تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 230 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 230

229

وجملة 72- "قالت يا ويلتى" مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قالت؟ قال الزجاج: أصلها يا ويلتي، فأبدل من الياء ألف لأنها أخف من الياء والكسرة، وهي لم ترد الدعاء على نفسها بالويل، ولكنها كلمة تقع كثيراً على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه، وأصل الويل: الخزي، ثم شاع في كل أمر فظيع، والاستفهام في قولها: " أألد وأنا عجوز " للتعجب: أي كيف ألد وأنا شيخة قد طعنت في السن، يقال: عجزت تعجز مخففاً ومثقلاً عجزاً وتعجيزاً: أي طعنت في السن، ويقال: عجوز وعجوزة، وأما عجزت بكسر الجيم: فمعناه عظمت عجيزتها، قيل كانت بنت تسع وتسعين، وقيل بنت تسعين "وهذا بعلي شيخاً" أي وهذا زوجي إبراهيم شيخاً لا تحبل من مثله النساء، وشيخاً منتصب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة. قال النحاس: وفي قراءة أبي وابن مسعود شيخ بالرفع على أنه خبر المبتدأ، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف، وعلى الأول يكون بعلي بدلاً من اسم الإشارة، قيل: كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة، وقيل ابن مائة، وهذه المبشرة هي سارة امرأة إبراهيم. وقد كان ولد لإبراهيم من هاجر أمته إسماعيل، فتمنت سارة أن يكون لها ابن وأيست منه لكبر سنها، فبشرها الله به على لسان ملائكته "إن هذا لشيء عجيب" أي ما ذكرته الملائكة من التبشير بحصول الولد مع كونها في هذه السن العالية التي لا يوالد لمثلها شيء يقضي منه العجب.
وجملة 73- "قالوا أتعجبين من أمر الله" مستأنفة جواب سؤال مقدر، والاستفهام فيها للإنكار: أي كيف تعجبين من قضاء الله وقدره، وهو لا يستحيل عليه شيء، وإنما أنكروه عليها مع كون ما تعجبت منه من خوارق العادة لأنها من بيت النبوة، ولا يخفى على مثلها أن هذا من مقدوراته سبحانه، ولهذا قالوا: "رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت" أي الرحمة التي وسعت كل شيء والبركات وهي النمو والزيادة قيل الرحمة: النبوة، والبركات: الأسباط من بني إسرائيل لما فيهم من الأنبياء، وانتصاب أهل البيت على المدح أو الاختصاص، وصرف الخطاب من صيغة الواحدة إلى الجمع لقصد التعميم "إنه حميد" أي يفعل موجبات حمده من عباده على سبيل الكثرة "مجيد" كثير الإحسان إلى عباده بما يفيضه عليهم من الخيرات، والجملة تعليل لقوله: "رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت".
قوله: 74- "فلما ذهب عن إبراهيم الروع" أي الخيفة التي أوجسها في نفسه، يقال: ارتاع من كذا: إذا خاف، ومنه قول النابغة: فارتاع من صوت كلاب فبات له طوع الشوامت من خوف ومن حذر "وجاءته البشرى" أي بالولد، أو بقولهم: لا تخف. قوله: "يجادلنا في قوم لوط". قال الأخفش والكسائي: إن يجادلنا في موضع جادلنا، فيكون هو جواب لما، لما تقرر من أن جوابها يكون بالماضي لا بالمستقبل. قال النحاس: جعل المستقبل مكانه كما يجعل الماضي مكان المستقبل في الشرط، وقيل: إن الجواب محذوف، ويجادلنا في موضع نصب على الحال قاله الفراء، وتقديره: فلما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى اجترأ على خطابنا حال كونه يجادلنا: أي يجادل رسلنا، وقيل إن المعنى: أخذ يجادلنا، ومجادلته لهم قيل إنه لما سمع قولهم: " إنا مهلكوا أهل هذه القرية " قال: أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا، قال: فعشرون؟ قالوا: لا، ثم قال: فعشرة؟ فخمسة؟ قالوا: لا. قال: فواحد؟ قالوا: لا. "قال إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله" الآية، فهذا معنى مجادلته في قوم لوط: أي في شأنهم وأمرهم.
ثم أثنوا على إبراهيم، أو أثنى الله عليه فقال: 75- "إن إبراهيم لحليم" أي ليس بعجول في الأمور، ولا بموقع لها على غير ما ينبغي. والأواه: كثير التأوه، والمنيب: الراجع إلى الله. وقد تقم في براءة الكلام على الأواه.
قوله: 76- "يا إبراهيم أعرض عن هذا" هذا قول الملائكة له: أي أعرض عن هذا الجدال في أمر قد فرغ منه، وجف به القلم، وحق به القضاء "إنه قد جاء أمر ربك" الضمير للشأن، ومعنى مجيء أمر الله: مجيء عذابه الذي قدره عليهم، وسبق به قضاؤه "وإنهم آتيهم عذاب غير مردود" أي لا يرده دعاء ولا جدال، بل هو واقع بهم لا محالة، ونازل بهم على كل حال ليس بمصروف ولا مدفوع. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عثمان بن محصن في ضيف إبراهيم قال: كانوا أربعة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وروفائيل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "بعجل حنيذ" قال: نضيج. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: مشوي. وأخرج أبو الشيخ عنه أيضاً قال: سميط. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك قال: الحنيذ الذي أنضج بالحجارة. وأخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي يزيد البصري في قوله: "فلما رأى أيديهم لا تصل إليه" قال: لم ير لهم أيدياً فنكرهم. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "نكرهم" قال: كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يأت بخير، وأنه يحدث نفسه بشر، ثم حدثوه عند ذلك بما جاءوا فيه فضحكت امرأته. وأخرج ابن المنذر عن المغيرة قال: في مصحف ابن مسعود وامرأته قائمة وهو جالس. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد "وامرأته قائمة" قال: في خدمة أضياف إبراهيم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: لما أوجس إبراهيم في نفسه خيفة حدثوه عند ذلك بما جاءوا فيه، فضحكت امرأته تعجباً مما فيه قوم لوط من الغفلة، ومما أتاهم من العذاب. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس "فضحكت" قال: فحاضت وهي بنت ثمان وتسعين سنة. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "فضحكت" قال: حاضت وكانت ابنة بضع وتسعين سنة، وكان إبراهيم ابن مائة سنة. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة قال: حاضت. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عمر مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ومن وراء إسحاق يعقوب" قال: هو ولد الولد. وأخرج ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء عن حسان بن أبجر قال: كنت عند ابن عباس فجاء رجل من هذيل، فقال له ابن عباس: ما فعل فلان؟ قال: مات وترك أربعة من الولد وثلاثة من الوراء، فقال ابن عباس: "فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب" قال: ولد الولد. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس أنه كان ينهى عن أن يزاد في جواب التحية على قولهم: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ويتلو هذه الآية "رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت". وأخرج البيهقي عن ابن عمر نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: " فلما ذهب عن إبراهيم الروع " قال: الفرق "يجادلنا في قوم لوط" قال: يخاصمنا. وأخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ عن قتادة في تفسير المجادلة قال: إنه قال لهم يومئذ: أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين؟ قالوا: إن كان فيهم خمسون لم نعذبهم، قال: أربعون؟ قالوا: وأربعون، قال: ثلاثون؟ قالوا: وثلاثون حتى بلغوا عشرة، قالوا: إن كان فيهم عشرة لم نعذبهم، قال: ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير؟ قال قتادة: إنه كان في قرية لوط أربعة آلاف ألف إنسان، أو ما شاء الله من ذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: لما جاءت الملائكة إلى إبراهيم قالوا لإبراهيم: إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب. وأخرج أبو الشيخ عن عمرو بن ميمون قال: الأواه الرحيم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: المنيب المقبل إلى طاعة الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: المنيب المخلص.
لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ جاءوا إلى لوط، فلما رآهم لوط وكانوا في صورة غلمان حسان مرد 77- "سيء بهم" أي ساءه مجيئهم، يقال: ساءه يسوءه، وأصل سيء بهم سويء بهم نقلت حركة الواو إلى السين فقلبت الواو ياء، ولما خففت الهمزة ألقيت حركتها على الياء. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو عمرو بإشمام السين الضم "وضاق بهم ذرعاً" قال الأزهري: الذرع يوضع موضع الطاقة، وأصله أن البعير يذرع بيده في سيره على قدر سعة خطوه: أي يبسطها، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك، فجعل ضيق الذرع كناية عن قلة الوسع والطاقة وشدة الأمر، وقيل: هو من ذرعه القيء: إذا غلبه وضاق عن حبسه. والمعنى أنه ضاق صدره لما رأى الملائكة في تلك الصورة خوفاً عليهم من قومه لما يعلم من فسقهم وارتكابهم لفاحشة اللواط "وقال هذا يوم عصيب" أي شديد. قال الشاعر: وإنك إن لم ترض بكر بن وائل يكن لك يوم بالعراق عصيب يقال: عصيب وعصيصب وعصوصب على التكثير: أي يوم مكروه يجتمع فيه الشر، ومنه قيل: عصبة وعصابة: أي مجتمعو الكلمة، ورجل معصوب: أي مجتمع الخلق.
78- "وجاءه قومه يهرعون إليه" أي جاءوا لوطاً، الجملة في محل نصب على الحال. ومعنى يهرعون إليه: يسرعون إليه. قال الكسائي والفراء وغيرهما من أهل اللغة: لا يكون الإهراع إلا إسراع مع رعدة، يقال: أهرع الرجل إهراعاً: أي أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حمى، قال مهلهل: فجاءوا يهرعون وهم أسارى نهودهم على رغم الأنوف وقيل يهرعون: يهرولون، وقيل: هو مشي بين الهرولة والعدو. والمعنى: أن قوم لوط لما بلغهم مجيء الملائكة في تلك الصورة أسرعوا إليه، كأنما يدفعون دفعاً لطلب الفاحشة من أضيافه "ومن قبل كانوا يعملون السيئات" أي ومن قبل مجيء الرسل في هذا الوقت كانوا يعملون السيئات، وقيل: ومن قبل لوط كانوا يعملون السيئات: أي كانت عادتهم إتيان الرجال، فلما جاءوا إلى لوط، وقصدوا أضيافه لذلك العمل، قام إليهم لوط مدافعاً " قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم " أي تزوجوهن، ودعوا ما تطلبونه من الفاحشة بأضيافي، وقد كان له ثلاث بنات، وقيل اثنتان، وكانوا يطلبون منه أن يزوجهم بهن فيمتنع لخبثهم، وكان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما بنتيه، وقيل أراد بقوله: "هؤلاء بناتي" النساء جملة، لأن نبي القوم أب لهم، وقالت طائفة: إنما كان هذا القول منه على طريق المدافعة ولم يرد الحقيقة. ومعنى "هن أطهر لكم" أي أحل وأنزه، والتطهر: التنزه عما لا يحل، وليس في صيغة أطهر دلالة على التفضيل، بل هي مثل الله أكبر، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر بنصب أطهر، وقرأ الباقون بالرفع، ووجه النصب أن يكون اسم الإشارة مبتدأ وخبره بناتي، وهن ضمير فصل، وأطهر حال. وقد منع الخليل وسيبويه والأخفش مثل هذا، لأن ضمير الفصل الذي يسمى عماداً إنما يكون بين كلامين بحيث لا يتم الكلام إلا بما بعدها، نحو كان زيد هو أخاك "فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي" أي اتقوا الله بترك ما تريدون من الفاحشة بهم، ولا تذلوني وتجلبوا علي العار في ضيفي، والضيف يطلق على الواحد والاثنين والجماعة، لأنه في الأصل مصدر، ومنه قول الشاعر: لا تعدمي الدهر شفار الجازر للضيف والضيف أحق زائر ويجوز فيه التثنية والجمع، والأول أكثر. يقال: خزي الرجل خزاية: أي استحيا أو ذل أو هان، وخزي خزياً: إذا افتضح، ومعنى في ضيفي: في حق ضيفي، فخزي الضيف خزي للمضيف، ثم وبخهم فقال: "أليس منكم رجل رشيد" يرشدكم إلى ترك هذا العمل القبيح ويمنعكم منه.
فأجابوا عليه معرضين عما نصحهم به، وأرشدهم إليه بقولهم: 79- "ما لنا في بناتك من حق" أي ما لنا فيهم من شهوة ولا حاجة، لأن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق. ومعنى ما نسبوه إليه من العلم أنه قد علم منهم المكالبة على إتيان الذكور وشدة الشهوة إليهم، فهم من هذه الحيثية كأنهم لا حاجة لهم إلى النساء، ويمكن أن يريدوا: أنه لا حق لنا في نكاحهن، لأنه لا ينكحهن ويتزوج بهن إلا مؤمن ونحن لا نؤمن أبداً، وقيل: إنهم كانوا قد خطبوا بناته من قبل فردهم، وكان من سنتهم أن من خطب فرد فلا تحل المخطوبة أبداً "وإنك لتعلم ما نريد" من إتيان الذكور.
ثم إنه لما علم تصميمهم على الفاحشة وأنهم لا يتركون ما قد طلبوه 80- "قال لو أن لي بكم قوة" وجواب لو محذوف، والتقدير: لدافعتكم عنهم ومنعتكم منهم، وهذا منه عليه السلام على طريق التمني: أي لو وجدت معيناً وناصراً، فسمى ما يتقوى به قوة "أو آوي إلى ركن شديد" عطف على ما بعد لو لما فيه من معنى الفعل، والتقدير: لو قويت على دفعكم أو آويت إلى ركن شديد. وقرئ أو آوى بالنصر عطفاً على قوة كأنه قال: لو أن لي بكم قوة، أو إيواء إلى ركن شديد، ومراده بالركن الشديد: العشيرة، وما يمتنع به عنهم هو ومن معه، وقيل أراد بالقوة الولد، وبالركن الشديد: من ينصره من غير ولده، وقيل أراد بالقوة: قوته في نفسه.
ولما سمعته الملائكة يقول هذه المقالة، ووجدوا قومه قد غلبوه وعجز عن مدافعتهم 81- "قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك" أخبروه أولاً أنهم رسل ربه ثم بشروه بقوله: "لن يصلوا إليك" وهذه الجملة موضحة ما قبلها، لأنهم إذا كانوا مرسلين من عند الله إليه لم يصل عدوه إليه ولم يقدروا عليه، ثم أمروه أن يخرج عنهم فقالوا له: "فأسر بأهلك بقطع من الليل" قرأ نافع وابن كثير بالوصل، وقرأ غيرهما بالقطع، وهما لغتان فصيحتان. قال الله تعالى: "والليل إذا يسر" وقال: "سبحان الذي أسرى" وقد جمع الشاعر بين اللغتين فقال: حي النضير وربة الخدر أسرت عليه ولم تكن تسري وقيل: إن أسرى للمسير من أول الليل، وسرى للمسير من آخره، والقطع من الليل: الطائفة منه. قال ابن الأعرابي: بقطع من الليل: بساعة منه، وقال الأخفش: بجنح من الليل، وقيل: بظلمة من الليل، وقيل: بعد هدو من الليل. قيل: إن السرى لا يكون إلا في الليل، فما وجه زيادة بقطع من الليل؟ قيل: لو لم يقل بقطع من الليل لجاز أن يكون في أوله قبل اجتماع الظلمة، وليس ذلك بمراد "ولا يلتفت منكم أحد" أي لا ينظر إلى ما وراءه، أو يشتغل بما خلفه من مال أو غيره. قيل: وجه النهي عن الالتفات أن لا يروا عذاب قومهم، وهول ما نزل بهم فيرحموهم ويرقوا لهم، أو لئلا ينقطعوا عن السير المطلوب منهم بما يقع من الالتفات، فإنه لا بد للملتفت من فترة في سيره "إلا امرأتك" بالنصب على قراءة الجمهور، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بالرفع على البدل، فعلى القراءة الأولى امرأته مستثناة من قوله: "فأسر بأهلك" أي أسر بأهلك جميعاً إلا امرأتك فلا تسر بها، فـ "إنه مصيبها ما أصابهم" من العذاب، وهو رميهم بالحجارة لكونها كانت كافرة، وأنكر قراءة الرفع جماعة منهم أبو عبيد وقال: لا يصح ذلك إلا برفع يلتفت ويكون نعتاً، لأن المعنى يصير إذا أبدلت وجزمت أن المرأة أبيح لها الالتفات وليس المعنى كذلك. قال النحاس: وهذا العمل من أبي عبيد وغيره على مثل أبي عمرو مع جلالته ومحله من العربية لا يجب أن يكون، والرفع على البدل له معنى صحيح، وهو أن يكون استثناء من النهي عن الالتفات: أي لا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك، وقيل: إن الرفع على البدل من أحد، ويكون الالتفات بمعنى التخلف لا بمعنى النظر إلى الخلف، فكأنه قال: ولا يتخلف منكم أحد إلا امرأتك، فإنها تتخلف، والملجئ إلى هذا التأويل البعيد الفرار من تناقض القراءتين، والضمير في "إنه مصيبها ما أصابهم" للشأن، والجملة خبر إن "إن موعدهم الصبح" هذه الجملة تقليل لما تقدم من الأمر بالإسراء والنهي عن الالتفات، والمعنى: أن موعد عذابهم الصبح المسفر عن تلك الليلة، والاستفهام في "أليس الصبح بقريب" للإنكار التقريري، والجملة تأكيد للتعليل. وقرأ عيسى بن عمر أليس الصبح بضم الباء وهي لغة، ولعل جعل الصبح ميقاتاً لهلاكهم لكون النفوس فيه أسكن والناس فيه مجتمعون لم يتفرقوا إلى أعمالهم.