تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 225 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 225

224

قوله: 29- "ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله" فيه التصريح منه عليه السلام بأنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالاً حتى يكون بذلك محلاً للتهمة، ويكون لقول الكافرين مجال بأنه إنما ادعى ما ادعى طلباً للدنيا، والضمير في عليه راجع إلى ما قاله لهم فيما قبل هذا. وقوله: "وما أنا بطارد الذين آمنوا" كالجواب عما يفهم من قولهم: "وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا" من التلميح منهم إلى إبعاد الأراذل عنه، وقيل إنهم سألوه طردهم تصريحاً لا تلميحاً، ثم علل ذلك بقوله: "إنهم ملاقوا ربهم" أي لا أطردهم، فإنهم ملاقون يوم القيامة ربهم فهو يجازيهم على إيمانهم لأنهم طلبوا بإيمانهم ما عنده سبحانه، وكأنه قال هذا على وجه الإعظام لهم، ويحتمل أنه قاله خوفاً من مخاصمتهم له عند ربهم بسبب طرده لهم، ثم بين لهم ما هم عليه في هذه المطالب التي طلبوها منه والعلل التي اعتلوا بها عن إجابته فقال: "ولكني أراكم قوماً تجهلون" كل ما ينبغي أن يعلم، ومن ذلك استرذالهم للذين اتبعوه وسؤالهم له أن يطردهم.
ثم أكد عدم جواز طردهم بقوله: 30- "ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم" أي يمنعني من عذاب الله وانتقامه إن طردتهم؟ فإن طردهم بسبب سبقهم إلى الإيمان والإجابة إلى الدعوة التي أرسل الله رسوله لأجلها ظلم عظيم لا يقع من أنبياء الله المؤيدين بالعصمة، ولو وقع ذلك منهم فرضاً وتقديراً لكان فيه من الظلم ما لا يكون لو فعله غيرهم من سائر الناس. وقوله: "أفلا تذكرون" معطوف على مقدر، كأنه قيل: أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل بما ذكر أفلا تذكرون من أحوالهم ما ينبغي تذكره وتتفكرون فيه حتى تعرفوا ما أنتم عليه من الخطأ، وما هم عليه من الصواب.
قوله: 31- "ولا أقول لكم عندي خزائن الله" بين لهم أنه كما لا يطلب منهم شيئاً من أموالهم على تبليغ الرسالة، كذلك لا يدعي أن عنده خزائن الله حتى يستدلوا بعدمها على كذبه، كما قالوا: "وما نرى لكم علينا من فضل" والمراد بخزائن الله: خزائن رزقه "ولا أعلم الغيب" أي ولا أدعي أني أعلم بغيب الله، بل لم أقل لكم إلا أني نذير مبين، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم "ولا أقول" لكم "إني ملك" حتى تقولوا ما نراك إلا بشراً مثلنا. وقد استدل بهذا من قال إن الملائكة أفضل من الأنبياء، والأدلة في هذه المسألة مختلفة، وليس لطالب الحق إلى تحقيقها حاجة، فليست مما كلفنا الله بعلمه "ولا أقول للذين تزدري أعينكم" أي تحتقر، والازدراء مأخوذ من أزرى عليه: إذا عابه، وزرى عليه: إذا احتقره، وأنشد الفراء: يباعد الصديق وتزدريه خليلته وينهره الصغير والمعنى: إني لا أقول لهؤلاء المتبعين لي المؤمنين بالله الذين تعيبونهم وتحتقرونهم "لن يؤتيهم الله خيراً" بل قد آتاهم الخير العظيم بالإيمان به واتباع نبيه، فهو مجازيهم الجزاء العظيم في الآخرة ورافعهم في الدنيا إلى أعلى محل، ولا يضرهم احتقاركم لهم شيئاً "الله أعلم بما في أنفسهم" من الإيمان به والإخلاص له فمجازيهم على ذلك، ليس لي ولا لكم من أمرهم شيء "إني إذاً لمن الظالمين" لهم إن فعلت ما تريدونه بهم، أو من الظالمين لأنفسهم إن فعلت ذلك بهم.
ثم جاوبوه بغير ما تقدم من كلامهم وكلامه عجزاً عن القيام بالحجة وقصوراً عن رتبة المناظرة وانقطاعاً عن المباراة بقولهم: 32- "يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا" أي خاصمتنا بأنواع الخصام، ودفعتنا بكل حاجة لها مدخل في المقام، ولم يبق لنا في هذا الباب مجال، فقد ضاقت علينا المسالك وانسدت أبواب الحيل "فأتنا بما تعدنا" من العذاب الذي تخوفنا منه وتخافه علينا "إن كنت من الصادقين" فيما تقوله لنا.
فأجاب بأن ذلك ليس إليه وإنما هو بمشيئة الله وإرادته، و 33- "قال إنما يأتيكم به الله إن شاء" فإن قضت مشيئته وحكمته بتعجيله عجله لكم، وإن قضت مشيئته وحكمته بتأخيره أخره "وما أنتم بمعجزين" بفائتين عما أراده الله بكم بهرب أو مدافعة.
34- "ولا ينفعكم نصحي" الذي أبذله لكم وأستكثر منه قياماً مني بحق النصيحة لله بإبلاغ رسالته، ولكن بإيضاح الحق وبيان بطلان ما أنتم عليه "إن أردت أن أنصح لكم" وجواب هذا الشرط محذوف، والتقدير: إن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي، كما يدل عليه ما قبله "إن كان الله يريد أن يغويكم" أي إن كان الله يريد إغواءكم فلا ينفعكم النصح مني، فكان جواب هذا الشرط محذوفاً كالأول، وتقديره ما ذكرنا، وهذا التقدير إنما هو على مذهب من يمنع من تقدم الجزاء على الشرط، وأما على مذهب من يجيزه، فجزاء الشرط الأول ولا ينفعكم نصحي، وجزاء الشرط الثاني الجملة الشرطية الأولى وجزاؤها. قال ابن جرير: معنى يغويكم يهلككم بعذابه، وظاهر لغة العرب أن الإغواء الإضلال، فمعنى الآية: لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يضلكم عن سبيل الرشاد ويخذلكم عن طريق الحق. وحكي عن طي أصبح فلان غاوياً: أي مريضاً، وليس هذا المعنى هو المراد في الآية. وقد ورد الإغواء بمعنى الإهلاك، ومنه "فسوف يلقون غياً" وهو غير ما في هذه الآية "هو ربكم" فإليه الإغواء وإليه الهداية "وإليه ترجعون" فيجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي" قال: فيما ظهر لنا. وأخرج أبو الشيخ عن عطاء مثله. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: "إن كنت على بينة من ربي" قال: قد عرفتها وعرفت بها أمره، وأنه لا إله إلا هو، "وآتاني رحمة من عنده" قال: الإسلام الهدى والإيمان والحكم والنبوة. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "أنلزمكموها" قال: أما والله لو استطاع نبي الله لألزمها قومه، ولكنه لم يستطع ذلك ولم يمكنه. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه كان يقرأ أنلزمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال في قراءة أبي أنلزمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي بن كعب أنه قرأ أنلزمكموها من شطر قلوبنا. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: "وما أنا بطارد الذين آمنوا"، قال: قالوا له يا نوح إن أحببت أن نتبعك فاطردهم، وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأرض سواء، وفي قوله: "إنهم ملاقوا ربهم" قال: فيسألهم عن أعمالهم "ولا أقول لكم عندي خزائن الله" التي لا يفنيها شيء، فأكون إنما دعوتكم لتتبعوني عليها، لا أعطيكم بملكه لي عليها "ولا أعلم الغيب" لا أقول: اتبعوني على علمي بالغيب "ولا أقول إني ملك" نزلت من السماء برسالة، ما أنا إلا بشر مثلكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد "ولا أقول للذين تزدري أعينكم". قال: حقرتموهم. وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: "لن يؤتيهم الله خيراً" قال: يعني إيماناً. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: "فأتنا بما تعدنا" قال: تكذيباً بالعذاب وأنه باطل.
قوله: 35- "أم يقولون افتراه" أنكر سبحانه عليهم قولهم: إن ما أوحي إلى نوح مفترى، فقال: "أم يقولون افتراه" ثم أمره أن يجيب بكلام متصف، فقال: "قل إن افتريته فعلي إجرامي" بكسر الهمزة على قراءة الجمهور، مصدر أجرم: أي فعل ما يوجب الإثم، وجرم وأجرم بمعنى قاله النحاس، والمعنى: فعلي إثمي أو جزاء كسبي. ومن قرأ بفتح الهمزة، قال: هو جمع ذكره النحاس "وأنا بريء مما تجرمون" أي من إجرامكم بسبب ما تنسبونه إلي من الافتراء، قيل: وفي الكلام حذف والتقدير: لكن ما افتريته، فالإجرام وعقابه ليس إلا عليكم وأنا بريء منه. وقد اختلف المفسرون في هذه الآية، فقيل: إنها حكاية عن نوح وما قاله لقومه، وقيل: هي حكاية عن المحاورة الواقعة بين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكفار مكة. والأول أولى، لأن الكلام قبلها وبعدها مع نوح عليه السلام.
قوله: 36- "وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن" أنه لن يؤمن في محل رفع على أنه نائب الفاعل الذي لم يسم. ويجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير الباء: أي بأنه، وفي الكلام تأييس له من إيمانهم، وأنهم مستمرون على كفرهم، مصممون عليه، لا يؤمن أحد منهم إلا من قد سبق إيمانه "فلا تبتئس بما كانوا يفعلون" البؤس: الحزن، أي فلا تحزن، والبائس: المستكين، فنهاه الله سبحانه عن أن يحزن حزن مستكين لأن الابتئاس حزن في استكانة. ومنه قول الشاعر: وكم من خليل أو حميم رزئته فلم أبتئس والرزء فيه جليل
ثم إن الله سبحانه لما أخبره أنهم لا يؤمنون ألبتة عرفه وجه إهلاكهم، وألهمه الأمر الذي يكون به خلاصه وخلاص من آمن معه، فقال: 37- "واصنع الفلك بأعيننا ووحينا" أي اعمل السفينة متلبساً بأعيننا: أي بمرأى منا، والمراد بحراستنا لك وحفظنا لك، وعبر عن ذلك بالأعين لأنها آلة الرؤية، والرؤية هي التي تكون بها الحراسة والحفظ في الغالب، وجمع الأعين للتعظيم لا للتكثير، وقيل المعنى: "بأعيننا" أي بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيوناً على حفظك، وقيل: "بأعيننا" بعلمنا، وقيل بأمرنا. ومعنى بوحينا: بما أوحينا إليك من كيفية صنعتها "ولا تخاطبني في الذين ظلموا" أي لا تطلب إمهالهم، فقد حان وقت الانتقام منهم، وجملة "إنهم مغرقون" للتعليل: أي لا تطلب منا إمهالهم، فإنه محكوم منا عليهم بالغرق وقد مضى به القضاء فلا سبيل إلى دفعه ولا تأخيره، وقيل: المعنى ولا تخاطبني في تعجيل عقابهم فإنهم مغرقون في الوقت المضروب لذلك، لا يتأخر إغراقهم عنه، وقيل: المراد بالذين ظلموا امرأته وابنه.