تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 214 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 214

213

والتقدير في قوله: 43- "ومنهم من يستمعون" "ومنهم من ينظر" ومنهم ناس يستمعون، ومنهم بعض ينظر، والهمزتان في "أفأنت تسمع" "أفأنت تهدي" للإنكار والفاء في الموضعين للعطف على مقدر كأنه قيل: أيستمعون إليك فأنت تسمعهم؟ أينظرون إليك فأنت تهديهم؟ والكلام في "ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون" كالكلام في "ومنهم من يستمعون" إلخ، لأن العمى مانع فكيف يطمع من صاحبه في النظر. وقد انضم إلى فقد البصر فقد البصيرة، لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يكون له من الحدس الصحيح ما يفهم به في بعض الأحوال فهماً يقوم مقام النظر، وكذلك الأصم العاقل قد يتحدس تحدساً يفيده بعض فائدة، بخلاف من جمع له بين عمى البصر والبصيرة فقد تعذر عليه الإدراك. وكذا من جمع له بين الصمم وذهاب العقل فقد انسد عليه باب الهدى، وجواب لو في الموضعين محذوف دل عليهما ما قبلهما، والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الطبيب إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج أصلاً أعرض عنه واستراح من الاشتغال به.
قوله: 44- "إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون" ذكر هذا عقب ما تقدم من عدم الاهتداء بالأسماع والأبصار لبيان أن ذلك لم يكن لأجل نقص فيما خلقه الله لهم من السمع والعقل والبصر والبصيرة، بل لأجل ما صار في طبائعهم من التعصب والمكابرة للحق، والمجادلة بالباطل، والإصرار على الكفر، فهم الذين ظلموا أنفسهم بذلك، ولم يظلمهم الله شيئاً من الأشياء، بل خلقهم وجعل لهم من المشاعر ما يدركون به أكمل إدراك، وركب فيهم من الحواس ما يصلون به إلى ما يريدون، ووفر مصالحهم الدنيوية عليهم، وخلى بينهم وبين مصالحهم الدينية، فعلى نفسها براقش تجني. وقرأ حمزة والكسائي "ولكن الناس" بتخفيف النون ورفع الناس، وقرأ الباقون بتشديدها ونصب الناس. قال النحاس: زعم جماعة من النحويين منهم الفراء، أن العرب إذا قالت ولكن بالواو شددوا النون، وإذا حذفوا الواو خففوها. قيل: والنكتة في وضع الظاهر موضع المضمر زيادة التعيين والتقرير، وتقديم المفعول على الفعل لإفادة القصر، أو لمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة.
قوله: 45- "ويوم نحشرهم" الظرف منصوب بمضمر: أي واذكر يوم نحشرهم "كأن لم يلبثوا" أي كأنهم لم يلبثوا، والجملة في محل نصب على الحال: أي مشبهين من لم يلبث "إلا ساعة من النهار" أي شيئاً قليلاً منه، والمراد باللبث هو اللبث في الدنيا، وقيل في القبور، استقلوا المدة الطويلة إما لأنهم ضيعوا أعمارهم في الدنيا، فجعلوا وجودها كالعدم، أو استقصروها للدهش والحيرة، أو لطول وقوفهم في المحشر، أو لشدة ما هم فيه من العذاب نسوا لذات الدنيا وكأنها لم تكن، ومثل هذا قولهم: "لبثنا يوماً أو بعض يوم" وجملة "يتعارفون بينهم" في محل نصب على الحال، أو مستأنفة. والمعنى: يعرف بعضهم بعضاً كأ،هم لم يتفارقوا إلا قليلاً، وذلك عند خروجهم من القبور، ثم تنقطع التعاريف بينهم لما بين أيديهم من الأمور المدهشة للعقول المذهلة للأفهام. وقيل: إن هذا التعارف هو تعارف التوبيخ والتقريع، يقول بعضهم لبعض: أنت أضللتني وأغويتني لا تعارف شفقة ورأفة كما قال تعالى: "ولا يسأل حميم حميماً" وقوله: "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" فيجمع بأن المراد بالتعارف، هو تعارف التوبيخ، وعليه يحمل قوله: "ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول"، وقد جمع بين الآيات المختلفة في مثل هذا وغيره بأن المواقف يوم القيامة مختلفة فقد يكون في بعض المواقف ما لا يكون في الآخر "قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين" هذا تسجيل من الله سبحانه عليهم بالخسران، والجملة في محل النصب على الحال، والمراد بلقاء الله يوم القيامة عند الحساب والجزاء، ونفى عنهم أن يكونوا من جنس المهتدين لجهلهم وعدم طلبهم لما ينجيهم وينفعهم.
قوله: 46- "وإما نرينك بعض الذي نعدهم" أصله إن نرك وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط وزيدت نون التأكيد، والمعنى إن حصلت منا الإراءة لك بعض الذي وعدناهم من إظهار دينك في حياتك بقتلهم وأسرهم، وجواب الشرط محذوف، والتقدير فتراه، أو فذاك، وجملة "أو نتوفينك" معطوفة على ما قبلها، والمعنى: أو لا نرينك ذلك في حياتك بل نتوفينك قبل ذلك "فإلينا مرجعهم" فعند ذلك نعذبهم في الآخرة فنريك عذابهم فيها، وجواب "أو نتوفينك" محذوف أيضاً، والتقدير: أو نتوفينك قبل الإراءة فنحن نريك ذلك في الآخرة، وقيل: إن جواب "أو نتوفينك" هو قوله: "فإلينا مرجعهم" لدلالته على ما هو المراد من إراءة النبي صلى الله عليه وسلم تعذيبهم في الآخرة، وقيل: العدول إلى صيغة المستقبل في الموضعين لاستحضار الصورة، والأصل أريناك أو توفيناك، وفيه نظر فإن إراءته صلى الله عليه وسلم لبعض ما وعد الله المشركين من العذاب لم تكن قد وقعت كالوفاة. وحاصل معنى هذه الآية: إن لم ننتقم منهم عاجلاً انتقمنا منهم آجلاً. وقد أراه الله سبحانه قتلهم وأسرهم وذلهم وذهاب عزهم وانكسار سورة كبرهم بما أصابهم به في يوم بدر وما بعده من المواطن، فلله الحمد. قوله: "ثم الله شهيد على ما يفعلون" جاء بثم الدالة على التبعيد مع كون الله سبحانه شهيداً على ما يفعلونه في الدارين للدلالة على أن المراد بهذه الأفعال ما يترتب عليها من الجزاء أو ما يحصل من إنطاق الجوارح بالشهادة عليهم يوم القيامة، فجعل ذلك بمنزلة شهادة الله عليهم كما ذكره النيسابوري.
47- "ولكل أمة" من الأمم الخالية في وقت من الأوقات "رسول" يرسله الله إليهم، ويبين لهم ما شرعه الله لهم من الأحكام على حسب ما تقتضيه المصلحة "فإذا جاء رسولهم" إليهم وبلغهم ما أرسله الله به فكذبوه جميعاً " قضي بينهم " أي بين الأمة ورسولها "بالقسط" أي العدل فنجا الرسول وهلك المكذبون له كما قال سبحانه: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً" ويجوز أن يراد بالضمير في بينهم الأمة على تقدير أنه كذبه بعضهم وصدقه البعض الآخر، فيهلك المكذبون وينجو المصدقون "وهم لا يظلمون" في ذلك القضاء فلا يعذبون بغير ذنب، ولا يؤاخذون بغير حجة، ومنه قوله تعالى: " وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم " وقوله: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد" والمراد بالمبالغة في إظهار العدل والنصفة بين العباد.
ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبه الكفار، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كلما هددهم بنزول العذاب كانوا 48- "يقولون متى هذا الوعد" والاستفهام منهم للإنكار والاستبعاد وللقدح في النبوة "إن كنتم صادقين" خطاباً منهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله، ويحتمل أن يراد بالقائلين هذه المقالة جميع الأمم الذين لم يسلموا لرسلهم الذين أرسلهم الله إليهم.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عليهم بما يحسم مادة الشبهة ويقطع اللجاج فقال: 49- "قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً" أي لا أقدر على جلب نفع لها ولا دفع ضر عنها، فكيف أقدر على أن أملك ذلك لغيري، وقدم الضر، لأن السياق لإظهار العجز عن حضور الوعد الذي استعجلوه واستبعدوه، والاستثناء في قوله: "إلا ما شاء الله" منقطع كما ذكره أئمة التفسير: أي ولكن ما شاء الله من ذلك كان، فكيف أقدر على أن أملك لنفسي ضراً أو نفعاً. وفي هذه أعظم واعظ وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجيراه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه، وكذلك من صار يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه، فإن هذا مقام رب العالمين الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين ورزقهم وأحياهم ويميتهم، فكيف يطلب من نبي من الأنبياء أو ملك من الملائكة أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه ويترك الطلب لرب الأرباب القادر على كل شيء الخالق الرازق المعطي المانع؟ وحسبك بما في هذه الآية موعظة، فإن هذا سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأن يقول لعباده: لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً، فكيف يملكه لغيره، وكيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبته ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته لنفسه فضلاً عن أن يملكه لغيره، فيا عجباً لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل؟ كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك ولا يتنبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى لا إله إلا الله، ومدلول "قل هو الله أحد"؟ وأعجب من هذا اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ولا ينكرون عليهم ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى، بل إلى ما هو أشد منها فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق المحيي المميت الضار النافع، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله ومقربين لهم إليه، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضر والنفع، وينادونهم تارة على الاستقلال، وتارة مع ذي الجلال، وكفاك من شر سماعه والله ناصر دينه ومطهر شريعته من أوضار الشرك وأدناس الكفر، ولقد توسل الشيطان أخزاه الله بهذه الذريعة إلى ما تقر به عينه وينثلج به صدره من كفر كثير من هذه الأمة المباركة "وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً" "إنا لله وإنا إليه راجعون". ثم بين سبحانه أن لكل طائفة حداً محدوداً لا يتجاوزونه فلا وجه لاستعجال العذاب فقال: "لكل أمة أجل" فإذا جاء ذلك الوقت أنجز وعده وجازى كلاً بما يستحقه، والمعنى: أن لكل أمة ممن قضى بينهم وبين رسولهم، أو بين بعضهم البعض أجلاً معيناً ووقتاً خاصاً يحل بهم ما يريده الله سبحانه لهم عند حلوله "إذا جاء أجلهم" أي ذلك الوقت المعين، والضمير راجع إلى كل أمة "فلا يستأخرون" عن ذلك الأجل المعين "ساعة" أي شيئاً قليلاً من الزمان "ولا يستقدمون" عليه، وجملة لا يستقدمون معطوفة على جملة لا يستأخرون، ومثله قوله تعالى: "ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون" والكلام على هذه الآية المذكورة هنا قد تقدم في تفسير الآية التي في أول الأعراف فلا نعيده. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: "يتعارفون بينهم" قال: يعرف الرجل صاحبه إلى جنبه لا يستطيع أن يكلمه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وإما نرينك" الآية، قال: سوء العذاب في حياتك "أو نتوفينك" قبل "فإلينا مرجعهم" وفي قوله: "ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم" قال: يوم القيامة.
قوله: 50- "قل أرأيتم إن أتاكم عذابه" هذا منه سبحانه تزييف لرأي الكفار في استعجال العذاب بعد التزييف الأول: أي أخبروني إن أتاكم عذاب الله "بياتاً" أي وقت بيات، والمراد به الوقت الذي يبيتون فيه وينامون ويغفلون عن التحرز، والبيات بمعنى التبييت اسم مصدر كالسلام بمعنى التسليم، وهو منتصب على الظرفية، وكذلك نهاراً: أي وقت الاشتغال بطلب المعاش والكسب، والضمير في منه راجع إلى العذاب، وقيل: راجع إلى الله، والاستفهام في "ماذا يستعجل منه المجرمون" للإنكار المتضمن للنهي كما في قوله: "أتى أمر الله فلا تستعجلوه" ووجه الإنكار عليهم في استعجالهم أن العذاب مكروه تنفر منه القلوب وتأباه الطبائع فما المقتضى لاستعجالهم له؟ والجملة المصدرة بالاستفهام جواب الشرط بحذف الفاء، وقيل: إن الجواب محذوف، والمعنى: تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا الخطأ منكم فيه، وقيل: إن الجواب قوله: "أثم إذا ما وقع" وتكون جملة "ماذا يستعجل منه المجرمون" اعتراضاً، والمعنى: إن أتاكم عذبه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان. والأول أولى. وإنما قال يستعجل منه المجرمون ولم يقل يستعجلون منه للدلالة على ما يوجب ترك الاستعجال، وهو الإجرام، لأن من حق المجرم أن يخاف من العذاب بسبب إجرامه، فكيف يستعجله؟ كما يقال لمن يستوخم أمراً إذا طلبه: ماذا تجني على نفسك. وحكى النحاس عن الزجاج أن الضمير في "منه" إن عاد إلى العذاب كان لك في "ماذا" تقديران: أحدهما: أن تكون ما في موضع رفع بالابتداء، وذا بمعنى الذي، وهو خبر ما، والعائد محذوف. والتقدير الآخر: أن يكون "ماذا" إسماً واحداً في موضع رفع بالابتداء، والخبر ما بعده، وإن جعل الضمير في "منه" عائداً إلى الله تعالى كان "ماذا" شيئاً واحداً في موضع نصب بيستعجل، والمعنى: أي شيء يستعجل منه المجرمون: أي من الله عز وجل.
ودخول الهمزة الاستفهامية في 51- "أثم إذا ما وقع آمنتم به" على ثم كدخولها على الواو والفاء، وهي لإنكار إيمانهم حيث لا ينفع الإيمان وذلك بعد نزول العذاب، وهو يتضمن معنى التهويل عليهم وتفظيع ما فعلوه في غير وقته مع تركهم له في وقته الذي يحصل به النفع والدفع، وهذه الجملة داخلة تحت القول المأمور به وجيء بكلمة ثم التي للتراخي دلالة على الاستبعاد، وجيء بإذا مع زيادة ما للتأكيد دلالة على تحقق وقوع الإيمان منهم في غير وقته ليكون في ذلك زيادة استجهال لهم. والمعنى: أبعد ما وقع عذاب الله عليكم، وحل بكم سخطه وانتقامه آمنتم حين لا ينفعكم هذا الإيمان شيئاً، ولا يدفع عنكم ضراً، وقيل: إن هذه الجملة ليست داخلة تحت القول المأمور به، وأنها من قول الملائكة استهزاء بهم، وإزراء عليهم. والأول أولى. وقيل: إن ثم هاهنا هي بفتح الثاء فتكون ظرفية بمعنى هناك. والأول أولى. قوله: "آلآن وقد كنتم به تستعجلون" قيل: هو استئناف بتقدير القول غير داخل تحت القول الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم: أي قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب: آلآن آمنتم به وقد كنتم به تستعجلون: أي بالعذاب تكذيباً منكم واستهزاء، لأن استعجالهم كان على جهة التكذيب والاستهزاء، ويكون المقصود بأمره صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول التوبيخ لهم والاستهزاء بهم والإزراء عليهم، وجملة "وقد كنتم به تستعجلون" في محل نصب على الحال، وقرئ آلآن بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام.
قوله: 52- "ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد" معطوف على الفعل المقدر، قيل: آلآن، والمراد منه: التقريع والتوبيخ لهم: أي قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر وعدم الإيمان: إن هذا الذي تطلبونه ضرر محض، عار عن النفع من كل وجه، والعاقل لا يطلب ذلك. ويقال لهم على سبيل الإهانة لهم: ذوقوا عذاب الخلد: أي العذاب الدائم الذي لا ينقطع، والقائل لهم هذه المقالة والتي قبلها قيل: هم الملائكة الذين هم خزنة جهنم، ولا يبعد أن يكون القائل لذلك هم الأنبياء على الخصوص، أو المؤمنون على العموم "هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون" في الحياة من الكفر والمعاصي، والاستفهام للتقرير، وكأنه يقال لهم هذا القول عن استغاثتهم من العذاب وحلول النقمة.
ثم حكى الله سبحانه عنهم بعد هذه البيانات البالغة، والجوابات عن أقوالهم الباطلة: أنهم استفهموا تارة أخرى عن تحقق العذاب، فقال: 53- "ويستنبئونك أحق هو" أي يستخبرونك عن جهة الاستهزاء منهم والإنكار أحق ما تعدنا به من العذاب في العاجل والآجل، وهذا السؤال منهم جهل محض، وظلمات بعضها فوق بعض، فقد تقدم ذكره عنهم مع الجواب عليه، فصنيعهم في هذا التكرير صنيع من لا يعقل ما يقول ولا ما يقال له، وقيل: المراد بهذا الاستخبار منهم هو عن حقية القرآن، وارتفاع حق على أنه خبر مقدم، والمبتدأ هو الضمير الذي بعده، وتقديم الخبر للاهتمام، أو هو مبتدأ، والضمير مرتفع به ساد مسد الخبر، والجملة في موضع نصب بيستنبئونك، وقرئ آلحق هو على أن اللام للجنس، فكأنه قيل: أهو الحق لا الباطل. قوله: "قل إي وربي إنه لحق" أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه المقالة جواباً عن استفهامهم الخارج مخرج الاستهزاء: أي قل لهم يا محمد غير ملتفت إلى ما هو مقصودهم من الاستهزاء: "إي وربي إنه لحق": أي نعم وربي إن ما أعدكم به من العذاب لحق ثابت كائن لا محالة. وفي هذا الجواب تأكيد من وجوه: الأول: القسم مع دخول الحرف الخاص بالقسم الواقع موقع نعم، الثاني: دخول إن المؤكدة، الثالث: اللام في لحق، الرابع: إسمية الجملة، وذلك يدل على أنهم قد بلغوا في الإنكار والتمرد إلى الغاية التي ليس وراءها غاية، ثم توعدهم بأشد توعد، ورهبهم بأعظم ترهيب، فقال: "وما أنتم بمعجزين" أي فائتين العذاب بالهرب والتحيل الذي لا ينفع والمكابرة التي لا تدفع من قضاء الله شيئاً، وهذه الجملة إما معطوفة على جملة جواب القسم، أو مستأنفة لبيان عدم خلوصهم من عذاب الله بوجه من الوجوه.
ثم زاد في التأكيد، فقال: 54- "ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به" أي ولو أن لكل نفس من الأنفس المتصفة بأنها ظلمت نفسها بالكفر بالله وعدم الإيمان به ما في الأرض من كل شيء من الأشياء التي تشتمل عليها من الأموال النفيسة والذخائر الفائقة لافتدت به: أي جعلته فدية لها من العذاب، ومثله قوله تعالى: " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به " وقد تقدم. قوله: "وأسروا الندامة لما رأوا العذاب" الضمير راجع إلى الكفار الذين سياق الكلام معهم، وقيل: راجع إلى الأنفس المدلول عليها بكل نفس. ومعنى أسروا: أخفوا: أي لم يظهروا الندامة بل أخفوها لما قد شاهدوه في ذلك الموطن مما سلب عقولهم، وذهب بتجلدهم، ويمكن أنه بقي فيهم وهم على تلك الحالة عرق ينزعهم إلى العصبية التي كانوا عليها في الدنيا، فأسروا الندامة لئلا يشمت بهم المؤمنون، وقيل: أسرها الرؤساء فيما بينهم دون أتباعهم خوفاً من توبيخهم لهم لكونهم هم الذين أضلوهم وحالوا بينهم وبين الإسلام، ووقوع هذا منهم كان عند رؤية العذاب، وأما بعد الدخول فيه فهم الذين "قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا" وقيل: معنى أسروا: أظهروا، وقيل: وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم، لأن الندامة لا يمكن إظهارها، ومنه قول كثير: فأسررت الندامة يوم نادى برد جمال عاضرة المنادى وذكر المبرد في ذلك وجهين: الأول: أنها بدت في وجوههم أسرة الندامة، وهي الإنكسار، واحدها سرار، وجمعها أسارير، والثاني: ما تقدم، وقيل معنى "أسروا الندامة" أخلصوها، لأن إخفاءها إخلاصها، و "لما" في قوله: "لما رأوا العذاب" ظرف بمعنى حين منصوب بـ أسروا، أو حرف شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه "وقضي بينهم بالقسط" أي قضى الله بين المؤمنين وبين الكافرين أو بين الرؤساء والأتباع، أو بين الظالمين من الكفار والمظلومين، وقيل: معنى القضاء بينهم: إنزال العقوبة عليهم، والقسط: العدل، وجملة "وهم لا يظلمون" في محل نصب على الحال: أي لا يظلمهم الله فيما فعل بهم من العذاب الذي حل بهم فإنه بسبب ما كسبوا.