تفسير الطبري تفسير الصفحة 229 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 229
230
228
 الآية :63
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ يَقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيّنَةً مّن رّبّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ }.
يقول تعالـى ذكره: قال صالـح لقومه من ثمود: يا قَوْمِ أرأيْتُـمْ إنْ كُنْت علـى برهان وبـيان من الله قد علـمته وأيقنته وآتانِـي مِنْهُ رَحْمَةً يقول: وآتانـي منه النبوّة والـحكمة والإسلام, فَمَنْ يَنْصَرُنِـي مِنَ اللّهِ إنْ عَصَيْتُهُ يقول: فمن الذي يدفع عنـي عقابه إذا عاقبنـي إن أنا عصيته, فـيخـلّصنـي منه, فما تزيدوننـي بعذركم الذي تعتذرون به من أنكم تعبدون ما كان يعبد آبـاؤكم غير تـخسير لكمْ يخْسِركم حظوظكم من رحمة الله. كما:
14177ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فَمَا تَزِيدُونَنِـي غيرَ تَـخْسِير يقول: ما تزدادون أنتـم إلا خسارا.
الآية : 64
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَقَوْمِ هَـَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيَ أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ }.
يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل صالـح لقومه من ثمود إذ قالوا له وَإنّنَا لَفِـي شَكَ مِـمّا تَدْعُونَا إلَـيْهِ مُرِيبٍ وسألوه الآية علـى ما دعاهم إلـيه: يا قَوْمِ هَذِهِ ناقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً يقول: حجة وعلامة, ودلالة علـى حقـيقة ما أدعوكم إلـيه. فَذَرُوها تَأْكُلُ فِـي أرْضِ اللّهِ فلـيس علـيكم رزقها ولا مُؤْنتها. وَلا تَـمَسّوها بسُوءٍ يقول: لا تقتلوها ولا تنالوها بعقر, فَـيأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ يقول: فإنكم إن تـمسوها بسوء يأخذكم عذاب من الله غير بعيد فـيهلككم.
الآية : 65
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ }.
يقول تعالـى ذكره: فعقرت ثمود ناقة الله. وفـي الكلام مـحذوف قد ترك ذكره استغناء بدلالة الظاهر علـيه, وهو: فكذّبوه فعقروها. فقال لهم صالـح: تَـمَتّعُوا فِـي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ يقول: استـمتعوا فـي دار الدنـيا بحياتكم ثلاثة أيام. ذلكَ وَعْدٌ غيرُ مَكْذُوبٍ يقول: هذا الأجل الذي أجّلتكم وعد من الله, وعدكم بـانقضائه الهلاك, ونزول العذاب بكم غير مكذوب, يقول: لـم يكذبكم فـيه من أعلـمكم ذلك.
14178ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَعَقَرُوها فَقالَ تَـمَتّعُوا فِـي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ذلكَ وَعْدٌ غيرُ مَكْذُوبٍ وذُكِر لنا أن صالـحا حينَ أخبرهم أن العذاب أتاهم لبسوا الأنطاع والأكسية, وقـيـل لهم: إن آية ذلك أن تصفرّ ألوانكم أوّل يوم, تـم تـحمرّ فـي الـيوم الثانـي, ثم تسودّ فـي الـيوم الثالث وذُكر لنا أنهم لـما عقروا الناقة ندموا وقالوا: علـيكم الفصيـلَ فصعد الفصيـل القارة والقارة الـجبل حتـى إذا كان الـيوم الثالث, استقبل القبلة وقال: يا ربّ أمي يا ربّ أمي ثلاثا. قال: فأرسلت الصيحة عند ذلك.
وكان ابن عبـاس يقول: لو صعدتـم القارة لرأيتـم عظام الفصيـل. وكانت منازل ثمود بحجرْ بـين الشام والـمدينة.
14179ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: تَـمَتّعُوا فِـي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ قال: بقـية آجالهم.
14180ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة أن ابن عبـاس قال: لو صعدتـم علـى القارة لرأيتـم عظام الفصيـل.
الآية : 66
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَمّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجّيْنَا صَالِحاً وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنّ رَبّكَ هُوَ الْقَوِيّ الْعَزِيزُ }.
يقول تعالـى ذكره: فلـما جاء ثمود عذابنا, نَـجّيْنا صَالِـحا وَالّذِينَ آمَنُوا به مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا يقول: بنعمة وفضل من الله. وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ يقول: ونـجيناهم من هوان ذلك الـيوم وذُلّة بذلك العذاب. إنّ رَبّكَ هُوَ القَوِيّ فـي بطشه إذا بطش بشيء أهلكه, كما أهلك ثمود حين بطش بها العزيز, فلا يغلبه غالب ولا يقهره قاهر, بل يغلب كلّ شيء ويقهره.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
14181ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: بِرَحْمَةٍ مِنّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ قال: نـجاه الله برحمة منا, ونـجاه من خزي يومئذ.
14182ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي بكر بن عبد الله, عن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة قال: قلنا له: حدّثنا حديث ثمود قال: أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمود: «كانت ثمود قوم صالـح, أعمرهم الله فـي الدنـيا فأطال أعمارهم حتـى جعل أحدهم يبنـي الـمسكن من الـمدَر, فـينهدم والرجل منهم حيّ, فلـما رأوا ذلك اتـخذوا من الـجبـال بـيوتا فَرِهين, فنـحتوها وجوّفوها, وكانوا فـي سعة من معايشهم, فقالوا: يا صالـح ادع لنا ربك يخرج لنا آية نعلـم أنك رسول الله فدعا صالـح ربه, فأخرج لهم الناقة, فكان شِرْبُها يوما وشِرْبهم يوما معلوما. فإذا كان يوم شربها خـلوا عنها وعن الـماء وحلبوها لبنا, ملأوا كلّ إناء ووعاء وسقاء, حتـى إذا كان يوم شربهم صرفوها عن الـماء, فلـم تشرب منه شيئا, ملأوا كلّ إناء ووعاء وسقاء. فأوحى الله إلـى صالـح: إن قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم, فقالوا: ما كنا لنفعل فقال: إلا تعقروها أنتـم يوشك أن يولد فـيكم مولود. قالوا: ما علامة ذلك الـمولود؟ فوالله لا نـجده إلا قتلناه قال: فإنه غلام أشقر أزرق أصهب أحمر. قال: وكان فـي الـمدينة شيخان عزيزان منـيعان, لأحدهما ابن يرغب به عن الـمناكح, وللاَخر ابنة لا يجد لها كفؤا, فجمع بـينهما مـجلس, فقال أحدهما لصاحبه: ما يـمنعك أن تزوّج ابنك؟ قال: لا أجد له كفؤا, قال: فإن ابنتـي كفؤٌ له, وأنا أزوّجك فزوّجه, فولد بـينهما ذلك الـمولود. وكان فـي الـمدينة ثمانـية رهط يفسدون فـي الأرض, ولا يصلـحون, فلـما قال لهم صالـح: إنـما يعقرها مولود فـيكم, اختاروا ثمانـي نسوة قوابل من القرية, وجعلوا معهنّ شُرَطا كانوا يطوفون فـي القرية, فإذا وجدوا الـمرأة تُـمْخَض, نظروا ما ولدها إن كان غلاما قلبنه, فنظرن ما هو, وإن كانت جارية أعرضن عنها, فلـما وجدوا ذلك الـمولود صرخ النسوة وقلن: هذا الذي يريد رسول الله صالـح فأراد الشرط أن يأخذوه, فحال جدّاه بـينهم وبـينه وقالا: لو أن صالـحا أراد هذا قتلناه فكان شرّ مولود, وكان يشِبّ فـي الـيوم شبـابَ غيرِه فـي الـجمعة, ويشبّ فـي الـجمعة شَبـابَ غيره فـي الشهر, ويشبّ فـي الشهر شبـابَ غيره فـي السنة. فـاجتـمع الثمانـية الذين يفسدون فـي الأرض ولا يصلـحون وفـيهم الشيخان, فقالوا نستعمل علـينا هذا الغلام لـمنزلته وشرف جدّيه, فكانوا تسعة. وكان صالـح لا ينام معهم فـي القرية, كان فـي مسجد يقال له مسجد صالـح, فـيه يبـيت بـاللـيـل, فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم, وإذا أمسى خرج إلـى مسجده فبـات فـيه». قال حجاج: وقال ابن جريج: «لـما قال لهم صالـح: إنه سيولد غلام يكون هلاككم علـى يديه, قالوا فكيف تأمرنا؟ قال: آمركم بقتلهم فقتلوهم إلا واحدا. قال: فلـما بلغ ذلك الـمولود قالوا: لو كنا لـم نقتل أولادنا, لكان لكل رجل منا مثل هذا, هذا عمل صالـح. فأتـمروا بـينهم بقتله, وقالوا: نـخرج مسافرين والناس يروننا عَلانـية, ثم نرجع من لـيـلة كذا من شهر كذا وكذا فنرصده عند مصلاه فنقتله, فلا يحسب الناس إلا أنا مسافرون كما نـحن فأقبلوا حتـى دخـلوا تـحت صخرة يرصدونه, فأرسل الله علـيهم الصخرة فرضختهم, فأصبحوا رَضخا. فـانطلق رجال مـمن قد اطلع علـى ذلك منهم, فإذا هم رضخ, فرجعوا يصيحون فـي القرية: أي عبـادَ الله, أما رضي صالـح أن أمرهم أن يقتلوا أولادهم حتـى قتلهم؟ فـاجتـمع أهل القرية علـى قتل الناقة أجمعون, وأحجموا عنها إلا ذلك الابن العاشر.» ثم رجع الـحديث إلـى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «وأرادوا أن يـمكروا بصالـح, فمشَوا حتـى أتوا علـى سَرَب علـى طريق صالـح, فـاختبأ فـيه ثمانـية, وقالوا: إذا خرج علـينا قتلناه وأتـينا أهله فبـيتناهم فأمر الله الأرض فـاستوت علـيهم». قال: «فـاجتـمعوا ومشَوا إلـى الناقة وهي علـى حوضها قائمة, فقال الشقـيّ لأحدهم: ائتها فـاعقرها فأتاها فتعاظمه ذلك, فأضرب عن ذلك, فبعث آخَر فأعظم ذلك, فجعل لا يبعث رجلاً إلا تعاظمه أمرها حتـى مشَوا إلـيها, وتطاول فضرب عرقوبـيها, فوقعت تركض, وأتـى رجل منهم صالـحا, فقال: أدرك الناقة فقد عقرت فأقبل, وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إلـيه: يا نبـي الله إنـما عقرها فلان, إنه لا ذنب لنا. قال: فـانظروا هل تُدْرِكون فصيـلها, فإن أدركتـموه, فعسى الله أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا يطلبونه, ولـما رأى الفصيـلُ أمه تضطرب أتـى جبلاً يقال له القارة قصيرا, فصعد وذهبوا لـيأخذوه, فأوحي الله إلـى الـجبل, فطال فـي السماء حتـى ما يناله الطير». قال: «ودخـل صالـح القرية, فلـما رآه الفصيـل بكى حتـى سالت دموعه, ثم استقبل صالـحا فَرَغا رَغْوة, ثم رغا أخرى, ثم رغا أخرى, فقال صالـح لقومه: لكل رَغوة أجل يوم تَـمَتّعُوا فِـي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ذلكَ وَعْدٌ غيرُ مَكْذُوبٍ ألا إن آية العذاب أن الـيوم الأول تصبح وجوهكم مصفرة, والـيوم الثانـي مـحمرة, والـيوم الثالث مسودّة فلـما أصبحوا فإذا وجوههم كأنها طُلِـيَت بـالـخَـلُوق, صغيرهم وكبـيرهم, ذكرهم وأنثاهم. فلـما أمْسَوْا صاحوا بأجمهم: ألا قد مضى يوم من الأجل وحضركم العذاب فلـما أصبحوا الـيوم الثالث إذا وجوههم مـحمرة كأنها خُضِبت بـالدماء, فصاحوا وضجوا وبكوا وعرفوا آية العذاب. فلـما أمسوْا صاحوا بأجمعهم: ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب فلـما أصبحوا الـيوم الثالث فإذا وجوههم مسودّة كأنها طُلـيت بـالقار, فصاحوا جميعا: ألا قد حضركم العذاب فتكفنوا وتـحنّطوا, وكان حَنوطهم الصبر والـمَقْر, وكانت أكفـانهم الأنطاع. ثم ألَقْوا أنفسهم بـالأرض, فجعلوا يقلبون أبصارهم, فـينظرون إلـى السماء مرّة وإلـى الأرض مرّة, فلا يدرون من حيث يأتـيهم العذاب من فوقهم من السماء أو من تـحت أرجلهم من الأرض خَسْفـا وغرقا. فلـما أصبحوا الـيوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فـيها صوت كلّ صاعقة, وصوت كل شيء له صوت فـي الأرض, فتقطعت قلوبهم فـي صدورهم, فأصبحوا فـي دارهم جاثمين».
14183ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: حُدّثت أنه لـما أخذتهمُ الصيحة أهلك الله مَنْ بـين الـمشارق والـمغارب منهم إلا رجلاً واحدا كان فـي حَرَم الله, منعه حَرَم الله من عذاب الله. قـيـل: ومن هو يا رسول الله, قال: «أبو رِغال». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتـى علـى قرية ثمود لأصحابه: «لا يَدْخُـلَنّ أحَدٌ مِنْكُمُ القَرْيَةَ وَلا تَشْرَبُوا مِنْ مائهِمْ» وأراهم مرتقـي الفصيـل حين ارتقـي فـي القَارَة. قال ابن جريج, وأخبرنـي موسى بن عُقْبة, عن عبد الله بن دينار, عن ابن عمر: أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم حين أتـى علـى قرية ثمود قال: «لا تَدْخُـلُوا علـى هؤلاءِ الـمَعَذّبِـينَ إلاّ أنْ تَكُونُوا بـاكِينَ, فإنْ لَـمْ تَكُونُوا بـاكينَ فَلا تَدْخُـلُوا عَلَـيْهمْ أنْ يُصِيبَكُمْ ما أصَابَهُمْ». قال ابن جريج: قال جابر بن عبد الله. إن النبـيّ صلى الله عليه وسلم لـما أتـى علـى الـحِجْر, حمِد الله وأثنى علـيه ثم قال: «أمّا بَعْدُ, فَلا تَسألُوا رَسُولَكُمُ الاَياتِ, هَؤُلاءِ قَوْمُ صَالِـحٍ سألُوا رَسوَلهُمُ الآية, فَبَعَثَ اللّهُ لَهُمُ النّاقَةَ, فَكانَتْ تَرِدُ منْ هَذَا الفَجّ وتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الفَجّ, فَتَشْرَبُ ماءَهُمْ يَوْمَ وُرُودِها».
14184ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذُكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم لـما مرّ بوادي ثمود, وهو عامد إلـى تَبُوك قال: فأمر أصحابه أن يسرعوا السير, وأن لا ينزلوا به, ولا يشربوا من مائه, وأخبرهم أنه وادٍ ملعون. قال: وذُكِر لنا أن الرجل الـموسر من قوم صالـح كان يعطِي الـمعسر منهم ما يتكفّنون به, وكان الرجل منهم يَـلْـحَد لنفسه ولأهل بـيته, لـميعاد نبـيّ الله صالـح الذي وعدهم وحدّث من رآهم بـالطرق والأفنـية والبـيوت, فـيهم شبـان وشيوخ أبقاهم الله عبرة وآية.
14185ـ حدثنا إسماعيـل بن الـمتوكل الأشجعي من أهلِ حمص, قال: حدثنا مـحمد بن كثـير, قال: حدثنا عبد الله بن واقد, عن عبد الله بن عثمان بن خثـيـم, قال: حدثنا أبو الطفـيـل, قال: لـما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تَبُوك, نزل الـحِجر فقال: «يا أيّها النّاسُ لا تَسألُوا نَبِـيّكُمُ الاَياتِ هَؤلاءِ قَوْمُ صَالِـحٍ سألُوا نَبِـيّهُمْ أنْ يَبْعَثَ لَهُمْ آيَةً, فَبَعَثَ اللّهُ لَهُمُ النّاقَةَ آيَةً, فَكانَتْ تَلِـجُ عَلَـيْهِمْ يَوْمَ وُرُودِهُمُ الّذِي كانُوا يَتَرَوّونَ مِنْهُ, ثُمّ يَحْلُبُونَها مِثْلَ ما كانُوا يَتَرَوّوْنَ مِنْ مائهِمْ قَبْلَ ذلكَ لَبَنا, ثُمّ تَـخْرُجُ مِن ذلكَ الفَجّ, فَعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبّهِمْ وَعَقَرُوها, فَوَعَدَهُمُ اللّهُ العَذَابَ بَعْدَ ثَلاثَةِ أيّامٍ, وكانَ وَعْدا مِنَ اللّهِ غيرَ مَكْذُوبٍ, فأهْلَكَ اللّهُ مَنْ كانَ مِنْهُمْ فِـي مَشارِقِ الأرْضِ وَمَغارِبِها إلاّ رَجُلاً وَاحِدا كانَ فِـي حَرَمِ اللّهِ, فَمَنَعَهُ حَرَمُ اللّهِ مِنْ عَذَابِ اللّهِ» قالُوا: وَمَنْ ذلكَ الرّجُلُ يا رَسُولَ اللّهِ؟ قالَ: «أبُو رُغال».
الآية : 67-68
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأَخَذَ الّذِينَ ظَلَمُواْ الصّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبّهُمْ أَلاَ بُعْداً لّثَمُودَ }.
يقول تعالـى ذكره: وأصاب الذين فعلوا ما لـم يكن لهم فعله من عَقْر ناقة الله وكفرهم به الصيحةُ, فَأصْبَحُوا فِـي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ قد جَثَمتهم الـمنايا, وتركتهم خمودا بأفنـيتهم. كما:
14186ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: فأصْبَحُوا فِـي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ يقول: أصبحوا قد هلكوا.
كأنْ لَـمْ يَغْنَوْا فِـيها يقول: كأن لـم يعيشوا فـيها, ولـم يعمروا بها. كما:
14187ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: كأنْ لَـمْ يَغْنَوْا فِـيها كأن لـم يعيشوا فـيها.
14188ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, مثله.
وقد بـيّنا ذلك فـيـما مضى بشواهده فأغنـي ذلك عن إعادته.
وقوله: ألا أنّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبّهُمْ يقول: ألا إن ثمود كفروا بآيات ربهم فجحدوها. ألا بُعْدا لِثَمُودَ يقول: ألا أبعد الله ثمود لنزول العذاب بهم.
الآية : 69
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَىَ قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ }.
يقول تعالـى ذكره: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا من الـملائكة, وهم فـيـما ذُكِر كانوا جبرئيـل وملكين آخرين. وقـيـل إن الـملكين الاَخرين كانا ميكائيـل وإسرافـيـل معه. إبْرَاهِيـمُ يعنـي إبراهيـم خـلـيـل الله بـالبُشْرَى يعنـي: بـالبشارة. واختلفوا فـي تلك البشارة التـي أتوه بها, فقال بعضهم: هي البشارة بإسحاق. وقال بعضهم: هي البشارة بهلاك قوم لوط. قالُوا سَلاما يقول: فسلـموا علـيه سلاما, ونصب «سلاما» بإعمال «قالوا» فـيه, كأنه قـيـل: قالوا قولاً وسلّـموا تسلـيـما. قالَ سَلامٌ يقول: قال إبراهيـم لهم: سلام. فرفع «سلام», بـمعنى علـيكم السلام, أو بـمعنى سلام منكم. وقد ذُكِر عن العرب أنها تقول: سِلْـم, بـمعنى السلام كما قالوا: حِلّ وحلال, وحِرْم وحرام. وذكر الفراء أن بعض العرب أنشده:
مَرَرْنا فَقُلْنا إيهِ سِلْـمٌ فَسَلّـمَتْكمَا اكْتَلّ بـالبَرْقِ الغَمامُ اللّوَائِحُ
بـمعنى «سلام». وقد روي «كما انكلّ». وقد زعم بعضهم أن معناه إذا قرىء كذلك: نـحن سِلْـم لكم, من الـمسالـمة التـي هي خلاف الـمـحاربة, وهذه قراءة عامة قرّاء الكوفـيـين. وقرأ ذلك عامة قرّاء الـحجاز والبصرة قالوا سلاما قال سَلامٌ علـى أن الـجواب من إبراهيـم صلى الله عليه وسلم لهم, بنـحو تسلـيـمهم علـيكم السلام.
والصواب من القول فـي ذلك عندي: أنهما قراءتان متقاربتا الـمعنى, لأن السّلْـم قد يكون بـمعنى السلام علـى ما وصفت, والسلام بـمعنى السلـم, لأن التسلـيـم لا يكاد يكون إلا بـين أهل السّلـم دون الأعداء, فإذا ذكر تسلـيـم من قوم علـى قوم وردّ الاَخرين علـيهم, دلّ ذلك علـى مسالـمة بعضهم بعضا. وهما مع ذلك قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة فـي القراءة, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب.
وقوله: فَمَا لَبثَ أنْ جاءَ بعجْلٍ حَنـيذٍ وأصله مـحنوذ, صرف من مفعول إلـى فَعيـل.
وقد اختلف أهل العربـية فـي معناه, فقال بعض أهل البصرة منهم: معنى الـمـحنوذ: الـمشويّ, قال: ويقال منه: حنذت فرسي, بـمعنى سَخّنته وعَرّقته. واستشهد لقوله ذلك ببـيت الراجز:
وَرَهِبَـا منْ حَنْذِهِ أنْ يَهْرَجا
وقال آخر منهم: حَنَذ فرسه: أي أضمره, وقال: قالوا حَنَذهَ يحْنِذهُ حنذا: أي عرّقه. وقال بعض أهل الكوفة: كل ما انشوى فـي الأرض إذا خددت له فـيه فدفنته وغمـمته فهو الـحنـيذ والـمـحنوذ. قال: والـخيـل تَـحنذ إذا ألقـيت علـيها الـجلال بعضها علـى بعض لتعرق. قال: ويقال: إذا سقـيتَ فأحْنِذْ, يعنـي أخْفِسْ, يريد: أقلّ الـماء وأكثر النبـيذ.
وأما التأويـل, فإنهم قالوا فـي معناه ما أنا ذاكره, وذلك ما:
14189ـ حدثنـي به الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: بعِجْلٍ حَنِـيذٍ يقول: نضيج.
14190ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: بِعِجْلٍ حَنِـيذ قال: «بعجل» حَسِيـل البقر, والـحنـيذ: الـمشويّ النضيج.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قوله: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إبْرَاهِيـمَ بـالبُشْرَى... إلـى بِعِجْلٍ حَنِـيذٍ قال: نضيج سخن أنضج بـالـحجارة.
14191ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: فَمَا لَبثَ أنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنـيذٍ والـحنـيذ: النضيج.
14192ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: بعِجْلٍ حَنِـيذٍ قال: نضيج. قال: وقال الكلبـي: والـحنـيذ: الذي يُحْنَذ فـي الأرض.
14193ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القمي, عن حفص بن حميد, عن شمر, فـي قوله: فجاءَ بعِجْلٍ حَنِـيذٍ قال: الـحنـيذ: الذي يقطر ماء وقد شُويِ. وقال حفص: الـحنـيذ: مثل حناذ الـخيـل.
14194ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: ذبحه ثم شواه فـي الرّضْف فهو الـحنـيذ حين شواه.
14195ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو يزيد, عن يعقوب, عن حفص بن حميد, عن شمر بن عطية: فجاءَ بعِجْلٍ حَنِـيذٍ قال: الـمشويّ الذي يقطُر.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا هشام, قال: حدثنا يعقوب, عن حفص بن حميد, عن شَمر بن عطية, قال: الـحنـيذ: الذي يقطر ماؤه وقد شُوِيَ.
14196ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا الـمـحاربـي, عن جويبر, عن الضحاك: بعِجْلٍ حَنِـيذٍ قال: نضيج.
حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: بعِجْلٍ حَنِـيذٍ الذي أنضج بـالـحجارة.
14197ـ حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفـيان: فَمَا لَبثَ أنْ جاءَ بعجْلٍ حَنـيئذٍ قال: مشويّ.
14198ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم, قال: ثنـي عبد الصمد, أنه سمع وهب بن منبه يقول: حينذ, يعنـي شُوِي.
14199ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: الـحناذ: الإنضاج.
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التـي ذكرناها عن أهل العربـية وأهل التفسير متقاربـات الـمعانـي بعضها من بعض. وموضع «أن» فـي قوله: أنْ جاءَ بِعجْلٍ حَنِـيذٍ نصب بقوله: «فما لبث أن جاء».
الآية : 70
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَمّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنَا إِلَىَ قَوْمِ لُوطٍ }.
يقول تعالـى ذكره: فلـما رأى إبراهيـم أيدَيهم لا تصل إلـى العجل الذي أتاهم به والطعام الذي قدّم إلـيهم نكرهم, وذلك أنه لـما قدّم طعامه صلى الله عليه وسلم إلـيهم فـيـما ذُكِر, كَفّوا عن أكله, لأنهم لـم يكونوا مـمن يأكله, وكان إمساكهم عن أكله عند إبراهيـم وهم ضيفـانه مستنكرَا, ولـم تكن بـينهم معرفة, وراعه أمرهم وأوجس فـي نفسه منهم خيفة.
وكان قتادة يقول: كان إنكاره ذلك من أمرهم كما:
14200ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: فَلَـمّا رأى أيْدِيهِمْ لا تَصِلُ إلَـيْهِ نَكِرَهُمْ وأوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً وكانت العرب إذا نزل بهم ضيف فلـم يَطعَم من طعامهم, ظنوا أنه لـم يجىءْ بخير, وأنه يحدّث نفسه بشرّ.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: فَلَـمّا رأى أيْدِيهِمْ لا تَصِلُ إلَـيْهِ نَكِرَهُمْ قال: كانوا إذا نزل بهم ضيف فلـم يأكل من طعامهم, ظنوا أنه لـم يأت بخير, وأنه يحدّث نفسه بشرّ, ثم حدّثوه عند ذلك بـما جاءوا.
وقال غيره فـي ذلك ما:
14201ـ حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا إسرائيـل, عن الأسود بن قـيس, عن جندب بن سفـيان, قال: لـما دخـل ضيف إبراهيـم علـيه السلام قرّب إلـيهم العجل, فجعلوا ينكتون بِقداح فـي أيديهم من نَبْل, ولا تصل أيديهم إلـيه, نكرهم عند ذلك.
يقال منه: نَكِرْت الشيء أَنكره, وأَنكرته أنكره بـمعنى واحد, ومن نكرت وأنكرت قول الأعشى:
وأنْكَرَتْنـي وَما كانَ الذي نَكِرَتْمنَ الـحَوَادثِ إلاّ الشّيْبَ والصّلَعا
فجمع اللغتـين جميعا فـي البـيت. وقال أبو ذُؤيب:
فَنَكرْنَهُ فَنَفَرْنَ وَامْتَرَسَتْ بهِهَوْجاءُ هادِيَةٌ وَهادٍ جُرْشُعُ
وقوله: وأوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً يقول: أحسّ فـي نفسه منهم خيفة وأضمرها. قالُوا لا تَـخَفْ يقول: قالت الـملائكة لـما رأت ما بإبراهيـم من الـخوف منهم: لا تـخف منا وكن آمنا, فإنا ملائكةُ ربك أرسلنا إلـى قوم لوط.
الآية : 71
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَامْرأتُهُ سارّة بنت هاران بن ناحور بن ساروج بن راعو بن فـالغ, وهي ابنة عم إبراهيـم. قائمَةٌ قـيـل: كانت قائمة من وراء الستر تستـمع كلام الرسل وكلام إبراهيـم علـيه السلام. وقـيـل: كانت قائمة تـخدم الرسل وإبراهيـم جالس مع الرسل.
وقوله: فَضَحِكَتْ اختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله فَضَحِكَتْ وفـي السبب الذي من أجله ضحكت, فقال بعضهم: ضحكت الضحك الـمعروف تعجبـا من أنها وزوجها إبراهيـم يخدمان ضيفـانهم بأنفسهما تكرمة لهم, وهم عن طعامهم مـمسكون لا يأكلون. ذكر من قال ذلك:
14202ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: بعث الله الـملائكة لتهلك قوم لوط أقبلت تـمشي فـي صورة رجال شبـاب, حتـى نزلوا علـى إبراهيـم فتضيّفوه. فلـما رآهم إبراهيـم أجلّهم فراغَ إلـى أهله, فجاء بعجل سمين, فذبحه ثم شواه فـي الرّضْف, فهو الـحنـيذ حين شواه. وأتاهم فقعد معهم, وقامت سارَة تـخدمهم, فذلك حين يقول: وَامْرأتُهُ قائمَةٌ وهو جالس. فـي قراءة ابن مسعود «فلـما قرّبه إلـيهم قال ألا تأكلون» قالوا: يا إبراهيـم إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن قال: فإن لهذا ثمنا. قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله علـى أوّله وتـحمدونه علـى آخره. فنظر جبرئيـل إلـى ميكائيـل فقال: حقّ لهذا أن يتـخذه ربه خـلـيلاً. فَلَـمّا رَأى أيْدَيهُمْ لا تَصِلُ إلَـيْهِ يقول: لا يأكلون, فزع منهم وأوجس منهم خيفة فلـما نظرت إلـيه سارّة أنه قد أكرمهم وقامت هي تـخدمهم, ضحكت وقالت: عجبـا لأضيافنا هؤلاء, إنا نـخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا
وقال آخرون: بل ضحكت من أن قوم لوط فـي غفلة وقد جاءت رسل الله لهلاكهم. ذكر من قال ذلك:
14203ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: لـما أوجس إبراهيـم خيفة فـي نفسه حدّثوه عند ذلك بـما جاءوا فـيه, فضحكت امرأته وعجِبت من أن قوما أتاهم العذاب وهم فـي غفلة, فضحكت من ذلك وعجبت, فبشرناها بإسحاق, ومن وراء إسحاق يعقوب.
14204ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة أنه قال: ضحكت تعجبـا مـما فـيه قوم لوط من الغفلة ومـما أتاهم من العذاب.
وقال آخرون: بل ضحكت ظنا منها بهم أنهم يريدون عمل قوم لوط. ذكر من قال ذلك:
14205ـ حدثنا الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو معشر, عن مـحمد بن قـيس, فـي قوله: وامرأتهُ قائمَةٌ فَضَحكَتْ قال: لـما جاءت الـملائكة ظنت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط.
وقال آخرون: بل ضحكت لِـمَا رأت بزوجها إبراهيـم من الرّوع. ذكر من قال ذلك:
14206ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن الكلبـي: فضَحِكَتْ قال: ضحكت حينَ راعُوا إبراهيـم مـما رأت من الرّوع بإبراهيـم.
وقال آخرون: بل ضحكت حين بشرت بإسحاق تعجبـا من أن يكون لها ولد علـى كِبَر سنها وسنّ زوجها. ذكر من قال ذلك:
14207ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم, قال: ثنـي عبد الصمد أنه سمع وهب بن منبه يقول: لـما أتـى الـملائكة إبراهيـم علـيه السلام فرآهم, راعه هيئتهم وجمالهم, فسلـموا علـيه, وجلسوا إلـيه, فقام فأمر بعجل سمين, فحنذ له, فقرّ إلـيهم الطعام. فلـما رأى أيديهم لا تصل إلـيه نكرهم وأوجس منهم خيفة, وسارَة وراء البـيت تسمع قالوا: لا تـخف إنا نبشرك بغلام حلـيـم مبـارك وبشّر به امرأته سارة, فضحكت وعجبت كيف يكون لـي ولد وأنا عجوز وهو شيخ كبـير فقالوا: أتعجبـين من أمر الله؟ فإنه قادر علـى ما يشاء, فقد وهبه الله لكم فأبشروا به
وقد قال بعض من كان يتأوّل هذا التأويـل: إن هذا من الـمقدّم الذي معناه التأخير, وكأن معنى الكلام عنده: وامرأته قائمة, فبشّرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب, فضحكت وقالت: يا ويـلتا أألد وأنا عجوز.
وقال آخرون: بل معنى قوله: «فضحكت» فـي هذا الـموضع: فحاضت. ذكر من قال ذلك:
14208ـ حدثنـي سعيد بن عمرو السكونـي, قال: حدثنا بقـية بن الولـيد, عن علـيّ بن هارون, عن عمرو بن الأزهر, عن لـيث, عن مـجاهد, فـي قوله: فَضَحِكَتْ قال: حاضت, وكانت ابنة بضع وتسعين سنة. قال: وكان إبراهيـم ابن مئة سنة.
وقال آخرون: بل ضحكت سرورا بـالأمن منهم لـما قالوا لإبراهيـم: لا تـخف, وذلك أنه قد كان خافهم وخافتهم أيضا كما خافهم إبراهيـم فلـما أمنت ضحكت, فأتبعوها البشارة بإسحاق. وقد كان بعض أهل العربـية من الكوفـيـين يزعم أنه لـم يسمع ضحكت بـمعنى حاضت من ثقة. وذكر بعض أهل العربـية من البصريـين أن بعض أهل الـحجاز أخبره عن بعضهم أن العرب تقول ضحكت الـمرأة: حاضت, قال: وقد قال: الضحك: الـحيض, وقد قال بعضهم: الضحك: العجب, وذكر بـيت أبـي ذؤيب:
فجاءَ بِـمَزْجٍ لَـمْ يَرَ النّاسُ مِثْلَهُهُوَ الضّحْكُ إلاّ أنّهُ عَمَلُ النّـحْلِ
وذكر أن بعض أصحابه أنشده فـي الضحك بـمعنى الـحيض:
وَضَحْكُ الأرَانِبِ فَوْقَ الصّفـاكمِثْلِ دَمِ الـجَوْفِ يَوْمَ اللّقا
قال: وذكر له بعض أصحابه أنه سمع للكُمَيت:
فأضْحَكَتِ الضبّـاعَ سيُوفُ سَعْدٍبقَتْلَـى ما دُفِنّ وَلا وُدِينا
وقال: يريد الـحيض. قال: وبـالـحرث بن كعب يقولون: ضحكت النـخـلة: إذا أخرجت الطلع أو البسر. وقالوا: الضحك: الطلع. قال: وسمعنا من يحكي: أضحكت حوضا: أي ملأته حتـى فـاض. قال: وكأنّ الـمعنى قريب بعضه من بعض كله, لأنه كأنه شيء يـمتلـىء فـيفـيض.
وأولـى الأقوال التـي ذكرت فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معنى قوله: «فضحكت»: فعجبت من غفلة قوم لوط عما قد أحاط بهم من عذاب الله وغفلته عنه.
وإنـما قُلْنا هذا القول أولـى بـالصواب لأنه ذكر عقـيب قولهم لإبراهيـم: لا تـخف إنا أرسلنا إلـى قوم لوط. فإذْ كان ذلك كذلك, وكان لا وجه للضحك والتعجب من قولهم لإبراهيـم: لا تـخف, كان الضحك والتعجب إنـما هو من أمر قوم لوط