه الله بعلمه. وأخرج مسلم والنسائي وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن جابر بن عبد الله قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول:من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" ثم يقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين".