تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 188 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 188

187

قوله: 7- "كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله" الاستفهام هنا للتعجب المتضمن للإنكار، وعهد اسم يكون. وفي خبره ثلاثة أوجه: الأول: أنه كيف، وقدم للاستفهام، والثاني: للمشركين، وعند على هذين ظرف للعهد، أو ليكون، أو صفة للعهد، والثالث: أن الخبر عند الله، وفي الآية إضمار. والمعنى: كيف يكون للمشركين عهد عند الله يأمنون به من عذابه، وقيل معنى الآية: محال أن يثبت لهؤلاء عهد وهم أضداد لكم مضمرون للغدر فلا يطمعوا في ذلك ولا يحدثوا به أنفسهم، ثم استدرك، فقال: "إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام" أي لكن الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ولم ينقضوا ولم ينكثوا فلا تقاتلوهم، فما داموا مستقيمين لكم على العهد الذي بينكم وبينهم "فاستقيموا لهم" قيل هم بنو بكر، وقيل بنو كنانة وبنو ضمرة، وفي ما وجهان: أحدهما: أنها مصدرية زمانية. والثاني: أنها شرطية، وفي قوله: "إن الله يحب المتقين" إشارة إلى أن الوفاء بالعهد والاستقامة عليه من أعمال المتقين، فيكون تعليلاً للأمر بالاستقامة.
قوله: 8- "كيف وإن يظهروا عليكم" أعاد الاستفهام التعجيبي للتأكيد والتقرير، والتقدير: كيف يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله؟ والحال أنهم إن يظهروا عليكم بالغلبة لكم "لا يرقبوا" أي لا يراعوا فيكم "إلا": أي عهداً "ولا ذمة". قال في الصحاح: الإل العهد والقرابة ومنه قول حسان: لعمرك أن إلك من قريش كإل السقب من رئل النعام قال الزجاج: الإل عندي على ما توجبه اللغة يدور على معنى الحدة، ومنه الإلة للحربة، ومنه أذن مؤلفة: أي محددة، ومنه قول طرفة بن العبد يصف أذني ناقته بالحدة والانتصاب: مؤلتان يعرف العنق منهما كسامعتي شاة بحومل مفرد قال أبو عبيدة: الإل العهد، والذمة والنديم. وقال الزهري: هو اسم لله بالعبرانية، وأصله من الأليل، وهو البريق، يقال: أل لونه يول إلا: أي صفا ولمع، والذمة العهد، وجمعها ذمم، فمن فسر الإل بالعهد كان التكرير للتأكيد مع اختلاف اللفظين. وقال أبو عبيدة: الذمة التذمم. وقال أبو عبيدة: الذمة الأمان كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ويسعى بذمتهم أدناهم". وروي عن أبي عبيدة أيضاً أن الذمة ما يتذمم به: أي ما يجتنب فيه الذم. قوله: "يرضونكم بأفواههم" أي يقولون بألسنتهم ما فيه مجاملة ومحاسنة لكم طلباً لمرضاتكم وتطييب قلوبكم، وقلوبهم تأبى ذلك وتحالفه وتود ما فيه مساءتكم ومضرتكم، كما يفعله أهل النفاق وذوو الوجهين، ثم حكم عليهم بالفسق، وهو التمرد والتجري، والخروج عن الحق لنقضهم العهود، وعدم مراعاتهم للعقود.
ثم وصفهم بقوله: 9- "اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً" أي استبدلوا بآيات القرآن التي من جملتها ما فيه الأمر بالوفاء بالعهود ثمناً قليلاً حقيراً، وهو ما آثروه من حطام الدنيا "فصدوا عن سبيله" أي فعدلوا وأعرضوا عن سبيل الحق، أو صرفوا غيرهم عنه.
قوله: 10- "لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة". قال النحاس: ليس هذا تكريراً، ولكن الأول لجميع المشركين، والثاني لليهود خاصة. والدليل على هذا "اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً" يعني اليهود، وقيل: هذا فيه مراعاة لحقوق المؤمنين على الإطلاق، وفي الأول المراعاة لحقوق طائفة من المؤمنين خاصة "وأولئك هم المعتدون" أي المجاوزون للحلال إلى الحرام بنقض العهد، أو البالغون في الشر والتمرد إلى الغاية القصوى.
11- "فإن تابوا" عن الشرك والتزموا حكام الإسلام "فإخوانكم" أي فهم إخوانكم "في الدين" أي في دين الإسلام "ونفصل الآيات" أي نبينها ونوضحها "لقوم يعلمون" بما فيها من الأحكام ويفهمونه، وخص أهل العلم لأنهم المنتفعون بها، والمراد بالآيات ما مر من الآيات المتعلقة بأحوال المشركين على اختلاف أنواعهم. وقد أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام" قال: قريش. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مقاتل قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عاهد أناساً من بني ضمرة بني بكر وكنانة خاصة، عاهدهم عند المسجد الحرام وجعل مدتهم أربعة أشهر، وهم الذين ذكر الله "إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم" يقول: ما وفوا لكم بالعهد ففوا لهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: هم بنو جذيمة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام" قال: هو يوم الحديبية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "إلاً ولا ذمة" قال: الإل القرابة والذمة العهد. وأخرج الفريابي وأبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: الإل الله عزوجل. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة مثله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً" قال: أبو سفيان بن حرب أطعم حلفاءه وترك حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "فإن تابوا" الآية يقول: إن تركوا اللات والعزى وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإخوانكم في الدين. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: حرمت هذه الآية قتال أو دماء أهل الصلاة.
قوله: 12- "وإن نكثوا" معطوف على فإن تابوا والنكث: النقض، وأصله نقض الخيط بعد إبرامه، ثم استعمل في كل نقض، ومنه نقض الإيمان والعهود على طريق الاستعارة. ومعنى "من بعد عهدهم" أي من بعد أن عاهدوكم. والمعنى: أن الكفار إن نكثوا العهود التي عاهدوا بها المسلمين، ووثقوا لهم بها وضموا إلى ذلك الطعن في دين الإسلام، والقدح فيه فقد وجب على المسلمين قتالهم، وأئمة الكفر: جمع إمام، والمراد صناديد المشركين، وأهل الرئاسة فيهم على العموم، وقرأ حمزة (أإمة). وأكثر النحويين يذهب إلى أن هذا لحن، لأن فيه الجمع بين همزتين في كلمة واحدة. وقرأ الجمهور بجعل الهمزة الثانية بين بين: أي بين مخرج الهمزة والياء. وقرئ بإخلاص الياء وهو لحن. كما قال الزمخشري: قوله: "إنهم لا أيمان لهم" هذه الجملة تعليل لما قبلها: والأيمان: جمع يمين في قراءة الجمهور. وقرأ ابن عامر " لا أيمان لهم " بكسر الهمزة. والمعنى على قراءة الجمهور: أن أيمان الكافرين وإن كانت في الصورة يميناً فهي في الحقيقة ليست بيمين، وعلى القراءة الثانية: أن هؤلاء الناكثين للأيمان الطاعنين في الدين ليسوا من أهل الإيمان بالله حتى يستحقوا العصمة لدمائهم وأموالهم، فقتالهم واجب على المسلمين. قوله: "لعلهم ينتهون" أي عن كفرهم ونكثهم وطعنهم في دين الإسلام. والمعنى: أن قتالهم يكون إلى الغاية هي الانتهاء عن ذلك. وقد استدل بهذه الآية على أن الذمي إذا طعن في الدين لا يقتل حتى ينكث العهد كما قال أبو حنيفة، لأن الله إنما أمر بقتلهم بشرطين: أحدهما: نقض العهد، والثاني: الطعن في الدين، وذهب مالك والشافعي وغيرهما إلى أنه إذا طعن في الدين قتل لأنه ينتقض عهده بذلك، قالوا: وكذلك إذا حصل من الذمي مجرد النكث فقط من دون طعن في الدين فإنه يقتل.
قوله: 13- "ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم" الهمزة الداخلة على حرف النفي للاستفهام التوبيخي مع ما يستفاد منها من التحضيض على القتال والمبالغة في تحققه، والمعنى: أن من كان حاله كحال هؤلاء من نقض العهد وإخراج الرسول من مكة والبداءة بالقتال، فهو حقيق بأن لا يترك قتاله، وأن يوبخ من فرط في ذلك: ثم زاد في التوبيخ فقال: "أتخشونهم" فإن هذا الاستفهام للتوبيخ والتقريع: أي تخشون أن ينالكم منهم مكروه فتتركون قتالهم لهذه الخشية، ثم بين ما يجب أن يكون الأمر عليه، فقال: "فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين" أي هو أحق بالخشية منكم، فإنه الضار النافع بالحقيقة، ومن خشيتكم له أن تقاتلوا من أمركم بقتاله، فإن قضية الإيمان توجب ذلك عليكم.