تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 205 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 205

204

قوله: 112- "التائبون" خبر مبتدأ محذوف: أي هم التائبون، يعني المؤمنون، والتائب الراجع: أي هم الراجعون إلى طاعة الله عن الحالة المخالفة للطاعة. وقال الزجاج: الذي عندي أن قوله: "التائبون العابدون" رفع بالابتداء وخبره مضمر: أي التائبون ومن بعدهم إلى آخر الآية لهم الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا. قال: وهذا أحسن، إذ لو كانت هذه أوصافاً للمؤمنين المذكورين في قوله: "اشترى من المؤمنين" لكان الوعد خاصاً بمجاهدين. وقد ذهب إلى ما ذهب إليه الزجاج من أن هذا الكلام منفصل عما قبله طائفة من المفسرين، وذهب آخرون إلى أن هذه الأوصاف راجعة إلى المؤمنين في الآية الأولى. وأنها على جهة الشرط: أي لا يستحق الجنة بتلك المبايعة إلا من كان من المؤمنين على هذه الأوصاف. وفي مصحف عبد الله بن مسعود: التائبين العابدين إلى آخرها. وفيه وجهان: أحدهما: أنها أوصاف للمؤمنين. الثاني: أن النصب على المدح. وقيل: إن ارتفاع هذه الأوصاف على البدل من ضمير يقاتلون، وجوز صاحب الكشاف أن يكون التائبون مبتدأ، وخبره العابدون، وما بعده أخبار كذلك: أي التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال، وفيه من البعد ما لا يخفى، والعابدون القائمون بما أمروا به من عبادة الله مع الإخلاص، و "الحامدون" الذين يحمدون الله سبحانه على السراء والضراء، و "السائحون" قيل: هم الصائمون، وإليه ذهب جمهور المفسرين، ومنه قوله تعالى: "عابدات سائحات" وإنما قيل للصائم سائح، لأنه يترك اللذات كما يتركها السائح في الأرض، ومنه قول أبي طالب بن عبد المطلب: وبالسائحين لا يذوقون فطرة لربهم والراكدات العوامل وقال آخر: تراه يصلي ليله ونهاره يظل كثير الذكر لله سائحا قال الزجاج: ومذهب الحسن أن السائحين هاهنا هم الذين يصومون الفرض، وقيل: إنهم الذين يديمون الصيام. وقال عطاء: السائحون المجاهدون. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: السائحون المهاجرون. وقال عكرمة: هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم. وقيل: هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته وما خلق من العبر. والسياحة في اللغة أصلها الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء، وهي مما يعين العبد على الطاعة لانقطاعه عن الخلق، ولما يحصل له من الاعتبار بالتفكر في مخلوقات الله سبحانه، و "الراكعون الساجدون" معناه المصلون، و " الآمرون بالمعروف " القائمون بأمر الناس بما هو معروف في الشريعة "والناهون عن المنكر" القائمون بالإنكار على من فعل منكراً: أي شيئاً ينكره الشرع "والحافظون لحدود الله" القائمون بحفظ شرائعه التي أنزلها في كتبه وعلى لسان رسله، وإنما أدخل الواو في الوصفين الآخرين، وهما "والناهون عن المنكر والحافظون" إلخ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنزلة خصلة واحدة، ثم عطف عليه الحافظون بالواو لقربه، وقيل: إن العطف في الصفات يجيء بالواو وبغيرها كقوله: "غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب"، وقيل: إن الواو زائدة، وقيل: هي واو الثمانية المعروفة عند النحاة، كما في قوله تعالى: "ثيبات وأبكاراً" وقوله: "وفتحت أبوابها"، وقوله: "سبعة وثامنهم كلبهم"، وقد أنكر واو الثمانية أبو علي الفارسي وناظره في ذلك ابن خالويه "وبشر المؤمنين" الموصوفين بالصفات السابقة. وقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: "قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة، قال: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم" الآية". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال:" أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم" فكبر الناس في المسجد، فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال: نعم، فقال الأنصاري: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل". وقد أخرج ابن سعد عن عبادة بن الصامت "أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط في بيعة العقبة على من بايعه من الأنصار: أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، والسمع والطاعة، ولا ينازعوا في الأمر أهله، ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم، قالوا: نعم، قال قائل الأنصار: نعم، هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟ قال:الجنة". وأخرجه ابن سعد أيضاً من وجه آخر وليس في قصة العقبة ما يدل على أنها سبب نزول الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس قال: من مات على هذه التسع فهو في سبيل الله "التائبون العابدون" إلى آخر الآية. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن المنذر عن ابن عباس قال: الشهيد من كان فيه التسع الخصال المذكورة في هذه الآية. وأخرج أبو الشيخ عنه قال: العابدون الذين يقيمون الصلاة. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء". وأخرج ابن جرير عن عبيد بن عمير قال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين فقال:هم الصائمون". وأخرج الفريابي وابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان من طريق عبيد بن عمير عن أبي هريرة مرفوعاً مثله. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه وابن النجار من طريق أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً مثله. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعاً مثله. وقد روي عن أبي هريرة موقوفاً، وهو أصح من المرفوع من طريقه، وحديث عبيد بن عمير مرسل، وقد أسنده منطريق أبي هريرة في الرواية الثانية. وقد روي من قول جماعة من الصحابة مثل هذا: منهم عائشة عند ابن جرير وابن المنذر، ومنهم ابن عباس عند ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ، ومنهم ابن مسعود عند هؤلاء المذكورين قبله. وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي أمامة "أن رجلاً استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال:إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله" وصححه عبد الحق. وأخرج أبو الشيخ عن الربيع في هذه الآية قال: هذه أعمال قال فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قضى على نفسه في التوراة والإنجيل والقرآن لهذه الأمة أن من قتل منهم على هذه الأعمال كان عند الله شهيداً، ومن مات منهم عليها فقد وجب أجره على الله. وأخرج ابن المنذر عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: الشهيد من لو مات على فراشه دخل الجنة. قال: وقال ابن عباس من مات وفيه تسع فهو شهيد. وقرأ هذه الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم" يعني بالجنة، ثم قال: "التائبون" إلى قوله: "والحافظون لحدود الله" يعني القائمون على طاعة الله، وهو شرط اشترطه الله على أهل الجهاد، وإذا وفوا لله بشرطه وفي لهم بشرطهم.
لما بين الله سبحانه في أول السورة وما بعده أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة بين سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيداً، وصرح بأن ذلك متحتم، ولوكانوا أولي قربى، وأن القرابة في مثل هذا الحكم لا تأثير لها. وقد ذكر أهل التفسير أن ما كان في القرآن يأتي على وجهين: الأول: على النفي نحو "ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله". والآخر: على معنى النهي نحو "ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله" و 113- "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" وهذه الآية متضمنة لقطع الموالاة للكفار، وتحريم الاستغفار لهم، والدعاء بما لا يجوز لمن كان كافراً، ولا ينافي هذا ماثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه" قال يوم أحد حين كسر المشركون رباعيته وشجوا وجهه:اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، لأنه يمكن أن يكون ذلك قبل أن يبلغه تحريم الاستغفار للمشركين، وعلى فرض أنه قد كان بلغه كما يفيده سبب النزول، فإنه قبل يوم أحد بمدة طويلة، وسيأتي، فصدور هذا الاستغفار منه لقومه إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء كما في صحيح مسلم عن عبد الله، قال:" كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". وفي البخاري "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر نبياً قبله شجه قومه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنه بأنه قال:اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". قوله: "من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم" هذه الجملة تتضمن التعليل للنهي عن الاستغفار. والمعنى أن هذا التبين موجب لقطع الموالاة لمن كان هكذا، وعدم الاعتداد بالقرابة لأنهم ماتوا على الشرك. وقد قال سبحانه: "إن الله لا يغفر أن يشرك به" فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده.
قوله: 114- "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه" الآية: ذكر الله سبحانه السبب في استغفار إبراهيم لأبيه أنه كان لأجل وعد تقدم من إبراهيم لأبيه بالاستغفار له. ولكنه ترك ذلك وتبرأ منه لما تبين له أنه عدو الله، وأنه غير مستحق للاستغفار، وهذا يدل على أنه إنما وعده قبل أن يتبين له أنه من أهل النار. ومن أعداء الله، فلا حاجة إلى السؤال الذي يورده كثير من المفسرين أنه كيف خفي ذلك على إبراهيم فإنه لم يخف عليه تحريم الاستغفار لمن أصر على الكفر ومات عليه، وهو لم يعلم ذلك إلا بإخبار الله سبحانه له بأنه عدو الله، فإن ثبوت هذه العداوة تدل على الكفر، وكذلك لم يعلم نبينا صلى الله عليه وسلم بتحريم ذلك إلا بعد أن أخبره الله بهذه الآية، وهذا حكم إنما يثبت بالسمع لا بالعقل. وقيل: المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه إلى الإسلام، وهو ضعيف جداً. وقيل: المراد بالاستغفار في هذه الآية النهي عن الصلاة على جنائز الكفار، فهو كقوله: "ولا تصل على أحد منهم مات أبداً" ولا حاجة إلى تفسير الاستغفار بالصلاة ولا ملجئ إلى ذلك، ثم ختم الله سبحانه هذه الآية بالثناء العظيم على إبراهيم، فقال: "إن إبراهيم لأواه" وهو كثير التأوه كما تدل على ذلك صيغة المبالغة. وقد اختلف أهل العلم في معنى الأواه، فقال ابن مسعود وعبيد بن عمير: إنه الذي يكثر الدعاء. وقال الحسن وقتادة: إنه الرحيم بعباد الله. وروي عن ابن عباس: أنه المؤمن بلغة الحبشة. وقال الكلبي: إنه الذي يذكر الله في الأرض القفر. وروي مثله عن ابن المسيب، وقيل: الذي يكثر الذكر لله من غير تقييد، روي ذلك عن عقبة بن عامر. وقيل: هو الذي يكثر التلاوة، حكي ذلك عن ابن عباس. وقيل: إنه الفقيه، قاله مجاهد والنخعي. وقيل: المتضرع الخاضع، روي ذلك عن عبد الله بن شداد بن الهاد. وقيل: هو الذي إذا ذكر خطاياه استغفر لها، روي ذلك عن أبي أيوب. وقيل: هو الشفيق قاله عبد العزيز بن يحيى. وقال: إنه المعلم للخير. وقيل: إنه الراجع عن كل ما يكرهه الله قاله عطاء. والمطابق لمعنى الأواه لغة أن يقال إنه الذي يكثر التأوه من ذنوبه، فيقول مثلاً: آه من ذنوبي آه مما أعاقب به بسببها ونحو ذلك، وبه قال الفراء، وهو مروي عن أبي ذر، ومعنى التأوه هو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء. قال في الصحاح: وقد أوه الرجل تأويهاً، وتأوه تأوهاً إذا قال أوه، والاسم منه آهة بالمد، قال: إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين و "حليم" الكثير الحلم كما تفيده صيغة المبالغة، وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الأذى، وقيل الذي لا يعاقب أحداً قط إلا الله. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال:" لما حضرت الوفاة أبا طالب دخل النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أي عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه وأبو جهل وعبد الله يعاندانه بتلك المقالة. فقال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت: "ما كان للنبي" الآية وأنزل الله في أبي طالب "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"." وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان والضياء في المختارة عن علي قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: "ما كان للنبي" الآية. وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن علي قال: "أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب، فبكى، فقال:اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه، ففعلت، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر له أياماً ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه "ما كان للنبي" الآية". وقد روي كون سبب نزول الآية استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب من طرق كثيرة: منها عن محمد بن كعب عند ابن أبي حاتم وأبي الشيخ مرسل. ومنها عن عمرو بن دينار عند ابن جرير وهو مرسل أيضاً. ومنها عن سعيد بن المسيب عند ابن جرير، وهو مرسل أيضاً. ومنها عن عمر بن الخطاب عند ابن سعد وأبي الشيخ وابن عساكر. ومنها عن الحسن البصري عند ابن عساكر وهو مرسل. وروي أنها نزلت بسبب زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لقبر أمه واستغفاره لها من طريق ابن عباس عند الطبراني وابن مردويه ومن طريق ابن مسعود عند ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل، وعن بريدة عند ابن مردويه وما في الصحيحين مقدم على ما لم يكن فيهما على فرض أنه صحيح، فكيف وهو ضعيف غالبه. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " إلى قوله: "كما ربياني صغيراً" قال: ثم استثنى فقال: "ما كان للنبي" إلى قوله: "إلا عن موعدة وعدها إياه". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: " فلما تبين له أنه عدو لله " قال: تبين له حين مات وعلم أن التوبة قد انقطعت منه. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو بكر الشافعي في فوائده والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدو الله فتبرأ منه. وأخرج ابن مردويه عن جابر "أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر، فقال رجل: لو أن هذا خفض صوته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه فإنه أواه". وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عقبة بن عامر" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو النجادين: إنه أواه"، وذلك أنه كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء. وأخرجه أيضاً أحمد قال: حدثنا موسى بن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر فذكره. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: قال رجل: يا رسول الله ما الأواه؟ قال: الخاشع المتضرع الدعاء. وهذا إن ثبت وجب المصير إليه وتقديمه على ما ذكره أهل اللغة في معنى الأواه، وإسناده عند ابن جرير هكذا: حدثني المثنى، حدثني الحجاج بن منهال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام، حدثنا شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد فذكره. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن إبراهيم لأواه حليم" قال: كان من حلمه أنه كان إذا أذاه الرجل من قومه قال له: هداك الله.
لما نزلت الآية المتقدمة في النهي عن الاستغفار للمشركين، خاف جماعة ممن كان يستغفر لهم من العقوبة من الله بسبب ذلك الاستغفار، فأنزل الله سبحانه: 115- "وما كان الله ليضل قوماً" إلخ: أي أن الله سبحانه لا يوقع الضلال على قوم، ولا يسميهم ضلالاً بعد أن هداهم إلى الإسلام، والقيام بشرائعه ما لم يقدموا على شيء من المحرمات بعد أن يتبين لهم أنه محرم، وأما قبل أن يتبين لهم ذلك فلا إثم عليهم ولا يؤاخذون به، ومعنى "حتى يبين لهم ما يتقون" حتى يتبين لهم ما يجب عليهم اتقاؤه من محرمات الشرع "إن الله بكل شيء عليم" مما يحل لعباده ويحرم عليهم، ومن سائر الأشياء التي خلقها.
116- " إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير " ثم بين لهم أن له سبحانه ملك السموات والأرض لا يشاركه في ذلك مشارك، ولا ينازعه منازع يتصرف في ملكه بما شاء من التصرفات التي من جملتها أنه يحيي من قضت مشيئته بإحيائه، ويميت من قضت مشيئته بإماتته، وما لعباده من دونه من ولي يواليهم ولا نصير ينصرهم، فلا يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى، فإن القرابة لا تنفع شيئاً ولا تؤثر أثراً، بل التصرف في جميع الأشياء لله وحده.
قوله: 117- "لقد تاب الله على النبي" فيما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الإذن في التخلف، أو فيما وقع منه من الاستغفار للمشركين، وليس من لازم التوبة أن يسبق الذنب ممن وقعت منه أو له، لأن كل العباد محتاج إلى التوبة والاستغفار، وقد تكون التوبة منه تعالى على النبي من باب أنه ترك ما هو الأولى والأليق كما في قوله: "عفا الله عنك لم أذنت لهم"، ويجوز أن يكون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأجل التعريف للمذنبين بأن يتجنبوا الذنوب ويتوبوا عما قد لابسوه منها، وكذلك تاب الله سبحانه على المهاجرين والأنصار فيما قد اقترفوه من الذنوب. ومن هذا القبيل ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" ثم وصف سبحانه المهاجرين والأنصار بأنهم الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتخلفوا عنه، وساعة العسرة هي غزوة تبوك، فإنهم كانوا في عسرة شديدة، فالمراد بالساعة جميع أوقات تلك الغزاة، ولم يرد ساعة بعينها، والعسرة صعوبة الأمر. قوله: " من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم " في كاد ضمير الشأن، وقلوب مرفوع بتزيغ عند سيبويه، وقيل: هي مرفوعة بكاد، ويكون التقدير من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ. وقرأ الأعمش وحمزة وحفص "يزيغ" بالتحتية. قال أبو حاتم: من قرأ بالياء التحتية، فلا يجوز له أن يرفع القلوب بكاد. قال النحاس: والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجمع، ومعنى " يزيغ " تتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل معناه: تميل عن الحق وتترك المناصرة والممانعة، وقيل معناه: تهم بالتخلف عن الغزو لما هم فيه من الشدة العظيمة. وفي قراءة ابن مسعود من بعد ما زاغت وهم المتخلفون على هذه القراءة، وفي تكرير التوبة عليهم بقوله: "ثم تاب عليهم ليتوبوا" تأكيد ظاهر واعتناء بشأنها، هذا إن كان الضمير راجعاً إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار.