تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 23 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 23

022

وقوله: 146- "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه" قيل: الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم: أي يعرفون نبوته. روي ذلك عن مجاهد وقتادة وطائفة من أهل العلم، وقيل: يعرفون تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة بالطريق التي قدمنا ذكرها، وبه قال جماعة من المفسرين، ورجح صاحب الكشاف الأول. وعندي أن الراجح الآخر كما يدل عليه السياق الذي سيقت له هذه الآيات. وقوله: "ليكتمون الحق" هو عند أهل القول الأول نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعند أهل القول الثاني استقبال الكعبة.
وقوله: 147- "الحق من ربك" يحتمل أن يكون المراد به الحق الأول، ويحتمل أن يراد به جنس الحق على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره قوله: من ربك أي الحق هو الذي من ربك لا من غيره. وقرأ علي بن أبي طالب "الحق" بالنصب على أنه بدل من الأول أو منصوب على الإغراء أي الزم الحق. وقوله: "فلا تكونن من الممترين" خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والامتراء: الشك، نهاه الله سبحانه عن الشك في كونه الحق من ربه، أو في كون كتمانهم الحق مع علمهم، وعلى الأول هو تعريض للأمة: أي لا يكن أحد من أمته من الممترين، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في كون ذلك هو الحق من الله سبحانه. وقد أخرج ابن ماجه عن البراء قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهراً، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخوله إلى المدينة بشهرين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى بيت المقدس أكثر تقليب وجهه في السماء، وعلم الله من قلب نبيه أنه يهوى الكعبة فصعد جبريل فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره وهو يصعد بين السماء والأرض ينظر ما يأتيه به، فأنزل الله "قد نرى تقلب وجهك في السماء" الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل كيف حالنا في صلاتنا إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله "وما كان الله ليضيع إيمانكم". وأخرجه الطبراني من حديث معاذ مختصراً لكنه قال: سبعة عشر شهراً. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى: "فلنولينك قبلة ترضاها" قال: قبلة إبراهيم نحو الميزاب. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن أبي حاتم عن البراء في قوله: "فول وجهك شطر المسجد الحرام" قال: قبله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن علي مثله. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال: "شطره" نحوه. وأخرج البيهقي عن مجاهد مثله. وأخرج ابن شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن أبي العالية قال: "شطر المسجد الحرام" تلقاءه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: البيت كله قبلة وقبلة البيت الباب. وأخرج البيهقي في سننه عنه مرفوعاً قال: "البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي" وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "وإن الذين أوتوا الكتاب" قال: أنزل ذلك في اليهود. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ليعلمون أنه الحق" قال: يعني بذلك القبلة. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير عن أبي العالية نحوه. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "وما بعضهم بتابع قبلة بعض" يقول: ما اليهود بتابعي قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "الذين آتيناهم الكتاب" قال: اليهود والنصارى "يعرفونه" قال: يعرفون رسول الله في كتابهم "كما يعرفون أبناءهم".وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عنه في قوله: "يعرفونه" أي يعرفون أن البيت الحرام هو القبلة. وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون" قال: يكتمون محمداً وهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير عن أبي العالية قال: قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: "الحق من ربك فلا تكونن من الممترين" يقول: لا تكونن في شك يا محمد أن الكعبة هي قبلتك، وكانت قبلة الأنبياء من قبلك.
قوله: 148- "ولكل" بحذف المضاف إليه لدلالة التنوين عليه: أي لكل أهل دين وجهة، والوجهة فعلة من المواجهة وفي معناها الجهة والوجه، والمراد القبلة: أي أنهم لا يتبعون قبلتك وأنت لا تتبع قبلتهم "ولكل وجهة" إما بحق وإما بباطل، والضمير في قوله: "هو موليها" راجع إلى لفظ كل. والهاء في قوله: "موليها" هي المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف: أي موليها وجهه. والمعنى: أن لكل صاحب ملة قبلة صاحب القبلة موليها وجهه، أو لكل منكم يا أمة محمد قبلة يصلي إليها من شرق أو غرب أو جنوب أو شمال إذا كان الخطاب للمسلمين- ويحتمل أن يكون الضمير لله سبحانه وإن لم يجر له ذكر، إذ هو معلوم أن الله فاعل ذلك، والمعنى: أن لكل صاحب ملة قبلة الله موليها إياه. وحكى الطبري أن قوماً قرأوا ولكل وجهة بالإضافة، ونسب هذه القراءة أبو عمرو الداني إلى ابن عباس. قال في الكشاف: والمعنى: وكل وجهة الله موليها فزيدت اللام لتقدم المفعول كقولك لزيد ضربت ولزيد أبوه ضاربه انتهى. وقرأ ابن عباس وابن عامر: مولاه على ما لم يسم فاعله: قال الزجاج: والضمير على هذه البراءة لواحد: أي ولكل واحد من الناس قبلة الواحد مولاها: أي مصروف إليها. وقوله: "فاستبقوا الخيرات" أي إلى الخيرات على الحذف والإيصال: أي بادروا إلى ما أمركم الله من استقبال البيت الحرام كما يفيده السياق وإن كان ظاهره الأمر بالاستباق إلى كل ما يصدق عليه أنه خير كما يفيده العموم المستفاد من تعريف الخيرات، والمراد من الاستباق إلى الاستقبال: الاستباق إلى الصلاة في أول وقتها. ومعنى قوله: " أين ما تكونوا يأت بكم الله " أي في جهة من الجهات المختلفة تكونوا يأت بكم الله للجزاء يوم القيامة أو يجمعكم جميعاً، ويجعل صلاتكم في الجهات المختلفة كأنها إلى جهة واحدة.
وقوله: 149- "ومن حيث خرجت" كرر سبحانه هذا لتأكيد الأمر باستقبال الكعبة، وللاهتمام به، لأن موقع التحويل كان معتنى به في نفوسهم، وقيل: وجه التكرير أن النسخ من مظان الفتنة ومواطن الشبهة، فإذا سمعوه مرة بعد أخرى ثبتوا واندفع ما يختلج في صدورهم، وقيل: إنه كرر هذا الحكم لتعدد علله، فإنه سبحانه ذكر للتحويل ثلاث علل: الأولى ابتغاء مرضاته، والثانية جري العادة الإلهية أن يولي كل أهل ملة وصاحب دعوة جهة يستقل بها والثالثة دفع حجج المخالفين فقرن بكل علة معلولها، وقيل أراد بالأول: ول وجهك شطر الكعبة إذا صليت تلقاءها، ثم قال: وحيثما كنتم معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة وغيرها فولوا وجوهكم شطره، ثم قال: "ومن حيث خرجت" يعني وجوب الاستقبال في الأسفار فكان هذا أمر بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواطن من نواحي الأرض.
وقوله: 150- "لئلا يكون للناس عليكم حجة" قيل معناه: لئلا يكون لليهود عليكم حجة إلا للمعاندين منهم للقائلين: ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه فعلى هذا المراد بالذين ظلموا: المعاندون من أهل الكتاب، وقيل: هم مشركو العرب، وحجتهم قولهم: راجعت قبلتنا، وقيل معناه: لئلا يكون للناس عليكم حجة لئلا يقولوا لكم: قد أمرتم باستقبال الكعبة ولستم ترونها. وقال أبو عبيدة: إن إلا ها هنا بمعنى الواو: أي والذين ظلموا فهو استثناء بمعنى الواو، ومنه قول الشاعر: ما بالمدينة دار غير واحدة دار الخليفة إلا دا مروانا كأنه قال: إلا دار الخليفة ودار مروان، وأبطل الزجاج هذا القول وقال: إنه استثناء منقطع: أي ولكن الذين ظلموا منهم فإنهم يحتجبون، ومعناه: إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له كما تقول: ما لك علي حجة إلا أن تظلمني: أي ما لك علي حجة البتة ولكنك تظلمني، وسمى ظلمه حجة لأن المحتج بها سماه حجة وإن كانت داحضة. وقال قطرب: يجوز أن يكون المعنى: " لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا "، فالذين بدل من الكاف والميم في عليكم. ورجح ابن جرير الطبري أن الاستثناء متصل، وقال: نفى الله أن يكون لأحد حجة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في استقبالهم الكعبة، والمعنى: لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا ما ولاهم، وقالوا: إن محمداً تحير في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا أخدى منه. وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو منافق. قال: والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة والمجادلة، وسماها تعالى حجة وحكم بفسادها حيث كانت من ظالم. ورجح ابن عطية أن الاستثناء منقطع كما قال الزجاج: قال القرطبي: وهذا على أن يكون المراد بالناس اليهود ثم استثنى كفار العرب كأنه قال: لكن الذين ظلموا في قولهم رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله. وقوله: "فلا تخشوهم" يريد الناس: أي لا تخافوا مطاعنهم فإنها داحضة باطلة لا تضركم. وقوله: "ولأتم نعمتي عليكم" معطوف على "لئلا يكون" أي ولأن أتم قاله الأخفش، وقيل: هو مقطوع عما قبله في موضع رفع بالابتداء، والخبر مضمر، والتقدير: ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي قاله الزجاج، وقيل: معطوف على علة مقدرة كأنه قيل: واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم. وإتمام النعمة الهداية إلى القبلة، وقيل: دخول الجنة.
وقوله: 151- "كما أرسلنا" الكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف. والمعنى: ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل ما أرسلنا قاله الفراء، ورجحه ابن عطية. وقيل: الكاف في موضع نصب على الحال، والمعنى: ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال، والتشبيه واقع على أن النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة. وقيل معنى الكلام على التقديم والتأخير: أي فاذكروني كما أرسلنا قاله الزجاج.
وقوله: 152- "فاذكروني أذكركم" أمر وجوابه، وفيه معنى المجازاة. قال سعيد بن جبير: ومعنى الآية اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة حكاه عنه القرطبي في تفسيره، وأخرجه عنه عبد بن حميد وابن جرير، وقد روي نحوه مرفوعاً كما سيأتي. وقوله: "واشكروا لي" قال الفراء: شكر لك وشكرت لك. والشكر: معرفة الإحسان والتحدث به، وأصله في اللغة: الطهور. وقد تقدم الكلام فيه. وقوله: "ولا تكفرون" نهي ولذلك حذفت نون الجماعة، وهذه الموجودة في الفعل هي نون المتكلم، وحذفت الياء لانها رأس آية، وإثباتها حسن في غير القرآن. والكفر هنا: ستر النعمة لا التكذيب، وقد تقدم الكلام فيه. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولكل وجهة هو موليها" قال: يعني بذلك أهل الأديان، يقول: لكل قبلة يرضونها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال في تفسير هذه الآية: صلوا نحو بيت المقدس مرة، ونحو الكعبة مرة أخرى. وأخرج أبو داود في ناسخه عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "فاستبقوا الخيرات" يقول: لا تغلبن على قبلتكم. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: "فاستبقوا الخيرات" قال: الأعمال الصالحة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "فاستبقوا الخيرات" يقول: فسارعوا في الخيرات " أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا " قال: يوم القيامة. وأخرج ابن جرير من طريق السدي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة قال: لما صرف النبي صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة بعد صلاته إلى بيت المقدس قال المشركون من أهل مكة: تحير على محمد دينه، فتوجه بقبلته إليكم وعلم أنكم أهدى منه سبيلاً ويوشك أن يدخل دينكم، فأنزل الله: "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "لئلا يكون للناس عليكم حجة" قال: يعني بذلك أهل الكتاب حين صرف نبي الله إلى الكعبة قالوا: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: حجتهم قولهم قد أحب قبلتنا. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن قتادة ومجاهد في قوله: "إلا الذين ظلموا منهم" قال: الذين ظلموا منهم مشركو قريش أنهم سيحتجون بذلك عليكم، واحتجوا على نبي الله بانصرافه إلى البيت الحرام وقالوا: سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، فأنزل الله في ذلك كله "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين". وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم" يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم" يقول: كما فعلت فاذكروني. وأخرج أبو الشيخ والديلمي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاذكروني أذكركم" يقول: اذكروني يا معشر العباد بطاعتي أذكركم بمغفرتي. وأخرج الديلمي وابن عساكر مثله مرفوعاً من حديث أبي هند الداري وزاد: فمن ذكرني وهو مطيع فحق علي أن أذكره بمغفرتي، ومن ذكرني وهو لي عاص فحق علي أن أذكره بمقت. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس: يقول الله: "ذكري لكم خير من ذكركم لي". وقد ورد في فضل ذكر الله على الإطلاق وفضل الشكر أحاديث كثيرة.
لما فرغ سبحانه من إرشاده عباده إلى ذكره وشكره، عقب ذلك بإرشادهم إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، فإن من جمع بين ذكر الله وشكره، واستعان بالصبر والصلاة على تأدية ما أمر الله به، ودفع ما يرد عليه من المحن فقد هدي إلى الصواب ووفق إلى الخير، وإن هذه المعية التي أوضحهغا الله بقوله: 153- "إن الله مع الصابرين" فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب، فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال وإن كانت الجبال.