تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 179 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 179

178

قوله: 17- "فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم" الفاء جواب شرط مقدر: أي إذا عرفتم ما قصه الله عليكم من إمداده لكم بالملائكة وإيقاع الرعب في قلوبهم فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم بما يسره لكم من الأسباب الموجبة للنصر. قوله: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى". اختلف المفسرون في هذا الرمي على أقوال: فروي عن مالك أن المراد به ما كان منه صلى الله عليه وسلم في يوم حنين، فإنه رمى المشركين بقبضة من حصباء الوادي فأصابت كل واحد منهم، وقيل: المراد به الرمية التي رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن خلف بالحربة في عنقه فانهزم ومات منها، وقيل: المراد به السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر، فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهو على فراشه وهذه الأقوال ضعيفة، فإن الآية نزلت عقب وقعة بدر. وأيضاً المشهور في كتب السير والحديث في قتل ابن أبي الحقيق أنه وقع على صورة غير هذه الصورة. والصحيح كما قال ابن إسحاق وغيره أن المراد بالرمي المذكور في هذه الآية هو ما كان منه صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، فإنه أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه المشركين فأصابت كل واحد منهم ودخلت في عينيه ومنخريه وأنفه. قال ثعلب: المعنى "وما رميت" الفزع والرعب في قلوبهم "إذ رميت" بالحصباء فانهزموا "ولكن الله رمى" أي أعانك وأظفرك، والعرب تقول: رمى الله لك: أي أعانك وأظفرك وصنع لك. وقد حكى مثل هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز. وقال محمد بن يزيد المبرد: المعنى "وما رميت" بقوتك "إذ رميت" ولكنك بقوة الله رميت، وقيل المعنى: إن تلك الرمية بالقبضة من التراب التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه لأن أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله عز وجل فكأن الله فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم اصلاً هكذا في الكشاف. قوله: "وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً" البلاء هاهنا النعمة، والمعنى: ولينعم على المؤمنين إنعاماً جميلاً، واللام متعلقة بمحذوف: أي وللإنعام عليهم بنعمه الجميلة فعل ذلك لا لغيره، أو الواو عاطفة لما بعدها على علة مقدرة قبلها: أي ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً "إن الله سميع عليم" لدعائهم عليم بأحوالهم.
والإشارة بقوله ذلكم إلى البلاء الحسن، وهو في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف: أي الغرض 18- "ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين" أي إن الغرض منه سبحانه بما وقع مما حكته الآيات السابقة إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين، وقيل المشار إليه القتل والرمي. وقد قرئ بتشديد الهاء وتخفيفها مع التنوين. وقرأ الحسن بتخفيف الهاء مع الإضافة. والكيد: المكر، وقد تقدم بيانه. وقد أخرج البخاري في تاريخه والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن نافع أنه سأل ابن عمر قال: إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا ولا ندري من الفئة أمامنا أو عسكرنا؟ فقال لي: الفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن الله يقول: "إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار" قال: إنما نزلت هذه الآية في أهل بدر لا قبلها ولا بعدها. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري في قوله: "ومن يولهم يومئذ دبره" الآية قال: إنها كانت لأهل بدر خاصة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال: لا تغرنكم هذه الآية فإنما كانت يوم بدر وأنا فئة لكل مسلم. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: نزلت في أهل بدر خاصة ما كان لهم أن ينهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتركوه. وقد روى اختصاص هذه الآية بأهل بدر عن جماعة من التابعين ومن بعدهم وقد قدمنا الإشارة إلى ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: "إلا متحرفاً لقتال" يعني مستطرداً يريد الكرة على المشركين "أو متحيزاً إلى فئة" يعني أو ينحاز إلى أصحابه من غير هزيمة "فقد باء بغضب من الله" يقول: استوجبوا سخطاً من الله "ومأواه جهنم وبئس المصير" فهذا يوم بدر خاصة كان شديداً على المسلمين يومئذ ليقطع دابر الكافرين وهو أول قتال قاتل المشركين من أهل مكة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: المتحرف المتقدم من أصحابه أن يرى عورة من العدو فيصيبها. والمتحيز: الفار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك من فر اليوم إلى أميره وأصحابه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عطاء بن أبي رباح في قوله: "ومن يولهم يومئذ دبره" قال: هذه الآية منسوخة بالآية التي في الأنفال "الآن خفف الله عنكم" الآية. وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري في الأدب المفرد واللفظ له، وأبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر قال:" كنا في غزاة فحاص الناس حيصة، قلنا: كيف نلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب فأتينا رسول الله قبل صلاة الفجر، فخرج فقال:من القوم؟ فقلنا: نحن الفرارون، فقال: لا، بل أنتم العكارون، فقبلنا يده فقال: أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين، ثم قرأ: "إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة"". وقد روي في تحريم الفرار من الزحف، وأنه من الكبائر أحاديث، وورد عن جماعة من الصحابة أنه من الكبائر كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "فلم تقتلوهم" قال لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: هذا قتلت وهذا قتلت "وما رميت إذ رميت" قال لمحمد صلى الله عليه وسلم حين حصب الكفار. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "وما رميت إذ رميت" قال: رماهم يوم بدر بالحصباء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن حكيم بن حزام قال:" لما كان يوم بدر سمعنا صوتاً من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصباء وقال:شاهت الوجوه فانهزمنا، فذلك قوله تعالى: "وما رميت إذ رميت" الآية". وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن جابر قال: سمعت صوت حصيات وقعن من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست، فلما اصطف الناس أخذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بهن في وجوه المشركين فانهزموا، فذلك قوله: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى". وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه "عن ابن عباس في قوله: "وما رميت إذ رميت" قال: قال رسول الله لعلي:ناولي قبضة من حصباء، فناوله فرمى بها في وجوه القوم فما بقي أحد من القوم إلا امتلأت عيناه عن الحصباء فنزلت هذه الآية: "وما رميت إذ رميت"". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال:" لما كان يوم أحد أخذ أبي بن خلف يركض فرسه حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترض رجال من المسلمين لأبي بن خلف ليقتلوه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:استأخروا، فاستأخروا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حربته في يده فرمى بها أبي بن خلف وكسر ضلعاً من أضلاعه، فرجع أبي بن خلف إلى أصحابه ثقيلاً، فاحتملوه حين ولوا قافلين فطفقوا يقولون لا بأس، فقال أبي حين قالوا له ذلك: والله لو كانت بالناس لقتلتهم، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله، فانطلق به أصحابه ينعشونه حتى مات ببعض الطريق فدفنوه". قال ابن المسيب: وفي ذلك أنزل الله "وما رميت إذ رميت". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب والزهري نحوه، وإسناده صحيح إليهما، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك. قال ابن كثير: وهذا القول عن هذين الإمامين غريب جداً، ولعلهما أرادا أن الآية تتناولهما بعمومهما، وهكذا قال فيما قاله عبد الرحمن بن جبير كما سيأتي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن جبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق دعا بقوس فرمى بها الحصن، فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه، فأنزل الله: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى". وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير في قوله: "ولكن الله رمى" أي لم يكن ذلك برميتك لولا الذي جعل الله من نصرك وما ألقى في صدور عدوك حتى هزمهم "وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً" أي ليعرف المؤمنين من نعمته عليهم في إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم وقلة عددهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته.
الاستفتاح: طلب النصر، وقد اختلف في المخاطبين بالآية من هم؟ فقيل: إنها خطاب للكفار تهكماً بهم، والمعنى: إن تستنصروا الله على محمد فقد جاءكم النصر، وقد كانوا عند خروجهم من مكة سألوا الله أن ينصر أحق الطائفتين بالنصر فتهكم الله بهم، وسمى ما حل بهم من الهلاك نصراً، ومعنى بقية الآية على هذا القول "وإن تنتهوا" عما كنتم عليه من الكفر والعداوة لرسول الله "فهو" أي الانتهاء "خير لكم وإن تعودوا" إلى ما كنتم عليه من الكفر والعداوة "نعد" بتسليط المؤمنين عليكم ونصرهم كما سلطناهم ونصرناهم في يوم بدر "ولن تغني عنكم فئتكم" أي جماعتكم "شيئاً ولو كثرت" أي لا تغني عنكم في حال من الأحوال ولو في حال كثرتها، ثم قال: "وأن الله مع المؤمنين" ومن كان الله معه فهو المنصور ومن كان الله عليه فهو المخذول. قرئ بكسر إن وفتحها فالكسر على الاستئناف، والفتح على تقدير: ولأن الله مع المؤمنين فعل ذلك. وقيل: إن الآية خطاب للمؤمنين، والمعنى إن تستنصروا الله فقد جاءكم النصر في يوم بدر، وإن تنتهوا عن مثل ما فعلتموه من أخذ الغنائم وفداء الأسرى قبل الإذن لكم بذلك فهو خير لكم، وإن تعودوا إلى مثل ذلك نعد إلى توبيخكم كما في قوله: "لولا كتاب من الله سبق" الآية، ولا يخفى أنه يأبى هذا القول معنى "ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً" ويأباه أيضاً "وأن الله مع المؤمنين" وتوجيه ذلك لا يمكن إلا بتكلف وتعسف وقيل: إن الخطاب في "إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح" للمؤمنين وما بعده للكافرين، ولا يخفى ما في هذا من تفكيك النظم وعود الضمائر الجارية في الكلام على نمط واحد إلى طائفتين مختلفتين. وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن منده والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير أن أبا جهل قال حين التقى القوم: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة، فكان ذلك استفتاحاً منه فنزلت "إن تستفتحوا" الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية قال: قال أبو جهل يوم بدر: اللهم انصر أهدى الفئتين، وأفضل الفئتين، وخير الفئتين، فنزلت الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح" قال: كفار قريش في قولهم: ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه، ففتح بينهم يوم بدر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة في قوله: "إن تستفتحوا" قال: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء في يوم بدر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وإن تنتهوا" قال: عن قتال محمد صلى الله عليه وسلم "وإن تعودوا نعد" قال: إن تستفتحوا الثانية أفتح لمحمد "وأن الله مع المؤمنين" قال: مع محمد وأصحابه. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة "وإن تعودوا نعد" يقول: نعد لكم بالأسر والقتل.
أمر الله سبحانه المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ونهاهم عن التولي عن رسوله، فالضمير في 20- "عنه" عائد إلى الرسول، لأن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي من طاعة الله، و "من يطع الرسول فقد أطاع الله" ويحتمل أن يكون هذا الضمير راجعاً إلى الله وإلى رسوله كما في قوله: "والله ورسوله أحق أن يرضوه" وقيل: الضمير راجع إلى الأمر الذي دل عليه أطيعوا، وأصل تولوا تتولوا، فطرحت إحدى التاءين، هذا تفسير الآية على ظاهر الخطاب للمؤمنين، وبه قال الجمهور، وقيل: إنه خطاب للمنافقين، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم فقط. قال ابن عطية: وهذا وإن كان محتملاً على بعد فهو ضعيف جداً، لأن الله وصف من خاطبه في هذه الآية بالإيمان وهو التصديق، والمنافقون لا يتصفون من التصديق بشيء، وأبعد من هذا من قال: الخطاب لبني إسرائيل، فإنه أجنبي من الآية، وجملة "وأنتم تسمعون" في محل نصب على الحال، والمعنى: وأنتم تسمعون ما يتلى عليكم من الحجج والبراهين وتصدقون بها ولستم كالصم والبكم.
21- "ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا" وهم المشركون أو المنافقون أو اليهود أو الجميع من هؤلاء، فإنهم يسمعون بآذانهم من غير فهم ولا عمل، فهم كالذي لم يسمع أصلاً لأنه لم ينتفع بما سمعه.
ثم أخبر سبحانه بـ 22- "إن شر الدواب" أي ما دب على الأرض "عند الله" أي في حكمه "الصم البكم" أي الذين لا يسمعون ولا ينطقون، وصفوا بذلك مع كونهم ممن يسمع وينطق لعدم انتفاعهم بالسمع والنطق "الذين لا يعقلون" ما فيه النفع لهم فيأتونه، وما فيه الضرر عليهم فيجتنبونه فهم شر الدواب عند الله، لأنها تميز بعض تمييز، وتفرق بين ما ينفعها ويضرها.
23- "ولو علم الله فيهم" أي في هؤلاء الصم البكم "خيراً لأسمعهم" جواب كل ما سألوا عنه، وقيل "لأسمعهم" كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم لأنهم طلبوا إحياء قصي بن كلاب وغيره ليشهدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم "ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون" لأنه قد سبق في علمه أنهم لا يؤمنون وجملة " وتراهم يعرضون " في محل نصب على الحال. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وهم لا يسمعون" قال: غاضبون. وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله: "إن شر الدواب عند الله" الآية قال: إن هذه الآية نزلت في فلان وأصحاب له. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "إن شر الدواب عند الله" قال: هم نفر من قريش من بني عبد الدار. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "الصم البكم الذين لا يعقلون" قال: لا يتبعون الحق. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث وقومه، ولعله المكنى عنه بفلان فيما تقدم من قول علي رضي الله عنه. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير في قوله: "ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم" أي لأنفذ لهم قولهم الذي قالوا بألسنتهم، ولكن القلوب خالفت ذلك منهم. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال: قالوا نحن صم عما يدعونا إليه محمد لا نسمعه، بكم لا نجيبه فيه بتصديق قتلوا جميعاً بأحد، وكانوا أصحاب اللواء يوم أحد.
الأمر هنا بالاستجابة مؤكد لما سبق من الأمر بالطاعة، ووحد الضمير هنا حيث قال: "إذا دعاكم" كما وحده في قوله: " ولا تتولوا " وقد قدمنا الكلام في وجه ذلك، والاستجابة: الطاعة. قال أبو عبيدة: معنى استجيبوا: أجيبوا، وإن كان استجاب يتعدى باللام، وأجاب بنفسه كما في قوله: "يا قومنا أجيبوا داعي الله"، وقد يتعدى استجاب بنفسه كما قول الشاعر: وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب "إذا دعاكم لما يحييكم" اللام متعلقة بقوله: "استجيبوا" أي استجيبوا لما يحييكم إذا دعاكم، ولا مانع من أن تكون متعلقة بدعا: أي إذا دعاكم إلى ما فيه حياتكم من علوم الشريعة، فإن العلم حياة كما أن الجهل موت، فالحياة هنا مستعارة للعلم. قال الجمهور من المفسرين: المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي ففيه الحياة الأبدية والنعمة السرمدية، وقيل: المراد بقوله: "لما يحييكم" الجهاد فإنه سبب الحياة في الظاهر، لأن العدو إذا لم يغز غزا، ويستدل بهذا الأمر بالاستجابة على أنه يجب على كل مسلم إذا بلغه قول الله أو قول رسوله في حكم من الأحكام الشرعية أن يبادر إلى العمل به كائناً ما كان ويدع ما خالفه من الرأي وأقوال الرجال. وفي هذه الآية الشريفة أعظم باعث على العمل بنصوص الأدلة وترك التقيد بالمذاهب، وعدم الاعتداد بما يخالف ما في الكتاب والسنة كائناً ما كان. قوله: "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه" قيل معناه: بادروا إلى الاستجابة قبل أن لا تتمكنوا منها بزوال القلوب التي تعقلون بها بالموت الذي كتبه الله عليكم، وقيل معناه: إنه خاف المسلمون يوم بدر كثرة العدو، فأعلمهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدلهم بعد الخوف أمناً، ويبدل عدوهم من الأمن خوفاً، وقيل: هو من باب التمثيل لقربه سبحانه من العبد كقوله: "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" ومعناه: أنه مطلع على ضمائر القلوب لا تخفى عليه منها خافية. واختار ابن جرير أن هذا من باب الإخبار من الله عز وجل بأنه أملك لقلوب عباده منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئته عز وجل، ولا يخفاك أنه لا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني "وأنه إليه تحشرون" معطوف على " أن الله يحول بين المرء وقلبه " وأنكم محشورون إليه وهو مجازيكم بالخير خيراً، وبالشر شراً. قال الفراء: ولو استأنفت فكسرت همزة "إنه" لكان صواباً، ولعل مراده أن مثل هذا جائز في العربية.
قوله: 25- "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" أي اتقوا فتنة تتعدى الظالم فتصيب الصالح والطالح، ولا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم. وقد اختلف النحاة في دخول هذه النون المؤكدة في "تصيبن" فقال الفراء: هو بمنزلة قولك: انزل عن الدابة لا تطرحنك فهو جواب الأمر بلفظ النهي: أي إن تنزل عنها لا تطرحنك، ومثله قوله تعالى: "ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده" أي إن تدخلوا لا يحطمنكم، فدخلت النون لما فيه من معنى الجزاء. وقال المبرد: إنه نهي بعد أمر. والمعنى: النهي للظالمين: أي لا يقربن الظلم، ومثله ما روي عن سيبويه: لا أرينك هاهنا، فإن معناه: لا تكن هاهنا، فإن من كان هاهنا رأيته. وقال الجرجاني: إن لا تصيبن نهي في موضع وصف لفتنة، وقرأ علي وزيد بن أبي ثابت وأبي وابن مسعود " لا تصيبن " على أن اللام جواب لقسم محذوف، والتقدير: اتقوا فتنة والله لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، فيكون معنى هذه القراءة مخالفاً لمعنى قراءة الجماعة، لأنها تفيد أن الفتنة تصيب الظالم خاصة بخلاف قراءة الجماعة. "واعلموا أن الله شديد العقاب" ومن شدة عقابه أنه يصيب بالعذاب من لم يباشر أسبابه، وقد وردت الآيات القرآنية بأنه لا يصاب أحد إلا بذنبه، ولا يعذب إلا بجنايته، فيمكن حمل ما في هذه الآية على العقوبات التي تكون بتسليط العباد بعضهم على بعض، ويمكن أن تكون هذه الآية خاصة بالعقوبات العامة، والله أعلم، ويمكن أن يقال: إن الذين لم يظلموا قد تسببوا للعقوبة بأسباب كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتكون الإصابة المتعدية للظالم إلى غيره مختصة بمن ترك ما يجب عليه عند ظهور الظلم. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "إذا دعاكم لما يحييكم" قال: للحق. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية: قال هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير في قوله: "إذا دعاكم لما يحييكم" أي للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقواكم بها بعد الضعف، ومنعكم بها من العذاب بعد القهر منهم لكم، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد بن المعلى قال:" كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال:ألم يقل الله تعالى: "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم"". الحديث، وفيه دليل على ما ذكرنا من أن الآية تعم كل دعاء من الله أو من رسوله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله: "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه" قال: يحول بين المؤمن وبين الكفر ومعاصي الله، ويحول بين الكافر وبين الإيمان وطاعة الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في الآية قال: علمه يحول بين المرء وقلبه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في الآية قال: يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في الآية قال: في القرب منه. وأخرج أحمد والبزار وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر عن مطرف قال: قلت للزبير يا أبا عبد الله ضيعتم الخليفة حتى قتل، ثم جئتم تطلبون بدمه. قال الزبير: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" ولم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: قرأ الزبير "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" قال: البلاء والأمر الذي هو كائن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الحسن في الآية قال: نزلت في علي وعثمان وطلحة والزبير. وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: نزلت في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي قال: نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا، فكان من المقتولين طلحة والزبير وهما من أهل بدر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال: تصيب الظالم والصالح عامة. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد مثله. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: هي مثل "يحول بين المرء وقلبه" حتى يتركه لا يعقل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب وقد وردت الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأن هذه الأمة إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر عمهم الله بعذاب من عنده.