تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 174 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 174

173

179- "ولقد ذرأنا" أي خلقنا. وقد تقدم بيان أصل معناه مستوفى، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها "لجهنم" أي للتعذيب بها "كثيراً" أي خلقاً كثيراً "من الجن والإنس" أي من طائفتي الجن والإنس جعلهم سبحانه للنار بعدله وبعمل أهلها يعملون. وقد علم ما هم عاملون قبل كونهم كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، ثم وصف هؤلاء فقال: "لهم قلوب لا يفقهون بها" كما يفقه غيرهم بعقولهم، وجملة "لا يفقهون بها" في محل رفع على أنها صفة لقلوب، وجملة "لهم قلوب" في محل نصب صفة لكثيراً جعل سبحانه قلوبهم لما كانت غير فاقهة لما فيه نفعهم وإرشادهم غير فاقهة مطلقاً وإن كانت تفقه في غير ما فيه النفع والرشاد فهو كالعدم، وهكذا معنى "ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها" فإن الذي انتفى من الأعين هو إبصار ما فيه الهداية بالتفكر والاعتبار وإن كانت مبصرة في غير ذلك، والذي انتفى من الآذان هو سماع المواعظ النافعة، والشرائع التي اشتملت عليها الكتب المنزلة، وما جاءت به رسل الله، وإن كانوا يسمعون غير ذلك، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى هؤلاء المتصفين بهذه الأوصاف كالأنعام في انتفاء انتفاعهم بههذ المشاعر، ثم حكم عليهم بأنهم أضل منها، لأنها تدرك بهذه الأمور ما ينفعها ويضرها فتنتفع بما ينفع، وتجتنب ما يضر، وهؤلاء لا يميزون بين ما ينفع وما يضر باعتبار ما طلبه الله منهم وكلفهم به، ثم حكم عليهم بالغفلة الكاملة لما هو عليه من عدم التمييز الذي هو من شأن من له عقل وبصر وسمع. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولقد ذرأنا" قال: خلقنا. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن في الآية قال: خلقنا لجهنم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن النجار عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لما ذرأ لجهنم من ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم". وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "ولقد ذرأنا لجهنم" قال: لقد خلقنا لجهنم "لهم قلوب لا يفقهون بها" قال: لا يفقهون شيئاً من أمور الحياة "ولهم أعين لا يبصرون بها" الهدى "ولهم آذان لا يسمعون بها" الحق، ثم جعلهم كالأنعام، ثم جعلهم شراً من الأنعام، فقال: "بل هم أضل" ثم أخبر أنهم الغافلون.
هذه الآية مشتملة على الإخبار من الله سبحانه بما له من الأسماء على الجملة دون التفصيل، والحسنى تأنيث الأحسن: أي التي هي أحسن الأسماء لدلالتها على أحسن مسمى وأشرف مدلول، ثم أمرهم بأن يدعوه بها عند الحاجة فإنه إذا دعي بأحسن أسمائه كان ذلك من أسباب الإجابة، وقد ثبت في الصحيح: "إن لله تسعة وتسعين إسماً من أحصاها دخل الجنة" وسيأتي أيضاً بيان عددها آخر البحث إن شاء الله. قوله: 180- "وذروا الذين يلحدون في أسمائه" الإلحاد: الميل وترك القصد، يقال: لحد الرجل في الدين وألحد: إذا مال، ومنه اللحد في القبر لأنه في ناحية، وقرئ يلحدون وهما لغتان، والإلحاد في أسمائه سبحانه يكون على ثلاثة أوجه: إما بالتغيير كما فعله المشركون فإنهم أخذوا اسم اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان، أو بالزيادة عليها بأن يخترعوا أسماء من عندهم لم يأذن الله بها، أو بالنقصان منها بأن يدعوه ببعضها دون بعض ومعنى "وذروا الذين يلحدون" أتركوهم ولا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم، وعلى هذا المعنى فالآية منسوخة بآيات القتال، وقيل معناه: الوعيد كقوله تعالى: "ذرني ومن خلقت وحيداً"، وقوله: "ذرهم يأكلوا ويتمتعوا" وهذا أولى لقوله: "سيجزون ما كانوا يعملون" فإنه وعيد لهم بنزول العقوبة وتحذير للمسلمين أن يفعلوا كفعلهم. وقد ذكر مقاتل وغيره من المفسرين أن هذه الآية نزلت في رجل من المسلمين كان يقول في صلاته يا رحمن يا رحيم، فقال رجل من المشركين: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟ حكى ذلك القرطبي. وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وأبو عوانة وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر". وفي لفظ ابن مردويه وأبي نعيم: "من دعى بها استجاب الله دعاءه". وزاد الترمذي في سننه بعد قوله يحب الوتر: "هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور". هكذا أخرج الترمذي هذه الزيادة عن الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعة وقال: هذا حديث غريب. وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة، ولا يعلم في كثير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. ورواه ابن حبان في صحيحه وابن خزيمة والحاكم من طريق صفوان بإسناده السابق. ورواه ابن ماجه في سننه من طريق أخرى عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً فسرد الأسماء المتقدمة بزيادة ونقصان. قال ابن كثير في تفسيره والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه. وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك: أي أنهم جمعوها من القرآن كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي. قال: ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في التسعة والتسعين بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن يزيد بن هارون عن فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك وابن عبدك وأمتك، ناصيتي بيدك ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجاً، فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها". وقد أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبان في صحيحه بمثله انتهى. وأخرجه البيهقي أيضاً في الأسماء والصفات. قال ابن حزم: جاءت في إحصائها، يعني الأسماء الحسنى أحاديث مضطربة لا يصح منها شيء أصلاً. وقد أخرجها بهذا العدد الذي أخرجه الترمذي وابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكراه، ولا أدري كيف إسناده. وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني كلاهما في الدعاء وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أبي هريرة: إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة: أسأل الله الرحمن، الرحيم، الإله، الرب، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الحليم، العليم، السميع، البصير، الحي، القيوم، الواسع، اللطيف، الخبير، الحنان، المنان، البديع، الغفور، الودود، الشكور، المجيد، المبدئ، المعيد، النور، البارئ، وفي لفظ: القائم، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، العفو، الغفار، الوهاب، الفرد، وفي لفظ: القادر، الأحد الصمد، الوكيل، الكافي، الباقي، المغيث، الدائم المتعالي، ذا الجلال والإكرام، المولى، البصير، الحق، المتين، الوارث، المنير، الباعث، القدير، وفي لفظ: المجيب، المحيي، المميت، الحميد، وفي لفظ: الجميل، الصادق، الحفيظ، المحيط، الكبير، القريب، الرقيب، الفتاح، التواب، القديم، الوتر، الفاطر، الرزاق، العلام، العلي، العظيم، الغني، الملك، المقتدر، الأكرم، الرؤوف، المدبر، المالك، القاهر، الهادي، الشاكر، الكريم، الرفيع، الشهيد، الواحد، ذا الطول، ذا المعارج، ذا الفضل، الخلاق، الكفيل، الجليل. وأخرج أبو نعيم عن محمد بن جعفر قال: سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة؟ فقال: هي في القرآن، ففي الفاتحة خمسة أسماء: يا الله، يارب، يا رحمن، يا رحيم، يا ملك، وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسماً: يا محيط، يا قدير، يا عليم، يا حكيم، يا علي، يا عظيم، يا تواب، يا بصير، يا ولي، يا واسع، يا كافي، يا رؤوف، يا بديع، يا شاكر، يا واحد، يا سميع، يا قابض، يا مجيب، يا عزيز، يا نصير، يا قوي، يا شديد، يا سريع، يا خبير، وفي آل عمران: يا وهاب، يا قائم، يا صادق، يا باعث، يا منعم، يا متفضل، وفي النساء: يا رقيب، يا حسيب، يا شهيد، يا مقيت، يا وكيل، يا علي، يا كبير، وفي الأنعام: يا فاطر، يا قاهر، يا لطيف، يا برهان، وفي الأعراف: يا محيي، يا مميت، وفي الأنفال: يا نعم المولى، ويا نعم النصير، وفي هود: يا حفيظ، يا مجيد، يا ودود، يا فعال لما تريد، وفي الرعد: يا كبير، يا متعالي، وفي إبراهيم: يا منان، يا وارث، وفي الحجر: يا خلاق، وفي مريم: يا فرد، وفي طه: يا غفار، وفي قد أفلح، يا كريم، وفي النور: يا حق، يا مبين، وفي الفرقان: يا هادي، وفي سبأ: يا فتاح، وفي الزمر: يا عالم، وفي غافر: يا قابل التوب، يا ذا الطول، يا رفيع، وفي الذاريات: يا رزاق، يا ذا القوة، يا متين، وفي الطور: يا بر، وفي اقتربت: يا مقتدر، يا مليك، وفي الرحمن: يا ذا الجلال والإكرام، يا رب المشرقين، يا رب المغربين، يا باقي، يا معين، وفي الحديد: يا أول، يا آخر، يا ظاهر، يا باطن، وفي الحشر: يا ملك، يا قدوس، يا سلام، يا مؤمن، يا مهيمن، يا عزيز، يا جبار، يا متكبر، يا خالق، يا بارئ، يا مصور، وفي البروج: يا مبدئ، يا معيد، وفي الفجر: يا وتر، وفي الإخلاص: يا أحد، يا صمد انتهى. وقد ذكر ابن حجر في التلخيص أنه تتبعها من الكتاب العزيز إلى أن حررها منه تسعة وتسعين ثم سردها فابحثه. ويؤيد هذا ما أخرجه أبو نعيم عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة، وهي في القرآن". وأخرج البيهقي عن عائشة "أنها قالت: يا رسول الله علمني اسم الله الذي إذا دعي به أجاب، قال لها: قومي فتوضئي وادخلي المسجد فصلي ركعتين ثم ادعي حتى أسمع، ففعلت، فلما جلست للدعاء قال النبي صلى الله عليه وسلم:اللهم وفقها فقالت: اللهم إني أسألك بجميع أسمائك الحسنى كلها ما علمنا منها وما لم نعلم، وأسألك باسمك العظيم الأعظم الكبير الأكبر الذي من دعاك به أجبته، ومن سألك به أعطيته، قال النبي:أصبتيه أصبتيه". وقد أطال أهل العلم الكلام على الأسماء الحسنى حتى أن ابن العربي في شرح الترمذي حكى عن بعض أهل العلم أنه جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وذروا الذين يلحدون في أسمائه" قال: الإلحاد، أن يدعو اللات والعزى في أسماء الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: الإلحاد التكذيب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في الآية قال: اشتقوا العزى من العزيز، واشتقوا اللات من الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في الآية قال: الإلحاد المضاهاة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش أنه قرأ يلحدون من لحد، وقال تفسيرها: يدخلون فيها ما ليس منها. وأخرج عبد الرزاق وابن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال: يشركون.
قوله: 181- "وممن خلقنا" خبر مقدم و "أمة" مبتدأ مؤخر و "يهدون" وما بعده صفة له، ويجوز أن يكون "وممن خلقنا" هو المبتدأ كما تقدم في قوله: "ومن الناس من يقول" والمعنى: أن من جملة من خلقه الله أمة يهدون الناس متلبسين بالحق أو يهدونهم بماعرفون من الحق "و" بالحق "يعدلون" بينهم قيل: هم من هذه الأمة، وإنهم الفرقة الذين لا يزالون على الحق ظاهرين كما ورد في الحديث الصحيح.
ثم لما بين حال هذه الأمة الصالحة بين حال من يخالفهم فقال: 182- "والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" والاستدراج: هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة، والدرج: كف الشيء، يقال: أدرجته ودرجته، ومنه إدراج الميت في أكفانه، وقيل: هو من الدرجة، فالاستدراج: أن يخطو درجة بعد درجة إلى المقصود، ومنه درج الصبي: إذا قارب بين خطاه، وأدرج الكتاب: طواه شيئاً بعد شيء، ودرج القوم: مات بعضهم في أثر بعض، والمعنى: سنستدينهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم، وذلك بإدرار النعم عليهم وإنسائهم شكرها، فينهمكون في الغواية ويتنكبون طرق الهداية لاغترارهم بذلك وأنه لم يحصل لهم إلا بما لهم عند الله من المنزلة والزلفة.
قوله: 183- "وأملي لهم" معطوف على سنستدرجهم: أي أطيل لهم المدة وأمهلهم وأؤخر عنهم العقوبة، وجملة "إن كيدي متين" مقررة لما قبلها من الاستدراج والإملاء ومؤكدة له، والكيد: المكر، والمتين: الشديد القوي، وأصله من المتن وهو اللحم الغليظ الذي على جانب الصلب. قال في الكشاف: سماه كيداً، لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان.
والاستفهام في 184- " أولم يتفكروا " للإنكار عليهم حيث لم يتفكروا في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به و ما في "ما بصاحبهم" للاستفهام الإنكاري، وهي في محل رفع بالابتداء والخبر بصاحبهم، والجنة مصدر: أي وقع منهم التكذيب ولم يتفكروا أي شيء من جنون كائن بصاحبهم كما يزعمون، فإنهم لو تفكروا لوجدوا زعمهم باطلاً، وقولهم زوراً وبهتاً، وقيل إن ما نافية واسمها "من جنة" وخبرها بصاحبهم: أي ليس بصاحبهم شيء مما يدعونه من الجنون، فيكون هذا رداً لقولهم: "يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون" ويكون الكلام قد تم عند قوله: " أولم يتفكروا " والوقف عليه من الأوقاف الحسنة، وجملة "إن هو إلا نذير مبين" مقررة لمضمون ما قبلها، ومبينة لحقيقة حال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والاستفهام في 185- " أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض " للإنكار والتقريع والتوبيخ ولقصد التعجيب من إعراضهم عن النظر في الآيات البينة الدالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية، والملكوت من أبنية المبالغة، ومعناه الملك العظيم وقد تقدم بيانه، والمعنى: إن هؤلاء لم يتفكروا حتى ينتفعوا بالتفكر، ولا نظروا في مخلوقات الله حتى يهتدوا بذلك إلى الإيمان به، بل هم سادرون في ضلالتهم خائضون في غوايتهم لا يعملون فكراً ولا يمعنون نظراً. قوله: "وما خلق الله من شيء" أي لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ولا فيما خلق الله من شيء من الأشياء كائناً ما كان، فإن في كل مخلوقاته عبرة للمعتبرين وموعظة للمتفكرين، سواء كانت من جلائل مصنوعاته كملكوت السموات والأرض، أو من دقائقها من سائر مخلوقاته. قوله: "وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم" معطوف على ملكوت وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وخبرها عسى وما بعدها: أي أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فيموتون عن قريب. والمعنى: إنهم إذا كانوا يجوزون قرب آجالهم فما لهم لا ينظرون فيما يهتدون به وينتفعون بالتفكر فيه والاعتبار به "فبأي حديث بعده يؤمنون" الضمير يرجع إلى ما تقدم من التفكر والنظر في الأمور المذكورة: أي فبأي حديث بعد هذا الحديث المتقدم بيانه يؤمنون؟ وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره، وقيل الضمير للقرآن، وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل للأجل المذكور قبله.
وجملة 186- "من يضلل الله فلا هادي له" مقررة لما قبلها: أي إن هذه الغفلة منهم عن هذه الأمور الواضحة البينة ليس إلا لكونهم ممن أضله الله ومن يضلله فلا هادي له: أي فلا يوجد من يهديه إلى الحق وينزعه عن الضلالة ألبتة "ويذرهم في طغيانهم يعمهون" قرئ بالرفع على الاستئناف وبالجزم عطفاً على محل الجزاء، وقرئ بالنون، ومعنى يعمهون: يتحيرون، وقيل يترددون وهو في محل نصب على الحال. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: "وممن خلقنا أمة يهدون بالحق" قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذه أمتي بالحق يحكمون ويقضون ويأخذون ويعطون". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأها: "هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها، "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون"". وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى نزل". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" يقول: سنأخذهم من حيث لا يعلمون، قال: عذاب بدر. وأخرج أبو الشيخ عن يحيى بن المثنى في الآية قال: كلما أحدثوا ذنباً جددنا لهم نعمة تنسيهم الاستغفار. وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن سفيان في الآية قال: نسبغ عليهم النعمة ونمنعهم شكرها. وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن ثابت البناني أنه سئل عن الاستدراج فقال: ذلك مكر الله بالعباد المضيعين. وأخرج أبو الشيخ في قوله: "وأملي لهم" يقول: أكف عنهم "إن كيدي متين" إن مكري شديد، ثم نسخها الله فأنزل: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كيد الله العذاب والنقمة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: ذكر لنا "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قام على الصفا، فدعا قريشاً فخذاً فخذاً: يا بني فلان يا بني فلان، يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائل: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت حتى أصبح، فأنزل الله: " أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين "".
قوله: 187- "يسألونك عن الساعة" السائلون: هم اليهود، وقيل قريش، والساعة: القيامة وهي من الأسماء الغالبة، وإطلاقها على القيامة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها، وأيان ظرف زمان مبني على الفتح. قال الراجز: أيان تقضي حاجتي أيانا أما ترى لنجحها أوانــا ومعناه معنى متى، واشتقاقه من أي: وقيل من أين. وقرأ السلمي إيان بكسر الهمزة وهو في موضع رفع على الخبر، و "مرساها" المبتدأ عند سيبويه، ومرساها بضم الميم: أي وقت إرسائها من أرساها الله: أي أثبها، وبفتح الميم من رست: أي ثبتت، ومنه "وقدور راسيات"، ومنه رسا الجبل. والمعنى: متى يرسيها الله: أي يثبتها ويوقعها، وظاهر "يسألونك عن الساعة" أن السؤال عن نفس الساعة، وظاهر "أيان مرساها" أن السؤال عن وقتها، فحصل من الجميع أن السؤال المذكور هو عن الساعة باعتبار وقوعها في الوقت المعين لذلك، ثم أمره الله سبحانه بأن يجيب عنهم بقوله: "قل إنما علمها عند ربي" أي علمها باعتبار وقوعها عند الله لا يعلمها غيره ولا يهتدي إليها سواه "لا يجليها لوقتها إلا هو" أي لا يظهرها لوقتها ولا يكشف عنها إلا الله سبحانه، والتجلية: إظهار الشيء، يقال: جلى لي فلان الخبر: إذا أظهره وأوضحه، وفي استئثار الله سبحانه بعلم الساعة حكمة عظيمة وتدبير بليغ كسائر الأشياء التي أخفاها الله واستأثر بعلمها. وهذه الجملة مقررة لمضمون التي قبلها. قوله: "ثقلت في السموات والأرض" قيل معنى ذلك: أنه لما خفي علمها على أهل السموات والأرض كانت ثقيلة، لأن كل ما خفي علمه ثقيل على القلوب، وقيل المعنى: لا تطيقها السموات والأرض لعظمها، لأن السماء تنشق، والنجوم تتناثر، والبحار تنضب، وقيل عظم وصفها عليهم، وقيل ثقلت المسألة عنها، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها أيضاً "لا تأتيكم إلا بغتة" إلا فجأة على غفلة، والبغتة، مصدر في موضع الحال، وهذه الجملة كالتي قبلها في التقرير. قوله: "يسألونك كأنك حفي عنها". قال ابن فارس: الحفي العالم بالشيء، والحفي المستقصي في السؤال، ومنه قول الأعشى: فإن تسألي عني فيا رب سائل حفي عن الأعشى به حيث أصعدا يقال: أحفى في المسألة وفي الطلب فهو محف، وحفي على التكثير مثل مخصب وخصيب. والمعنى: يسألونك عن الساعة كأنك عالم بها، أو كأنه مستقص للسؤال عنها ومستكثر منه، والجملة التشبيهية في محل نصب على الحال أي يسألونك مشبهاً حالك حال من هو حفي عنها، وقيل المعنى: يسألونك عنها كأنك حفي بهم: أي حفي ببرهم وفرح بسؤالهم. والأول هو معنى النظم القرآني على مقتضى المسلك العربي. قوله: "قل إنما علمها عند ربي" أمره الله سبحانه بأن يكرر ما أجاب عليهم سابقاً لتقرير الحكم وتأكيده، وقيل ليس بتكرير، بل أحدهما معناه الاستئثار بوقوعها، والآخر الاستئثار بكنهها نفسها " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " باستئثار الله بهذا وعدم علم خلقه به، لم يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل.