تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 21 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 21

020

ولما ادعت اليهود والنصارى أن الهداية بيدها والخير مقصور عليها رد الله ذلك عليهم بقوله: 135- "بل ملة إبراهيم" أي قل يا محمد هذه المقالة، ونصب ملة بفعل مقدر: أي نتبع، وقيل التقدير: نكون ملة إبراهيم: أي أهل ملته، وقيل: بل نهتدي بملة إبراهيم، فلما حذف حرف الجر صار منصوباً. وقرأ الأعرج وابن أبي عبلة ملة بالرفع: أي بل الهدي ملة إبراهيم. والحنيف: المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، وهو في أصل اللغة: الذي تميل قدماه كل واحدة إلى أختها. قال الزجاج وهو منصوب على الحال: أي نتبع ملة إبراهيم حال كونه حنيفاً. وقال علي بن سليمان: هو منصوب بتقدير أعني والحال خطأ كما لا يجوز جاءني غلام هند مسرعة. وقال في الكشاف: هو حال من المضاف إليه كقولك: رأيت وجه هند قائمة، وقال قوم: الحنف الاستقامة، فسمي دين إبراهيم حنيفاً لاستقامته، وسمي معوج الرجلين أحنف تفاؤلاً بالاستقامة، كما قيل للديغ سليم، وللمهلكة مفازة. وقد استدل من قال بأن الحنيف في اللغة المائل لا المستقيم بقول الشاعر: إذا حول الظل العشي رأيته حنيفاً وفي قرن الضحى يتنصر أي أن الحرباء تستقبل القبلة بالعشي، وتستقبل المشرق بالغداة، وهي قبلة النصارى، ومنه قول الشاعر: والله لولا حنف في رجله ما كان في رجالكم من مثله وقوله: "وما كان من المشركين" فيه تعريض باليهود لقولهم: " عزير ابن الله " وبالنصارى لقولهم: "المسيح ابن الله" أي أن إبراهيم ما كان على هذه الحالة التي أنتم عليها من الشرك بالله فكيف تدعون عليه أنه كان على اليهودية أو النصرانية.
وقوله: 136- "قولوا: آمنا بالله" خطاب للمسلمين وأمر لهم بأن يقولوا هذه المقالة، وقيل: إنه خطاب للكفار بأن يقولوا كذلك حتى يكونوا على الحق، والأول أظهر. والأسباط: أولاد يعقوب وهم اثنا عشر ولداً، ولكل واحد منهم من الأولاد جماعة، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في العرب، وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون، وقيل: أصله من السبط بالتحريك وهو الشجر: أي هم في الكثرة بمنزلة الشجر، وقيل: الأسباط حفدة يعقوب: أي أولاد أولاده لا أولاده، لأن الكثرة إنما كانت فيهم دون أولاد يعقوب في نفسه، فهم أفراد لا أسباط. وقوله: "لا نفرق بين أحد منهم" قال الفراء: معناه لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود والنصارى. قال في الكشاف: وأحد في معنى الجماعة، ولذلك صح دخول بين عليه.
وقوله: 137- "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به" هذا الخطاب للمسلمين أيضاً: أي فإن آمن أهل الكتاب وغيرهم بمثل ما آمنتم به من جميع كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم فقد اهتدوا، وعلى هذا فمثل زائدة كقوله: "ليس كمثله شيء" وقول الشاعر: فصيروا مثل كعصف مأكول وقيل: إن المماثلة وقعت بين الإيمانين: أي فإن آمنوا بمثل إيمانكم. وقال في الكشاف: إنه من باب التبكيت لأن دين الحق واحد لا مثل له وهو دين الإسلام، قال: أي فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم مساوياً له في الصحة والسداد فقد اهتدوا، وقيل: إن الباء زائدة مؤكدة، وقيل: إنها للاستعانة. والشقاق أصله من الشق وهو الجانب، كأن كل واحد من الفريقين في جانب غير الجانب الذي فيه الآخر، وقيل: إنه مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب، فكل واحد من الفريقين يحرص على فعل ما يشق على صاحبه، ويصح حمل الآية على كل واحد من المعنيين، وكذلك قول الشاعر: وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق وقول الآخر: إلى كم تقبل العلماء قسراً وتفخر بالشقاق وبالنفاق وقوله: " فسيكفيكهم الله " وعد من الله تعالى لنبيه أنه سيكفيه من عانده وخالفه من المتولين، وقد أنجز له وعده بما أنزله من بأسه بقريظة والنضير وبني قينقاع.
وقوله: 138- "صبغة الله" قال الأخفش وغيره: أي دين الله، قال: وهي منتصبة على البدل من ملة، كما قاله الفراء. وقال في الكشاف: إنها مصدر مؤكد منتصب عن قوله: "آمنا بالله" كما انتصب -وعد الله- عما تقدمه، وهي فعلة من صبغ كالجلسة من جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ، والمعنى تطهير الله لأن الإيمان تطهير النفوس انتهى، وبه قال سيبويه: أي كونه مصدراً مؤكداً. وقد ذكر المفسرون أن أصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء، وهو الذي يسمونه المعمودية ويجعلون ذلك تطهيراً لهم، فإذا فعلوا ذلك قالوا الآن صار نصرانياً حقاً، فرد الله عليهم بقوله: "صبغة الله" أي الإسلام، وسماه صبغة استعارة، ومنه قول بعض شعراء همدان: وكل أنــاس لهم صـبغـة وصبغة همدان خير الصبغ صبغنا على ذاك أولادنا فأكـرم بصبغتنـا في الصـبغ وقيل: إن الصبغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام بدلاً من معمودية النصارى، ذكره الماوردي. وقال الجوهري: صبغة الله دينه وهو يؤيد ما تقدم عن الفراء، وقيل: الصبغة الختان.
وقوله: 139- "قل أتحاجوننا في الله" أي أتجادلوننا في الله: أي في دينه والقرب منه والحظوة عنده، وذلك كقولهم: "نحن أبناء الله وأحباؤه" وقرأ ابن محيصن أتحاجونا بالإدغام لاجتماع المثلين. وقوله: "وهو ربنا وربكم" أي نشترك نحن وأنتم في ربوبيته لنا وعبوديتنا له، فكيف تدعون أنكم أولى به منا وتحاجوننا في ذلك. وقوله: "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم" أي لنا أعمال ولكم أعمال فلستم بأولى بالله منا، وهو مثل قوله تعالى: " فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ". وقوله: "ونحن له مخلصون" أي نحن أهل الإخلاص للعبادة دونكم، وهو المعيار الذي يكون به التفاضل والخصلة التي يكون صاحبها أولى بالله سبحانه من غيره، فكيف تدعون لأنفسكم ما نحن أولى به منكم وأحق؟ وفيه توبيخ لهم وقطع لما جاءوا به من المجادلة والمناظرة.
وقوله: 140- "أم يقولون" قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص تقولون بالتاء الفوقية، وعلى هذه القراءة تكون أم ها هنا معادلة للهمزة في قوله: "أتحاجوننا" أي أتحاجوننا في الله أم تقولون إن هؤلاء الأنبياء على دينكم، وعلى قراءة الياء التحتية تكون أم منقطعة: أي بل يقولون: وقوله: " قل أأنتم أعلم أم الله " فيه تقريع وتوبيخ: أي أن الله أخبرنا بأنهم لم يكونوا هوداً ولا نصارى وأنتم تدعون أنهم كانوا هوداً أو نصارى فهل أنتم أعلم أم الله سبحانه. وقوله: "ومن أظلم" استفهام: أي لا أحد أظلم "ممن كتم شهادة عنده من الله" يحتمل أن يريد بذلك الذم لأهل الكتاب بأنهم يعلمون أن هؤلاء الأنبياء ما كانوا هوداً ولا نصارى، بل كانوا على الملة الإسلامية، فظلموا أنفسهم بكتمهم لهذه الشهادة بل بادعائهم لما هو مخالف لها، وهو أشد في الذنب ممن اقتصر على مجرد الكتم الذي لا أحد أظلم منه، ويحتمل أن المراد أن المسلمين لو كتموا هذه الشهادة لم يكون أحد أظلم منهم، ويكون المراد بذلك التعريض بأهل الكتاب، وقيل: المراد هنا ما كتموه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم. وفي قوله: "وما الله بغافل عما تعملون" وعيد شديد، وتهديد ليس عليه مزيد، وإعلام بأن الله سبحانه لا يترك عقوبتهم على هذا الظلم القبيح والذنب الفظيع.
وكرر قوله سبحانه: 141- "تلك أمة قد خلت" إلى آخر الآية لتضمنها معنى التهديد والتخويف الذي هو المقصود في هذا المقام. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "أم كنتم شهداء" يعني أهل الكتاب. وأخرج أيضاً عن الحسن في قوله: "أم كنتم شهداء" قال: يقول لم يشهد اليهود ولا النصارى ولا أحد من الناس يعقوب إذ أخذ على بنيه الميثاق إذ حضره الموت أن لا تعبدوا إلا الله، فأقروا بذلك وشهد عليهم أن قد أقرا بعبادتهم أنهم مسلمون. وأخرج عن ابن عباس أنه كان يقول: الجد أب ويتلو الآية. وأخرج أيضاً عن أبي العالية في الآية قال: سمي العم أباً. وأخرج أيضاً نحوه عن محمد بن كعب. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الهدي إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله فيهم: "وقالوا كونوا هوداً" الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "حنيفاً" قال: متبعاً. وأخرجا أيضاً عن ابن عباس في قوله: "حنيفاً" قال: حاجاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال: الحنيف المستقيم. وأخرج أيضاً عن خصيف قال: الحنيف المخلص. وأخرج أيضاً عن أبي قلابة قال: الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلا آخرهم. وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنفية السمحة". وأخرج أحمد أيضاً والبخاري في الأدب المفرد وابن المنذر عن ابن عباس قال: "قيل: يا رسول الله أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: الحنيفية السمحة". وأخرج الحاكم في تاريخه وابن عساكر من حديث أسعد بن عبد بالله بن مالك الخزاعي مرفوعاً مثله. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما الآية التي في البقرة "قولوا: آمنا بالله" كلها وفي الآخرة "آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون". وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله" الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: الأسباط بنو يعقوب كانوا اثني عشر رجلاً كل واحد منهم ولد أمة من الناس. وروى نحوه ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي، وحكاه ابن كثير في تفسيره عن أبي العالية والربيع وقتادة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فإن الله لا مثل له، ولكن قولوا: فإن آمنوا بالذي آمنتم به. وأخرج ابن أبي داود في المصاحف والخطيب في تاريخه عن أبي جمرة قال: كان ابن عباس يقرأ " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ". وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "فإنما هم في شقاق" قال فراق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "صبغة الله" قال: دين الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: فطرة الله التي فطر الناس عليها. وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل يصبغ ربك؟ فقال: اتقوا الله، فناداه ربه: يا موسى سألوك هل يصبغ ربك فقل: نعم، أنا أصبغ الألوان الأحمر والأبيض والأسود والألوان كلها في صبغتي" وأنزل الله على نبيه: "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة". وأخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس موقوفاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: إن اليهود تصبغ أبناءها يهوداً. والنصارى تصبغ أبناءها نصارى وإن صبغة الله الإسلام ولا صبغة أحسن من صبغة الإسلام ولا أطهر وهو دين الله الذي بعث به نوحاً ومن كان بعده من الأنبياء. وأخرج ابن النجار في تاريخ بغداد عن ابن عباس في قوله: "صبغة الله" قال: البياض. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أتحاجوننا" قال: أتخاصموننا. وأخرج ابن جرير عنه قال: أتجادلوننا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "ومن أظلم ممن كتم شهادة" الآية، قال: أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دين الله، واتخذوا اليهودية والنصرانية، وكتموا محمداً وهم يعلمون أنه رسول الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن الخسن نحوه. وأخرج ابن جرير عن قتادة والربيع في قوله: "تلك أمة قد خلت" قال: يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط.