تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 204 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 204

203

قوله: 106- "وآخرون مرجون لأمر الله" ذكر سبحانه ثلاثة أقسام في المتخلفين: الأول: المنافقون الذين مردوا على النفاق، والثاني: التائبون المعترفون بذنوبهم، الثالث: الذين بقي أمرهم موقوفاً في تلك الحال، وهم المرجون لأمر الله، من أرجيته وأرجأته: إذا أخرته. قرأ حمزة والكسائي ونافع وحفص "مرجون" بالواو من غير همز. وقرأ الباقون بالهمزة المضمومة بعد الجيم. والمعنى: أنهم مؤخرون في تلك الحال لا يقطع لهم بالتوبة ولا بعدمها، بل هم على ما يتبين من أمر الله سبحانه في شأنهم "إما يعذبهم" إن بقوا على ما هم عليه ولم يتوبوا "وإما يتوب عليهم" إن تابوا توبة صحيحة وأخلصوا إخلاصاً تاماً والجملة في محل نصب على الحال، والتقدير "وآخرون مرجون لأمر الله" حال كونهم، إما معذبين، وإما متوباً عليهم "والله عليم" بأحوالهم "حكيم" فيما يفعله بهم من خير أو شر. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو نعيم في المعرفة عن أبي موسى أنه سئل عن قوله: "والسابقون الأولون" فقال: هم الذين صلوا القبلتين جميعاً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم عن سعيد بن المسيب مثله. وأخرج ابن المنذر وأبو نعيم عن الحسن ومحمد بن سيرين مثله أيضاً. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: هم أبو بكر وعمر وعلي وسلمان وعمار بن ياسر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن الشعبي قال: هم من أدرك بيعة الرضوان. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "والذين اتبعوهم بإحسان" قال: التابعون. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: هم من بقي من أهل الإسلام إلى أن تقوم الساعة. وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن أبي صخر حميد بن زياد قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي: أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أريد الفتن، قال: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؟ قال: ألا تقرأون قوله تعالى: "والسابقون الأولون" الآية. أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً لم يشرطه فيهم. قلت: وما اشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان. يقول: يقتدون بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك. قال أبو صخر: فوالله لكأني لم أقرأها قبل ذلك وما عرفت تفسيرها حتى قرأها علي ابن كعب. وأخرج ابن مردويه من طريق الأوزاعي قال: حدثني يحيى بن أبي كثير والقسم ومكحول وعبدة بن أبي لبابة وحسان بن عطية أنهم سمعوا جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون لما أنزلت هذه الآية "والسابقون الأولون" إلى قوله: "ورضوا عنه" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا لأمتي كلهم، وليس بعد الرضا سخط". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وممن حولكم من الأعراب" الآية. قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة خطيباً، فقال: قم يا فلان فاخرج فإنك منافق، اخرج يا فلان فإنك منافق، فأخرجهم بأسمائهم ففضحهم، ولم يكن عمر بن الخطاب يشهد تلك الجمعة لحاجة كانت له، فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء أنه لم يشهد الجمعة، وظن الناس قد انصرفوا، واختبأوا هم من عمر، وظنوا أنه قد علم بأمرهم، فدخل عمر المسجد فإذا الناس لم ينصرفوا، فقال له رجل: أبشر يا عمر فقد فضح الله المنافقين اليوم، فهو العذاب الأول، والعذاب الثاني عذاب القبر. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: "وممن حولكم من الأعراب" قال: جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "مردوا على النفاق" قال: أقاموا عليه ولم يتوبوا كما تاب آخرون. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: ماتوا عليه: عبد الله بن أبي، وأبو عامر الراهب، والجد بن قيس. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "سنعذبهم مرتين" قال: بالجوع والقتل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي مالك قال: بالجوع وعذاب القبر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن قتادة قال: عذاب في القبر، وعذاب في النار. وقد روي عن جماعة من السلف نحو هذا في تعيين العذابين، والظاهر ما قدمنا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً" قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما حضر رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، وكان ممر النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع عليهم فلما رآهم قال: من هؤلاء الموثقون أنفسهم؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله حتى تطلقهم وتعذرهم، قال: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين، فلما بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا، فنزلت: "عسى الله أن يتوب عليهم" وعسى من الله واجب، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم، فجاءوا بأموالهم فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا، قال: ما أمرت أن آخذ أموالكم، فأنزل الله عز وجل: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم" يقول: استغفر لهم " إن صلاتك سكن لهم " يقول: رحمة لهم، فأخذ منهم الصدقة واستغفر لهم، وكانوا ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم بالسواري فأرجئوا سنة لا يدرون أيعذبون أو يتاب عليهم؟ فأنزل الله عز وجل: "لقد تاب الله على النبي" إلى قوله: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا" إلى قوله: "ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم" يعني: إن استقاموا. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك مثله سواء. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن مجاهد في قوله: "اعترفوا بذنوبهم" قال: هو أبو لبابة إذ قال لقريظة ما قال، وأشار إلى حلقه بأن محمداً يذبحكم إن نزلتم على حكمه، والقصة مذكورة في كتب السير. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "خلطوا عملاً صالحاً" قال: غزوهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "وآخر سيئاً" قال: تخلفهم عنه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وصل عليهم" قال: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوها " إن صلاتك سكن لهم " قال: رحمة لهم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن أبي أوفى قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بصدقة قال:اللهم صل على آل فلان، فأتاه أبي بصدقته فقال:اللهم صل على آل أبي أوفى". وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله" قال: هذا وعيد من الله عز وجل. وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبان والحاكم والبيهقي في الشعب وابن أبي الدنيا والضياء في المختارة عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لأخرج الله عمله للناس كائناً ما كان". وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: "وآخرون مرجون لأمر الله" قال: هم الثلاثة الذين خلفوا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: هم هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الأوس والخزرج. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "إما يعذبهم" يقول: يميتهم على معصية "وإما يتوب عليهم" فأرجأ أمرهم ثم نسخها فقال: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا".
لما ذكر الله أصناف المنافقين وبين طرائقهم المختلفة عطف على ما سبق هذه الطائفة منهم، وهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً، فيكون التقدير: ومنهم الذين اتخذوا على أن الذين متبدأ، وخبره منهم المحذوف، والجملة معطوفة على ما تقدمها، ويجوز أن يكون الموصول في محل نصب على الذم. وقرأ المدنيون وابن عامر "الذين اتخذوا" بغير واو، فتكون قصة مستقلة، الموصول مبتدأ، وخبره "لا تقم" قاله الكسائي. وقال النحاس: إن الخبر هو "لا يزال بنيانهم الذي بنوا" وقيل الخبر محذوف، والتقدير يعذبون، وسيأتي بيان هؤلاء البانين لمسجد الضرار، و "ضراراً" منصوب على المصدرية، أو على العلية " وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا " معطوفة على "ضراراً". فقد أخبر الله سبحانه أن الباعث لهم على بناء هذا المسجد أمور أربعة: الأول: الضرار لغيرهم، وهو المضاررة. الثاني: الكفر بالله والمباهاة لأهل الإسلام، لأنهم أرادوا ببنائه تقوية أهل النفاق. الثالث: التفريق بين المؤمنين، لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعة المسلمين، وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ما لا يخفى. الرابع: الإرصاد لمن حارب الله ورسوله: أي الإعداد لأجل من حارب الله ورسوله. قال الزجاج: الإرصاد الانتظار. وقال ابن قتيبة: الإرصاد الانتظار مع العداوة. وقال الأكثرون: هو الإعداد، والمعنى متقارب، يقال: أرصدت لكذا: إذا أعددته مرتقباً له به. وقال أبو زيد: يقال رصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشر. وقال ابن الأعرابي: لا يقال إلا أرصدت، ومعناه ارتقبت، والمراد بمن حارب الله ورسوله: المنافقون، ومنهم أبو عامر الراهب: أي أعدوه لهؤلاء وارتقبوا به وصولهم وانتظروهم ليصلوا فيه حتى يباهوا بهم المؤمنين، وقوله: "من قبل" متعلق باتخذوا: أي اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء ويبنوا مسجد الضرار، أو متعلق بحارب: أي لمن وقع منه الحرب لله ولرسوله من قبل بناء مسجد الضرار. قوله: "وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى" أي ما أردنا إلا الخصلة الحسنى، وهي الرفق بالمسلمين، فرد الله عليهم بقوله: "والله يشهد إنهم لكاذبون" فيما حلفوا عليه.
ثم نهى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مسجد الضرار، فقال: 108- "لا تقم فيه أبداً" أي في وقت من الأوقات، والنهي عن القيام فيه يستلزم النهي عن الصلاة فيه. وقد يعبر عن الصلاة بالقيام، يقال فلان يقوم الليل: أي يصلي، ومنه الحديث الصحيح: "من قام رمضان إيماناً به واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". ثم ذكر الله سبحانه علة النهي عن القيام فيه بقوله: "لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه" واللام في "لمسجد" لام القسم، وقيل لام الابتداء، وفي ذلك تأكيد لمضمون الجملة، وتأسيس البناء: تثبيته ورفعه. ومعنى تأسيسه على التقوى: تأسيسه على الخصال التي تتقي بها العقوبة. واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى، فقالت طائفة: هو مسجد قباء كما روي عن ابن عباس والضحاك والحسن والشعبي وغيرهم. وذهب آخرون إلى أنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. والأول: أرجح لما سيأتي قريباً إن شاء الله، و "من أول يوم" متعلق بأسس: أي أسس على التقوى من أول يوم من أيام تأسيسه. قال بعض النحاة: إن "من" هنا بمعنى منذ: أي منذ أول يوم ابتدئ ببنائه، وقوله: "أحق أن تقوم فيه" خبر المبتدأ. والمعنى: لو كان القيام في غيره جائزاً لكان هذا أولى بقيامك فيه للصلاة ولذكر الله، لكونه أسس على التقوى من أول يوم، ولكون "فيه رجال يحبون أن يتطهروا" وهذه الجملة مستأنفة لبيان أحقية قيامه صلى الله عليه وسلم فيه: أي كما أن هذا المسجد أولى من جهة المحل فهو أولى من جهة الحال فيه، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي حال كون فيه رجال يحبون أن يتطهروا، ويجوز أن تكون صفة أخرى لمسجد. ومعنى محبتهم للتطهر: أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه عند عروض موجبه، وقيل معناه: يحبون التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار. والأول أولى. وقيل: يحبون أن يتطهروا بالحمى المطهرة من الذنوب فحموا جميعاً، وهذا ضعيف جداً. ومعنى محبة الله لهم الرضا عنهم، والإحسان إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه.
ثم بين سبحانه أن بين الفريقين بوناً بعيداً، فقال: 109- "أفمن أسس بنيانه" والهمزة للإنكار التقريري، والبنيان مصدر كالعمران، وأريد به المبني، أسس دينه على ضد ذلك، وهو الباطل والنفاق، والموصول مبتدأ، وخبره خير، وقرئ أسس بنيانه على بناء الفعل للفاعل، ونصب بنيانه، واختار هذه القراءة أبو عبيدة، وقرئ على البناء للمجهول، وقرئ أساس بنيانه بإضافة أساس إلى بنيانه، وقرى أس بنيانه والمراد: أصول البناء، وحكى أبو حاتم قراءة أخرى، ويه آساس بنيانه على الجمع، ومنه: أصبح الملك ثابت الآساس بالبهاليل من بني العباس والشفا: الشفير، والجرف: ما يتجرف بالسيول، وهي الجوانب التي تنجرف بالماء، والاجتراف: اقتلاع الشيء من أصله، وقرئ بضم الراء من جرف وبإسكانها. والهار: الساقط، يقال هار البناء: إذا سقط، وأصله هائر كما قالوا: شاك السلاح وشائك كذا قال الزجاج. وقال أبو حاتم: إن أصله هاور. قال في شمس العلوم: الجرف ما جرف السيل أصله، وأشرف أعلاه فإن انصدع أعلاه فهو الهار اهـ، جعل الله سبحانه هذا مثلاً لما بنوا عليه دينهم الباطل المضمحل بسرعة، ثم قال: "فانهار به في نار جهنم" وفاعل فانهار ضمير يعود إلى الجرف: أي فانهار الجرف بالبنيان في النار، ويجوز أن يكون الضمير في "به" يعود إلى من، وهو الباني. والمعنى: أنه طاح الباطل بالبناء، أو الباني في نار جهنم، وجاء بالانهيار الذي هو للجرف ترشيحاً للمجاز، وسبحان الله ما أبلغ هذا الكلام، وأقوى تراكيبه، وأوقع معناه، وأفصح مبناه.
ثم ذكر سبحانه أن بنيانهم هذا موجب لمزيد ريبهم، واستمرار ترددهم وشكهم فقال: 110- "لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم" أي شكاً في قلوبهم ونفاقاً، ومنه قول النابغة: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب وقيل معنى الريب: الحسرة والندامة، لأنهم ندموا على بنيانه. وقال المبرد: أي حرارة وغيظاً. وقد كان هؤلاء الذين بنوا مسجد الضرار منافقين شاكين في دينهم، ولكنهم ازدادوا بهدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نفاقاً وتصميماً على الكفر، ومقتاً للإسلام لما أصابهم من الغيظ الشديد والغضب العظيم بهدمه، ثم ذكر سبحانه ما يدل على استمرار هذه الريبة ودوامها، وهو قوله: "إلا أن تقطع قلوبهم" أي لا يزال هذا إلا أن تتقطع قلوبهم قطعاً، وتتفرق أجزاء: إما بالموت أو بالسيف، والمقصود أن هذه الريبة دائمة لهم ما داموا أحياء، ويجوز أن يكون ذكر التقطع تصويراً لحال زوال الريبة. وقيل معناه: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم. وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب وأبو جعفر بفتح حرف المضارعة. وقرأ الجمهور بضمها. وروي عن يعقوب أنه قرأ تقطع بالتخفيف، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: أي إلا أن تقطع يا محمد قلوبهم. وقرأ أصحاب عبد الله بن مسعود: ولو تقطعت قلوبهم. وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم إلى أن تقطع على الغاية. أي لا يزالون كذلك إلى أن يموتوا. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "والذين اتخذوا مسجداً ضراراً" قال: هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجداً، فقال لهم أبو عامر الراهب: ابنوا مسجدكم واستمدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، فأخرج محمداً وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا فيجب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة، فأنزل الله "لا تقم فيه أبداً". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال:" لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء خرج رجال من الأنصار منهم بجدح جد عبد الله بن حنيف ووديعة بن حزام ومجمع بن جارية الأنصاري فبنوا مسجد النفاق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبجدح: ويلك يا بجدح ما أردت إلى ما أرى، فقال: يا رسول الله والله ما أردت إلا الحسنى وهو كاذب، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يعذره، فأنزل الله تعالى: " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله " يعني رجلاً يقال له أبو عامر كان محارباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد انطلق إلى هرقل، وكانوا يرصدون إذا قدم أبو عامر أن يصلي فيه، وكان قد خرج من المدينة محارباً لله ولرسوله". وأخرج ابن إسحاق وابن مردويه عنه أيضاً قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم، فقال مالك لعاصم: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل على أهله فأخذ سعفات من نار ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فحرقوه وهدموه، وخرج أهله فتفرقوا عنه، فأنزل الله هذه الآية. ولعل في هذه الرواية حذفاً بين قوله صلى الله عليه وسلم دعا رسول الله مالك بن الدخشم وبين قوله فقال مالك لعاصم، ويبين ذلك ما أخرج ابن إسحاق وابن مردويه عن أبي رهم كلثوم بن الحصين الغفاري، وكان من الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة قال: "أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان: بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله إنا بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة الشاتية والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، قال: إني على جناح سفر، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه، فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي، وأخاه عاصم بن عدي أحد بني العجلان، فقال:انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك، فدخل إلى أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً، ثم خرجا يشتدان، وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: "والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً" "إلى آخر القصة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم إن الذين بنوا مسجد الضرار كانوا إثني عشر رجلاً، وذكرا أسماءهم. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة وابن حبان وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي سعيد الخدري قال: اختلف رجلان: رجل من بني خدرة، وفي لفظ: تماريت أنا ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال العمري: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال: هو هذا المسجد لمسجد رسول الله، وقال في ذلك خير كثير، يعني مسجد قباء. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والزبير بن بكار في أخبار المدينة وأبو يعلى وابن حبان والطبراني والحاكم في الكنى، وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه والخطيب والضياء في المختارة عن أبي بن كعب قال: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى قال:هو مسجدي هذا". وأخرج الطبراني والضياء المقدسي في المختارة عن زيد بن ثابت مرفوعاً مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه والطبراني من طريق عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال: المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. قال عروة: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم خير منه، إنما أنزلت في مسجد قباء وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عمر قال: المسجد الذي أسس على التقوى: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج المذكوران عن أبي سعيد الخدري مثله. وقد روي عن جماعة غير هؤلاء مثل قولهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه مسجد قباء. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك مثله. ولا يخفاك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عين هذا المسجد الذي أسس على التقوى، وجزم بأنه مسجده صلى الله عليه وسلم كما قدمنا من الأحاديث الصحيحة، فلا يقاوم ذلك قول فرد من الصحابة ولا جماعة منهم ولا غيرهم ولا يصح لإيراده في مقابلة ما قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فائدة في إيراد ما ورد في فضل الصلاة في مسجد قباء، فإن ذلك لا يستلزم كونه المسجد الذي أسس على التقوى، على أن ما ورد في فضائل مسجده صلى الله عليه وسلم أكثر مما ورد في فضل مسجد قباء بلا شك ولا شبهة تعم. وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء "فيه رجال يحبون أن يتطهروا" "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويم بن ساعدة فقال: ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم؟، فقالوا: يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه، أو قال: مقعدته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:هو هذا". وأخرج أحمد وابن خزيمة والطبراني والحاكم وابن مردويه "عن عويم بن ساعدة الأنصارى أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تتطهرون به؟، قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا"، رواه أحمد عن حسن بن محمد. حدثنا أبو أويس حدثنا شرحبيل عن عويم بن ساعدة فذكره. وقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه. وأخرج ابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الجارود في المنتقى والدارقطني والحاكم وابن مردويه وابن عساكر عن طلحة بن نافع قال: حدثني أبو أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن هذه الآية لما نزلت: "فيه رجال يحبون أن يتطهروا" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيراً في الطهور فما طهوركم هذا؟، قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة، قال:فهل مع ذلك غيره؟، قالوا: لا، غير أن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أن يستنجي بالماء، قال:هو ذاك فعليكموه". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه وابن جرير والبغوي في معجمه والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن محمد بن عبد الله بن سلام عن أبيه قال:" لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الذي أسس على التقوى مسجد قباء فقال:إن الله قد أثنى عليكم في الطهور خيراً أفلا تخبروني؟ يعني قوله تعالى: "فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين" فقالوا: يا رسول الله إنا لنجده مكتوباً علينا في التوراة الاستنجاء بالماء، ونحن نفعله اليوم". وإسناد أحمد في هذا الحديث هكذا: حدثنا يحيى بن آدم حدثني مالك يعني ابن مغول سمعت سياراً أبا الحكم عن شهر بن حوشب عن محمد بن عبد الله بن سلام. وقد روي عن جماعة من التابعين في ذكر سبب نزول الآية نحو هذا. ولا يخفاك أن بعض هذه الأحاديث ليس فيه تعيين مسجد قباء وأهله، وبعضها ضعيف، وبعضها لا تصريح فيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، وعلى كل حال لا تقاوم تلك الأحاديث المصرحة بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في صحتها وصراحتها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فانهار به في نار جهنم" قال: يعني قواعده في نار جهنم. وأخرج مسدد في مسنده وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: لقد رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حيث انهار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم" قال: يعني الشك "إلا أن تقطع قلوبهم" يعني الموت. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن حبيب بن أبي ثابت في قوله: "ريبة في قلوبهم" قال: غيظاً في قلوبهم "إلا أن تقطع قلوبهم" قال: إلى أن يموتوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان في قوله: "إلا أن تقطع قلوبهم" قال: إلا أن يتوبوا.
لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وذكر أقسامهم، وفرع على كل قسم منها ما هو لائق به عاد على بيان فضيلة الجهاد والترغيب فيه، وذكر الشراء تمثيل كما في قوله: "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى" مثل سبحانه إثابة المجاهدين بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيل الله بالشراء، وأصله الشراء بين العباد هو إخراج الشيء عن الملك بشيء آخر مثله أو دونه أو أنفع منه، فهؤلاء المجاهدون باعوا أنفسهم من الله بالجنة التي أعدها للمؤمنين: أي بأن يكونوا من جملة أهل الجنة، وممن يسكنها فقد جادوا بأنفسهم، وهي أنفس الأعلاق، والجود بها غاية الجود: يجود بالنفس إن ضن الجبان بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود وجاد الله عليهم بالجنة، وهي أعظم ما يطلبه العباد، ويتوسلون إليه بالأعمال، والمراد بالأنفس هن أنفس المجاهدين، وبالأموال ما ينفقونه في الجهاد. قوله: 111- "يقاتلون في سبيل الله" بيان للبيع الذي يقتضيه الاشتراء المذكور كأنه قيل كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل: يقاتلون في سبيل الله، ثم بين هذه المقاتلة في سبيل الله بقوله: "فيقتلون ويقتلون" والمراد أنهم يقدمون على قتل الكفار في الحرب ويبذلون أنفسهم في ذلك، فإن فعلوا فقد استحقوا الجنة، وإن لم يقع القتل عليهم بعد الإبلاء في الجهاد والتعرض للموت بالإقدام على الكفار. قرأ الأعمش والنخعي وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المبني للمفعول على المبني للفاعل. وقرأ الباقون بتقديم المبني للفاعل على المبني للمفعول. وقوله: "وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن" إخبار من الله سبحانه أن فريضة الجهاد واستحقاق الجنة بها قد ثبت الوعد بها من الله في التوراة والإنجيل كما وقع في القرآن، وانتصاب وعداً وحقاً على المصدرية أو الثاني نعت للأول، وفي التوراة متعلق بمحذوف: أي وعداً ثابتاً فيها. قوله: "ومن أوفى بعهده من الله" في هذا من تأكيد الترغيب للمجاهدين في الجهاد والتنشيط لهم على بذل الأنفس والأموال ما لا يخفى فإنه أولاً أخبر بأنه قد اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وجاء بهذه العبارة الفخيمة، وهي كون الجنة قد صارت ملكاً لهم، ثم أخبر ثانياً بأنه قد وعد بذلك في كتبه المنزلة، ثم أخبر بأنه بعد هذا الوعد الصادق لا بد من حصول الموعود به فإنه لا أحد أوفى بعهده من الله سبحانه، وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد، ثم زادهم سروراً وحبوراً، فقال: "فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به" أي أظهروا السرور بذلك، والبشارة هي إظهار السرور، وظهوره يكون في بشرة الوجه، ولذا يقال أسارير الوجه: أي التي يظهر فيها السرور. وقد تقدم إيضاح هذا، والفاء لترتيب الاستبشار على ما قبله. والمعنى: أظهروا السرور بهذا البيع الذي بايعتم به الله عز وجل فقد ربحتم فيه ربحاً لم يربحه أحد من الناس إلا من فعل مثل فعلكم، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى الجنة، أو إلى نفس البيع الذي ربحوا فيه الجنة، ووصف الفوز وهو الظفر بالمطلوب بالعظم يدل على أنه فوز لا فوز مثله.