تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 229 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 229

228

63- "قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي" أي حجة ظاهرة وبرهان صحيح "وآتاني منه" أي من جهته "رحمة" أي نبوة، وهذه الأمور وإن كانت متحققة الوقوع، لكنها صدرت بكلمة الشك اعتباراً بحال المخاطبين، لأنهم في شك من ذلك، كما وصفوه عن أنفسهم "فمن ينصرني من الله" استفهام معناه النفي: أي لا ناصر لي يمنعني من عذاب الله "إن عصيته" في تبليغ الرسالة وراقبتكم وفترت عما يجب علي من البلاغ "فما تزيدونني" بتثبيطكم إياي "غير تخسير" بأن تجعلوني خاسراً بإبطال عملي، والتعرض لعقوبة الله لي. قال الفراء: أي تضليل وإبعاد من الخير، وقيل المعنى: فما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم.
قوله: 64- "ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية" قد مر تفسير هذه الآية في الأعراف، ومعنى لكم آية: معجزة ظاهرة، وهي منتصبة على الحال، ولكن في محل نصب على الحال من آية مقدمة عليها، ولو تأخرت لكانت صفة لها، وقيل: إن ناقة الله بدل من هذه، والخبر لكم، والأول أولى، وإنما قال: ناقة الله لأنه أخرجها لهم من جبل على حسب اقتراحهم، وقيل: من صخرة صماء "فذروها تأكل في أرض الله" أي دعوها تأكل في أرض الله مما فيها من المراعي التي تأكلها الحيوانات. قال أبو إسحاق الزجاج: ويجوز رفع تأكل على الحال والاستئناف، ولعله يعني في الأصل على ما تقتضيه لغة العرب لا في الآية، فالمعتمد القراءات المروية على وجه الصحة "ولا تمسوها بسوء". قال الفراء: بعقر، والظاهر أن النهي عما هو أعم من ذلك "فيأخذكم عذاب قريب" جواب النهي: أي قريب من عقرها، وذلك ثلاثة أيام.
65- "فعقروها" أي فلم يمتثلوا الأمر من صالح ولا النهي، بل خالفوا كل ذلك فوقع منهم العقر لها "فقال" لهم صالح "تمتعوا في داركم ثلاثة أيام" أي تمتعوا بالعيش في منازلكم ثلاثة أيام، فإن العقاب نازل عليكم بعدها، قيل: إنهم عقروها يوم الأربعاء، فأقاموا الخميس والجمعة والسبت وأتاهم العذاب يوم الأحد، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما يدل عليه الأمر بالتمتع ثلاثة أيام "وعد غير مكذوب" أي غير مكذوب فيه، فحذف الجار اتباعاً، أو من باب المجاز كأن الوعد إذا وفى به صدق ولم يكذب، ويجوز أن يكون مصدراً: أي وعد غير كذب.
66- "فلما جاء أمرنا" أي عذابنا، أو أمرنا بوقوع العذاب "نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا" قد تقدم تفسير هذا في قصة هود "ومن خزي يومئذ" أي ونجيناهم من خزي يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة، والخزي: الذل والمهانة، وقيل من عذاب يوم القيامة، والأول أولى. وقرأ نافع والكسائي بفتح يوم على أنه اكتسب البناء من المضاف إليه. وقرأ الباقون بالكسر "إن ربك هو القوي العزيز" القادر الغالب الذي لا يعجزه شيء.
67- "وأخذ الذين ظلموا الصيحة" أي في اليوم الرابع من عقر الناقة، صيح بهم فماتوا، وذكر الفعل لأن الصيحة والصياح واحد مع كون التأنيث غير حقيقي، قيل صيحة جبريل، وقيل صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وماتوا، وتقدم في الأعراف "فأخذتهم الرجفة" قيل: ولعلها وقعت عقب الصيحة "فأصبحوا في ديارهم جاثمين" أي ساقطين على وجوههم موتى قد لصقوا بالتراب كالطير إذا جثمت.
68- "كأن لم يغنوا فيها" أي كأنهم لم يقيموا في بلادهم أو ديارهم، والجملة في محل نصب على الحال والتقدير: مماثلين لمن لم يوجد ولم يقم في مقام قط " ألا إن ثمود كفروا ربهم " وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة البيان، وصرح بكفرهم مع كونه معلوماً تعليلاً للدعاء عليهم بقوله: "ألا بعداً لثمود". وقرأ الكسائي بالتنوين. وقد تقدم تفسير هذه القصة في الأعراف بما يحتاج إلى مراجعته ليضم ما في إحدى القصتين من الفوائد إلى الأخرى. وقد أخرج أبو الشيخ عن السدي: "هو أنشأكم من الأرض" قال: خلقكم من الأرض. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد "واستعمركم فيها" قال: أعمركم فيها. وأخرج ابن ابي حاتم عن ابن زيد "واستعمركم فيها" قال: استخلفكم فيها. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد "فما تزيدونني غير تخسير" يقول: ما تزدادون أنتم إلا خساراً. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء الخراساني نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "فأصبحوا في ديارهم جاثمين" قال: ميتين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "كأن لم يغنوا فيها" قال: كأن لم يعيشوا فيها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه، قال: كأن لم يعمروا فيها. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: كأن لم ينعموا فيها.
هذه قصة لوط عليه السلام وقومه، وهو ابن عم إبراهيم عليه السلام، وكانت قرى لوط بنواحي الشام وإبراهيم ببلاد فلسطين. فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط، مروا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان كل من نزل عنده يحسن قراه، وكان مرورهم عليه لتبشيره بهذه البشارة المذكورة، فظنهم أضيافاً، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل كانوا تسعة، وقيل أحد عشر، والبشرى التي بشروه بها هي بشارته بالولد، وقيل بإهلاك قوم لوط، والأولى أولى 69- "قالوا سلاماً" منصوب بفعل مقدر: أي سلمنا عليك سلاماً "قال سلام" ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي أمركم سلام، أو مرتفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف، والتقدير: عليكم سلام "فما لبث" أي إبراهيم "أن جاء بعجل حنيذ" قال أكثر النحويين "أن" هنا بمعنى حتى: أي فما لبث حتى جاء، وقيل: إنها في محل نصب بسقوط حرف الجر، والتقدير فما لبث عن أن جاء: أي ما أبطأ إبراهيم عن مجيئه بعجل وما نافية قاله سيبويه. وقال الفراء: فما لبث مجيئه: أي ما أبطأ مجيئه، وقيل: إن ما موصولة وهي مبتدأ والخبر أن جاء بعجل حنيذ والتقدير: فالذي لبث إبراهيم هو مجيئه بعجل حنيذ، والحنيذ: المشوي مطلقاً، وقيل: المشوي بحر الحجارة من غير أن تمسه النار، يقال: حنذ الشاة يحنذها: جعلها فوق حجارة محماة لتنضجها فهي حنيذ، وقيل معنى حنيذ: سمين، وقيل الحنيذ هو السميط، وقيل النضيج، وهو فعيل بمعنى مفعول، وإنما جاءهم بعجل، لأن البقر كانت أكثر أمواله.
70- "فلما رأى أيديهم لا تصل إليه" أي لا يمدونها إلى العجل كما يمد يده من يريد الأكل "نكرهم" يقال: نكرته وأنكرته واستنكرته: إذا وجدته على غير ما تعهد، ومنه قول الشاعر: فأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا فجمع بين اللغتين، ومما جمع فيه بين اللغتين قول الشاعر: إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها خرجت مع البازي علي سواد وقيل يقال: أنكرت لما تراه بعينك، ونكرت لما تراه بقلبك، قيل: وإنما استنكر منهم ذلك، لأن عادتهم أن الضيف إذا نزل بهم ولم يأكل من طعامهم ظنوا أنه قد جاء بشر "وأوجس منهم" أي أحس في نفسه منهم "خيفة" أي خوفاً وفزعاً، وقيل معنى أوجس: أضمر في نفسه خيفة، والأول ألصق بالمعنى اللغوي، ومنه قول الشاعر: جاء البريد بقرطاس يحث به فأوجس القلب من قرطاسه فزعا وكأنه ظن أنهم قد نزلوا به لأمر ينكره، أو لتعذيب قومه "قالوا لا تخف" قالوا له هذه المقالة مع كونه لم يتكلم بما يدل على الخوف، بل أوجس ذلك في نفسه، فلعلهم استدلوا على خوفه بأمارات كظهور أثره على وجهه، أو قالوه له بعد ما قال عقب ما أوجس في نفسه من الخيفة قولاً يدل على الخوف كما في قوله في سورة الحجر: "قال إنا منكم وجلون"، ولم يذكر ذلك هاهنا اكتفاء بما هنالك، ثم عللوا نهيه عن الخوف بقولهم: "إنا أرسلنا إلى قوم لوط" أي أرسلنا إليهم خاصة، ويمكن أن يكون إبراهيم عليه السلام قد قال قولاً يكون هذا جواباً عنه: " قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ".
وجملة 71- "وامرأته قائمة فضحكت" في محل نصب على الحال، قيل: كانت قائمة عند تحاورهم وراء الستر، وقيل: كانت قائمة تخدم الملائكة وهو جالس، والضحك هنا هو الضحك المعروف الذي يكون للتعجب أو للسرور كما قاله الجمهور. وقال مجاهد وعكرمة: إنه الحيض، ومنه قول الشاعر: وإني لآتي العرس عند طهورها وأهجرها يوماً إذا تك ضاحكا وقال الآخر: وضحك الأرانب فوق الصفا كمثل دم الخوف يوم اللقا والعرب تقول: ضحكت الأرنب: إذا حاضت. وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى حاضت "فبشرناها بإسحاق" ظاهره أن التبشير كان بعد الضحك. وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير. والمعنى: فبشرناها فضحكت سروراً بالولد. وقرأ محمد بن زياد من قراء مكة فضحكت بفتح الحاء، وأنكره المهدوي "ومن وراء إسحاق يعقوب". قرأ حمزة وابن عامر وحفص بنصف "يعقوب" على أنه مفعول فعل دل عليه "فبشرناها"، كأنه قال: ووهبنا لها من وراء إسحاق يعقوب. وأجاز الكسائي والأخفش وأبو حاتم أن يكون يعقوب في موضع جر. وقال الفراء: لا يجوز الجر إلا بإعادة حرفه. قال سيبويه: ولو قلت مررت بزيد أول من أمس، وأمس عمر كان قبيحاً خبيثاً، لأنك فرقت بين المجرور وما يشركه كما يفرق بين الجار والمجرور. وقرأ الباقون برفع يعقوب على أنه مبتدأ وخبره الظرف الذي قبله، وقيل: الرفع بتقدير فعل محذوف: أي ويحدث لها، أو وثبت لها. وقد وقع التبشير هنا لها، ووقع لإبراهيم في قوله تعالى: "فبشرناه بغلام حليم" "وبشروه بغلام عليم"، لأن كل واحد منهما مستحق للبشارة به لكونه منهما.