تفسير الطبري تفسير الصفحة 188 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 188
189
187
 الآية : 7
القول في تأويل قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاّ الّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ }.
يقول تعالى ذكره: أنى يكون أيها المؤمنون بالله ورسوله, وبأيّ معنى يكون للكشركين بربهم عهد وذمة عند الله وعند رسوله, يوفي لهم به, ويتركوا من أجله آمنين يتصرفون في البلاد وإنما معناه: لا عهد لهم, وأن الواجب على المؤمنين قتلهم حيث وجدوهم إلا الذين أعطوا العهد عند المسجد الحرام منهم, فإن الله جلّ ثناؤه أمر المؤمنين بالوفاء لهم بعهدهم والاستقامة لهم عليه, ما داموا عليه للمؤمنين مستقيمين.
واختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بقوله: إلاّ الّذَينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسّجِدِ الحَرَامِ فقال بعضهم: هم قوم من جذيمة بن الديل. ذكر من قال ذلك:
12877ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: كَيْفَ يَكُونُ للْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ هم بنو جذيمة بن الديل.
12878ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن محمد بن عباد بن جعفر, قوله: إلاّ الّذَينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ قال: هم جذيمة بكر من كنانة.
12879ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: كَيْفَ يَكُونُ للْمُشْرِكِينَ الذين كانوا وأنتم على العهد العام بأن لا تمنعوهم ولا يمنعوكم من الحرم ولا في الشهر الحرام, عَهْدٌ عِنْدَ اللّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وهي قبائل بني بكر الذين كانوا دخلوا في عهد قريش وعقدتم يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش, فلم يكن نقضَها إلا هذا الحيّ من قريش وبنو الديل من بكر, فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده من بني بكر إلى مدته فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ... الآية.
وقال آخرون: هم قريش. ذكر من قال ذلك:
12880ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس, قوله: إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ هم قريش.
12881ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس: إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ يعني: أهل مكة.
12882ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ يقول: هم قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مدة, ولا ينبغي لمشرك أن يدخل المسجد الحرام ولا يعطي المسلم الجزية. فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ يعني: أهل العهد من المشركين.
12883ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ قال: هؤلاء قريش. وقد نسخ هذا الأشهر التي ضربت لهم, وغدروا بهم فلم يستقيموا, كما قال الله فضرب لهم بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم: إما أن يسلموا, وإما أن يلحقوا بأيّ بلاد شاءوا قال: فأسلموا قبل الأربعة الأشهر, وقبل قَتْلٍ.
12884ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر عن قتادة: إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ قال: هم قوم جذيمة. قال: فلم يستقيموا, نقضوا عهدهم أي أعانوا بني بكر حلف قريش على خزاعة حلف النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: هم قوم من خزاعة. ذكر من قال ذلك:
12885ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا ابن عيينة, عن ابن جريج, عن مجاهد: إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ قال: أهل العهد من خزاعة.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي قول من قال: هم بعض بني بكر من كنانة, ممن كان أقام على عهده ولم يكن دخل في نقض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد مع قريش حين نقضوه بمعونتهم حلفاءهم من بني الديل على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة.
وإنما قلت هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب لأن الله أمر نبيه والمؤمنين بإتمام العهد لمن كانوا عاهدوه عند المسجد الحرام, ما استقاموا على عهدهم. وقد بينا أن هذه الاَيات إنما نادى بها عليّ في سنة تسع من الهجرة, وذلك بعد فتح مكة بسنة, فلم يكن بمكة من قريش ولا خزاعة كافر يومئذ بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فيؤمر بالوفاء له بعهده ما استقام على عهده, لأن من كان منهم من ساكني مكة كان قد نقض العهد وحورب قبل نزول هذه الاَيات.
وأما قوله: إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتّقِينَ فإن معناه: إن الله يحبّ من اتقى وراقبه في أداء فرائضه, والوفاء بعهده لمن عاهده, واجتناب معاصيه, وترك الغدر بعهوده لمن عاهده.
الآية : 8
القول في تأويل قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىَ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ }.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: كيف يكون لهؤلاء المشركين الذين نقضوا عهدهم أو لمن لا عهد له منهم منكم أيها المؤمنون عهد وذمة, وهم إن يظهروا عليكم يغلبوكم, لا يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمة. واكتفى ب «كيف» دليلاً على معنى الكلام, لتقدم ما يراد من المعنى بها قبلها وكذلك تفعل العرب إذا أعادت الحرف بعد مضي معناه استجازوا حذف الفعل, كما قال الشاعر:
وخَبّرْتُمَانِي أنّمَا المَوْتُ فِي القُرَىفَكَيْفَ وَهَذِي هَضْبَةٌ وكَثِيبُ
فحذف الفعل بعد كيف لتقدم ما يراد بعدها قبلها.
ومعنى الكلام: فكيف يكون الموت في القرى وهذي هضبة وكثيب لا ينجو فيهما منه أحد.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاّ وَلا ذمّةً فقال بعضهم: معناه: لا يراقبوا الله فيكم ولا عهدا. ذكر من قال ذلك:
12886ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ قال الله.
12887ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, عن سليمان, عن أبي مجلز, في قوله: لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ وَلا ذِمّةً قال: مثل قوله جبرائيل ميكائيل إسرافيل, كأته يقال: يضاف «جبر» و «ميكا» و «إسراف» إلى «إيل», يقول: عبد الله لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ كأنه يقول: لا يرقبون الله.
حدثني محمد بن عبد الأعلى, قال: ثني محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: إلاّ وَلا ذِمّةً لا يرقبون الله ولا غيره.
وقال آخرون: الإلّ: القرابة. ذكر من قال ذلك:
12888ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ وَلا ذِمّةً يقول: قرابة ولا عهدا. وقوله: وإنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاّ وَلا ذِمّةً قال: الإلّ: يعني القرابة, والذمة: العهد.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: لاَ يَرْقَبُوا إلاّ وَلا ذِمّةً الإلّ: القرابة, والذمة: العهد. يعني: أهل العهد من المشركين, يقول: ذمتهم.
12889ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو معاوية, وعبدة عن حوشب, عن الضحاك: الإلّ: القرابة.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا محمد بن عبد الله, عن سلمة بن كهيل, عن عكرمة, عن ابن عباس: لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ وَلاَ ذِمّةً قال: الإلّ: القرابة, والذمة: العهد.
12890ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ وَلاَ ذِمّةً الإلّ: القرابة, والذمة: الميثاق.
12891ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: كَيْفَ وَإنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ المشركون, لا يرقبوا فيكم عهدا ولا قرابة ولا ميثاقا.
وقال آخرون: معناه: الحلف. ذكر من قال ذلك:
12892ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: لاَ يَرْقَبُوا فِيكُمْ إلاّ ولاَ ذِمّةً قال: الإلّ: الحلف, والذمة: العهد.
وقال آخرون: الإلّ: هو العهد ولكنه كرّر لما اختلف اللفظان وإن كان معناهما واحدا. ذكر من قال ذلك:
12893ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: إلاّ قال: عهدا.
12894ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: لاَ يَرْقُبُوا فِيْكُمْ إلاّ وَلاَ ذِمّةً قال: لا يرقبوا فيكم عهدا ولا ذمة. قال: إحداهما من صاحبتها كهيئة «غفور رحيم», قال: فالكلمة واحدة وهي تفترق, قال: والعهد هو الذمة.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن أبيه, عن خصيف, عن مجاهد: وَلا ذِمّةً قال: العهد.
حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا قيس, عن خصيف, عن مجاهد: وَلاَ ذِمّةً قال: الذمة العهد.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المشركين الذين أمر نبيه والمؤمنين بقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم وحصرهم والقعود لهم على كلّ موصد أنهم لو ظهروا على المؤمنين لم يرقبوا فيهم إلاّ, والإلّ: اسم يشتمل على معان ثلاثة: وهي العهد والعقد, والحلف, والقرابة, وهو أيضا بمعنى الله. فإذ كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة, ولم يكن الله خص من ذلك معنى دون معنى, فالصواب أن يعمّ ذلك كما عمّ بها جلّ ثناؤه معانيها الثلاثة, فيقال: لا يرقبون في مؤمن الله, ولا قرابة, ولا عهدا, ولا ميثاقا. ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى القرابة قول ابن مقبل:
أفْسَدَ النّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُواقَطَعُوا الإلّ وأعْرَاقَ الرّحِيمْ
بمعنى: قطعوا القرابة وقول حسان بن ثابت:
لَعَمْرُكَ إنّ إلّكَ مِنْ قُرَيْشٍكإلّ السّقْبِ مِنْ رَألِ النّعامِ
وأما معناه: إذا كان بمعنى العهد. فقول القائل:
وَجَدْنَاهُمُ كاذِبا إلّهُمْوذُو الإلّ والعَهْدِ لا يَكْذِبُ
وقد زعم بعض من ينسب إلى معرفة كلام العرب من البصريين, أن الإلّ والعهد والميثاق واليمين واحد, وأن الذمة في هذا الموضع: التذمم ممن لا عهد له, والجمع: ذمم. وكان ابن إسحاق يقول: عنى بهذه الآية: أهل العهد العام.
12895ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: كَيْفَ وَإنْ يَظهَرُوا عَلَيْكُمْ أي المشركون الذين لا عهد لهم إلى مدة من أهل العهد العام لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاّ وَلاَ ذِمّةً.
وأما قوله: يَرْضُونَكُمْ بأفْوَاهِهِمْ فإنه يقول: يعطونكم بألسنتهم من القول خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء. وتَأْبَى قُلُوبُهُمْ: أي تأبى عليهم قلوبهم أن يذعنوا لكم بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم. يحذر جلّ ثناؤه أمرهم المؤمنين ويشحذهم على قتلهم واجتياحهم حيث وجدوا من أرض الله, وألا يقصروا في مكروههم بكل ما قدروا عليه. وأكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ يقول: وأكثرهم مخالفون عهدكم ناقصون له, كافرون بربهم خارجون عن طاعته.
الآية : 9
القول في تأويل قوله تعالى: {اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
يقول جلّ ثناؤه: ابتاع هؤلاء المشركون الذين أمركم الله أيها المؤمنون بقتلهم حيث وجدتموهم بتركهم اتباع ما احتجّ الله به عليهم من حججه يسيرا من العوض قليلاً من عرض الدنيا وذلك أنهم فيما ذكر عنهم كانوا نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكلة أطعمهموها أبو سفيان بن حرب.
12896ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: اشْتَرُوا بآياتِ اللّهِ ثَمَنا قَلِيلاً قال: أبو سفيان بن حرب أطعم حلفاءه, وترك حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله. وأما قوله: فَصَدّوا عَنْ سَبِيلِهِ فإن معناه: فمنعوا الناس من الدخول في الإسلام, وحاولوا ردّ المسلمين عن دينهم. إنّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْلَمُونَ يقول جلّ ثناؤه: إن هؤلاء المشركين الذين وصفت صفاتهم, ساء عملهم الذي كانوا يعملون من اشترائهم الكفر بالإيمان والضلالة بالهدى, وصدّهم عن سبيل الله من آمن بالله ورسوله أو من أراد أن يؤمن.
الآية : 10
القول في تأويل قوله تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ }.
يقول تعالى ذكره: لا يتقي هؤلاء المشركون الذين أمرتكم أيها المؤمنون بقتلهم حيث وجدتموهم في قتل مؤمن لو قدورا عليه إلاّ وَلاَ ذِمّةً يقول: فلا تبقوا عليهم أيها المؤمنون, كما لا يبقون عليكم لو ظهروا عليكم. وأُلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ يقول: المتجاوزون فيكم إلى ما ليس لهم بالظلم والاعتداء.
الآية : 11
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَنُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }.
يقول جلّ ثناؤه: فإن رجع هؤلاء المشركون الذين أمرتكم أيها المؤمنون بقتلهم عن كفرهم وشركهم بالله إلى الإيمان به وبرسوله وأنابوا إلى طاعته وأقاموا الصلاة المكتوبة فأدّوها بحدودها وآتوا الزكاة المفروضة أهلها فإخْوَانُكُمْ في الدّينِ يقول: فهم إخوانكم في الدين الذي أمركم الله به, وهو الإسلام. وَنْفَصّلُ الاَياتِ يقول: ونبين حجج الله وأدلته على خلقه, لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ما بين لهم فنشرحها لهم مفصلة دون الجهال الذين لا يعقلون عن الله بيانه ومحكم آياته.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12897ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فإنْ تَابُوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتَوُا الزّكَاةَ فإخْوَانَكُمْ فِي الدّينِ يقول: إن تركوا اللات والعُزّى, وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ ونُفَصّلُ الاَياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
12898ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حفص بن غياث, عن ليث, عن رجل, عن ابن عباس: فإنْ تابُوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ قال: حرّمت هذه الآية دماء أهل القبلة.
12899ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعا لم يفرق بينهما وقرأ: فإنْ تابُوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ فإخْوَانُكُمْ في الدّين وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال: رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه.
12900ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن أبي عبيدة, عن عبد الله, قال: أمرتم بإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, ومن لم يزكّ فلا صلاة له.
وقيل: فإخْوَانُكُمْ فرفع بضمير: فهم إخوانكم, إذ كان قد جرى ذكرهم قبل, كما قال: فإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فإخْوَانكمْ فِي الدّينِ.
الآية : 12
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن نّكَثُوَاْ أَيْمَانَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوَاْ أَئِمّةَ الْكُفْرِ إِنّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلّهُمْ يَنتَهُونَ }.
يقول تعالى ذكره: فإن نقض هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم من قريش عهودهم من بعد ما عاقدوكم, أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدا من أعدائكم وَطَعَنُوا فِي دينِكُمْ يقول: وقدحوا في دينكم الإسلام, فثلموه وعابوه. فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ يقول: فقاتلوا رؤساء الكفر بالله. إنّهُمْ لا أيمَانَ لَهُمْ يقول: إن رؤساء الكفر لا عهد لهم. لَعَلّهُمْ يَنْتَهُونَ لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم.
وبنحو ما قلنا في ذلك, قال أهل التأويل على اختلاف بينهم في المعنيين بأئمة الكفر, فقال بعضهم: هم أبو جهل بن هشام, وعتبة بن ربيعة, وأبو سفيان بن حرب ونظراؤهم. وكان حذيفة يقول: لم يأت أهلها بعد. ذكر من قال هم من سمّيت:
12901ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَإنْ نَكَثُوا أيمَانَهُمْ مَنْ بَعْد عَهْدِهِمْ... إلى: لَعَلّهُمْ يَنْتَهُونَ يعني: أهل العهد من المشركين, سماهم أئمة الكفر, وهم كذلك. يقول الله لنبيه: وإن نكثوا العهد الذي بينك وبينهم فقاتل أئمة الكفر, لأنهم لا أيمان لهم, لعلهم ينتهون.
12902ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَإنْ نَكَثُوا أيمَانَهُمْ مَنْ بَعْد عَهْدِهِمْ... إلى: يَنْتَهُونَ, فكان من أئمة الكفر: أبو جهل بن هشام, وأمية بن خلف, وعتبة بن ربيعة, وأبو سفيان, وسهيل بن عمرو, وهم الذين هموا بإخراجه.
12903ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: أئمة الكفر: أبو سفيان, وأبو جهل, وأمية بن خلف, وسهيل بن عمرو, وعتبة بن ربيعة.
12904ـ حدثنا ابن وكيع وابن بشار, قال ابن وكيع: حدثنا غندر, وقال ابن بشار: حدثنا محمد بن جعفر, عن شعبة, عن أبي بشر, عن مجاهد: فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ أنّهُمْ لا أيمَانَ لَهُمْ قال أبو سفيان منهم.
12905ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَإنْ نَكَثُوا أيمَانَهُمْ... إلى: يَنْتَهُونَ هؤلاء قريش, يقول: إن نكثوا عهدهم الذي عاهدوا على الإسلام وطعنوا فيه, فقاتلوهم.
12906ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ يعني: رأس المشركين أهل مكة.
12907ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ أبو سفيان بن حرب, وأمية بن خلف, وعتبة بن ربيعة, وأبو جهل بن هشام, وسهيل بن عمرو, وهم الذين نكثوا عهد الله وهمّوا بإخراج الرسول, وليس والله كما تأوّله أهل الشبهات والبدع والفِرَي على الله وعلى كتابه.
ذكر الرواية عن حذيفة بالذي ذكرنا عنه:
12908ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن زيد بن وهب, عن حذيفة: فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا حبيب بن حسان, عن زيد بن وهب, قال: كنت عند حذيفة, فقرأ هذه الآية: فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ فقال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد.
حدثني أبو السائب, قال: حدثنا الأعمش, عن زيد بن وهب, قال: قرأ حذيفة: فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد.
12909ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان وإسرائيل, عن أبي إسحاق, عن صلة بن زفر: إنّهُمْ لا أيمَانَ لَهُمْ لا عهد لهم.
12910ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: وَإنْ نَكَثُوا أيمَانَهُمْ قال: عهدهم.
12911ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَإنْ نَكَثُوا أيمَانَهُمْ عهدهم الذي عاهدوا على الإسلام.
12912ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن صلة, عن عمار بن ياسر, في قوله: لا أيمَانَ لَهُمْ قال: لا عهد لهم.
12913ـ حدثني محمد بن عبيد المحاربي, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن أبي إسحاق, عن صلة بن زفر, عن حذيفة في قوله: فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ إنّهُمْ لا أيمَانَ لَهُمْ قال: لا عهد لهم.
وأما النكث فإن أصله: النقض, يقال منه: نكث فلان قوي حبله إذا نقضها, والأيمان: جمع اليمين.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: إنّهُمْ لا أيمَانَ لَهُمْ فقرأه قرّاء الحجاز والعراق وغيرهم: إنّهُمْ لا أيمَانَ لَهُمْ بفتح الألف من «أيمان» بمعنى: لا عهود لهم على ما قد ذكرنا من قول أهل التأويل فيه. وذُكر عن الحسن البصريّ أنه كان يقرأ ذلك: «إنّهُمْ لا إيمَانَ لَهُمْ» بكسر الألف, بمعنى: لا إسلام لهم. وقد يتوجه لقراءته كذلك وجه غير هذا, وذلك أن يكون أراد بقراءته ذلك كذلك: أنهم لا أمان لهم: أي لا تؤمنوهم, ولكن اقتلوهم حيث وجدتموهم, كأنه أراد المصدر من قول القائل: آمنته, فأنا أومنه إيمانا.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءات في ذلك الذي لا أستجيز القراءة بغيره, قراءة من قرأ بفتح الألف دون كسرها, لإجماع الحجة من القراء على القراءة به ورفض خلافه, ولإجماع أهل التأويل على ما ذكرت من أن تأويله لا عهد لهم. والأيمان التي هي بمعنى العهد, لا تكون إلا بفتح الألف, لأنها جمع «يمين» كانت على عقدٍ كان بين المتوادعين.
الآية : 13
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نّكَثُوَاْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمّواْ بِإِخْرَاجِ الرّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مّؤُمِنِينَ }.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله حاضّا لهم على جهاد أعدائهم من المشركين: ألا تقاتلون أيها المؤمنون هؤلاء المشركين الذين نقضوا العهد الذي بينكم وبينهم وطعنوا في دينكم وظاهروا عليكم أعداءكم وهموا بإخراج الرسول من بين أظهرهم فأخرجوه وهم بَدَءُوكُمْ أوّلَ مَرّةٍ بالقتال, يعني فعلهم ذلك يوم بدر. وقيل: قتالهم حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة. أتَخْشَوْنَهُمْ يقول: أتخافونهم على أنفسهم, فتتركوا قتالهم خوفا على أنفسكم منهم؟ فاللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشَوْهُ يقول: فالله أولى بكم أن تخافوا عقوبته بترككم جهادهم, وتحذروا سخطه عليكم من هؤلاء المشركين الذين لا يملكون لكم ضرّا ولا نفعا إلا بإذن الله. إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنينَ يقول: إن كنتم مقرّين أن خشية الله لكم أولى من خشية هؤلاء المشركين على أنفسكم.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12914ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: ألا تُقاتِلُونَ قَوْما نَكَثُوا أيمَانَهُمْ مَنْ بَعْد عَهْدِهِمْ وَهَمّوا بإخْرَاج الرّسُول يقول: همّوا بإخراجه فأخرجوه. وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أوّلَ مَرّةٍ بالقتال.
12915ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أوّلَ مَرّةٍ قال: قتال قريش حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, بنحوه.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
12916ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: أمر الله رسوله بجهاد أهل الشرك ممن نقض من أهل العهد ومن كان من أهل العهد العام بعد الأربعة الأشهر التي ضرب لهم أجلاً, إلا أن يعودوا فيها على دينهم فيقبل بعد. ثم قال: ألا تُقاتِلوُنَ قَوْما نَكَثُوا أيمَانَهُمْ وَهَمّوا بإخْرَاجِ الرّسُول... إلى قوله: وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ